المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 933 - بتاريخ: 21 - 05 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٣٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 933

- بتاريخ: 21 - 05 - 1951

ص: -1

‌أدبنا في الحديث

من الصفات المميزة للمصريين في المجتمع الحديث، أنهم إذا اجتمعوا قاعدين في قهوة، أو ما شين في شارع، لفتوا إليهم أنظار الناس بما يأتون من حركات، وبما من حركات يحدثون من ضجيج. إذا تحدثوا ضرضأراً في الحديث، وإذا ضحكوا قهقهوا في الضحك، وإذا أشاروا أغلظوا في الإشارة! لا ينتظر السامع المتكلم حتى يفرغ من كلامه، ولا يمهل المعارض المؤيد حتى يفرغ من كلامه، ويهمل المعارض المؤيد حتى يدلي بحجته، إنما هي الحنجرة الصلبة، والنكتة المكشوفة، والسخريةاللاذعة، والمقاطعة المهينة، والأمر كله للصوت الجهير النكير والضحكة المتفجرة المكركرة.

والجهر بالقول أخص خصائص العامية؛ لأن المتحدث لا يرفع صوته فوق الأصوات إلا في ضوضى أو فوضى وضوضي الحياة أو فوضاها لا تكون إلا في المجتمع البدائي أو العامي، حيث تغلط العبارة، وتخشن الإشارة، ويختلط الحديث. والجاحظ يقول في الأعراب (إنما خشنت أصواتهم لمخاطبتهم الإبل) وأنت كذلك حري أن تقول في الرجل الذي يفتح حلقه كله عند الكلام، إنما تعود ذلك لأنه لا يخاطب في أسرته وبيئته إلا الذين يتكلمون ولا يسمعون، أو الذين يسمعون ولا يصفون، أو الذين تبلدت فيهم حاسة السمع، فلا يدركون جمال الصوت الرخيم، ولا يتذوقون لذة الحديث العذب، ولقد كان من تأديب الله للعرب الذين كانوا يندون إلى الرسول فيؤذونه بما جبلوا عليه من رفع الصوت، وجهر القول، إذ قال لهم (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض. . .) ثم قال عز قوله حكاية عن لقمان إذ قال لابنه: (وأغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) وإذا عذرنا من يرفع صوته مضطراً بحكم عمله كالسماسرة الذين يشتغلون في برصة العقود، والصناع الذين يعملون في مطارق النحاس، والتجار الذين يتصافقون في سوق البهائم، فكيف نعذر ذلك المطربش الجسيم الوسيم الرافه الذي تكلمه رأساً إلى رأس، وفماً إلى فم، فيأتي إلا أن يمزق طبلتي أذنيك بصوته المجلجل الراعد!

الحق الذي يؤيده الحس أن الرجل كلما أكتمل عقله وتهذب طبعه، ولطف شعوره، كان أرغب عن الجلبة، وأزهد في العنف. فتراه إذا تكلم كسر من صوته، وإذا ضحك أفتر عن ثغره، وإذا استمع أرهف من سمعه، وإذا قاول ألان من قوله، وإذا مزح عف في مزحة،

ص: 1

وإن اليوم الذي نرى فيه المصري يحضر المجلس ولا يصخب، ويناقل الحديث ويربط، ويسمع الغناء ولا يعربد، ويجتاز الشارع ولا يهرج، لهو اليوم الذي تكتمل فيه إنسانيته الحرة، ويبدأ به تمدنه الصحيح!

احمد حسن الزيات

ص: 2

‌في الحديث المحمدي

للأستاذ محمود أبو رية

نقد الصحابة بعضهم بعضا:

لم يقف الأمر بالصحابة عند تشديدهم في قبول الأخبار - كما بينا ذلك من قبل، ولكن تجاوزه إلى أن ينقد بعضهم بعضاً.

وقد كان عمر وعثمان وعلي وعائشة وأبن عباس وغيرهم من الصحابة يتصحفون على إخوانهم في الصحبة، ويشكون في بعض مايرون عن النبي، ويردونه على أصحابه، وإليك بعض أمثلة من ذلك تجتزئ بها خشية التطويل.

عن محمود بن الربيع - وكان ممن عقل عن رسول الله وهو صغير أنه سمع عتبان بن ما لك الأنصارى، وكان ممن شهد بدراً، أن رسول الله قال: إن الله حرم على النار من قال لا إله الله يبغي بها وجه الله - وكان رسول الله في دار عتبان فحدثها قوما فيهم أبو أيوب صاحب رسول الله في غزوته التي توفي فيها بأرض الروم، فأنكرها على أبو أيوب وقال: والله ماأظن رسول الله قد قال ماقلت!.

وقد استبدلت المر جثة بهذا الحديث ونحوه على مذهبهم وقال الشاطي في الموافقات: إن عائشة ردت حديث (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، وحديث رؤية النبي لربه ليلة الإسراء، وروت هي وابن عباس حديث أبي هريرة، إنما الشؤم في ثلاث).

أما حديث عذاب الميت فقد رواه الشيخان وغيرهما وفيه أنه ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى النبي أنه قال (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) فقالت: وهل إنما قال رسول الله إنه ليعذب بخطئه وذنبه وإن أهله ليبكون عليه، وفي رواية (والله ماحدث رسول الله أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه). وفي رواية إنك لتخبرني عن غير كاذب ولا متهم، ولكن السمع يخطئ وفي القرآن مايكفيكم (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقالت عائشة مثل قوله (أي حديث أبن عمر) أن رسول الله قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم ليسمعون ما أقول! إنما قال) إنهم الآن يعلمون أن ما كنت أقول لهم ثم قرأت (إنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور).

وأما حديث رؤية النبي ربه ليلة الإسراء فقد رواه البخاري ومسلم عن عامر بن مسروق،

ص: 3

قلت لعائشة رضي الله عنها يا أمتاه: هل رأي محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب؛ من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير - وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب؛ ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت (وما تدرى نفس ماذا تكسب غداً) ومن حدثك أنه قد كتم شيئاً فقد كذب، ثم قرأت (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك).

وفي رواية مسلم قال مسروق وكنت متكئاً فجلست فقلت ألم يقل الله، ولقد رآه نزلة أخرى؟ فقالت أنا أول من سأل رسول الله عن هذا، فقلت يا رسول الله: هل رأيت ربك؟ فقال (لا إنما رأيت جبريل منهبطاً) وفي رواية أخرى عن مسلم قال: نور أني أراه! ولأحمد: رأيت نوراً.

وقد رجح القرطبي في المفهم - قول الوقف في هذه المسألة! وعزاء الجماعة من المحققين، وقال أبن حجر في فتح الباري: وليست المسألة من العمليات فيكتفي فيها بالأدلة الظنية، وإنما هي من المعتقدات فلا يكتفي فيها إلا بالدليل القطعي).

ومما روته عائشة خبر أبن عمر وأبي هريرة (إنما الشؤم في ثلاث فقالت: إنما كان يحدث عن أحوال الجاهلية، وذلك لمعارضة هذا للأصل القطعي (إن الأمر كله لله).

ولما سمعت أن ابن عمر قال: اعتمر رسول الله عمرة في رجب قضت عليه بالسهو، وقالت عن أنس بن ما لك وأبي سعيد الخدري (ما علم أنس بن ما لك وأبو سعيد بحديث رسول الله، وإنما كانا غلامين صغيرين.

وقال طاووس: كنت جالساً عند أبن عمر فأتاه رجل فقال إن أبا هريرة يقول: أن الوتر ليس بحتم فخذوا منه ودعوا فقال أبن عمر (كذب أبو هريرة).

وقيل لعروة بن الزبير: إن ابن العباس يقول: إن رسول الله لبث بمكة بعد بعث 13 سنة فقال كذب! إنما أخذه من قول الشاعر:

ثوى في قريش بضع عشر حجة

يذكر لو يلقي صديقاً موانيا

وعن الحسن بن علي أنه سئل عن قول الله (وشاهد ومشهود) فأجاب فيها فقيل له: إن ابن عمر وابن الزبير قالا كذا وكذا خلاف قوله، فقال كذبا وكذب علي بن أبي طالب المغيرة

ص: 4

بن شعبة، وقيل لعائشة إن أبا الدرداء قال:(من أدرك الصبح فلا وتر عليه، قالت لا كذب أبو الدرداء. . كان النبي (ص) يصبح فيوتر.

وذكر لها أن ابن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينفضن رءوسهن فقالت يا عجبا لابن عمر! يأمر النساء إذا اغتسلن ينفضن رءوسهن! أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن! لقد اغتسلت أنا ورسول الله من إناء واحد ماأزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.

وعن عبادة بن الصامت أنه قال: كذب أبو محمد! يعني في وجوب الوتر. وأبو محمد هذا اسمه مسعود بن أو س الأنصاري، بدري. وتكذيب عبادة له من رواية ما لك وغيره في قصة الوتر، واستشهد عبادة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (خمس صلوات كتبهن الله على العباد).

وكانت عائشة وهي كما وصفوها على جانب عظيم من الذكاء والفهم وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم، ترد كل ما روى مخالفاً للقرآن، وتحمل رواية الصادق من الصحابة على خطأ السمع أو سوء الفهم.

ولقد جمع الإمام الزركشي كتاباً برأسه فيما استدركته عائشة على الصحابة سماه (الإجابة لإبراد ما استدركته عائشة على الصحابة) فليرجع إليه من يريد أن يتسع في الاطلاع على هذا النقد.

وقد نقل الدكتور أحمد أمين بك هذه الكلمة في كتابه ضحى الإسلام من رسالة لبعض الزيدية تلاميذ المعتزلة:

(إننا رأينا الصحابة ينقد بعضهم بعضاً، بل ويلعن بعضهم بعضاً، ولو كانت الصحابة عند نفسها بالمنزلة التي لا يصح فيها نقد ولا لعن لعلمت ذلك من حال نفسها، لأنهم أعرف بمحلهم من عوام أهل دهرنا، وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن علي. وهذا معاوية وعمر بن العاص لم يقصرا دون ضربه وضرب أصحابه بالسيف، وكالذي روى عن عمر من أنه طعن في رواية أبي هريرة، وشتم خالد بن الوليد وحكم بفسقه، وخون بن العاص ومعاوية ونسبها إلى سرقة مال الفيء واقتطاعه، وقل أن يكون في الصحابة من سلم من لسانه أو يده، إلى كثير من أمثال ذلك مما رواه

ص: 5

التاريخ). قالوا: (وكان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك ويقولون في العصاة منهم هذا القول، وإنما اتخذتم أرباباً نعد ذلك. والصحابة قوم من الناس، لهم ما للناس وعليهم ما عليهم من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه، وليس لهم على غيرهم كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم لأنهم شاهدوا الإعلام والمعجزات، فمعاصينا أخف لأننا أعذر)، وسنكسر فصلاً على عدالة الصحابة إن شاء الله.

محمود أبو رية

ص: 6

‌المعرفة الصوفية

أدلتها ومنهجها وموضوعها وغايتها عند صوفية المسلمين

للأستاذ أبو الوفا الغنيمي التفتازاني

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

للمعرفة الصوفية موضوعها الخاص بها، ولكنه في حقيقة الأمر أشد ما يكون غموضاً، ومن العسير على من لم يسلك طريق الصوفية أن يعرف شيئاً مفصلاً عن الموضوع، فالحقائق التي تتكشف للصوفي في خلواتها ومنازلاته هي حقائق فردية وذاتية لا يمكن أن تتصف بصيغة العمومية، ومن ثم يأتي إنكار الناس لها باعتبارها من قبيل الوجدان الخاص، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الصوفية يعمدون إلى الرمز والإشارة فتغلب على عبارتهم صيغة الإبهام والتعقيد، فيصبح من العسير على الباحث أن يشاركهم - ولو إلى حد ما - ما هم بسبيله من أذواق ومواعيد ومعارف ونستطيع أن نقول إنه لا يمكن أن تستند معارف الصوفية وعلومهم إلى براهين وأدلة نظرية، فهي علوم ذوقية تحمل يقينها في ثناياها، ولا تخرج في إثبات وجودها إلى برهان. وقد أشار ابن عربي إشارة لطيفة إلى هذا المعنى في كتابه التدبيرات الإلهية فقال (فإن يعرض لك الأخ المسترشد من ينفرك عن الطريق فيقول لك طالبهم بالدليل والبرهان يعني أهل هذه الطريقة فيما يتكلمون به من الأسرار الإلهية، فأعرض عنه وقل له مجاوباً؛ ما الدليل على حلاوة العسل؟ فلابد أن يقول لك هذا علم لا يحصل إلا بالذوق فلا يدخل تحت حد ولا يقوم عليه دليل، فقل له هذا مثل ذاك. .)

والواقع أيضاً أن الصوفية يعتبرون علوم الحقيقة وما تتضمنه من الأسرار من الأمور التي لا يصح أن يتحدث عنها الصوفي صراحة، ولا رخصة في إيداعها الكتب، وإنما هم يتكلمون عنها بطريق الرمز والإيماء على سبيل التمثيل والإجمال.

ونستطيع أن نقرر بوجه أن موضوع العلوم اللدنية هو الذات الإلهية وصفائها وأسمائها وأفعالها، وهي أمور لا قبل للعقل بإدراكها يقول الشيخ حسن رضوان في روض القلوب المستطاب

ص: 7

أسماؤه وسائر الصفات

مجهولة لغيره كالذات

وليس للعقول فيها مدرك

بل من وراء العقل كشفاً تدرك

والعارف بحسب ما يرى الشيخ عبد الرزاق القاشاني في اصطلاحاته (هو من أشهد الله ذاته وأسمائه وأفعاله فالمعرفة حال تحدث من شهود) ويقول القاشاني في كتابه كشف الوجوه الغر لمعاني نظم الدر وهو شرح لتائية ابن الفارض الكبرى عن معرفة الله سبحانه وتعالى من حيث أسمائه وصفاته (فمن العارفين من ليس له طريق إلى معرفة الله إلا الاستدلال بفعله على صفته، وبصفته على اسمه وباسمه على ذاته، ومنهم من تحمله العناية الأزلية فيشهد المعروف (أي الله سبحانه وتعالى تعالى جده بعد المشاهدة السابقة في معهد ألست بربكم، ويعرف به أسماءه وصفاته عكس ما يعرف العارف الأول، وبين العارفين فرق؛ إذ أن الأول لقيه معروفه كنائم يرى خيالاً غير مطابق للواقع، والثاني لشهود معروفه كمتيقظ يرى مشهوداً حقيقياً).

ومن هذا نتبين أن نتبين أن معرفة الله على نوعين: النوع الأول يستدل منه العارف على الذات، بظاهر الأفعال والصفات، والنوع الثاني يقبل فيه العارف على ما وراء هذا الظاهر بعد أن تصفو نفسه، فتحمله عناية الله عز وجل من عالم الظاهر إلى عالم الباطن، وهناك يدرك الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وهو بهذا يشاهد الصفات والأسماء عن طريق الذات، ولا يشاهد الذات بطريق الصفات. وفي الحقيقة يعرف العارف الثاني الذات الإلهية معرفة يقينية حقيقية إيجابية، في حين يعرفها العارف الأول معرفة خيالية سلبية لاحظ لها من الحقيقة.

