الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 934
- بتاريخ: 28 - 05 - 1951
عقبات تعترض النهضة في البلاد العربية
للدكتور محمد يوسف موسى
نعم، كلنا نحس إحساساً شديداً هذه الأيام بأن هناك عقبات تقف في سبيل النهضة في البلاد الشرقية أو العربية أو الإسلامية، وكل هذه التعبيرات تؤدي في رأينا مدلولاً واحداً. عقبات يرجع بعضها إلى سوء توزيع موارد الثروة الطبيعية إلى حد شنيع يثور من أجله الضمير والدين، فكان من ذلك الفقر والحرمان والجوع، وهذاثالوث بغيض ولا سيما وهو لم يدع لنا لحظة نفكر فيها في الغد، بله نهضة الوطن الأكبر! ويرجع بعضها، في رأي غير قليل من الكتاب، إلى أننا لم نطلق الانطلاق كله في اصطناع مظاهر الحضارة والحياة الغربية، متناسين أن لكل أمة مقوماتها التي بها يكون كيان خاص محترم. كما يرجع بعضها الآخر إلى أن الزعماء والساسة لا يريدون حقاً هذه النهضة، ما داموا لا يتخذون الطرق المؤدية لها.
على أن هناك عقبة أخرى لها في رأيي الخطوة البالغة، ومن ثم يجب أن نفعل - ولكن في تؤدة وتبصر - على إزالتها من الطريق، نعني بها افتراق عقلية الأمة العربية افتراقاً كبيراً إلى عقليتين مختلفتين، كل واحدة منهما لها فهمها للحياة وأهدافها ووسائلها التي تعارض وما للعقلية الأخرى من هذا كله، وبذلك يشقى العالم العربي بين هاتين العقليتين المتباعدتين:
عقلية مدنية تعرف الغرب وتأخذ عنه وعن نظمه وتقاليده وحضارته، أكثر بكثير ما تعرف العروبة والإسلام وحضارته. 2 - عقلية دينية تجهل علوم (العصر) وحضارته، ونشأت على الدين دون أن نفهمه صحيحاً أو تعنى بتطبيق مبادئه وأصوله، والحكم هنا طبعاً على المجموع لا على الجميع.
ورجال العقلية الأولى بيدهم أمر الحكم وسياسة البلاد، وقد فتنهم الغرب بمظاهره الخادعة، وجهلوا الدين جهلاً يكاد يكون تاماً فاحتقروا ممثليه، وظنوا من الخير التخفف منه ومن تقاليده، لأنه - كما زعموا - لا يساعد على النهوض، وتناسوا لجهلهم بالتاريخ مقدار ما أفاد الغرب والإنسانية عامة مما في الإسلام وحضارته من حيوية ومبادئ صالحة للحياة القوية العزيزة الكريمة إن هؤلاء الناس لا يعرفون، حين يشيدون بما قررت الثورة
الفرنسية نم حرية وإخاء ومساواة، أن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه هو الذي وضع أساس ذلك كله مستوحياً روح الإسلام - حين قال:(لم تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)! وحين رفض أن يصيب من طعام لا يجد عامة المسلمين السبيل إليه، وكان ذلك الطعام من سنام جزور! ولا يعرفون كذلك ان عمر أيضاً هو الذي وضع الأساس العملي للعدالة الاجتماعية وضمان المعيشة الطيبة للناس جميعاً، بما فرض على الدولة من نفقة للفرد - بله المسلم! - وعياله حين يعجز عن العمل.
أما رجال العقلية الدينية، فقد عرفوا ظاهراً من الدين، حين ظنوه رسوماً تقام وعبادات تؤدي فحسب، وتجاهلوا حقيقته وغايته ووسائله، جهلوا أو تجاهلوا أن للدين رأيه في تحصيل القوة، ورأيه في الحرية والمساواة بين الكبير والصغير، فلا سادة ولا مسودين إلا بالعمل الخير يقوم للوطن والأمة. جهلوا أو تجاهلوا أن الدين، فضلاً عن أنه صلة بين العبد وربه تقوم على ما نعرف من شعائر وعبادات مقدسة، يدعو في إلحاح إلى أن تقوم العلاقة بين الانسان وأخيه الانسان، أو بين الحاكم والمحكوم، عل أساس العدل والتسوية، كما يدعو في إلحاح كذلك إلى عدم الخوف من الله وحده، وإلى أنه لا طاعة لمخلوق، مهما علا شأنه، في معصية الخالق. أليس رسول هذا الدين صلوات الله وسلامه عليه، يقول:(السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما بم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)، أو كما قال!
ولو عرفوا ذلك معرفة حقة لجاهدوا مع المجاهدين في بعث الأمة من نومها، ولأعدوا الشعوب للمطالبة الجادة القوية بحقوقهم، ولجعلوا بهذا ولاة الأمر في الشرق من عوامل نهضته بدلا من أني كونوا حجر عثرة في طريق هذا النهوض.
لقد عكفنا على الماضي وحده، وتجاهلنا العصر ومعارفه وعلومه التي لا بد منها للنجاح في الحياة، ولتسخير الكون لنا كما أمر الله، واكتفينا بترديد أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. دون أن نكلف أنفسنا محاولة تبين أن له حقاً هذه المزية والفضيلة، وهذا لا يكون إلا بالبحث والمقارنات بين النظم القائمة وبين نظم الإسلام وتقاليده.
كان من هذا، كما نرى ونلمس، أن زادت الهوة بين فريقي الأمة اتساعاً. وكان من هذا أيضاً، أن صارت الأمة لا تسمع لنا، نحن رجال الدين، ما دمنا نعيش في نطاق خاص
محدود، وما دمنا لا نضرب بأعمالنا للأمة المثل الطيبة الصالحة في تقويم المعوج وإن أوذينا في أرزاقنا وأنفسنا وأبنائنا!
ولا علاج لهذا في رأينا إلا بتوحيد التعليم على أساس قوى من التمكين للدين والثقافة الإسلامية، بأوسع معانيها وحدودها، في مرحلة التعليم العام، الابتدائي والثانوي ثم بعد هذا، يجب ألا نكتفي بالماضي نتغنى بأمجاده، بل علينا أن نبني عليه فنصل الماضي بالحاضر، وأن نفيد من حضارة العصر، فنعمل على أن يكون منا، بجانب الغربيين، مخترعون ومكتشفون ورجال صناعة. ولن يكون لنا هذا كله أو بعضه، ما لم نقض على هذه الثنوية في التعليم الأساس الذي بيناه، وحينئذ يتعاون أفراد الأمة جميعاً، سواء من آثر بعد المرحلة العامة في التعليم التخصص في العلوم المدنية، ومن آثر التخصص في العلوم والثقافة الدينية الإسلامية.
هذا، والله يهدينا جميعاً سواء السبيل.
محمد يوسف موسى
بحث مفارق
أصلكلمة (ختن)
للأستاذ الأب مرمرجي الدومينيكي
يتهمني بعضهم بالتعصب الشديد للعربية لمجاهرتي بتفوقها على أخواتها السامية من وجوه شتى، منها محافظتها على الأصول البدائية العريقة في القدم. ويرشقني غيرهم بسهام الملام ناسبين إلى (الابتداع في العالم اللغويات) لقولي بأن (الثنائية والألسنية السامية) من أنجع الوسائل للتحقيقات المعجمية، ومن أمكن الأسس للاشتقاقات اللفظية، والتطورات المعنوية.
على أن أفضل السبل في نظري وحسب خبرتي للرد على هذه المدعيات هي اللامبالاة مع المثابرة على اتباع خطتي المختطة من أمد بعيد، وترك الخيار لأهل الذوق والعلم في قبول النظرية أو رفضها.
في هذه الفرصة أتخذ موضوعاً للبحث كلمة (ختن) الزاعم بعضهم بأنها سريانية دخيلة في العربية. وقبل إمعان النظر في الموضوع أسرد مواد البحث كما هي واردة في الألسنة السامية.
السريانية: خالية من المجرد. وفيها (حثنا): ختن، صهر، عريس. (حثين) خاتن، صاهر. (إثحتين): صاهر، تزوج.
العبرية: (ختن)، حمو:(خوتين): زوج ابنته، تصاهر. (هتختين): تصاهر. (خوتن): صهر، ختن، زوج البنت، عريس وقربى.
الأكدية: (ختانو): قطع، حمى. (ختنو) سكين، موسى، حماية. (ختانو): صهر، ختن، حمو.
الحبشية: لاوجود فيها لهذه المادة.
العربية: ختن: ختن الشيء: قطعه. ختن الغلام: قطع فلقته. اسم الفاعل: خاتن. اسم المفعول: مختون وختين. المصدر. ختن وختان، ودعوة الختان. حرفة الخاتن: الختانة. الختن: الحمو، وكل من كان من قبل المرأة، مثل الأب والعم والأخ. والختن أيضاً زوج ابنة الرجل، أو صهره. وأصل المعنى في هذه المادة القطع
تنسيق وتعليل:
1 -
إن الرس الأصيل لهذه المادة وارد في العربية وحدها، دون بقية أخواتها السامية. وهذا الرس هو الثنائي (خت)، المراد به: طعن بالسنان متداركاً. وهو بدء المعاني المتطورة، وفي الطعن قطع.
2 -
توسع الثنائي (خت) بزيادة النون تذييلاً، فنجم عنه الثلاثي (ختن) ومعناه الأول: قطع، من باب الإطلاق. وهذا مدلول القطع وارد أيضاً في الأكدية، في لفظة (ختانو). ومنه (ختنو): سكين، موسى، أي آلة القطع. ثم دل في الأكدية أيضاً على (الحماية). لأنها متوقفة على منع أو قطع الأذى منأن ينزل بالشخص المحمى.
لكن في العربية وحدها جاء، من باب التقييد، الفعل (ختن) بمعنى قطع القلفة. والفاعل أو المحترف (خاتن)، والمفعول أو المتحمل العملية (مختون وختين)، واسم العمل (الختن والختان) ثم الدعوة أو الوليمة بمناسبة الختان. و (الختانة) حرفة الخاتن. وورد في السبئية (مختن): دار الختان.
كل هذه الفحاوي المتضمنة في فعل (ختن) ومشتقاته لا وجود لها في العبرية، ولا في السريانية ولا في الحبشية لأن الفعل المستعمل في العبرية لدلالة على الختان هو (مول)، والختانة (ميلة) والخاتن (موهيل). وفي السريانية ينظر إلى فعل (ختن)(جزر) والختانة (جزرتا)، والخاتن (جازورا). كذلك الحبشية لا اثر فيها لفعل (ختن) فإن الوارد فيها فعل (كسب). (مقابله في العربية:(كسف) و (جزر)(ينظر إليه في العربية: جزر) وكلاهما بمدلول: ختن.
في العربية، يطلق اسم (الختن) على أبي الزوجة، وعلى كل من كان قبل المرأة، مثل العم والأخ. ويراد به أيضاً زوج ابنة الرجل، أو صهره. ومنه صدر فعل خاتن صاهر.
في العبرية، وردت لفظة (ختن) دالة، كما في العربية، على الحمى أو أبي المرأة و (خوتن) بمعنى الصهر، أو زوج بنت الرجل، والعريس، والمختون أما السريانية فلا يوجد فيها إلا كلمة (حثنا) بمدلول الختن والصهر. ومن (حثنا) اشتق ارتجالا المزيدان (حثين) و (إثحثين). صاهر، تزوج. أما أبو المرأة فيقال له:(حيم).
في الأكدية، يطلق (ختانو) على الحمى والصهر معاً أما الحبشية فلم يرد أدنى صيغة من هذه المادة بمعنى الحمى والصهر، لأن المستعمل فيها هو (مرعاوي): صهر عريس.
ومؤثثه (مرعات): عروس و (حم) بفحوى الحمى.
كل ذلك يدلك على أن هذه المادة قد بدأت في العربية وحدها وتوسعت بطريق التطور الطبيعي والمنطقي، من الثنائي (خت) إلى آخر المداليل لفعل (ختن) ومشتقاته. وتماثلها الأكدية في ذلك ببعض المماثلة. أما العبرية ولا سيما السريانية - فالتطور ناقص. إذلافعل مجرد فيهمايدل على الختان.
ولمعترض أن يقول: أية مناسبة بين (الختان) ورابطة القرابة الأهلية بين الأسر؟ الجواب على هذا هو أن التاريخ يعيدنا كثيراً في شأنه لأنه يعلمنا أن (الختان) كان عند أغلب قدماء الشعوب، من الشروط الضرورية لدخول المرء في الحياة الاجتماعية، ومن الأمور الممهدة للحياة الزوجية، فكان يجري قبل الزواج. وكان الأب، أو رب البيت يقوم بهذا العمل. وشاهد عمل إبراهيم الذي ختن هو ذاته ابنه إسماعيلومن كان في بيته.
وكان من حقوق الأب أن يشترط على من يخطب ابنته، أن يختن قبل زواجه، ولما كان الأب هو الخاتن، أو الملزم بختان صهره، دعى في العبرية والعربية (ختناً) أو قل (خاتناً).
وإذا كان خاطب بنت الرجل أو صهره ملتزما بأن يكون مختوماً قبل زواجه، سمي أيضاً في العربية والعبرية (وفي هذا وافقتهما السريانية)، وفي الأكدية باسم (الختن) بمعنى المختون أو الختين.
ومن يعرف العبرية ويطالع العهد القديم من الكتاب المقدس يجد التأييد لما بسطناه فيكثير منالموان. من ذلك ورد (ختن) في النص العبري بدلالة الحمى، وفي الآياتالتالية: خروج 1: 3، 18: 4، 1 - 15. قضاة 6: 1، 11:4. وجاء
(خوتن) بدلالة الصهر، في هذه الآيات الأخر: سفر الخلق 12: 19؛ خروج 25: 4؛ قضاة 6: 15، 5: 19 - 1؛ سموئيل 18: 18؛ 14: 12.
13 -
ومن باب التوسع، شمل أسم (الختن) غير أفراد من العائلة، كالعم والأخ؛ لا؛ بل أن جميع أقارب المرأة يدعون (أختاناً) بالنسبة إلى الصهر، أو زوج بنت الرجل.
فأين من كل هذه الحقائق الجلية زعم القائل (ختن حرف سرياني) ومراده بذلك أنه دخيل في العربية من السريانية. ومن هذا لابحث يظهر بوضوح تفوق العربية على أخواتها السامية، لصيانتها الأصول القديمة، والرساس البدائية. وتتجلى أيضاً فائدة (الثنائية واللسنية
السامية) للأبحاث المعجمية، وبهذا تسقط المدعيات الاعتباطية والسلام.
الأب مرمرجي الدومنكي
بريطانيا العظمى
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
لعلك أيها القارئ الكريم توافقني فيما أذهب إليه من أن عظمة المم ترجع أولا وقبل كل شيء إلى عاملين هامين: أولهما قوة روحية تدفع أبناءها إلى تضحية أرواحهم من أجلها وإلى استعذاب الردى في سبيلها وهو يمكن أن يسمى بالإيمان الوطني - وثانيهما قوة مادية تحقق لهم ما يبغون لوطنهم من نصر ومجد.
وقد قصصنا عليك فيما سبق مدى قوة الشعب البريطاني الروحية وعظم ثروته الخلقية، ووصفنا لك إيمان البريطانيين بوطنهم وحبهم له وإقبالهم على التضحية في سبيله.
وعندي أن القوة الروحية هي العامل الرئيسي، ولكن ذلك لا يمنع من خطر القوة الثانية وهي القوة المادية، فإن الجندي الذي ينزل إلى ميدان القتال وهو أعزل من السلاح مصيره حتماً إلى الدمار. وقد كفلت بريطانيا لنفسها القوة الثانية ويرجع الفضل في ذلك إلى أنها أولاً وقبل كل شيء دولة صناعية؛ بل إنها أنها أولى دول العالم الصناعية.
