الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 935
- بتاريخ: 04 - 06 - 1951
شكر.
. .
إلى صاحب الجلالة الفاروق أعز اله نصره، وجمل بالأدب والعلوم عصره، أرفع أخلص الولاء وأصدق الدعاء وأجزل الشكر، على تعطفه بالأنعام السامي الكريم على جندي من جنود الأدب، لا يتعزز بحزب، ولا يتقوى بمنصب، ولا يتعالى بثراء؛ وإنما هو العمل المتواضع الخالص لوجه الله والوطن، لا ينبغي من ورائه عرضاً من أعراض الدنيا، ولا غرضاً من أغراض الجاه. والعمل الذي لا يرجى ولا يخشى ولا يبتليه رجل السياسة لأنه لا يساعد على الظفر بالحكم، ولا يحفله صاحب الحكم لأنه لا يعين على البقاء فيه. إنما يذكره مالك الملك لأنه رب الجميع فيثيب عليه يوم لا أمر ألا أمره؛ ويقدره صاحب العرش لأنه ملك الجميع فيكافئ عليه حين لا قدر إلا قدره. والله يحكم على العمل بالنية لأن السرائر لا تخفى على علمه؛ والملك يحكم عليه بإخلاص لأن الشوائب لا تعلق بحكمه.
وإذا كان واجب الولاء أن أسجل بالثناء عطف جلالة الملك على رجال الأدب؛ فأن واجب الأنصاف يضطرني أن أبرئ الحكومة القائمة من تهمة الخروج على العصبية الحزبية؛ فربما سبق إلى بعضالظنون أنها التمست هذا الأنعام الملكي على عضو من أعضاء مجمعفؤاد الأول؛ لأن الوفد مدين للأدب في دعوته وثورته وقوته وروحية، منذ استولى سعد زغلول على العقول والميول ببلاغه بياناته وبراعة خطبه، إلى أن أخرج مكرم عبيد، وتوفي صبري أبو علم ولكن الحق الذي يحلو حينا ويمر أحينا، أنها أسقطت هذا الشاكر فيمن أسقطت من رجال القلم، لأنها لا تزال تعتقد أن من لم يكن لها فهو عليها، وأن من لم يكن وفديا فليس مصريا والمنطق الطبيعي لا ينفي أن يكون في المصريين قوم يخدمون السياسة العليا، أو يؤيدون القضية الكبرى، دون أن يتجهوا جهة معينة، ويتبعوا خطة مبينة؟ فيهتفون بالرجل من أي حزب إذا أحسن، وينهون بالعمل من أي عامل إذا صلح ولكن من يدري؟ ربما حذف ما حذف من الأسماء، قبل أن يعرض الأمر على الوزراء. ومن قبل ذلك قلت: إرادة الصغير أداة الكبير!
أما بعد فأن الألقاب زوائد في الأعلام لا تكمل الرجل الناقص، ولا تصحح العمل الخطأ. وآفتها أنها قد تميز بالقانون ما لم يتميز بالطبيعة، وأنها تجعل من الفروق بين الناس في الدنيا، ما لم يجعله الله بينهم في الدين. والديمقراطية التي تصوغ شعارها من المؤاخاة والمساواة؛ والديكتاتورية التي تتخذ رمزها من الموطنة والمرافقة، تنظران بعين العجب
إلى أمة ناهضة لا تزال تقدس ألقاب التميز، وهي مسلمة بمح دينها ما بين الأفراد والجماعات من الفروق، ديمقراطية يسوى دستورها بين المواطنين في الواجبات والحقوق.
أحمد حسن الزيات
على هامش السياسة الدولية
للأستاذ عمر حليق
وراء التوتر المخيف الذي يسود العلاقات الدولية هذه الأيام بعض العوامل الجوهرية التي قل أن يفطن لها المتتبع للشؤون الدولي عن طريق الصحف السيارة وغيرها من المواصلات الفكرية السريعة.
وهذه العوامل لا تقتصر على التنافس الاقتصادي والسياسي بمعناه الشائع؛ وإنما تشمل أوجها أخرى على غاية من الخطورة، وعلى عوامل بعيدة الأثر راسخة النفوذ في صميم المقومات الخلقية والثقافية والنفسانية لهذه الشعوب التي تنقسم الآن إلى معسكرات متطاحنة، تهددالإنسانية بويلات الذرة والهيدروجين وشتىأسلحة الحرب الحديثة المروعة.
ولقد ظهرت في الآونة الأخيرة - في أمريكا وبريطانيا على وجه الخصوص - دراسات عميقة البحث، علميةالمنهج، تحاول أن تلقي أضواء على تباين هذه المقومات الخلقية والثقافية والنفسانية في الشعوب المتخاصمة التي بلغت حدة خصومتها درجة يدركها المتتبع لمجرى الحوادث اليومية في عالم قلق مرهف الأعصاب.
وسيحاول كاتب هذه السطور أن يستعرض في فصول قصيرة ألواناً من هذه النتائج التي وصلت أليها تلك الدراسات التي توخى الباحثون فيها أهدافاً إيجابية نزيهة - نظراً لما فيها من نفع يستعين به رجل العصر على تفهم الأحداث ومكافحة الإرهاق العصبي الذي تخلقه مشاكل السياسة الدولية.
والتعرف على حقائق العلاقات الدولية ضرورة حتمية لأهل الشرق، وليست ترفا ثقافيا يمكن الاستغناء عنه.
فالموطن في مصر أو سوريا أو العراق أو نجد مثلا له مصلحة وصلة مباشرة بالتطورات السريعة المتلاحقة التي توجه العلاقات الدولية هذه الأيام - مصلحة وصلة أكثر وثوقا من مصلحة الموطن الذي يعيش في الأرجنتين أو الأروغواي أو غيرها من هذه الدويلات التي تعيش في أمريكا اللاتينية مثلا - وهي قسم من العالم لا تجاوره، وتهددهتهديدا مباشرا حدة التوتر الدولي وأخطار الحروب العالمة كما تهدد الشرق الأوسط مثلا.
والدراسات التي أشرنا أليها تتوخى التعرف معرفة جوهرية صادقة على حقيقة السلوك
الإنساني لمختلف الشعوب - وعلى الأخص تلك التي في يدها مقدرات السلم والحرب.
ومعادل هذه الدراسات علوم اجتماعية متنوعة - منها علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، والأنترويوجيا وفلسفة التاريخ والاقتصاد بالإضافة إلى العلوم الاقتصادية والسياسية. فالاقتصاد والفلسفة السياسية والتاريخ لا تكفي للتعرف على أسباب التوتر في العلاقات الدولية. فالكثرة من المعلقين السياسيين في الصحف السيارةيقتصرون في تحليلهم للعلاقات الدولية على مطالعاتهم في التاريخ والاقتصاد والسياسة المعاصرة. وقل أن تجد من يزود نفسه بالدراسة العلمية العميقة لتلك العوامل النفسانية والاجتماعية المتباينة التي تؤثر في سلوك الشعوب والجماعات القومية إزاء المشاكل السياسية والعسكرية والاقتصادية التي يواجهها العالم المعاصر.
وقد فطنت لهذه الحقيقة مؤسسة اليونسكو التابعة لهيئة الأمم فكانت جماعة من أهل الاختصاص بالتعرف على دراسة العوامل الخفية الآنفة الذكر وتعميمها بين المثقفين من صناع السياسة وأولئك الذين يوجهون الرأي العام في مختلف الدول والأمصار - من صحفيين وكتاب -
وقد صنفت اليونسكو دراستها في أربعة أبواب: -
الأول: - يبحث في نفسية المواطن في بلد ما وعلاقته بالخلق القومي العام لذلك البلد.
وتحت هذا الباب يلمس الباحث ألوانا من الحقائق الجوهرية الخطيرة التي تسير الاتجاهات العاطفية لذلك الشعبفي صلاته مع العالم الخارجي، ومبلغ التوتر أو الصفاء الذي ينتج عن سير تلك الاتجاهات العاطفية وما تخلق في المراحل النهائية من عنف أو مسلمة إذا ما أن صدمت بالاتجاهات العاطفية والمقومات النفسانية للشعوب الأخرى.
بمعنى آخر - فأن التعرف على المقومات الخلقية لشعب ما والتي يتميز بها عن غيره من الشعوب - التعرف على هذا الاختلاف يساعد كثيرا على تفهم أسس التنافس السياسي الدولي الشديد الذي نقرأ عنه في الصحف السيارة ونتساءل عما إذا كان من الممكن التغلب عليه وإحلال الصفاء والانسجام مكان الخصومة والتحدي.
والثاني: - يسعى لفهم الصورة التي يحملها شعب ما عن الشعوب الأخرى، وهل هذه الصورة صادقه - بمعنى أنها منطبقة على الصورة الحقيقية لتلك الشعوب - أم أنها وليده
الاستنتاج الخاطئ الناتج عن سوء ٍالاجتهاد والانفعال النفساني العليل، والمعرفة المشوهة التي يحملها ذلك الشعب عن الحقائق التاريخية والاقتصادية والسياسية للشعوب الأخرى؟
وهذا بمعنى آخر - محاولة للتعرف مثلا على مبلغ الصدق فيما تدعيه دولة أو شعب ما بأن خصمه مجبول على العنف والغطرسة، وأن الحقد والدسيسة من خصائصه الخلقية الأصيلة، وأن ذلك الخصم مهما صادقته وحاولت توثيق العلاقات الودية معه فأن أهله مفطورون على التحدي والخسة والغدر. فكثير من الناس مثلا يعتقدون بأن الشعب الألماني شعب حربي لا يلتزم السلم ولا يشارك في حفظه حتى لو توفرت له أسباب الطمأنينة السياسية والعسكرية والاقتصادي. فمثل هذا الاعتقاد ظاهرة خطيرة لها أثرها البعيد في سلوك الشعوب تجاه الشعب الألماني من جهة؛ وفي سلوك الشعب الألماني تجاه الشعوب الأخرى متجهة أخرى. فأنت إذا اقتنعت بأن الناس لا تؤمن بأنك حريص على الوداد والصداقة فأنك ستسلك في المراحل النهائية - سلوك تحد مبعثه بأسك من إزالة هذه الصورة الخاطئة التي يحملها الناس عنك. وللصبر حدوده
والثالث: - يحاول أن يتعرف الأسباب التي دفعت شعبا من الشعوب لأن يحمل صورة خاطئة عن شعوب العالم الذين يعيش فيه. ويحاول كذلك أن يحصر تلك الأسباب في إطار علم النفس الاجتماعي مستندا إلى الحقائق الاقتصادية والعوامل التاريخية والسياسية التي تعيش في الحياة القومية لذلك الشعب.
وفي علم النفس الاجتماعي أسلحة يعتقد العارفون بها إزالة أسباب القطيعة وسوء السلوك والعقد النفسانيةالتي هي ليست وليدة التنافس الاقتصادي والقلق السياسي فحسب، بل هي كذلك ناتجة عن الجهل بالمقومات الخلقية والثقافية للعائلة الإنسانية على نحو ما أشرنا أليه. وفي استطاعة أولى الدراية كذلك أن يلجئوا لتلك الأسلحة لتحقيق السيطرة والتفوق السياسي والعسكري والاقتصادي على الشعوب الأخرى.
والرابع: الوصول من هذا التبويب والدراسة السابقة إلى حصر الأسباب التي تدفع الشعوب إلى الشقاق والعنف وإلى الحرب والقتال.
وهذا الحصر لا يكون بدراسة التنافس الاقتصادي وحدة الجدل السياسي - كما أشرنا سابقا - وإنما يكون بتمحيص المؤثرات الثقافية والاجتماعية للشعوب المتخاصمة، ومن الأمثلة
هذا التمحيص معرفة الطريقة التي يربى بها ذلك الشعب أطفاله في سن الحداثة.
فقد حلل مثلا أحد العلماء في الانترويولوجيا البريطانيين من الذين قاموا بدراسة التوتر الدولي على ضوء ذلك العلم - المقدمات الخلقية للشعب العربي، فوجد العرب - والشعوب الشرقية أجمالا - تزم أطفالها في سن الحداثة زما يقيد اليدين والرجلين تقييدا كليا ، ويمنع الطفل من الحركة ولا يترك له من أعضاء الجسد ما يوفر له الاتصال بالعالم الذي يحيط به سوى فمه وعينه. واستنتج العالم من ذلك أن الشعب العربي تبهره مظاهر العظمة والقوة المحسوسة (بواسطة العينين) تؤثر فيه البلاغة (بواسطة الفم). ولذلك فقد أشار على الدول والشعوب التي تتصل بالعرب بان تبهرهم بألوان العظمة والبأس المجسم (من طائرات وأساطيل وقوات عسكرية يراها بعينه) وان يخاطبهم - أي العرب - بالمنطق المعسول والكلمات المنتقاة.
هذا مثل واحد من أمثلة عديدة على هذااللون من الدراسات التي يطمح كاتب هذه السطور أن يلفت إليها النظر في استعراضه لبعض المؤثرات الجوهرية التي لا يفطن إليها كثير من الناس في معرض تفكيرهم وتأثرهم بمجرى العلاقات الدولية.
نيويورك
للكلام صلة
عمر حليق
الثنائية والألسنية السامية
للأستاذ الأب مرمرجي الدومينيكي
نص البحث القيم الذي ألقاه الأب الفاضل في الجلسة الأخيرة
لمجمع فؤاد الأول بدعوة منه
من المتجلي للعيان ولا يختلف فيه اثنان هو أن مصر المحروسة متبوئة عرش الزعامة والتقدم بين سائر البلاد العربية، ولا سيما في ميدان النهضة الثقافية والعلمية واللغوية. ومن ظواهر ذلك الجامعات المتعددة ودور العلوم ودور الكتب الكثيرة، ولجان التأليف والترجمة والنشر. ومن ذلك خاصة خدمة اللغة العربية والسعي في إنعاشها لتصبح آلة مرنة فتجارى الحضارة والمعارف العصرية. ومن تلك الوسائل الفعلة هو مجمعكم الموقر المحلى باسم مؤسسه؛ ذلك العاهل الأعظم حامي العلم واللغة ملك مصر (فؤاد الأول) وتحت ظل ورعاية نجله وخلفه الملك المعظم فاروق الأول المالك سعيدا. ولذا اشعر بغبطة وحبور لوجودي بينكم، انتم عليه أرباب العلم والأدب والحكمة، وسدنة حرم هذه اللغة العربية الكريمة، سيدة جميع لغات بني سام. وقد لبيت بكل افتخار دعوتكم اللطيفة لأبسط لكم كيفية محاولتي المؤازرة في خدمة المعجمية العربية على ضوء الثنائية والألسنة السامية، وهي وسيلة قد بذلت الجهد في تأليفي قصد تبيان فؤادها الجمة، وان ظهرت في أول وهلة غير مألوفة، فأقول:
من العلوم العصرية التي نشأت على يد أرباب البحث في البلاد الغربية (علم المقارنة) الذي طبقوا أصوله على مختلف الفروع العلمية، فنجم عن ذلك حقائق ثمينة ومفيدة، كانت بقيت مجهولة لولاه وضمن دائرة اللغات توالدت موازنة الصوتيات والصرفيات والنحويات والمعجميات ومن ذلك كله المقارنة الألسنية السامية.
