الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 932
- بتاريخ: 14 - 05 - 1951
رحلات عزام
الرحلة سبيل من المعرفة، وفي الأمثل: من يعش ير كثيراً، ومن يمش ير أكثر، وفي الزمن القديم كانت الرحلة وحدها متصل الفكر بالفكر، وملتقى المتعلم بالعلم. ولا يزال لها في الزمن الحديث علمي سرعة الاتصال بين أجناس الناس في بقاع الأرض بالإذاعة والصحافة والنشر، أثر ظاهر في اكتساب العلوم وتقدم الثقافة وهي في تاريخ الإسلام بوجه أعم، وفي تاريخ الأدب بوجه أخص عظيمة الخطر في جمع اللغة ورواية الحديث، قوية الأثر في نشر الأدب وتوسيع الفقه، وكانت الرحلات الذاهبة الآتية من العراق إلى مصر، ومن مصر ومن مصر إلى الأندلس ومن هذه الأقطار جميعاً إلى الحجاز، مورداً ثراً لعلوم الدين وفنون الأدب، جنيناً من ثماره طائفة كثيرة من عيون الكتب في وصف البلاد وطبائع الشعوب وتراحم الرجال، وغرائب العادات وعجائب الكائنات، وطرائق الملح.
على أن الله لم يؤت الرحالين أجمعين مثل ما آتي البيروني، والبغدادي وابن جبير وأبن بطوطة وإضرابهم، من قوة الملاحظة وشهوة التطلع وحب التحدث ورغبة الإفادة ولم يؤت الله هؤلاء جميعاً ما آتاه صديقنا الدكتور عبد الوهاب عزام بك، من صحة العلم وسلامة الحكم ودقة الفهم وخفة الروح وعذوبة الفكاهة ولطف النادرة وجمال الأسلوب.
رحل الأستاذ إلى أكثر البلاد العربية والإسلامية في عهدين مختلفين عهد غلب فيه التأثر الأول والشعور البادر والنظر العجلان وقدوته (الرحلات الأولى) وعهد غلب فيه الإدراك الكامل والاستيعاب الشمال والتحقيق الدقيق وقد ضمته (الرحلات الثانية) وهي التي نقدمها اليوم إلى القارئ بهذه الكلمة الوجيزة وغاية الرحالة في العهدين ومن الرحلتين هي التعريف بأمصار العروبة وبلاد الإسلام وليكون التعريف سبيلاً إلى التعارف وعونا على التآلف وتمهيدا للوحدة.
وهذه الرحلات التي رحلها البحاثة الوصافة عزام إلى فلسطين، ثم إلى الشام، ثم إلى الهند، ثم إلى الحجاز وتجد، صور من البيان وطرف من الأدب ودقائق من العلم ورقائق من الفن ينقلك سحرها بحواسك ومخيلتك إلى تلك الأماكن الموصوفة فتشاهد المناظر، وترى الأشياء وتسمع الأشخاص كأنك رحلت وحللت وصاحبت في المقل وساهمت في المآدب وشاركت في الحديث وإن الإشعاع الذي ينشق من روح الكاتب على سطور الكتاب ليهدي روحك إلى روحه ويدل شعورك على شعوره فتتحد أنت وهو في الزهو بماض مرموق كله
ذكريات مجد وبطولة وتتجه أنت وهو إلى مستقبل مرموق كله آمال بعث ونهضة.
فما أجدر كل عربي أن يحج في هذا الكتاب الأماكن التي أشرق منها نور الله، والمواطن التي استقرت بها خلافة الأرض والمعاهد التي زكت فيها ثقافة الإنسان!
إنها مهبط دينه ومصعد دنياه، وإنها متجه خاطره ومنتجع هواه!
أحمد حسن الزيات
4 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
درجات الصحابة في العلم والفهم:
لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم طرازاً واحداً في الفقه والعلم، ولا نمطاً متشابها في الإدراك والفهم وإنما كانوا في ذلك على طبقات متفاوتة ودرجات متباينة بعضهم أعلم من بعض شأن الناس جميعاً على مر الدهور وتوالي العصور سنة الله في خلفه ولن تجد لسنة الله تبديلا.
قال ابن خلدون في مقدمته (إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم وإنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن والعارفين بناسخه، ومتشابه ومحكمه وسائر دلالته بما تلقوه من النبي (ص) أو ممن سمعه منهم ومن عليتهم وكانوا يسمون لذلك (القراء) أي الذين يقرئون القرآن، لأن العرب كانوا أمة أمية فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ وبقي الأمر كذلك صدر الملة).
وقال أبن سعد في طبقاته عن أبي خيثمة عن أبيه قال كان الذين يفتون على عهد رسول الله (ص) ثلاثة نفر من المهاجرين وثلاثة من الأنصار، عمر وعثمان وعلي، وأبي بن كعب ومعاذ أبن جبل وزيد بن ثابت.
وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار: دعا عمر وعثمان وعلياً وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد أبن ثابت. وكل هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء فمضى أبو بكر علي ذلك ثم ولى عمر فكان يدعو هؤلاء النفر
وعن مسلم عن مسروق قال: شاهدت أصحاب رسول الله (ص) فوجدت علمهم انتهى إلى ستة، إلى عمر وعلي وعبد الله ومعاذ وأبي الدرداء وزيد بن الحارث فشامت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله.
وعن عامر قال: كان علماء هذه الأمة بعد نبيها (ص) ستة: عمر وعبد الله وزيد بن، فإذا قال عمر قولاً، وقال هذان قولاً، كان قولهما لقوله تبعاً وعلي وأبي بن كعب وأبو موسى
الأشعري فإذا قال علي قولاً وقال هذان قولاً كان قولهما لقوله تبعاً.
وعن عامر قال: قضاة هذه الأمة أربعة، عمر وعلي وزيد وأبو موسى الأشعري ودعاة هذه الأمة أربعة: عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وزياد.
وذكر ابن القيم في أعلام الموقعين عن مسروق قال:
(جالست أصحاب محمد (ص) فكانوا كالأخاذ، الأخاذة تروي الراكب والأخاذة تروي الراكبين، والأخاذة تروي العشرة، والأخاذة لو نزل بها أهل الأرض لأصدرتهم، وأن عبد الله (أبن مسعود في تلك الأخاذة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجاذب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت فذلك مثل من فقه في دين الله. . رواه الشيخان وغيرهما.
رواية الصحابة بعضهم عن بعض وروايتهم عن التابعين
ليس كل ما جاء من الأحاديث عن الصحابة مما رووه عن رسول الله صلوات الله عليه ودون في كتب الحديث، قد سمعوه بآذانهم من النبي مشافهة، ولا أخذوه عنه بالتلقي وإنما كان يروى بعضهم عن بعض، فمن لم يسمع من الرسول كان يأخذ ممن سمع، وذلك بأن مجالس الرسول كانت متعددة، وتقع في أزمنة وأمكنة مختلفة، فما يحضره منها بعض الصحابة قد لا يحضره البعض الآخر، وإنك لتجد ذلك فيما رواه بعض الصحابة، وبخاصة أولئك الذين أقلهم صحبة لرسول الله وأكثرهم رواية عنه، كابن عباس وأبي هريرة وغيرهما.
فقد ذكر الآمدي في الأحكام أن أبن عباس لم يسمع من النبي إلا أربعة أحاديث. وقال أبن القيم في الوابل الصيب إن ما سمعه ابن عباس من النبي لم يبلغ العشرين حديثاً، وعن ابن معين والقطان وأبي داود صاحب السنن أنه روى النبي تسعة أحاديث.
وأبو هريرة أسلم في العام السابع من الهجرة، فهو بذلك لم يصاحب النبي إلا ثلاث سنين، وهو زمن قليل جداً ليس من المعقول أن يكون قد سمع فيه من النبي كل هذه الآلاف من
الأحاديث التي رواها.
قال البراء بن عازب (ما كل ما نحدث كموه قد سمعناه من رسول الله! ولكن حدثنا أصحابنا وكانت تشغلنا رعية الإبل). ورواية البيهقي: ليس كلنا كان يسمع حديث النبي، وفيه والناس لم يكونوا يكذبون فيحدث الشاهد عن الغائب أي بغير أن يذكر من روي عنه.
وفي كلام ابن الصلاح وغيره في رواية الأكابر عن الأصاغر أن أبن عباس والعبادلة الثلاثة وأبا هريرة وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار الذي أسلم في عهد عمر.
على أن الصحابة في روايتهم عن إخوانهم أو عن التابعين لم يكونوا يذكرون عندما يتحدثون - كما ذكرنا - أن أحاديثهم قد جاءتهم عن سبيل الرواية عن غيرهم، ذلك بأنهم كانوا يرون ما يرون في المناسبات التي تستدعي ذلك مهما طال الزمن من غير غزو لمن سمعوا منهم ثقة بهم وقد جرت الرواية على ذلك إلى أن وقعت الفتنة؛ وقد قال ابن سيرين في ذلك كانوا لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة، ولما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم.
وقال الآمدي:
(وقد قيل إن عباس لم يسمع من رسول الله (ص) سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ولما روي عن النبي (ص)(إنما الربا في النسيئة وأن النبي (ص) لم يزل يلبي حتى رمى حجر العقبة.
قال في الخبر الأول لما روجع فيه: أخبرني به أسامة بن زيد. وفي الخبر الثاني: أخبرني به أخي الفضل بن عباس) وأيضاً ما روى عن أبن عمر عن النبي (ص) أنه قال (من صلى على جنازة فله قيراط. وأسنده بعد ذلك أبي هريرة. وأيضاً ما روى أبو هريرة عن النبي (ص) أنه قال: من أصبح جنباً، في رمضان فلا صوم له. وقال ما أنا قلته ورب الكعبة ولكن محمد قاله فلما روجع فيه قال حدثني به الفضل بن عباس.
وروى عن البراء بن عازب أنه قال: ما كل ما نحدثكم به سمعناه عن رسول الله (ص) ولكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابنا ببعضه.
وأما التابعون فقد كان من عادتهم إرسال الأخبار، ويدل على ذلك ما روى عن الأعمش أنه قال: قلت لإبراهيم النخعي: إذا حدثتني فأسند، فقال إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله
فهو الذي حدثني، وإذا قلت لك حدثني عبد الله فقد حدثني جماعة عنه. . ولم يزل ذلك مشهوراً فيما بين الصحابة والتابعين من غير نكر فكان إجماعاً).
ولم تقف رواية الصحابة بعضهم عن بعض بل رووا كذلك عن التابعين عن تابعي التابعين
ومن رواية التابعين عن - تابعي التابعين - رواية الزهري ويحي بن سعيد الأنصاري عن مالك وهو تلميذهما
ومن (الظريف للفطني) كما قال السيوطي أن يروى الصحابي عن تابعي عن صحابي آخر حديثاً
ومن ذلك حديث السائب بن يزيد الصحابي عن عبد الرحمن ابن عبد القاري التابعي عن عمر بن الخطاب عن النبي (ص)(من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه في الليل) رواه مسلم في صحيحه ومن ذلك حديث لا يستوي القاعدون.
وقد جمع الحافظ العراقي من ذلك عشرين حديثاً.
المنصورة
للكلام تتمة
محمود أبو رية
بريطانيا العظمى
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
سيدة البحار، وزعيمة الدول الديمقراطية وأولى الدول الصناعية، وأكبر الدول الاستعمارية، ودينامو السياسة الدولية. بهذه الكلمات وصفنا بريطانيا في مقالنا السابق.
ولعل القارئ الكريم يسألني كيف استطاعت بريطانيا أن تكون لنفسها هذه المكانة الممتازة وأنا أجيبه بأن ذلك يرجع أولا وقبل كل شيء إلى الخلق البريطاني.
الخلق البريطاني
يمتاز الشعب البريطاني بمتانة أخلاقه وبثباته واستقراره وبحب أفراده لوطنهم حباً لا مزيد عليه، ومسارعتهم للتضحية في سبيله؛ ولعل ذلك راجع إلى تأثير المناخ، فإن بريطانيا تمتاز بأن شتاءها بارد نوعاً، تكتنفه الغيوم ويغشاه السحاب، وقد دفع ذلك الشعب إلى النشاط لمكافحته والتغلب على متاعبه، وهذا بدوره قد عود الشعب على الكفاح والجلاد والجهاد.
ولا تبدو حقيقة الخلق البريطاني واضحة جلية إلا في أثناء الأزمات التي تتعرض لها بريطانيا، فإن الشعب يتكتل في أثناء تلك الأزمات، ويقف صفاً واحداً للدفاع عن الوطن وعن تراثه. وقد كانت أخطر الأزمات التي تعرضت لها بريطانيا كثيرة ولكن أهمها كانت أربعاً:
أما الأزمة الأولى فقد كانت تلك التي تعرضت لها أثناء صراعها مع أسبانيا في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وقد كان صراعاً عنيفاً بين دولتين: إحداهما تتزعم الدول الكاثوليكية وهي إسبانيا، والثانية تتزعم الدول البروتستانتية وهي إنجلترا. ويقول أحد المؤرخين ما ترجمته:(ومن حسن الحظ أنه عند اقتراب الأزمة الكبيرة كان الخلق البريطاني يكتب أخص مميزاته وهي الصلابة وشدة المقاومة) وقد عرف البريطانيون قوتهم فرحبوا بالنزال المقبل، وفعلاً أرسل فيلب الثاني أسطوله المعروف بالأرمادا؛ والمؤلف من 132 سفينة (وفي وجه الخطر المقبل تنوسيت الخلافات القديمة وحل محلها نشاط قومي أدى إلى وحدة جميع الأحزاب) ووقف الشعب الإنجليزي برياسة ملكيته إليصابات في وجه الخطر الإسباني، وكون أسطولاً من 197 سفينة، واستطاع أن يحطم
الأرمادا، وبذلك نجت بريطانيا من الخطر المحدق بها، وبدأت سيادتها البحرية.
وأما الأزمة الثانية فكانت تلك التي تعرضت لها بريطانيا في أثناء صراعها مع فرنسا في عصر الثورة ونابليون (1793 - 1814) وقد انتهى الأمر بانتصارها وسقوط نابليون.
وكانت الأزمة الثالثة التي انتابتها هي الحروب العالمية الأولى 1914 - 1918 ونضالها مع ألمانيا، وقد خرجت منها ظافرة.
وأما الأزمة الأخيرة فكانت الحرب العالمية 1939 - 1945 وقد انتصرت فيها على ألمانيا وحطمت هتلر طاغية القرن العشرين.
ولعلنا نذكر تشر شل رئيس وزرائها 1942 بعد سقوط فرنسا تحت أقدام الألمان، ولعلنا نذكر كلماته التي واجه بها الشعب في ذلك الوقت الحرج:(أني أقدم لكم الدم والدموع) فهو لم يخدع الشعب ولم ينافق، بل تكلم في صراحة وعرض الموقف على حقيقته، فهو يعلم أن خداع الشعب ليس من المصلحة في شيء، وأنه إذ يصارح الشعب بحقيقة الموقف فإنما يدفعه إلى الجلاد والكفاح، وهو وثق من أن الشعب سيقبل على التضحية في سبيل الوطن وقد كان إذ ثبتت بريطانيا وانتصرت.
وتروعك الأمثلة الكثيرة التي تقدم لك عن مدى تضحية الإنجليز في سبيل وطنهم، فالتجنيد هناك ليس إجبارياً ولكن القوم يسارعون إلى التطوع من تلقاء أنفسهم خدمة لوطنهم، وقد قرأت ذات مرة أن أربعة أخوة كانوا يقيمون معا أثناء الحرب العالمية الأولى، فلما قامت الحرب حاول كل منهم أن يقنع الآخرين بأن يتركوا له فرصة التطوع، وأن يبقوا هم آمنين في دارهم، وتظاهروا بالاقتناع، فلما كان الغد أقبل كل منهم يسعى إلى مكتب التطوع لتسجيل اسمه، وهناك التقي الأخوة الأربعة ورفض كال منهم أن ينزل عن شرف المساهمة في الدفاع عن الوطن وتطوعوا جميعاً!!