ويحسن بي قبل أن أحدثك عن الصناعة في بريطانيا أن أحدثك عن أمر له خطر وله شأنه. ذلك أن العلماء يقسمون حياة الأمم والأطوار التي تمر بها إلى أربعة أدوار:
الدور الاول: وهو المرحلة التي يحترف فيها الإنسان القنص والرعي. وأظنك توافقني على أن هذه المرحلة بدائية لا يتقدم فيها الإنسان ولا يرقى ولا يتحضر. وإن نظرة واحدة إلى حالة الزنوج في اواسط أفريقيا وإلى حالة البدو في الصحراء ستجعلك من غير شك تؤمن بصدق هذه النظرية، فإن الزنوج والبدو يعيشون هذه المعيشة منذ خلقوا، وسيبقون كذلك ما لم يضطروا اضطراراً إلى تغيير أساليب حياتهم.
الدور الثاني: وهو المرحلة التي احترف فيها الإنسان الزراعة وقد كانت الزراعة أول خطوة في سبيل التقدم والتمدن، ذلك أن الإنسان عندما اشتغل بالزراعة استقر في مكان وبدأ يعمل على تحسين حالته والنهوض بها، ومن هنا كانت الحضارة الأولى التي ظهرت في التاريخ حضارات زراعية قامت في مصر وفي العراق وفي الصين منذ آلاف السنين.
الدور الثالث: وفي هذا الدور أشتغل الإنسان بالنجارة وتعتبر هذه المرحلة أرقى من المرحلة السابقة.
وقد بدأ سكان بريطانيا حياتهم باحتراف الرعي والقنص ثم اشتغلوا بالزراعة، ولكن الزراعة لا تجود في بريطانيا ومن ثم اشتغل سكانها بالتجارة، وقد رأينا فيما سبق كيف أدى هذا إلى قيام الصراع بين إنجلترا وأسبانيا أولاً ثم بين إنجلترا وفرنسا ثانياً، وكيف انتهى الأمر بانتصار إنجلترا وتكوينها لإمبراطورية عظيمة هي أعظم الإمبراطوريات التي شهدها التاريخ، ورأينا كذلك كيف أصبحت بريطانيا سيدة البحار وهي الآن تملك أقوى أسطول تجاري وحربي في العالم.
ويطيب لي أن أذكر كذلك أن أهم عامل في أيام النزاع بين ألمانيا وإنجلترا منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أيامنا هذه كان سيطرة بريطانيا التجارية على أسواق العالم.
الدور الرابع: وهو أعظم الأدوار شأناً وابعدها شأواً وأكبرها أثراً وهو الدور الذي تشتغل فيه الأمة بالصناعة، وتعتبر الأمم الصناعية أرقى الدول وأعظمها شأناً.
وبريطانيا هي أولى دول العالم ومن ثم كانت أعظم الدول شأناً وأكبرها أثراً في توجيه السياسية العالمية. ويطيب لي أن أنوه بأن التقدم الصناعي من ثمار التقدم العلمي ومن ثم كان اهتمام بريطانيا بالبحث العلمي عظيماً، فهي تتيح لصفوة علمائها كافة الوسائل لينقطعوا للبحث العلمي.
ولعلك أيها الصديق الكريم تسألني عن العوامل التي ادت إلى قيام الصناعة في بريطانيا وكيف وصلت بريطانيا إلى مكانتها الصناعية الحالية. وأنا أجيبك بأن الصناعة الحديثة تحتاج إلى الآلات أولاً، وإلى قوة تحركها ثانياً، وإلى الخام ثالثاً، وإلى اليد العاملة رابعاً. وقد توفرت هذه العوامل جميعاً لدى البريطانيين. فبلادهم غنية بالحديد ومنه تصنع الآلات، وهي كذلك غنية بالفحم والكهرباء وبهما تسير الآلات. أما المواد الخام والأيدي العاملة فهي موفورة ميسورة.
ويجدر بي أن أذكر أن الحديد دائماً ينتقل إلى مناطق الفحم ومن تركزت الصناعة حول مناطق الفحم، ذلك أن الآلات تستهلك الفحم دائماً ومن ثم فلتوفير نفقات نقله تركزت الصناعة في مناطق تعدينية ومنذ أكثر من نصف قرن استخدمت الكهرباء في إدارة المصانع والآلات فاستغلت بريطانيا مسقط المياه في توليدها، وبالتالي في إدارة آلات مصانعها به. أما عن المواد الخام فإنها موفورة ميسورة لبريطانيا، ذلك أن بريطانيا تملك
كما رأينا أكثر من ثلث اليابس في الكرة الأرضية ولها أراضي شاسعةفي مختلف أنحاء العالم، وهذه الممتلكات تمتاز بكثرة إنتاجها للمواد الخام للصناعة، فمثلاً نستورد القطن من الهند ومصر والسودان وينيا وغيرها، والصوف من أستراليا، والمطاط من المناطق الاستوائية بأفريقيا ومن جزر الهند الشرقية الخ.
ومما يساعد بريطانيا سهولة اتصالها بمختلف أنحاء العالم، فلها أسطول تجاري كبير هو أكبر أساطيل العالم طولاً، بل أكثر من هذا أن بريطانيا قد عنيت تمام العناية بالمواصلات في داخلها، فاستغلت أنهارها وقنواتها للملاحة، وعبدت الطرق الزراعية، ومدت السكك الحديدية مما جعل المواصلات بها ميسورة مريحة: مائية وبرية وجوية.
هذه العوامل مجتمعة هي التي أدت إلى قيام الصناعة في بريطانيا، وأنا أحب أن أضرب للقارئ مثلاً يبين فوائد الصناعة من الجهة المادية: فقنطار القطن يباع في مصر بعشرين جنيهاً ثم ينتقل إلى إنجلترا حيث يغزل وينسج ويرد إلى مصر ليباع به، ووزن القنطار مائة رطل، ووزن المتر من النسيج أوقيتان تقريباً فيكون وزن الرطل يعادل خمسة أمتار تقريباً، وإذا افترضنا للمتر ثمناً 20 قرشاً يكون ثمن الرطل من النسيج مائة قرش ويكون ثمن القنطار مائة جنيه، وبذا يكون الربح في قنطار واحد ثمانين جنيهاً.
وتمتاز الصناعة في بريطانيا بتخصص كل منطقة صناعية في صناعات معينة: فتقوم صناعة القطن في منطقة لنكشير وأعظم مراكز غزله ونسيجه مدينة مانشستر، وأكبر موانئ تصديره لبفربول. وتقوم صناعة الصوف في يور كشير وأعظم مراكز غزله ونسيجه مدينة ليدز. وتقوم صناعة الأسلحة والآلات القاطعةفي وسط إنجلترا وأهم مراكزها شفلد وبرمنجهام، أما صناعة بناء السفن فأهم مراكزها جلاسجو ونيوكاسل وبورتسموث وبلموث وبلفاست وأما لندن فهي عاصمة بريطانيا العظمى والإمبراطورية البريطانية. وقديماً كان الرومان يقولون (كل الطرق تؤدي إلى روما) لأنها كانت العاصمة للإمبراطورية الرومانية، وفي العصور الوسطى كانت بغداد أكبر مدن العالم لأنها كانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية، وأما في عصرنا الحاضر فإن لندن هي أكبر مدن العالم، ونظرة واحدة إلى خريطة تبين الخطوط الملاحية للأساطيل التجارية تريك أنها جميعاً تتجه إلى لندن!!
وأخيراً:
إن بريطانيا تتحكم في العالم بقوة إنتاجها الصناعي. ومن المفارقات أن مصر قد عقدت معها 1931، وفي هذه المعاهدة تعهدت بريطانيا بإمداد مصر بما يحتاج إليه جيشها من أسلحة وذخائر. ولكن كلما طلبت مصر من بريطانيا أن تفي بوعدها راوغت، وثار نوابها في مجلس العموم لأنهم يزعمون أن مصر قد تستخدم هذه الأسلحة ضد بريطانيا ذاتها. وها نحن أولاء في مركز لا نحسد عليه فقد قيدتنا بريطانيا بالمعادة ثم تركتنا لا نستطيع حراكاً، بل إنها أثناء حرب فلسطين 1949 منعت عنا السلاح ما كان له أسوأ الأثر، وما اصدق قول شاعر النيل حافظ بك إبراهيم:
لا تقرب التايمز واحذر ورده
…
مهما بدا لك أنه معسول
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بمسنود الثانوية
1 - من أدباء الحجاز
عبد العزيز الزمزمي 900 - 976 هـ
للأستاذ عبد الله عبد الجبار
إن كنت - أيها القارئ الكريم - من أهل مكة المكرمة، أو ام تكن من اهله وقد أتيح لك أن تستمتع بتلك اللحظة الروحية، لحظة الغروب بالمسجد الحرام وقد أخذت مكانك خلف بئر زمزم انتظاراً لأداء فريضة المغرب، لا ريب أنك قد شهدت في (منظرة) مقام الشافعي رجلاً مرتدياً جبة بيضاء أو سوداء أو بين هذينمن الألوانقد لف عمامته على رأسه في رفق، وأخرج من جيبه ساعته العتيقة مدلاة من شريط أسود ثم نظر فيها ثم رفع رأسه إلى أعلى قليلاً بعد أن وضع يده اليمنى على خده وصدغه، وإبهامه على صماخ أذنه، ثم أرتفع صوته بالآذان صوب الآذان بتلك النغمة التقليدية: الله أكبر الله أكبر - وهو يميل لفظة الجلالة إمالة طويلة ويخطف لفظة أكبر خطفة سريعة: يكررها هكذا أربع مرات، ولا يكاد صوته ينطلق حتى تتجاوب المآذن بنداء السماء، وحتى تنطلق أفواه المصلين وقلوبهم وأرواحهم بترجيع النداء.
هذا الرجل - أيها القارئ الكريم - وأحد أفراد أسرة (الريس) التي اختصت بأن يكون لها شرف (رئاسة المؤذنين) في المسجد الحرام. ومن هنا كانت تسميتها (بالريس) بعد أن كانت تسمى في التاريخ بأسرة (الزمزمى) نسبة إلى بئر زمزم.
وعن شخصية من شخصيات هذه الأسرة سيكون بحثنا هذا، فتعال معنا إذن نعبر جسر الزمن لنطل على تاريخ هذه الأسرة بمكة في القرن الثامن الهجري:
هذه الأسرة تنتمي إلى علي بن محمد بن داود البيضاوي الشيرازي الأصل: وقد قدم علي بن محمد هذا إلى مكة في سنة ثلاثين وسبعمائة هجرية عام قدمها الفيل من العراق فباشر عن الشيخ بن ياقوت المؤذن في خدمة بئر زمزم. ولما آنس فيه الرشد والخير والكفاية آثره بخدمة هذا البئر متنازلاً له عنها، وزوجه بابنته فولد له منها ولده أحمد وغيره من اخواته، وأصبح في عقبة أمر البئر ومعها سقاية العباس رضى الله عنه. بعد ذلك تعال معي ننحدر مع الزمن لنشرف على القرن التاسع الهجري وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة حيث نشهد ميلاد عبد العزيز الزمزمي وهو موضوع هذا البحث، ففي سنة تسعمائة هجرية كان
ميلاد هذا العالم الأديب بمكة، وكانت بواكير طفولته في بواكير القرن العاشر الهجري، وغير حياته الطويلة الحافلة بالتدريس والإفتاء والصلاح والتقوى والرحلات المختلفة إلى مصر والشام والمدينة واليمن وبلاد الروم حتى وافاه الأجل المحتوم وهو في السادسة والسبعين من عمره، وتوفي بأم القرى. ويمضي نسبه على النحو الآتي:
عبد العزيز عز الدين بن علي بن عبد العزيز بن عبد السلام ابن موسى بن أبي بكر بن اكبر بن أحمد بن علي بن محمد بن داود البيضاوي.
ثقافته وكتبه: وقد أخذا العلم عن كبار المحققين وجد وأجتهد حتى ذاع صيته وبرز أفرانه، وأفاد كثيراً من العلم والتجارب من أسفاره المتعددة وكان شافعي المذهب، وقد أرتحل إلى مصر في ريعان شبابه يطلب العلم على أيدي علمائها الإجلاء. . ومن مشايخه أحمد بن موسى بن عبد الغفار المالكي الذي مدحهبقصيدة مطلعها:
أريج مسك الأسحار
…
فاح خلال الأزهار
وقد تفتقت عقلية الزمزمي حسب إمكانيات عصره وكما سمحت له ظروف حياته عن مؤلفات شعرية نثرية منها:
1 -
الفتح المبين في مدح شفيع المذنبين.
2 -
فيض الوجود في شيبتني هود.
3 -
شرح على مقامات الحريري.
4 -
(نظم علم التفسير) وهو منظومة لطيفة كان الطلاب ولا يزالون يحفظونها بمدرسة الفلاح بمكة، ولها شرح للشيخ منصور سبط الطبلاوي سماه:(منهج التيسير إلى علم التفسير) وللسيد محسن بن السيد علي المساوي المكي شرح لها سماه (نهج التيسير على نظم أصول التفسير) طبع في سنة (1352) وللسيد العلوي مالكي العالم المكي المشهور في العصر الحاضر حاشية على الشرح المذكور سماه (فيض القدير) وللشيخ يحيى أمان العام المدقق والأصولي البارع بمكة شرح سماه (التيسير على منظومة علم التفسير). وما زال الزمزمي يترق في مناصب العلم حتى أصبح عميداً لعلماء مكة في ذلك الزمان. وقد ذكر القطبي في تاريخه المراتب على السنين: (أنه في السادس عشر من المحرم سنة 976 قد وجه إلى الشيخ عبد العزيز الزمزمي تدريس المدرسة السليمانية بخمسين عثمانياً، وكان
رئيس علماء مكة يومئذ.) وقد مدحه منوهاً بعلمه أبو الفيض الصديقي من قصيدة جاء فيها:
أجل جيران بيت الله قاطبة
…
علماً إذا وصفوا في مكة العلما
شعره: وللزمزمي ديوان شعر منه نسخة خطية بالمكتبة التيمورية، وقد كلفت من نسخها لي. وتقع نسخته في ست وسبعين ومائة صفحة من الحجم المتوسط. ويشتمل هذا الديوان على ثلاثة أبواب وخاتمة.
الباب الأول: (النبويات) وهي القصائد التي مدح بها النبي (ص) وقد رتبها حسب الحروف الهجائية ونظم مدائحه النبوية من أغلب حروف المعجم، وترك الحروف الآتية: الثاء. والخاء. والذال. والشين. والصاد. والضاد. والطاء. والظاء. والعين. والغين. والواو: وقد استقرت النبويات (101) صفحةمن نسختي. وربما أدخل في هذا الباب قصائد ليست منه كقصيدته في مدح أبن عباس، وقصيدته حين زار مدينة عدن: وقد عرض الهمزية والبردة وجعل قافية الأخيرة مفتوحة، ويمضي مطلعها على هذا النحو:
أمن تذكر جرم جرمه عظماً
…
أرقت في الخد دمعاً أم هرقت دما
أم البكاء لما أهملت جانبه
…
من طاعة قد بكت أرض لها وسما
فوت خطة رشد كنت مدركها
…
فصرت تقرع سنا بعدها ندما
الباب الثاني: مدح العلماء والصالحين ومن مدحهم الأمام الشافعي والشيخ أبن عربي ومحمد بن عراق.
الباب الثالث: في ذكر الكعبة المشرفة ومكة والحرام والحجاز والمشاعر المنيفة، ويبدأفي نسختي من ص (165) ولانجد في هذا الباب إلا قصيدة واحدة طويلة نسبياً ذكر فيها المنازل من مخا إلى زبيد إلى مكة، وذكر فيها الكعبة المشرفة، وقد نظمها في سيره من اليمين مع ركب الحج اليماني:
الخاتمة: وفيها نظم خمسة أحاديث نبوية وإليك مثلاُ منها:
وصالك جنتي ونعيم جسمي
…
وقربك صحتي وجفاك سقمي
علام هجرتني هجراً عنيفاً
…
بليغا زائدا من غير جرم
فلا وصل ولا مكذوب وعد
…
ولا رؤياك في طيف ملم
لقد أفطرت في ظلمي فهلا
…
حفظت حديث ظلم دون ظلم
وقيمة هذا الديوان الصوفية أكبر من قيمته الفنية، وهذه النزعة الروحية كثيراً ما كانت سمة من السمات التي طبعت الحياة العقلية لكثير من المفكرين والمنتجين في هذه البلاد في كثير من العصور.