ومعلوم أن الساميات الأمهات تنقسم إلى طوائف، منها الطائفة الشرقية وهي اللغة الكدية الداخل فيها الآشورية والبابلية، والطائفة الغربية الشمالية الشاملة الكنعانية والآرامية والعمورية. الكنعانية فرعان: هما الفينيقية والعبرية. والآرامية فرعان أيضاً: هما الآرامية الغربية، والآرامية الشرقية. ولهجتها الفصحى هي السريانية. ثم هناك الطائفة الغربية
الجنوبية الشاملة اللغات العربية واللغات الحبشية. العربية تتشعب إلى فرعين: العربية الجنوبية، وفيها السبئبية والحميرية، والعربية الشمالية، ولهجتها الفصحى هي العربية القرآنية. اللغات الحبشية ثلاثة فروع: الجعزية، وهي الفصحى القديمة، ويليها الأمحرية والنكرية.
هذا ولم يعد يكفي للتقصي عن أصول الألفاظ العربية أو السريانية أو العبرية أن يكون الباحث متضلعاً من واحد أو اثنين من هذه الألسن، بل لابد أن يكون واقفاً على قواعد وخواص معجميات كل هذه الساميات الأمهات؛ وما يرجع إلى كل واحدة منها من اللهجات، فضلاً عن معرفة بعض الألسنة غير السامية التي لها علاقة بالعربية أو بغيرها من الأخوات الساميات.
ثم أن علم التأصيل في المعجمية غير متوقف على الإشارة إلى كلمة من الكلمات مستعملة أو واردة في اللغة الفلانية، بل الارتقاء إلى اللغة الأم الصادرة عنها اللفظة المذكورة. وغير كاف الوقوف عند اللسان القناة المارة فيه تلك المفردة، فإن ادعى أحد الباحثين أن هذا الحرف سرياني دخيل في العربية، وظهر بالتقصي انه ليس بسرياني بل مسرين ودخيل من اليونانية أو الفارسية أو ألا كدية أو العبرية، فلا يجوز إذ ذك القول بسريانيته، وهو غير سرياني، إذ قد يكون دخيلاً في كلتا اللغتين من لسان ثالث، مثال ذلك الألفاظ التالية الواردة في العربية والسريانية معاً: فردوس. . بستان. . ببغا. . . . . باغ. . بإذنجان. أبنوس أسفين كعبة، كعبنا، بدوي، بدوايا.
فهل من المعقول الذهاب إلى إن كل هذه الكلمات سريانية دخيلة في العربية، في حين أن التقصي يثبت أن الست الأول منها فارسية، وان أبنوس وأسفين من اليونانية، وان كعبة وبدوي من العربية ذاتها؟
ثم أن المقارنة الألسنية السامية غير متوقفة على البحث في لغة واحدة من الساميات، بل جميعها. ثم يتحتم اعتبار هذا المجموع كلغة واحدة قد تفرقت خوصها وأسرارها في مختلف اللغات الأخوات، مما يقتضي معه الاستعانة تارة بمميزات الواحدة لفائدة الأخرى، وطورا السعي في إثارة الغامض في هذه بما هو واضح وصريح في تلك، فلا يكفي والحالة هذه وضع أصول الساميات الأخر بازاء المادة العربية؛ لان مثل هذا العمل لا يلقى على المواد
المبحوثة إلا نورا ضئيلا، ولا يأتي إلا بفائدة جزئية، لعجزه عن إيضاح التناسق المعنوي، وإزالة التضارب والتنافر، ليس بين المفاهيم العربية وحسب، بل بين مدا ليلها ومدا ليل أخواتها السامية البواقي.
ثم لتأصيل الألفاظ عن طريق الاشتقاق، وهناك قاعدة لازمة الاتباع، وهي الانتقال من الفحاوي المادية المحسوسة إلى المداولات المجردة والمجازية، ومن حياة البداوة إلى حياة الحضارة، ومن مزاولة الرعاية والزراعة إلى معالجة الصناعات والفنون والعلوم. ومن هذا القبيل نجد العربية آلة من أنفع الآلات تبز سائر أخواتها السامية، إن لم تقل اللغات البشرية.
إن العائشين اليوم في عصر التمدن والرقي على اختلاف ضروبه، ليكرهون البادية ماقتين حياتها البدائية، وهذا معقول، لان الرقي غير متوقف على الرجوع إلى الوراء، ولا على النزول إلى اسفل، بل على التقدم دائماً لبلوغ الكمال قدر المستطاع. ويود بعض معاصرينا إجلاء معاجمنا من كل الكلم التي يشتم منها رائحة لا حياة البدوية، حتى لا يبقى فيها سوى الألفاظ والتعابير الحضرية، لا بل العصرية الحديثة وما يلزم أن نستحدثه منها اندفاعاً مع تيار التقدم المتواصل.
هذا من حيث الروح والذوق العصري، أما نحن، معشر المتخصصين للمعجمية، وما تشمله من اشتقاق وتأصيل وثنائية وألسنية، فلا تمالك من الإشادة بفضل أولئك اللغويين القدماء الذين قاموا بالرحلات العلمية، قاضين السنين الطويلة بين ظهراني أهل الوبر، فجمعوا لنا كل تلك المفردات البدوية الخالية منها الألسن السامية الأخر التي لم تجمع ولم تدون مفرداتها إلا ألبان بلوغ أربابها طور الحضارة. ففقد منها اغلب الأصول والرساس الأولية بمعانيها المادية المحسوسة. وفي هذا يظهر الفضل العميم، فضل اللغة العربية على شقيقاتها، والدليل الساطع على قدم ألفاظها، مع إنها دونت بالكتابة آخر جمعها. مما تتحقق معه هذه الحقيقة الحليلة، وهي إن العربية هي المفتاح النفيس لفك مغاليق كثير من الغاز المعجمية السامية، وذلك بالرجوع إلى الرس الثنائي الصائن عادة اقدم المدلولات؛ أي الفحاوي البدائية الفطرية المحسوسة الملموسة.
فلنر ما هي هذه الثنائية:
أن طريقة الاشتقاق والتوسع في الساميات قائمة على الارتقاء من الأقل والأنقص، إلىالأكثر والأكمل، أي حب السنة الطبيعية، سنة الرقي، وليس بالعكس ألا من باب الاختزال وهو نادر، ولا يحدث في طور التكون والنشوء، بل في عصر الكهولة والهرم. وأنا من القائلين بأن الاشتقاق في العربية يتم بزيادة حروف، لا بطريقة النحت أو التركيب. لأن اللغات السامية عموما، والعربية خصوصاً، ليست بنحتية، والعلاقة الأساسية الثابت وجودها في الغالب بين المشتق والمشتق منه هي اللحمة أو الصلة المعنوية، مع توسع الدلالة وتطورها بالانتقال من حيز المعاني المادية الحسية إلى حيز المداليل المجردة والمجازية، ثم المقلية الروحية.
وفي طور التكون اللغوي تبدأ الزيادة بالحروف عن طريق السماع دون القياس، فتنشأ بضرب الفوضى، ثم تسير رويداً رويداً في سبيل التكامل والاستقرار. فمنها ما يبلغ درجة القاعدة والقياس المطلق أو النسبي؛ ومنها ما يتخلف فيبقى دون نظام ومما يساعد على استمرار هذه الحالة هو مفاجأة اللغة المتكلم بها بتدوينها بالكتابة، وإنزالها منزلة اللغة الفصحى المتصفة بالميل إلى المحافظة على الحالة الراهنة قدر مستطاعها لمقاومة التطور الملازم طبيعة كل الأشياء
هذا وأنا من الذاهبين إلى عدم وجود علاقة طبيعية ضرورية بين الصوت أو الحرف أو الكلمة وبين المعنى المتعلق بها. لأن الأصوات مجردة، وليس في طبيعتها ما يجعلها دالة حتماً على الشيء الفلاني أو الفحوى الفلاني، إنما تنشأ الصلة بين الصوت والمعنى اتفاقاً، أو بإدارة المتكلمين عن طريق السماع أو الاستعمال
أنا غير جاحد إن لبعض الكائنات الطبيعية دويا، وللحيوانات أصواتا. بيد أن الناس لا يقتبسون القدرة على التصويت أو التكلم بالتعلم من الطبيعة أو الحيوان. لان ذلك من خاصية أعضاء النطق فيهم، وبفضل هذه الخاصية يتمكنون من محاكاة دوي الطبيعة وأصوات الحيوانات، لكن بطريقة متباينة، إذ أن كل فريق أو قبيلة أو شعب يتوهم فيها سماع نوع من الدوي والصوت؛ فيحاكيها طبقاً لهذا الوهم.
وبعض الأحيان تجري هذه الزيادة بالحروف لمقاصد تلوح منضادة، دونكم أحرف المعارضة فأنها تستخدم لأداء دور واحد خاص بكل منها، بل للقيام بأدوار عدة متمايزة،
فالياء تستعمل للغائب والمثنى وللجمع المذكر والمؤنث والنون للمتكلمين. لكنها تأتى أيضا في السريانية للغائب المفرد والجمع وفي بعض الأحيان اللهجات العربية للمتكلم. الهمزة تكون للمتكلم بيد أنها ترد للغائب في طائفة من اللهجات المسفورة: التاء تدل على المخاطب المذكر والمؤنث وعلى المثنى والجمع المذكر والمؤنث. وكذا القول في الميم المتوجه بعض الصيغ فأنها تدخل على اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر الميمي واسم المكان والزمان واسم الآلة وفي كل هذه المباني تختلف المداليل والحرف واحد.
زد على ذلك إن الحروف عرضة للإبدال في العربية كما في أخواتها السامية فإن الثناء العربية تبدل تاء في الأرمنية وشينا في العبرية واللأكدية والحبشية والذال العربية تبدل زايا في العبرية والاكدية والحبشية ودالا في الأرمنية. ثم أننا نجد في العربية العين والغين والحاء والخاء، وفي اللغات الباقية لا يوجد سوى حرف واحد يقابل الاثنين العربيين، وفي الاكدية لم يبق إلا الخاء، فضلا عن هذا هناك التغير الطارئ على بعض الحروف بفعل التفخيم، فإن التاء تفخم فتضحي دالا، ثم طاء، ثم ظاء، والسين تفخم فتصبح صادا، والضاد العربية تمسى صادا في العبرية، لا بل عينا في السريانية، وهلم جرا.
كل هذا دليل على ما أبديناه من إن الحروف مجردة من ذات طبعها إنما يخصص لها معان وأدوار بالسماع والاستعمال. ومن باب الإطلاق يمكن القول بأن كل الحروف - ماعدا المتنافرة غير القابلة التجاوز تركيبا ولفظا - تصلح لان تكون حرفا للتوسع، ولا سيما في طور التكون، أي طور الرساس الأولية الثنائية الذي يعقبه طور الثلاثية بزيادة حرف ثالث على الحرفين الرسبين. أما تداول هذه الحروف فمتباين، إذ منها ما يستخدم اكثر، ومنها ما يبقى نادر الورود.
ولنا مثال في العربية على بقاء حالة الفوضى وعدم الخضوع لقياس في المصادر الثلاثية المجردة، وجموع التكسير وحركة عين الماضي والمضارع من المجرد الثالث وعدم ورود كل المزايدات لكل واحد من المجردات. فأنها كلها لا ضابط لها فتستند على السماع وتعرف من المعاجم وكذا القول في الحروف التي تزاد على الرساس والأصول فإن بعضها يستمر دون قيد ولا رابط على الحالة البدائية ولا اعتماد في شأنها ألا على الصلة المعنوية بين المزيد والمزيد فيه، قدر ما يتوصل إلى تحقيقها بعد التطورات والتقلبات الكثيرة التي
طرأت على اللغة بمرور الأحقاب إلى أن بلغت طورها الحالي.
اجل في المزايدات الثلاثية والرباعية تجري الزيادة غالبا بحروف معينة للدلالة على معان خاصة كما هو مفروض في طور التصرف إلا أن هذا بذاته لا يتم باطراد مطلق إذ لا يخلوا من اثر الفوضى القديمة لان كثيرا من هذه المزايدات المعدودة قياسية تعود إلى الدلالة على المجرد عينه زد على ما ذكر أن هذه المزايدات يراد بها مفاهيم مختلفة ومبتعدة أحيانا غاية الابتعاد عن المعنى المقصود من زيادة الحرف المعين لهذه الغاية أعنى انه لا يزال فيها شيء من الفوضى أو عدم الاستقرار الخاص بالطور القديم.