ويذكرني هذا بما كان من أمر الخنساء ومن أمر بينها الذين استشهدوا في فتح فارس، وجاء رسول الجيش إلى المدينة ليبلغ الخليفة عمر نبأ انتصار المسلمين؛ ولقيته الخنساء فسألته عن الأمر فأجابها:(لقد قتل بنوك). فقالت له (ما سألتك عن أبنائي ولكني أسألك عما كان من أمر الجيش) فأجابها: (لقد انتصرنا) فرفعت يديها إلى السماء قائلة (الحمد لله الذي شرفني بقتلهم). لكني أوازن بين ما كان وبين ما هو كائن فأرى فرقاً شاسعاً فهل يعود إلينا
الأيمان؟؟
وقد كنت على سفر سنة 1942 وكان معي أحد أطفالي وجلس معنا أحد أفراد القوات الحربية البريطانية؛ فوجدته يحاول إخفاء شعور قوي جارف يتملكه، ثم رأيته يداعب طفلي فبدأت أحدثه:(لست أدرى أيها الصديق ما سر شغفك بطفلي هذا) فجابني أجابني أأأجاأجابني (إن لي طفلاً في مثل سنه) فقلت له (وأين هو؟) قال: (في لندن) قلت (ومع من يقيم) قال مع والدته فقلت وأين تعمل قبل خدمتك بالجيش) قال (كنت موظفاً في لندن) قلت له (فمن الذي ينفق الآن على وزجك وطفلك) قال (إن زوجي قد شغلت مركزي وإن الحكومة تدفع لها نفس المرتب الذي كنت أتقاضاه) قلت له (وكيف تنفق أنت) قال (إن الحكومة تدفع لي مرتباً بوصفي أحد رجالها المحاربين) قلت له (فإذا قتلت؟) قال (تدفع الدولة معاشاً لعائلتي يكفل لها الحياة الكريمة). وأنا أسوق هذه القصة لأثبت بها مدى تعاون الشعب في خدمة الدولة، ومدى رعاية الدولة لأفراد الشعب.
ولعل مما يدل على حب الشعب البريطاني للاستقرار دراسة لأحزاب السياسية في إنجلترا، إذ أننا نجد في بريطانيا حزبين كبيرين هما حزب العمال، وحزب المحافظين، وحزباً ثالثاً لا خطر له هو حزب الأحرار. ولا تختلف الأحزاب السياسية في بريطانيا في سياستها الخارجية، فالسياسة الخارجية مرسومة موضوعة، ولكنهم مختلفون في السياسة الداخلية، فحزب العمال يؤمن بأن (العرض الحق من المجتمع هو أن يرفع ويحفظ كرامة ورفاهية الفرد) ويؤمن بأن من حق العمال على الدولة أن يعيشوا كراماً، وأما حزب المحافظين فهو يتكون من الرأسماليين وكبار الملاك، وهم حريصون أشد الحرص على تدعيم كيان الإمبراطورية البريطانية.
استقالة:
أن الشعب البريطاني يمتاز بتقديسه لحريته، وهو لا يقبل أن تقيد أبداً، وقد يختلف أفراده رأياً ولكنهم يجتمعون في النهاية على هدف واحد هو خدمة بريطانيا.
ولعل من أروع الأمثلة التي أستطيع أن أقدمها للقارئ الكريم مما يدل على مدى حب الإنجليزي لحرية رأيه وحرصه على تحقيق المبادئ التي يؤمن بها؛ ما كان من أمر استقالة مستر بيفان وزير العمل منذ أيام، فهذا الرجل كان وزيراً في وزارة العمال منذ سنة 1945
- قد كان في بدء حياته أحد عمال المناجم وكذلك كان أبوه - يمتع بجاه المنصب وسطوته ولكنا نراه يترك هذا المنصب الخطير من تلقاء نفسه حين يرى انه لا يستطيع تحقيق المبادئ التي يعتنقها، وهي العمل على أن تيسر الدولة للعمال الحياة الكريمة السعيدة. ويقول في كتاب استقالته ما ترجمته (إنه يستقيل لأنه لا يوافق على مشروع الميزانية الجديدة إذ أنه مشروع خاطئ إذ يرصد أموالاً طائلة لبرنامج التسلح مما يرهق الميزانية ولأنه يتخذ من رفع الأسعار وسيلة من وسائل الحد من الاستهلاك المحلي، ولأنه بدء لتحطيم الخدمات الاجتماعية التي كان يفخر بها حزب العمال إذ قررت زيادة الضرائب على الأسنان الصناعية والنظارات).
ويقول (إنه ليس مما يشرفني أن أقرن اسمي بتنفيذ سياسة لا يقرها ضميري ولا برضاها عقلي، وأني آسف إذ أشعر أني مضطر إلى اتخاذ هذه الخطوة بعد هذه السنين العديدة التي تعاونا فيها حكومة واحدة قامت بكثير من الخدمات لقضية العمال ولتقدم الجنس البشري).
ويقول (أن الوظائف العامة يجب أن يعهد بها إلى من يؤمنون بأنهم قادرون على النهوض بها) ويختتم استقالته متمنياً لرئيس الوزراء الصحة والعافية.
ويقبل رئيس الوزراء الاستقالة آسفاً وشاكراً له ما قدم من خدمات وتمنيات. ومع هذا فلم يفصل حزب العمال المستر بيفان من عضويته، وكذلك أعلن بيفان أنه لن يهاجم الحكومة لما يرجوه على يدها من خير للعمال. وهكذا تكون الشجاعة وحرية الرأي.
ويحرص أفراد الشعب البريطاني على أداء الواجب المطلوب منهم حرصاً تاماً، ويهتمون بالرياضة والألعاب الرياضية اهتماماً كبيراً. ومن كلمات ولنجتون المأثورة قوله (لقد كسبنا معركة واترلو فوق أرض ملاعبنا). ويمتاز البريطانيون بصبرهم وببر ودهم وسعة حيلتهم ودهائهم، ولعل موقف إنجلترا من روسيا في الحرب الأخيرة يظهر لنا ذلك واضحاً جلياً.
ففي سنة 1939 أرسلت إنجلترا وفرنسا بعثة لمفاوضة روسيا لعقد اتفاق لإتمام حركة تطويق ألمانيا، وبدأت المفاوضات ولكن ألمانيا أرسلت بعثة أيضاً لمفاوضة روسيا، فتوقفت مفاوضات روسيا مع مندوبي فرنسا وإنجلترا وبقوا بدون عمل، وانتهت المفاوضات بين روسيا وألمانيا بعقد ميثاق عدم اعتداء بين الدولتين وبعد ذلك طرد المندوبون الإنجليز والفرنسيون ولكن إنجلترا لم تغضب ولاذت بالصمت وتذرعت بالصبر. وقد كان من نتائج
ميثاق عدم الاعتداء الألماني الروسي قيام الحرب الأخيرة؛ فإن ألمانيا وقد اطمأنت إلى سلامة حدودها الشرقية أشعلت نار الحرب.
وتقدم الألمان يفتحون البلاد غرباً وشمالاً وجنوباً حتى احتلوا شبه البلقان، وبدأت روسيا تسعى لتحقيق حلمها القديم وهو الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، فطالبت ألمانيا بأن تعطيها ميناء عليه، ولكن ألمانيا رفضت واضطرت إلى إعلان الحرب على روسيا. وسارعت إنجلترا إلى روسيا تمد يد المساعدة، وبواسطة الدم الروسي والعتاد الأمريكي كسبت بريطانيا الحرب العالمية الثانية.
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بسنمود الثانوية
المعرفة الصوفية
أداتها ومنهجها وموضوعها وغايتها عند صوفية المسلمين
للأستاذ أبو الوفا الغنيمي التفتازاني
(1)
المقامات والأحوال طريق موصل إلى المعرفة
(2)
علم الظاهر وعلم الباطن
(3)
أداة المعرفة عند الصوفية
(4)
منهج الكشف عند الصوفية وطبيعة هذا المنهج
(5)
موضوع المعرفة الصوفية
(6)
غاية التحقيق بالمعرفة عند الصوفية
أتفق الصوفية على أن غاية المتصوف السالك إلى الله أن يتحقق بمعرفة الله سبحانه وتعالى معرفة يقينية لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها.
ويأخذ المريد نفسه في أول عهده بالطريق بالمجاهدة النفسية فيتخلى عن الأخلاق الرديئة ويحاسب نفسه ويراقبها حتى تنقطع عنها الهواجس فتصبح طوع إرادته، ويتخلص من عوائق البدن وسطوة الشهوات التي من شأنها أن تحجب عنه الحقيقة العليا التي يصبوا إليها.
هذا وتنشأ عن المجاهدة والرياضة الروحية، حالات نفسية معينة تعرف عند الصوفية بالأحوال والمقامات، ولا يزال الصوفي يترقى في أحواله ومقاماته من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، حتى يل إلى معرفة الله تعالى معرفة يقينية لا مدخل للحواس أو العقل فيها، فيستمتع بمطالعة وجه الله سبحانه وتعالى ومشاهدة جماله وجلالة جلت قدرته.
والأحوال والمقامات هي الطريق موصل إلى المعرفة، إلا أن الصوفية اختلفوا في عدد هذه الأحوال والمقامات وترتيبها، فما يراه البعض حالاً يراه البعض الآخر مقاماً، وفي حقيقة الأمر كل يصف لنا منازل سيره وحال سلوكه. وعلى الرغم من هذا الاختلاف فيما بينهم فإنهم يقررون أن الأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، وأن الحال معنى يرد على القلب من غير اكتساب بل عن طريق الجود وأن المقام يحصل ببذل المجهود أضف إلى ذلك أن صاحب الحال مترق عن حاله وصاحب المقام ممكن في مقامه وان الحال سمي حالاً لتحوله
والمقام مقاما لثبوته.
ومن أمثلة الأحوال التي تحل بقلب الصوفي، الطرب والحزن والبسط والقبض والانزعاج والهيبة ومن أمثلة المقامات التي تصير كسباً له؛ التوبة والورع والزهد والصبر والشكر والمعرفة والمحبة.
والكلام فيما يعرض للنفس من هواجس وخواطر، وبيان طرائق المجاهدة وما يعرض للقلوب من أحوال وما تكتسبه من مقامات، كل أولئك مباحث ذوقية سماها المتصوفة بعلم الباطن أو علم الوراثة أو الحقيقة أو الدراية، وفرقوا بينها وبين علم الظاهر أو علم النقل أو علم الرواية.
يقول السراج الطوسي في اللمع عن علم الباطن وعلم الظاهر والفرق بينهما (إن علم الشريعة علم واحد، وهو اسم واحد يجمع معنيين: الرواية والدراية، فإذا جمعتها فهو علم الشريعة الداعية إلى الأعمال الظاهرة والباطنة. . . والأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح الظاهرة، وهي العبادات والأحكام مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وغير ذلك فهذه العبادات، وأما الأحكام فالحدود والطلاق والعتاق والبيوع والفرائض والقصاص وغيرها فهذا كله على الجوارح الظاهرة. . . وأما الأعمال الباطنة فكأعمال القلوب، وهي المقامات والأحوال مثل التصديق والإيمان واليقين والصدق والإخلاص والمعرفة والمحبة والرضا والذكر والشكر. . . فإذا قلنا علم الباطن أردنا بذلك علم أعمال الباطن التي هي على الجارحة الباطنة وهي القلب، كما أنا إذا قلنا علم الظاهر أشرنا إلى علم الأعمال الظاهرة التي هي على الجوارح الطاهرة).
وعلم الباطن عند الصوفية مستمد من الشريعة فلا خلاف بينهما، وغاية ما في الأمر أن علم الباطن علم ذوقي تنطوي عليه الشريعة، ومتى تحقق العبد بأحكام الشريعة وعمل بالكتاب والسنة، واتجه بقلبه نحو الله وسلك طريق الذوق، فقد حصل على ذلك العلم، فالحقيقة ثمرة الشريعة، وإلى ذلك أشار الشعراني بقوله عن علم الباطن (هو علم أقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالكتاب والسنة. . . والتصوف هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة).
وصور القشيري في الرسالة العلاقة بين الشريعة والحقيقة تصويراً رائعاً فقال (الشريعة أمر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية، فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير
مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول، فالشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق، فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قضي وقدر وأخفي وأظهر).
وعلوم الحقيقة هي العلوم الحائزة على جميع مراتب اليقين. ورد في التعريفات للجرحاني (علم اليقين ظاهر الشريعة وعين اليقين ظاهر الإخلاص فيها، وحق اليقين المشاهدة فيها).
ويقول القشيري في الرسالة (علم اليقين على موجب اصطلاحهم (أي الصوفية) ما كان بشرط البرهان، وعين اليقين ما كان بحكم البيان، وحق اليقين ما كان بنعت العيان).
ومن هذا يتضح لنا أن الصوفية يعتبرون علومهم علوماً يقينية حائزة لجميع مراتب اليقين، وهي أسمى من حيث يقينها عن سائر العلوم التي تعتمد على العقل وبراهينه واستدلالاته، وهذا اليقين الذي تتميز به علوم الحقيقة عن سائر العلوم هو يقين كشفي يتحقق به العبد متى سلك طريق الصوفية.
ولعله قد أتضح لنا الآن من خلال تقسيم الصوفية للعلوم إلى علوم باطنة أن المعرفة على نوعين: النوع الأول معرفة عقلية ظاهرة تعتمد على العقل وأنظاره واستدلالاته، وعرفة باطنة ذوقية لا مدخل للعقل أو الحس فيها، وإنما هي من قبيل المكاشفات، وهذه المعرفة الذوقية الباطنة التي لا تعتمد على العقل أو الحس تتخذ من القلب أداة لها. وفيما يلي توضيح ذلك:
إن الصوفية لا يعتمدون على العقل، ولاسيما إذا كان موضوع معرفتهم هو الله سبحانه وتعالى؛ إذ أن العقل عاجز عن إدراك حقيقة الذات الإلهية، ولا يستطيع أن يتوصل إلى إدراك كنهها بضرب من القياس أو الاستدلال النظري. ويصور فريد الدين العطار - وهو من كبار شعراء الصوفية من الفرس - عجز العقل عن إدراك الله تصويراً بالغ الروعة فيقول (ذهبنا وراء عالم العقل والفهم، العقل لا يجدي عليك، إنما يأتي إليك بما يأتي به غربال من بئر. إنما يحاول العقل أن يدرك في هذا العالم، ولكن هذا العقل الذي يفقد نفسه بجرعة من الخمر لا يقوي على المعرفة الإلهية، العقل أجبن من أن يرفع الحجاب ويسير قدماً إلى الحبيب.
وحقيقة الأمر عند الصوفية أن ذات الإلهية تدرك إدراكا مباشراً، لا مدخل للعقل فيه، وذلك
بواسطة أداة أخرى في الإنسان يسمونها عادة بالقلب، فالقلب هو مركز المعرفة، والله سبحانه وتعالى الذي يقذف بالمعرفة في هذا القلب، فيصبح صاحبه عارفاً محيطاً بكل شيء فالمعرفة لدنية بهذا المعنى، أي أنها من لدن الله عز وجل.