ويخيل إلي أن الزمزمي كان مشدوداً برباط وثيق إلى عالم ما وراء الحياة في رحلاته الكثيرة المتعددة لا يكاد يهبط بلداً من البلاد حتى يكون من اول ما يقوم به زيارة هذا الضريح أو ذاك لالتماس البركة من هذا الولي أو ذاك، ونظم ذلك كله شعراً صوفياً يرتاح له ضميره.
وكان لا تلم به كارثة من الكوارث أو تحق به أزمة من الأزمات حتى يشد رحاله إلى المسجد النبوي ينشد الفرجة من مقام النبوة العظيم.
وربما كانت فرقته للحجاز على كره منه، فهو يصرح بذلك في شعره، ويشكو إلى الله حالته الكئيبة الحزينة، وبعده عن عياله واوطانه وعن المشاعر المقدسة ومعاهد الطهر والإيمان، ويستعرض أمام عينيه ايامه التي سلفت. فما أكثر ما ظل عاكفاً بالمسجد الحرام يصلي حيناً ويدرس ويقرأ القرآن حيناً، وما أكثر ما وقف بعرفات، فلقد حج أكثر من خمسين حجة فهل يتاح له الوقوف بها مرة أخرى، وهل تناخ له بمنى، المنى وهل يبصر نفسه بين اهله وذويه، ورهطه وصحبه، وقومه وإخوانه؟ إنه يسجل كل ذلك في شعره إذ يقول:
إلى الله أشكو من تباريح أحزاني
…
وبي وبعدي عن عيالي وأوطاني
بحكم زمان ظالم جار واعتدى
…
على وعن قصدي عداني وعاداتي
ترى هل ترى أم القرى عين نازح
…
بجثمانه والقلب منه لها واني
أعد لي حديثاً عن مشاعرها وعن
…
معاهدها دامت معاهد إيمان
وعن حرم الله الأمين ومسجد
…
حرام وبيت ضم أشرف أركان
فيا طالما في ظله عاكفاً
…
لتدريس علم أو صلاة وقرآن
ومن عرفات لست أنكر موقفاً
…
تعرفته من قبل إبان عرفان
وقفت به نيفاً وخمسين حجة
…
فكيف فمي يجري له ذكر نسيان
ألا ليت شعري بعد فرقة جمعنا
…
بليلة جمع عائد عيشنا الهاني
وهل بمنى يوما تتاح مني
…
إليها والشوق أضر من نيراني
وأبصر نفسي بين أهلي وأسرتي
…
ورهطي وأصحابي وقومي وإخواني
وللزمزمي قصيدة نظمها في سيرة من اليمن إلى الحجاز مع ركب الحج اليمني ذكر فيها المنازل من المخا إلى زبيد إلى مكة المكرمة. وقد بدأ (بدوقة) يوم الخميس 18 من ذي القعدة وأتمها بالليث يوم الأحد غرة ذي الحجة الحرام سنة 958 هـ، وهذه القصيدة تعتبر (خريطة شعرية) تبين لنا خط سير قاصد الحج من اليمن إلى مكة في القرن العاشر الهجري، وفي مطلعها يقول:
ظعنا فنودينا عن الشر غبتموا
…
وجئنا فقال الخير وجيتمو
وما كان ذاك البعد إلا دجنة
…
جلالها اقتراب صبحة متبسم
نعمنا من بعد بؤس أصابنا
…
فأذهب ذاك البؤس هذا النعيم
وأن الثوى في أرض مكة جنة
…
وكل دنو من سناها جهنم
فوالل ما فارقتها عن كراهة
…
ولا لأمور جمة تتوهم
ولكن مقادير بها حكم القضا
…
وليس على حكم القضاء تحكم
رحلنا مطايانا إليها نؤمها
…
فيا حبذا منها إليها التيم
وبعد ان كر كيف مضت بهم المطايا من المخا إلى الزهارى وكيف أقاموا بزيد ليالي، وكيف راحت العيس وحاديها شوق ملح لقرية المنصور والغانمية يقول:
ومرت إلى (مور) ومنها تشاءمت
…
إلى (قطبة) والأفق مظلم
ومذ قصدت (جازان) جاز اقتصارها
…
فأضحت وحاديها عليها مخيم
وبعد أن يذكر عالية وأبا قريش كان مقامهم بها ثلاثة ايام يقول:
ومنها إلى صبيا بنا العزم قد صبا
…
وكان لنا في (بيش) شأن ملئم
وبعد أن يذكر وادي بيش وعتود يسجل كيف بدت لهم في الشقيق وجوه توسموا فيها عصيان السلاطين:
ولما دخلتا في (الشقيق) بدت لنا
…
وجوه بعصيان السلاطين توسم
ومنها انصرفنا للغدير الذي على
…
(عريب) بواديه الزيالع أقدموا
ومنه مسير الركب نحو مغيزل
…
تمادى به والعيس للورد حوم
فمرت إلى (ذهبان) ذاهبة وقد
…
حلا عندها الماء الذي منه ينجم
وبعد أن يمضي قليلاً يأسى لعيس كيف كانت تئن من العجز وكيف دقت بكلكلها الثرى في (دوقة) وكيف ثابت بعد أن أقامت بها يومين، وكيف جازت مسيل الواديين ولم تقف به والليل أسود حالك، وإنما مضت في سرها سواد الليل وطرفاً من النهار. حتى إذا اعتلت الشمس صاروا إلى (ذكوان) وكان لهم فيه مقيل غير محمود، فقد بلغ الإعياء بهم مبلغاً عظيماً. وكانت الشقة بعيدة، وكان لا ماء علقماً والتمسوا (العجور) فلم يجدوه. . ثم ساروا حتى وصلوا (الليث) لم يطيلوا المكث به، بل راحوا (للهضب) حتى إذا صاحت حداة الركب:(هذي يلملم) ألمت به الأفراح واهتزت نفوسهم طرباً وأناخوا ركابهم ونزلوا واغتسلوا وصلوا ولبوا وأحرموا وكان للركب ضجيج، وكانت عيونهم تذرى الدمع فرحاً ولم يمكثوا هناك إلا بمقدار ما أدوا به شعار النسك، واستهلوا بلبيك اللهم لبيك، ومن ثم يمموا نحو البيت الحرام وهو يجهشون بالبكاء:
وفي (دوقة) دقت بكلكلها الثرى
…
وقامت على عجز تئن ورزم
ولكنها من بعد يومي إقامة
…
أثابت فسارت وهي للركب تقدم
وجازت مسيل الواديين لم تقف
…
به والدجى بين المسلمين مقتم
وصارت إلى (ذكوان) حين ذكا اعتلت
…
وكان لها فيه مقيل مذمم
هزال وإعياء إلى بعد شقة
…
وقد عدم العجور والماء علقم
وما طوت مذ جاءت (الليث) لبثها
…
(وللهضب) راحت والحداة تترجم
ألمت بنا الأفراح لما تباشر
…
وصاحت حداة الركب هذي (يلملم)
أنيخوا المطايا وانزلوا وتغسلوا
…
وصلوا ولبوا خاضعين وأحرموا
فكم ضجة للركب ثم وجلة
…
وكم مقلة تذرى الدموع وتسجم
وما مكثوا إلا بمقدار ما أتوا
…
به من شعار النسك ثمت أحرموا
بلبيك لبيك استهلوا وأجهشوا
…
ومن ثم للبيت الحرام تيمموا
ثم بدت لهم معالم مكة:
وصرح بالأمر الحداة وبشروا
…
وغنوهمو هذا المقام وزمزم
وذا بيت رب العرش ما دونه سوى
…
ستور بالجلالة ترقم
فألقت عصاها واستقر بها النوى
…
وقر عيونا باللقاء المتيم
عبد الله عبد الجبار
مدير البعثة السعودية بمصر
القوة المادية والإيمان بالمثل العليا
للدكتور محمد يوسف الهندي
لئن سجل تاريخ القرن الماضي انقضاضاً من الأمم الغربية المتفوقة على الشعوب الشرقية الكثيرة العدد، فقد شاهد الجيل الحاضر تنافساً بين الدول الغربية - تنافساً قد أدى صراعين عالميين. وها هو ذا شبح الحرب الثالثة يلوح في الأفق، ويقض مضاجع الإنسانية جمعاء، لا فرق في ذلك بين الذين (لم يريقوا ملء محجم) وبين الذين (دقوا بينهم عطر منشم).
وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى نية الأقوياء المنتصرين إلى إنشاء نظام يكفل للعالم السلام والهدوء على ما قالوا، ولكن هذا النظام لم يكن في الواقع يكفل شيئاً غير الأوضاع القائمة إذ ذاك لصالح الذين كانوا يرون من حقهما احتكار السيادة على العالم، ولذلك انهار ذلك النظام على أيدي من رأى أن ينازعهم ها الحق بالقوة (وقد أعيدت التجربة نفسها) مع إدخال بعض التحسينات بعد الحرب الأخيرة).
وقد صادف هذا الاتجاه - أعنى اتجاه الأقوياء إلى إبعاد إمكان الحرب فيما بينهم - نضج الوعي في الشعوب الأسيوية والأفريقية المستعمرة، فبدأ مفكروها وقادتها يبحثون عن الوسائل التي يمكن بها لتلك الشعوب التخلص من نير الاستعمار واسترداد السيادة على بلادهم، وقد واجه جميعهم مشكلة قهر القوة الغاشمة لتحقيق الحق الأعزل، وإنها لدراسة ممتعة جدا ان يقوم الواحد بين الاجوبة مقارنة بين الأجوبة التي أتى بها زعماء الشرق الحديث في الأقطار المختلفة على هذا السؤال، وخلاصة القول أن عدداً غير قليل من الذين كانت زعامتهم ترتكز على مقدرتهم لاستشارة الجمهور فقط تجنبوا رسم خطة محدودة في هذا الصدد، بل إنما استتروا بخطب بلاغية وتصريحات جدلية هي عبارة عن التمسك بالحق والعدالة والتهديد بالإضرار ببعض مصالح المستعمر هنا وهناك. أما الذين سما فكرهم إلى درجة الفلسفة وتنظيم خطة عامة بعيدة المدى فانقسموا قسمين: بعضهم انتهج نهج الاستهانة بقوة السلاح وتعيير القوى باستعمال القوة والعنف، حينما هب البعض الاخر إلى مقاومة القوة بالقوة أملين بأن كثرة العدد تفوق وفرة العدة. وقد جرب كثير من الشعوب الشرقية الخطة الأخيرة ولا سيما في بداية عهد الاستعمار فرأت عواقبها وخيمة، ولذلك أقبلت على الخطة الأولى فدرستها بإعجاب وإن لم تقبلها كمبدأ للحياة القومية.
ولنستعرض الآن آراء إقبال، الفيلسوف الشاعر الذي احتفل منذ قريب بالذكرى الثالثة عشرةلوفاته، في المسائل التي قدمناها آنفاً. لا يفوت إقبالاً أبداً أن يحذر من الاستخفاف بالقوة أو إهمال أية وسيلة من وسائل الحصول عليها، فهو لا يتأثر مطلقاً مما يوجه بعض الناس إلى الإسلام من نقد على روح الجهاد فيه: بل يقول:
(إن الذي يرتجف العالم من بطشه وسفكه هو أولى بأن يلقن مبدأ ترك الجهاد. . . لقد تدججت أوربا بالسلاح للدفاع عن أبهة الباطل. . . إذا كانت الحرب شراً في الشرق فهي لا بد وأن تكون شراً في الغرب أيضاً. . . أما محاسبة الإسلام والصفح عن أوربا فذلك ليس من الحق في شيء).
وكذلك يسخر إقبال من خطة تعبير القوة بالقوة حينما يقص علينا قصة قطيع من الغنم وقع فيه الأسد، فتقدمت شاة كانت قد أوتيت دهاء لتتزعم القطيع، فامتنعت في نفسها بأنه من المستحيل أن تتحول الأغنام أسوداً إلا أنه يكن أن ينحط الأسد إلى درجة الأغنام، وذلك بحمله على الاستحياء من نفسه وقوته، فبدأت تلك الشاة تلقن الأسد مبدأ الاعتزاز بقوة الروح وتركاللحوم واكل العشب والإيمان بأن الجنة قد خصصت للضعفاء، وأن القوة في الحقيقة نقصان. وهكذا إلى ان وجد الأسد في هذه المواعظ انعكاساً لميله هو إلى الراحة والدعة، فانحط إلى درجة الأغنام وهو يحسب أن ذلك الانحطاط إن هو إلا مدنية وحضارة!
فهذه الخطة في رأي إقبال ليست إلا رياءودهاء - الدهاء الذي (يزداد وينمو بطبيعة احال في العبودية) والاضطهاد) - ولا يستعمل هذه الخطة إلا الضعيف الذي يئس من كسب القوة، وهو إنما يغرر ويضلل بها قوياً قد مال إلى الاستكانة.
ولكن دعوة إقبال لا تقتصر على (إعداد القوة) - ولا أقوال (تمجيد القوة) كما فعل بعض الفلاسفة الألمان - بل، وهذه هي النقطة المهمة، وهو يدعو أيضاً إلى البحث عن القيم الأخلاقية والمثل العليا في الحياة الإنسانية والإيمان بها والعمل لها، حتى لا يكون استعمال القوة إلا الحفظ ونشر تلك القيم والمثل التي تكفل الخير للعالم! أما إذا وجدت القوة منفصلة عن القيم الأخلاقية والمثل العليا فلا شك أنها تعود شراً لا شر بعده كما يتمثل ذلك الشر في إعمال الإسكندر وجنكيز. إذن فالقوة في حد ذاتها ليست شراً ولا خيراً، بل إنما يحكم عليها
بهذا أو بذاك بالنسبة إلى وجود الغايات النبيلة أو انعدامها فيمن يملكها. ومن الضروري في هذا المقام أن نوضح أن إقبالاً لا يدعو إلى التهور أو الثورة المرتجلة التي لا تتعدى الإضراب عن العمل وتحطيم عربات الترام وما إلى ذلك من اعمال الهدم والتخريب، لا بل هو يدعو إلى إعداد القوة بالطرق العلمية والفنية - (بالتسلط على قوى الفطرة) بعبارته هو - أي بنفس التي هي الميزة الكبرى للحياة الغربية والتي هي أوثق صلة بنبوغ الغربيين من الزي الغربي والحروف اللاتينية واستباحة الرقص والخمر. ولا يخفى أن هذا الطريق الذي يدعو إليه إنما هو طريق شاق طويل يحتاج إلى التأني والصبر والجلد، ولذلك نراه ينبري في أشد الأوقات حرجاً ف يبالي بأن تهمة أحد بممالأة المستعمر وينصح مواطنيه (بإبقاء الطرب على فم الدن حتى يدرك الخمر النضج) أي بالتريث ومواصلة العمل إلى أن يستكملوا العدة. وخلاصة القول أنه كان يدعو إلى إعداد القوة التي تكفل الإنشاء والتعمير وخلق الأوضاع الجديد، لا إلى مظاهر قوة التخريب وإلحاق بعض المتاعب بالمستعمر التي هي بمثابة ما تلجأ المرأة الناشز من زوجها في بعض الاحيان ليس إلا.