وثمة ملاحظة على جانب كبير من الأهمية من في هذا الصدد، وهي أن موضوع المعرفة الصوفية موجود في النفس بالفطرة، إذ أن النفس تعرف الله سبحانه وتعالى بالفطرة قبل أن تحل بالبدن، وأن اتصالها بالبدن الذي أفسد عليها معرفتها السابقة. ويرى الغزالي في رسالته اللدنية أن المعرفة مركونة في النفوس بالقوة كالبذر في الأرض أو الجوهر في مقر البحر أو قلب المعدن. ويقول القاشاني في مقدمة شرحه لكتاب فصوص الحكم لابن عربي ما نصه (فإن ترقى الإنسان بالعلم والعمل، وسلك حتى انتهى إلى الأفق الأعلى ورجع إلى البرزخ الجامع كما نزل منه، بلغ الحضرة الإلهية، وأنصف بصفات الله بحسب ما قدر له

ص: 8

من الإمكان وسبق العلم به عند تعيين عينه.) ومعنى هذا الكلام أن المعرفة بالله فطرية في النفس قبل التعيين، فإذا خلص المتصوف من عوائق بدنه وسلك طريق المجاهدة والتصوف، وصل إلى الأفق الأعلى وبلغ الحضرة الإلهية التي سبق له العلم بها، فاتصف بصفاتها على قدر طاقته.

ومما سبق نستخلص أن موضوع المعرفة الصوفية يدور حول الذات الإلهية وتعرف أسمائها وصفاتها وأفعالها وهذه المعرفة متوقفة على الذات الإلهية وأرادتها.

ولكن لا يفوتنا أن نشير بهذا الصدد إلى ملاحظة هامة وهي أن المعرفة لمتخل من الآثار الفلسفية، فما لاشك فيه أن الصوفية من أمثال أبن عربي والسهروردي المقتول ومن نحا نحوهم، قد مزجوا المعرفة الصوفية بالأنظار العقلية الخالصة، فالمعرفة عند هؤلاء ليست ذوقاً خالصاً وإنما هي مزيج من الذوق الخالص والنظر الفلسفي.

والآن وقد تحدثنا عن الموضوع المعرفة الصوفية، بقي علينا أن نعين الغايات التي ترمي إليها هذه المعرفة وفيما يلي بيان ذلك:

6 -

أتفق السالكون لطريق التصوف على أن غايتهم القصوى هي المعرفة بالله سبحانه وتعالى، ومتى تحققوا بهذه المعرفة فقد توصلوا إلى السعادة واليقين في حياتهم الدنيا وفي الآخرة.

ولكي يتحقق الصوفي بالمعرفة لابد أن يتصف بصفات نفسية تؤهله لتلقي المعارف اللدنية، ومن ثم يأخذ المريد نفسه بالمجاهدة الأخلاقية، فيتنقى عن الأخلاق المذمومة وتنتفي عنه الصفات القبيحة، وتسكن نفسه وتطمئن وتزول عنها دواعي الشهوات، وتصفو وتشرق فتدرك حقائق الأمور إدراكاً يقينياً.

والمعرفة الصوفية كما رأينا متوقفة على طهارة النفس ونقائها وإشراقها، ونستطيع أن نقول إن المعرفة الصوفية بهذا المعنى ترمي إلى غاية أخلاقية، ولقد عرف القشيري المعرفة في الرسالة بقوله (هي صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته ثم صدق الله تعالى في معاملاته ثم تنتقي عن أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكافه، فحظي من الله تعالى بجميل إقباله وصدق الله تعالى في جميع أحواله، وانقطع عنه هواجس نفسه، ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره فإذا صار من الخلق أجنبياً ومن

ص: 9

آفات نفسه برياً، ومن المساكنات والملاحظات نقياً، ودام في السر مع الله تعالى ومناجاته، وحق في كل لحظة إليه رجوعه وصار محدثاً من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره فيما يجربه من تصاريف أقداره، يسمى عند ذلك عارفاً وتسمى حالته معرفة وفي الجملة فبمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه عز وجل.

من هذا النص يتبين لنا أن المعرفة لا تكون إلا بصدق المعاملة والتنقي من الأخلاق الرديئة والآفات السيئة والاتجاه بالقلب نحو الله، ولا تتم كذلك إلا بانقطاع هواجس النفس وخواطرها، وهي بهذا المعنى ترمي إلى الاتصاف بالكمال الأخلاقي.

ولكن مع إدراكنا لأهمية الغاية الأخلاقية في المعرفة لا نستطيع أن نقرر أن هذه الغاية الأخلاقية هي أسمى غايات المعرفة عند الصوفية، إذ أن هناك غايات أسمى وأرقى، هي الوصول إلى الله وبالتالي إلى السعادة الأبدية الخالدة واليقين الذي لا يأتيه الشك من أي جانب. فالمعرفة الصوفية لها غاية عرفانية إلهامية موصلة إلى السعادة واليقين في الدارين.

يقول أبن عربي في الفتوحات (ثم إذا وصل العبد إلى معرفة الله تعالى فليس وراء الله موسى ولا مرقى، فهناك يطلع كشفاً ويقيناً على حضرات الأسماء الإلهية.)

والحق كل الحق أن غاية الإنسان في حياته هي أن يصل إلى نور اليقين بعد ظلمات الشك، فيتعرف على كنه الوجود الذي يعيش فيه، ويتعرف على ماهيته ومصيره، تعرفاً من شأنه أن يلقي السكينة على قلبه. فهل استطاع العلم في عصرنا هذا أن يفسر لنا ماهية الوجود أو الحياة تفسيراً ترتاح أليه قلوبنا؟ والجواب على ذلك هو أن العلم وما يصطنعه أصحابه من مناهج تجريبية أن يكشف لنا الآن عن حقيقة ما من هذه الحقائق التي لا سبيل إلى كشفها بطريق عقلي أو تجريبي، ولا يزال عالم الروح بالنسبة إلينا مجهولاً. ثم هناك أمر آخر أشد ما يكون غرابة وهو إنكار المنكرين على الصوفية لأذواقهم ومواجيدهم ومكاشفتهم، فهذا الإنكار لا يقاوم على أساس ولا يستند على منطق سليم، فقد رد الصوفية على منكريهم أن سلكوا سبيلنا وانهجوا نهجنا ولكم بعد ذلك أن تحكموا علينا، ولكن الحقيقية أن المنكرين أنكروا عليهم علومهم، وقد غرقوا في بحار المادة وكبلوا بقيوده الحسرة.

وجماع القول فيما سبق هو أن اليقين كل اليقين في الاتصال المباشر بالله عز وجل اتصالاً من شأنه أن يبدد لنا ظلمات الشك بمعرفة كنه الوجود، وما وراء العالم المحسوس من

ص: 10

عوالم أخرى هي من أمر الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يتم إلا إذا خلصت الروح والنفس من شوائب الحس، وأشرقت فارتقت إلى عالم الروح، وهناك تفيض عليها المعارف الإلهية والعلوم اللدنية، فتنعم بحضرة الجمال وتتمتع بلذة الوصل.

أبو الوفا الغنجي التفتازاني

ص: 11

‌ابن زيدون وأسباب سجنه

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

ذكر الأستاذ جمال الدين الرمادي في ثنايا مقاله عن الشاعر الرمادي بمجلة الثقافة العدد 628 أن ابن زيدون أحب ولادة وسجن في سبيلها. والحقيقة غير هذا والتاريخ يخالفه، فلم يسجن ابن زيدون لأنه أحب ولادة وكان هذا السجن في سبيلها، لأن سيرته تبين غير ذلك، لم يكن ابن زيدون واحداً من عامة الناس ولا شاعراً كبقية الشعراء، بل كان فتى قرطبة المدلل وبطلها المرجى وشاعرها الذي لا يجارى، ووزيرها المتصرف. ولم يكن كل فهذا فحسب، فقد كان سياسياً شارك في المسائل العامة، وخاض غمار الثورة التي ذهبت بدولة بني أمية وأتت بغيرهم. وكان من أشياع أبي الحزم أبن جهور بن محمد، فما زال يعمل على تأييد ملكه حتى ثبتت أركانه وارتفع بنيانه، فاصطفاه ابن جمهور لنفسه وأشاد بفضله، وأسند إليه الوزارة جزاء خدمته وأناط به مهام الدولة، وكان لثقته فيه ينفذه إلى ملوك الطوائف سفيراً بينه وبينهم. . وكان أبو الوليد عبقرياً سريع حركة الفكر ذوب اللسان جم الفكاهة، وثاب النفس كثير الفخر بنفسه، يرى أن الأندلس كلها لم تنجب له نداً، فكان يتيه عجباً وخيلاء إذا افتخر بفضله، وربأ بنفسه أن يكون ألعوبة في يدالحوادث، فامعه يقول وهو في سجنه:

لا يهنئ الشامت المرتاح خاطره

أني معنى الأماني ضائع الخطر

هل الرياح ينجم الأرض عاصفة

أم الكسوف لغير الشمس والقمر

إن طال في السجن إيداعي فلا عجب

قد يودع الجفن حد الصارم الذكر

قد كنت أحسبني والنجم في قرن

ففيم أصبحت منحطا إلى القمر

ولقد كانت عبقرية ابن زيدون ومواهبه نقمة عليه، فقد أورثته الغرور بالنفس والاعتداد بها، فكان لا يقدر لرجله قبل الخطر موضعها (يرمي الكلمة لا يبالي أين رماها ويصدع بالرأي في جرأة واغترار) فقد كتب يوماً إلى فتاة كان يحبها قبل ولادة وقبل توليه الوزارة (. . . أما ابن جمهور فزق نفخته الكبرياء، وصورة من نفاق ورياء، يخدع الناس بلحيته الحمراء، ومسبحته السوداء، أنه رجل يثب عند الطمع، ويختفي عند الفزع، لو كان في الجاهلية لكان هبل، أو كان كوكباً لكان زحل. . .)

ص: 12

وقد أو غر تقريب ابن جمهور له، صدور حساده، فتربصوا به الدوائر وكانوا يعملون دائماً على الإيقاع به، ومن أشد أعدائه الوزير ابن عبدوس الذي كان ينافسه في حب ولادة ويخشى مزاحمته في مهام الوزارة، وكان ابن زيدون يعرف هذا ولكن غروره جعله يستهين بعدوه، أخبرته ولادة يوماً بعد أن خطبها، أن ابن عبدوس يطاردها كما يطارد الصائد فريسته، وأنها تريد أن ينقذها من ذلك فأغتاظ ابن زيدون وكتب له:(أما بعد أيها المصاب بعقله، المورط بجهله، البين سقطه، للفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب، على الشراب، فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم، والخيبة منك ظفر، والجنة معك سقر، كيف رأيت لؤمك لكرمي كفاء؟ وضعتك لشرفي وفاء، وأني أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها، والطير إنما تقع على إلفها، وهلا علمت أن الشروق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان) ثم قال:

أثرت هزير الشرى إذ ربض

ونبهته إذ هذا فاغتمض

حذار حذار فإن الكريم

إذا سيم خفا أبي فامتعض

فإن سكوت الشجاع النهو

س ليس بمانعه أن يعض

وأن الكواكب لا تستزل

وأن المقادير لا تعترض

أبا عامر أين ذاك الوفاء

إذا الدهر وسنان والعيش غض؟

أين لي ألم أضطلع ناهضا

بأعباء برك فيمن نهض؟

لعمري لفوقت منهم النضال

وأرسلته لو أصبت الغرض

وغرك من عهد ولادة

سراب تراءى ومض

هي الماء يأبى علي قابض

ويمنع زبدته من مخض

فأثارت هذه الأشياء أبن عبدوس فكان له بالمرصاد، يرقب حركاته ويتبع تنقلاته، ولا يكتفي بنقل ما يقع تحت يده بل يضيف الشيء الكثير من عنده.

حدث نأن أرسلهأأنأن أرسله ابن جمهور إلى المظفر صاحب بطليوس في شأن من شؤون الدولة، فوجدها ابن عبدوس فرصة نادرة فبعث وراءه جاسوساً، يرقب حركاته ويحصي عليه أعماله.

وأكرمه المظفر وأحسن استقباله. ولما رأى ما يتمتع به من ذكاء وفطنة رغب أن يكون

ص: 13

وزيره، فعرض عليه الوزارة وألح عليه في ذلك وأخذ يغريه بالجاه والمال. ولما كان ابن زيدون لا يقدر العواقب، فقد خاض في أشياء تمس ابن جهور، وكثيراً ما كان يسخر منه، ولم يكن يعلم أن هناك من يحصي عليه القول ويرقبه عن كثب. قال مرة يمدح المظفر

عليك إذا سابقته الملوك

حوى الخصل أو ساهمته سهم

فأطولهم بالأيادي يداً

وأثبتهم في المعالي قدم

وأروع لا معتفى رفده

يخيب، ولا جاره يهتضم

ذلول الدماثة صعب الإباء

ثقيف العزيم إذا ماأعتزم

وقال مرة أخرى:

أشف الورى في النهى رتبة

وأشهرهم في المعالي مثل

وأحرى الأنام بأمر ونهى

وأدرى الملوك بقعد وحل

غمام يظل وشمس تنير

وبحر يفيض، وسيف يسل

قسيم المحيا ضحوك السماح

لطيف الحوار أريب الجدل

سواك إذا قلد الأمر جار

وغيرك إن ملك الفيء غل

إلى آخر ما قال في مدح أسبغ فيه على الرجل صفات العظمة، بل وحصرها فيه، ولم يكتف بذلك بل عرض ويغيره من الأمراء الآخرين ومنهم سيد نعمته ابن جهور. وكان جاسوس ابن عبدوس لا يترك شاردة ولا واردة إلا قيدها، فكان يكتب كل مرة ما يفوه به ابن زيدون في مجلس المظفر وكل ما يقوله من الشعر ثم يلونه بما يشاء ويضف إليه ما يعرف أنه يزيد من عظم الأمر الذي جاء من أجله ويجزل له العطاء (أي الجاسوس).

وما أن وصلت هذه الأشياء إلى يد ابن عبدوس حتى تهلل وجهه بشراً، ثم أضاف إليها ما شاء من أشياء يعرف أنها تزيد في أيغار صدر ابن جمهور على وزيره، وقام بتبليغه بما حصل عليه من أخبار على خير وجه، وكان ابن جمهور (رجلاً أذناً، ينصت لكل نمام ويلقي السمع لكل واش) فامتلأ صدره حقداً وغلى مرجل غضبه، وقال ويل له منى! ماذا ترك لي إذا كان المظفر أشف الناس رأياً وأحراهم بالنهي، ومن سواه الذي إذا قلد الأمر جار والذي إذا ملك الفيء غل، إن يقصدني فلأمه الهبل.