دونكم مثلا وزن (افعل) المزيد فيه همزة، حسب قول الصرفيين للدلالة على التعدية نحو أجلسته، أكرمته، أبعدته. فأنه خلافا للقصد المتوخى من زيادة الهمزة، يراد به فحوى الدخول في الشيء. نحو اصبح: دخل في الصباح، والمبالغة نحو أشغلته: بالغت في شغله. والصيرورة، نحو أقفرت الأرض: أضحت قفرا. والسلب، نحو أشفى المريض: ذهب شفاؤه وأخيراً يأتي بمعنى المجرد ذاته، مما ينافى المراد من الزيادة نحو أفلت البيع، بمعنى قلته أي فسخته. كذا وزن (فعل) المضاعف، أي المكرر العين للتعدية فانه يطلق، فضلا عن هذه الدلالة الخاصة، على التكسير، نحو قطعت الحبل: جعلته قطعا. وعلى السلب، نحو قشرت العود: نزعت قشرة، وعلى اتخاذ الفعل من الاسم بنحو خيم القوم: ضربوا خيامهم، كذلك وزن (استفعل) الدالة فيه الزيادة على الطلب، فإنه يستعمل أيضا لوجدان الفعل. نحو استعظم الأمر: وجده عظيما. وللتحول، نحو إستحجر، وللتكلف، نحو استجرأ. وللمطاوعة، نحو أراحه فاستراح، وأخيرا يرجع إلى فحوى المجرد عينه كأنه لم تكن زيادة، نحو استقر بمعنى قر، وقس على ذلك بقية المزيدات، تلك التي تدعى قياسية بتخصيص دور الحرف المضاف إليها
البقية في العدد القادم
الأب مرمرجي الدومينيكي
بريطانيا العظمى
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
عتاب:
أخذ على بعض الأصدقاء من القراء الكرام أنني في هذا الوقت الذي تقف فيه بريطانيا ضد أمانينا القومية حرياتنا قد امتدحت الخلق البريطاني؛ بل أنني أفضت في الثناء على البريطانيين وكان العكس أوجب. وقد سرني عتابهم هذا ولكني وجهت إليهم السؤال التالي: (أتعتقدون أن البريطاني غير مخلص لوطنه؟ وهل تشكون في تضحيات البريطاني من اجل وطنه؟ فكان الجواب بالنفي. قلت (إن بريطانيا عظيمة لان أبناءها مخلصون لها.) وإذا أردنا نحن أن نسود في أوطاننا وان نسترد ماضي مجدنا فعلينا أن نقوي عزائمنا وان نوحد صفوفنا وان نقبل على التضحية كما كان يفعل أبناؤنا وأجدادنا.
وأمر أخر احب أن الفت النظر إليه، وهو انه ليس من الخير لنا أن نتغاضى عن عيوبنا، وان نتجاهل أسباب قوة أعداءنا، فيكون مثلنا كمثل النعامة التي تخفي رأسها وقت الخطر وتعتقد أنها بهذا قد أصبحت آمنة.
وأمر ثالث احب أن أذكره؛ وهو إن هذه المقالات تتسم بسمة البحث العلمي، والبحث العلمي يجب أن يكون بعيداً عن الأهواء الوطنية والعواطف السياسية، ومن ثم فأرى لزاماً علي أن أعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله؛ وإذن فيجب علي أن امتدح البريطانيين حين يستحقون المدح، وان أهاجمهم اشد الهجوم حين يستحقون ذلك. ولا يستطيع إنسان كائناً من كان أن يبرر عدوان بريطانيا علينا واحتلالها لأراضينا وعملها على فصل جنوب الوادي عن شماله، وتشريدها لعرب فلسطين بمؤازرتها لليهود، ولكني احب أن أقول لقومي:
السيف اصدق أنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
وأنا اعد حضرات القراء بأنني قبل أن اختتم مقالاتي عن بريطانيا سأعقد فصلاً خاصاً عن علاقتنا بها وكيف يجب أن تقوم.
مشكلات
ولعل حضرات القراء يوافقونني على أننا متخلفون عن ركب الحضارة قرناً كاملاً، وأننا
في عصرنا الحاضر نواجه مشكلات واجهتها الأمم الأوروبية في القرن التاسع عشر وتغلبت عليها. ولعل من الخير لنا أن نعرف كيف تغلبت أوروبا على هذه المشكلات حتى ننتفع بتجاربها ونستفيد منها.
تنقسم المشكلات التي نواجهها إلى قسمين: 1: مشكلات سياسية وقومية وأهمها الوحدة والجلاء، وسأتناولها بالبحث حين أتحدث عن ألمانيا وإيطاليا.
2: مشكلات اقتصادية واجتماعية وهي ناشئة عن دخول مصر في الدور الصناعي، وسأتناول فيما يلي البحث في الانقلاب الصناعي في إنجلترا والمشاكل التي قامت بسببه وكيف عالجتها وتعالجها إنجلترا.
الانقلاب الصناعي:
يقول أن أحد المؤرخين (إن الناس قد ظلوا حتى أواخر القرن الثامن عشر يفلحون أرضهم وينسجون ملابسهم وينشرون أخشابهم ويصنعون قواربهم كما كان يفعل قدماء المصريين.) وهذا القول صحيح من دون شك؛ ولكن الجزء الأخير من القرن الثامن عشر قد شاهد انقلابين خطيرين وخطرين جداً؛ وهما في الواقع أساس الحضارة الحديثة.
أما الانقلاب الأول فهو الثورة الفرنسية، فهذه الثورة هدمت الأنظمة السياسية والاجتماعية التي كانت قائمة في ذلك الوقت، وأقرت الحرية والإخاء والمساواة في الحقوق والواجبات للناس جميعاً، وكذلك أقامت مبدأ سيادة الشعوب إذ قررت إن الأمة مصدر السلطات. وهكذا بدأ قيام الديمقراطية الحديثة.
أما الانقلاب الثاني فهو الانقلاب الصناعي، وهذا الانقلاب ليس أقل تأثيراً في حياتنا المعاصرة من الانقلاب الأول، بل ربما كان اعظم منه أثرا واشد منه خطراً. ذلك انه في الوقت الذي كان رجال الجمعية الوطنية في فرنسا يثيرون اهتمام الناس بخطبهم ومبادئهم الجديدة، وفي الوقت الذي كان نابليون يشغل أذهان الأمم والدول بحروبه ومعاركه، كان هناك رجال يوجهون اهتمامهم إلى المرأة التي تدبر المغزل في منزلها، وإلى النساج الذي يحرك نوله في بطأ، وإلى عمال المناجم وهم يكافحون المياه التي توشك أن تغمر مناجمهم، وقد ظل هؤلاء الأبطال في جهادهم حتى اهتدوا إلى اختراعات غيرت أساليب الصناعة وبالتالي غيرت مجرى حياة الإنسان. وقد كان أهم هذه الاختراعات من غير شك استخدام
البخار في إدارة الآلات وفي تسير القطارات والسفن البخارية.
وقد كان من أهم نتائج هذه المخترعات انتقال الصناعة من المنزل إلى المصنع، وانتقال المصانع إلى المواطن التي يكثر فيها الفحم والحديد، فإن من الحديد تصنع الآلات، وبالفحم تسير هذه الآلات.
وفي ما يلي أهم نتائج الانقلاب الصناعي:
1: نمو مدن مزدحمة بالسكان: ذلك أن الصناعة وقد انتقلت من المنزل إلى المصنع تركزت في مناطق الفحم مما أدى إلى هجرة كثيرين من العمال الزراعيين إلى المراكز الصناعية، وقد أغرتهم زيادة الأجور نسبياً في المصنع عنها في المزارع.
2: أدى هذا إلى نقص كبير في الأيدي الزراعية العاملة، وقد حلت هذه المشكلة باستخدام الآلات الزراعية الحديثة.
3: سوء حالة العمال في المناطق الصناعية بسبب قلة أجورهم وسوء مساكنهم وانتشار البطالة بينهم وإرهاقهم بالعمل.
4: ظهور الطبقات رأس مالية كان يملك أربابها المصانع والآلات، وقد عمد هؤلاء الرأسماليون إلى استغلال العمال إلى تنمية أموالهم وزيادة أرباحهم، ولم يلبث هؤلاء طويلاً حتى نافسوا كبار الزراع والتجار في ميداني الحياة السياسية والاجتماعية.
5: زيادة الإنتاج مما أدى بدوره إلى نشاط التجارة، فمثلاً كانت تباع منسوجات منشستر في ملبورن وفي الصين وفي غيرها.
6: تحسن طرق المواصلات والنقل.
7: تسابق الدول إلى الاستعمار لتضمن موارد المواد الخام والأسواق.
8: ظهور نهضة فكرية، وزيادة الاتصال بين أنحاء العالم، وظهور آراء اقتصادية حديثة أهمها مبدأ حرية التجارة الذي نادى به آدم سميث في كتابه (ثروة الأمم).
9: وجدير بي أن أذكر إن إنجلترا كانت اسبق الأمم إلى الانقلاب الصناعي الأسباب: أهمها زوال النظام الإقطاعي منها قبل غيرها، وثانياً لأنها استطاعت في أثناء عصر الثورة الفرنسية ونابليون أن تسيطر على أسواق العالم التجارية، ولذلك عملت جاهدة بعد انتهاء هذا العصر على الاحتفاظ بسيطرتها التجارية على هذه الأسواق.
10: ازدياد عدد السكان في إنجلترا زيادة خطيرة.
الاشتراكية:
على إن اخطر نتائج الانقلاب الصناعي كان ظهور الاشتراكية، فقد قاسى العمال أهوالا كثيرة بسبب قلة أجورهم وازدحامهم في المراكز الصناعية وسكناهم في مساكن غير صحية واضطرارهم إلى العمل ساعات طوياه مضنية داخل المصانع، مما دفع كثيراً من المفكرين إلى العمل على وضع حد لإرهاق العمال وتحسين حالتهم.
وقد نبتت الفكرة الاشتراكية في رأس بعض رجال الثورة الفرنسية، وأنا أحب أن أنقل هنا ما قاله أحد رجالها وأسمه فقد ذهب إلى الطبقات الفقيرة لا يهمها أي تغير بقدر ما يهمها إن توفر لها أسباب الحياة الكريمة حيث قال:(عندما نظر إلى الفقراء فأجدهم محرومين من الكساء والأحذية التي يقومون بصنعها، وعندما انظر إلى تلك الفئة القليلة العدد التي لا تعمل، ومع هذا فهي ليست في حاجة إلى شيء لان كل شيء ميسر، أومن إن الحكومة إن هي إلا مؤامرة قديمة قامت بها الأقلية ضد الأغلبية.)
واقترح أن تستولي الحكومة على الأراضي وموارد الثروة، وان تعمل على استغلالها لمصلحة الشعب وطبقاته جميعاً.
ورغم إعدام بابيف فقد ظلت مبادئه حية في أذهان الفرنسيين لدرجة إن بعض اتباعه نادوا بها من جديد عند قيام ثورة بولية 1830 في فرنسا. وقد أذيعت هذه المبادئ في إعلانات طبعت 1832 جاء فيها:
(أننا لا نريد انقلاباً سياسياً وإنما نريد انقلاباً اجتماعياً. إن التوسع في الحقوق السياسية وفي الحقوق الانتخابية وفي إقامة حق الاقتراح كلها أشياء جميلة؛ ولكن غايتنا الرئيسية أن يكون هناك توزيع عادل لأعباء، الدولة ولما يجنيه أبناؤها من فوائد. أننا نبغي إقامة حكم عادل يكفل تحقيق المساواة لجميع أبناء الدولة.)
وقد كان من ابرز زعماء الاشتراكية في النصف الأول من القرن التاسع عشر روبرت اوبن الإنجليزي ولوي بلان الفرنسي، ولكن (كارل مركس) الألماني يعتبر واضع الاشتراكية الحديثة
ولد كارل ماركس 1818 وتربى في جامعتي بون وبرلين، ولكنه نفي من وطنه بروسيا
(ألمانيا) بسبب آراءه الحرة، وفي منفاه وضع كتابه (رأس المال) واهم الآراء التي جاءت فيه:
1: أن طبقات الأمة المحظوظة هي التي قبضت على الحكم في الماضي، وان طبقة الممولين والرأسماليين من أصحاب المصانع هي الطبقة المحظوظة الحديثة، أما العمال فهم ضحايا الرأسماليين. وتنبأ ماركس بان طبقة العمال سيقوى نفوذها حتى تصبح الطبقة الحاكمة، وعندئذ تقوم الدولة الاشتراكية. (ولاحظ إن رئيس وزراء بريطانيا الآن هو زعيم حزب العمال).
2: كان العمال حينذاك محرومين من حق الانتخاب، وقد تنبأ ماركس بان العمال سينالون حقوقهم الانتخابية وسيصبحون نواباً، وحينئذ يصبح في مكنتهم إصدار التشريعات اللازمة لمصلحتهم، وأهمها أن تضع الدولة يدها على موارد الثروة ووسائل الإنتاج مثل المناجم والمصانع ووسائل النقل والأراضي الزراعية، وتستغله لمصلحة الشعب وهو ما يعرف الآن بالتأميم. وجدير بنا أن نلاحظ إن حكومة العمال تعمل على تحقيق ذلك في بريطانيا.
3: عدم وجود فوارق اقتصادية بين الطبقات، وقد تساءل ماركس (لم يدخل الحياة طفلان أحدهما له امتياز على الآخر؟ أحدهم يملك العزب والضياع والمصانع، والأخر لا يملك شروى فقير؟).
4: استنكر ماركس أن يعيش بعض الأفراد عالة على الشعب، وقرر إن جميع الأفراد يجب أن يؤدوا عملاً للدولة، وإلا يكون عالة على المجتمع.
5: يجب أن تسيطر الأمة على رءوس الأموال.
6: يجب أن يكون التعليم بالمجان لجميع أبناء الدولة.
وقد انتشرت هذه المبادئ في أنحاء أوروبا كان لها اثر كبير في الحياة الأوروبية المعاصرة. فقد آمنت بها إنجلترا فنال العمال حق الانتخاب، ثم اصبح منهم النواب وتولوا حكم بريطانيا. ومن غير ذاك تعمل حكومة العمال على تحسين حالة العمال وعلى تقليل الفوارق بين الطبقات، فنراها تفرض الضرائب التصاعدية التي قد تصل إلى 95 % من دخل بعض الأفراد، ونراها تعمم نظام التأمين الصحي والاجتماعي، وتيسر التعليم لجميع أبناء الشعب، وتعمل على تأميم موارد الثروة والإنتاج، ولا عجب فإن حزب العمال يؤمن
بان (الغرض الحق من المجتمع هو أن يرفع ويحفظ كرامة ورفاهية الفرد) وبان من حق العمال على الدولة أن يعيشوا كراماً.