ويسوق الغزالي في كتابه علوم الدين مثالاً محسوساً رائعاً فيه كيف يكون القلب أداة للمعرفة الصوفية فيقول (لو فرضنا حوضاً محفوراً في الأرض أحتمل أن يساق إليه الماء من فوقه بأنهار تتفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم، وقد يكون أغزر وأكثر، فذلك القلب مثل الحوض والعلم مثل الماء وتكون الحواس الخمس مثل الأنهار، وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتبار بالمشاهدات، حتى يمتلئ علماً، ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر، ويعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تتفجر ينابيع العلم داخله).
ومن هذا النص يتبين لنا الصوفية لا يعتمدون على الحواس الظاهرة في تحصيل علومهم، وإنما يعتمدون على القلب فيأخذون أنفسهم بتطهيره من شوائب الحس وأدران المادة حتى تنكشف عنه الحجب، ويصبح قادراً على إدراك الحقائق وقد أشار إلى هذا المعنى الأستاذ زينون نيكولسن بقوله (إن الصوفية لا يستعلمون اسم القلب للدلالة على تلك المضغة الجاثمة في الصدر، بل يعنون به جوهراً لطيفاً غير مادي تدرك به الحقائق الأشياء وتنعكس عليه كما تنعكس الصور على المرأة. . . ولكن مقدرة القلب على أدراك الحقائق وقبول صورها رهن بصفائه؛ لآن حجبه تختلف لطافية وكثافة بحسب ما يؤثر فيه من الحواس والشهوات والمعاصي وحب الذات، ولكن بمقدار ما ينكشف عن القلب من هذه الحجب وتكون قدرته على المشاهدة وإدراك الحقائق).
ومن كل ما سبق نستطيع أن نقرر أن الصوفية اتخذوا من القلب أداة لمعرفتهم، فهم لا يعتمدون على الحس وما يصطنعه أصحاب الحس من مناهج، ولا يعتمدون على العقل وما يصطنعه أهله من بحث نظري واستدلال منطقي، وإنما هم يعمدون إلى الذوق ومعنى هذا بعبارة أخرى أنهم يصطنعون منهجا خاصا بهم في المعرفة.
فما هو هذا المنهج وما هي خصائصه الميزة له؟ وفيما يلي الجواب على ذلك:
4 -
يصطنع الصوفية منهجا ذوقيا خاصا بهم ليس من السهل إخضاعه الدراسة العلمية فهو منهج خاص بأصحابه قاصر عليهم دون غيرهم وإذا أردنا أن نعبر عنه تعبيرا سيكولوجيا قلنا إنه من الاستيطان الذاتي كما أن الإدراكات المباشرة التي يتوصل إليها بهذا المنهج إدراكات خاصة لا يمكن إخضاعها للملاحظة الخارجية.
هذا والصوفية يدركون الله سبحانه وتعالى إدراكاً مباشراً مصحوباً بحالة وجدانية يصعب التعبير عنها بالألفاظ وهذا الإدراك المباشر يسمى عندهم بالكشف.
والكشف كما يعرفه الجرجاني (في اللغة رافع الحجاب وفي الاصطلاح هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجوداً وشهوداً).
ويقول الطوسي في اللمع (الكشف بيان ما يستتر على الفهم فيكشف عنه للعبد كأنه رأى عين).
ويحدثنا أبن خلدون في مقدمته عن الكشف فيقول: إنه يعرض لأصحاب المجاهدة وقد صفت نفوسهم من شوائب الحس فيدركون به من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم، وبانكشاف حجاب الحس يتلقى الصوفي المواهب الربانية والعلوم الدينية. ويحدثنا أيضاً عن الكشف بما يفيد أنه من قبيل الوجدان، ومن ثم قصرت مدارك من لم يشارك القوم ما هم بسبيله من أذواق ومواجيد عن فهم حقيقته.
وأورد الشعراني في الميزان عن محبي الدين بن عربي في الفتوحات ما نصه (من علامة العلوم الدينية أن تمجها المقول من حيث إنكارها، ولا يكاد من غير أهلها يقبلها إلا بالتسليم لأهلها من غير ذوق، وذلك لأنها تأتي من طريق الكشف لا الفكر).
ويقول الشعراني أيضاً (وكان الشيخ محي الدين بن عربي يقول: أصل المنازعة الناس في المعارف الإلهية والإشارات الربانية كونها خارجة عن طور العقول، ومجيئها بغتة من غير نقل ونظر، فتنكرت على الناس من حيث طريقها فأنكروها وجهلوها).
وفي رسالة أرسلها الشيخ محي الدين بن عربي إلى الإمام فخر الدين الرازي (إن الرجل لا يكمل في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل أو شيخ. . . فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود لا نظر وفكر وظن).
كذلك يرى الغزالي في كيمياء السعادة أن اكتساب العلم اللدني بارتفاع حجاب الحس
المرسل بين القلب واللوح.
ويحدثنا الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين عن اكتساب العلم اللدني فيظهرنا من خلال كلامه عن أن العلم الإنساني يكتسب بطريقين: التعلم والاستدلال ويسمى اعتباراً أو استبصاراً ويختص به العلماء والحكماء، وأما أن يهجم على القلب كأنه ألقي فيه من حيث لا يدري فهو نفث في الروع، ويسميه الغزالي في رسالته اللدنية بالتعلم الرباني).
ويعبر لنا الغزالي أيضاً في كتابه المنقذ من الضلال عن كيفية وصوله إلى اليقين بطريق الكشف والإلهام فيقول (ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق الله رحمه الله الواسعة).
وكذلك يحدثنا السهروردي المفتول في كتابه حكمة الإشراق أن ما توصل إليه من العلوم في منازلاته وخلواته لم يكن بطريق الفكر، بل كان حصوله بأمر آخر يقصد به الذوق أو الكشف وهو (ولم يحصل لي أولا بالفكر بل كان حصوله بأمر آخر ثم طلبت الحجة عليه حتى لو قطعت النظر عن الحجة مثلاً ما كان يشككني فيه مشكك).
كذلك يرى الجيلاني في كتابه الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر أن إدراك الذات العلية هو بطريق الكشف الذي هو فوق العلم ومن قبيل الذوق.
والي مثل ذلك ذهب الشيخ حسن رضوان وهو صوفي مصري توفي عام 1310 في كتابه روض القلوب المستطاب (21) فهو يرى أن علم الحقيقة لم يتوصل إليه الصوفية عن طريق التفكير أو العقل، وإنما الكشف والإلهام.
ويقول الأستاذ رينولدلسون (فإن ما يسميه الصوفية المعرفة بالله ويعتبرونه من أخص صفاتهم يرادف في اللغة اليونانية كلمة التي معناها العلم بلا واسطة، الناشئ عن الكشف والشهود.
ومن كل ما سبق نستخلص أن الكشف الصوفي يعرض لأصحاب المجاهدة وقد صفت نفوسهم من شوائب الحس، فيدركون به من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية مالا يدرك سواهم من أرباب العقول، وأن الكشف يتم بلا واسطة من نقل أو شيخ أو غير ذلك، وإنما هو إدراك ذوقي مباشر تنكشف فيه حقائق الأمور، وهو على تعبير الغزالي نور يقذفه الله
في القلب.
هذا ولكي نبين طبيعة الكشف باعتباره منهجاً من مناهج المعرفة نفرق هنا بين نوعين من المعرفة: النوع الأول معرفة استدلالية والنوع الثاني معرفة مباشرة حدسية الاستدلالية ينتقل فيها الفكر من معنى إلى معنى، كأن ينتقل من المقدسات إلى النتائج أما المعرفة الحدسية المباشرة فتختلف باختلاف موضوع الإدراك. فهناك إدراك مباشر يتناول الأمور المحسوسة ويسمى أبن سينا بالمشاهدة، وهو معرفة مباشرة للشيء الخارجي المحسوس، وهناك إدراك عقلي مباشر وهو إما أن يكون منطقياً كأن تدرك العلاقة بين معين إدراكاً مباشراً بنظرة واحدة فهو بهذا المعنى سرعة الانتقال من مجهول إلى معلوم، أو يكون إدراكاً عقلياً ميتافيزيقياً مباشراً ويتناول موضوعات غير معطاة في عالم الحس وهذا النوع نجده مثلاً عند ديكارت وسبنيوزا، فديكارت يدرك إدراكاً عقلياً مباشراً باعتباره جوهراً مفكراً وذلك حين يقول ، وهذا الإدراك العقلي المباشر لا مدخل العامل الزمن فيه فهو بر هي أو آني إن صح هذا التعبير.
وكذلك يرى سينيوزا أن معرفة الله هي معرفة حدسية كلية شاملة يسميها ويتولد عنها الحب الإلهي العقلي وهي تحمل في ثناياها يقينها ووضوحها.
ومن الواضح كل الوضوح أن المعرفة أن المعرفة الصوفية ليست من قبيل المعرفة الاستدلالية، أو المعرفة الحسية المباشرة، أو المعرفة العقلية المباشرة المنطقية، أو المعرفة الميتافيزيقية المباشرة العقلية، إذ أنها لا تعتمد على العقل واستدلالاته ولا على المشاهدة الحسية وتجاربها، وإنما هي من قبيل العرفان المباشر ويمكن تسميتها بلغة علم النفس الحديث بالمعرفة الوجدانية الصوفية المباشرة، ووسيلتها هي الإدراك الصوفي الوجداني المباشر وهذا المعنى ينطبق تماما على ما يطلق عليه الصوفية كلمة (كشف) والآن ما هو المعرفة الصوفية التي تتخذ الكشف منهجاً لها؟ وفيما يلي الجواب على ذلك:
للكلام تتمة
أبو الوفا الغنيمي التفتازاني
لوامع النجوم مختصر شمس العلوم
للأستاذ أحمد عبد الغفور عطار
نشرت في عدد مضى من هذه المجلة الكريمة وصفاً للمعجم المسمى (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم) لنشوان بن سعيد الحميري، وقدمت صورة إلى الذهن هذا المعجم العظيم الذي لا يعرف، مع أنه معجم رحب دقيق صحيح، وذكرت في ذلك المقال: أن لهذا المعجم مختصراً، اسمه (ضياء الحلوم) وهو بمكتبة شيخ الإسلام الإمام عارف حكمة الله الحسيني بالمدينة المنورة، وأن من الأصل نسخة بهذه المكتبة.
وعلمت بعد نشر مقالي الأول في الرسالة أن لهذا المعجم مختصراً آخر اسمه (لوامع النجوم) فبحثت عنه حتى وجدته، ويستطيع قارئ هذه المجلة أن يدرك حقيقة شمس العلوم الموضوعية وطريقة تأليفه إذا ما وصفت له هذا المختصر الذي يسير في الطريق الذي سار فيه (الشمس).
وقبل أن نبدأ وصف الموضوع والطريقة، ننتهي من وصف النسخة وشكلها وما يتعلق بنعوتها المادية، حتى إذا أنجزنا ذلك انتقلنا إلى صلب الكتاب.
هذا المختصر الجديد أسمه - كما قلت - (لوامع النجوم) وعدد أوراقه 358، وكل ورقة مكتوبة صفحاتها إلا الأولى والأخيرة فإنها من وجه واحد، وطول الورقة 30 س وعرضها 16س، وفي كل صفحة 38 سطراً وفي السطر 18كلمة إلى 20، والورق جيد إلا بعضه فقد اتكلت أطرافه، ومن جراء ذلك نقصت كلمات كثيرة في بعض الصفحات، إلا أنها تعرف من السياق.
أما الخط فعربي، ولكنه غير جميل، وإن كان مقروءا بتعب، والناسخ أهمل نقط كثير من الكلمات، كما وكما أغفل بعض الحروف كحذف همزة الوصل وحذف الألف في مواضيع كثيرة.
والخط بقلم الناسخ لا المؤلف، لأن في آخر الكتاب سطراً مكتوباً بالقلم الذي خط به الكتاب كله وهو هذا:(تم الثلاث عشر الخمس والثلاثين من ماء مبارك رمضان سنة خمس وثلاثين وتسعمائة) وهو يدل على أن كاتبه أعجمي، وأغلب الظن أنه تركي الأصل لأن تركيب الجملة يدل على ذلك.
والنسخة وقف وقد كتب في أول صفحة منه (وقف الله تعالى) كما كتبت الجملة نفسها في صفحة 348 أول باب الصاد - وهو القسم الثاني من هذا المختصر - وكتبت كلمة (وقف) في رأس صفحة 714 وصفحة 715.
ولم يذكر الناسخ اسمه، وإن كان قد ذكر تاريخ الفراغ من النسخ، وهو التاريخ الذي ذكرناه للاستدلال بصيغه على أعجمية الناسخ.
أما مؤلف (لوامع النجوم) فلم يكتب اسمه، وبحثت فيما لدي من مراجع فلم أجد أسمه ولا سنة تأليفه أو الفراغ منه، وسألت كثيراً من أصدقائي العلماء فلم يعرفوا الكتاب ولا اسم مؤلفه ولعل لدى المشتغلين باللغة والعلماء علماً به فيكتب في الرسالة ما يظهره ويكشف حقيقته.
وعكفت على الكتاب أقرئوه فلم أجد ما يشير إلى ومن المؤلف، ولم أجد ما يشير إلى شيوخه أو تلامذته أو أنداده فأهتدي بهم إليه. والمقدمة نفسها خالية من أسم المؤلف وهي في سبعة سطور، ولكن بعض كلمتها غير موجود، لأن موضعه من الصفحة قد أتكل، وها أنا ذا أنقلها بعد وضع النقط على الكلمات التي أهمل إعجابها، ووضع الكلمات المأكولة اجتهادا مني وجعلها بين أقواس للدلالة عليها.
وها هي ذي المقدمة: (الحمد لله الذي فضل الإنسان على سائر الحيوان ومن (عليه بالبيان) والسلام على رسوله أفصح من نطق بالضاد، وأفضل من أوتي الشفاعة (يوم التناد) وعلى اعترته وأحبابه. أما بعد فلما كان كتاب شمس العلوم مفيداً في علم اللغة غاية الإفادة شكر الله سعيه في كل الإجادة، لم يوضع فيه كتاب على هذا الترحيل يأمن كاتبه وقارئه (من التصحيف) بحرس كل كلمة بنقطها وشكلها، وبجملها مع جنسها وشكلها. لكن كان محتوياً على (كلام العرب) ومشتملاً على بعض قواعد من علم الأدب وعلى شيء من منافع الأشجار (وعلى) بعض ما يتعلق بالأحاديث والأخبار، وعلى تفسير بعض الآيات، وتبيين ألفاظ مما لا تعلق (له) باللغة كل التعلق، ولا يدركه من لم يتعمق في اللغة كل التعمق، أردت أن (أختصر) اللغات فيه ليسهل تحصيله على طالبيه، فجاء بحمد الله مشتملاً على جميع (الأبواب) هناك مع ذكر بعض ما يتعلق به من الأمثلة أو غير ذلك وسميته لوامع النجوم).
وهو كشمس العلوم يسير على المعجم، وبدأ بحرف الهمزة ويسمي (كل حرف من حروف المعجم كتاباً، ثم جعل لكل حرف من حروف المعجم باباً، ثم جعل كل باب من تلك الأبواب شطرين: أسماء وأفعالاً، ثم جعل لكل كلمة من تلك الأسماء والأفعال وزناً ومثالاً، فحروف المعجم تحرس النقط وتحفظ الخط والأمثلة حارسة الحركات والشكل واردة كل كلمة بنائها إلى الأصل).
إنه سار على حروف المعجم، وسمي - مثل شمس العلوم - كل حرف منها كتاباً، فيقول مثلاً: كتاب الهمزة وكتاب الباء وهكذا حتى الياء، يذكر تحت عنوان كتاب الهمزة كل حرف مبدوء بها مقسماً إلى أبواب، فالهمزة مع غيرها من الحروف باب، وهكذا الباء والتاء والثاء الخ.