فلما عاد ابن زيدون من سفارته لحظ تغييراً كبيراً في معاملة ابن جمهور له وانصرافه

ص: 14

عنه، ورأى أن الابتسام الذي كان يلقاه به تبدل عبوساً، وأن الثقة أصبحت شكاً، وأن الأمر صار على خلاف ما كان، ولم يشك أن الوشاة وعلى رأسهم ابن عبدوس قد نفثوا سمومهم في صدر ابن جمهور وقد فعلت هذه السموم فعلها فكتب إليه قصيدة يستعطفه جلية الأمر، ولكنه لم يستطيع أن يغالب نفسه الكبيرة وغروره القتال فأظهر فيها إباءه وشمسه واستعلاء نفسه. ومنها:

مالي وللدنيا؟ غررت من المنى

فيها ببارقة السراب الخادع

ما إن أرال أروم شهدة عاسل

حميت مجاجتها بإبرة لامع

من مبلغ عني البلاد إذا نبت

أن لست للنفس الألوف بباخع

فليرغم الحظ المولى أنه

ولى فلم أتبعه خطوة تابع

إن الغني لهو القناعة لا الذي

يشتف قطرة ماء وجه القانع

وكان ابن زيدون وثيق الصلة بأبي الوليد بن الحزم ابن الجمهور، وكان هذا يحبه ويصطفيه، ويدافع عنه بما أوتى من جهد وقوة، ولكن تصرفات ابن زيدون، وفلتات لسانه كانت تذهب بكل ما يبذله أبو الوليد وتحطم كل ما يشيده. فبعد عودة ابن زيدون من مهمته استمر ابن عبدوس يرصد حركاته ويحصي أعماله، وكانت عيونه لا تغفل عن ابن زيدون لحظة؛ وكلما وقع شيء في يد ابن عبدوس بعث به إلى ابن جمهور ومن ذلك ما كتب له:

(. . . أما بعد فقد أبلغني الرجل الذي وكلت إليه مرافقة ابن زيدون ومراقبته عن بعد منذ حضر من بطليوس، ينتقل من دار إلى دار والحيرة لا تفارقه، ويزور أناساً لم يكن يزورهم من قبل، وقد تردد في الأسبوع المنصرم على دار راجع الصنهاجي وكان يودعه عند الباب كل مرة، وسمعته في إحدى المرات يقول له (سيكون الأمر هينا والجو ملائماً)، وزاده منذ يومين ثابت الغافق، وخرج من عندهم ومتجهم الوجه يبدو عليه القلق والتفكير وكان بالأمس مع ابن زكوان عند ولادة وخرجا قبيل الفجر، وكانا يتهامسان في الطريق ويبدو عليهما الجد والاهتمام).

وردت هذه الرسالة بينما كان ابن جمهور وابنه أبو الوليد في مجلس لهما فلما قرأها ابن جمهور دفع بها إلى ابنه وقال أسمعني ما فيها. فلما انتهى أبو الوليد من قراءتها سكت ولم يتكلم فصاح أبوه قائلاً:

ص: 15

(أرأيت أبا الوليد كيف أن الرجل لا يخالط إلا المترددين المزعزعين الذين لا يحجبهم عن الفتنة إلا العجز أو الخوف من أن يكونوا حطبا لنارها) فدافع أبو الوليد عن صاحبه دفاعا حاراً، حتى استطاع أن يغير رأي أبيه فيه، وأن ابن زيدون إنما يعمل لصالح الدولة وتثبيت الأمر له (أي لابن جمهور).

ولكن ماذا يجدي مثل هذا الدفاع وابن زيدون بغير حذر ويتكلم بلا احتراس، بل ويتصل بأعداء عميد الجماعة ليل نهار ويجتمع بهم حتى مطلع الفجر.

وكان أعداء ابن زيدون مردة شياطين لا تعوزهم الحيلة ولا يصرفهم عدم تأثرا ابن جمهور بأقوالهم. . . فلما وجدوا أن هذه الوشايات لا تأتي بفائدة، وأن أبا الوليد يفسد عليهم كل شيء؛ أجمعوا أمرهم على شيء، بأن اتفقوا على إيقاع ابن زيدون في الشرك حتى لا يستطيع الخلاص بعد ذلك ويكون لهم ما يريدون.

كان أحد أبناء الناصر لدين الله ويسمي (أبن المرتضي)، يختفي بعيداً عن قرطبة خوف بطش ابن جمهور به، وكان الناس إذا أصابتهم شدة من ابن جمهور تهامسوا باسم أبن المرتضى كمنقذ لهم مما فيه، ولماذا لا يكون هو صاحب الأمر وهو من سلالة الخلفاء. . . وقد استطاع ابن المرتضى أن يتخذ أنصاراً من أعداء ابن جمهور ثم يدخل قرطبة خفية ويختفي عند أحد أتباعه وكان ابن زيدون من هؤلاء الأتباع وقد مال إليه عندما لقي من إعراض ابن جمهور عنه وتجهمه له بل وكان يعرف أين يختفي. علم بذلك ابن عبدوس وأنصاره المبغضون لابن زيدون فاتفقوا على أن يخبروا بذلك ابن جمهور ولكن الدليل المادي يعوزهم، وأبن جمهور لا يأخذ بأقوالهم ما دام أبو الوليد راضياً عن ابن زيدون.

فاجتمعوا وتبادلوا الرأي فقال أحدهم إن ابن زيدون يعرف أن بن المرتضى يقيم بقرطية بل وهو على صلة به ويلتقي به كل ليلة، ثم اقترحوا أن يدعوا أحدهم ابن زيدون إلى داره، وأن يكون هناك ابن جمهور مستخفياً ليسمع ويرى. . .

ودعا الرجل ابن زيدون إلى ليلة في داره، وكان ابن جمهور وأعوانه مستخفين متنكرين، وبينما القوم يسمرون إذا جلبة وضوضاء في خارج القاعة، فنادى كبير خدمه وسأله في استنكار عن هذا اللغط والضجيج، فظهر التردد والخوف على وجه الخادم بادئ الأمر، ثم قال:

ص: 16

(لقد علمنا سيدي من أحد أعوان صاحب الشرطة أن مولانا عميد الجماعة قد ألقي القبض على سيدتي ولادة، وهو الآن يسيمونها أشد أنواع العذاب) فقال الرجل في استنكار وصوته يكاد يخنقه الغضب:

(وأي ذنب جنته حتى يقبض عليها الشرطة ويعذبونها؟) فقال الخادم:

(قيل يا سيدي إنهم وجدوا مولانا ابن المرتضى مختفياً بقصرها).

فما سمع ابن زيدون هذا حتى ذهب صوابه وهب مذعوراً والغضب يملأ نفسه، وصاح بصوت مرتعش: هذا بهتان وزور إن ولادة لا تخفي ابن المرتضى بقصرها وهي بريئة من هذا براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وأنا يعرف أين يختفي ابن مرتضى، بل أنه في دارى، وها أنا ذاهب إلى ابن جمهور لأخبره بذلك ليكف زبانيته عن أطهر امرأة في قرطبة.

وهمَّ بمغادرة المكان ولكنه وجد أن بن جمهور يعترض طريقه كأنما انشقت عنه الأرض أو نزل من السماء، وفي وجهه صرامة وفي عينه لهب، وصاح في وجه ابن زيدون بصوت كأنه هزيم الرعد.

لقد تحققت خيانتك أيها الخائن. ثم أمر صاحب شرطته بالقبض عليه وإيداعه السجن حتى يرى رأيه فيه، وأمر آخر بتفتيش داره عله يجد ابن المرتضى هناك، ولكنه لم يجد له أثر. . .

وهكذا ذهب ابن زيدون إلى السجن لأنه لم يستطيع أن يملك زمام نفسه في مثل هذا الأمر الخطير، ولم يقدر على كبح جماح كبرياءه، برغم عبقريته ونبوغه، بل ذهب إلى السجن ضحية عبقريته ونبوغه وطموح نفسه، وقد قيل:

وإذا كانت النفوس كبارا

تعنت في مرادها الأجسام

وقبله فر المتنبي من معية سيف الدولة بسب قوله:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

فالخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف الرمح والقرطاس والقلم

فقال خصوم أبي الطيب، لسيف الدولة ما الذي أبقى لك بعد هذا، فتغير عليه وأغضى حتى فر إلى مصر، ثم لقي حتفه آخر الأمر، لطموحه وكبريائه.

ص: 17

وكثيرون هم أولئك الذين ذهبوا ضحية عبقريتهم ونبوغهم وكبر نفوسهم. ولعلنا نستطيع أن نقدم لقراء الرسالة صوراً عن هؤلاء إن شاء الله.

(أسيوط)

عبد الموجود عبد الحافظ

ص: 18

‌الشعر والحياة

(مهداة إلى الأستاذ الشاعر الكبير الأستاذ محمود غنيم)

للأستاذ أحمد مصطفى حافظ

يقول الرافعي الخالد: (لو سئلت أزمان الدنيا كيف فهم أهلها معاني الحياة السامية، كيف رأوها في آثار الألوهية عليها، لقدم كل جيل في الجواب على ذلك معاني الدين ومعاني الشعر. وليست الفكرة شعراً إذا جاءت كما هي في العلم والمعرفة، فهي في ذلك علم وفلسفة، وإنما الشعر في تصوير خصائص الجمال الكامنة في هذه الفكرة على دقة ولطافة. . كما تتحول في ذهن الشاعر الذي يلونها بعمل نفسه ويتناولها من ناحية أسرارها.

فالأفكار مما تعانيه الأذهان كلها، ويتواطأ فيه قلب كل إنسان ولسانه. . بيد أن فن الشاعر هو فن خصائصها الجميلة المؤثرة، وكأن الخيال الشعري نحله من النحل، تلم الأشياء لتبدع فيها المادة الحلوة للذوق والشعور، والأشياء باقية بعد كما هي لم يغيرها الخيال، وجاء بما لا تحسبه منها وهذه وحدها هي الشاعرية. .)

ويقول الزيات الفنان (الفكر والخيال والعاطفة هن ملكات النفس الأدبية الثلاث، يصدر عنهن فيض القريحة، ويرد إليهن إلهام العبقرية؛ لا يهيمن عليه إلا الخيال والعاطفة؛ أما حاجته إلى الفكر فمحدودة بمقدار فما يضيء لهما الطريق حتى يأمنا الضلالة.

فالفكر للعبقرية بمثابة العين، والخيال والعاطفة لهما بمثابة الجناحين، فإذا تغلبا عليه كان الشرود والزيغ، وإن تغلب عليهما كان الجفاف والعقم. ومن هنا جردوا أكثر ما قال أبو العلاء وأقل ما نظم أبو الطيب من الشاعرية).

وآراء أستاذي الجليلين المتقدمة هي لب ما هدف إلى التعبير عنه هذا الموضوع الذي لا أحب أن أحداً غير ابني بجدتها - الرافعي والزيات - قد استطاع أن يشبع نهمي وتحرقي إلى قراءة قول شاف واف فيه.

فالشعر تعبير ذاتي ممتاز، مثل شاذة القاعدة والقانون تعبير غير مطرد، عارض غير مستديم.

وقد يعترض معترض على ذاتية الشعر، فنقول إن ذاتية الشعر ليست ذاتية خالصة، فإن فيها طرفاً من الموضوعية. . فكون الشعر خاصاً لا يمنعه أن يأخذ صفة العموم يوصفه

ص: 19

العموم تعبيراً، والتعبير خروج من الذاتية إلى الموضوعية؛ وعلى قدر اقتدار الفنان على أن يضمن شعره جانبي الذاتية والموضوعية تكون عبقريته.

فطبيعة الشعر - حسب هذا التحليل - لا تسمح بأن يكون لغة حياة، أو لغة حوادث ومادة حوار. . فالمسرحية الشعرية مثلاً كائن فني يبتدئ في ثوب ممتاز، غريب على الواقعية، إلا أنه على قدر هذا نجاح هذا الكائن الغريب في تمثيل الحياة، يكون نجاح الفنان وتوفيقه.

إن الشعر ليحمل في طبيعته الذاتية قوى تأثيرية، يحتاج إليها تصوير الحياة من وجهة نظر الفنان. . فوزن القصيدة - وهو في صميمه مدى الجو النفسي لأعماق الفنان حين الخلق الفني - لن تسلك فيه الألفاظ عبثاً.

ليس البحر الشعري مجرد تقسيم مقطعي للجملة الشعرية، ولكنه زمن للتعبير الذي تحمله العبارة.

ليست القافية مجرد لفظة، ولكنها لمحة تكر على وحدة الموضوع. . وفي ذلك منتهى الشعور العميق بتكامل النفسية، أداها الشاعر الفنان على غير وعى منه؛ ولم يكن الشاعر الفنان قد قرأ تكامل منازعه النفسية في كتب (أدلر) أو غيره.

بل إن علم النفس هو الذي أستقصي قوانينه من عمق الغناء، والذي أراه سليماً أن الفنان الحق تعبير صاف، خالص من الشوائب، عن أعمق، وأصرح، وأصدق المشاعر الإنسانية.

هو الشخص الذي إذا أتيح لسائر أعضاء المجتمع الذي يملك (الميكروسكوب). . وما أصدق وأدق المثل الإنجليزي القديم الذي يقول

احمد مصطفى حافظ

ص: 20

‌جولة في الأدب العربي

للأستاذ حمدي الحسيني

أدب الجاهلية أدب شخصي وجداني يمثل غرائز الفرد ومشاعره ووجدانه. ولا يمتد هذا التمثيل لأكثر من القبيلة التي ينتسب إليها الشاعر ويرتبط بها ارتباطاً وثيقاً بحكم النظام القبلي القائم على التعاون للدفاع عن النفس وحفظ الحياة.

والأدب الجاهلي يتميز عن الأدب العربي في العصور الأخرى التي تلته بالصدق والصراحة وهما الفضيلتان اللتان كان يتحلى بهما العربي في ذلك العهد، فإذا وصف الشاعر شجاعته أو شجاعة فارس من قبيلته لأنه إنما يصف شعوره الخاص وبشجاعته أو ما وقع تحت حسه وإدراكه من شجاعة ممدوحة. وإذا وصف نفسه أو قبيلته بالكرم فهو صادق كل الصدق في الوصف لأنه يصف حقيقة واقعة لا يعتريها شيء من التدليس أو الادعاء الكاذب. وإذا وصف نوعاً من الجمال فإنما يصف ما يحس به شعوره بهذا الجمال، وإذا باح بعواطفه في حبه فلا يخالجنا شك في أنه محب حقاً بالقدر الذي وصفه وباح به.

وأنك لترى في الأدب الجاهلي هذا النزوع القوى للمقاتلة وهى الغريزة التي أثارها في نفس العربي النظام القبلي وما يقتضيه هذا النظام من المزاحمة على اللقمة والجرعة وما إليهما من أهداف الرغبات الغريزية التي لا غنى عنها في هذه الحياة. وقد كانت هذه الغريزة عنها من الانفعالات والعواطف والنوازع، المنبع القوى للفضائل والأخلاق التي مثلها الأدب في ذلك العهد.

وقد ظل هذا الأدب ممثلاً للنفسية العربية الخالصة ومرآة تنعكس عليها هذه النفسية بقوتها وحرارتها وبساطتها فتبدو فضائلها ومساوئها ظاهرة واضحة، فترى الصدق والإخلاص والصراحة والعفة والشجاعة والمروءة والكرم، وترى الأنانية وسرعة الغضب وحدة المزاج والقسوة والانتقام.