ولا يصعب أننستنتج مما سبق نظرة إقبال إلى المحاولات التي بذلت ولا تزال تبذل التنظيم الأمن الدولي، فهو الذي قال عن عصبة الأمم البائدة إنها (منظمة أقامها بعض لصوص الأكفان لتقسيم القبور فيما بينهم) وقال عنها أيضاً إنها (حظية الإفرنج العجوز تعتمد على تمائم إبليس لبقائها لبعض الوقت) - ونظرة إقبال هذه مبنية على انه لا يرتاح أبداً إلى القوة، سواء أكانت تلك القوة قائمة على السيف والرمح أم القنبلة الذرية، في يد من ليس عنده وداع من الإيمان بالقيم الأخلاقية والمثل العليا وهو أيضاً يرى أن لا خير يرجى للإنسانية من أية محاولة للتحديد والإشراف على وسائل القوة لأن الذي يضمر الخبث يعكر صفو المن ولو بدون أسلاح، بل الخير كل الخير في أن تجتمع القوة المادية والإيمان بالمثل العليا في أمة أو أمم من العالم حتى نزجر بالقوة من تلقاء نفسها عن التمادي في الطغيان، وفي الوقت نفسه تكون تلك القوة ضماناً لنشر وتقوية المثل العليا في العالم، وحفظها من أن تنهك على يد أي طاغية أثيم.
ثم يعبر إقبال عن رأيه الذي وصل أليه لا عن طريق التعصب للعقيدة التي ورثها عن أبيه، بل عم طريق البحث العلمي والفكر الفلسفي، من أن الامة الإسلامية هي التي تمتاز
من بين جميع الأمم بالقيم الأخلاقية والمثل العليا التي تجعلها جديرة بأن تتزعم قضية الأمن والسلام في العالم. إلا إنها في القوت الحاضر تفتقر إلى القوة وذلك نتيجة لإهمالها الوسائل العلمية والفنية التي توجد القوة وكم يتمنى إقبال لو اجتمع للأمة الإسلامية، إلى جانب المثل العليا، القوة التي تسندها وتؤازرها حتى تتمكن هذه الأمة من أن تلعب دوراً فعالاً لرخاء الإنسانية ورفاهيتها. وكثيراً ما يردد إقبال وقعة إسلام التتار، فإن التتار، قبل أن يسلموا، كانوا يمثلون القوة المحضة، أما المسلمون فقد ظلوا إبان انهزامهم حفظة للقيم الأخلاقية العزل من القوة حتى أسلم التتار، فكان ذلك بمثابة قران سعيد بين القوة والمثل العليا، كأن الإسلام استبدل سيفاً جديداً صارما بسيف مفلول، وهكذا استمرت عظمته بضعة قرون أخرى ولكن على الأمة الإسلامية واجباً آخر وهو العمق في دراسة المبادئ الإسلامية والتشبث بها، والإخلاص لها ريثما تتقدم بخطى ثابتة لاستكمال القوة، وذلك لأن الضعيف ربما يفقد الثقة في نفسه وفي مبادئه. وهل من شك إن الأمة الإسلامية إن هي تخلت عن مبادئها فحصولها على القوة سوف لا يكون ذا مغزى كبير. ولعل مظاهر التخلي عن المبادئ السامية تخاذل الشعوب الإسلامية لأغراض تافهة خسيسة، واعتبارت دبلوماسية مغرضة. ألا فلتسترد هذه الأمة الثقة بنفسها والايمان بمبادئها حتى تثبت جدارتها لمزاولة القوة في سبيل خير الإنسانية.
وأخيراً تتلخص مأساة (إنسان العصر الحاضر) عند إقبال في قوله:
العشق ينقصه والعقل ينهشه
لا يستطيع قياد العقل بالنظر
دور الكواكب لا يخفى على درك
لا يستطيع هدى في عالم الفكر
العشق هو الإيمان بالمبادئ العليا. والعقل هو التقدم في العلوم والفنون. والنظر هو العور بالمسئولية أمام الله.
محمد يوسف
عاصمة السودان الوطنية
أم درمان
الأستاذ علي العماري
لعل الشرقيين أزهد الشعوب في معرفة بلادهم، فالحديث عنهاليس
بالعذب المستساغ عند أكثرهم، وربما بقي الواحد من مثقفيهم الدهر
الطويل في مدينة من المدن دون أن يعرف كثيراً أو قليلاً عن تاريخها
ومعالمهما. وقد يقرأ في كل كتب إلا الكتاب الذي يتحدث عن البلدان
وتاريخها، وعما فيها من آثار قديمة أو منشآت حديثة. ولا أنس أبداً
أني كنت مسافراً مرة في القطار الذي يبرح القاهرة إلى أسوان، وكان
في جانبي رجلاً في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، ويبدو من هيئة
حديثه أنه من ذويالثراء وتشعب بنا الحديث فنونا حتى وصل القطار
إلى مدينة المينا عروس الصعيد، فأطل الرجل من النافذة ثم عاد وفي
وجهه آثار الدهشة والاستغراب وقال بلهجة المأخوذ: غريبة! إن في
هذا البلد شوارع منظمة وأبنية جميلة، قلت له: أمصري أنت؟ قال:
نعم. قلت أين تعيش؟ قال: في الإسكندرية، قلت: أظنك تعرف روما
وباريس ولندن معرفة دقيقة. قال نعم، قلت: أما سافرت أبداً إلى
الصعيد؟ قال: لا، والفكرة التي في ذهني عنها تختلف كل الاختلاف
عما أراه الآن. قلت: ما هذا، لست مصرياً وإن اسمك رمسيس الأول!!
كما لا أنس أني لقيت رجلاً مثقفاً في مدينة أم درمان أكثر من أربع سنوات، وهو يسكن في الجانب الغربي منها جد قريب من ار المعهد العلمين وقد جرى مرة بيننا حديث في شؤون المعهد فسألني أين تقع دار هذا المعهد؟
وفي يقيني أن هذا الجهل يرجع إلى ضعف الشعور القومي في النفوس، فإنه كلما قوي هذا الشعور أحس صاحبه أن كل شبر من أرض الوطن إنما هو ملكه، حتم عليه أن يعرفه، وأن يعرف تاريخه، وطبعي أني لا أقصد أن كل المثقفين يجهلون معالم أوطانهم، وإننا أعني أن الجمهرة الغالبة تعني بهذه الناحية العناية الواجبة، وقد حملني على كتابة هذا المقال ما لمسته في كثير من المتعلمين عندنا من جهل بشؤون المدن السودانية.
ينساب النيل الأبيض منحدراُ من المنطقة الاستزائية، ويجري النيل الأزرق هابطاً من مرتفعات الحبشة، ويمران بمدينة الخرطوم، أحدهما على جانبها الغربي، والآخر على جانبها الشرقي، وما يكادان يصلان إلى نهايتها الغربية البحرية حتى يلتقيا، ثم يسيران متناكرين مسافة قصيرة، ويستطيع النظر السطحي ان يميز بينهما حيث يفصلهما خيط دقيقي، ولكن هذا التناكر لا يستمر طويلاً فيختلطان، ويسيران على جانب النيل الأزرق الشرقي، أما أم درمان فتقع على الضفة الغربية للنيل الكبير، وقبيل التقاء النيلين تقوم حدائق جميلة تسمى حدائق (المقرن) وهي من أحسن الأمكنة وأطيبها هواء، وفيها يقول الأستاذ العقاد:
تفسير حلمي بالجزي
…
رة وقفتني بالمقرن
حلمان حظهما خيالاً
…
دون حظ الأعين
ما دامت بينهما فما
…
أنا سائل عن مسكني
ويعجبني قول الكتاب السودانيين يصف التقاء النيلين عند المقرن، إذ يقول: (هل استمتعت بذياك المرأى الطبيعي البديع الساحر، مرأى ملتقى النيلين الحبيبين، لقد أتى أحدهما ينساب من أقصى االجنوب، والآخر من اقصى الشرق، فأصبح هذا المكان مكان التقائهما علما مقروناً باسميهما، أنهما قد التقيا عند هذا المكان، واقترنا في شوق، بل تصافحا بجسميهما، أنهما لم يفكرا في الفكاك من هذا الاقتران ولم يفكرا
ولما التقيا قرب الشوق جهده
…
حبيبين فاضا لوعة وعتابا
كأن حبيباً في خلال حبيبه=تسرب أثناء العناق وغابا
ولشد ما أعجبني تمثل الكاتب بهذين البيتين في هذا الموضع ويصل بين الخرطوم وأم درمان جسر جميل، أقيم سنة 1928. أما مدينة أم درمان فهي مدينة كبيرة مبانيها فسيحة،
وشوارعها متسعة. وأول من عمر أم الشمالية حكومة المهدية، أما جنوبها فكان حلة صغيرة قائمة في سهل فسيح رملي لا شجر فيه، وكان يسكن هذه الحلة الأهلون من (الفتيحاب) وهم سكان الخرطوم الأصليون كذلك، وكانت لهم منازل متفرقة على شاطئ النيل الأبيض الغربي، والفتيحاب من قبائل الجموعية، وهم وإخوانهم من الجيعاب، والسروراب، والجعليين والميرفاب، والرباطاب، والشايقية، ينتسبون إلى العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه. وقد استولى المهدي على أم درمان سنة 1885م ولما جاء الخليفة التعايشي حبب الى الناس السكنى فيها، فبنيت الدور، واتسع عمرانها. وكل منازلها طبقة واحدة إلا النادر القليل، وفيها مبان كثيرة بالحجر على النظام الحديث، وقد كان سكان المدينة قبل المهدية 400 ألف نسمة، ثم تناقص هذا العدد إلى 25 ألف سنة 1903، أما عدد السكان - الآن آخر إحصاء - فهو نحو 137 ألف نسمة.
ويخترق أم درمان شارع طويل يسير فيه الترام يبتدئ من الجسر الفاصل بينها وبين الخرطوم، وينتهي في الجانب الشرقي منها حيث يسير قليلاً على النيل. أما غربها وشمالها فصحراء لا نبت فيها ولاماء. ويقع جبل كرري المشهور في التاريخ شمالها، والهابط منه إلى المدينة يأخذ في شارع يسمى بهذا الاسم أيضاً.
وفي أم درمان مدارس حكومية وأهلية، وسطى، وثانوية، وأولية، فيها مدارس الأحفاد، وهي مدارس ذات فضل لا ينكر على السودان، والمدرسة الأهلية، وفيها مدارس الراهبات للبنات وهي روضة وابتدائي وثانوي. وبهذه المناسبة أذكر أن السودانيين غير متحمسين كثيراً لتعليم البنت. وفي ظاهر أم درمان من الناحية الغربية يقوم بناء المعهد العلمي، وهو معهد منذ أربعين سنة تقريباً، وكانت الدراسة في مسجد أم درمان الكبير وانتقلت قريباً إلى الدار الجديدة، وفي المعهد الآن نظامان: نظام قديم، ونظام جديد تشرف عليه الحكومة أشرافاُ كلياً، تضع له المناهج، وتعي المدرسين، والمعهد ابتدائي وثانوي وعالي، ومنه يتخرج حاملو الشهادة العالمية على نظام الأزهر القديم، وهم يؤدون الآن مهمتهم في السودان بجدارة وإخلاص، ويراد أن يكون في المعهد - بعد الثانوي - كليات، على نظام كليات الأزهر، ولا تزال المعاهد في الأقاليم ترتبط بهذا المعهد ارتباطاً، وفي هذا المعهد يقول الشاعر التيجاني يوسف بشير:
السحر فيك وفيك من أسبابه
…
دعة المدل بعبقري شبابه
قسم البقاء إليك في أقداره
…
من شاد مجدك في قديم كتابه
وأفاض فيك من الهدى آياته
…
ومن الهوى والسحر ملء نصابه
اليوم يدفعني الحنين فأنثني
…
ولهان مضطرباً إلى اعتابه
سبق الهوى عيني في مضماره
…
وجرى وأجفل خاطري من بابه
ودفنت غض صباي تحت ظلاله
…
ودفنت بيض سني في محرابه
ألقيتمن عنت (الزيود) مشاكلاً
…
وبكيت من (عمرو) ومن أعرابه
وطلاب المعهد يبلغون - الان - نحو ستمائة طالب، أما مدرسوه فنحو الأربعين، ومنهم منتدبون من الأزهر الشريف وهم خمسة، ومنهم سودانيون متخرجون في الأزهر، وبعضهم من خريجي كلية غردون أو المدارس الثانوية، وأكثرهم متخرجون في المعهد ذاته، وشيخ المعهد الآن مفتى السودان السابق الشيخ أبو شامة عبد المحمود، وهو سوداني، وكل من سبقه في مشيخة المعهد كان من السودانيين أيضاً.
وفي أم درمان أكثر دور الاحزاب السياسية، وهي من هذه الناحية تمتاز عن الخرطوم. كما تفد إليها السلع من كل أنحاء السودان، وفيها يمنويون كثيرون، وهنود، وشوام، ويونان، ومصريون، وكثير من التجارة في أيدي هؤلاء. وأهل أم درمان، كأهل السودان جميعاً، متدينون، يؤدون الصلوات في أوقاتها، ويخرجون الزكاة، والأمن والأمانة متوافران عندهم.
وفي أم درمان تقوم قبة المهدي، وفيها بعض آثاره ومخلفاته، وأمامها ساحة كبيرة محوطة بسور مرتفع مستطيل طوله 460 ياردة، وعرضه 350 ياردة، وفيها محطة الإذاعة السودانية. ومحطة الارسال وقد لفت نظري وأنا أطالعفي دواوينالشعراء السودانيين أني لم أجد لأم درمان موضعاً في أشعارهم، مع إني وجدت قصائد في مدن كثيرة من مدن السودان، في الابيض عروس الرمال، وفي النهود وفي كسلى، وفي سنار حيث يقول شاعرهم:
زرت سنار والجوانح أسرى
…
زفرات هدت قوى الصبر هدى
اسعدتنا فيها الغداة دموع
…
لم تخنا بالأمس في دار سعدى
أن محا الدهر حسنها فلقد كا
…
نت مرادا للمتقين وخلدا
كم لها في الرقاب منا ديوان
…
وعزيز على إلا تؤدى
وجميل أهلها عند أهلى
…
ويد بالصنائع الغر تندى
وهي قصيدة تذكرني بقصيدة البحتري في إيوان كسرى، وسناركانت عاصمة مملكة الفونج، وهي مملكة شهيرة فيالتاريخ، وبعضهم ينسب هؤلاء إلى الغمر بن يزيد بن عبد الملك، هربوا إلى السودان حين أساء العباسيون معاملة الأمويين.
والوقت الذي لا نجد فيه قصيدة واحدة في دواوين الشعراء عن أم درمان، نجد قصيدة لأحد شعرائهم المشهورين في باريس مع أنه لم يبرح السودان!
وقد أهدي إلي بعض الأصدقاء قصيدة في ام درمان مخطوطة لأحد الشعراء، كما قرأت أغنية تذاع من محطة الإذاعة عن أم درمان وهي اغنية جميلة.
(وبعد) فهذه لمحة تعرف، وفيها بعض الغناء
علي العماري
شوقية لم تنشر في الديوان.
. .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
يسرني أن أقدم لقراء الرسالة الغراء في كافة أقطار العروبة هذه الجريدة العصماء لخالد الذكر المرحوم أحمد شوقي بك أمير شعراء الضاد بمناسبة قضايا مصر الأخيرة المتعلقة ببريطانيا، والتي نسج ردتها الشاعر في ذكرى 13 نوفمبر سنة 1918
بـ (جهاد مصر الوطني) وقد عثرت عليها وأنا أنقب في اوراق قديمة لي كنت أحتفظ بها ضمن مجموعة من المجلات العربية. وكانت هذه الرائعة منطوية بين دفتي مجلة (الزهراء) التي كان يصدرها في القاهرة آنذاك الأستاذ محب الدين الخطيب، ويرجع تاريخ العدد من المجلة نفسها إلى سنة 1926 أو 1345هـ وقد راجعتالشوقيات بأجزائها الاربعة فلم أعثر عليها فعجبت كيف غفل أميرنا عن درجها في الجزء الاول والثاني من شوقياته وقد طبعها في حياته. وإذا كان المرحوم قد سها عنها فكيف غربت عن بال أنجاله عندما أعدوا الجزء الرابع من شوقياته للطبع؟ هذا سؤال أود أن أوجهه إلى الأستاذ علي شوقي وزير مصر المفوض في فرنسا حالياً لعل هناك سبباً أجهله أنا.