وطريقته في مختصره أن يبدأ كل باب بحروف المضاعف مبتدئاً بالمجرد من الأسماء وزن فعل (بفتح الفاء وسكون العين) فيذكر في كتاب الهمزة باب الهمزة وحروف المضاعف، ويقول
(فعل بفتح الفاء وسكون العين الأب المرعي الأب القوة وهو الآد والأيد أيضاً الأس كان ذلك على أس الدهر أي قديمه الخ).
ثم يذكر (فعل بضم الفاء أو من أسماء الفاء أو من أسماء الرجال وأد أبو قبيلة س الأس الجمع أساس كأخفاف وكان على أس الدهر أي قديمه الخ).
ثم (فعل بكسر الفاء دالإد الشيء المنكر س كان ذلك على إس الدهر أي قديم ص لإص الأصل ل الإل الله عز وجل والإل العهد واليمين والإل القرابة).
ثم: (فعل بفتحتين الأمم القريب المقابل داره أمم دارى أي مقابلتها. وبضم الفاء: دأدد أبو قبيلة من اليمن).
وإذا انتهى من المجرد بدأ بالمزيد ويفصل بينهما بكلمة (زيادات) فيقول: (فاعل جئئت بشيء أد وآد بمعنى وبالهاء (أي آدة) الآمة الشجة تبلغ أم الدماغ).
ثم يذكره (فعال بالفتح ث الأثاث متاع البيت وأحدثه أثاثه، الفراء لا واحد له من لفظه، والأثاث كثرة المال الخ).
ثم (وبالضم ج الماء الأجاج الملح ويقال الحادح الاحاح العطش والأحاح الغيظ في صدره
أحاح ن الأنان الأنين وبالهاء الخ).
ثم (فعال بالكسر ب في إبابه في جهازه ج الاجاج شدة الحر).
ثم يذكر (فعول بفتح الماء وضم العين وكذا جميع ما في هذا الكتاب من فعول غير محروس فإن أتى خلافه حرس بوزنه ص الأصوص الناقة الشديدة).
ثم (فعيل) وهكذا حتى ينتهي من الأسماء ليبدأ الأفعال فيذكر أبواب الثلاثي الستة فالرباعي المجرد ثم مزيد الثلاثي بحرف فحرفين فثلاثة ثم مزيد الرباعي وهكذا تحت عنوان (زيادات) يجعله بين السطور.
وفي الكتاب فلمان: أسود وأحمر، أما الأسود فالكتاب كله إلا بعض هذه الإشارات مثل هذه العناوين الداخلة بين السطور:(الزيادة، والأسماء، والأفعال) وبعض العلامات فبالقلم الأحمر، ومن هذه العلامات أنه إذا أراد أن يذكر فعالاً، في باب الهمزة كتب (ب) بقلم دقيق يرمز به إلى أن الكلمة الآتية من باب الهمزة أي مبدوءة بالهمزة يعقبها حرف الباء مباشرة مثل إب، وإذا انتهى من الباء وضع أو ث صغيرة الحجم جداً وهكذا، وإذا لم يرد من وزن فعال ما فيه حرف التاء بعد الهمزة انتقل إلى الحرف أنتقل إلى الذي ورد من هذه الصيغة مثل: إجاج. ويضع الرمز بحرف جد صغير ودقيق هكذا ج الاجاج شدة الحر.
والكتاب جزءان في مجلد واحد، وإن لم يذكر المؤلف الناسخ ذلك. إلا إننا زعمنا هذا من مظهر الكتاب فهو يضع كل (كتاب) عندما ينتهي من سابقه في الموضع الذي ينتهي إليه بدون أن يجعله مستقلاً من أول الصفحة أو أول السطر، إلا أنه عندما انتهى من حرف الشين بقى ثلثا الصفحة فارغين أبيضين، وترك الصفحة على حالها من البياض وأنتقل إلى صفحة جديدة كتب في وسطها (كتاب الصاد) وهي توافق صفحة 348 أو ظهر الورقة الرابعة والسبعين بعد المائة؛ ثم ينتهي الكتاب بحرف الياء مع الألف في الورقة الأخيرة التي يوافقها في الترتيب رقم 368 أو الصفحة 715.
وفي الكتاب أخطاء جد كثيرة من الناسخ لا تخلو منها صفحة من صفحاته حتى أن غير المتمكن في اللغة لا يستطيع معرفة كثير منها مثال ذلك في الصفحة الثانية: (هو في إبانه في جهازه) وصوابها: (هو في إبابه في جهازه)(والأحاج الغيظ في صدره أحاج) والصواب: (والأحاج الغيظ في صدره أحاح) وفي صفحة 207 (الدرك بالفاف الجند فوق)
وصوابها: (الدوق بالقاف الحندقوق) والحندقوق بفتح الحاء وكسرها بقلة كالغث الرطب نبطية معربة.
ويغلب على الناسخ قبل الهمزة في أسم الفاعل كطائر وقائم وصائم ونائم وبائع ياء فتصير: طايراً وقايماً وصايماً ونايماً وبايعاً، مثال ذلك ما ورد في صفحة 22 (الباسوس طاير) وجاء في هذه الصفحة نفسها ما خطه الناسخ هكذا:(أبلح النحل صار فيه البحل) وصحته: (أبلح النخل صار فيه البلح).
ويسقط قلم الناسخ في كثير من المواضع كلمات لا تدرك إلا بعد جهد ممن رسخ في اللغة علمه، وقل من أخطائه ما يدرك من السياق لغير المتمكن الضليع، ومن أخطائه التي تعد أقرب إلى البيان والظهور ما أنقله كما كتب للدلالة على جناية الناسخ على المؤلف - رحمها الله -
جاء في صفحة1: (البلاط الحجارة المفروشة وكل شيء فرشت به الدارين حجره وغيره فهو بلاط ع اسم من التبليغ والبلاغ والكفاية).
فالناسخ أهمل نقط كثير من الخوف وسقطت من الحروف وسقطت منه كلمة وصحف أخرى، وزاد وغير ذلك، وصواب تلك الجملة خطأ وكتابة وتركيبها كهذا (البلاط الحجارة المفروشة، وكل شيء فرشت به الدار من حجر وغيره فهو بلاط غ البلاغ اسم من التبليغ والبلاغ والكفاية).
وبعد هذا أتجه إلى الحكومة اليمينية التي تتولى طبع معجم شمس العلوم من جديد لأطلب إليها ما طلبته في كملتي السابقة، لا وهو العناية كل العناية كل العناية بترتيب هذا المعجم العظيم وتنسيقه وتبويبه وأتفان طبعه وتأليف فهرس لألفاظه ويكون مفتاحا بيد المراجع ومرشدا إياه إلى ما يريد، وذلك مثل فهرس الجمهرة لابن دريد المطبوع في الهند، ثم أطلب إلي العلامة الشيخ عبد الله ابن عبد الكريم الجرافي الذي انتدب من حكومة اليمن لنشر شمس العلوم أن يطلع على هذه النسخة الخطية من (لوامع النجوم) إذا لم تكن في مكتبات اليمن القيمة نسخة منه.
وإنني سأبعث إليه مخطوطة هذا المختصر إذا رغب، وهي بمكتبة الأستاذ السيد عبيد مدني عضو مجلس الشورى بمكة والأستاذ السيد أمين مدني رئيس بلدية المدينة المنورة اللذين
استعدا بتقديم هذه النسخة إلى الشيخ الجرافي عارية مستردة للإطلاع عليها. وفي وسع الشيخ الجرافي أن يطلبه من أحد مالكي النسخة لأنهما مقيمان بالحجاز، أما أنا فمسافر بعد أسبوعين إلى أسبانيا للاطلاع على مكتبة الأسكوريال، ثم إلى باريس وبرلين ولندن والفاتيكان للإطلاع على مكتباتها التي تحوى نفائس التراث العربي الغالي اليمن، وأرجو الله أن يوفقنا جميعاً إلى خدمة لغة القرآن.
مكة
أحمد عبد الغفور عطار
على هامش مشكلة اللاجئين
صوت مصر. . .
الآنسة فائزة عبد المجيد
(وقال الكاتب العربي أ. م في الرسالة قولا كريماً مشكلة اللاجئين كان له النفس هذا الصدى)
ف.
(قطرات من الدموع، نداً من الرحمة، وقليل مما يسد الرمق، ذلك ما يطلبه اليائسون من المترفين، وحسبهم منه القليل) كما يقول لا مارتين، ترى، أكان من ذلك وحيك، لتمسح جراحاً وتهز قلوباً، وتحيي ضمائر، وحولك مأساة تكاد لها الجبال الصم تميد؟. .
قلت في صرختك: (إنني كفرت بالضير الإنساني، كفرت به حين كفر هو بكل وشيجة من وشاج الإنسانية! وكل خليقة من خلائق الأحياء، حين تكون هذه الخلائق مجموع من المشاعر والأحاسيس. . . مشاعر الدم الواحد واللغة الواحدة والتقاليد الواحدة وأحاسيس الأخوة والعروبة والجوار!) وإنه لحق، لولا نفوس ترسل النداء - كما أرسلتموه - جهيراً قوياً: ألا رفقاً أيتها الحادثات، غفراناً أيها الإخاء المعذب، فما نسينا لك - على الشدائد - عهداً، وأن هادن الدهر وضلت عن السبيل القوافل:
قد هادن الدهر حتى لا قراع له
…
وأطرق الخطب حتى ما به حرك
أو كفرت بالعروبة حين عادت لا تجمعها - عند النزول - جامعة من دين ولغة وتاريخ، حين دخلت معركتها الأولى بلا إيمان لتفضحها مشكلة اللاجئين ويصمها حكم التاريخ، والدليل الحق لا يدفعه دافع؟ أو راعك صوت التاريخ يقول لفلسطين ما قاله شاعر أثينا يوم هوت:(لقد اختفت أثينا من صفحة الوجود، ليختفي الربيع من فصولك أيها الزمن!.)
أو أبكاك النشيد يهز بشجوه الحضر والبيد: (يا أخت أندلس عليك سلام. .)
وهل كانت محنة فلسطين إلا محنة العروبة في شرفها تصاب، وللعروبة أبناء فلسطين يردون موارد الهلاك إدلاء، فما نقض مضاجع توجعاً من موت يسري في جموعهم، ومن شقاء يبيدهم:
سرى الموت في الظلماء والقوم في الكرى
…
وقام على ساق ونحن قعود
وهل محنة فلسطين إلا محنة العروبة في افتضاح قوتها، في عطلها من الرأي العام الذي يوجه السياسة العليا حين يقول كلمته ويملي أردته؟
ألا تعال معي، وطف في تلك الكهوف وأشهد: هنا الإنسانية تتعذب، تلك الطفولة تذوي. تتطلع إلى النور فتحجبه عن ناظرها الدموع، تشقي قبل أن يشقيها الكفاح. أو سمعتها وهي تقول: رب إني مسني الضر؟ أو رأيت كيف غضنت الهموم جباه الصغار قبل السنين، كيف غرقوا في لحج اليأس، أضحوا عبيداً قبل أن تظلهم راية الحرية، تخلت عنهم محبة الأرض والسماء، سقطوا وما من ضماد.
ألا، دع الصغار يبكون ثم ماذا ترى؟ خياماً ممزقة، أشباحاً في أسمال، نظرات جزعة، وأكفاً ضارعة.
ألا لا تسألن: دع الجراح في ألحنا يا وفي الضلوع، فأشدها حين تنكأ. دع لها الذكريات، فما أمر تذكرها! دع لها الدمع ينبئك، ففيه بلاغ:
لم يبق شيء من الدنيا بأيدينا
…
إلا بقية دمع في مآقينا
فائزة عبد المجيد
رِسَالَة الشِعْر
لا يا أخي
للشاعر محمد مفتاح الفيتوري
ألأن وجهي أسود ولأن وج - هك أبيض سميتني عبداً
ووطئت إنسانيتي وحقرت رو
…
حانيتي. . فصنعت لي قيداً
وشربت كرمي ظالماً. . وأكلت بقلي
…
ناقماً، وتركت لي الحقدا
وليست ما نسجت خيوط مغازلي
…
وتركت لي التنهد والكدا
وسكنت أبهاء المقاصير التي
…
بيدي تحت صخورها الصلدا
وإياكم استلقيت في كوخ الدجى
…
أتلفح الظلومات والبردا
كالشاة. . أجتر الكآبة عاقداً
…
حولي دخان تفاهتي عقدا
حتى إذا انطفأت مصابيح السما
…
وانساب نهر الفجر ممتدا. .
أيقظت ماشيتي الهزيلة وأنطلق
…
ت أقودها لمراجعها قودا
فإذا سمن نعمت أنت بلحمها
…
ونبذت لي الأمعاء والجلدا
لا يا أخي. . إن التهاب مشاعري
…
هيهات بعد اليوم أن يهدأ
هيهات. . لم أخلق عليها بومة
…
تقتات بالديدان. . أو قردا
أنا كائن أمي وأمك طينة
…
والنور ليس لأبنا جداً
فإلام تحرمني حقوقي بينما
…
تلقى الرغادة أنت والمجدا
وإلام تستعلي بأنفك سيداً
…
وأنا أطاطيء هامتي عبدا
إني صحوت. . صحوت من أمسي وذى
…
فأسى تهد قبوره هذا
سأكون ناراً فالحياة تريدني
…
ناراً. . وأرقص قوتها رعداً
فاخلع برافع كبريائك إنني
…
أسكنت جيفة ذلت لحدا
وأضمم يديك إلى يدي نشد معاً
…
صرح المحبة بيننا شيدا
إني أخوك فلا تعق أخوتي
…
فتزيد بركانيتي وقدا. .
إياك لا تبذر بذور عداوتي
…
فتروح تحصد شوكها حصدا
إياك لا تزرع حقولك عوسجاً
…
أني زرعت حقولي الورد
محمد مفتاح الفيتوري
نار ورماد
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
عشقتك يا فتنة الملهمين
…
كما يعشق الوردة البلبل
عشقتك والحب أشهى جنون
…
لدي شاعر ليله أليل
تدله فهو نبي الفتون
…
وآياته شعره المرسل
وغنيت شعراً وعته السنون
…
وردده الروض والجدول
وتنقله الريح للياسمين
فالدني غزل
والهوى قبل
وأنت ارتعاشات عطر سجين
أيا كرامة الحب أين الرحيق؟
…
وأين ليلك يا غانية؟
وأين القلوب التي لا تفيق
…
وأين الصبايا يا سالية؟
أضلل روحك ومض البريق
…
تلألأ في ليلة داجية
أما كنت لي بسمات الشروق
…
وكنت بشائره الزاهية
فخفت مواعيد واه خفق
دهره ينوح
عمره جريح
فلا تسألي كيف ضل الطريق
حنانيك يا جنة الأمنيات
…
إلام الطواف وراء المحال
وفيما التعلل بالذكريات
…
وكل الذي نرتجيه خيال
أتنسين أنا بتيه الحياة
…
زوال يخب وراء الزوال
وأنا سراب بدا في فلاة
…
تقمص تيها رداء الجمال
وصال وما هو إلا رفات
تعامى كما
تسامى السما
ويلبس زوراً رداء الثقاة
عشقنا دروب الأسى والسقم
…
فأيان نسر فدنيا عذاب
لقد جمعتنا طيوف الألم
…
ووحدنا حبنا للسراب
سئمنا هل الممر إلا سأم
…
وشبنا ونحن يفجر الشباب
فديتك هل نحن إلا حلم
…
تجد مستكبراً بالتراب
وعربد وهو ربيب العدم
عمرنا لهب
حبنا عجب
فلا تندمي ليس يجدي الندم
رمادي تأوه منذ الأزل
…
وما زال ظمآن دامي الجراح
أيبقى على ناره يبتهل
…
سجين الخطايا كسير الجناح
فيا بارئي أين نور الأمل
…
ويا بارئي أين درب الصلاح؟!