ظل العرب في جاهليتهم كما ذكرنا، وظل أدبهم كذلك حتى اشرف عليهم وعلى العالم نور الإسلام القوى فانبهرت عيونهم من قوة النور، وانزعجت نفوسهم من شدة المفاجأة، أغمضوا عيونهم في أول الأمر لأنها اضعف من تحتمل هذا النور القوى، وانكمشوا عن الإسلام لأنه فوق ما تحتمل النفوس البسيطة الوادعة على رمال الصحراء، وفوق ما

ص: 21

تستوعبه عقولهم الساذجة المحدودة بحدود تلك الحياة الضيقة، ولكن نور الإسلام قد غمرهم عمراً ونفذ إلى عيونهم ونفوسهم وعقولهم، وحولهم في بوتقته العظيمة المقدسة إلى مؤمنين بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فاطمأنت نفوسهم بالإيمان وامتلأت بالفضائل الإسلامية، فدفعهم الإيمان من جزيرتهم القاحلة الضيقة إلى العالم الواسع الزاهر هداة مبشرين وقادة فاتحين فتحولت من قول الشعر إلى تلاوة القرآن، ومن الفرقة الجاهلية إلى الوحدة الإسلامية ومن المفاخرة بالأحساب والأنساب إلى المفاخرة بالسبق في دخول الإسلام. ومازال العرب كذلك حتى بردت حرارة الإيمان في نفوسهم فبدت ميولهم الكامنة ورغباتهم المستورة تطل من عقولهم الباطنة حتى أصبحت الخلافة الإسلامية ملكاً عضوضاً، وانقسموا على أنفسهم ورجعوا إلى عصبياتهم النائمة فبعثوها بمفاخرتهم بالأحساب والأنساب وبالسبق للإسلام، أيضاً ليتخذوا من هذا وسائل لتعضيد الملك وتعزيز السلطان، فنشأ من هذا أدب سياسي ولكنه حزبي، فهناك علي بن أبي طالب وهناك معاوية بن أبي سفيان، وعزز كل منهما نظريته بالسيف والقلم واللسان، فكان النضال العنيف الذي أنتج هذا الأدب السياسي الحزبي، وأنتج هؤلاء الخوارج الذين تركوا هم الآخرون ظلهم واضحا على صفحة الأدب العربي، كما تركوا أثرهم قوياً على صفحة التاريخ الإسلامي، فأخذ الأدب العربي في عهد بني أمية هذا الاتجاه الذي عيناه ولكنه على كل حال كان أدباً قوياً، بصور العزة العربية لابسة ثوب الإسلام ناعمة ببلاغة القرآن، ولم يستتب الأمر لبني أمية حتى انقسموا في أمورهم الدنيوية وأصبح الأدب أداة لتسليتهم وتبرير سياستهم وتصرفاتهم الحزبية، ولكن كان في هذا الوقت للخوارج أدب يمثل قوة عقيدتهم وقوة دفاعهم عن هذه العقيدة رغم انصباب بني أمية عليهم ورغم القسوة التي عاملهم بها قواد بني أمية ولاسيما الحجاج بن يوسف الثقفي وستر أدب الخوارج القوى ضعف أدب الأمويين. فقد كنت تسمع لشاعر الخوارج أو قائدهم القطعة من الشعر التي تحمل من قوة الإيمان وقوة النزوع في سبيل هذا الإيمان ما يجعلك تحس بسر البطولة والعبقرية وهاك هذه القطعة من هذا الأدب الخارجي:

أقول لها وقد طارت شعاعاً

من الأبطال ويحك لن تراعي

فإنك لو سألت بقاء يوم

على الأجل الذي لك لن تطاعي

ص: 22

فصبراً في مجال الموت صبراً

فما نيل الخلود بمستطاع

وما حل العهد العباسي الفخم بسعة الملك وامتداد السلطان ووفرة الغنى وتلون الملاهي وتمدد اللذات حتى أصبح لأدب العربي أدب ضعف وخنوع، وانقياد وخضوع أدب خلاعة وتهتك وفجور، واستهتار وزندقة وإلحاد، فأصبحت ترى قصائد المدح الذليل تساق للأمراء والعظماء، ووصف النساء والغلمان والخمر يملأ مجالس الأدب، والمفاخرة بالزندقة والإلحاد والشعوبية تدور على الألسنة في كل مكان.

بينما كان المجتمع العباسي حافلاً بكل هذا كانت الحوادث تنسج لأكفان لهذا الملك الضخم فمدت فيه الفساد وامتدت أيدي النساء والمماليك والعبيد إلى صولجان الحكم فأخذوا يستعملونه أداة لإشباع شهواتهم، وإرضاء رغباتهم، فتزلزل الملك ثم انهدم. وأما الأدب في هذه الأيام الضاحكة الباكية الحافلة بالملذات والملاهي الاجتماعية، المترعة بالآلام والمصائب السياسية والحزبية، فقد كان صورة قائمة لحياة هذا المجتمع القائم يورث النظر إليه الهم والألم لولا ومضات من نور القوة كانت تلمع في سماء ذلك الأدب الحزين الباكي ثم تنطفئ، وكان مصدر هذه الومضات نفوس متألمة مما حل بالعرب والإسلام من النكبات كنفس المتنبي الكبيرة الثائرة التي انفجرت بالشعر القوى المدوي المجلجل في سماء الأدب، ونفس أبي فراس الشاعر البطل الذي أبلى في ميدان الشعر بلاءه في ميدان الحرب. بينما هذا كان يقع في الشرق كان ملك بني أمية في الغرب قويا قاهراً والأدب في ظله زاهياً زاهراً، حتى عصف الدهر على الملك العربي الإسلامي في الشرق والغرب، فانقرض ولم يبق للسلطنة العربية صولة، ولا للأدب العربي دولة وأصبح العرب أشتاتاً في كل أرض وأوزاعاً تحت كل سلطان، وأما الأدب فانمسخ انمساخاً حتى اصبح معه علالات النفوس الضعيفة والعقول الفارغة من الجدل اللغوي العقيم والنقاش البياني الفارغ، حتى جاء القرن التاسع عشر بما فيه من أحداث فبدأ الأدب العربي يتململ في مرقده ويتماثل للنهوض من كبوته.

حمدي الحسيني

ص: 23

‌البند في الأدب العراقي

للأستاذ محمود العبطة

طلعت (الرسالة) الزاهرة في عددها (رقم: 924) بمقالة الأديب الصديق الأستاذ عبد اللطيف الشهابي عن الشاعر العراقي (ابن خلفة الحلي) وقد أستطرد الأستاذ الشهابي في ذكر حياة ابن الحلفة، وأدبه وشعره حتى وصل إلى ذكر (بنده) المشهور، وهنا قال (وأول من أخترع هذا النوع هم أهالي (الحويزة) وهو منوال غريب قد يخرج على أو زان الشعر وقد وقد يخالفها.) وقد رأيت في هذا بعض الشطط، فجئت في مقالي هذا لتصحيح أخطائها وإبانة حقيقتها. . . فما هو البند، ومن أخترعه، ومن برع وأجاد فيه؟

قبل الإجابة عن هذه الأسئلة يحسن بنا الإشارة إلى خصائص وميزات الشعر العربي عموماً، والشعر العراقي منه على وجه الخصوص، لأن (البند) نوع من الشعر العربي، وإن امتاز بميزات وأتصف بصفات لا يشبهها الشعر العربي على وجه العموم، ثم إن هذا النوع من الشعر لم ينشأ إلا في العراق ولم يبرع فيه العراقيون. . . عرف نقاد الأدب من العرب الشعر بأنه (الكلام الموزون المقفى) وهذا التعريف البسيط يميز الشعر عن النثر، وهو تعريف شكلي، لأنه لم يذكر الميزات الرئيسية التي تخالف الشعر عن النثر، وهي مميزات الموسيقى والنغم وسحر العبارة، وهي بالإضافة إلى اتقاد الشعور وشبوب المخيلة. وقد استمسك الشعراء العرب بهذا التعريف، فنسجوا على منوال الشعراء القدماء بالأخذ بالوزن الواحد والقافية الواحدة على طريقة العمود الشعري، ولكن هذا الاستمساك، وهذا النسج، يحولان دون بلوغ الغاية والوصول إلى هدف، من حيث تصوير لواعج القلب، وخطرات الروح، لأنه يجعل قصارى الشاعر النظم على وزن واحد وقافية واحدة، دون تصوير شعوره الذي هو الهدف الأسمى من نظم الشعر، ثم لا ننسى التحشيات والجوازات والضرورات، التي تفسد الشعر، والتي جعلها الشاعر العربي وسيلة للتغلب على الوزن الواحد والقافية الواحدة، هذا بالرغم من مرونة الشعر العربي، واتساع محوره، وغزارة مفرداته وغنى ألفاظه، وبالرغم أيضاً من وجود (المجزومات) التي هي اختصار البحور الشعرية، ووجود (الأبحر الممتزجة) التي تتركب من الأجراء الخماسية والسباعية ومنها (بحر الطويل) و (بحر البسيط) كل هذه العوامل والأسباب من جهتها الموجبة والسالبة

ص: 24

دفعت الموهوبين من شعراء (الأندلس) إلى اختراع (الموشحات) التي انتشرت من (الأندلس) في الخانقين، والتي أصبحت وسيلة جديدة للتعبير الشعري، ولكنه التعبير الحر المنطلق الذي لا يتقيد بوزن واحد ولا قافية واحدة، وإن اتصف بالوزن والقافية أيضاً! والذي فعله الأندلسيون قديماً فعله العراقيون في القرون المتأخرة، فأخذوا (البند) عن الشعر الفارسي وجعلوه وسيلة طريفة وطريقة جديدة للتعبير الشعري. والذي دفع الشعراء العراقيين إلى هذا الصنيع، فسبقوا إخوانهم في الأقطار العربية الأخرى، هو مجاورتهم لفارس ثم دراستهم لعيون الأدب الفارسي وروائعه الشعرية، إذ نبغ كثير من الشعراء العراقيين بنظم الشعر الفارسي إضافة إلى نبوغهم بنظمه بلغتهم القومية. ولا ننس في هذا المجال ميزة أخرى لا تقل أهمية عما ذكرنا، وهي ميزة الغناء، إذ (البند) يغني في مجالس الأنس والطرب، وصفة الغناء هذه كما دفعت العراقيين إلى اقتباس البند من الفرس؛ ودفعت الأندلسيين إلى اختراع (الموشحات) والغناء هو السبب الأول في اختراع (الكان ما كان) و (القوما) و (الزجل) الخ. . . وهذه كلها أفانين رائعة في الشعر العربي الشعبي فما هو البند إذاً في اللغة والشعر؟

جاء في (القاموس) البند: العلم الكبير وقال (الجوهري)(البند العلم الكبير فارسي معرب) وقال الشاعر القديم

(وأسيافنا تحت البنود الصواعق)

وقال الشاعر العراقي المرحوم جميل صدقي الزهاوي (إن كلمة البند فارسية الأصل وهي بمعنى العقد والربط) وذكر الزهاوي أيضاً (والبند الحلقة الوسطى بين النظم والنثر وهو مستعمل عند الفرس والترك) وجاء في كتاب (الملحق بالمعاجم العربية) لدوزى (البند مشتق من بنود الرمح وهي ألاعيب تكون بواسطة الرمح ومنها البنود الفكرية وتكون ملاعب بالبدع والفكر.) وجاء في المعجم الفارسي اللاتيني (فوليرز)(البند مشتق من (بتستند) ويراد به الرباط وكل ما يوصل به، ويطلق مجازاً على الخيال والفكر والملاحظة والتوقع.) وقال اللغوي الأب الكرملي (ومن معاني (البند) الحيلة والفن والتوصل إلى شيء باحتيال.) ومن معانيه أيضاً (البيت ينظم بعدة أبيات ويعاد وله قافية تختلف عن قوافي سائر البيوت وله رديف يسمى (بند ترجيع) و (تركيب) كما جاء في (البرهان القاطع).

ص: 25

وجاء عن (الليث)(فلان كثير البنود كثير الحيل) وجاء في كتاب (حاشية التحفة) للشيخ عمر البصري أن البند (يطلق على المحابس التي تجعل بين حبات السبحة ليعلم بها على المحل الذي يقف عنده المسبح.) وقال القاضي الأديب محمد الهاشمي البغدادي (البند ضرب من الكلام المسجع الموزون أشبه بما نسميه في هذه الأيام بالشعر النثري، وبعض أساجيعه آتية على وزن بحر (الهزج).

يتلخص لنا منكل هذه التعاريف التي أوردها أهل اللغة والأدب من عرب ومستشرقين، ومن قدماء ومعاصرين أن لفظة (البند) فارسية معربة وأن معانيها العلم والعقد والربط ونوع من الألاعيب، وحيل الفكر. . وكل هذه المعاني المختلفة المنطبقة على هذه اللفظة لا تهمنا في هذا الموضوع، ولكن الذي يهمنا معنى الكلمة وهو هذا النوع الطريف من الشعر العربي، المأخوذ من الشعر الفارسي، والذي يأتي (كله) على بحر الهزج، وهو:

مفاعيلن مفاعيلنمفاعيلن مفاعيلن

ولا يأتي بعضه فحسب، على ما يقول الأستاذ الهاشمي، ولكن ضرب البيت الثاني منه يأتي مطرداً. . . وهنا بعد أن ذكرنا لك هذه النبذة عن منشأ البند وسبب وجوده وانفراد العراقيين، به لابد وأن نذكر لك نموذجا لتتذوق هذا النوع الشعري الطريف، وهذا النموذج هو وصف حصان عربي أصيل لحد شعراء (الحلة) المجهولين، قال:

أيا مرتقياً سرج جواد

من جياد الخيل جماح

رباعيا من الصخر في

غرته النجم إذا لاح

طويل العنق والساق

سريع الخطو سباق

قصير الأذن والظهر

وسيع العين والجهة والصدر

فلا الريح يباريه إذا غار

ولا السهم يجاريه إذا سار

ولا الطير يحاذيه، وإن طار

ولا يسبق إن مر

ولا يلحق إن فر

ولا يصعبه الحر

ولا يتعبه السكر

والشاعر يمضي في بنده هذا واصفاً حصانه هذا الوصف الفني البليغ، حتى يصل (بغداد) من (الحلة)، فيمدح واليها سعيد باشا وكانت ولايته في بغداد سنة 1228 هجرية وهو كما

ص: 26

مدح الوالي فقد مدح أدباء بغداد كالألوسي الكبير والأخرس والعمري. . . والبند العراقي، قد نبغ في نظمه شعراء كبار كثر أشهرهم - عدا ابن الخلفة - عبد الغفار الأخرس وحسين العشاري ومحمد سعيد الحلي واحمد الجصاني وعباس العبدلي ومير علي أبو طبيخ؛ وللأخير بند بديع فيه (طائرة) حمات بعض أقاربه إلي (لبنان)، وصفها خيالياً وهو في بلدته (النجف) قعيد السقم والمرض، ولعله في حياته لم يركب الطيارة، كشاعرنا الذي وصف الحصان بعد أن قطع به طريقه، بل ولعله لم يرقى في حياته الطيارة أيضاً! قال

أيها الراكب في طائرة تحتفل السفر

وتطوى سبل الجو فما قادمة الصقر

بخفاق جناح ذات تصويب وتصعيد

وألحان وتغريد

كأن البرق في حيز ومها حل

فلا وعر يغاديها ولا سهل

ولا غرق إذا تسترق السمع

فتأتي بنبأ قاطنة السبع

فسبحان الذي أنشأ منشيها فسواه

وأسنى سبل العلم لذي الجهل فأغناه

أرح نفسك إن أصبحت في ضفة (لبنان)

وروحها يرشف من لمسي حور وولدان

ففيها صفوة العيش

ولا منكر للطيش، الخ

وبعد، فلعلني أفصحت في مقالي هذا عن معنى (البند) وعمن أقتبس، ومن أجال فيه، وأن مقتبسيه هم العراقيون لا أهل (الحويزة) على ما يقول الأستاذ الشهابي، وأنه نوع من الشعر ومن بحر (الهزج) وليس هو النثر الشعري، أو من السجع على ما يقول الكثيرون.

بغداد

محمود العبطة

ص: 27

‌مقدمة لكتابه (عقيدتي)

برتر أند رسل

الفيلسوف الإنجليزي المعاصر

للأديب عبد الجليل السيد حسن

ذهن عجيب جبار، ينشد الوضوح في كل شيء لا يقبل إلا ما يرضاه عقله ويهديه إليه فكره، وتفكير حر إلى أبعد حدود الحرية. طالما أفزع الدولة بل العالم. وجريء غاية الجرأة يقول ما يعتقده حقا وما يراه صواباً، وإن أحفظ عليه نفوساً كثيرة وأثار على شخصه عاصفة هوجاء، أدت به إلى السجن وأفقدته كرسيه في الجامعة، ولكنه لم يبال، وعاطفة زاخرة جياشة بجانب هذا التفكير العقلي البحت؛ فهو لا يعيش في برجه العاجي لا صلة له بالواقع، فحينما يرى شباب أو ربا يساق إلى الحرب استجابة لرغبة حفنة تنتفع من الحرب وتعيش على (الموت)، يلقى نفسه رداء الفكر المجرد، لينزل بعاطفة قوية عنيفة، يحارب الحرب ويصرخ أن قفوا هذه المجزرة. وإنسان صبور جلد، لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار، لا يمل العمل، ولا ينقطع عن الترحال؛ جاب البلاد خابراً ودارساً من أوربا إلى أقصى الشرق إلى الصين، وجرب كل شيء جرب السجن بل جرب الموت!