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية
-
من أدباء الحجاز
عبد العزيز الزمزمي
- 2 -
للأستاذ عبد الله عبد الجبار
ولقد كان الأديب الحجازي عبد العزيز الزمزمي ينظم الشعر حتى بعد أن وهى جسده وهن عظمه، وضعفت قوته. وكانت قريحته أسعفته وهو في سن السبعين بنظم القريض. ففي عام سبعين وتسعمائة انشد قصيدة عذبة، قوية النسج، جميلة الديباجة، يقل فيها اثر العمل والتكلف، وفي مفتتحها هذه الأبيات:
دعاك إلى زيارته الحبيب
…
فهلا إذا دعاك لها تجيب
أيا داعي الفلاح وأنت داع
…
تلين بما دعوت له القلوب
لقد أسمعت لو ناديت حيا
…
ولكن شأن من تدعو غريب
إذا سمع الندا ونوى نهوضا
…
تنوء به وتقعده الذنوب
وتظهر قيه عجز لا يقوى
…
فيوشك جسمه وهناً يذوب
ولكن ربما جذبته قهراً
…
عناية من دعاء فيستجيب
ومنها يصف بزوغ فجر الإسلام:
أتيت بملة بزغت كشمس
…
ولكن مالها أبدا غروب
لقد نسخت بها ملل فغابت
…
طوالعها وحق لها المغيب
به الإسلام حين أتت غريب
…
فآنس أهل ملته الغريب
تنادوا كلهم أهلا وسهلاً
…
هلم فعدنا السوح الرحيب
فكان لهم بنصرته اغتباط
…
وكان نصيبهم نعم النصيب
ولقد كان من أهم الأغراض الشعرية التي احتلت مكاناً بارزاً في شعر الزمزمى، الحنين إلى الأوطان، فهو بحكم رحلاته الكثيرة المتعددة، وما كان يلقى فيها من عنت ومشقة، وما يحسه من آلم لفراق الأصحاب والأحباب، والأهل والولد، يسفح الدم شعراً رقيقاً يملأ النفوس أسى، ففي رحلته الأولى إلى بلاد الروم شخص من مكة مع الركب المصري ثم
إلى الروم من البحر، فلما وصل إلى منهل مشهور كان يرده الركب المصري عادة يسمى (الوجه) وهو واد فسيح به شجر من الأراك، تذكر مكة وما حولها من الأراك، واشتد به الشوق والحنين إلى والدته واخوته وبنيه، وإذا هو يهتف بهذا القصيد:
حشاً فيه من صدع الفراق قروح
…
وجفن جفاء النوم فهو قريح
وحسب النوى قلب من الوجد خافق
…
ووابل دمع في الخدود سفوح
تضيق بي الدنيا إذا ما ذكرتكم
…
وتعرض في فكري مهامه فيح
ولا سيما طفلي الذي من صبابتي=ووجدي به روحي تكاد تروح
ولم أنسى إذ فارقته وهو مطرق
…
والفت وجهي عنه وهو بنوح
ترى هل إلى أم القرى لي أوبة
…
تزيح همومي والعنا وتريح
ويا حبذا (بالوجه) واد بسفحه
…
أراك له طيب يشم وربح
مررنا به والركب وان من السرى
…
وشمس الضحى وسط السماء تلوح
وقد أورقت أغصانه وظلاله
…
ترف ومرأى العين فيه فسيح
ذكرت به وأدى الأراك من الحمى
…
وعشيا مضى فيه وظلت أنوح
وبرح بي وجدي إلى أن رأيتني
…
أقوم مرارا ثم ثم أطيح
رعى الله دهرا مر حلوا بمكة
…
ليالي عنا النائبات نزوح
إذ العيش غض والربوع منيرة
…
ودهرى بمهما رمت منه سموح
عذيرى من الأيام يجنين دائما
…
على فكم من جورهن أصيح
تبين لي الوجه الذي لا احبه
…
ويخفين لي إليه طموح
وربما لج بنفس الزمزمى لاعج الشوق ألح إلحاحا شديداً فادا هو يناجى عروس الشعر بالقصيدة ارتجالاً. ومن ذلك انه لما كان بمدينة (أدنه) وشاهد قافلة حمولتها فلفل، وزنجبيل وقرنفل، مما يحمل من مكة وجدة برا وبحرا إلى مصر والشام، هتف به داعي الحنين وتذكر أرض الحجاز فأنشد على البديهة قصيدة خفيفة جاء فيها:
وميض البرق بعد سنه
…
نفى عن ناظري وسنه
وذكرني عهود هوى
…
بها الأرواح مرتهنه
وهل نسيت فأذكرها
…
إذن أنى من الخونه
وما بالعهد من قدم
…
فما مرت عليه سنه
معاذ الله أن أنسى
…
فروض الحب أو سننه
وقلبي كل آونة
…
يجدد ذكرها حزنه
وبي شوق لا جياد
…
أهاج من الحشا شحنه
ربوع هن لي سكن
…
وهل ينسى الفتى سكنه
سقى الله الحجاز ومن
…
أتى منه ومن سكنه
وان ديوان الزمزمي الذي اقتطفنا منه النماذج السابقة لا يضم جميع شعره، لأنه قصره على أبواب خاصة. وان الباحث ليجد له قصائد، أو إشارة إلى قصائد، في أعراض متنوعة مبثوثة هنا وهناك في بعض الظان، فقد ذكروا انه عارض القصيدة الميمية التي نظمها القاضي أبو السعود والتي مطلعها:
أبعد سليمى مطلب ومرام
…
وغير هواها لوعة وغرام
كما ذكروا انه مدح أمير مكة أبا نمى بقصيدة طويلة معارضاً بها قصيدة الخطيب (ابن داريا) ويمضى الزمزمي في مطلع هذه القصيدة على النحو الآتي من الغزل التقليدي المعروف:
ليحتس الصهباء من يحتسى
…
حسبي لمي مرشفك الالمس
على أطلق منه كائني ولا
…
توحش بحبس الكأس يا مؤنس
في طرفك الوسنان والخد ما
…
يهزأ بالورد وبالنرجس
وجهك لي روض جديد إذا
…
أخلقت الأرض القنا السندسي
ولما توفى العلامة حامد بن محمود الجبرتي وكان له صديقاً حميماً عقدت بينهما أواصر الصداقة نحوا من خمسين سنة، رثاه بقصيدة مطلعها على النحو الآتي:
أيها الغافل الغبي تنبه
…
إن بالنوم يقظة الناس أشبه
وتأمل فإنما الناس سفر
…
دار دنياهمو لهم دار غربة
كل يوم تحل في السرح منها
…
عصبة منهمو وترحل عصبه
كيف يهنا الفتى بها وهو فيها
…
يشتكي دائماً فراق الأحبة
واحداً اثر واحد قد تداعوا
…
للفنا يا لكربة اثر كربه
وهذه القصيدة الطويلة تجدها - أيها القارئ - في النور السافر وهي تدل على وفائه لصديقه الذي يقول فيه:
مزجت روحه بروحي فأضحى
…
منطقي نطقه وقلبي قلبه
وكان الزمزمي - إلى وفائه - حراً أبيا لا يقيم على ضيم استمع إليه وهو يرد على الذين لاموه في تركه آهل بيته وانتجاعه اليمن داراً، ذاكراً كيف سامه الولاة الخسف، وكيف تنكرت له الأرض ونبا به السكان وإساءة الزمان، وكيف تبدأ الأحوال غير الأحوال، فإذا الذليل عزيز، وإذا العزيز ذليل، يستفزه الإذلال حتى اضطر إلى أن يخرج من مكة وحيداً في الخفاء يلتمس مضطرباً في الخافقين. ولعل خروجه كان في سنة 958
رب قوم تفاوضوا على حديثي
…
واطلوا فيه وخاضوا وجالوا
زعموا بأنني أسأت بتركي
…
أهل بيتي والكل كل عيال
لا تزيدوا نارا علي في قلبي
…
فيه نار تأججت واشتعال
إن ارضي تنكرت وزماني
…
سأني واستحالت الأحوال
فالحقير الذليل صار عزيزاً
…
والعزيز استفزه الإذلال
قد رمتني الولاة عن فرد قوس
…
أقصدتني سهامها والنبال
كم هموم جرعتها ما عليها
…
لآبي تجلد واحتمال
واحتمال الأذى ورؤية
…
جانيه قذى في الجسوم داء عضال
أكذا دائما أكون مهاناً
…
ولساني تفل منه النضال
ومكاني في خدمة العلم سام
…
وبدرسي للطالبين احتفال
غصة لا يسيغها ريق حر
…
وشكاة يضيق عنها المقال
سعة الخافقين فيها اضطراب
…
ولأرض من أختها إبدال
عبد الله عبد الجبار
مدير البعثات العربية السعودية بمصر
قانصوه الغوري
سلطان مصر الشهيد
للأستاذ محمود رزق سليم
الفصل الثالث
جلسة صاخبة
رحم الله مصرباي! لقد قتلته أطماعه! وما اكثر ما تقتل الأطماع!
بهذه الكلمات نطق السلطان الغوري في جمع من الأمراء وأرباب الدولة، وذلك بعد اكثر من عامين من بدء سلطنته، وقد اجتمعوا إليه يوماً.
فقال له الاتابكي قيد الرجي: يا مولانا! لقد لقي جزاء تمرده. لقد كان معنا أخاً وصديقاً حميماً. ثم غزا الحسد قلبه فاحتله، فتداعى على أثره وده، وانهار صرح وفائه. وملكت الأطماع جماع نفسه. وصحبها الزهو والترف، مع الوثوق والغرور بقوته. فأنظمت أما عينيه معالم الحق، وأنبهمت آيات الصواب، فاصبح كالغابة العشواء تخبط على غير هدى، وتسير دون جدوى، ولم يتخذ لنفسه عبرة ممن سبقه من الأمراء الطامعين الطامحين الذين غامروا بأرواحهم في ميدان لوثته الحقود والأهواء، وأثارت حمية فرسانه نيران الحسد والبغضاء. فذهبوا طعاماً صالحاً لهذه النيران. وبقيت اللوثة تدمغ صفحات حياتهم وتشوهها.
فقال طراباى: انه معذور يا مولانا في طموحه هذا، الذي أورده موارد والتلف والبوار. . .! فإن مولانا اثر من الله عليه بسلطنته المباركة، خلع أول ما خلع، على مصرباي. ورقاه إلى رتبة الدوادارية الكبرى، ولم يكتف كرم مولانا بذلك، بل وكل إليه مع الدوادارية الوزارة والاستدارية، ثم مكن له في شؤون الدولة. . .
أنسى مولانا أننا حين لجأنا إلى بيع الأوقاف لنستعين بها على ملء الخزائن الشيرفة، لكي نحشو به الأفواه الفارغة،. . . لم نستطع. . . فعدلنا إلى اخذ ريع سنة كاملة منها، وإلى فرض أجرة عشرة شهور كاملة على أملاك القاهرة وسائر أنحاء البلاد، ثم خفضت بعد إلى سبعة شهور، بسبب ثورة المالكين ضدنا، ولولاي إذ أنهيت إلى أسماع المقام الشريف خبر
ثورتهم، فوافق على مقترحي بتخفيض هذه الضريبة، لوقع ما لا تحمد عقباه.
في أثناء ذلك يا مولانا! كان مصر باي أثناء ذلك مقيماً فيما وكل إليه جمع ماله. فلقد وكل إليه أن يجمع ما فرض من المال على أملاك الصليبة إلى مصر إلى دير الطين إلى غير ذلك.
شمر مصرباي عن ساعد الجد، وكتب القوائم المطلوبة مستعيناً بالمباشرين من أولاد ابن الجيعان. وبعث إلى أعيان الناس بتلك النواحي رسلاً غلاظاً شداداً لا يعصون ما أمرهم. . . واخذوا يثقلون على الناس بكل وسيلة مستطاعة، وبكل حيلة قدروا عليها، حتى وفوا بما فرض عليهم. . . نحن حقاً لا نؤاخذه بهذه الغلطة ولا بهذا الأثقال، ولا بتلك الجفوة في معاملة المالكين والآهلين، لأنه كان يقوم بواجبه في جمع المال المعروض. . . وإنما ننعى عليه حبه للمال، وانتهاز هذه الفرصة لملئ جعبته منها. . وتدبير جزء منه لنفسه.
قال السلطان: الحق إننا اجتزنا هذه المحنة بتوفيق الله ومعونته، ولولاه سبحانه، لفوجئنا بما لا نتوقعه. . لقد كان الجند في ثورة دائمة. . إذا خبت نارها آنا فتحت رمادها وميض النار. واخذ الدساسون يدسون بينهم، ويثيرون حميتهم، ويوقدون نار الثورة بينهم. وكنا نحن من ناحيتهم نلتمس لهم العذر. . . فلقد تأخرت رواتبهم جملة شهور، ولم نقدم إليهم من نفقة البيعة شيئاً. . . ولكنا كنا مكرهين، فلقد تسلمنا زمام السلطنة، والخزائن خاوية على عروشها. تصر فيها الرياح صرير اليأس الحزين. وتسرح في جنباتها الجرذان سروح الأمن اللاهي. فصابرناهم بالتهديد بترك السلطنة. . . وطوراً يبذل الوعود والملاينة. . .
ثم أحببنا أن نستولي على بعض أوقاف المساجد، ونشرع في بيعها لسد فراغ الخزائن، ونترك للمساجد ما تحتاج إليه منها لتظل مفتوحة للعبادة وذكر الله، وخير لنا أن تنفق أموال المساجد على الجنود السلطانية وضروريات السلطنة، من أن تنفق على المتعطلين من خدمتها، والمتبطلين من شيوخها، والكسالى الخاملين من مدعي المعرفة والوصول. . . لكن وقف في وجوهنا ثلاثة من قضاة الشرع وبخاصة شهاب الدين أحمد الشيشيني قاضي قضاة الحنابلة، وقبض لنا في قسماته، وعبس في غضونه، واغلظ في القول. ثم وسمنا بأننا نعبث بأموال الواقفين واعيان وقفهم على غير ما يرغبون، وأننا لن ننفقها في سبيل الخير المرسوم لها. . . كأن الخزائن الشريفة ليست سبيلاً من سبل الخير، أو لست مرجعاً للبلاد
وملاذا لها وذخرا وقت الشدة. . . وكان تهدئة خواطر الجند والقضاة على فتهم، ودفع مرتباتهم، والعمل على استتباب السكينة بينهم وبين أهل البلاد ليست مظهراً من مظاهر الخير، ولا معبراً من معابر البر، يصح أن تحول إليه هذه الأوقات المباحة المأكولة. . وجزى الله خيرا قاضي قضاة الحنفية عبد البر بن الشحنة، فإنه وحده دون الثلاثة القضاة الآخرين كان مسايرا لنا فيما ذهبنا إليه. . .