أليس لكل كتاب أجل
…
أليس لكل مساء صباح
لقد ضاق صدري ومل الملل
ودارت كؤوس
وغابت شموس
ومازال جرحي لم يندمل
دلهت روحي وأنت الأمان
…
وأظلمت قلبي وأنت القمر
فأرسلتني في ركاب الزمان
…
حداء تفجع منه القدر
ومنيتي والأماني دخان
…
كفرت بها اليوم فيمن كفر
أأحيا بأحلام دنيا الجنان
…
وترقص حولي جنونا سقر
ويلثم جرحي ثغر السنان
وجودي عدم
شرودي ألم
ويومي دموع وعمري هوان
أيا مانح الروح هذا الجسد
…
علام كتبت عليه الشقاء؟!
أتوعده بنعم الرغد
…
وتحرمه من طيف الهناء؟!
أتغريه بالحسن ونهداً وخد
…
وتصليه بالنار بعد الفناء؟!
أتقذفه في خضم النكد
…
وتتركه بين ناب القضاء
لينهشه أفعوان الحسد
حياتي سقر
وذاتي ضجر
فهات جحيمك صبري نفذ
عبد القادر رشيد الناصري
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
إقرار كلمات محدثة:
يذكر قراء (الرسالة) البحث القيم الذي ألقاه الأستاذ أحمد حسن الزيات في العام الماضي بمؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وكان موضوعه (حق المحدثين في الوضع اللغوي) ونشرته الرسالة إذ ذاك، وقد عقبت عليه وأوردت أهم ما دار في مؤتمر المجمع.
وكان ذلك البحث تمهيداً وأساساً للنتيجة العملية التي ظفرت بها اللغة في الأسبوع الماضي، إذ عرض الأستاذ على مجلس المجمع في جلسة يوم 2مايو سنة 1951 طائفة من الألفاظ المسموعة عن المحدثين على خلاف ما سمع عن العرب الأولين في الصيغة أو في الدلالة، وعددها واحد وخمسون، أقر المجمع منها تسعة وثلاثين ورفض أربعة، وأحال ثمانية إلى لجنة الأصول لبحثها.
ولا شك أن الألفاظ التي أقرت تعتبر منذ اليوم مضافة إلى اللغة الصحيحة، وهي ليست في المعاجم الحالية بطبيعة الحال، ولابد أن يشتمل عليها ما يوضع بعد من المعاجم، ولهذا الموضوع أهمية كبيرة، ليست مقصورة على إضافة هذه المجموعة من الألفاظ بمعانيها الجديدة إلى اللغة، وإنما هي إلى ذلك في إقرار قبول الوضع والسماع من المحدثين، فلم تعد اللغة وقفاً على ما سمع من العرب الأولين، بل صار للأحياء الذين يستعملونها حق التصرف فيها على حسب حاجاتهم، على أن يشرف المجمع على استبدال هذا الحق باعتباره المختص باللغة القيم عليها.
وفيما يلي طائفة من الألفاظ التي وافق عليها المجمع مع بيان الأستاذ الزيات ما يسوغ إقرارها، والبقية في الأسبوع القادم:
1 -
ساهم: يستعمل المحدثون ساهم بمعنى شارك وقاسم، والعرب لم يستعملوه إلا في المقارعة وهي الغلبة في القرعة. ولاستعمال المحدثين أصل فقد قال العرب: تساهموا واستعملوا السهم بمعنى المقاسم لغيره بالسهم، قال البديع في إحدى رسائله (أفترضى أن تكون سهم حمزة في الشهادة).
2 -
هدف وأستهدف: صاغ المحدثون من الهدف بمعنى الغرض، هدف إلى الشيء قصد
إليه، وأستهدف الشيء جعله هدفاً له. والعرب لا يستعملون هدف أليه بمعنى دخل وقارب، ولا أستهدف الشيء إلا لازماً بمعنى أنتصب وأرتفع ودنا منك.
3 -
المظاهرة: يستعمل المحدثون للمظاهرة بمعنى إعلان رأي أو إظهار عاطفة في صورة جماعية، وهي تقابل في هذه الدلالة لفظ في الفرنسية والإنجليزية. والعرب يستعملونها بمعنى العون من الظهر، كالمساعدة من الساعد والمعاضدة من العضد، والمكاتفة من الكتف. والأقرب إلى المعنى الحديث تظاهروا تظاهراً، فقد قالوا تظاهر فلان بالشيء أظهره، ولكن المظاهرة شاعت حتى ليصعب على الناس العدول عنها.
4 -
تجمهر: يقول المحدثون: تجمهر الناس: اجتمعوا. والعرب يقولون: تجمهر علينا: تطاول، ولاستعمال المحدثين أصل من قولهم: جمهر التراب: جمع بعضه فوق بعض.
5 -
الكتلة والتكتل: يقول المحدثون: تكتل الناس: صاروا كتلة، أي جماعة متفقة على رأي واحد. والعرب لا يعرفون تكتل إلا بمعنى تجمع الشيء وتدور، ولا من الكتلة بمعنى ما جمع من التمر والطين ونحوها، والكتلة في لغة العلوم والحضارة تقابل لفظ في الفرنسية والإنجليزية.
6 -
الجلطة وتجلط الدم: الجلطة بالضم هي الجزعة الخاثر من اللبن الرائب، وقد توسع فيها المحدثون فأطلقوها من باب التشبيه على الجزعة من الدم إذا تخثر، وقد اشتقوا منها تجلط الدم إذا تخثر.
7 -
الدخان ودخن: يطلق المحدثون الدخان علىالتبغ، ودخن بالتشديد على إحراقه وهو من قبيل المجاز المرسل.
8 -
الحشيش والحشاش: يريد العرب بالحشيش ما يبس من الكلأ، وبالحشاش من يقطع بهما فوق ذلك المادة المخدرة المعروفة، ومن يتعاطاها.
9 -
القنبلة: القنبلة في اللغة: الطائفة من الناس أو من الخيل، ومصيدة يصاد بها أبو براقش، وفي استعمال المحدثين القذيفة المتفجرة يقذف بها مدفع أو طائرة أو يد (وافق المجمع على هذه الكلمة على أن ينص أصلها الفتح ثم ضمت وعلى أنها أقرت لأنها تعرفت وشاعت).
10 -
الفشل - فشل الرجل: كسل وضعف وتراخى وجبن عند حرب أو شدة. والمحدثون
يستعملون فشل بمعنى خاب، كأنهم يطلقون السبب ويريدون المسبب، فهو من قبيل المجاز المرسل.
11 -
الجيل: الجيل: الصنف من الناس، وقد توسع فيه المولدون، فاستعملوه على أهل الزمان الواحد، ويظهر ان هذا الاستعمال قديم، فقد قال المتنبي (وإنما نحن في جيل سواسية شر على الحر من سقم على بدن).
12 -
القاع: القاع ارض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام. والمحدثون يستعملونه في أقصى الشيء وعمقه ونهاية اسفله، فيقولن قاع بئر وقاع النهر تفادياً من ذكر القعر.
13 -
القهوة: يستعمل المحدثون القهوة في المكان الذي تشرب فيه، وهو مجاز مرسل علاقته الحالية، كقولهم نزلنا على ماء بني فلان، أي على بئرهم، والمؤمنون في رحمة الله أي في جنته. وهذا الاستعمال صحيح يغنينا عن كلمة المقهى الثقيلة.
14 -
غير: يدخل المحدثون عليه أداة التعريف، ويجمعونه على أغيار، ولم يسمع ذلك عن الأولين. والتعريف والجمع أمران تقتضيها الحال، وعلى الأخص في لغة القانون.
15 -
الغيرية: عرف المتقدمون الغيرية مقابلاً للعينية، وهي أن يكون كل من الشيئين خلاف الآخر ويستعملها المحدثون اليوم مقابلاً للأنانية فتكون معنى من معاني الإيثار.
16 -
الشقي: ضد السعيد. والمحدثون يطلقونه أيضاً على اللص وقاطع الطريق (وافق المجمع على هذه الكلمة على أن يزاد في شرحها أن تدل على الأطفال (العفاريت).
17 -
التأميم: أمم الرجل المكان قصده. والمسموع اليوم من المحدثين أنهم يقولون: أمم الشيء: جعله ملكاً للأمة.
18 -
التدويل: أشتق المحدثون من لفظ الدولة - دول المكان وغيره جعله دولياً.
19 -
التصنيع: قال العرب: صنع الجارية: أحسن أليها وسمنها، وتصنيع الشيء: تحسينه وتزيينه بالصناعة. والمحدثون يريدون بالتصنيع معنى جديداً وهو جعل الأمة صناعية بالوسائل العلمية.
20 -
التركيز: ركز الرمح ونحوه: غرزه في الأرض. والمحدثون يطلقون التركيز على التكثيف والتجميع والحصر، فيقولون: ركز اللبن ونحوه: كثفه، وركز فكره في كذا:
حصره.
21 -
أعدم المجرم: يقول المحدثون: أعدم الجلاد المجرم، شنقه. والمسموع عن العرب: أعدم الرجل: افتقر، وأعدم فلاناً: منعه، وأعدم الله فلاناً الشيء جعله عادماً له.
22 -
التقاليد: جمع تقليد. ويريد بها المحدثون السنن الموروثة والعرف المتناقل. وهي من قول العرب قلده في كذا، تبعه من غير نظر ولا تأمل.
23 -
القيم: يقول المحدثون كتاب قيم ومقالة قيمة، أي له ولها قيمة. ولم يسمع عن العرب هذا المعنى، وإنما يطلقون القيم على زوج المرأة وعلى من تولى الأمر. والقيمة الديانة المستقيمة.
24 -
أثث البيت: أشتق المحدثون من الأثاث وهو متاع البيت: أثث المسكن جعل فيه أثاثاً، والمتقدمون لا يقولون إلا أثاث الفراش أو البساط إذا وطأه ووثره.
الأدب في تاريخ (الأهرام):
أصدرت صحيفة (الأهرام) في الأسبوع الماضي، عدداً ممتازاً لمناسبة مرور خمس وسبعين سنة على إنشائها، وقد عنيت بإبراز تاريخ مصر في هذه الفترة (1876 - 1950) ذلك التاريخ المنعكس على صفحاتها، فهي سجل حافل ومرجع شامل لما مر بالبلاد في تلك الحقبة من أحداث وما قام فيها من مسائل ومشكلات، وكانت مجال الأقلام في كل ما يهم الناس ويشغل الأذهان من شؤون السياسية والاجتماع والاقتصاد. . . الخ.
وقد حفل العدد الممتاز ببيان النواحي المختلفة للحياة المصرية من حيث انعكاسها على صفحات الجريدة، ونال كل شيء من عنايتها عدا الأدب. . . أشتعل العدد على مختلف الشؤون، حتى الرياضة وأبطالها والسباق وأسماه الخيل، أما الحركة الأدبية وأعلامها فلم تظفر بكلمة واحدة!
ولم ذلك؟ ألأن (الأهرام) لم تكن في حياتها الماضية مجالاً للأدب، ولم تعكس صفحاتها شمسه، أم أنها أصبحت الآن لا تعنى بالأدب ولا تحسب له حساباً؟
أما الأول فلا، فحياة صحيفتنا العريقة زاخرة بآثار الأدباء وقصائد الشعراء، وقد التحرير ورياسة التحرير فيها أدباء كبار، ولا أظن أدبياً من الأدباء المعروفين إلا كتب فيها، وقد خصصت في كثير من الأحيان صفحة للأدب صالت فيها الأقلام وجالت، وإن اختلط
الحابل بها النابل. . .
ومن الطريف في هذا الصدد، بل من التليد، أن الترخيص الذي صدر بإنشاء (الأهرام) سنة 1895 تضمن ما يدل على أن الشؤون الأدبية كانت من أغراض إنشائها، وهذا هو نص الترخيص:
(رخصت الخارجية لحضرة سليم ثقلا باشا بإنشاء مطبعة تسمى الأهرام، كائنة بجهة المنشية بالإسكندرية، يطبع فيها جريدة تسمى الأهرام تشتمل على التلغرافات والمواد التجارية والعلمية والزراعية والمحلية، وكذا بعض كتب كمقامات الحريري وبعض ما يتعلق بالصرف والنحو واللغة والطب والرياضيات والأشياء التاريخية والحكمة والنوادر وما يماثل ذلك وقد أمرت الخارجية محافظ الإسكندرية بعدم المعارضة للمذكور في إنشاء المطبعة المحكي عنها).
ولاشك أن الكاتب التحرير الذي كتب ذلك الترخيص كان يريد أن يذكر الأدب في جملة ما ستعني به الأهرام، فعبر عن ذلك بمقامات الحريري والصرف والنحو واللغة والحكمة والنوادر. . .
هذه لمحة خاطفة عن ماضي (الأهرام) بالنسبة للحركة الأدبية التي أهملتها في عددها الممتاز الأخير، وهو ماض ينطق بأن الأدب كان من أهم نواحي حياتها، لا في الموضوعات الأدبية وحدها، بل الأدب يتمثل كذلك أحياناً في الأسلوب الذي تصاغ به المواد الأخرى، فقد كان محرورها يتعمدون الجزالة والإتيان بالعبارات التي يعدونها من بليغ القول على حسب المفهوم العام للأدب في عصرهم، وكثيراً ما كانوا يأتون بالأسجاع في العناوين مثل (أنباء الحرب والقتال في بلاد الترنسغال) وذلك إظهار للمقدرة الأدبية على ما كانوا يفهمونها. . .
فلم يبق إذن إلا أن (الأهرام) الآن لا تعني بالأدب ولا تحسب له حساباً. . . ولكن إذا حق لها أن تتجرد منه في الحاضر، فهل يجوز لها أن تمسحه من التاريخ. .؟
عباس خضر
الكتب
الفتوة عند العرب
تأليف الأستاذ عمر الدسوقي
للأستاذ إبراهيم الوائلي
الأديب ومضة من ومضات الحياة تلألأ خلال الظلام وتبعث أضوائها في طريق الركب ليسير هدى ووعي. والأديب هو ابن بيئته وأمته ومجتمعه، ورسالته في الحياة رسالة عامة لا تقف عند حدود المسارب الضيقة وليست رسالة الأديب هي التي تنبع من نفسه وتعيش في نفسه فقط، سواء أكان شاعراً أم كاتباً قصاصاً أم مؤلفاً، وسواء أكان يستوحي الماضي البعيد أم الحاضر المشاهد، وإذا كان الإنتاج العسكري هو ما يتصل بالحياة العامة ويواكب المجتمع فإن ماعدا ذلك إنتاج عائم يطفوا كما يطفو الطحلب على سطح الماء؛ حتى إذا مرت به العاصفة ذاب وتلاشى لماذا يجب لأن يكون الأديب والمفكر كذلك؟ لأننا الآن عبيد أرقاء لا نملك من أمرنا شيئاً، ويجب أن نعيش أحراراً نتصرف في حياتنا وشؤوننا كما يتصرف البشر في حياتهم وشؤونهم، وعلى كل أديب عربي ومفكر عربي ومفكر أن يكون في رأس القافلة ليشارك في معالجة أوضاعنا واقعية، وإلا كان أديباً تافها ومؤلفاً سطحياً لا يفكر ولا يحس، أو يفكر ويحس ولكنه ضعيف الاندفاع مشلول الحركة، وكلتا الحالتين لا تؤدي إلى غاية ولا يتصل إلى هدف.