هو الإرل برتر أند أرثر وليم رسل، ينحدر من عائلة من أشرف العائلات الإنجليزية ، اشهرها وأوفرها حظاً من المشاركة في أمور الدولة السياسية. وهو ليس كريم النسب من جهة أبيه فقط؛ بل من جهة أمه كذلك، فأبوه ابن اللورد جون رسل الوزير البريطاني المشهور، وأمه بنت اللورد ستانلي أف الدرلي؛ فهو أرستقراطي النشأة طيب الأرومة.

وقد ولد في 18 مايو سنة 1872؛ وحينما بلغ من العمر سنتين ماتت أمه ولحق بها أبوه في العام التالي فترك يتيما وهو ابن ثلاث سنوات، ولم يتمكن أبوه ولا أمه من تلقينه عقيدتهما في الدين والحياة. وكانا أبوين عجيبين - وعلى غرراهما سينشأ الابن - من أحرار المفكرين؛ فأبوه كان يميل إلى المذهب (اللاأدري) وكان صاحب مزاج عجيب ورأي غريب نأى به عن الحياة السياسية التي أرادها، فقد رشح نفسه للبرلمان ودخله، ولكن لما عرف عنه م، آرائه الحرة كما في تحديد النسل وحقوق المرأة والمسيحية،

ص: 28

ولاستغلال خصومه ذلك في التشنيع عليه لم يدخل البرلمان ثانية، ولم ينل من الحياة السياسية ما يبتغي من أمل. أضف إلى ذلك أنه كان خجولاً، ليس له من صفات السياسي شيء كثير، كانت صفاته أقرب إلى الدرس والعلم منها إلى السياسة، فكان تلميذاً ثم صديقاً (لجون استورات مل) الفيلسوف الإنجليزي المنطقي الاقتصادي المعروف، يؤمن بآرائه ويتعصب لها، وقد تخلى عن عقيدته المسيحية في سن الحادية والعشرين ورفض الذهاب إلى الكنيسة في يوم عيد الميلاد. وحينما مل السياسة أو بالأحرى ملته هي خصص نفسه لتأليف كتاب (تحليل العقيدة الدينية) نشر بعد وفاته، وقد كانت زوجه تشاركه هذه الآراء وقبل أن يموت أوصي بتربية برتر اند رسل وأخيه تربية حرة، ولا تقيد فيها بدين معين، ولا عقيدة من العقائد، فقد أرادهما أن يكونا أثنين من أحرار المفكرين مثل أبويهما؛ ولكن المحكمة أبطلت هذه الوصية استجابة لرجاء الجد، وأخذ برتر اند رسل إلى بيت أجداده سنة 1876.

لم يعرف رسل شيئاَ عن عقيدة أبويه بالطبع، إلا حينما بلغ الحادية والعشرين وحينذاك وجد أن وصية أبويه قد طبقت على رغم جهود الجدين، وأنه قد سار نفس المسار الذي سار فيه أبواه، بل وخيراً مما ساراً، وأثر فيه (مل) كما أثر فيهما تماماً ولنتابعه الآن في تطور حياته وعقيدته:

. . . أما جده فكان في الثالثة والثمانين ضعيفاً، لا يذكر الطفل إلا أنه كان يراه في محفته محمولاً أو في كتاب يقرأ، ومات بعد مجيء رسل إلى بيته بسنتين؛ ولذا لم يؤثر فيه جده تأثيراً يذكر أما جدته فهي صاحبة الدور الأول في حياته وتربيته، وكانت سيدة غريبة؛ فقد كانت من أتباع المذهب (البرسبيتارى) الإسكتلندي وكان في طبعها صرامة، تأخذ أبناءها وحفدتها بالتربية الدينية، وتكره النبيذ، وتنظر إلى الدخان على أنه خطيئة. وفي السبعين من عمرها تحولت إلى مذهب (الموحدين) وكانت تأخذ رسل كل أسبوع إلى الكنيسة وتلقنه أصول مذهب (الموحدين) في البيت وكانت تنزع إلى كره الاستعمار - الذي سيمته رسل فيما بعد أشت المقت - فكانت تؤيد الاستقلال الذاتي والحكم الداخلي لأيرلندا. وعلمت رسل أن يرى في الحرب بين الأفغان والزولو - التي حدثت حينما كان رسل في سن السابعة - شراً أي شر، وهناك واقعة يجدر بنا أن نشير أليها كمصريين؛ فإن هذه الجدة لم

ص: 29

تعلق كثيراً على احتلال مصر لا لشيء إلا لأن احتلالها كان راجعاً إلى (جلادستون) وكانت هي معجبة به. ويقول رسل (أنه يذكر نقاشاً دار بينه وبين مربيته الألمانية فقد قالت له: إن الإنجليز إذا دخلوا مصر، فلن يخرجوا منها أبداً مهما أعطوا من وعود. ولكنه أصر عن عاطفة وطنية جياشة، على أن الإنجليز لا يخالفون وعودهم قط. ثم قال: وكان ذلك منذ سبعين سنة، ومازالوا فيها ولم يبرحوها) وهذا قول نرويه دون تعليق، ولتضع أنت النقط فوق الحروف كما يقولون.

لم يلتق رسل تربيته الأولى في المدارس، فلم يبعث به إلى المدرسة، بل أحضر إليه المدرسون والمربيات. وقد أجاد على أيدي هؤلاء المدرسين، اللغة الفرنسية والألمانية إجادة تامة، وكثيراً ما كان يقلب وينقب في مكتبة جده التي كانت حجرة دراسته كما يقول.

وفي سن الحادية عشرة حدث له حادث أثر في حياته كل التأثير، أو هو الحادث الذي وجه حياته كلها، والذي أكتشف فيه رسل ما يوافق هواه وهذا الحادث: هو أن أخاه الأكبر - وكان يكبر رسل بسبع سنين - أخذ يعلمه هندسة (إقليدس) - وكتاب إقليدس كان أفضل كتاب في الهندسة - وقد سر رسل بذلك سروراً عظيماً؛ لأنهم قالوا له: إن إقليدس يبرهن على كل ما يقول؛ ولكن حينما بدأ في تعلمه، وجده يبدأ بالبديهيات التي يسلم بها بدون برهان، فما كان من هذا الذهن الذي ركب تركيباً، لا نقول رياضياً، بل تركيباً يكاد يعلو على مستوى الرياضي، إلا أن يشك في البديهيات، ولا يقتنع بها ولكن أخاه ولكن أخبره أن لا فائدة إذن من تعلم الرياضة إذا لم يسلم بهذه البديهيات، فسلم بها مكرهاً. ومع ذلك فقد وجد في الرياضة لذة لأنها أقرب الحقائق إلى الثبات، ولكنها ليست مع ذلك ثابتة، ومن هذا الحين أخذ يتعمق في درس الرياضيات التي ستؤديه إلى منطقه التحليلي الذي سيفتح به المشاكل الفلسفية.

فها هو ذا عقل يشك في كل شيء حتى في الرياضيات، ويطلب لكل شيء برهاناً حتى البديهيات!

واستمر الصبي الصغير يتربى على أيدي المربيات الألمانيات والسويسريات، وأخيراً، على أيدي المدرسين الإنجليز. وحينما بلغ الرابعة عشرة من عمره، أخذ يديم النظر والتفكير في أمر الدين، ويتساءل لماذا هو مسيحي؟ بل لماذا يؤمن بالدين؟ وأين البرهان

ص: 30

الذي يجعلني أؤمن به؟ وأخذ يطيل التفكير في أمر الإدارة الحرة والخلود، والله. أما الإدارة الحرة فرفضها لأنه اعتقد أن حركات الأحياء كلها تسير تماماً بنفس القوانين الديناميكية التي تسير بها المادة، وحينئذ فلا وجه هناك للإدارة الحرة؛ ثم نبذ الاعتقاد في الخلود، ولكنه ظل مستمراً في الإيمان بالله، لأن دليل العلة الأولى ظل حافظاً مركزه أمامه.

وفي هذه الأثناء لم يكن في طوقه أن يحدث أحداً من أقاربه بآرائه هذه، وكان يكتبها في يوميات بالحروف اليونانية حتى لا يستطيع أحد أن يقرأها. ولم يستطيع أن يتحدث مع أحد في مشاكله هذه إلا مع مدرس (لا أدرى) كان يعلمه، ولكنه سرعان ما طرد خوفا من أن يؤثر فيه، وظل يافعنا هذا يتألم أشد الألم، ويعاني أقسى صنوف القلق والشقاء، وهو يرى عقيدته الدينية تنهار لبنة إثر لبنة، وقد عزا في هذه الأثناء شقاءه إلى فقده العقيدة الدينية، وظل ثلاث سنوات يفكر في أمر الدين، وقد تخلى عن عقيدته في الخلود، ولكنه ما زال مؤمنا بالله إلى أن كان ووقعت يده - وهو يومئذ في الثامنة عشرة وقبل أن يلحق بكامبردج بقليل - على الترجمة الذاتية التي كتبها (جون استورات مل) وقرأ فيها هذه الجملة (لقد علمني أن السؤال: من خلقني؟ لا يمكن الإجابة عنه لأنه يوحي في الحال بسؤال آخر وهو: من خلق الله؟ (ومنذ هذه اللحظة تخلى رسل عن إيمانه بالعلة الأولى؛ ولم يكن له حق في ذلك، إذ أنه قاس الحاضر على الغائب، والمخلوق بالخالق، إذ أن الله الذي خلق لا ينطبق عليه ما خلق، لأنه هو الذي رسم للمخلوق خلقته، وأجرى عليه قوانينه، فلا وجه لفرن المخلوق بخالقه، ولكنه نوع من تداعي المعاني الساذج الذي لا محل له في هذا المكان هو الذي يوحي بسؤال: من خلق الله؟

وظل رسل يقرأ بشغف ونهم، ويقرأ الشعر والتاريخ، يقرأ (لتنسون) و (بيرون) و (شلي) و (كارليل) ولكن الذي أغرم وأعجب به هو جون أستورات مل الذي وافق هواه، والذي يعتبره رسل أباه الروحي وقد قرأ كل مؤلفاته وغلق عليها.

وفي أكتوبر سنة1890 دخل رسل كلية (ترنتي) بجامعة كامبردج وهناك وجد عالماً رحباً وقوماً يحدثهم فيما يهمه من مشاكل فيستجيبون له ويستمعون لقوله، وتعرف على نخبة من الزملاء من بينهم الذي يهتم علاوة على دراسته المدرسية بالشعر أو الفلسفة أو السياسة أو

ص: 31

الأخلاق، وكثيراً ما كانوا يقضون الأمسيات أيام السبت يتناقشون إلى الهزيع الأخر من الليل، ثم يجتمعون لتناول طعام الإفطار يوم الأحد، ويقضون بقية اليوم سائرين يتناقشون ويتحاورن ولقد كان من بين هؤلاء الأصدقاء، فيما بعد أعلاماً يعرفهم العالم الإنجليزي؛ إلا أن أشهر هؤلاء الصحاب هو الفيلسوف الرياضي الإنجليزي (هوايت هد) الذي كان يومئذ زميلاً بالكلية ثم محاضراً، ولم تتوطد الصداقة بينه وبين رسل إلا فيما بعد حيث سيشتركان في إخراج كتاب في فلسفة الرياضة، يعد في طليعة الكتب الهامة التي خرجت في القرن العشرين وكان في هذه الأثناء متهما بدارسة الرياضة ثم قرأ (هجل) وآمن به.

وكان رسل خجولاً، أول أمره منطوياً على نفسه، ولكنه ما لبث أن تفوق على أقرانه وعرف بذكائه وحصل على درجته في الفلسفة بامتياز وأنتخب (زميلاً) في كليته في خريف 1895؛ إلا أنه كان قد ترك كامبردج ولحق بالسفارة البريطانية في باريس سنة 1894 ومكث هناك بضعة شهور. وفي ديسمبر سنة 1894 تزوج رسل زوجته الأولى وذهب هو وزوجته إلى برلين، وقضيا هناك عدة شهور درس خلالها رسل الديمقراطية الاجتماعية الألمانية، ثم قفل إلى إنجلترا حيث سكن هو وزوجته منزلاً صغيراً في الريف، واعتكف في صومعته هذه على دراسة الفلسفة. وفي سنة 1900 زار مع صديقه (الفردهوايت هد) المجمع الرياضي بباريس وقابل هناك تلاميذ الرياضي الإيطالي المشهور (بيانو) وكان لذلك اكبر الأثر على رسل، إذ أنه أخذ من فوره يدرس مؤلفات بيانو، ولم يمض كثير وقت حتى أخرج أول كتاب مهم له وهو (مبادئ الرياضيات) سنة 1903، وشرح هو وهوايت هد في تأليف كتابهما المشترك المشهور (مبادئ الرياضة) وظهر الجزء الأول منه سنة 1910.

وفي تلك الأثناء كان يعيش غاية في البساطة، ويعمل عملاً دائباً ويرهق نفسه بكثرة الدراسة، وقد انتقل هو وزوجته إلى منزل صغير بجوار أكسفورد، وكان بين الحين والحين يذهب إلى الخارج، وبدأ يشارك رسل في الشؤون العامة ويتخلى بعض الشيء عن دراسته الفلسفية، ليلقي بنفسه في أتون السياسة، وينزل من برجه العاجي ليخوض غمار الحياة.

وفي سنة 1910 اختير محاضراً في كليته في جامعة كامبردج وما أن تلبد الجو بالغيوم،

ص: 32

وترقب الناس هبوب عاصفة حرب عالمية، حتى عاودت رسل روح أجداده فأندفع إلى المشاركة في شؤون السياسة، ولم يستطع أن يستمر هادئاً في برجه العاجي بعد الآن وهو يرى بعيني رأسه شباب أوربا يجمع ليساق إلى المجزرة فرمي بنفسه بين عجاج المعركة، ووقف وحده في الميدان - إلا من عدة أنصار قليلين - ينادى بكل قوته أن قفوا هذه الوحشية والبربرية، ولا تشعلوا نار الحرب، وحمل رسل لواء الحرب ضد الحرب.

وفي تلك الأثناء ضاقت به الحكومة وغرمته مائة جنيه لأنه كان قد كتب كتيباً يصف فيه المسيحي الأول ذا الضمير الحي الذي يعارض المسيحية، ولم يكن رسل يملك ما يؤدي به هذه الغرامة، فبيعت مكتبته وفاء لهذا الدين، واشتراها أحد الأصدقاء، ولكن قد فقدت كتب قيمة من بين ما كانت تحويه مكتبته من رائع المؤلفات. وكانت الطامة الكبرى حين منعته كليته من أن يحاضر بها، ولكن جامعة هارفارد بعثت إليه تطلبه، بيد أن الحكومة البريطانية رفضت أن تعطيه تصريحاً بالسفر، فما كان منه إلا أن عزم على أن يلقي سلسلة من المحاضرات العامة وقد نشرت بعد ذلك تحت عنوات مثل سياسية سنة 1918 ولكن السلطات الحربية منعته من إلقاء محاضرته. وفي سنة 1918 حكم عليه بالسجن ستة أشهر لأنه كان قد كتب مقالة في السياسة، وفي السجن كتب كتابه القيم (مقدمة إلى الفلسفة الرياضية).