ومهما يكن من شيء فقد أغضينا عن بيع الأوقاف، واجتزأنا بما فرضناه عليها وعلى أرباب الأملاك.
قيت: الواقع يا مولانا! أننا وفقنا، واجتزنا التجربة بثبات وعزيمة، ولولا قوة أيمان كنا نستمدها من المقام الشريف، وصبر مكين تحلينا به تحت ظله، وإخلاص زدنا به تحت لوائه، لتفاقمت ثورة الجند، ولوجدنا لدى العامة من الملاك والسكان ما يجهدنا ويضنينا، وذلك لما أصابهم من المشقة بسبب ما فرض عليهم. وقد وقع منهم قلق واضطراب عدة مرات. حتى أدى ذلك إلى تعطيل البيع والشراء، وغلقت الحوانيت وانفضت الأسواق. واحتجوا مراراً أخرى علينا. وتعرضوا لنا في الطريق العام مهللين ومكبرين تكبير الغاضب المهتاج.
وفي أحد أيام الجمعة، عقب الصلاة، قوبلت بجمع منهم غفير، تجاه باب زويلة. لقد رجموني بالحجارة أنا والأمير طراباي، حتى اضطررنا إلى أمر الجنود فاعملوا فيهم السيف، وقتلوا ثلاثة أشخاص، وجرحوا آخرين ثم تفرق الجمع.
وقد انتهز بعض السفلة والأوغاد والقطاع، هذه الفرصة، وعاثوا في أرجاء القاهرة فساداً، فسلبوا ونهبوا. ولولا همة مشكورة بذلها الأمير علان الوالي، لما إنقمع هذا الشر. لقد قبض على جماعة منهم، ووسط نحو أربعة عشر. . . خرط أوساطهم بالسيف
ثم. . يا مولانا! هناك الاشميون الطامعون الذين لا يحمدون الله على ما أولاهم من فضل، وحياهم من نعمة. أولئك الذين يفغرون فاهم كجهنم. ويقولون: هل من مزيد؟ ولا لهم إلا الاستحواذ على المال من الناس، ولا هم لهم من الخزائن الشريعة إلا أن يستدروا عط اياها ويستمنحوا جداها، أمثال. . مصرباي وجان بردا الغزالي.
لا ادري لماذا حنق مصرباي رحمه الله عليّ. . . وعلى أزدمر. . . وتربص بنا
الدوائر وقعد لنا كل مقعد. .؟ إلا إننا أوعزنا بالإغلاظ عليه في أداء حساب ما جمعه. .؟ أم حسداً لقربنا من قلب مولانا السلطان. .؟ أم لأننا كنا نذوده سراً عن الأتمار بالسلطنة. .؟
السلطان: أما الجان بردا الغزالي فقد أعطيته أماني، فظهر لذلك بعدما اختفى زمناً، هارباً مني، وقد خلعت عليه ورقيته إلى حجابة حلب، وأمرته بالشخوص تواً إليها تلافياً لشره وحسماً لنزواته، أما مصرباي فلقد لقي حتفه مجاهداً في بسيل أطماعه الباطلة، بعد أن أكلت الغيرة قلبه كما يأكل النار الهشيم. .! ألا تقص علينا أيها الأمير علان، قصة مصرباي كاملة.!
علان: اجل يا مولانا! إن مصرباي لما قبض عليه بأمر المقام الشريف، وبعد مشورة الأمراء، وادخل إلى البحرة وقيد، لبث زمناً ثم سير إلى الإسكندرية، فظل إلى سجونها ردحا من الزمان. ولكنه استطاع من بعد أن يفلت من سجنه ويهرب.
لقد قيل أن مملوكة (اياسا) بعث إليه في شجنه بهدية فيها شموع، ودس وسط هذه الشموع مبرداً من الفولاذ! فتناول مصرباي هذا المبرد، وظل يعالج به قيده من كسر، استطاع بعد ذلك أن يفر. . . وقد اختفى بعد فراره، وبحثنا عنه في كل مكان فلم نعثر له على اثر. وقد احتلنا في سبيل الظفر به بجملة حيل. لقد أوعزنا إلى الجنود السلطانية أن يثوروا ضد المقام الشريف ثورة مكذوبة مفتعلة، لنغرى مصرباي بالانضمام إلى صفوف العصاة الثائرين العصاة، فنستطيع حينذاك القبض عليه. ولكنه لم يظهر. . . وكأنه لدهائه فهم الخدعة فلم تجز عليه. . .
وقد لبث مصرباي في خفائه يجمع شمل ممماليكه ويلم شعث اتباعه، ويغرى الطامعين ذوى الأغراض بالالتفاف حوله. . . فالتف من حوله جماعة من الذؤبان والثعالب. . . فأغراه هذا بالوثوق من نفسه، وظن أن الأمر اصبح له ميسراً.
فكمن برجاله في طريق الأمراء حين نزولهم من القلعة من لدن مولانا السلطان في تلك الليلة من رمضان التي نعموا فيها بتناول فطورهم على الموائد الشريفة. . . أراد مصرباي أن يقطع عليهم الطريق، ويفاجئهم بالبطش بهم. . . ثم يزحف بمن معه إلى القلعة فيملكها. . .
لكنه قد خاب فأله وكشف رخه وشالت نعامته. . فقد وقف المماليك حول أمرائهم وقفة
روعته وزلزلت أقدامه، حتى اضطر إلى الفرار هارباً بمن معه. ولكنه بعد أن جرح الأميران طراباى وتمر الزردكاش.
رحل مصرباي بعد ذلك إلى الازبكية ليجمع شمل أعوانه ويلم شعثهم. مغريا كثيراً من الأمراء والجنود أن ينضموا إليه، ليعاود الزحف والهجوم، ولكن لم يطعه أحد.
ثم ذهبت إليه في جمع حاشد من المماليك السلطانية، فحملنا عليه حملة صادقة، هو ومن معه من الثائرين، حتى قتلناه شر قتلة، وحملت جثته على فرس إلى الأبواب السلطانية الشريفة.
طراباى: لو إن مولانا لم يغدق على مصرباى كل هذا الإغداق، ولم يبسط له رداءالأمل إلى آخر مداه، لما تطلع إلى ابعد من منصبه الذي رقى إليه، ولكفكفت أطماعه، وتضاءلت همامة نفسه وعجزت عن أن نطيع هواها، ولما خدعته نفسه الأمارة بالسوء بأنه أهل للسلطة أو الانابكية. والنفس كالجواد إذا روخى له في الخطام شرد وجمح، وإذا جبذ من الزمان تطامن وكبح.
السلطان: أيها الأمير طراباي إن لمصرباي على السلطنة يد لا تنساها، فكان حقاً علينا أن نبر له في الجزاء، ونجزل له في العطاء. . . لقد تعصب مصرباي للسلطنة قبل أن تتعصب أنت لها. . . ردعا الأمراء إليها، وأنت لاه عنها بجوار الملك العادل، يغريك من بعيد بالانابكية، ويضمرلك في نفسه الغدر والخيانة والحرمان والإقصاء عنها. . . حتى فطنت أخيرا إلى مكره، وبدأت تلمس خفي غدره. فانحزت إلى جانبنا، ولكن بعد أن لأي ومراودة
أما مصرباي فقد دبر أمر القبض على العادل بهمة وعجلة وحزم. وكان أهلا لمنصبه. ذا كفاية مذكورة، ودراية مشكورة، وإقدام كان له الأثر في النصر والظفر. . وما كنا لننعى على أحد كفايته أو نغض من شأنها، أو نسد سبل العمل أمام مواهبه، أو نجفوه. . . أن السلطنة العادلة هي التي تفسح المجال أمام الكفايات حتى تنتفع بإنتاجها. وإذا هي غضت من شأنها كبتتها، حتى تستحيل بعد حين نارا محرقة يصعب إطفاءها. ولا يشير حقد الأكفاء مثل الجفاء. . . غير أن الرجل الكفء لا يشوهه مثل نكوصه وغدره، وحيرته بين أطماعه وتردده. وان عدم الولاء آفة. وهو جرى أن يطوح بهم نحو الحضيض، ويسير بهم
إلى الهاوية. وقد قيل: مصارع الرجال تحت بروق الطمع.
طرباي: كنت يا مولانا بجوار العادل أؤدي واجبي. وحينما تبين لي وجه الحق، وبدا لي أن مصلحة السلطنة في أن انضم إلى صفوف مولانا، انضممت. وقد كنت في سلطنة العادل اتابكيا بالنيابة. ثم عدت إلى منصبي بعد تمام أن تمت السلطنة لمولانا. ورضيت بان استظل بظلها وانضوي تحت لوائها في مصاحبة اتابكي السلطنة الأمير قيت. وهاأنذا لا أزال - كما كنت - رأس نوبة، راضياً غير طامع. فلم يغنني مال، ولم يستهوني منصب، ولم اظفر بيميني إلى شيء تأباه مشيئة مولانا السلطان، ووهبت لحياظة سلطنته الشريفة كل ما أذخر من روح وقوة ورأي.
قرقماس بن ولي الدين (أمير السلاح): ما اضن إن مولانا السلطان يشك في إخلاص الأمير طراباي ولعل يضرب رجل برجل آخر. . أليس كذلك أيها الانابكي قيت. .؟
قيت: لا ادري لماذا تغمز هذه الغمزة أيها الأمير قرقماس بين يدي مولانا السلطان! وهو أدرى ما تسكنه صدورنا لمقامه الشريف، من حب مكين واخلاص متين. وكأني بك تتهمني بالائتمار على قرار الشريف بركات آخي الجازاني من سجنه، إن هذه تهمة باطلة، وحملة ظالمة، لكنها متداعية واهنة، تحمل في اردانها دليل بطلانها.
إنني أنا الذي ذهبت بأمر مولانا السلطان إلى الأقطار الحجازية، أميرا للحاج، واصطحبت معي عدداً ضخماً من صناديد المماليك السلطانية للقضاء على الجازاني، ذلك العربي الثائر هناك. فقضيت على ثورته، وأطفأت نار فتنته. غير انه استطاع أن يفر من يدي، فقبضت تواً على أخيه وأخوته جميعاً، وسقتهم أسرى يجرون الحديد إلى الأبواب السلطانية الشريفة، فتأثرت نفس مولانا السلطان حينما رأى الشرفاء في القيد أذلاء، فأمر بسجنهم بداري في الازبكية.
قرقماس: أنت تعلم أيها الأمير أن مولانا السلطان قد فرض عليهم غرماً مالياً، ولكنهم لم يدفعوا منه شيئاً. فوكل إليك أمر رقابتهم، حتى يؤدوا ما فرض عليهم. فسجنتهم بدارك، فكيف يفر الصيد من شباكك أيها الصياد الماهر. . .؟ وأنت انابكي السلطنة وقائد جندها.؟ إن في هذه الحادثة لخطراً على سمعتنا، وضياعاً لما فرضه السلطان من الغرم، وتهوينا من شأننا، أمام الجازاني وعصبته في بلاد الحجاز، وفي ذلك خطر علينا عظيم. . ثم. . . إن
الله عليم بذات الصدور. . .!
قيت: إذا كان السجين قد فر، هو وأخوته، فذاك تراخ وغفلة من الحراس، وسأقتص منهم. أما أنا فلا ادري كيف تستسيغ يا قرقماس، أن ترميني بأني هيأت لهم أسباب الفرار.؟ المال ابتغيه؟ وقد وهب لي الله منه الشيء الكثير، على يدي مولانا السلطان. . . أم لجاه ابتغيه؟ ومنا تستمد أسباب الجاه، أم لمنصب تتطلع إليه، وقد بلغت من المناصب الذرى. . .؟
حقاً! أنها لتهمة غريبة مريبة، ولعل في النفس شيئاً ستتكشف عنه الأيام. . .؟
السلطان: أيها الأمير قيت! إن المال لا حد لطمع النفس في جمعه. . . ما دامت النفس قد أشربت حبه. . . وأما المنصب فلا يزال أمامك فيه جوالة. . .! إن هناك منصب السلطنة. . .! وهو من القلب وقرة العين ومطمح الفؤاد.
أيها الأمراء! انتم جميعاً تعلمون أنني أزهدكم في السلطنة، وأشدكم جفاء لها. . . فمن شاءها منكم فليتقدم في غير مواربة ولا خيانة.
إنني مستعد للاختفاء من الميدان في هدوء وطمأنينة، بقلب راضٍ ونفس مستقرة شاكرة.
لقد أقمت في السلطنة زهاء ثلاثة أعوام، وان أوطد في دعائمها، واثبت من أركانها، أعالج من ثرواتها. ثم بدا لي أن اطمئن واقر بالهدوء فيها عيناً. . . فإذا أنا حالم واهم. . . وإذا الأماني في العيون سراب. وحقاً يؤتى الحذر من مأمنه.
قلقماس: حاشا يا مولانا أن يخيس أحد بعهدك، أو يشق عصا طاعتك، أو يخرج عن حظيرة ودك. . . أننا لنسيل دماءه على حد ظبانا، ونقطع أشلاءه على غرب سيوفنا، ونزهق روحه لتذهب للمعتبرين حديثاً.
إلا فليحدث نفسه بالسلطنة من شاء، وليذهب به خيال الأمل إلى ابعد الأنحاء. فنحن من وراءه نقطع جسده بدداً ونتركه طرائق قدداً.
أزدمر الدوادار: وأنا معك يا قرقماس. نحمي حوزة السلطنة، ونبذل الروح رخيصة في سبيل الذود عنها، ودفع الكائدين عن مها بالأذى.
ثم لا ادري أيها الأمير قيت؟ لماذا كنا معاً يداً واحدة ضد مصرباي. . . ذلك الذي كان ينقم منا نحن الاثنين. . . أليس ذلك لأننا كنا نحيط ائتماراته بالسلطنة. . . وندفع كيده عنها
ونكيد له كما كان يريد أن يكيد لها.