أما من ناحية القصيدة فهي له بلا ريب لأنها لا تختلف عن شعره من ناحية إشراق الديباجة ومتانة السبك وفخامة المعنى، وسلاسة الطبع. . وخصوصاً استشهاده بوقائع من التاريخ الاسلامي وإشارته إلى حالات خاصة به. وسيطلع عليها القراء ضمن القصيدة. . . هذا إلى إنني أود أن أنبه الكرام من قراء الرسالة الزاهرة إلى أن بعض الادباء وأنصاف المتأدبين من العراقيين ينحرفون في كثير من الأحيان وراء عواطفهم وعصبيتهم الإقليمية، فيدعون بأفضلية شعر المرحوم معروف الرصافي على شوقي، متأثرين بما يلقهم الجهلة من أساتذة الأدب العربي في مدارس العراق الرسمية. وأنا لا اعرف كيف يسوغ لهؤلاء الاساتذة الذين يفخرون بأنهم من حملة الشهادات العالية أن يقارنوا الرصافي بشوقي، وفي أي الحدود والموازين، وما هو وجه التفاضل بينهما، فإلى هؤلاء جميعاً أقول أن شوقي قمة شامخة من قمم الشعر العربي الأصيل، لا يرقى إليها حتى أبو الطيب المتنبي. اما الرصافي كما قال المعري عندما قرأ عليه شعر أبن هانئ الأندلسي (رحى تطحن قروناً) إذن أن أكثر شعره رحمه اله خطاب يعتمد على فخامة اللفظ وإيقاع الجرس حتى لترى في
كثير من شعره الخلو من المعنى، وخصوصاً في قصائده التي كان يلقيها في الحفلات التي يدعى إليها، لأنه كان يعتمد على التأثير على السامعين بالألفاظ لا بالمعاني، وبعبارة أخرى خلو شعره من الفن الصادق الذي يتسم به شعر شوقي. وقد يقول قائل إنني بهذه الكلمة أتجنى على المرحوم الرصافي وأنا عراقي، ولكنني أقول إن هذا هو الحقيقة، لأنني لا زلت من أشد المعجبين حماسة بوطنيته وإبائه، وقد نوهت عن ذلك في سلسلة مقالات نشرتها في مجلة الحديث الحلبية قبل سنتين، كما قلت في رثائه من قصيدة طويلة:
فدعوا القريض لأهله فعميده
…
معروف غادر عرشه محزونا
الشاعر الحر الذي بيراعه
…
راع (الملوك) وورع (الطاغينا)
فأنا الآن إذن لا أتحامل ولكني أقرر الواقع، وهاهي قصيدة شوقي الخالدة، وبرغم أنها نظمت سنة 1918 فهليستطيع أن ينظم شاعر مهماً دان له البيان مثلها؟!
خطونا في الجهاد خطى فساحاً
…
وهادنا ولم نلق السلاحا
رضينا في هوى الوطن المفدى
…
دم الشهداء والمال المطاحا
ولما سلت البيض المواضي
…
تقلدنا لها الحق الصراحا
فحطمنا الشكيم سوى بقايا
…
إذا عضت أريناها الجماحا
وقمنا في شراع الحق نلقي
…
وندفع عن جوانبه الرياحا
نعالج شدة ونروض أخرى
…
ونسعى السعى مشروعا مباحا
ونستولي على القسمات إلا
…
كمين الغيب والقدر المتاحا
ومن يصبر يجد طول التمني
…
على الأيام فقد صار اقتراحا
وأيام كأجواف الليالي
…
فقدن النجم والقمر اللياحا
قضيناها حيال الحرب نخشى
…
بقاء الرق أو نرجو السراحا
تركن الناس بالوادي قعوداً
…
من الاعياء كالإبل الرزاحى
جنود السلم لا ظفر جزاهم
…
بما صبروا ولا موت أراحا
فلا تلقى سوى حي كميت
…
ومنزوف وان لم يسق راحا
ترى أسرى وما شهدوا قتالاً
…
ولا اعتقلوا الأسنة والصفاحا
وجرى السوط لا جرحى المواضي
…
بما عمل الجواسيس اجتراحا
صباحك كان إقبالا وسعداً
…
فيا يوم الرسالة عم صباحا
وما نألوا نهارك ذكريات
…
ولا برهان غرتك التماحا
تكاد حلاك في صفحات مصر
…
بها التاريخ يفتتح افتتاحا
جلالك عن سني الأضحى تجلى تجلى
…
ونورك عن هلال الفطر لاحا
هما حق وأنت ملئت حقاً
…
ومثلت الضحية والسماحا
بعثنا فيك (هاروناً) وموسى
…
إلى فرعون فابتدرا الكفاحا
وكان أعز من روما سيوفاً
…
وأطغى من قياصرها رماحا
يكاد من الفتوح وما سقته
…
يخال وراء هيكله (فتاحا)
ورد المرسلون فقيل خابوا
…
فيا لك خيبة عادت نجاحا
أثارت وادياً من غابتيه
…
ولا مت فرقة وأست جراحا
وشدت من قوى قوم مراض
…
عزائمهم فردتها صحاحا
كأن، بلال نودى: قم فأذن
…
فرج شعاب مكة والبطاحا
كأن الناس في دين جديد
…
على جنباته استبقوا الصلاحا
وقد هانت حياتهم عليهم
…
وكانوا بالحياة هم الشحاحا
فتسمع في مآتمهم غناء
…
وتسمع في ولائمهم نواحا
حواريين أوفدنا ثقاة
…
إذا ترك البلاغ لهم فصاحا
فكانوا الحق منقبضا حييا
…
تحدى السيف من صلتنا وقاحا
لهم منا براءة أهل بدر
…
فلا إثماً تعد ولا جناحا
نرى الشحناء بينهم عتاباً
…
ونحسب جدهم فيها مزاحا
جعلنا الخلد منزلهم، وزنا
…
على الخلد الثناء والامتداحا
يميناً بالتي يسعى إليها
…
غدوا بالندامة او رواحا
وتعبق في أنوف الحج ركناً
…
وتحت جباههم رحباً وساحا
وبالدستور وهو لنا حيات
…
نرى فيه السلامة والفلاحا
أخذناه على المهج الغوالي
…
ولم نأخذه نيلاً مستماحا
بنينا فيه من دمع رواقاً
…
ومن دم كل نابتة جناحا
لما ملأ الشباب كروح سعد
…
ولا جعل الحياة لهم طماحا
سلوا عنه القضية هل حماها
…
وكان حمى القضية مستباحا
وهل نظم الكهول الصيد صفاً
…
وألف من تجاربهم رداحا
هل الشيخ الفتى لو استراحت
…
من الدأب الكواكب ما استراحا
وليس بذائق النوم اغتباقاً
…
إذا دار الرقاد ولا اصطباحا
فيلك ضيغما سر الليالي
…
وناضل دون غايته ولاحى
ولا حطمت لك الأيام ناباً
…
ولا غضت لك الدنيا صباحا
وبعد فهذه عصماء شوقي سقتها لتكون شاهداً على عبقريته ولتضم إلى مجموعة شوقياته، وخصوصاً إلى عشاق شعره الذين لا يحتفظون بنسخة منها.
وفي الختام أود أن أنبه أساتذة الأدب العربي في العراق وفي مدارسها التي تشرف عليها وزارة المعارف إلى أن لا يهرفوا مرة أخرى أمام طلابهم بأن الرصافي أشعر من شوقي، خوف أن يأتي زمن نكون فيه معرة المثقفين العرب. اللهم أهد لقد بلغت.
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري
مقدمة لكتاب (عقيدتي)
برتر اند رسل
الفيلسوف الإنجليزي المعاصر
للأستاذ عبد الجليل السيد حسن
فلسفته:
لا نظنك ظاناً أننا آخذون في تفصيل فلسفة برتر اند رسل، في هذا المكان، بل حتى ننأى بك عن أن تظن أننا آخذون في إجمالها لك الآن، وأنت تعرف من دون شك أن هذا الفيلسوف قد جال في ميادين عدة، كل ميدان منها يحتاج إلى غزو وتذليل، فأنت تعرف أنه فيلسوف قبل كل شيء ومنطقي، بل إمام في المنطق، وصاحب مذهب جديد فيه، ثم هو عالم رياضي من الرعيل الاول وكاتب اجتماعي وأخلاقي وصاحب أراء في التربية، وهو في كل ذلك نسيج وحده، يتناول كل شيء بعقله الخاص وذهنه العجيب. فهو حر إلى أبعد حدود الحرية، يمقت الاستعمار ويزدريه. ويرى أن بريطانيا بدون مستعمرات، وإمبراطورية، تكون أسعد مما هي عليه الآن، ولعل في ذلك أثر من جدته، ثم هو ببغض الألقاب والمزايا الوراثية ويسخط عليها مع أنه سليل اللوردات أرستقراطي الأصل.
وأن مفتاح فلسفة رسل هو الفكر الحر والنظر العقلي البحت والاطمئنان إلى ما يطمئن إليه العقل والنفور مما لا يتفق معه، ولا شك أن عقلاً هذه طبيعته وذهنا هذه خصائصه، لابد أن يتجه إلى الرياضة، فهو مثال العلمالعقلي الدقيق ولكن عقلاً جبل على النظر الحر لا بد أن يستقرئ ويتعمق حقائق الرياضة. فقاده ذلك إلى القضايا الأولية التي تتركب منها الرياضة، ولكن هل الرياضة هي الوحيدة التي لها هذه الميزة وهذه القضايا.؟ لا، إن هناك علماً آخر هو المنطق، علم النظر العقلي الدقيق أيضاً، فليدرس المنطق، ولكنه يجد أن المنطق يتكون من بديهيات عقلية أساس للحقائق الرياضية، إذن فالرياضة والمنطق أساسهما واحد، بل إن الرياضيات والمنطق الصوري شيء واحد، وفي مقدور العقل أن يستنتج كل حقائق الرياضيات من عدد صغير من البديهيات المنطقية، إذن فلابد للعقل أن يسير بهدى هذا المنطق، ولكن ليس هو المنطق القديم العقيم. وقد اتخذ رسل طريقة قويمة هي
طريقةالتحليل المنطقي، وكان أعظم ما عمله رسل هو تخليص التحليل المنطقي من سيطرة النحو التقليدي، فإن المهني النحوي لجملة من الجمل لا يؤدي لا معنى المنطقي لهذه الجملة، فحينما نقول:(أن وحيد القرن غير موجود حقيقة) فهذه الجملة ليست من نوع الجملة التي تماثلها من الناحية النحوية وهي (إن الأسود غير وديعة) فالجملة الأخيرة تعني أن هناك حيوانات معينة اسمها الأسود صفة معينة وهي الوداعة، ولكن الجملة (وحيد القرن غير موجود) لا تعني أن هناك حيوانات اسمها وحيد القرن وتنقصها صفة الواقعية، لأنه ليس هناك مثل هذه الحيوانات حتى تكون هناك مثل هذه الصفة.
إن أهم شيء في فلسفة رسل هو منطقه وآراؤه فيما بعد الطبيعية والأخلاق والطبيعة، والعلاقة بين المادة والعقل، ويمتاز رسل بتحليله المنطقي العميق وهو يحب أن لا توضع فلسفة في صف الفلسفة المثالية أو الواقعية، بل يفضل أن توصف بأنها (منطقية ذرية) لأن الشيء الذي يميز كل دراسته هو استخدامه للتحليل المنطقي كطريقة ومنهاج، واعتقاده أنه، بهذه الطريقة يستطيع أن يصل إلى رأي مقبول في طبيعته المادة فالمادة مكونة من ذرات وبتحليله المادة تحليلاً منطقياً يستطيع الوصول إلى حقائق ووقائع ذرية والذي يجدر بنا الإشارة الآن هو رأي رسل في المعرفة لأنه بمثابة العمود الفقري من فلسفته فيقول رسل (إن كل حقائق معرفتي عن العالمالخارجي هي حوادث في عقلي)(ص 171) ويوضحذلك فيقول (إن ما أعرفه بدون استنتاج حينما أكون حالة، ولتكن (رؤية الشمس) ليس هو الشمس بل حادثة عقلية في نفسي، وأنا لا أشعر بالموائد والكراسي الموجودة الآن، بل إن ما أحس به هو تأثيراتها المعينة فيَّ، وإن موضوعات الإدراك الحسي التي أعتبرها (خارجية) بالنسبة إليَّ مثل السطوح الملونة التي أراها ليست خارجية إلا في فراغي الخاص الذي يتوقف عن الوجود حينما أموت) (ص225).
(وحينما يقال إني أرى المائدة فإن الذي يحصل حقيقة هو أني أحس بإحساس مركب يشابه - باعتبارات معينة - في بنائه المائدة الطبيعية) فالإنسان حينما يرى المائدة لا يرى المائدة، بل إنما يرى منها لونها وشكلها، وإذا لمسها أحس بها، ولكنه لا يرى اللون أو الشكل حقيقة بل كل ما يحدث أن الإشعاع اللوني على بصره وأنه لا يرى الشكل كاملاً مستطيلا أو مستديراً مثلا بل يراه من جهة واحدة، ثم هو الذي يعطي له الشكل المستطيل
او المستدير، وحينما يلمسها فكل ما يحدث أن يتأثر إحساسه تأثيرات خاصة (فلسنا نرى حقيقة الموضوعات الطبيعة بشيء أكثر من سماعنا للموجات الكهرطيسية حين سماعنا للراديو)(ص 311).
والأمر الرئيسي في هذا القول هو إنني حينما أرى شيئاً وليكن مائدة مثلاُ فأن إدراكي الحسي هذا هو حادثة في عقلي أنا، ولكن ما هو الإدراك الحسي؟
يجيب رسل عن ذلك بأنه - كما يستعمل اللفظة - ما يحدث حينما يرى شيئاً أو يسمع شيئاً أو حينما يعتقد في نفسه أنه أصبح يشعر بشيء خلال حواسه.
وأما آراؤه في التربية فهو يرى انه ينبغي أن تعالج التربية في السنوات الأولى من الطفولة لأنه بعد سن السادسة تقريباً يكون قد تكون لدى الطفل عادات وميول بها يسهل قياده في الطريق الصحيح المراد أن يسلكه، فنحن نستطيع أن نشكل أو نوجه غرائز الطفل وقواه في سنواته الأولى إلى ما نريده من تربية. والطفل ليس شريراً أو خيراً بفطرته، بل أن الذي يحوله إلى الخير أو الشر هو التوجيه التربوي القويم أو المعوج في السنوات الأولى، ويهدف من التربية إلى خلق أناس يتوفر لديهم من النشاط والحيوية والشجاعة وعدم الخوف والذكاء وسعة الأفق وأتساع العقلية الشيء الكثير. ولا بد من الحرية الفكرية وتشجيع العزيمة - لدى الشباب - إلى مناقشة كل أمر، والإيمان بأن المعرفة يمكن تحصيلها، وأنها ليست مستحيلة وإن كانت صعبة في بعض الأحيان.
ومن المفيد أن يربط بين العلم النظري والحياة العملية وتبين فائدة العلم النظري في الحياة للأطفال، وليس معنى ذلك إهمال العلم المحض، فهناك علوم لها قيمة كبرى بغض النظر عن تطبيقاتها العملية.
ولنستحضر أمام أعيننا أن الحياة السعيدة هي تلك الحياة التي يفعم جوانبه الحب، ولكنه ليس حباً تقوده أمور اعتباطية، بل هو الحب الذي تقوده وتدير رحاه المعرفة والعلم، فمعرفة بدون حب تؤدي إلى هلاكنا، وحب بدون معرفة يؤدي إلى هلاكنا أيضاً.