وقد نظم له بعض الأصدقاء اكتتاباً لإلقاء محاضرات في لندن، وكان نتيجة لهذه المحاضرات كتابه (تحليل العقل) سنة1921 وفي سنة1920 كتب كتابه عن البلشفية بعد أن زار روسيا زيارة قصيرة.

وفي خريف سنة1920 ذهب رسل إلى الصين محاضراً في جامعة بكين في الفلسفة، وفي الربيع أصيب بذات الرئة وأستمر ثلاثة أسابيع في سياق الموت حتى أن جرائد يابانية متسرعة أعلنت نبأ وفاته، وكلن عناية الأطباء الألمان المتصلة أنقذت حياته من بعد موت محقق، وحينما عاد في سنة 1921 تزوج زوجته الثانية (دور بلاك) وظلا يعيشان معاً ست سنوات في منزل صغير في أشهر الشتاء في ولم تكن هناك من سبيل إلى كسب عيشه إلا الصحافة وإلقاء المحاضرات، وكتابة الكتب الشعبية مثل (ألف باء الذرة) 1923 و (ألف باء النسبية 1925 وفي (التربية)1926. أما أشهر الصيف التي كان يقضيها

ص: 33

قريباً من فقد قصرها على العمل الجدي والدراسات الشاقة مثل الطبعة الثانية من (مبادئ الرياضة) وكتابه (تحليل المادة) 1927 وكتابه (على هامش الفلسفة) 1928و (التصوف والمنطق) 1929 و (الزواج والأخلاق) 1929 وقد ذهب إلى الولايات المتحدة ليحاضر هناك في سنة 1924وسنة 1927، وفي سنة 1927 أنشأ هو وزوجته مدرسة لتربية الأطفال، وفي سنة 1940 قوبل منحه كرسياً في سيتي كولج بنيويورك بعاصفة قوية من المعارضة لما عرف عنه من آراء أخلاقية متطرفة، وقد أبطل تقليده هذا المنصب بواسطة المحكمة، وقد يعزى أسلوب رسل المشرق المعجب، إلى أنه لم يقاس ولم يخضع في تعليمه لأسلوب التعليم (الكلاسيكي) في المدارس العامة، ولكن ذكاءه ولقانته وحبه للحقيقة وقدرته على العمل الشاق يبدو أنها فطرية في بعضها وراثية في كثير منه.

القاهرة

عبد الجليل السيد حسن

ص: 34

‌رِسَالَة الشِعْر

كفارة الدموع

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

الإهداء. . .

(زينب) يا تسبيحة الطيوب

يا همسة الحبيب للحبيب

ويا خشوع الحب في القلوب

هواك لي، كفارة الذنوب

عطر أوتاري، وندى كوبي

(زينب) يا عطر الهوى الحبيب

يا فرحة في قلبي الكئيب

وواحة في عالمي الجديب

رحماك، هل تصغين للوجيب

من شعري المخنوق بالنحيب

كفاك ما نكأت من ندوبي

وما جني الجمال من تعذيبي

فنضري الحياة للغريب

ونوري ماأظلم من دروبي

يا فجر حب ليس بالكذوب

هي الخمر ضاحكة تسكب

تلالاً كما لألأ الكوكب

ينور في الكأس ياقوتها

فينداح من نورها الغيهب

وتعبق في الحان أنفاسها

كما يعبق النرجس الطيب

إذا شعشعت أطلعت أنجماً

من الدر أضواؤه تخلب

وحف بها حبب راقص

شبيه من الماس أويقرب

يطوق من جيدها عاطلاً

تزان به كلما تسكب

كعقد من الدرر الغاليات

تحلت به كاعب ربرب

ثكلت شبابي الطري الإهاب

إذا أنا للكأس لا أطرب

ولم تنتفض في عروق الدماء

ولم يرتعش جسدي المتعب

ص: 35

ولم أحتفل بالكؤوس الدهاق

كما يحتفي بالصغار الأب

ثكلت شبابي، أأستافها

عبيرا يفوح ولا أشرب

وأبصرها فوق ثغر النديم

شهابا وسرعان مايغرب

يقبلها - يا لبؤس الجمال -

قبيح، ويحضنها أشيب

تطوف ويتعب عشاقها

من السهد ليلا ولا تتعب

عروس تتيه الخاطبين

وتأبى، ومن عجب، ثيب

تقهقه إما تميل الرءوس

وتسخر من عاشق ينحب

تدور على فتية مترفين

صباح، يزان بهم ملعب

كما دار في أفقه مشرق

من النجم أطلعه المغرب

أأندب عمراً كنبع يفيض

بأفراحه وهو لا ينضب؟!

أأندب؟ يا شؤم هذي الحياة

إذا كان مثلي من يندب

وأبي صداح هذي الرياض

وغريدها الباسم المطرب

سأضحك عمري لا أنحب

وللموت، للقبر من ينحب

على أي شيء أذيل الدموع

وأعمر جفني أوأحلب

وفيم البكاء على مقفر

من الحلم هل يمرع السبسب؟!

أأبكي على ما مل ضائع

تولى وقد لفه غيهب؟!

وأنسى غداً وهو فجر يلوح

لمن بات في ليله يرقب

سأغلي دموعي وإن ضامني

زمان بأصحابه قلب

أجوع وهذي ثمار الفتون

تصيح على الجائعين أنهبوا؟

وأظما وسلسال نبع الجمال

يغص به كل من يشرب؟

عرائس من ناضجات الجنى

ينوء بها الثمر الطيب

تدلت عناقيدها واستوت

على سوقها فتنة تخلب

يجن ببهجتها الناظرون

ويبهرهم حسنها المغرب

تمنيت لو كنت ناطورها

وهيهات هيهات ماأطلب

دمي وشعوري وزهو الصبا

إلي قدسها بعض ما أو هب

ص: 36

أطوف بمحرابها خاشعا

وأهفوا إليها ولا أقرب

لمن فجر الله هذي العيون

إذا أنا عن وردها أنكب

مآرب كم حققت في الخيال

وفي الصحو ما حقق المأرب

ولو وهب الحسن لي قلبه

لأفنيت عمري له أدأب

تباركت يا رب، هذا الجمال

صداك، إليك به، أقرب

عبدتك فيه ولكنه

جفاني، وخلفني أندب

وأو صد دوني بستانه

كأني في ساحة مذاب

أأطرد عن هيكل لم يزل

فؤادي على بابه يشعب؟!

أحبي جرم، وهبني أسأت

أما آن أن يصفح المعتب؟

رضيت هواني في عزه

وكل عذابي به يعذب

وأني فراشة نور الجمال

وهيهات عن ناره أهرب

أأهوى الجمال وأشقى به

ولو أحظ يوما بما أطلب

كأن لم أذوب على جمره

فؤاداً بأشواقه بلهب

ولم أنفت الشعر ملء لحياة

أغاريد أصداؤها تطرب

ولم أرسل المرقصات الحسان

سواحر حسادها تتعب

علام أذاد، ويحضى به

سواي وقد ضاق بي المذهب

وأتي هزار الهوى والشباب

وقيثارة المبدع المطرب

وقد فجر الحسن في مهجتي

معينا من اللحن لا ينضب

سألتك بالسحر في الفاترات

عيون الظباء لها تنسب

وبالجسد الرخص إما أنثني

وما على وقعه المنكب

وبالنافحات عبير الصبا

ونواهد قد زفها الموكب

وبالمرسلات نجاوى القلوب

أحاديث يشتاقها المعجب

ألا واحة في هجير الحياة

يموت بها الظمأ الملهب

أفيء إلى ظلها والهاً

فأنسى خطوبا بها أنصت

وأخلع عن عاتق الهموم

وما ينشر الدهر أويسحب

ص: 37

خلي الفؤاد من المؤلمات

فلا ما يسيء وما يتعب

كطفل سعيد بأعوامه

وآماله أبداً لمعب

وقد واكبته طيوف الهنا

وهش له الزمن الطيب

ولا كدرت صفو أحلامه

ليال ولا رنق المشرب

حياتي، بعد جفاف الفؤاد

فراغ يشابهه السبسب

يموت به المرح المستطاب

ويحيا به العدم المرعب

ويستيقظ اليأس من جوعه

ويصرخ جرح الظما الملهب

فلا اللهو رف على روضه

ولا طاف في أفقه كوكب

لقد غاض فيه معين الشباب

وجف به روضه المعشب

يمر عليه الربيع الضحوك

فيفزع منه ولا يقرب

كمقبرة، ما لأصدائها

مجيب، ولا بومها ينعب

جفتها الظنون فلا هاجس

يمر، ولا شبح يسرب

سوى الدور، جال بأنحائها

ونام على بابها العقرب

فؤادي بعد جفاء الحبيب

يباب، وهل يمرح المجدب

وكيف ستزكو الرياض التي

جفاها غمام الهوى الصيب

عزاءك يا قلب بالذكريات

فمنهن قوتك والمشرب

وصبرا إذا ملك الأقربون

وخان هواك الذي يحدب

وداوجراحات حب عفا

وأقفر روض له مخصب

وكن حذرا من هواك الجديد

فبرق سماء الهوى خلب

ألم تبله في قلوب الحسان

يطوف وسرعان ما يذهب

فلا تخدعنك الوعود العذاب

فكم مدمع بالهوى يكذب

شبابي، يحن إلى روضة

معطرة طيرها يصخب

أجوس بأرباضها حالماً

وتحت أماليدها ألعب

أو دع فيها لغوب الحياة

ومن فيض ينبوعها أشرب

مللت طوافي وراء السراب

وخلفي وهمي لا يتعب

ص: 38

أو رح وأغدوا بلا ما مل

ويا ويح من ليله يحطب

فأين (هنائي) أين التي

على جمر أشواقها ألهب

فيا عدمي أنت أنت المنى

ويا عدمي أنت لي ما رب

ويا أيها المترفون اللطاف

إلى، إلى ولا ترهبوا

فلست أهاب انتشار الحديث

وإن أو لوه وان أطنبوا

أسيان من خاض هوج الخطوب

شجاعاً إلى موته يركب

ومن عاش في رفرف حالماً

يخاف، ومن ظله يهرب

(أزينب) يا سحر هذي الحروف

إذا ينطق القلب يا زينب

أيا كوكباً في سماء الخيال

ينير وسرعان ما يغرب

مررت بقلبي مرور النسيم

فخلفت فيه هوى ينحب

تملكني اليأس هيا أشرقي

على فقد لغني الغيهب

أناديك، وهل تسمعين النداء

وقد بح صوتي يا زينب

بغداد - أمانة العاصمة

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 39

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

استقبال عضوين في المجمع

أحتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي باستقبال عضوين جديدين، هما الأستاذ عبد الحميد العبادي بك والدكتور أحمد عمار، فألقي الأستاذ إبراهيم مصطفى بك كلمة المجمع في استقبال العبادي بك، فبدأ بالحديث عن الشاب عبد الحميد العبادي الذي كان يلقاه في الجامعة الأهلية القديمة، وقال إن الشباب الذين كانوا يلتقون في الدراسة بتلك الجامعة، إما ممن تلقوا ثقافة إسلامية عربية بحتة، وهؤلاء كانوا يدلون بمعرفتهم للغة العربية وقواعدها وأدبها، أو ممن في المدارس المدينة؛ وهؤلاء كانوا يزهون بتعلم اللغات الأجنبية، وكان كل من الفريقين يسعى إلى التكمل بالثقافة التي تنقصه. وكان عبد الحميد العبادي من الفريق الثاني، وقد جد في تحصيل اللغة العربية، وحفظ الأشعار، وبلغ جده في هذا السبيل أن حفظ القرآن الكريم. ثم تحدث الأستاذ إبراهيم مصطفى بك عن العبادي في حياته العملية منذ أن بدأها مدرسا بمدرسة ثانوية حتى صار عميدا لكلية الآداب بجامعة فاروق الأول وأستاذا للتاريخ الإسلامي بها، وكان فيما بين ذلك أستاذ للتاريخ الإسلامي بدار العلوم، وكانت دراسة التاريخ في هذه المدرسة تتصل باللغة العربية وأدبها وبالشريعة الإسلامية وتعني بالموجات الاجتماعية في العصور الإسلامية فأهتم العبادي بك ذلك ودرسه وأداه أحسن أداء.

ثم قال إن العبادي مدرسة وحده في التاريخ؛ يتخذ المنهج الحديث ويعتمد على النص القديم، وهو ضنين بالنشر وقليل التأليف على شدة الحاجة إلى رأيه وانتظار الباحثين كلمته على أن الأستاذ إبراهيم بك لم يطل في الحديث عن العبادي بك من ناحية اختصاصه بالتاريخ وجهوده فيه، وعلل ذلك بأن المجمع أختار لاستقباله نحويا (يعني نفسه) لا مؤرخاً، وأستطرد من هذا إلى قدرة العبادي بك وبراعته في النحو مستدلا على ذلك بما جاء في تحقيقه كتاب (نقد النثر) لقدامة، إذ يناقش كثيرا من المسائل على أساس الإعراب.

ثم أعقب ذلك الأستاذ عبد الحميد العبادي، فعبر عن شكره أعضاء المجمع وحياهم تحية طيبة، ثم قال إن حلوله محل المرحوم الدكتور محمد شرف بك في عضوية المجمع يعد

ص: 40

فرصة للحديث عن الطب عند العرب، وبدأ هذا البحث بقوله إن العرب عرفوا الطب علماً إنسانياً بعيداً عن الهوى والغرض من أي نوع خالصاً من الاعتبارات الدينية والجنسية وما إليها، يدل على ذلك اتخاذ الخلفاء أطباء ومترجمين لعلوم الطب من مختلف الديانات والأجناس. وتحدث عن طائفة من الأطباء والمؤلفين في الطب، وبين أتساع اللغة العربية لمصطلحات الطب في القديم، وتحدث عن الجهود الموفقة لتي بذلت، أوائل عصر النهضة العلمية المصرية، في وضع المصطلحات الطبية، وتأليف معاجم في ذلك باللغة العربية، حتى بلغ الحديث عن معجم الدكتور شرف بك فبين خصائصه وأغراضه وأوجز تاريخ حياة سلفه وإبراز جهوده العلمية.

وكانت كلمة المجمع في استقبال الدكتور أحمد عمار للدكتور منصور فهمي باشا فأعتذر في أول كلمته عما عساه يقع في كلامه من أخطاء نحوية لأنه سيرتجل. . على أن الكلام استقام له فلم أسمع منه خطأ إلا مرة واحدة عندما قال (لست لغوى) وما كنت أعني بهذا لولا اعتذاره. . قال الدكتور منصور باشا: لست طبيباً ولست لغوياً حتى أستطيع أن أبرز مكانة الدكتور عمار في الطب واللغة. والدكتور منصور فهمي باشا من أساتذة الفلسفة فلا بد أن يجنح إليها في حديثه عن الدكتور عمار، قال: فلا أقل من التحدث عن ناحية أحسها في الدكتور عمار، وهي العصبية في اللغة التي تعتمد على نوع من الحب هو في نظري اللغة التي تعتمد على نوع من الحب هو في نظري ضرب من ضروب القومية الوطنية. وأفاض متفلسفاً في ماهية هذه الصبية وكيف نشأت حتى وصل إلى هبة من الله.

وأوجز الدكتور منصور باشا تاريخ حياة الدكتور عمار منذ حفظ القرآن الكريم في المكتب بالقرية، ذاهباً إلى أن هذا اليوم الذي يستقبل فيه المجمع عضوين حفظاً القرآن الكريم هو يوم البركة التي حلت به. .