وإذا كان الشأن كذلك فما هي قيمة (الفتوة عند العرب)؟ وفي أي اتجاه يسير؟
قبل أن أتحدث عن الكتاب أحب أن أشير إلى صاحبه. وصاحبنا هو أستاذنا عمر الدسوقي أستاذ الأدب العربي في كلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول. لقد اتصلت بالأستاذ الدسوقي عن كثب، وتحدثت إليه كثيراً وتحدث إلي كثيراً، فلمست فيه ما لم ألمسه إلا في القليل ممن عرفتهم. لمست فيه روح القومية العربية، والاعتزاز بالعرب اعتزاز يكاد بالعرب اعتزازاً يكاد يصل إلى درجة الغلو، وأحسبه على حق فيما، يعتقده فما كان العرب في ماضيهم وتأريخهم العريق أمة تافهة لا شأن لها، إنما كانوا سادة أنفسهم، وأسياد غيرهم، ولكنهم فقدوا أهم ميزاتهم يوم أتيح للعناصر التي اندست في صفوفهم أن تتحكم وتسود، فرقدوا شر
رقدة تحت مطارق العبيد والمماليك والأفاقين. حتى إذا أريد لهم التخلص من هؤلاء كانت يد أخرى تستقبل الكرة لتلقفها فإذا بالعرب يخضعون خضوع العبيد لمستعمر آخر وسادة جدد وبقايا من أولئك العبيد والمماليك والأفاقين. حتى كاد يكفر المتعلمون من العرب - الآن - بعروبتهم وتاريخهم، وحتى أشاح بعض هؤلاء المتعلمين بوجهه عن تاريخ العرب، وتراثهم، مندفعا وراء الغرب في كل شيء وحتى اصحبنا الآن في بلبلة فكرية وقومية نتيجة للاضطراب السياسي والشعور بالخيبة من يقظتنا الأخيرة، وليس لذلك من سبب إلا لأن الدم العربي قد كدر وتجمد، والنفس العربية الأصيلة قد خثرت وضعفت، فلم يعد ذلك الدم الفوار، ولا تلك النفس الحائرة الجامحة.
يمثل هذا الشعور والإحساس يندفع الأستاذ الدسوقي إلى استياء الماضي البعيد ويضع كتابه (الفتوة عند العرب) فيقص علينا من جديد تاريخ ذلك العنصر العريق من زاوية واحدة لعلها أهم الزوايا لمن يريد أن يتحدث عن العرب، وهي زاوية الفتوة وما يتصل بها من مظاهر متشبعة تلتقي عند نقطة واحدة وان تعددت من الأشكال والألوان.
يقص علينا تأريخ العرب في فروسيتهم وشجاعتهم ونخوتهم وكرمهم، ويعرض علينا ألواناً من الأشخاص الذين كان لهم شأن في الحياة العربية، الجاهلية والإسلامية، وألواناً من الشعر الذي يمثل تلك الحياة في أنبل مظاهرها.
ويتحدث - بعد المقدمة التي تشير إلى الحافز على تأليف الكتاب - عن الفتوة في معناها اللغوي وعن الفتوة في العصر الجاهلي، ومظاهر هذه الفتوة في الشجاعة والكرم: كرم اليد التي لا تعرف البخل وان لم شيئاً، وكرم القلب الذي يتسع للكبير والصغير، وكرم العقل الذي لا يعرف البلادة والتقليد. بل العقل الذي يزن ويحكم ويفكر ويرى العقل الذي عبد الأصنام ثم حطمها حين رأى أنها حجر لا يضر ولا ينفع. وفي حماية الضعيف: الجار والمستغيث والأسير، والمرأة قربت أم بعدت.
وحين ينتهي من العصر الجاهلي يتحدث عن العصر الإسلامي والدعوة الإسلامية، والكفاح في سبيل هذه الدعوة، والرجال الذين ضحوا من أجلها وزعيمهم فيما (سيد الفتيان) محمد (ص). ولا ينسى أن يتحدث عن المرأة العربية في عنايتها بولدها وتنشئته على الفروسية والشجاعة والخلال التي يتصف بها أبوه أو خاله، ويضرب لذلك أمثلة كثيرة وشواهد من
الرجز النسائي في ترقيص الفتيان.
وعندما ينتهي من هذا العرض التاريخي الذي يغلب عليه طابع الحماسة والإعجاب؛ ينتقل بنا إلى فصل آخر يكاد من التاريخ المجرد وإن تخللته أحيانا لمحات من التحليل والموازنة، ينتقل بنا إلى الصوفية، فهو يمجدها حيناً لأنها كانت رد فعل لحياة الترف والمجون التي أنغمس فيها المسلمون أيام الدولة العباسية، ويهاجمها حينا آخر لأنها آثرت الزهد في الحياة على الكفاح والنضال، ثم يستعرض الفتوة عند بعض المتصوفين وشيئاً من تاريخهم، وكنت أود ألا يشير إلى بعض أعمال الصوفية، أو بالأحرى أعمال بعض الصوفية، فإن الكتاب دروس أمليت لتمس حياة العرب في عصرهم الحاضر وتذكرهم بماضيهم العتيد. ولم يكن من الهين علينا أن نعيد ما سجله بعض المؤرخين من فتن ومشاحنات أستغلها وأثارها رجال السياسة الذين يريدون أن يحكموا بأية وسيلة من وسائل التفريق، معتمدين على فتاوى المعممين وأصحاب الربط والتكايا من الدراويش المتنطعين.
ولنتجاوز هذا الفصل إلى فصل آخر وهو (المترفين) وتتجلى هذه الفتوة في الصيد والرماية، وأصحاب هذه الفتوة من أرباب الثراء والجاه، وأبرز مظاهر هذه الفتوة في عهد زعيمها الناصر لدين الله المتوفى سنة 622 وكان من أن يتسلل الحديث في هذا الفصل إلى الأيوبيين الذين طلب منهم الناصر أن ينتظموا في سلك فتيانه، ثم المماليك الذين جاءوا بعدهم وما كان من شأن هؤلاء في محاربة الصليبين نتيجة لتعلمهم الرماية والصيد، وكأنه أراد بهذا الفصل أن يجعل من فتوة الناصر لدين الله مدرسة تخرج فيها من جاء بعده من هؤلاء، كما كانت مدرسة النبي الكريم إذا كان لابد من التشبيه.
وينتقل بعد هذا إلى الفروسية عند الغربيين، ويوازن بينها وبين فتوة العرب، ويعزوا أكثر مظاهرها الجميلة إلى الاقتباس من العرب أيام الحروب الصليبية، وفي عهد الأندلس، ويدعم رأيه بالأدلة الكثيرة.
ثم يختم الكتاب بطائفة من الصور لفتوةالعرب، وهنا ينتقل بنا من الاستعراض التاريخي إلى الأسلوب القصصي، فيعرض لنا الصور في إطار جذاب وخيال مبدع، ينقلنا إلى آفاق تمتد بامتداد الصحراء العربية وما فيها من خصائص ومميزات طبعت العربي على تلك المزايا التي تحدثت عنها الكتاب في بدايته. ولا يسعني أن أتحدث عن هذه الصور في كلمة
قصيرة مثل هذه، بل أدعها لمن يريد أن يستمتع بها ويتلاها كما أتيح لي ذلك.
هذا هو الكتاب بوصفه الموجز، وهو وصف لا أظنه يستطيع أن يتحدث كما يجب عن (472) صفحة دعمت بالمصادر الكثيرة من عربي وأجنبي وتجلت فيها وفرة الاطلاع فجاءت تشق طريقها من أعماق التاريخ إلى حيث تقف القافلة الآن.
فهل نستطيع بعد هذا أن نقول: أن الكتاب من العرب في أقدم عصورهم وإلى العرب في عصرهم الحاضر؟ وهل نستطيع بعد هذا أن نقول: إن الكتاب درس من دروس القومية العربية لمن يهتمون بالقومية؛ أظن إننا نستطيع أن نقول ذلك عندما نتجاوز تلك الهوة التي فصلت بين قمتين من قمم الكتاب، وهي هوة الصوفية، وقد اندست هذه الهوة تفرض نفسها بين القمتين بإيحاء من المنهج التاريخي حسب، كما اندست في حياة العرب فكانت أكبر مخدر تسمم به ذلك الجسم الفارغ السليم.
إبراهيم الوائلي
ديوان علي بن الجهم
جمع وتحقيق العلامة خليل مردم بك
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
تفضل صاحب المعالي شاعر الشام الأستاذ الجليل خليل مردم بك سكرتير المجمع اللغوي بدمشق فأهدى إليَّ نسخة من ديوان علي بن الجهم الذي بذل جهدا مشكوراً في جمعه وشرحه وتحقيقه، ونسخة أخرى من ديوان الشاعر السوري الرقيق الملقب (بالوأواء الدمشقي) الذي قام بتحقيقه والتعليق عليه الدكتور الفاضل سامي الدهان وكلا الديوانين كان آية في أناقة الطبع ودقة الشرح. . وقد صرفت - رغم مشاكلي - وقتاً غير قصير حتى قتلتهما دراسة وتمحيصاً، ويسرني أن أقدم هذه الكلمة المتواضعة رأي في الديوان الأول لقراء الرسالة الغراء هنا وهناك، على أن أعود إلى الديوان الآخر في فرصة أخرى.
يقع ديوان على بن جهم في 223 صفحة من القطع الكبير وتقع الدراسة التي كتبها الأستاذ مردم بك عن الشاعر في 47 صفحة. وهي دراسة شاملة جامعة، تطرق فيها الشارح إلى عصر الشاعر ونشأته وشعره، ودراسته والظروف التي أحاطت به حتى مقتله ووفاته.
وليس لي اعتراض على كل ما قاله الأستاذ مردم بك، إلا إن الذي لفت نظري في هذه الدراسة الرواية التالية. .
قال الشارح في الصفحة (5) من المقدمة (ولما بلغ السن التي يذهب بها الصغار إلى الكتاب، بدأ يذهب كل يوم من داره في شارع (دجيل) ببغداد إلى كتاب في الحي يجمع بين صغار الصبيان والبنات. وكان علي حسن الوجه ذكي الفؤاد كثير النشاط. ظهرت عليه مخايل النجاية منذ طفولته، فكان يسعر البيت وثباً وقفزاً ولعباً وضجيجاً، حتى أقلق والده بضوضائه وجلبته، فسأل أبوه معلم الكتاب يوماً أن يحبسه في الكتاب، فلما رأى رفاقه ينصرفون إلى دورهم وهو محبوس ضاق صدره فأخذ لوحته وكتب فيها إلى أمه
يا أمتا أفديك من أم
…
أشكو إليك فظاظة (الجهم)
قد سرح الصبيان كلهمو
…
وبقيت محصوراً بلا جرم
وبعث باللوح إليها مع رفيق له من الصبيان، قال على (وهو أول شعر قلته وبعثت به إلى أمي، فأرسلت إلي أبي: والله لئن لم تطلقه لأخرجن حاسرة حتى أطلقه).
ومن حوادثه في الكتاب أن أخذ لوحته يوماً وكتب فيه إلى بنت صغيرة كانت معه
ماذا تقولين فيمن شفه سهر
…
من جهد حبك حتى صار حيرانا
وأن البنت الصغيرة أخذت وكتبت تجيبه.
إذا رأينا محباً قد أضر به
…
جهد الصبابة أوليناه إحسانا
وهكذا بدأ يقول الشعر وهو صغير جداً ولعله كان دون عشر سنوات من عمره.
فهذه الرواية التي يوردها الأستاذ مردم بك نقلاً عن طبقات الشعراء لابن المعتز والأغاني ومختصر طبقات الحنابلة أشك في صحتها بالرغم من المصادر التاريخية التي أعتمد عليها الشارح، وشكي يقع على سن الشاعر حين نظمه الأبيات المتقدمة، وهي العشر سنوات إذ أن من المحال أن يستطيع طفل دون البلوغ أن يقول شعراً ومنظوماً موزوناً فيه معنى بصياغة عالية. . ومهما يكن ذلك الطفل ذكياً فلا يتسنى له الإجادة في تلك السن المبكرة، لأن الشعر موهبة وصنعة تحتاج إلى حذق ومران. ولدي شواهد كثيرة من أن فحول الشعراء ما نظموا الشعر الجيد قبل العشرين أبداً. . وقبل الاطلاع على نفائس الشعر القديم وحفظه، لأن حفظ الشعر الجيد يربي الملكة ويقوي القابلية ويعصم الناظم من الاختلاف في
وزن الشعر، وقد كنت أود أن معالي الأستاذ حين إيراده هذه الرواية أن يعلق عليها بالشك ورغم ورودها في المصادر الآنفة الذكر.
ولا أظن أن هذا الاعتراض البسيط يحط من قيمة الديوان أو من الجهد الجبار الذي بذله الشارح حين مراجعته لعشرات الكتب لتحقيق بيت أو كلمة، فهو جهد يستحق عليه كل تقدير وإجلال. كما أنني معه عند شكه في نسبة القصيدة المنشورة في صفحة 48 من الديوان والتي مطلعها.
سل الدمع عن عيني جسدي المضني
…
وهل لقيت عيناي بعدكمو غمضا
إلى علي بن الجهم عن أسلوبه ونفسه وخصوصاً لما فيها من ذكر القيروان كما جاء:
وإني أرى بالقيروان أحبتي
…
وأعتاض من ضنك منيت به خفضا
ومدحه لأبي مروان
بجبل أبي مروان أعلقت عروتي
…
وحسبي إعلاق صريح العلا محضا
ولاشك مثله أنها موضوعة عن لسانه لأن القارئ لا يشعر فيها بالعاطفية الجياشة التي يشعر بها عادة عند قراءته شعر بن الجهم وخصوصا قوله فيها
أقول وقد عيل اصطباري من النوى
…
وأصبح دمع العين للشوق مرفضا
كما قال قيس حين ضاق من الهوى
…
فلم يستطيع في الحب بسطا ولا قبضا
(كأن بلاد الله حلقة خاتم
…
على فما تزداد طولاً ولا عرضا)
فهذا شعر صناعة، وهو أشبه ما يكون بشعر شعراء الفترة المظلمة كما أنني مثله في أن القطعة الأخيرة المنشورة في صفحة (196) للجاحظ لا لعلي بن جهم وها هي
يا نورة الهجر جلوت الصفا
…
لما بدت لي ليفة الصد
يا مئزر الأسقام حتى متى
…
تنقع في حوض من الجهد
أوقد أتون الوصل لي مرة
…
منك بز نبيل من الود
غالبين قد أوقد حمامه
…
قد هاج قلبي مسلخ الوجد
أفسد خطمي الصفا والهوى
…
نخالة الناقض للعهد
وهو أشبه ما يكون بشعر أصحاب الحمامات منه بشعر شاعر له منزلة عالية لدى الملوك كعلي بن جهم.