قيت: مهزلة! وثورة عابثة! وفتنة فارغة! ومجانة جادة! ومزاح ثقيل الظل! لا ادري فيما تتحدثان، وعن أي شيء تتكلمان، وبأي امرئ تتهكمان؟ إلا أن في ذهني لحية، وفي كفي لعصية. وباطل الملامة، يشوه الكرامة. . . وارخص ما يبذل للشرف الدماء، أهون ما يباع للعز الدماء.
ولكن قبل ذلك. . .! قولاً لمن يرفع عقيرته بالقاع عن السلطنة. . إن السلطنة التي عرفت مبلغ بلائنا وصدق ولائنا وحسن وفائنا. فاحفظوا على أنفسكم الكيد، واخشوا مغبة الدسيسة، واسفروا وجوهكم عما تطمعون فيه، فإن النفاق دليل العجز، وهو لن يغنيكم فتيلاً.
السلطان: لا تختصموا لدي. . . ولا توقروا قلبي بمثل هذه الشحناء. . . أنكم جميعاً عمد السلطنة. على سواعدكم تقوم، وبأيمانكم تقوى وتشتد. وهي في حاجة إلى كل فرد منكم، فكونوا لها حراساً، ولشعبها سواساً، ولتكن صلتكم الحسنى ورابطتكم المودة والإيثار. بكم ينعقد لها لواء العزة والمنعة. وينبسط بساط القبول والرضا.
ذروا التغرير بالجنود، وإغراءهم. وليفض كل منكم إلي بدخيلة نفسه، ناصحاً أمينا. وسيجد مني صدراً رحباً، وسمعاً خصباً، وقلباً سمحاً، ونفساً طيبة، ومودة.
طراباي: أنها لحظة حكيمة حازمة يا مولانا! وشرعة منصفة، وأني اعتماداً على مالي في قلب مولانا من رضا، ومالي إلى نفسه من قرب، وما يعرفه في من إخلاص، وما تفضل به عليّ من ثقة. التمس من مقامه الشريف بإسم طائفة منا، ألا يقبض على أحد من الأمراء بالظنة، حتى يظهر له وجه الحق فيه ابلج، وبتكشف له عنه الصواب واضحاً.
السلطان: إذا! انتم تخشوني وتأتمرون بي، كما كنتم تخشون الملك العادل وتأتمرون به. . . وان خشيتكم الباطلة لتدفعكم إلى التحريض على الفتنة بين الجنود، ودفعهم إلى الثورة على السلطنة، إلا أن هذه عادة أسلافكم الذين وجتموهم على أمة، وانتم على آثارهم مقتدون.
أيها الاتابكي قيت! لقد أمرت بالقبض على مصرباي، وجان بردى الغزالي. وغيرهما من الأمراء المتهمين بالدس والائتمار واضرام الفتن ولكن هل كان هذا الأمر إلا بعد استشارتكم؟
قيت: اجل يا مولانا!
السلطان: إذا! مم تخشون! ولم تهاون؟ ما دام الإخلاص رائدكم، والولاء قائد كم. . .؟ إلا أن هذه حالة لا يستقر معها لسلطنة، ولا يدوم بها هناء لسلطان.
وإذا فصحيح ما علمته من أن بعضكم يأتمر بي، ويثير الفتنة في سبيلي، ويتطلع إلى السلطنة ليشبع آمال طمعه.
قرقماس وأردمر معاً: نحن على استعداد لتصفية هذا الموضوع. . . وسيوفنا بين يدي مولانا مرهفة، ورماحنا مؤتلفة، وجيادنا معدة مصطفة، وجنودنا شاكية السلاح واقفة.
السلطان: أنا لا أبغي حرباً أو ضرباً، ولا لجاجاً ولا خصومة، أن أسرة إذا تفككت عراها، انتكث فتلها، ووهى غزلها، وإذا اختلف أفرادها، خارت أعضاؤها وفاجأها حسادها. وإذا تنابذ أعضاؤها اجترأ عليها أعداؤها، ولم تعد تستطيع أن تجابه أمورها الخارجية بحزم كامل وعزم شامل.
وهناك أعداء لنا في خارج بلادنا، يتربصون بنا الدوائر؛ ويقعد منا مقعد الثعلب من الفريسة، يرقبها في غفلة مصطنعة حتى إذا أمنت جانبه، فاجأها ودق عنقها. ونحن أحوج إلى توجيه قوانا لكبح هؤلاء الأعداء.
لقد سمعتم منذ حين أن الثائر (إسماعيل الصفوي) أراد الانقضاض على حلب. وكنا على وشك أن نجرد عليه حملة تأديبية.
غير أنى لا يهمني أمر الصفوي بمقدار ما يهمني أمر الدولة التي كونها بنو عثمان في بلاد الروم. لقد اتسعت رقعتها، ونمت ثروتها، وهيبت سطوتها، وأصبحت متاخمة لممتلكاتنا، وبمقدار ما نحيط به ملكنا من اتحاد وقوة وحيلة، تبقى مهابتنا في نفوسهم، وتدوم مكانتنا في قلوبهم.
لقد وفد إلينا قاصدهم - رسولهم - منذ حين، وأقام لدينا ردحاً من الزمان، لقد بعثوا إلينا معه هدايا ملكهم الثمينة، رمزاً للصداقة وتمكيناً للعودة، وتأكيداً لحسن الجوار. واغلب ظني انه إنما شخص ألينا، ليسير مبلغ ما فينا من قوة، وما لنا من التئام، وما بيننا من صلة وألفة، وما في بلادنا من ثروة. . . وكل أولئك سيكون له أثره في المستقبل المرتقب في رسم سياستهم قبلنا.
على أننا تلقينا هذا القاصد تلقياً حافلاً، ولم نذخر وسماً في إظهار عظمة مصر وقوة
سلطنتها أمام عينه، ولم تقتصر في التنويه بفضل أمرائها ونباهة شأنهم ومبلغ شجاعتهم.
وأنت أيها الأمير ازدمر، حين ما توجهت إلى قناطر العشرة في زمن الربيع الزاهر، اصطحبت معك هذا القاصد واحتفيت به احتفاء كان مضرب المثل، وفهم عنك مبلغ ما عليه سلطتنا من جاء وقوة وحول وطول. ورأى ما لبلادنا من جمال وروعة. وعندما أراد العودة إلى بلاده خلعت عليه خلعة ثمينة، وحملته إلى ملكة هدية نفيسة تليق بمكانتها. . . ثم. . . بعثت في أثره الأمير (ثاني بك الخازندار) قاصاً من لدنا إلى ملكهم، ليقوم بمثل ما قام به قاصدهم.
هذه هي دولة بني عثمان. . . ثم هناك العربان في بلاد الحجاز بل ومختلف جهات الديار المصرية، يثورون من آونة لأخرى حاقدين علينا معشر الجراكسة ناقمين منا، يدعون أن البلاد بلادهم دوننا، وأننا عنها جد غرباء. . . يا لبلادتهم! كأن عشرات السنين التي انصرمت منذ ألف الملك المعز بن أبيك الجاشنكير دولته البحرية؛ أو منذ ألف الملك الظاهر برقوق بن أنص، دولته الجركسية، ليست كافية في نظر هؤلاء الحمقى لمصير عنصرها. . .! فهؤلاء العربان الذين يدعون حقهم في البلاد، لم ينهضوا في أغلب الأحوال، إلى معونتنا إذا دهم البلاد عدو أجنبي. . .! فلله ما أشد حدبهم على بلادهم، وما أنشطهم للذود عنها. . .!
أيها الأمراء! هكذا ترون أننا في حاجة إلى اتحاد قوى وائتلاف صميم. . . أما الخلف الذي تخفون إليه، فحالة لا تقوم بها سلطنة، ولا يهانا بها سلطان - كما ذكرت. . . لن ينفض هذا الجمع من هنا اليوم، حتى تقسموا جميعاً على المصحف العثماني، أمام قاضي القضاة، يمين الطاعة والولاء.
فأقسم الأمراء ثم أقسم لهم السلطان وأرسل إلى المماليك بالقلعة فأقسموا يمين الطاعة طبقة بعد طبقة.
(للكلام بقية)
محمود رزق سليم
الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية
رسالة الشعر
يا فلسطين. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
(إلى شباب العرب الأحرار في كافة أقطارهم لعل فيهم من يرجع مجد فلسطين الذاهب ويؤدب هؤلاء الصهاينة الذين مازالوا يكررون اعتداءاتهم على أبنائها المشردين)
أنف الحق أن يهان فثارا
…
وتحدى الأزمان والأقدار
صاخباً يلطم الطغاة بكف
…
لم تعود حمل الحلي سوارا
خلقت للجهاد والطعن والضر
…
ب، ورد المغير إما أغارا
قاذفا في مسامع الأمة العز
…
لاء، شكوى تفتت الأحجار
لاعناً (لجنة) تحاول وأد الحق، كما تستبعد الأحرار
أيهان الأحرار والسيف مسلول يقد الأجساد والأعمار
صقلته الدماء حمراء سالت
…
من نفوس ترى المذلة عارا
هاجها حقدها فضجت شباباً
…
عربياً على الصهايين ثارا
هم بقايا الليوث من أمة العر
…
ب، وأبطالها الكماة الغيارى
عرب دوخوا المماليك قبلاً
…
وأدنوا الشعوب والأمصار
هم أسود الصحراء لم يألفوا الضيم وكم تنجب الليوث الصحارى
شغفوا بالعلي وعاشوا على الد
…
هر، أباة أعزة أبرارا
دوخوا الغرب بالصوارم والسمر، ودكوا الحصون والأسوار
كلما أركضوا الخيول على أسم الله، حازت من السماء انتصارا
وإذا سار جمعهم لجهاد
…
واكب النصر جمعهم حيث سارا
إن نصراً به السماء استطالت
…
لجدير أن يملأ الأسفار
آيه شعري أثر كوامن حقد
…
في الشباب الذي هوى الأخطار
وتظلم أو أسمع الغرب لحناً
…
ثورياً، وحارب الأشرار
نحن نأبى أن نستكين إلى الذ
…
ل، ونأبى بأن نعيش أسارى
نحن من أرخصوا النفوس الغوا
…
لي في سبيل العلا فنالوا افتخارا
شرف المجد أن نعيش كراما
…
لا أرقاء، نستكين صغارا
أو ننسى بالأمس مجداً تليداً
…
قد أضعناه ذلة واحتقارا
إيه تاريخنا المعطر بالنور
…
أبن، وارو للعلي الأخبار
وتكلم بل اصرخ اليوم فالقو
…
م، سكارى وما همو بسكارى
قل لهم يا نيام: قد كان مجد
…
يتخطى الآباد والإعصار
هل رأيتم آثاره، هل سمعتم
…
وهو يبكي، فقلدوا الآثار
ذبل المجد في يديكم طريا
…
وشكا من جفافه الاندثار
تلك أيامكم خوالد يزهو الدهر
…
فيها ويستطيل فخارا
أنسيتم (ذي قار) والليل داج
…
قبل (ذي قار) فازدهى واستنارا؟
أنسيتم سيفاً من الله قد سل على الكفر قاصعاً بتاراً؟
أنسيتم (صلاح) يقتحم الموت
…
ويقتاد جحفلا جرارا؟
فعلام ارتضيتموا الذل قيداً
…
وطليتم وجه الحضارة قارا؟
أو لستم أبناء من نوروا الد
…
نيا، وكانوا بأفقها أنوارا؟
أو لستم فتحتمو (الصين) و (الهند)
…
قديماً و (الصرب) و (البلغارا)
أيها الناطقون بالضاد هبوا
…
من سبات طغى عليكم وجارا
ذي (فلسطين) قسمت بين قوم
…
غمطوا حقها الصريح جهارا
عاث في أرضها اليهود فساداً
…
واستباحوا النساك والأخيار
كم فتاة تبكي أباها وأم
…
تتمنى لبنها الانتحار
وفتى كالهزبر سيق إلى الذبح
…
وفي قلبه التمرد مارا
وكعاب كزهرة الروض في الحسن
…
أزاحوا عن طهرها الأستار
لهف نفسي (لقدسها) كيف أمسى
…
لأخس الأنام مأوى ودارا
لا (صلاح) يرد عنها الأعادي
…
لأولا (خالد) يقيل العثارا
شغل العرب بالكلام عن الثا
…
ر وهل يأخذ الكلام الثارا
البدار البدار يا أمة العر
…
ب، إلى الحومة البدار البدارا
لا تناموا على المذلة فالأبقا
…
ر، تأبى ولستمو أبقارا
ذل من يحسب القيود سواراً
…
في يديه ولم يحطم سوارا
فسوار الذليل نير ثقيل
…
ولو إن صاغة الدخيل نضارا
لا تقولوا خان الزمان وقولوا
…
نحن خنا حفاظنا والذمارا
من أراد الخلود جرد سيفاً
…
أو أراد الحياة بالعز ثارا
فزمان الرقيق راح مع الظلم
…
وسوق التخاسة اليوم بارا
يا فلسطين، يا أغاني البطولات
…
عذابا على شفاه العذارى
أنت حلم النبي حققه العرب
…
فأرضوا بذلك المختار
يا منار الهدى لقد أظلم الحق، فكوني للجائرين منارا
لا تزالين مثلنا نشتكي القيد
…
ونشدوا من وقعه الأشعار
يا فلسطين، يا سماء المروآت،
…
استفيقي قليل ذلك غارا
واستعدي للانتقام وكوني
…
بركاناً، أن مسه الضر ثارا
وأرسلي للجحيم كل مظلوم
…
يتمنى لك الفناء والدمارا
واشهري الحرب لا تهابي الصهايين، وصبي إلى الطواغيت نارا
واسحقي المارقين من نسل (سكسون) فهم قسموا البلاد ديارا
وأغضبي وافضحي نوايا طغاة
…
تخذوا الحنث في الوعود شعارا
ثم ثوري كالعاصفات إذا هبت
…
وكوني على العدى إعصارا
وإذا لامك الجبان فقولي:
…
صدا القيد في أكف الأسرى
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
الأدب والفن في أسبوع
للإستاد عباس خضر
أثر الدراسات القرآنية في تطور النقد الأدبي
ألقى الأستاذ محمد خلف الله بك محاضرة بنادي دار العلوم يوم الخميس الماضي، موضوعها (أثر الدراسات القرآنية في تطور النقد الأدبي) ويبدوا أن الأستاذ تحدث عن هيكل فكرته في هذا الموضوع حديثاً مجملاً مرتجلاً، فقد أعد نقط الموضوع في ورقة كان ينظر فيها عند الحاجة للتذكر، ويخلط في حديثه بين العربية والعامية.