ومما قاله أن الدكتور عمار وجه إلى الدراسة العلمية الطبية على رغم شغفه باللغة والأدب، فبرع فيها براعته في اللغة والأدب، وهذا يجلنا نعود إلى تاريخ الحضارة الإسلامية العربية، إذ كان يقال إن العالم أو الطبيب فلان ثبت في اللغة، فالعضو الجديد يذكرنا بذلك الماضي ويحملنا على الأمل في أن يستفيد المجمع من هؤلاء العلماء الذين يتذوقون اللغة العربية.

ص: 41

وبعد ذلك وقف الدكتور أحمد عمار فألقي كلمته، وكان يعني فيها بالإعراب وصحة النطق عناية ظاهرة إلى مافي أسلوبه من قوة وجزالة. شكر المجمع على اختياره واستقباله، وأعرب عن شعوره المتواضع إزاء اختياره خلفاً للمغفور له الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، وتحدث عن سلفه بما هو أهله من الإكبار وخص فنه في كتابة المقالة قائلاً إن مقالات المازني مجد أدبي عريق. واقترح الدكتور عمار في - ختام كلمته - على المجمع أن ينسج في ترجمة المصطلحات الطبية المنحوتة على نفس المنوال، أي يترجمها إلى كلمة منحوتة من كلمات غربية ذات دلالة كدلالة الكلمات التي نحت منها الأصل، ووعد بأن يبسط هذا المقترح في بحث جديد.

إقرار كلمات محدثة:

أتينا في الأسبوع الماضي بأربعة وعشرين لفظاً من الألفاظ التي أستعملها المحدثون في معان لم تسمع عن العرب الأولين، وأقرها أخيراً مجمع فؤاد الأول للغة العربية بعد أن عرضها عليه الأستاذ أحمد حسن الزيات طبقاً لما أرتاه من حق المحدثين في الوضع اللغوي وقبول السماع منهم وهو حق بعد إقراره، كما تعد الألفاظ التي أقرت، حدثاً في تاريخ اللغة العربية، وطالما اشتجرت الأفلام في هذه الألفاظ، وطالما حمي الوطيس بين الناقدين والمنقودين بشأنها وقد هدأت تلك الحرب ثم جاء إقرار المجمع بمثابة عقد الصلح فوضحت الحدود اللغوية وصار لكل كلمة اعتبارها الذي لا يجوز الطعن فيه وهاك بقية تلك الكلمات:

25 -

الثقافة: مصدر ثقف صار حاذقاً والمحدثون يستعملونها اسماً من التثقيف وهو التعليم والتهذيب، ومنه قول القائل (ولولا تثقيفك وتوفيقك لما كنت شيئاً) فهي عندهم تقابل لفظ عند الفرنج.

26 -

ينقصه كذا - يستعمل المحدثون (بنقصه) بمعنى يعوزه، فيقولون هو عالم ولكن تنقصه التجارب، والعرب يقولون: نقصت الشيء أذهبت منه شيئا بعد تمامه.

27 -

المقاولة والمقاول: قاوله في أمره مقاولة: فاوضه وجادله: ومن المفاوضة والمجادلة أطلق المحدثون المقاولة على عملية يتعهد فيها طرف بتنفيذ مشروع لقاء أجر معين يؤديه الطرف الآخر والمتعهد بالتنفيذ مقاول.

ص: 42

28 -

الإخراج والمخرج: يقولون أخرج الرواية: أظهرها بالوسائل الفنية على المسرح أوالشاشة فهو مخرج،

29 -

الحماس: سمع من المحدثين استعمال الحماس بدون تاه والمسموع عن العرب الحماسة.

30 -

المران: كذلك يقول المحدثون (مران) بدون تاء، والمسموع عن العرب مرانة.

31 -

الرصيف: يستعمل المحدثون الرصيف بمعنى الإفريز فيقولون رصيف المحطة الثاني مثلاً، والرصيف في اللغة ضم الحجارة بعضها إلى بعض ثبات ونظام وإحكام، وعمل رصيف؛ محكم رصين ومن المادة أن يكون رصف الشارع أوالمحطة كذلك.

32 -

الجرد: بالفتح بقية المال، والمولودون يستعملونه في إحصاء ما في المخزن أو الحانوت من البضائع وقيمها، وقيمها.

33 -

التصفية: صفي الماء نقاه، وقد استعار المحدثون التصفية لتنقيح الحساب وتحرير الدين وحل الشركة وتأدية ديونها وتفريق مابقي من أموالها على أصحابها وهي ترجمة لكلمة في الفرنسية والإنجليزية.

34 -

السباكة والسباك: سبك الفضة ونحوها أذابها وأفرغها قالب وقد توسع المحدثون في هذا المعنى فأطلقوا السبك على معالجة المعادن المختلفة بقطعها ووصلها وإصلاحها واشتقوا منها السباكة للحرفة والسباك للصانع.

35 -

الجو: العرب يجمعون الجو على جواء والمحدثون يجمعونه على أجواء.

36 -

بائس: يجمعه العرب على بائسين، ويجمعه المحدثون على بؤساء.

37 -

زهر: يجمعه العرب على أزهار، ويجمعه المولودون كذلك على زهور.

38 -

الكوز: يطلقها المحدثون على مطر الذرة، ولم يسمع على العرب.

39 -

الجسر: ما يعبر عليه كالقنطرة ونحوها، وقد توسع فيه المحدثون فأطلقوه على ضفة الترعة وعلى الحد الفاصل بين أرضين وإتماماً للفائدة نورد في ما يلي مما أحيل إلى لجنة الأصول لبحثه ثم نتبعه بذكر ما رفض.

1 -

السمك والسميك: السمك بالفتح الارتفاع ومن أعلى البيت إلى أسفله والثخن مطلقاً ويشتقون منه السميك بمعنى الثخين.

ص: 43

2 -

المتحف: القياس (متحف) ضم الميم والمحدثون يؤثرون الفتح للتخفيف،

3 -

الشبهة: الشهية مؤنث الشهي والشهي المشتهى والشهوان، يقال رجل شهي أي شهوان، وشيء شهي أي لذيذ، والمحدثون يستعملون الشهية بمعنى الشهوة، ويخصصونها للرغبة في الطعام، فيقولون أصبح موعوكاً لا يجد الشهية للطعام، أما الشهوة وهي حركة النفس طالباً للملائم فقلما تستعمل في هذا المعنى.

4 -

الصدفة: يستعملها المحدثون اسم مصدر بمعنى المصادفة ولم تسمع عن العرب.

5 -

التقاوي: يستعملها المحدثون في الحبوب التي تبذر النبات، والعرب لا يفهمون منها إلا تقاوي الشركاء في المتاع تزيدهم فيه.

6 -

موس: وجمعه أمواس: يطلقه المحدثون - من باب التخفيف - على الموس وجمعه مواسي.

7 -

قراءة الأعداد المركبة مع المائة فما فوق: يقرأ العرب الأعداد المركبة مع المائة فما فوق من اليمين إلى الشمال فيقولون نحن في سنة إحدى وخمسين وتسعمائة وألف والمحدثون يقرءونها من الشمال إلى اليمن تأثراً بلغات الغرب فيقولون نحن في سنة ألف وتسعمائة وإحدى وخمسين.

8 -

غيور: العرب يجمعون غيوراً على غير والمحدثون يجمعونه على غيورين.

أما الأربعة الألفاظ التي رفضت فهي:

1 -

أمجاد الأمة: يريد المحدثون بأمجاد الرجل والأمة مناقبه ومفاخره ومآثره، والعرب يريدون أشراف الناس وكرامهم، قال معالي الرئيس الأستاذ احمد لطفي باشا هذا التعبير لا ضرورة له.

وقال الدكتور إبراهيم مدكور إن اللغة العربية غنية بالكلمات التي تؤدي هذا المعنى.

2 -

المقهى: القياس في (مقهى) ضم الميم ولكن المحدثين يفتحونها من باب التخفيف وخير منها لفظ (القهوة) رأي الرئيس أن تحذف هذه الكلمة لثقلها والاكتفاء بكلمة القهوة التي أقرت.

3 -

العضو: سمع من المحدثين إدخال التاء على العضو فيقولون فلانة عضوة في الاتحاد النسائي قال الأستاذ أحمد العوامري بك لا أرى إدخال تاء التأنيث على كلمة (عضو) فلماذا

ص: 44

لا نقول: هي عضو في الاتحاد النسائي مثلاً؟

4 -

حفيد: يجمعه العرب على حفدة ويجمعه المحدثون على أحفاد.

عباس خضر

ص: 45

‌القصص

اليتيم

للقصصي الفرنسي الكبير فرانسوا كوبية

بقلم الأستاذ عبد اللطيف حسين الأرناؤوط

. . . غامت الدنيا في عينيه. . واكتفت سحب الشقاء حياته. . وضاقت دائرة وضاقت دائرة عيشه حتى كاد أن يهجر حياته. . وينتقل إلى حياة ثانية سعيدة هانئة أبدية. . شأن كل شخص يكرس وقته ويضحي بهجة عمره. . في سبيل وضع قصص وتأليف روايات. . حيث يعصر كل ما لديه من موهبة وعزيمة يقدمه إلى الجمهور كي يرضيهم. . ومن وراء هذه المهنة. . . كان يرتزق ما يسد رمقه ويسكن جوع أمه وذلك مدة خمسة وعشرين عاماً. وهو لا يفتأ يكتب للصحف دون أن يبتسم له السعد. . ودون أن يحالفه الحظ ليدفعه في عداد الكتاب المرموقين والمؤلفين المعدودين. ولكنه كان برضي بهذا اليسير وبحد الله على نعمائه. . ويشكره على ما أسبغ عليه. .

ولم يتركه الفقر بما هو عليه. . بل نشر سحابة على منزله الذي اختاره في أحد أحياء الفقراء المعوزين. . ولم يجد في حياته أحداً ليزيل عنه شبح الحاجة. . ويشاركه في حرمانه وشقائه سوى والدته العجوز التي أضناها الداء. . وأقعدها العجز.

هذه هي حياة (جان فينول) الكاتب الروائي الذي كان ينشر رواياته. لكنها لم تلق قبولاً حسنا بين الجمهور: إذ أنهم كانوا يجدونها فارغة جوفاء. . لا أثر للحياة فيها. . صامتة خرساء. . لا سبيل للعاطفة إليها. . خالية من الإبداع حتى أن رئيس تحرير أحد الصحف قال له ذات يوم: إن القراء ينكرون صدق عاطفتك. . وقوة وحيك. . وخصب خيالك. . فأرجو أن تمد قصصك ورواياتك من خيالك الواسع حتى تلبسها ثوباً قشيبا من البهجة والروعة. .

وسكت جان على مضض. . وقد تحير فيما يجيب. . إلا أنه أرسل زفرة حرى انبعثت من صميم فؤاده الملكوم. . وأخذ يحدث نفسه: إنني أعتقد بموهبتي أنها أرفع شأناً. . وأعظم قدراً من أن أكون واضع روايات ومؤلف قصص لإحدى الصحف) وخرج من عند رئيس

ص: 46

التحرير مهيض الجناح. . ومنكسر الخاطر. . منطوياً على نفسه. . تاركاً عنان حياته للقضاء والقدر. . فلا يدري ما يخبئ له الزمان. . ولا يعلم ما يضمر عنه الغد. وظل صابراً على الأذى، مقيماً على الضيم والحرمان. . حتى امتدت يد المنون إلى منزله. . وسلبت والدته من حياته فتركته وحيداً مفرداً. . لا أنيس له. . ولا رفيق يشاركه لوعة حرمانه. . وعذابه. . وشقائه. .

ولم تمض مدة على وفاة والدته حتى تسرب الملل إلى نفسه، ورأى السأم في حياته. . فأحاطت عيشه هالة دكناء. . وغمرت بيته. . فإذا بالوحشة تتمثل أمام عينيه وتتراءى له عن كثب كأنها أشباح تتراقص وتزغرد لتسلب منه كسرة الخبز التي يتناولها كل يوم مرة. .

فقد الأمل. . وضاع الرجاء. . دون أن يهتدي إلى شعاع يستمد منه السعادة المسلوبة. . وكان بين حين وآخر يستلق على مقعده ويحدث نفسه: يا إلهي. . ما هذا الشقاء البرم. . وما هذه الحياة الدكناء. . ألا تعساً لها. . وسحقاً لمن يرضخ إليها. .

وذات ليلة دخل غرفته كعادته. . متهالكاً على نفسه. . يجر خطاه جراً. . وألقي نظرة على أثاثه الذي أكل الدهر عليه وشرب وجلس وراء مقعده ليشرع في كتابة قصة للجريدة. . والتفت إلى نار المدفأة. . فرآها خامدة كحياته، لا أثر لها وأراد أن يوقدها. . دفعاً للبرد القارس ووقاء من الزمهرير العاتي. . وفتش عن عود ثقاب. . فلم يجد وهم بالنزول لشراء علبة جديدة ولكنه تريث قليلاً إذ طرأ على فكرة أن يفترض واحدة من جارته العجوز (أم ماتيو) التي فقدت أبنتها الوحيدة بعدما ترملت وخلفت طفلا لترعاه جدته العجوز. .

طرق جان الباب على الأم ماتيو. . ليسأل حاجته منها. . ففتحت له. . وألقى نظرة عليها فرآها وقد أضناها التعب وأنهكتها الفاقة. . ومد بصره إلى الداخل. . فشاهدها وقد جمعت فراشها. . وحزمته على ضوء شمعة ذاوية. . فبادرها: ماذا تفعلين. . وأي شيء تصنعين. .؟؟ وما السبب الذي دعاك لأن تربطي الفراش. . فأجابته بعد ما طفرت الدموع من عينيها: إنك كما ترى. . لقد صممت ان أذهب. . وأرهن فراشي مقابل مبلغ. . لأني في حاجة قصوى إليه. .

فقال: ولكن. . ترهنين فراشك لحاجتك؟

ص: 47

قالت: نعم. . إنني مرغمة على ذلك. . فقد بلغني اليوم أن شقيقتي أقعدها المرض وقد رفض قبولها في المستشفى. . لأنها لا تملك ثمن دواء. . ورأيت أن واجبي نحوها يدعوني أن أقدم إليها المساعدة. . فلم أجد سوى أن أرهن فراشي راضية أن أفترش الأرض. . حتى يتسنى لي أن أجمع هذا المال فأرد به فراشي. . على أن أذهب الآن. . قبل فوات الأوان. . أما الطفل فلا أدري أين أو دعه ريثما أعود. . فهزت الشفقة والرحمة نفس جان فترقرقت دموعه في عينه وقال: دعي فراشك هنا. . وإنه ليسوئن أن أراك على هذه الحال. . هاهي عشرة فرنكات أقدمها إليك لتستعيني بها على شراء الدواء لشقيقتك المريضة. . أذهبي حالا الآن. . واتركي الطفل هنا. . أقوم على حراسته حتى تعودي. .

وحاولت أن تشكره على شهامته. . ولكن الكلمات ارتبكت على لسانها. . واستعصت في فمها فأنفجر الدمع من عينها. . وغادرته بعد ما عهدت إليه بطفلها. .

واستلقى جان فوق الفرش المحزومة. . وأخذ يتأمل أثاث الغرفة والطفل أخرى ويناجيه بقلبه: أيها الطفل المسكين. . هذه هي جناية آبائنا. . وأمهاتنا. . يرموننا في هذه الحياة بالرغم عنا. . دون أن يأخذوا رأينا. . ولو سئلنا. . لا ريب كان جوابنا. . لا. . لا نريد أن نحيا. .