هذه كلمة بسيطة أكتبها عن هذا الديوان الذي لولا جهود مردم بك يحظ قراء العربية به. إذ أن شعر أبن الجهم لم يجمع قبل الآن؛ ولولا الأستاذ خليل ما أتيح له أن يكون بين أيدينا، وخصوصاً وأن أكثر قراء العربية لم يقرأوا من شعره إلا بعض الأبيات منشورة في بطون الكتب، ومنها القصيدة المشهورة الملحقة بآخر الديوان والتي مطلعها:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن
…
الهوى من حيث أدري وأدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
…
سلوت ولكن زدن جمراً على جمر
وهي قصيدة عابرة يذكرني أسلوبها القصصي الممتع بأسلوب عمر بن أبي ربيعة في أقاصيصه الشعرية، ولعله نظمها تأثراً به حيث يقول:
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها
…
لجارتها: ما أولع الحب بالحر
فقالت لها الأخرى فما لصديقنا
…
معنى وهل في قتله لك من عذر
الخ الحديث بينه وبين صاحبته وجارتها حتى يتخلص منها إلى مدح المتوكل
ولكن إحسان الخليفة جعفر
…
دعاني إلي ما قلت فيه من الشعر
هذا ما عناني كتابته عن هذا الديوان شاكر للعلامة مردم بك هديته الغالية، ومقدراً الجهود التي يبذلها أعضاء المجمع العلمي العربي في سبيل إحياء التراث العربي، وعاتباً أشد العتب على الصديق الأستاذ الكبير محمد بهجت الأثري سكرتير المجمع العلمي العراقي على الكسل الذي لازمه ولازم أعضاءه، فالمجمع وقد مرت على تأسيسه لم يحقق ولم يطبع كتاباً يستحق الذكر، مع أن ميزانيته لا تقل عن أي مجمع عربي آخر، والذنب في كل ذلك يعود إلى الانتخاب الخاطئ الذي جرى بين أعضائه.
عبد القادر رشيد الناصري
البَرِيدُ الأَدَبِيَ
حول تحقيق مسألة
تفضل أستاذنا الكبير الزيات فنوه - مشكوراً - بكتابنا (الأدب بين الجاهلية والإسلام) في عدد سابق من الرسالة الغراء، ولكنه لاحظ بعض الملاحظات فيما رجعنا إليه من كتابه (في أصول الأدب). والحق أننا لا نجحد فضله في هذا الكتاب وفي كتابه الآخر (تاريخ الأدب العربي)، وليس أدل على هذا من أننا أشرنا إليهما في كل مناسبة من كتابنا، كما لا ننكره أثره في الأدب العربي بوجه عام. وإنما كان المنهج الدراسي الذي لاحظناه في تأليفنا يقتضينا الاقتصار في بعض الموضوعات على التخليص أو الإشارة، دون تغلغل في التفصيل أو تعمق في التحليل، وخاصة بعض الآراء الفرضية كعلاقة بين أدب وآدم. أما موضوع (العوامل المؤثرة في الأدب) فقد كان هدفنا أن نرشد الطلاب الناشئين إلى كل مصدر، وندلهم على كل مرجع متقدم أو متأخر. وقد كتب في هذا الموضوع الأستاذ أحمد الشايب، وإن كنا نعلم أنه رجع في هذا الموضوع - كما رجع في غيره - إلى كاتبه الأول (الزيات)، كما كتب فيه الدكتور أحمد ضيف في مجلة دار العلوم أبريل سنة 1937؛ أما كتاب (التوجيه الأدبي) فعذرنا في الإشارة إليه كمصدر آخر، هو أننا لم نكن نعلم ما ذكره أستاذنا الكبير الزيات بك من اعتماد الدكتور عبد الوهاب عزام على محاضراته فيه.
فالمسألة إذن مسألة عرض مصادر، وعى الباحث المستقصي أن يعرف الفضل لصاحبه فليس في ذكر هذه المصادر بجانب كتاب الأستاذ (الزيات) بك مجافاة لإنصافه، أو إنكار لسبقه، أو جحود لفضله. فحسبنا دليلاً على حسن النية أننا لم نغفل التنويه بصاحب رأي، ولم نهمل الإشارة إلى مرجع، ولم نجحد مصدراً رجعنا إليه.
أما أستاذنا وأستاذ الأدباء (الزيات)، فإنا نكن له من الإجلال، ونعرف له من الفضل على الأدب، ما يسموا على كل شبهة، ويقره كل أديب.
حسن جاد - عبد المنعم خفاجي
عبد الحميد المسلوت
حول النثر والشعر
أود أن أشير إشارة عابرة إلى تعليق الرسالة الزاهرة في تخريج أسبقية النثر على ما رأته الآراء.
فقد قرأت (لابن رشيق) في العمدة كلاما لا يخلو من جمال وتحقيق حول نشأة الشعر من حيث يقول:
(وكان الكلام كله منثوراً؛ فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد؛ لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم؛ فتوهموا أعارض جعلوها موازين الكلام؛ فلما تم لهم وزنه سموه شعراً لأنهم شعروا به أي فطنوا. .)
ووجه الجمال في هذا القول: أنه قال (الكلام) على وجه الإطلاق؛ فلم يصرف القصد إلى (النثر الفني) لأن العرب لم تسكن أمة كتابه، ولغة التخاطب كانت موحدة الأداء مع اختلاف اللهجات، والمنثور المعتمد على التأني والابتداع لا يتم إلا إذا تمت الملكة التعبيرية التي تجمع بين طرفي الإيجاز والإطناب ومراعاة مقتضى الحال، واختيار الألفاظ والبراعة في التصوير والتحليل، فالتعليق الحكيم الموجز من الرسالة إنما هو تنصيص على حقيقة (الأسلوب الفني) الذي يطلق عليه (النثر) القسيم للشعر.
أما أسبقية النثر اعتبار إرساله من دون الاعتبارات الفنية فأمر مفرغ من اعتباره، لأن النثر مطلق، والشعر مقيد والمطلق في كل شيء مقدم على المقيد. على أن (ابن رشيق) يقول (ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشر). . والتعبير بقوله (تكلمت) يؤيد ما ذهبت إليه الرسالة من أن القصد لغة التخاطب باللسان، لا لغة الإبداع بالقلم، أما اعتبار الحفظ فإن موسيقى الشعر تنغم الإحساس فتستقر الألفاظ في واعية الشعور ولا ينالها النسيان كالنثر!
احمد عبد اللطيف بدر
المدرس بالمدرسة الثانوية
حول طبقات الحنابلة والمستشرق لاووست
تفضلت الرسالة فنشرت لي كلمة حول هذا الكتاب سقط منها العنوان أسم المستشرق لاووست، زميل الدكتور الدهان في تحقيق هذا الكتاب.
وإني إذ أسعى لاستدراك هذا في هذه الموجزة انتهزها فرصة سانحة لأكرر الشكر للمستشرق لاووست مثنياً، والثناء كله على هذا الجهد الخالد العظيم.
إبراهيم الابياري
القَصَصُ
2 -
قانصوه الغوري
سلطان مصر الشهيد
للأستاذ محمود رزق سليم
مهداة إلى حضرة صاحب العزة الدكتور عبد الوهاب بك عزام
الفصل الثاني
خاتمة سلطان
لله ما أروع الدهر، وما أكثر عجائبه، وما أقسى ما تقدم الأيام من عظات وعبر، وما تحتوي عليه من صروف وغير
والدهر آونة يصفو لصاحبه
…
حتى يعود فيسو ماءه كدرا
يعطي ويمنح ما شاءت عوارفه
…
ويسلب المرء كرها كل ما دخرا
العادل الملك المزهي بداوته
…
كبابه الملك حتى عاد فانحدروا
سعى إليه ولكن سعى مؤتمن
…
ولم يقدر لمقهى دهره الحذرا
أيها الملك العادل طومان باى! هاهي ذي دولتك تولي، وها هي ذي دولة أخرى تقبل، وها هو ذا سلطان جديد يحتل عرشك، ويجلس فوق كرسيك، فيبذل ويهب، ويرقي ويؤمر، وينهي ويأمر، وينفي ويعفو، ويوطد دعائم سلطنته بالحزم والعزم وبالبر والوعد الحسن، يعاونه في ذلك كثير من الناقمين منك الحاسدين لك، الحاقدين عليك، الذين ناصبتهم وقت زهوك، عداء استحكمت حلقاته، وجفاء زاد أمره واستشرى خطره.
ولقد أملى لك جهلك، وضعف بصرك بالأمور، أن تبطش بهم رجلاً في أثر رجل، وتقتلهم أميراً بعد أمير، وتفتك بهم صديقاً في أعقاب صديق، مع أنهم جنود عرشك، وحاملو كرسيك، ومؤسسو سلطانك، ومدعمو دولتك، ولكنك جعلت مسرح سلطنتك مذبحاً تنحر فيه فحول رجالك، بدل أن تلتمس منهم العون، وتسترق قلوبهم بالود.
هان لهم الأمر، ورأوا بأعينهم قرب مصارعهم وأنهم على وشك أن يلقوا منيتهم بين يديك، فجميعهم الخطر المشترك؛ وآثروا اطراح أطماعهم ودخلهم والضغائن الفاشية بينهم، لكي
يقفوا أمامك صفاً واحداً شديد المرة، حصين الثغرة وقاوموك فهزموك وأسلمت نفسك للفرار. . .
فماذا أفادك بطشك وصلفك وأجداك جورك وعسفك، لكن تمكن منك الداء حتى نكلت بالأصفياء
وظنت دهرك لا يجيئك غدره
…
والصفو من كلتا يديه متاح
فمضى وخلفك المعذب قلبه
…
ولك ليل بكرة وصباح
نصرك الأنا بكى (قصروه)، وأصفى لك وده، ووهب لك مكنون حبه، ونخل لك مخزون رأيه، وتقدم أمام جنودك إلى باب السلسة وسلم المدرج بالقلعة، إبان نزاعك مع سلطانك وسلطان البلاد من قبلك الأشرف جانبلاط، وقتما نقضت عهده وشققت عصا طاعته وطعمت في الملك دونه، فتقدم صديقك قصروه يعاونك وأنت في شدتك، ويؤازرك وأنت في ضيقك، ودلف إلى القلعة وكان بها جانبلاط معتصماً، فحطم بابها وسلمها، وأقتحم رحابها وهيأ لك بذلك أسباب النصر ومهد لك سبيل إلى الملك وكان وقت جهادك إلى جانبك شديد التواضع جم المروءة نزل به حب الجميل وإسداء المعروف، إلى ما لم ينزل إليه أمير. فكان ينفق على حفر الخنادق من ماله، ويعاون على إنجاز حفرها بيده وحمل الأتربة على كتفه ورأسه، حفزا لهمم العمال وحثا لحماسة الجنود وضربا للأمثال. . .
فماذا كان نصيبه منك؟ حقا لقد خلعت عليه الأتابكية - قيادة الجند - أرفع مناصب الدولة بعد السلطنة، وعظمته ولكن تعظيم الخادع الماكر. حتى إذا اطمأنت إلى نفسك ووثقت بحولك وطولك بطشت به بطشة الجبار الفاجر. وهو أكثر ما يكون ثقة بك واطمئنان إليك، واعتماد عليك وبعدا عن التفكير في خيانتك فوكلت به من قتله.
وكذلك فعلت بالسلطان جانبلاط بعد ما أمنته وأستسلم إليك ووعدته بأن تضفي عليه أسباب الأمن والحرية، فماذا كانت عاقبته وعاقبة وثوقه بك؟ نفيته إلى الإسكندرية، ووصيت به من خنقه في سجونها، دون جريرة إلا ضعفه عن مناوأتك وانفضاض الطامعين من حوله إليك.
ومن قبل هذا بطشت بالظاهر قونصوه، وغدرت بالناصر محمد بن عثمان ونكات بأرملة السلطان المستسلم جانبلاط، ولم ترع لأنوثتها حرمة، ولا لكبر منها مكانة. مع أنها سرية
ملك وزوجته ملك، وأم ملك، وأخت ملك، فأرهقتها بما طلبت منها وأنقذت نفسها من كيدك بآلاف من الدنانير قدمتها إليك. . .
ألا فارقب الدهر وهو يدير للقصاص وستلقى جزاءك مناص. . .
قبل عيد الفطر عام 906 هجرية، وفي إحدى الدور النائية في أطراف القاهرة أجتمع عدد من أمراء السلطنة يتزعمهم الأميران: قيت الرجي، ومصر باي. وكان من بينهم طقطباى، وتمر باى، وكرتباى، وخشكادى البسقي، وغيرهم وغيرهم، ممن ينقمون على الملك العادل، وممن هددهم بالقبض عليهم ونفيهم. . .
ويقبلون وجوه الرأي في تصرفاتهم ومواقفه إزاءهم، واشتطاته في معاملتهم واجترائه في العدوان عليهم. . .
قال أحدهم: لقد تفاقم شر هذا الطاغية، وأغرم بسفك الدماء وإهدار الأبرياء حرصاً على دولته وزعماً منه أننا خطر عليها وقد أصبح بطشه قريباً منا. . . نحن الأحياء. . .
قال آخر: وإن لنا فيما أجرمه في جانب الأنابكي قصروه صديقه لعبرة. . . والعاقل من اعتبر بغيره، وأننا إذا أرخينا له في الزمام ولم تهنه من غربه، ونحد من غضبه، تطاير شرره حتى نحترق به. . .
قال آخر: ألا تقدمون له نصيحة خالصة وتطلبون إليه في صراحة وحزم أن يكف عن سيئاته، ويقلع عن خطيئاته. . . أو لكم مقترح أخر؟
قال أخر: إن مثله لا ينقاد للنصيحة، ولا يأمن ناصحه من مد مغبة غدره، فقد التاثت نفسه، واختلط حب الفتك بدمه ولحمه، وبلغ به سوء الظن مبلغاً وخيماً. . . ومثله مثل الظامئ الصادي، إذا شرب من ماء البحر، فلا نقع غلة، ولا روى ظمأ، بل أزداد أوامه، واشتد هيامه. . .
قال آخر: إذا لابد من تدمير أمر حربه. . ولابد من إزالته من الطريق! فهل لدينا من القوة ما يكفي لنجاح هذه التجربة. . .؟ وأنتم تعلمون أنه نفى جماعة إلى قوص، منهم جان بردى الغزإلى، وقرقماس قرا، وقايتباى. وهم من القوة والشجاعة والدربة، والرأي، بالمكان الذي تعلمون. . . لقد قيل أن بعضهم فقد في الطريق إلى منفاه. . . ولم نظفر بعد بخبر عنهم، لذلك ترون أننا في حاجة قصوى إلى إعداد العدة ولم الشمل وجمع العدد الكبير
المستطاع إلى جانبنا. . . ثم. . . ثم علينا أن نغرى المترددين والوجلين حتى ينحازوا إلى صفوفنا. . .
إن العادل لا يزال لديه جمع كبير من المماليك السلطانية، ومن المماليك (العادلية) وهم مماليكه الأخصاء، وحوله عدد آخر من الأمراء، الذين اصطنعهم بالمنصب والمال والهدية، ومنهم الأمير طراباى رأس النوبة. إني اعتقد أن طراباي يبصبص بذنبه لمنصب الأتابيكية.، وقد وكل السلطان إليه أن يقوم بمهامها ريثما يعين لها الأمير ولعله يكون طراباي نفسه. . .
قال آخر: لقد بلغني أن الأنابكية ستكون من نصيب الأمير قابي بردى الدوادار الثاني. . . فهو المنافس الوحيد الخطر لطراباى فهو من عصبة العادل وخواصه، وأشعر أن طراباى بدأ يتململ من العادل بسبب إيثاره لقاني بردى عليه، ومن هنا يمكن اصطناعه وتستطاع استمالته إلى صفوفنا.
قال آخر: لو كان أمر طراباى كما نقول، لما جمع جنده وأعوانه أمس، واصطحب عدداً من الأمراء الطامعين أمثال: أنس باى وبيرس البهلوان، ومعهم الوالي والشرطة. لقد طاف هؤلاء جميعاً بعد العشاء أمس يفتشون المنازل ويفجعون سكانها، ويغلظون القول للناس، وبحثاً عنا وطمعاً في كشفنا والقبض علينا وتسليمنا لهذا السفاح. . ولو تم الأمر على ما يهوى طراباى لتم هلاكنا.