وهل هناك من إله؟ يقول رسل أن لا! وأن كان هناك إله فهو إله محدود، وليس ببعيد أن يقول ذلك فهو الذي يقول أن الانسان وحش وإله. وليس هناك من إله مطلق القوة والقدرةبالصفات التي يعتقدها المستيحيون في الله، لأن الله لو كان مطلق القدرة ما خلق هذا
العالم الناقص. وقد برهن ليبتز على ان الشر من الضروريأن يوجد في العالم لكي يكون من الممكن إظهار خير أعظم منه ولكن ليبتز لم يلاحظ أن نفس الدليل يثبت أيضاُ وبنفس القوة أنه من الضروري وجود الخير لكي يكون من الممكن إظهار شر أعظم منه، ولو أن عالماً سيئاً بعض السوء قد خلقه إله مطلق الإحساس، فان عالماً خيراً بعض الخير قد يكون الذي خلقه شيطان مطلق الشر، وكلا الدليلين يبدوان إنهما محتملان عند رسل، ويكفى إنهما محتملان وليسا بنقيين فيالرد عليهما.
ونختتم الآن هذا العرض الموجز لحياة رسل، وطرفاً من فلسفته بنقل تجربة عاناها برتر آند رسل نفسه وسجلها في أحد كتبه قال (إني لم أولد سعيداً. . . وفي سن الخامسة تفكرت في إنني لو عشت إلى السبعين أكون فقط قد تحملت إلى الان جزءاً من أربعة عشر جزءاً من حياتي وشعرت أن الشقاء الطويل المدى الذي أمامي مما لا يمكن تحمله، وفي المراهقة عفت الحياة وكنت على شفا الانتحار الذي لم يمنعني منه إلا رغبتي في أن أتزود أكثر من الرياضيات. والآن فإني على العكس أتمتع بالحياة، وبالأحرى يجب أن أقول إنني أتمتع بها بمرور الأعوام، وهذا راجع نوعاً ما إلى توفيقي في اكتشاف الأشياء التي أرغب فيها أكثر، وقد حصلت على كثير منها تدريجاً، وهذا راجع إلى نجاحي في طرد أشياء - كانت موضع الرغبة - مثل الحصول على معرفة حقيقية لا تقبل شكاً عن شيء أو غيره - لأنها من المحال إدراكها، ولكن هذا يرجع في الغالب إلى التقليل من محاسبة نفسي، فقد كنت كالآخرين الذين تلقوا تربية جافة (حنبلية) كثير التأمل في خطاياي وحماقتي وتقصيري وبدوت لنفسي - ومن دون شك كان ذلك صادقاً - مثلاً تعساً، وبالتدريج تعلمت أن أكون قليل الاهتمام بنفسي وبتقصيري، وأخذت أركز انتباهي بازدياد نحو الموضوعات الخارجية: حالات العالم، الفروع المختلفة للمعرفة، والأشخاص الذين أشعر نحوهم بحب. وحقاً إن الاهتمام بالأشياء الخارجية له المه المحتمل: فقد يشتبك العالم في حرب، وقد تكون المعرفة من الصعب الحصول عليها في بعض النواحي، وقد يموت الاصدقاء، ولكن الآلام من هذا النوع لا تقضى على القيمة الجوهرية للحياة كهذه الآلام التي تصدر عن النفور مع النفس، وكل اهتمام خارجي يوحي - ما دام الاهتمام فعلاً قوياً - بشيء من النشاط الذي يعتبر وقاية تامة من السآمة والضجر، وعلى العكس من ذلك لا يؤدي الاهتمام بذات
الشخص إلى نشاط من النوع المتزايد).
والآنلندع رسل يحدثنا عن عقيدته وقد عرضها في كتابه هذا الصغير، وهو على رغم صغره أحد المراجع الهامة في فلسفة رسل، وميزة الكتب الصغيرة إنها تعرض المؤلف وعقيدته الخاصة لأنه ليس هناك من مجال لعرض آراء غيره وللمناقشات الطويلة التي لا يعرف منها رأي الكاتب إلا بعد طول عناء.
للكلام بقية.
عبد الجليل السيد حسن
رِسَالَة الشِعْر
حياتي ظلال!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
حياتي ظلال وعيشي ملال
…
ونفسي مغلفة بالعذاب!
وعمري قيود لروح شرود
…
تفرد. . . لا موطن أو صحاب!
وحبي سراب طواه اليباب
…
وقد كان يسعد قلبي الحزين
وقلبي غريب جفاه الحبيب
…
وأودع فيه لهيب الحنين
وصمتي أنين خفي الرنين
…
ويناجى عهودا طواه الخفاء
وتلك العهود تراها تعود
…
وتسقى حياتي رحيق الصفاء؟
وشعري نواح كشجو الرياح
…
إذا مزقتها شعاب الجبال!
ومن ذا يلوم؟ وعمري غيوم
…
تعربد فيها رياح الزوال!
عبرت الوجود بناي وعود
…
وغنيت ما هز قلب الجماد
فضاع الغناء ومات الرجاء
…
وصارت حياتي. . . بقايا رماد!
ومجدي هباء كنجم أضاء
…
لعابر ليل شريد غريب
فما أتاه توارى سناه
…
وخلفه للظلام الرهيب
وحظي ضياع وحقي مضاع
…
أحارب من أجله الغاصبين
وكم ذا أثور كنار تفور
…
فيستنصر الظلم بالظالمين
وكم ذا بليت وكم ذا اشتكيت
…
فضاعت شكاتي، وضاع البكاء
وما لي معين من البائسين
…
فنأخذ ما نبتغي. . . بالدماء
وبض الأنام عبيد طغام
…
يسخرهم سادة أدعياء!
أذاعوا الشقاء بأرض الثراء
…
لتسعدهم شقوة الاشقياء!
فقدت العزاء وعفت البقاء
…
يا أرض سقتني نقيع الشجون
أريد الرحيل كشمس الأصيل
…
إلى عالم لا تراه العيون
وكيف الذهاب؟ وجسمي تراب
…
ليفيني كما كان قبل الوجود
أمامي ظلال وخلفي قتام
…
وتحتي ركام كجون السحاب
وفوق الركام يسير الحطام
…
وما هو إلا حطام الشباب
بعيد الديار وكيف المزار
…
وما من دليل، ولا من طريق
شربت الهوان بكف الزمان
…
فأصبحت من سكرتي لا أفيق
بمن أستجير؟ ومالي من نصير
…
كأني أقيم بأرض الذئاب!
وكم لي نداء يهز الفضاء
…
وما من مجيب، وما من جواب!
علام الشكاة لصم عتاه
…
بكاء الحيارى لديهم. . . غناء؟
ويا قلب. . . آه! سئمنا الحياة
…
فهي نسر في طريق الغناء!
إبراهيم محمد نجا
اللب والقشور
للشاعر محمد مفتاح الغيتوري
لا تحسبي سخرك من شعوري
يطفئ بين الملهمين نوري. . .؟
يا أرض. . . يا خانقة الزهور
يا عبدة الأصداف والقشور
يا مقلة شائهة التصوير. . .
يا كعبة ملعونة النذور. . .
يا جثة منتنة البخور. . .
لسوف يوماً تبصرين نوري
نور الفتى المحتقر الفقير
فتسجدين سجدة المقهور
خاشعة. . . هنا على حصيري
باسطة كفيك كالضرير
صارخة من وطأة الضمير
فعربدي راقصة وثوري
واحتقري واستهزئي وجوري
وأغرقي ما شئت في الفجور
واستغرقي في وهمك النضير
فوق فراش الشهوة الوثير
وزهر القطيفة المنثور. . .
وتحت ضوء المرقص البللوري
ورنة الأرغن والطنبور
ورعدة الأكؤس في الثغور
وجيشان الرغبة المثير. . .
غداً تحين ساعة النشور ويعرف اللب من القشور
محمد مفتاح الغيتوري
الكُتُب
مواطنون. . . لا رعايا
تأليف الشيخ خالد محمد خالد
للأستاذ علي العماري
هذا كتاب يجيء في أوانه، وبقدر ما أخفق المؤلف في كتابه (من هنا نبدأ) بقدر ما أصاب من نجاح في كتابه هذا، ومقياس الإخفاق والنجاح عندي هو سلامة الفكرة، وأصالة الرأي، والقرب من الصواب، والبعد من المغالطة والتعثر والاضطراب.
ولعل كتاب (مواطنون لا رعايا) من أجدر الكتب بأن يطلع عليه كل من يستطيع أن يقرأ في مصر، بل في الشرق، فهو جدير عليه كل من يستطيع أن يقرأ في مصر، بل في الشرق، فهو جدير بأن يطالعه الزعماء وقادة الرأي في البلد إن كان عند هؤلاء رغبة في مطالعة كتاب شعبي ألفه رجل ليس من كبار المؤلفين، ولكن قوله من أحسن وأجمل وأصدق ما يجب أن يقال، وهو جدير بأن يطالعه شباب مصر المثقفون لأنه يعبر عما يجول في النفوس من الآم وآمال، وهو جدير بأن يطالعه رجل الشارع لأنه يبصره بمواضع قدميه، ويقول الكلمة التي لا يستطيع أن يقولها وإن كانت تحوم على لسانه، وتستقر في نفسه.
بدأ المؤلف كتابه في الحديث عن الاستعمار التركي، وما أصاب مصر من بلايا ورزايا، وما خلف فيها من آثار سيئة في حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ثم قال - وهنا بيت القصيد -: (ونحن ننبش قبر الاستعمار التركي لنكتشف الأوتاد المطمورة تحت ترابه، والتي لا تزال تصلنا بها سلاسل وأغلال. وما لم ننظف روحنا المسيطر من رواسب الماضي فسنظل دائماً نعيش في ذلك الماضي برجعيته وفساده واستبداده، وسيظل الشعب جاثياً تحت الأثقال التي انقضت ظهره، وهدمت قواه إننا - الدولة والشعب - لا نزال نعيش في ذلك الماضي السحيق، فالعجز السياسي، والرجعية الاقتصادية، والانهيار الخلقي، والشعب المستسلم، والحكم الأتقراطي، والفساد الإداري، والحريات المصادرة، واستغلال الدين. كل هذه الخطايا تقترف اليوم بنفس الهمة العالية التي كانت تجترح بها في تلك
القرون. إن الاستعمار التركي قد اختفى حكامه، وبقيت تقاليده وشعائره وأحكامه).
ثم تحدث عن الاستعمار الإنجليزي، مبيناً مثالبه وأخطاره، وشارحاً دخول الإنجليز مصر، والمظاهر المختلفة التي ظهر فيها الاستعمار، وأطال جداً في هذه الناحية، وانتهى إلى أن شيئاً ما تفعله الحكومة لن يخرج الإنجليز من مصر، فالمفاوضات لا ثمرة لها، والمنظمات الدولية خداع ونفاق وأداة في يد القوة، وإنما يخرج الإنجليز من مصر شيء واحد، هو القوة، ولا شيء غير القوة.
ولتحقيق هذه الغاية يتعرض المؤلف للأوضاع القائمة في مصر، وينقدها نقداً عنيفاً صريحاً لا مواربة فيه ولا التواء، ثم يوضح الطريق للاصلاح المنشود (ولقد حاولنا جهد هذا البحث المقتصد الموجز، أن ننفض عن أمتنا طغاة البغي، ورهج الانكسار، ونعاونها في فض قيودها وأغلالها، وسنرى خلال سيرنا مع هذه السطور ما يجعلنا نرتد عاجزين عن الاقتناع بأن لنا حقوقاُ ترعى وحرمات تصان) فينقذ الحياة النيابية، ويرسم الخطة لإصلاحها، وينقد الصحافة التي تجعل (الأخلاق التجارية تسيطر عليها أكثر مما يسيطر عليها الواجب الأدبي) وينقد الأحزاب ومناهجها وسلوكها في حكم الأمة (فالحزب الذي لا يستأثر بالحكم يستأثر بكل شيء معه. لقد آمنت بأن الاحزاب لا تحترم الشعب أبداً. أن الحزب - فيما يبدو - لا يريد نائباً يشرفه بعقله وماهبه، ولكنه يريد - بوليصة تأمين - تؤمن خزينته من الإعواز، ونفوذه من الخذلان. وبعد: فإن مجالسنا النيابية حتى اليوم لم تمثل الأمة بقدر ما مثلت الحزب. والبرلمان الذي يأتي ثمرة هذه الأوضاع الفاسدة - لا يحكم الحكومة بل تحكمه) وينقد الحكومات في معالجتها كل حركة بقانون، ويرى أن السلس الذي يصيب الحكومات في وضع القوانين هو أخطر ما تصاب به أمة، وأن محاولة زجر الشعب بقانون إنما هو كمحاولة إطفاء النار بقاذفات اللهب (ولسنا بذلك ندعو إلى شغب أو فتنة، بل إلى سكينة وسلام، وإنما دعاة الفتنة والثورة، بحق هم أولئك الذين يتحدون طبائع الاشياء ويحاربونها بقانون) ثم يصف خال الشعب في عبارات صريحة جريئة (إن بلادنا محرومة من أن تفكر لأنها محرومة من أن نقرأ، ومحرومة من أن نعبر ونقول، وهي ممنوعة من ذلك كله حرصاً على سلامة الدولة، وسلامة الهيئة الاجتماعية. مطلوب من الجماهير أن تبسط يدها إلى اللقمة العفنة، أو الحشرة الدسمة، ثم تدسها في فمها، وتستحلها
كما تفعل بأي شيء حلو لذيذ. ماذا طرأ علينا من تغيير وتطوير؟ كنا بالأمس (عبيد الباب العالي) ونحن اليوم عبيد الحزب الحاكم. . أي حزب كنا بالأمس ضحايا النهب والرشوة والاستغلال، ونحن اليوم كذلك أيضاً. كنا بالأمس مسلوبي الحرية والإرادة. . . وليس لنا دستور، ونحن اليوم مسلوبي الحرية والإرادة والكرامة ومعنا دستور. كنا بالأمس أمة مستعمرة بإكراه، ونحن اليوم أمة مستعمرة بمعاهدة) ويدعو في قوة وحماس إلى تنمية غرائز الغضب والنفور، وحب الذات في الشعب، وتركها تؤتي ثمارها في تقدم الأمة وتحريرها، ويرى أن غريزة حب الذات من انبل وأنفع السلائق الإنسانية.
ولو أن المؤلف أضاف إلى هذه المثبطات لتقدم الأمة، والعوامل في تأخرها، ولو أنه أضاف الإذاعة المصرية التي قتلت في الأمة عزتها، والصحف الماجنة التي جنت على أخلاقنا أشنع الجنيات وأقتلها، لأتم بذلك الدائرة الحقيرة التي تضغط الشعب وتحكم قيوده.
ولم أرد بهذا العرض السريع أن أوصل إلى القارئ كل ما في الكتاب من حقائق، وما يشتمل عليه من توجيهات للحكومات والشعوب، وإنما أردت - فقط - أن أشير إلى روح الكتاب ونهجه.
على أني لا أخلي المؤلف من اللوم، فإن عنده عقدة نفسية من رجال الدين، فهو يهجم عليهم لغير مناسبة، ويجنى عليهم ولا جناية، وليس أدل على ذلك من ذكره لهم عند حديثه على غريزة الغضب وغريزة حب الذات، فهو يحاول أن يحملهم وزراً مع أنهم لا يخالفونه في الرأي، وهو عند - النظر الفاحص - لم يزد على ما يقولونه شيئاً، وأنا لا أريد أن أخلي رجال الدين من التبعات، ولا من اللوم، ولكني أحب أن نلوم عندما نجد موضعاً للوم حتى يكون لومنا مفيداً. كما أن المؤلف لم يوفق في كلامه على التقاليد وبخاصة حين قال:(والحقيقة التي تغرب عن بالنا هي أن الأديان جميعها لم تأت إلا لتدمدم على التقاليد وتقلعها ثم تذروها مع الريح. .) هكذا يعمم الكلام. . . وهو خطأ ذريع.