نبه الأستاذ المحاضر أولاً، إلى أمرين يتصلان بالقرآن الكريم، الأول أن القرآن اعتبر منذ صدر الإسلام النص الأدبي الأول في اللغة العربية دون سائر اللغات.
ثم تتبع خطين في حياة النقد الأدبي، منذ أبتدأ عصر التأليف في القرن الثالث الهجري، يتمثل الخط الأول في الكتب التي ألفت خاصة بإعجاز القرآن وطرائق التعبير فيه، ويتمثل الخط الثاني في الدراسات الأدبية المتعلقة بالشعراء والخطباء والكتاب، فلما جاء القرن الرابع الذي أتزهر فيه التأليف وتميز بالتخصص في الموضوع، فألفت كتب في موضوعات خاصة وفي أفراد معينين بعد أن كانت المؤلفات جامعية - جرى ذلك أيضاً فيما يخص بالبلاغة القرآنية، فألفت كتب في البلاغة كان الغرض الأول منها بيان ما في القرآن من إعجاز؛ وجمال في التعبير، وتعرض بعد ذلك لما ينطق على النظريات البلاغية من النصوص الأدبية شعراً ونثراً. ثم جاءت بعد ذلك العصور المتأخرة التي تحولت فيها البلاغة إلى قواعد شغلت العلماء بالبحث والجدل فيها دون اهتمام يذكر بالنصوص ذاتها.
وعنى الأستاذ في أثناء الحديث، بإبراز نقط، منها:
1 -
أن كلمة (النقد) كانت مهجورة في الاستعمال، مع إنها هي التي تنطبق على تلك الدراسات من قرآنية وأدبية. وعلل ذلك بأن المتبادر من هذه الكلمة عادة بيان المحاسن والمقبح في النص المنقود، فتحرز الدارسون منها نظراً إلى القرآن الكريم، ولم يجرؤ على استعمالها المؤلف أعجمي هو قدامة في كتابيه نقد الشعر ونقد النثر
2 -
اختفت الدراسات الأدبية - فيما عدا العمدة لابنرشيق - في العصور المتأخرة، ووجه المؤلفون كل عنايتهم إلى البلاغة باعتبارها أداة لأدراك بعض نواحي الأعجاز في القرآن
وفهم أسرار البيان فيه، وكان غرض المؤلفين هو خدمة القرآن الكريم أولا وقبل كل شيء.
3 -
أن تراثنا في النقد الذي يتألف من كل تلك الدراسات يجب أن يكون أساسا أو ينبغي أن لا يهمل في النقد الأدبي المعاصر الذي يجب أن يتكون من ذلك التراث ومما نقتبسه من مذهب النقد الغربية الحديثة.
وفي نهاية الحديث توجه بالخطاب إلى أساتذة اللغة العربية في المدارس، متسائلا: ماذا ينبغي أن تتضمنه مناهج التعليم في المدارس الثانوية من تلك الدراسات، ولفت النظر إلى وجوب الاستفادة في المدارس الثانوية - وخاصة في السنتين الأخيرتين - من المباحث البلاغية التي تهتم بالنظر في النصوص، مثل دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر، وذلك إلى جانب القواعد البلاغية التي تدرس الآن، ويعنى مع هذا وذلك بأساليب النقد الحديثة.
وأنا لا ادري لماذا نصر على إرهاق التلاميذ في التعليم العام بتعليم البلاغة، وان كنت ارجع ذلك إلى (القصور الذاتي) الذي يدفعنا منذ القديم إلى سلوك هذا الطريق. .؟
أسأل أولا: ما الغاية من تعليم اللغة للتلاميذ في المدارس في المرحلة التي نسميها التعليم العام؟ أليست هي أن يكتب الناشئون ويتحدثوا ويقرءوا كتابة وحديثا وقراءة عربية صحيحة؟ فما هي الوسيلة إلى هذه الغاية؟
المشاهد والتي أثبتته التجارب أن دراسة البلاغة بأنواعها لم تعمل غير تنفير التلاميذ من اللغة العربية. . . وقد سمعت أحد المدرسين الذين عقبوا على المحاضرة يقول أن التلاميذ يفهمون التشبيه وأقسامه ويجرون الاستعارة. . . الخ. وأقول أن التلاميذ المساكين يحفظون ذلك الكلام لأنه مطلوب منهم في الامتحان فقط.
ولقد رأينا شيوخاً درسوا البلاغة واستوعبوا ما في كتبها، وقضوا حياتهم في تعلمها وتعليمها، وهم لا يكادون يحسنون كتابة سطر فصيح أو يلقون حديثاً بعبارة سليمة. وعلى عكس هذا الضرب من أساتذة البلاغة ودراستها، نجد الأدباء من كتاب وخطباء وشعراء، تجري أقلامهم وألسنتهم بالفصيح المعجب من الكلام العربي المبين، وما احسب هؤلاء قد وقفوا طويلا عند مباحث البلاغة وعلومها.
فقولا لنا أيها الأساتذة الإجلاء: أي الطائفتين (علماء البلاغة والأدباء) اجدر أن تكون مثلا
في تحصيل اللغة العربية للناشئة من تلاميذ المدارس؟
الأستاذ عبد الله حبيب:
اصدر معالي وزير المعارف، في هذا الأسبوع قرارا بترقية الأستاذ عبد الله حبيب مدير خدمة الشباب بوزارة المعارف إلى درجة مراقب مساعد. وهذا التفات كريم من الدكتور طه حسين باشا نحو تقدير الأدباء الذين يعرف معاليه مقدار المعوقات التي تقف في سبيل الحياة الكريمة اللائقة بهم والمثيبة لما يسكبون من عصارات النفوس وما يذيبون من شحوم الأعصاب أن كان لأعصابهم شحوم.
وترقية الأستاذ عبد الله حبيب إلى مراقب مساعد إنما تعتبر أمرا، بالنظر إلى ما فيها من استدراك لأهوال مضى وإزالة حواجز من سبيل الإنصاف وإنزال الناس منازلهم. أما المسألة في ذاتها فليست بذات شأن كبير بالنسبة آلة هذا الرجل الذي توافرت له المنزلة في عالم الأدب، والمؤهل الرسمي العالي، والخدمة الحكومية الطويلة، ولكن الاعتبارات التي جرت الأمور في مصر على أن ترفع التافهين والفارغين قضت على مثل عبد الله حبيب أن يظل في الوظيفة - دون هؤلاء التافهين والفارغين. .
ظهر عبد الله حبيب في عالم الأدب من نحو ربع قرن، اشتغل بتحقيق أمهات كتب الأدب بدار الكتب المصرية خمسة عشر عاماً وشارك في النهضة القصصية المصرية الحديثة فكان أحد كتابها المبرزين، وله مجموعات من القصص ظفرت بها المكتبة العربية فيما ظفرت به من القصص الحديث، هذا إلى جهوده في الصحافة وما كتب في النقد وما نظم من الشعر وقد دار في خدمة الحكومة دورة انتهت به إلى خدمة الشباب بوزارة المعارف وما زلنا نذكر مهرجان الشباب للأدب والفن الذي قامت به الوزارة سنة 1948، والذي كان عبد الله حبيب عمود النشاط فيه، فكشف مواهب شباب تجلت في الشعر والقصص والخطابة.
فإن يقدر عبد الله حبيب بهذه الترقية، فليس الأمر أن ترجى إليه التهنئة، وإنما هو الاغتباط برعاية القيم والأقدار، في وقت كادت تفقد فيه ما تستحق من اعتبار.
مؤتمر اليونسكو:
وافق مجلس الوزراء في اجتماعه الأخير، على تأليف وفد مصر في مؤتمر اليونسكو برياسة معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف، وينظر أن يبحر معاليه من الإسكندرية في يوم 9 يونيه.
ويجتمع هذا المؤتمر بباريس ابتداء من يوم 18 يونيه، في دور انعقاده السادس، وهو يضم أربعة وخمسين وفداً، يمثلون الدول الأعضاء في هيئة اليونسكو، وكلهم من رجال التربية والعلوم والثقافة، ولا يحضره أحد من رجال السياسة والحرب، لان الغرض من الهيئة العمل على تحقيق السلام عن طريق ألقى بالفكر إنساني.
وقد اتجهت اليونسكو أخيرا إلى رفع مستوى الجماهير في العالم فوضعت مشروع التربية الأساسية الذي يقوم على أن يحصل كل فرد من أفراد العالم على حد أدنى من العلم والمعرفة يمكنه أن يعيش كريماً موفور الحاجات غير قابل للاستغلال أو الاستبداد، فاهما مطالب بيئته وحاجاتها، مشبعا بروح التعاون على خير المجتمع.
وسوف يهتم المؤتمر الحالي بذلك المشروع فينظر نتائج التجارب التي اجتازها، ويرسم الخطط الكفيلة بتحقيقه على نطاق واسع.
ومن المسائل المعروضة على هذا المؤتمر، والتي تتصل بالأغراض المصرية العلمية، موضوع الدراسات الصحراوية، فقد كان لإنشاء معهد الفؤاد الأول للصحراء بمصر صدى كبير في الهيئات العلمية الدولية، وكانت اليونسكو قد أنشأت مؤسسة لمشاكل المناطق الجرداء، وسيهتم المؤتمر بدراسة الخطوات العملية التي يجب اتخاذها لتعزيز هذه المؤسسة. والمرجو أن تستفيد مصر من الأبحاث التي تجري في هذا الموضوع فهي من أشد البلدان حاجة إلى استغلال الصحارى الواسعة المحيطة بها ومما يذكر أن أراضى مصر المزروعة لا تزيد على جزء من عشرين جزءا من أراضيها، والتسعة عشر جزءا الباقية صحارى جرداء.
ومن تلك المسائل، ترجمة روائع الكتب بين اللغات المختلفة، وقد سبق أن دعا معالي. الدكتور طه حسين باشا إلى الاهتمام بهذا الموضوع في مصر، وألفت لجنة في وزارة المعارف لدراسته.
وسينظر المؤتمر أيضاً في انتخاب عضو مصري في المجلس التنفيذي لليونسكو، بعد أن
انتهت مدة الأستاذ محمد شفيق غربال بك الذي ظل عضوا في هذا المجلس منذ إنشاء هذه الهيئة
عباس خضر
الكتب
شباب وغانيات
تأليف الأستاذ محمود تيمور بك
للدكتور زكي المحاسني
في حياة كل أديب تطور. والأديب الذي يجثم على حال لا يريم عنها يكون صخري السجية، كأنه قد سمر بمكانه. وليس من صفات الحياة الجمود، وافضل ما يميز الأحياء الحركة والتطور. كذلك حقت هذه الحالة على الأديب وعلى أدبه فكان اجمل ما يميز واحداً من غيره دراستنا لمراحل هذا التطور في أدبه وشؤون تفكيره. ولو أتيح لكل أديب أن يسجل آثار العوامل التي غيرت مجراه؛ كما تغير أحداث الطبيعة مجارى الأنهار، وكما يبدل المواسم والفصول هبات الرياح، لأتى على ذكر أمور تغرى بالمعرفة، فيها غرابة وفيها ظرف كثير. لم يتعود ذلك أدباؤنا ليوفروا المؤونة على النقاد والباحثين. وكان خيرا لو فعلوا ذلك؛ فهم اعلم بمصائر شعورهم وسير نفوسهم بين الاماسي والإصباح وعلى أطراف الشهور والسنين.
وصديقنا القاص الكبير الأستاذ محمود تيمور بك قد خضع أدبه لهذا الميزان الاجتماعي والمقياس النفسي. وأنا أجد أدبه مواتياً لذلك في تطوره واتساع آفاقه. لقد بدأ أدبه مرسلا على السجية لا تأخذ لفظه وتعبيره عنجهية ولا كلفة وكانت قصصه تجتذب قارئها بمعانيها وبساطتها وكان القارئ يسلك إلى تلك المعاني عن طريق قصيرة قريبة، وان تكن طريقاً غير ممهدة الجنبات، ولا مفروشة الثرى، بالبلاط المنقوش.
وحين استوى الأستاذ تيمور بك على أمد من الشهرة في عالم الأدب المعاصر أخذت قصته بالتطور، فأطلقت العبارة جناحيها في قصصه، وصار قراؤه يضمون إعجابهم بفنه القصصي إلى إعجابهم بأسلوبه وأدائه. وهذه الطريقة من التعبير الحر الذي ينبغي أن يضمن للقصة تخليدها. وقديما قيل: ما خلد المرء مثل أسلوبه. وكان الجاحظ من هذا الفريق الذي يؤثر جمال اللفظ وحلاوة المعنى، بل كان يقول اكثر من ذلك في أن المعاني مطروحة بالطريق.
ذلك ما أراه من أثار التطور في أدب القاص تيمور بك في مرحلة أولى من مراحل تجديده. ثم حدثت آثار ثانية في قصصه تدعو إلى أن تعد مذهبا تجديدياً، أو تطورا أخر.
فلقد عرفناه في اكثر قصصه إذ سمت وقور، غير متخفف في اللفظ ولا في المعنى، يسوق الحوادث في تجوالها الاجتماعي فيصور الشخوص تصويرا رائعا، ويحلل المشاعر تحليلا دقيقاً. أخذ من البيسيكولوجي بنصيب كبير، لكنه لم يكن قبل هذا الكتاب الجديد الذي أخرجه للناس وسماه (شباب وغانيات) قد خاص في حوادث الغرام العنيف العارم.
كنت أقرا منذ سنين قصة آناكاريننين للشيخ تولستوي فأعجب للعنف في تصوير الغرام الآثم الذي يهدد الأسرة ويشتت شملها؛ ويرمي الزوجة في مطارح الرذيلة ومطاوي الخلاعة والعار، فلما قرأت قصص شباب وغانيات لتيمور بك قلت الآن أجد في شخوصه مثل ذلك الصخب النفسي الذي يصرخ فيه الهوى بصوت جاهز صراخ الذئاب النهمة التي يعلو عواؤها حين تعس في سواد الليالي.