قال آخر: إن طراباى في موقفه هذا، يمسك العصا من وسطها، فهو يقوم بمهام منصبه في ظاهر الأمر، حتى لا يسرع إليه العادل فيتهمه ويقضي عليه، والعادل يأخذ بالظنة ويستمع للغربة. . . وبذلك ينجو طراباى من كيده وغدره في حين أنه حانق عليه لآنا على وشك أن يختص الأمير قاني بردى بمنصب الأنابكية دونه. ومن هنا نستطيع أن ندخل إليه من هذه الثغرة فنوسع فيها حتى نحمله إلى الانضمام لجماعتنا. وليس ببعيد أن تثور ظنون العادل ضده بعد فرار الأنابكية من يديه فيتهمه ويبطش به. فإذا لم يسرع طراباى منذ الآن باختيارها والانحياز إلينا، فقد تضيع الفرصة منه لدى الطرفين، ثم لا يجد من ينهض لمعونته حينما يقف وحده في الميدان. أما فالفرصة مواتية له. . اتركوني أتصل به وأدبر لكم أمره.
قال آخر: لا تنسوا أيها الرفاق أن تضعوا في حسابكم مماليك جانبلاط، ومماليك قصوره. فان سخطهم الشديد على العادل يسبب فتكه بسيدهم، نستطيع استغلاله لقضيتنا. فاعملوا على ضم صفوفهم إلى صفوفنا. وادعوا إلينا كل نافر من ظلم العادل وجوره. . .
قال آخر: إذا انصرفتم أيها الرفاق، فليكن كل منكم على حذر، وليكتم الآمر جهده، حتى يتم تدبير جميع أطرافه. وقد يبعث العادل في طلب أحد منا - ومناسبات الاستدعاء كثيرة في هذه الأيام - ثم يقبض عليه ويبطش به. فلنكن إذاً على حذر. . .
أنقض هذا المؤتمر وأنصرف أعضاؤه إلى تدبير الأمر حسبما اتفقوا. بينما كان السلطان العادل قد أهمه أمر المختفين من الأمراء، وأثقل على الناس بالبحث عنهم. وساءت ظنونه في عدد آخر من الأمراء والمماليك. فقعد يدبر وسيلة للبطش بهم والقضاء عليهم.
وفي أحد الأيام كان القراء يختمون البخاري في القلعة، وبهذه المناسبة أقيم حفل أزدان بمن فيه من العلية والرؤساء، ومنهم قضاة الشرع وعدد من الأمراء.
حينذاك أرسل الملك العادل في طلب الأمير قانصوه الغورى والأمير قيت الرجى، ليتم بهما عقد الحفل ونظامه. فلم يلبيا الدعوة، وأحسا بما يكمن فيها من الغدر، وشعرا أن الفرصة حانت للصراع.
أسرع الغورى وقيت إلى الاجتماع بأعوانهما من أمراء وجنود، وأذيع بينهم جميعاً أن السلطان العادل قد اختار فرصة العيد للتنكيل بهم جميعاً. فليدافع كل فرد منهم عن حياته ضد المعتدي الأثيم.
ثارت ثائرتهم وتجمعت أحشادهم، ووفد كل أمير بخاصته من جنده.
وفي يوم الأحد آخر رمضان؛ شهروا سيوفهم؛ وشرعوا رماحهم؛ ولبسوا دروعهم؛ وركبوا جيادهم؛ واستعدوا للنزال.
وقد انحاز إلى جانبهم جملة من الناقمين وعدد غير قليل من الأمراء الهاربين والمختفين، وزحفوا إلى القلعة وفيها العادل. .
وأهاب العادل بأمرائه وجنوده أن يجتمعوا بباب السلسلة، فأجتمع عدد قليل منهم طراباي الشريفي، وأنس باى، وقرقماس، ومعهم جملة من المماليك السلطانية. فوقع بين الفريقين صدام يسير ثم انحاز كل عن غريمه. . .
في ذلك الحين كان الأمير طراباي قد استجمع فؤاده، وعملت الدسيسة في نفسه عملها. . ففر من لدن العادل ومعه جمع من الأمراء، فتبعهم عدد من الجنود فارين إليهم، وذلك عند الغروب.
أسقط في يدي العادل وأيقن أنه مغلوب لا محالة، وأن مصيره دنا، فرأى أن يودع عرشاً لم يجلس عليه إلا قرابة ثلاثة أشهر وعشرة أيام، وعينه باكية ونفسه والهة. ورأى أن ينجوا بجلده في طي الليل، وأن يختفي عند بعض خاصته وخلصانه، حتى لا يمرقه أعداؤه إرباً إرباً. . فنزل من القلعة والظلام يستره، يتحسس طريقه متنكرا كأوضع نكرة في رعيته، وأصبح حسبه من الملك أن يملك إهابه.
أما قيت الرحبي ومن معه فقد دهموا القلعة بعد قليل، وملكوا زمام الأمر فيها، ولما علم الجند فرار العادل استباحوا لأنفسهم الهجوم على مخازن الميرة والسلاح والإسطبلات السلطانية، فنهبوا منها الشيء الكثير.
أخذوا الأمراء يتشاورون توا في تعيين سلطان جديد. وبعد لأي تم اختيار الأمير قانصوه الغورى - على نحو ما وصفنا - وتمت بيعته في صبيحة عيد الفطر، ومن ثم سار موكبه، ونعم القاهريون بمرآه. .
استوى الغورى على عرش البلاد، وتسلم مقاليد السلطنة، وشغل زمناً بمواكبه، وبالخلع والمناصب التي أخذ يوزعها على أنصاره، تهدئة للخواطر وتسكينا للفتن. .
غير أنه وأعوانه من الأمراء ينامون على جمر الغض، ويتقلبون على فراش القلق والحيرة والحذر. ويعتقدون أن العادل مادام على قيد الحياة، فهو خطر دائم جاثم يهدد سلطتهم وحياتهم.
وفي يوم التأم شمل الأمراء عند سلطانهم الغورى وفيهم قتيت الرحب، وقد صار أنابيكياً، ومصر باى الدوادار، وطراباى رأس التوبة، وجان برى الغزالي المحتسب، ومهم وإلى القاهرة وآخرون.
فوجه السلطان الغورى حديثه إلى أتابكية قيت وقال
- السلطان: أيها الأمير الكبير! ألم يأن بعد الجند الثائرين أن يثوبوا إلى رشدهم، ويكفوا عن غلوائهم، ويرمجوا جانب العقل والحزم على الطمع والفتنة؟ إن الخزانة والحواصل
السلطانية لا تستطيع الآن أن تفي بجميع ما يطلبون. ألا ينتظرون حتى تستقر الأمور وتهدأ الأحوال. . . وحتى تشحذ الهمة ونعيد النظر في وسائل تدبير المال؟ ثم نجيبهم إلى ما يطلبون.
وأنني في الوقت الذي يجتمع فيه المال والطعام والكسي لدى لن أدخر وسعاً في الإغداق والبر، ولن أقصر في الوفاء بالرواتب، ولن أتقاعد عن التعويض عما فات.
- الأنابكى قيت: إذا بذل لهم مولانا السلطان وعده الكريم وضغطنا نحن الأمراء باللين والقول الحسن فسيكون حتماً عن ثورتهم وأعتقد أنهم يدينون المقام الشريف بالطاعة والولاء، أما نحن فسنبذل قصارى جهدنا في سبيل تهدئة الفتنة محافظة على الخواطر السلطانية الشريفة.
السلطان: أنت تعلم أيها الأمير - أن أمامنا مشكلة كبرى لم تحمل إلى اليوم. وقد أنصرم شهر شوال ولم نضع لها حلاً. تلك هي مشكلة اختفاء العادل. . . ينبغي أن يؤتي به إلى هنا حياً كان أو ميتاً. ولعل الماكر الخبيث له في ثورة الجنود فتنهم وتحريضهم على طلب المتأخر من عطيتهم ورواتبهم.
- الأمير مصر باى: أجل يا مولانا إن العادل أعواناً وأنصاراً يعمل معهم في الخفاء، ويدبر الأمر للعودة إلى السلطنة بعد أن انتزعت منه انتزاعاً ولكن هيهات. . .
إنه يجتمع بهؤلاء الأعوان والأنصار في ظلام الليل الدامس ويسردون سطورا حاضة على الثورة، ويبذلون فيها الوعود السخية للجند، وينثر عليهم دراهمه ودنانيره شفاهاً، ريثما يعود. . . ويهب لكل واحد منهم مائتي دينار وفرساً مطهمة. ويتوب إليهم مما جنته يداه. ويمينهم بأنه لن يعود فيهم إلى سيرته الأولى، وسيرعى العدالة حق الرعاية، ويدفع الرواتب، ويجزل العطاء، ويفصل في الأمور برأيهم. . .
- السلطان: أمر مدهش، وأخبار عجيبة. . . من أتى لك هذه المعلومات أيها الأمير مصر باى؟ وكيف يصمت والي القاهرة على هذه الفتن، ولا يبحث عن مصدرها ويبطش به بطشة نكراء. .؟
الوالي إن ما يقوله الأمير مصر باى صحيح يا مولانا - فقد عثرنا بالقبو عند سوق السلاح على أوراق مكتوبة بهذا المعنى، معلقة على الجدران رجاء أن يقرأها المارة من الجند،
فيكون لها أثرها في نفوسهم. . . ولنا نزعناها سراعاً، وأخذنا طريقنا إلى البحث عن مصدرها.
السلطان: مصدرها؟ عجباً! ان مصدرها معروف لا حاجة إلى تبيينه. . . إنه العادل المخلوع بلا شك. فلماذا نقصر في البحث عنه إلى اليوم؟ ومن العار أيها الوالي أن تتهاون في القبض عليه إلى الآن. فلا بد من الوصول إليه بأى ثمن.
طراباى: الواقع يا مولانا أننا لم نقصر في البحث عن العادل، طفت القاهرة مع الوالي وشرطته، ودهمنا منازل كثيرين من أصدقائه، وهجم الوالي على بيت القاضي الحنفية برهان الدين الكركي، وهو من خاصة العادل وخلصانه. ثم آل أمره إلى القبض عليه، فحبس في دار الأنابكي قيت، وقد سمعنا أن العادل أودع لدى هذا القاضي مالاً، غير أن مولانا السلطان قد أمر بالإفراج. عنه ثم دهمنا سيدي علي بن السلطان المؤيد أحمد، وقد قيل لنا ان العادل يختبئ عنده، ولكننا لم نعثر له على اثر، وفتشنا جملة من المنازل وعدداً من الزوايا الأماكن ولا نزال نجد في البحث عنه في كل مكان، وسنعثر عليه بعون الله وبفضل رضا مولانا السلطان.
السلطان: بارك الله فيك أيها الأمير طراباى، لا ننسى لك أنك كنت في مقدمة الأسباب التي أدت إلى هزيمة العادل، ولنا الأمل في أن يتم مصرعه على يديك أو يدي الأمير مصر باى.
مصر باى: إذا أذن مولانا السلطان فأطلق لي عنان العمل كما اشتهى، فقد أوفق في العثور على الضالة، وأنهى إلى مقره الشريف خاتمة هذا الطاغية.
السلطان: إنك مطلق الحرية تصرف في أمره، وأفعل ما تشاء.
أنفض الجمع وكان اختفاء العادل حديث أهل القاهرة طول شهر شوال، لم يهدأ لهم فيه لسان ولا سكن خاطر. ومما أثار ثائرة الحديث، ما كان يقوم به الوالي وشرطته وغيره من الأمراء والجند، من دهم البيوت، ومفاجأة أهلها بحثاً عنه، والأمراء فيما بين ذلك لا يأمنون المسير إلا بين رجال من حرسهم يحيطون بهم، ولا يطيب لهم رقاد إلا على ريبة وخوف. وهكذا عاش الجميع عيش قلق وهم، شهراً وبعض شهر.
والأمير مصر باى عيونه وأرصاده يتسقطون أخبار العادل. فترامى إليه أن العادل يجتمع
مع خاصته ليلاً، ويتواري عنهم نهاراً، ولا يعرف مقره أحد من أعوانه. وان ممن يجتمع به جابي بك شاد الشراب خاناه، وجابي بك الشامي.
وكان جابي بك الشامي يسكن مقربة من دار الأمير مصر باى فبعث الأمير إليه وإلى رفيقه، وسألهما عن العادل ومكانه فأنكروا معرفة مكانه، والاتصال به. فشدد الأمير عليهما النكير، وتهددهما بالعذاب الأليم، حتى أيقنا بالهلاك فلما رأى الخوف قد أستقر في نفسيهما، ونطقت بالهلع عيونها لان لهما القول، وبذل لهما الوعد باللقب والمال والجاه. ولمح لهما لأن السلطان سيعرف لهما يد هما فيرقيهما إلى الصف الأول من صفوف أمرائه. وهكذا جعلهما بين خوف لا يستطيعان دفع شره ورجاءهما أحوج إلى غيره وبره.
حينئذ اعترفا لمصر باى بأنهما يجتمعان بالعادل بين الفينة والفينة. فقال لهما مصرباى: إنني أعتبر كما صديقين مخلصين، وعوناَ للسلطان على عدوه. فلنضع معاً خطة حكيمة، ولنحكم الشباك حتى لا يفلت منها الصيد.
فقالا له: اقترح ونحن نطيع وننفذ.
فقال مصر باى: زينا للعادل أنكما وأعوانكما تدبرون له أمر العودة إلى السلطنة، وأن كثيراً من الجند قد أنضم إليكم وأن الفتنة ضد السلطان الغورى قدزاد ضرامها، وأن المنشورات الثورية التي تذيعونها آتت أكلها، وأن الجنود على وشك إعلان السلطان بالعصيان والقتال وهم في حاجة إلى قيادته. . .
ثم ليأت العادل إلى دار جاني بك الشامي عشاء في ليلة نتفق عليها. . . ثم خذوا في الطعام والشراب إلى هدأة من الليل وألقوا في روعه أن ينتقل إلى دار الأتابكي جرباش كرت، المجاورة لدار جاني بك، وبها سرداب سري ينفذ إلى دارى. . . فيزحف مع خاصته من هذا السرداب حتى إلى فيقتتلني. . . ومن ثم يطيب له الزحف بمجموعه المنتظرة على القلعة فيملكها. . . ثم اتركاني أدبر بقية أمره. . .
أنصرف الرجلان وفي عشاء الاثنين 13 من ذي القعدة، وفد العادل على منزل جاني بك الشامي مسرفاً في الأمل، بهجاً يدنو عودته إلى عرشه. فتبسط له صديقاه في الحديث ومدا له الموائد الحافلة، وضربا له نصف الليل موعداً للهجوم على منزل مصر باى، وبينما هم في لهوهم وترقبهم إذ دهم المنزل الأمير مصر باي بجنوده. . . فأحس العادل بالخيانة
وأيقن بالتلف، ولم يجد حوله من يدفع عنه فوقف وحده الميدان يذود عن نفسه. . . ولم يجد بداً من الفرار، فركن إليه جاهداً إلى أعلى حائط في المنزل، وقذف بنفسه إلى خارجه نحو الأرض، فكسر فخذه. وهناك تلقاه أحد مماليك جانبلاط فتهوى على رأسه بسيفه فاجتزه. . . وعدا عليه جملة من المماليك فأثخنوا فيه بسيوفهم انتقاماً منه وشفاء لما في صدورهم. .
ثم حمل رأس العادل إلى الأمير مصرباي فوضعه في طبق من النحاس وسيره إلى الأبواب السلطانية، وحاملو المشاعل من حوله ينادون:
(هذا جزاء من يسفك الدماء ويقتل الأبرياء)
محمود رزق سليم