ثم يعود إلى نفسه ويتساءل: ما أكثر أمثال هذا المسكين. . حيث ينتظرهم المستقبل المبهم. . ليقذفهم في مضمار شقائه. . فأي مستقبل ينتظرهم. . وأي صباح يبتسم لهم. . وأي مساء يقطب أمامهم. .

مسكين هذا الطفل. . فها هي جدته قد أنهكها طول العهد. . وقد أصبحت على حافة القبر. . تنتظر موافاة المنية بين يوم وآخر فأي مصير سيكون لهذا المسكين وأي سبيل سينتظره. . علم الله. . عله يكون من هؤلاء المنبوذين. . المتشردين في أرض الله. . يتخبطون في خضم من الجنايات وينساقون في سيل من الجرائم هؤلاء اللصوص الذين يودعون حياتهم بين جدران السجن في عذاب. . وألم. . وحرمان. .

وهكذا تسلطت هذه الأفكار. . واستولت رأس جان. . فانطلقت الدموع إلى سبيلها. . وهو مطرق ساهم. . يتأمل الطفل حيناً. . ويسبح في خياله وقد خيم عليه الهدوء والسكون. . إلى أن دخلت عليه الأم (ماتيو) فوجدته على حاله يبكي. . فاستخبرته عن سبب بكائه

ص: 48

فأجابها: لاشيء. . فكرة ألمت بي ولكنني أريد أن أقترح عليك. . عملا نقوم به سوية. . فما رأيك. .

فأجابته: حسناً تفعل. . وما هو. .؟؟

قال: ماذا تقولين. . فإن ما أحصله من المال. . يكفيني. . ويكفي والدة لي - لو كان لي والدة - فهل ترضين. . أن تشاركيني العيش مع طفلك الصغير. . وبذلك نضع جل اهتمامنا في تربية هذا الطفل. .

فصاحت الأم من أعماق فؤادها بعد ما سمعت ذلك. . وهمت أن تركع أمامه لتشكر رجولته. . وتحي شهامته. . ولكنها تمتمت بعدما غلبها الدمع: يالك من رجل. . تريد أن تنق حياة طفل بريء. .

وبعد مضي مدة من قيام هذه الأسرة على قدم من الفقر وساق من الفاقة. . كان خلالها جان قد أنهى روايته الجديدة التي أطلق عليها أسم (اليتيم) وما أن انتشرت بين الناس حتى نالت رواجاً لا مثيل له. . وأحرزت تقديراً من جميع القراء على اختلاف ميولهم وأهوائهم. . فقد أحس كل فرد منهم بالروح الحية التي تنبض فيها. . وفي أحد الأيام. . التقى جان برئيس تحرير الجريدة. . فبادره قائلاً: إنني أرحب بك اليوم. . وأقدم لك أجمل التهاني. . وأعظم التمنيات على روايتك (اليتيم) وإنني أصبحت أحد المعجبين بها. . فقد لاقت. . رواجاً كبيراً في أكثر المدن. . فإذا كتبت بعد اليوم قصة أو رواية. . فابعثها إليَّ كي أنشرها لك بكل سرور وامتنان مقابل ثمن ترضى عنه. .

ومنذ ذلك الحين حالفه. . وأقبل النجاح عليه. . فأبح من الكتاب المرموقين في المدينة. . بينما لم يغير منهاج حياته. . وظل يعيش مع الطفل وجدته عيشة. . راضية هنيئة. . ترفرف عليهم السعادة والوئام. .

دمشق

عبد اللطيف حسين الأرناؤوط

ص: 49

‌البريد الأدبي

صوت القطيع

لم ترهبين السير أيتها الحائرة البلهاء وتتهربين، وتصمين أذنيك

الحادي المسحور عندما يبتغي إدخال بعض النور وقت اشتداد الكروب

ليسهل السير ويمضي القطيع؟ لم تهربين من الجمع الصاخب وسط

الطريق، وترفعين عن اللغو والصخب المحبوب عند الجموع، أو

تمضين في الفقر المجدب وسط الهجير، بلا غاية ترجين أو ترقبين؟

ويدمي خطاك الشوك عند المسير، وتكتوي بالهجير منك الضلوع، وترهبك الأشباح عند اشتداد الظلام، وتفزعك الأصوات وقت هبوب الرياح، ويوحي لك الليل بشتى الهموم.

سيرى مع الجمع الراكض خلف (الحداء) واستقبلي الأضواء في فرح الكاسب بعض العطاء وصفقي للنور مهما بدا خافتاً، وأنسي شقاء السير واستبشري، وتوهمي الراحة بعد العناء!

هيا مع الجمع لا تعبئ بالشوك بين الخطى، فلن تشعري بالوخز بين القطيع، ولن تفزعي من الليل بين القفار، ولن تشعري بالوخز بين القطيع، ولن تفزعي من الليل بين القفار، ولن تهلعي للريح بين الصخور، ولن تصل الشمس وحر اللظى، إلى مستظل بظلال الجموع.

هيا ولا تأسي لغبن مضى أوشقاء مرير، ولا تغبطي السائر تحت الظلال، ولا تحسدي اللاهين قرب الغدير، فالكل مرفوع وراء (الحداء) إلى عالم المجهول لا يعرف سر المسير؟ هيا فلن يبقي شقي أو سعيد، ولن يأخذ المغبون معه الشقاء، وسوف يلقي الكل أعباءهم بعد حين، ويلتقي الباكي مع المسعدين، ويملأ الصمت مكان الضجيج وتطمس الريح خطى الذاهبين!؟

آنسة أمينة فطب

أبدل به وأبدل منه

ص: 50

(ويجوز إبدال ورقة امتحان اللغة الأوربية بورقة إضافية في اللغة العربية).

هذه العبارة التي جريدة (المصري) في قانون التعليم الجديد لم يرض بها كاتبنا الكبير الأستاذ عباس خضر، فخطأها في (كشكول) الرسالة في العدد (932). . والذي أفهمه أن (أبدله من كذا). فالحرف (من) يدخل على المتروك و (الباء) تدخل على مقابله، قال ابن مالك:(فأبل الهمزة من وأووباء) وجاء في المصباح: (أبدلته بكذا إبدالاً: نحيت الأول وجعلت الثاني مكانه)، وعلى هذا فعبارة (المصري) صحيحة لأنها تريد تنحية الأولى وجعل الثانية مكانها. . وباستعراض المادة في القاموس المحيط نرى: تبدله وبه، واستبدله وبه، وأبدله منه، اتخذه منه بدلاً) ولم يورد (أبدل به) بمعنى (أبدل منه). . ولست بحاجة إلي مثل أقرب الموارد أو غيره من كتب اللغة، حيث ورد في إحداها وهو (المصباح) ما ينفي الخطأ عن عبارة (وزارة العلم) في جريدة المصري. .

. . هذا رأي. . تطيب نفسي بأن يبدل بغيره ما وجد الأستاذ الكبير له معتمداً من التخريج والبيان، وإليه مني تحية خالصة.

محمد محمد الأبشبهي

مواكب الذكريات:

الشعر اليوم في ركود، ودولته الآن غير مرفوعة اللواء، وسوقه كاسدة، قلت بضاعتها وقل الممتارون منها لأنفسهم؛ وأصبحنا نتلمس مواكب الشعراء التي كانت فنجدها قد توارت، أو اكتفت بجنبات غير مرئيات، وغدا المرء إذا رأى ديوان شعر يبدو في عالم الأدب أقبل عليه وفرح به وذهب ينشد ما كان يلقاه بالأمس من روعة الشاعر وفتنة الشعر. . .

وهذا ديوان جديد، هو (مواكب الذريات) للشاعر الماجد الأستاذ حسن عبد الله القرشي كبير المذيعين بمحطة الإذاعة العربية السعودية، تناولته فإذا المظهر الرشيق والفن الدقيق والحلة الفاتنة والطبع الأنيق، ولكن ذلك لم يستمهلني طويلاً، فأنا طلاب مخبر لا مظهر. . ووجدت الزيات العظيم - وهو ضنين بالثناء على غير أهله - يطوق جيد الديوان بعبارته الموجزة البليغة:(في (مواكب الذكريات) نفحات من الحجاز، ولمحات من قريش، ونغمات من ابن أبي ربيعة، وإن في أولئك كله الدليل على أن مشارق النور لا تزال تهدى، ومنازل

ص: 51

الوحي لا تزال تلهم)!. .

ثم وجدت الشاعر الفرد يعرف طريقه حين يقول في مقدمته، (وليس من ريب في أن الشعر القمين بالخلود هو ما كان مرآة لنفسية قائلة، هذه المرآة تريك صورة من تجارب الشاعر، وملابسات بيئته وعصره، وظلال الأجواء التي يستوحي منها شعره، ولابد أن تكون صادقة في التعبير عن ملامح فنه، وأن تستمد صدقها الفني من حرارة العاطفة وتوهج الشعور، ووضوح التجربة وتفاعل الثقافة).

وذهبت أتلمس الشواهد على ذلك الذي قال فإذا هي مائلة في الديوان، وإذا هي كثيرة، وإذا هي تدل على عراقة في الشعر برغم قصر العهد، وشاعرنا في نضرة الشباب الآن، وإذا هي تنبئ عن مستقبل يفيض بالخير العميم في ميدان الإنتاج الشعري، فلو تضافرت جهود الشعراء من طراز ذلك الجهد، مع التجويد والتعبيد، لا ينتظرنا للشعر دولة تقوم فتعيد الإيمان به كركن من أركان الأدب الرفيع، على أني كنت أطمع أن أجد في الديوان السيل الغامر من (الإسلاميات) و (الدينيات)، ولا عجب في هذا الطمع، فالشاعر حجازي قرشي، وهو نفسه يقول في الديوان:(من روابينا هفا نور النبوة)؛ ولقد وجدت قطرات مما أريد متناثرة خلال الديوان، وكنت أطمع في المزيد، ولكن يظهر أن شبيبة الشاعر هي التي أوحت إليه أن يهيم في أو دية الجمال والخيال، وأن يستجيب لهفوات الجلوات والصبوات، وما في ذلك من عاب، فالعندليب الصداح اليوم بالهوى والشباب، سيكون له في العروبة والإسلامية غدا كتاب وأي كتاب.

للشاعر الغرد كريم التحيات، ولديوانه الجديد صادق التقدير!. .

احمد الشرباصي

المدرس بالأزهر الشريف

من صور الحياة

لي صديق عرف بالتقوى، جاءني مرة عابس الوجه قائلاً: أن أشد ما يؤلم النفس ويضعف الهمة أن يهدر الحق وتنطمس معالمه، وقد يزول أثره ثم يقام على أنقاضه الباطل على هوانه ليصبح على ضعفه مدوياً!

ص: 52

قلت وما ذاك؟ فقال: ذلك أن من يعتز بشخصيته ويتفانى في أداء واجبه غير حاسب لأحد حساباً سوى ضميره والخوف من الله تعالى؛ غير مرضى عنه لأنه غير سائر في ركب الحياة الدراجة غير ماهر في التزلف والنفاق، بل لم تطبعه الأيام بطابعها الذي يبتسم بالرياء والمداهنة. . .

تلك هي جنايتي! ولا يكون من ورائها إلا أنني - على اجتهادي - أقل من غيري نجاحا في عملي، وفي هذا قلب للحقائق وتمويه شنيع مما يجعلني أسائل نفسي: أليس هناك تقدير، أليس هناك ضمير؟ ثم حيرتي بل حزني بين ضميري وواجبي!

عند ذلك أسفت واعترتني دهشة بل حسرة ثم نظرت إليه بهدوء وقلت: استعن بالله ولا ضير عليك ما دمت تعمل ما يرضي الله وضميرك، ولا يحزنك ما تراه من غمط الحق فالحياة هكذا وتصاريف الأقدار على الرقاب؛ كل يوم ذات لون جديد يحير العقول والإفهام!

ثم تدور الأيام ويذهب ذلك العهد إلى غير رجعة ويأتي عهد جديد تقدر فيه القيم، ولا ينظر فيها غير العمل المنتج والشخصية التي تعمل بهدوء وبدون ضوضاء.

وهكذا يقابلني صديق منبسط الأسارير منشرح الصدر قائلاً من فوره: قد انقشعت الغمة وزال، ومضى ذلك العهد البائد، عهد التزلف والنفاق، وفتح عهد جديد يشيد بالحق نوعا ماً.

فقلت له: على رسلك! لا تفرح الفرح كله، فسترى بعد ذلك ما يسرك أكثر مما ترى ثم ما يبغضك ثم ما يرضيك، وهكذا دواليك وفي ذلك المعنى الحقيقي للحياة في تناحرها الدائم!

ثم نظر إلى بعد أن لاذ بالصمت برهة قائلاً: أصحيح ما تقول أيها الصديق؟ فقلت له: لعلك - يا أخي - لم تجرب الحياة بعد وقد يكون ذلك لقرب عهدك بها أو لقرب عهدها بك، فستراها أمامك واسعة رحيبة مرة ثم تراها أضيق من سم الخياط! فلا تحزن الحزن كله؛ بل لا تفرح الفرح كله!!

محمد منصور خضر

الغزى ليس من الحنابلة:

قرأت ما كتبه الأستاذ الجليل إبراهيم الابياري في مجلة الرسالة الغراء عدد 931 عن طبقات الحنابلة لابن رجب؛ وقد قال ومالي أنسى أن الغزي الحنبلي انتهى في طبقاته إلى

ص: 53

سنة 1027 وأن الشطي وصلها إلى سنة 1325 أقول وهل يسمح لي أستاذنا الجليل أن أذكر ملاحظة صغيرة عن الغزي - الآنف الذكر - إذ أنه قد حنبلياً وهو ليس كذلك، بل هو شافعي وكان مفتي الشافعية في زمانه وقد ذكره الشطي في مختصره ص 145 قوله (ولنذكر قبل الشروع في ذيلنا نبذة مترجمة سلفنا الغزي المشار إليه كما فعل هو سلفه عند استفتاح ذيله، وذلك تنويها بفضله وشكراً صنعه، وإن يكن غير حنبلي فإنه أخذ عن الحنابلة وخدمهم جزاه الله خيراً بما لم يخدموا به أنفسهم فنقول ملخصين ترجمته عن تاريخنا روض البشر في أعيان القرن الثالث عشر الذي عنينا بجمعه منذ سنة 1323 (هو أبو الفضل كمال الدين محمد بن محمد الشريف بن شمس الدين محمد بن عبد الرحمن زين العابدين بن زكريا بن بدر محمد بن رضي الدين بن محمد رضي الدين أيضاً بن شهاب الدين احمد الغزي العامري والدمشقي واحمد هذا هو جد بني الغزي الأعلى الذي جاء من غزة هاشم إلي دمشق سنة 770 وتوفي سنة 822 الشيخ العالم الفاضل الفقيه الفرضي الأديب مفتي الشافعية بدمشق وأبن مفتيها صاحب التصانيف الفائقة، والمجامع الرائقة، ولد بدمشق في تاسع عشر جمادي الثانية سنة 1173 وولي إفتاء الشافعية بدمشق بعد وفاة والده في محرم سنة 1203 وألف مؤلفات لطيفة أغلبها في التاريخ والأدب، فمنها هذه الطبقات التي سماها (النعت الأكل لأصحاب الإمام أحمد بن حنبل) ورتبها على ثلاث عش طبقة كل طبقة لخمس وعشرين سنة من أو القرن العاشر، مصدره بمقدمة ذكر فيها سبب التأليف وشيوخه من الحنابلة) ألح وتحيتي للأستاذ الجليل.

عبد العزيز المانع

ص: 54