إن المؤلف أسرف في إرخاء العنان للغرائز التي ذكرها، ولكنه دون أن يشعر رجع إلى الاعتدال، فهو مثلاً ينقل عن بعض الكتاب مؤيداً ما يقول الكاتب، وفي هذه الكلمات التي أشاد بها المؤلف هذه الفقرات عن غريزة الغضب (ولكننا إذا أرخينا الحبل لهذا الحافز العاطفي الذي لا غنى عنه كانت النتيجة مدمرة، فإن البغضاء المزمنة أو إمساك الحقد في
القلب يمزق صاحبه) وهذا هو الاعتدال الذي ينادي به رجال الدين ورجال التربية في كل الغرائز ولا شيء غير هذا، فإذا كان المؤلف مؤمناً بهذا الاعتدال فهو - إذن - لم يأت بجديد، وإذا كان يريد أن تترك الغرائز تجري غاية حضرها فقد أخطأ الطريق.
والمؤلف ينكب الجادة عن قصد أو غير قصد حين يدعو إلى التحالف مع روسيا، وحين يشيد بعبارات جميلة بروسيا وبمواقفها مع مصر، ولو التزم جانب السداد والنظر الفاحص، لرفض أن يدعو إلى التحالف مع روسيا كما يدعو إلى رفضه مع بريطانيا وأمريكا.
بريطانيا وأمريكا دولتان استعماريتان، تضمران للشرق كل شر. هذا صحيح. ولكن روسيا - أيضاً - كذلك، ولا أدري كيف نسى المؤلف أو تناسى معاونة روسيا على قيام إسرائيل!؟
إن روسيا تحارب الاستعمار في كل مظاهره - كما يقول المؤلف - ولكنها لا ترى بأساً من أن تساعد على طرد شعب من دياره ليحل محله شعب آخر! الحق يا أستاذ أن - الكفر كله ملة واحدة - كما يجري على الألسن.
وأعود فأقول إن المؤلف كفر بكتابه (مواطنون لا رعايا) عن كتابه (من هنا نبدأ) والحسنة كفاء السيئة.
ع. ع
كتب جديدة:
حافظ وشوقي
تأليف الأستاذ حسن كامل الصيرفي - 76 صفحة من الحجم الكبير - الطبعة الثانية بالمقتطف عام 1949
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
الأستاذ الصيرفي شاعر مجدد من المدرسة الحديثة في الشعر المصري المعاصر. وديوانه: (الألحان الضائعة) و (الشروق)، وألحانه الجميلة وتأملاته التي تنشر في الصحف والمجلات، من الطراز الفني العالي، الذي ينم عن شاعرية موهوبة أو نفس شاعرة، وملكات مطبوعة. . ورمزيته في ترانيمه الموسيقية الآسرة واضحة كل الوضوح، كما
يقول الناقد الحر مصطفى السحرتي في كتابه (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث).
ونشاط الصيرفي الأدبي نشاط مبكر جداً، فمنذ الخمسة عشر عاماً كان يشرف على تحرير بعض المجلات الأدبية، ويكتب البحوث في الأدب والنقد، وينظم القصائد الجميلة العالية.
وآخر ثمراته الأدبية كتابه (حافظ وشوقي)، الذي يدل على عقلية مؤلفه الخصبة، وملكاته القوية في النقد، ومنهجه الواضح في الموازنة والتحليل، والدراسة الأدبية الصحيحة.
وصعوبة الكتابة عن شوقي وحافظ من حيث الموازنة المنهجية بينهما، لا يجهلها أحد، ولكن الصيرفي نهض بهذا العبء في قوة واستقامةغرض ودقة تحليل وإصابة هدف.
والشاعر لا يستطيعأن ينقد شعره إلا شاعر مثله، يفهم منهج الشعر ومذاهبه وأدواته، ويتذوق أسلوبه وعناصره. . . سئل البحتري عن سلم وأبي نواس أيهما أشعر؟ فقال أبو نواس. فقيل له إن أبا العباس ثعلباً (الرواية اللغوي الأديب النحوي المتوفى 291 هـ) لا يوافقك على هذا؛ فقال: ليس هذا من شأن ثعلب وذويه المتعاطين لعلم الشعر عمله.
لذلك كان نقد الصيرفي الشاعر لشوقي وحافظ الشاعرين: وموازناته الأدبية بينهما، من الدقة والإصابة بمكان بعيد ما تحس به حين يتحدث عن ديباجة الشاعرين وموسيقاهما، أو حين يحلل شعرهما السياسي والتاريخي، أو شعرهما في الطبيعة والمرأة، وفي الرثاء، وفي بعض المواقف التاريخية والوطنية: كحادثة دنشواي، ووداع كرومر، ووفاة مصطفى كامل، وإعلان الدستور العثماني وخلع عبد الحميد، وحريق ميت غمر، وزلزال مسينا الذي صوره حافظ، وزلزال طوكيو الذي صوره شوقي، ومحاولة اغتيال سعد.
وحين يعرض الصيرفي الناقد لفن الشاعرين نلاحظ قوة وروعة لا مثيل لهما، رغم الإيجاز الشديد في حديثه عن ذلك وهذه الموازنات بين الشاعرين تسير وفق أحدث المناهج الأدبية في النقد، فهي ليست نمطاً من الموازنات القديمة، التي تنظر إلى الألفاظ والقواعد، وتحليلبيت، وتعداد محاسن وعيوب محدودة، وإنما هي موازنات تنظر إلى البواعث النفسية التي أثرت في فن كل من الشاعرينوإنتاجهما.
إن هذا الكتاب القيم الجدير بأن يضفي على شخصية الصيرفي الشاعر شخصية الناقد الحر الطليق
محمد عبد المنعم خفاجي
مدرس بكلية اللغة العربي
البَرَيدُ الأَدَبي
تعليق على (الدخان في الشعر)
كتب الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري في العدد 925 من الرسالة الغراء مقالة بعنوان (الدخان في الشعر) استعرض فيها بعض القصائد في الدخان لبعض الشعراء العراقيين.
وأول ما تناول كاتب المقال قصيدة (العادات قاهرات) للمرحوم الرصافي المنشورة في ديوانه الأول المطبوع سنة 1910م بالمطبعة الأهلية ببيروت.
ولقد استوقفتنا بعض العبارات التي دونها الأستاذ بيراعه على صفحات الرسالة. وإظهاراً للحقيقة ودونا التعليق والرد على ما جاء، بهذه الفقرات التالية لكي يقف على الحقيقة. الفقرة الأولى: -
علق الأستاذ على هذه الأبيات من أنها خير دليل على كذب الرصافي
إن كلفتني السكارى خمرتهم
…
شربت لكن دخاناً من سيكارتي
إني لأمتص جمراً لف في ورق
…
إذ تشربون لهيباً ملء كاسات
إن الرصافي نشر هذه القصيدة بديوانه المنشور سنة 1910م وربما نظمها قبل هذا التاريخ ببضع سنوات، وبهذه الفترة الزمنية في حياته كان صادق اللهجةفي إنكاره الخمرة بعيداً عما يتصوره الأديب، حيث أنه لم يتحرر من العامل الديني آنذاك تحريراً كلياً، إذ كان يقتصر على التدخين وحده، ولا يرى في الكأس إلا سماً زعافاً.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا إنه شاعر، والشاعر له احساسات وعواطف يحس فيها بقرارة نفسه، فيتناول براعته ليضعها في قوالب موسيقية متناسقة، ويلبسها حلة زاهية. ولو علم أن ما كتب مخالف لما هو عليه، فرائده تدوين ما انبثق من حسه وما يتصور من شعور.
ولو فرضنا جدلاً أن الرصافي يحتسي الخمر حقا في تلك الحقبة الزمنية فقصيدته جاء بها عن طريق النصح والارشاد حتى يتعظ القارئ ويقتنع من قول ناصحه.
ولقد سلك الرصافي مسلكاً تحليلياً لإبانة ضررها بصورة يشعر المطالع لها أن ناظمها ممن يجب الاقتفاء بأثره فيتخذ بنصحه فهذا لا يعتبر كذباً.
الفقرة الثانية: -
استشهد الأديب بهذه العبارة للأستاذ الكبير (الزيات بك)(همه من الحياة شرب العرق، ولعب الورق، واستباحة الجمال).
إنا لا نزعم أن الرصافي لم يحتس الخمرة قط ولا ذاق طعمها، بل يعود نظم هذه القصيدة في وقت كان أبعد ما يكون فيه عن الخمر أما عبارة الأستاذ الزيات فكانت صريحة لا غبار عليها - وهذا ما نتفق به مع الأديب الناصري - إذ قدم العراق بين فترة سنة 1930م إلى سنة 1933 والرصافيبحد ذاته لا ينكر ذلك بل ينطق بصراحته التي تعهدناها فيه. وإليك قصيدته التي نظمها بعد تلك القصيدة أي (العادات قاهرات).
(شكواي من الدهر)
إذا ما عقدنا مجلس الأنس بالطلا
…
فبيني وبين السكر خمس دقائق
أقوم إلى كبرى الزجاجات مدهقاً
…
بمستقطر من خالص التمر رائق
فأقرع بالكأس الروية جبهتي
…
بشرب كما عب القطا التمر رائق
فأقرع بالكأس الروية جبهتي بشرب كما عب القطا متلاحق
أسابق ندماني إلى السكر طائراً
…
يجنح الأنس المضاعف خافق
فنادمت أصحابي على غير وحشة
…
وقلت لهم ما قلت غير منافق
وأغنيتهم عن نقلهم في شرابهم
…
بمز طرى من نقول الحقائق
ولم يبد في السكر عند اشتداده
…
سوى شكر خلى أو سوى حمد خالقي
تعودت سبقاً في الفخار فلم أرد
…
من السكر أن أحضى به غبر سابق
هذه هي صراحة الرصافي في شرب الخمر، ولو كان شاربها في ذلك الوقت الذي نظم فيه قصيدته (العادات قاهرات) لاعترف بذلك كما هو معترف بهذه القصيدة.
أما وصف الأستاذ الزيات بك الرصافي وهي العبارات المتعلقة في الفقرة الثانية فقد جاءت نتيجة قدومه إلى بغداد بين سنة 1930م إلى سنة 1933م فألفاه على ما هو عليه ووصفه بما رآه في تلك الفترة. فهل يجوز أن تكون عبارة الزيات برهاناً قاطعاً على جميع الادوار والفترات التي مر بها الرصافي؟ بينما القصيدة كانت من إنتاجه أيام شبابه حيث لم يتحرر من التقاليد الدينية آنذاك، والتي تلقاها على يد أساتذته أمثال الالوسي وعباس القصاب.
الفقرة الثالثة: ذكر الأستاذ الناصري (ولست أدرى ماذا كان الرصافي يقول لو شاهد ألان
الغانيات وهن يدخن في شوارع بغداد) أن القارئ الكريم لو ينعم النظر في هذه الجملة لفهم أن الرصافي ولد وعاش في القرن الثامن عشر. فكيف يسوغ للأستاذ أن يكتب مثل هذه الجملة حول الرصافي. وهو الذي توفي سنة 1945م وخالط جميع الطبقات من رفيعة إلى وضيعة ووقف على أسرار كل منهما. وليعلم القارئ أن الرصافي جاب البلدان ورأى بأم عينيه مدناً كالآستانة والقاهرة ودمشق وبيروت والقدس وجالس الكثير من عوائلها المتفرنجة التي لا يشين نساءها شرب الدخان وهن يتجولن في المجتمعات العامة والحفلات الخاصة وهو صاحب الدعوة إلى السفور.
أمثل هذا الرجل لم تنظر عيناه امرأة بفمها سيجارة خلال السنين التي جاب بها تلك الأقطار؟!
وفي الختام ليعلم الأستاذ الناصري إننا لم نتطرف في التعليق على هذا الموضوع لولا ما لحق الرصافي من غبن.
بغداد
هاشم الطائي
1 -
نسبة الشعر
نسب المقدم السيد نعمان ماهر الكنعاني في كتابه شاعرية أبي فراس البيتين التالين إلى أبي فراس
نحن قوم تذيبنا الأعين النج
…
ل على إننا نذيب الحديدا
والصحيح إنهما لعبد الله بن قيس الرقيات شاعر مصعب بن الزبي الذي يقول فيه
إنما مصعب شهاب من الله
…
تجلت عن وجهه الظلماء
حكمه حكم رحمة ليس فيه
…
جبروت ولا به كبرياء
كما أن البيت الثاني ورد على الصورة الآتية
وتراني يوم الكريهة آسا
…
داً وفي السلم للغواني عبيدا
ولست أدري كيف غفل عن ذلك الخطأ الدكتور مصطفى جواد كاتب المقدمة وهو الصديق الذي لا تفوته هذه الأخطاء؟!
2 -
دعس لا دهس
نشر الشاعر العراقي الأستاذ أحمد الصافي النجفي في جريدة (اليقظة) البغدادية بعنوان (إلى ولي العهد الجنين) جاء فيها
كم قضى منهمو بلكم ودهس
…
واختناق كما دخلت الوجودا
أمش وادهس فأنها حشرات
…
ألصقوا بالثرى خدودا وجيدا
وقد لاحظت أن الشاعر أورد لفظة أدهس بمعنى ادعس وهذا خطأ شائع إذ جاء في القاموس (دعس) بفتح الأول والثاني والثالث وطسه وداسه. . أما من ناحية القصيدة فهي ركيكة الابيات مهلهلة الصياغة لست أدري كيف نشرها، إذ لا تخرج عن منظومات تلامذة المدارس الثانوية، فليت شعري ما أصاب الاستاذ الصافي وهو صاحب (الأمواج). .
3 -
الشعر لأبي تمام
جاء في الصفحة (302) منكتاب الأوراق في أخبار الشعراء لأبي بكر الصولي أن المرثية التي مطلعها
كان الذي خفت ان يكونا
…
إنا إلى الله راجعونا
من شعر أبي محمد (القاسم بن يوسف) ولا شك أن هذه النسبة من سوء تصرف شارح الكتاب من الصولي نفسه، لأن هذه القصيدة هي من شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي وهي
وترانا في ساحة الحرب أحرا
…
راً وفي السلم للحسان عبيدا
منشورة في ديوانه في باب المراثى ص (336) حرف النون ومنها هذه الأبيات الرائعة:
آخر عهدي به صريعاً
…
للموت بالداء مستكينا
إذا شكا غصة وكرباً
…
لاحظ أو راجع الأنينا
يدير في رجعه لساناً
…
يمنعه الموت أن يبينا
يشخص طوراً بناظريه
…
وتارة يطبق الجفونا
ثم قضى نحبه فأمسى
…
في جدث للثرى دفينا
فهل لا نسلم بعد كل هذا من زلل فظيع كنسبة شعر لشاعر مشهور إلى غيره من نكرات
الشعراء.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
إلى الراغبين في الحج
قيد الله أداء الحج بالاستطاعة، وقد فصل الفقهاء بإسهاب ما يجب على من يريد الحج في كتب الفقه تفصيلاً دقيقاً ويزاد عليها أن يكون المال الذي يحج به الإنسان من طريق حلال ومن كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيباً - قد أديت زكاته وقت وجوبها خال من ظلم العباد ومن الرياء والسمعة وطلب الشهرة والرفعة بين عباد الله حتى يصير خالصاً لوجهه الكريم (إنما يتقبل الله من المتقين).
على أن للحج من الأدب والمتممات ما يجب أن تؤدى على الوجه الأكمل ليكون مقبولاً، ولذا نجد - مع الأسف الشديد - أناساً قليلين أتموا أعمال الحج الظاهرة والباطنة فأنارت أفئدتهم وظهر على وجوههم وأعمالهم هذا الإشعاع النوراني الذي يضئ لهم طريق النجاح بل طريق الهداية والفلاح، والبقية الباقية وهي كثيرة لم تستند من روحانية الحج شيئاً مذكوراً خصوصاً في عصرنا الراهن الذي أصبحت فيه الأوضاع مقلوبة، فنرى أغنياء الحرب يتكالبون على طلب الشهرة من طريق الحج لأنه في نظرهم أقصر طريق لوصفهم بالطائعين وللتشبه بالصادقين.
ولكنها الدنيا العابثة تجعلنا ما دمنا بعيدين عن روح الدين وعن جادة الطريق - نحسب الشر خيراً والشبهة حلالاً.
ومن آثار الحج المقبول أن يحيي الضمائر التي أماتتها الشهوات النفسية ويجعلها ساهرة على أعمال النفس - وقد خلقها الله أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فصار لزاماً على من يحج أن يسأل نفسه: لماذا يحج، ولمن يحج، وما فائدة حجه؟ وأن يبلو نفسه ولا يفتر عن تأديبها بين آن وآخر فإجهاد النفس شديد - لقول الرسول عليه السلام في رواحه من غزوة (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) يشير بهذا إلى جهاد النفس! وأوامر الشرع الحكيم مبنية على المجاهدة.
وجماع القول: أن الحج المقبول التام هو تغيير كلي في الأخلاق والعادات والأفعال؛ بل هو في الحقيقة انتقال من حسن إلى أحسن، ومن كمال إلى أكمل، والله الموفق للصواب.
شطانوف
محمد منصور خضر
ولقد عفا عنكم
هكذا ينبغي أن تكون الآية الكريمة، لا كما جاءت في السطر السادس والعشرين من الصفحة 296 من العدد 923 من مجلة الرسالة الغراء الصادر في 12 من مارس سنة 1951، إذ أوردت (ولقد عفا الله عنكم) في صلاة أم عمارة، وهي من أهل الجنة لا تخطئ في القرآن، وهي تصلي به.
محمد مختار يونس
القَصَصُ
الغيب
عن الإنجليزية من روائع (وست) للأستاذ عبد القادر حميدة
(مسرحية في فصل واحد)
الأشخاص:
ريتشارد ألين: أستاذ جامعي سابق
إدوارد لين: ضابط متقاعد
المنظر:
(حجرة استقبال بمنزل المستر ريتشارد ألين في (لوتون) إحدى المدن الصغيرة بإنجلترا. . الساعة الخامسة والنصف من أصيل اليوم السادس من يونيو عام 1936 - المستر ألين جالس إلى مكتبه يكتب - وعلى مقربة منه قصاصات من أوراق مكتوبة. . وزجاجة من النبيذ وكأسان. . يتناول الكراسة فيمزق آخر ورقة سطرها. . وحين يلقي بها على المقعد. . يصل إلى سمعه دق على الباب فينهض من مكانه. . ويفتحه)
ريتشارد: أدخل يا مستر لين.
إدوارد: (في غرابة) أتعرف اسمي؟
ريتشارد: كنت أتوقعك
إدوارد: أظن أن الدكتور (راودن) تحدث وإياك بشأني معي رسالة يقدمني بها إليك. . آمل أن لا تزعجك هذه الزيارة غير الرسمية. .
ريتشارد: (يتناول الرسالة ويلقي بها على المكتب دون أن يفضها) أنا لا أهتم بالرسميات. . إني أمقتها. . أتسمح لي أن أتناول قبعتك ومعطفك.؟
(يتناولهما منه ويضعهما على مقعد بجانب المكتب). . . (إدوارد جالس)
ريتشارد: (يمسك زجاجة النبيذ وينزع سدادها. . ويفرغ منها في جوف كأسين). . لعلك تشاركني الشراب. . إنها مناسبة طيبة لنحتفي بك. . . (أثناء الشراب). . . في أي يوم نحن.؟
إدوارد: في اليوم السادس من يونيو
ريتشارد: لنشرب حتى الساعة السادسة من اليوم السادس من الشهر السادس عام 1936
إدوارد: (وهو يتناول الكأس) إنها الآن السادسة تماماً. .
ريتشارد: (في فزع). . لا. . ليست كذلك. . والآن. . أبسط إلي الأمر الذي من أجله أردت أن تراني
إدوارد: لقد طالعتني إحدى الصحف بمقال عنك نادتك فيه بالرجل الفريد في (لوتون) والأستاذ الجامعي الذي لا يود مطلقاً أن يتحدث إلى أحد. .
ريتشارد: ترهات.!! أنا لست بمثقف. . ولست بأستاذ جامعي الآن. . ثم إني أتحدث إلى كثير من الناس. . بيد إني لا أحب أن أجادلهم. . إني أكره مباحثة الأشياء معهم. . لأنني لا أجد أية راحة في البحث والنقاش.
إدوارد: أنا لا أظن أن يوجد في (لوتون) أناس كثيرون تجد مناقشاتك في نفوسهم هوى. . فما (لوتون) إلا مدينة ضئيلة ملئ بشرذمة من أغبياء القوم. . الذين لا يثرثرون إلا في أمور عادية هي أشد تفاهة من عقولهم المصدئة. . وإذا عن لهم أن يطرقوا باب المناقشة فليكن في الحثالات والنفايات.
ريتشارد: قد يكون هذا هو الصواب. . وقد لا يكون فأنا لم أقابل إلا أفراداً قلائل منهم. . وإن كانوا قد تحدثوا إلي في شيء من الذكاء. . إلا إنني لم أجد لذة في حديثهم.!! وأنت. . هل أتيت لتقيم هنا على الدوام.؟
إدوارد: أجل. . أجل. .! ولقد اعتزلت عملي، وسأظل هنا على الدوام. . وإنه ليسعدني أن ألقاك من وقت لآخر. . وستجد في محدثاً يحسن الجدل في لباقة.! أنا لا أفخر بذكائي ولست أقصد التواضع. . فهو أغث من الكبرياء.! لقد ارتحلت كثيراً. . واطلعت بتوسع. . وخبرت الحياة. . فوقفت على الكثير من خباياها.! وإني أعتقد أنك سوف ترتاح إلي عن الآخرين. . هل تجد في حديثي إليك أي غضاضة أو عدم ارتياح؟
ريتشارد: حقاً. .! إنك تملك عقلاً سليماً. . وتستعمله استعمالاً طيباً. . ولكنك سوف لا تتمكن من الوصول إلى السر الذي أنطوي عليه. . قبل أن أودع الحياة. . وهاهو ذا اعترافي. .
إدوارد: يمكنك أن تثق بي. . وإنه ليبدو لي أنني أعرفك من قبل.
ريتشارد: (وقد تناول وسادة موضوعة على المكتب) ضع هذه خلف ظهرك لتريحك. . أوه.! أجل. . أنت تعرفني من قبل. . لقد التقينا في مدرسة القديس أنطوني.
إدوارد: (مستذكراً) نعم. . لقد تذكرت الآن. . (ديك ألين) منافسي الخطير الذي فاز بجوائز المدرسة دوني. .
ريتشارد: أجل. . لقد كنا في المدرسة زميلين. . كنت أنا مثال الطالب الغبي الذي يتخذ مكانه في مؤخرة الصفوف. . وكنت أنت أنموذجاً رائعاً للجد. . سواء في عملك أم في لهوك. أما أنا فقد كنت أرتبك في أبسط الحاجات. . كم كنت أنظر إليك بعين الحاسد. . لنجاحك المطرد
إدوارد: إنك لم تكن غبياً كما تعتقد. . ولكنك لم تجد ميلاً من نفسك لدراسة الأشياء. . والتغلغل في أعماقها. . إنك لم تكن عملياً بالمعنى المنشود
ريتشارد: لم أكن أبداً عملياً. . . (لحظة صمت وشرود). . . ذات يوم. . . حين كنت في المدرسة. . . عثرت - دون قصد - على كتاب غريب أسمه (قوى العقل الغامضة).
إدوارد: أتقصد قراءة الأفكار؟ أذكر أني قرأت بعض تجارب لهذا النوع. . كم كانت مسلية للغاية. . فمثلاً. . الرجل يفكر في رقم من الأرقام. . أو أسم من الأسماء. . فتذكره له زوجه. . ولكن التجارب لم تكن دائماً موفقة.
ريتشارد: لا. . . لست أقصد قراءة الأفكار. . . إن ما أعنيه هو معرفة (الغيب). ومعرفة الغيب هي إدراك المستقبل والتنبؤ به. . . والإنسان الذي يوهب هذا الشيء الخارق. . تكون له القدرة على لمس الحوادث قبل وقوعها. . قال الكاتب هذا. . وقال أيضاً إن هذه القوى نادرة الوجود جداً. . ففي كل مليون آدمي. . واحد فقط هو الذي يملكها. . وغالباً ما يجهل هذا الواحد أنه يملكها! قال الكتاب إن هذه القوى يمكن تنميتها وفسر كيف يكون ذلك.
إدوارد: (في دهشة) أنا لا أفهم شيئاً مما تقول. . زدني إيضاحاً.
ريتشارد: (متضايقاً) سل نفسك عدة أسئلة عن أشياء تتوقع حدوثها. . دون أن تشغل عقلك بشيء. . وعندئذ ستتوارد الإجابات على ذهنك.
إدوارد: هراء.! إنه غير ممكن. . وليس لمخلوق القدرة على التنبؤ بالغيب.
ريتشارد: أرجوك. . لا تقاطعني. . أنصت إلى قصتي العجيبة:
لم أكن سوى طفل صغير غير مصدق ما يضمه هذا الكتاب بين دفتيه. . وهل اكتملت فيه عوامل الصواب. . أم لا.؟. حاولت بادئ ذي بدء أن أتنبأ بأشياء صغيرة على سبيل التجربة، فمثلاً كنت أسائل نفسي: من الذي سيقتحم علي الغرفة بعد؟. وخطت محاولاتي خطوات واسعة. . حتى أقدمت على ذلك الاختبار التاريخي الذي كنت أخشاه لعقيدتي الراسخة بأنه نوع من الخداع وحاولت التنبؤ بالأسئلة التي سوف تلقى علي.
إدوارد: وماذا كانت النتيجة؟ أذكر أنك صعدت فجأة إلى القمة. . وصرت تبزني بعدها في كل الامتحانات.
ريتشارد: نعم لقد كنت دائماً أحمل لك في نفسي الحقد والحسد لتفوقك علي. . ولكن بعد ذلك. . بدأ نجمي في الصعود. . وأخذت أحوز السبق في المعمعة دونك. . لأنني أصبحت مخادعاً عبقرياً. . أجل. . إنه اعتراف صارخ مني بأن نجاحي كان خدعة كبيرة. . ثم سارت حياتي في ركب الحياة على تلك الوتيرة وهذا هو سر فشلي.
إدوارد: ولكنك بتلك القوة الخارقة. . تستطيع أن تنال قسطاً وافراً من النجاح. .
ريتشارد: انتبه. . لقد كسبت جائزة مدرسية كما تعرف. . ثم حصلت على مجانية التعليم الجامعي. . وكل جائزة جامعية وصرت في طليعة المتقدمين. . ولم يجرؤ أحد على منافستي. . ولما نلت إجازة التدريس عينت أستاذاً بالجامعة. . وأذكر أني كنت أحدث أستاذ تولى ذلك المنصب. . وبعدها. .
إدوارد: (في تحفز) ماذا حدث؟
ريتشارد: قدمت استقالتي. . . لقد كان يجب علي أن أستقيل كنت أجهل المادة التي أدرسها. . . وهي الأدب الإنجليزي. . . إذ كان عقلي لا يحمل سوى القدر اليسير الذي اجتزت به الامتحان. . . أعني الأسئلة التي تنبأت بها. . . ودرست الإجابة عنها.
إدوارد: وماذا كان من أمرك بعد؟ أوفقت في الحصول على عمل آخر؟
ريتشارد: أرسلت طلبات عدة. . . ضاعت معها محاولاتي أدراج الرياح. . . بيد أني في النهاية وفقت إلى عمل متواضع. . . كمدرس بسيط. . . ولكني استقلت.
إدوارد: (في عجب) استقلت! كيف ذلك؟ إني أعتقد أنك سوف تكون مدرساً موفقاً. . .
لاسيما وأنك ستعرف ما ستأتي به الامتحانات. . . وسينجح تلاميذك بفضل إرشادهم إياهم إلى الإجابة الصحيحة.
ريتشارد: (في أسف) أجل: كان من السهل أن أفعل ذلك. ولكن ضميري لم يسمح لي بأن ألقي بتلاميذي في بؤرة الجهل التي تحتويني، فلم أرض أن أخدعهم. وتجنبت مواضع الأسئلة التي سيمتحنون فيها. . . وكان أن رسب جميع التلاميذ فرميت بعدم الكفاءة على التدريس. . وأقصيت من عملي وواجهتني عاصفة هوجاء من الفقر. . فقلت لنفسي. . إذا لم يتيسر لي الحصول على المال الشريف فسأنهج أي طريق آخر للحصول عليه. . (يرمق إدوارد بنظرة طويلة شاردة) ألم تذهب يوماً إلى السباق. . ألم تراهن على جواد ما؟
إدوارد: راهنت أكثر من مرة. . ولازلت أراهن على المملكة الفضية.
ريتشارد: (وقد أسبل جفنيه وقتاً). . راجا هو الأول. . المملكة الفضية هو الثاني. . الحظ هو الثالث. . سوف تخسر كل مراهناتك يا مستر إدوارد! لقد ربحت من وراء المراهنات مالاً طائلاً. . ولكني لم أتذوق لذة هذا الربح لأني كنت أعرف أنني سأربح دائماً. . إن لذة المال ليست في كسبه. . وإنما هي في التنقيب عنه والجري وراءه!!
إدوارد: إنك مثالي للغاية. . ولم تحاول مطلقاً أن تقنع نفسك بلذة الحصول على هذا المال.
ريتشارد: (مستطرداً) ولما لم أشعر بلذة هذا الربح. . عولت على ترك المراهنات. . والتحقت بمكتب للتأمين. . كنت قادراً على أن أدلي بآرائي السديدة إلى الشركة فأشير عليها مثلاً بقبول تأمين هذا. . لأنه سيحيى طويلاً. . وبرفض ذاك لأنه سيموت غداً! ولاقت توجيهاتي رواجاً محموداً. . فتبوأت في الشركة مقعد المجد والشهرة. . وعينت وكيلاً لها بإحدى المدن الضخمة. . ثم مستشاراً عاماً لجميع شركات التأمين. .
إدوارد: لعله عمل طيب ومدر للربح في وقت واحد!
ريتشارد: لا بل كان على النقيض. . لأنني كنت أدرك خطورة الجرم الذي أقدم عليه. . لقد كانت الشركة دائماً تستحوذ على أكبر قدر من المال. . والجمهور هو الذي يخسر. . هل تسول لك نفسك أن تحرم إنساناً حقه. . فتسلب أمواله. . لتقدمها إلى الشركة. . وربما أنت تعرف أن أسرته وأولاده في مسيس الحاجة إلى هذا المال؟ إن التأمين الوحيد الذي جعلني أشعر بالسرور ذلك الذي أشرت على الشركة أن تعقده - وكنت أدرك نتيجته - فخسرت
الشركة كل أموالها. . ولهذا طردت من عملي.
إدوارد: إنك ذو قلب كبير، وضمير مستيقظ. . ولكن لماذا لم تخض ميدان التجارة. . أو الصناعة. . وفي مقدورك أن تفلح دون أن تؤذي الآخرين.؟
ريتشارد: حاولت كلتيهما ولكني لم أستمر. .
إدوارد: كيف؟ تقصد أنك لم تفلح في تجارتك؟
ريتشارد: كنت موفقاً إلى حد بعيد. . فصار لدي المال الوفير. . وأصبحت من ذوي الثراء. . ولكني فقدت لذة العراك في سبيل الكسب. . وهتفت بالسعادة من ورائه فضللت السبيل إليها. . إن مجرد كسب المال ليس كل ما ينشده إنسان طموح يحاول جاهداً أن يساير ركب البشرية المواج الذي يتدافع بالمناكب نحو غاية سامية. . إن المنافسة والنضال. . والرغبة في الغلبة. . والأمل في الربح. . هي السعادة المأمولة لرجل الأعمال. . المال يمنح النفوذ والقوة. . ولكن النفوذ والقوة لم يكونا عماداً للسعادة. إن الأعمال يجب أن تقترن دائماً بالمنافسة. . إنها مباراة يكسب فيها كل جدير بالكسب! أما أنا فكانت منافستي خالية من حرارة النضال. . لأنني كنت أعرف أن الظفر لي. . وحينما أظفر. . يتراءى أمام عيني شبح الخداع الذي أتوارى خلفه. . فأتألم.