كان سامي، وهو بطل القصة الكبيرة من هذه المجموعة القصصية، صفحة نقية، لكن القدر شاء أن يسطر فيها بمداد. الهوى سطورا فيها أثام وفيها نحول عنيف، فهو لم يسلم في صغره من المفاسد، فحاضنته أم تعلمه فنون الإغواء والإغراء. ثم نجد بطل القصة وهو سامي قد وقع في حبين. . واحد لفتاة كانت بنت ناظر في المدرسة الابتدائية التي كانت يتعلم فيها، وحب ثان وقع فيه لبنت امرأة سرية كانت تفد عليهم من استنبول بين الحين والحين. وتلتقي الفتاتان في بيته، وتكيد الغنية منهما للفقيرة.
وبعد ذلك تشتبك حوادث القصة اشتباكاً فيه تعقيد حينا وفيه أسجاح حينا آخر، حتى يطلع المؤلف على القاري بفجاءات هن من اجمل الفن القصصي التيموري. ما كان أبرا عه في أدائها، فإذا أخو سامي وهو الذي نشأه ورباه يتزوج الفتاة المترفة اللعوب التي كان يعشقها سامي ويغوص سامي في وحول من المساوئ الخليقة فيكون عشيقاً لزوجة أخيه. ثم يموت أخوه ويكر الزمن كرته ويتسفل سامي ويرتاد بيوتاً داعرة، فإذا هو ذات ليلة يرى في مخدع من مخادع تلك البيوت الدنيئة زوجة أخيه.
وها هنا وجه التطور الجديد في قصة تيمور، فإن هذا القاص قد عرف أن الأجيال آلاتية والمعاصرة ستحاسبه على قصصه، وسيقول له قائلوها الناقدون الذين لا يشفقون، انه أهمل
العنف في الحوادث الاجتماعية والغرامية وهي تقع في الوجود، بل تكاد تكون مسارح زمنا وألاعيبه، فأراد أن يدخل بقصصه في هذه الزاوية. وهو تطور حديث المرحلة في القصة التيمورية.
واستطاع تيمور بك في مجموعة قصصه كلها - منذ كتب القصة - أن يصور الطبقة لا يزال الأرستقراطية لأنه قد عرفها وعاشرها وعايشها، وهذه الطبقة لا يزال الفن يطالبه في تحليل أغوارها وأسرارها. أما الطبقات التي دون ذلك فلا يخلو أدب القصة عند تيمور بك من تصوير معايشها وما يلقي البؤساء فيها من ضروب الحرمان. ويعوزه هاهنا تصوير اعمق وجلاء اكثر. فلقد سألوا الشاعر القاص المعاصر فرنسيس كاركو كيف استطعت أن تصور المباءات الشقية المعوزة التي يصهرها الفقر كما تصهر النار ذوب الحديد؟ فقال:
إني عشت فيها طويلا وتمرغت في حمأتها الوبئة.
وقد آخذ على عميد القصة المعاصرة انه ليس ذا نزعة فلسفية خاصة، أو أراء معروفة بعينها يبثها خلال قصصه فيحملها شخوصه.
لقد كان دوستويفسكي يحمل شخوصه آراءه. وفعل ذلك اناطول فرانس، وبورجيه، وشارل موراس. ويفعل هذا كثير من القصصيين المعاصرين وقد سمعت كثيرا من آراء دوهاميل في كلام شخوص رواياته، وبد لي تحليل نفسه خلال أبطاله. وهذا يعود إلى طبيعة المؤلف وحالته من هدوء يلازمه أو إعصار يهيجه.
ورائد القصة المعاصرة تيمور بك في قصته الأخيرة شبابا وغانيات داخل زاوية جديدة في فنه إذ ادخل لونا عنيفا على قصصه. وسيأتي دهر ينظر فيه القارئون أدبنا المعاصر ويؤثرون يوم ذاك التصريح على التلميح، والنقد على التفريط. وجدير بنا ألا نترك لهم مجال القول فينا ذا سعة؛ لأنه بأيدينا تصوير الوجود على ما هو موجود دون غلو وتقصير. ومن حق القراء على الأدباء ألا يقصروا من أجلهم في تعمق الأمور وجلاء الصور. كما يكون من شأنهم أيضا أن يستخلصوا من أبطال الرواية آراء المؤلفين.
هذه كلمة في ثمرة واحدة من شجرة طيبة خيرة. وتيمور بك جواد في التأليف، خير بالقصص، يتمنى النقاد والكاتبون لو ينالوا آثاره كلها بالدرس والتحليل. فإنه لا تشفى الغليل حسوة من ماء عذب فرات، ولا إطلالة واحدة على روض جميل وما كان أدب
تيمور إلا النهر العذب والبستان الخير الريان.
القاهرة
زكي المحاسني
القسم الأول من كتاب الملل والنحل
تحقيق وتعليق الأستاذ محمد فتح الله بدرا
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
ظهر هذا الكتاب القيم، أو على الأصح القسم الأول منه في 672صفحة من الحجم الكبير بتحقيق وشرح وتعليق الأستاذ الجليل الشيخ محمد فتح الله بدران الأستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف.
وقد عكف الأستاذ بدران نحو عشر سنين على كتاب الملل والنحل للأمام الشهرستاني المتوفى علم 548هـ - 1153م دراسة وبحثاً وتحقيقاً، وهذا القسم هو أول ثمرة لهذا المجهود العلمي المشرف الطويل، وسيليه الأقسام الثلاثة الباقية المكملة للكتاب بتعليق الأستاذ بدران، حيث حقق نصوص الكتاب، وعرض أصوله وابتكر فهارسه، وانفرد بتقسيمه، ومهد لتخرجه، وعلق عليه وحلل الكتاب وترجم لمؤلفه.
ومما يضاعف من قيمة من قيمة هذا العمل العلمي القوي المشرف إن الناشر نشر مقاله زردشت في المبادئ التي سقطت من شتى طبعات الكتاب وترجماته ومن الكثير من مخطوطاته أيضا، وانه نشر مقدمة الكتاب التي قدم المؤلف بها كتابه للوزير نصر الدين، وقد سقطت كذلك من طبعات الكتاب المتعددة. . هذا فضلا عن تقسيمه الكتاب تقسيما علميا منظما، وعنايته الكبيرة به في النشر والإخراج.
إن هذه الخدمة الجليلة لكتاب (الملل والنحل) لتدل على مواهب أصيلة، واطلاع عميق، ودراسات واسعة، وفضل كثير، وهي لون من ألوان كفاح العلماء في سبيل الثقافة الإسلامية وأحياء أثارها فحيا الله الأستاذ بدران وبارك هذا المجهود الحافل.
محمد عبد المنعم خفاجي
البريد الأدبي
تحقيقات جغرافية:
إذا كانت محطة الإذاعة المصرية قد ضربت الرقم القياسي في الأخطاء النحوية واللغوية، وفي توارد اللحن على ألسنة المذيعين والمحدثين، فأنها قد حرفت في أحيان كثيرة أسماء البلاد الجغرافية.
وذلك لان الكثيرين فيها ينسون أو يتناسون عمداً انهم في بلد عربي إسلامي، اسمه (مصر) وللعرب والمسلمين تاريخ طويل، مملوء بالحوادث والأمجاد والأيام حلوها ومرها، وقد تركوا وراءهم دويا في العالم، وصبغوا أنحاءه بلغتهم وثقافتهم وأفكارهم، وهذاشيء لا يمكن أن يزول ويفنى بالسهولة التي يتصورها البعض في مصر، والأسماء التي أطلقها العرب على البلدان في العالم هي التي يجب أن نسمعها كما نطقها العرب عندما تذاع نشرة الأخبار من محطة الإذاعة المصرية، فنحن لا ننحت أسماء غريبة عنا، ولا نقلد الفرنجة في نطقهم، وإنما نريد أن نسمع الأسماء تذاع كما ينطقها العرب.
من قبيل ما سمعته ووعته إذني:
توليدو بدلا من طليطلة
سفيل
(إشببيلية
جراندا
(غرناطة
كازا بلانكا
(من الدار البيضاء
ألجيه
(من الجزائر
وقد تعود بعض المذيعين بنطق بيرما - على الطريقة الأمريكية بدلاً من بورما.
فهل نجد من يلفت نظرهم إلى تحقيق الألفاظ الجغرافية التي قد إذاعتها؟ إننا نؤمل وننتظر!
كنت منذ أيام في زيارة لصديق عزيز وأستاذ كبير، فوقع في يدي كتاب تحت اسم (أطلس
تاريخ القرن التاسع عشر)، تأليف وجمع الأستاذين أحمد نجيب هاشم ومحمد محمود نجا، طبعته مكتبة النهضة المصرية في مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، وبينما اقلب صفحاته وقع نظري على الخريطة (6) أمام الصفحة (166) وهي خريطة خاصة بحمل الدردنيل سنة 1915، فرأيت الأسماء منقولة من الأصول الإفرنجية؛ نقلا حرفها تماما عن أصولها، خذ لذلك مثلا:
كوم كيل بدلا من قوم قلعة
نشاناق
(جناق قلعة
اتى بابا
(عنى بابا
زد على هذا التحريف في كيليد البحر، وسد البحر، وغير ذلك من الأسماء التي كان يسهل على المؤلف الجغرافي أن يرجع في تحقيق أسماء البلدان إلى الأصول العربية والتركية وهي معروفة ومتداولة.
لقد راجعت قبل كتابة هذه الكلمة الخرائط الواردة في مؤلفات فون ساندرس والقواد الإنجليز عن الحملة وما نشره ضباط البحرية عن العمليات التي قام بها أسطول الحلفاء: وبين يدي مجموعة الجرائد المصرية لذلك العهد وفيها ذكر الدفاع المجيد لهذه الأسماء التي نقلتها صحف مصر وقتئذ بأسمائها الصحيحة كما أوردتها، فهل ننتظر ونؤمل من المشتغلين بأمور الجغرافيا بعض الاهتمام بأمور التاريخ كما يفهمه المسلمون ويعرفه العرب.
أحمد رمزي
قطع الحديث
يتصل بقوله (الزيات بك) الرائعة؛ في أدب الحديث ما تتزاحم به الألسنة من أساليب المقاطعة، ونقول (الأساليب) لأن أصحابها يفتنون في طرق أدائها ويفتنون بها افتنانا!
وان لهم تعابير عجيبة في الاعتذار عن المقاطعة، فهم يتظرفون ويتملقون الذوق بقولهم: (.
نقول والكلام لك) أو (ما قطع حديثك إلا كل خير) أو (وأنت الصادق). . .
وعندي إن الاعتذارات ليست سوى دلالات على الاعتزاز بالرأي ولو كان باطلا، وفيه مغزى من مغازي الغرور الدال على النقص في التربية الاجتماعية!
أنى ليقف في حلقي القول حتى أكاد اشرق به بعد أن اسمع مقاطعة ثقيل يريد أن يقول بطريق غير مباشر: (اسكت أنت فأنا اعلم منك بما تقول)، أما هذه الاعتذارات المفتعلة، فهي أقنعته تغطى بها شناعة الأكذوبات!
كان الأمام علي يسأل عن الشخص؛ فإذا لم يعلم له حرفة سقط من عينيه، فيجب أن يكون هذا شأننا مع متصدري المجالس، نستدرجهم إلى الحديث حتى تلوك ألسنتهم أشداقهم؛ فإذا وقعت السقطات حق لنا أن نمد الأرجل على حد تعبير الأخفش النحوي!
إن كل نقيصة في هذا المجتمع مردها إلى المجاملة، وعدم المجاهرة بالرأي، وإغفال ذي البلة والغفلة!
يجب أن نهذب هؤلاء المضايقين ماداموا جاهلين بآداب المجتمع، فليس القصد من العلم حشو الرؤوس، بل معرفة تقاليد البيئة وأساليب السلوك الصحيح التي تحدد معنى الحياة الكاملة.
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر
إلى الزيات بك
ترددت طويلا قبل أن اكتب إليك على صفحات (الرسالة) فما اعتدت أنت أن تنشر ثناء على نفسك في صفحات مجلتك، ولا اعتدت أنا أن اوجه إليك مثل هذا الثناء، لان الثناء الحق هو ما احتفظ به الإنسان بينه وبين نفسه كما يقول الدكتور طه حسين باشا.
وأحب بعد ذلك أن أقول لك إنني سمعت منذ ثلاثة أعوام أو نحوها إن كلية الآداب في جامعي فؤاد الأول رشحتك لكرسي الأدب المعاصر، بيد انك تنحيت عن هذا المركز الأدبي الممتاز لدواع صحية. وبعد ذلك فكر بعض الزملاء الصحفيين في ترشيحك عضوا لمجلس النقابة توطئة لانتخابك نقيباً للصحفيين، ولكن قال قائلنا إن (الأستاذ الزيات) عزوف عن
مثل هذه المظاهر!
أما انتخابك عضوا في المجتمع اللغوي، فقد كان - كما عملت - مفاجأة لك، لأنك لم تسع إلى هذا الشرف وإنما سعى هو إليك سعياً. ولو قد ترك الأمر إليك لآثرت أن تبقى بعيداً عن هذا المنصب الخطير معنيا بأمر صحتك وأمر (رسالتك)!
وكذلك الرتبة يا سيدي، سعت إليك مختالة تجرر أذيالها، ما فكرت أنت فيها ولا طلبتها ولا رجوتها، وكذلك يسعى إليك المجد دون أن تسعى إليه، وتتهالك عليك المظلمة دون أن تتهالك عليها!
وأحسب إن هذه الكلمة لا تدخل في باب الثناء، ومن هنا فإني مصر على نشرها، وهبني أثنيت عليك، فهو ثناء التلميذ على الأستاذ، والصديق على الصديق، وحسبك هذا التقدير السامي الذي دونه كل تقدير
منصور جلب الله
التهذيب للأزهري والتكملة للصاغاني
كتب ألينا الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار يقول: عثرت بمكتب شيخ الإسلام عارف حكمة الله الحسيني في صيف العام الماضي على نسخة كاملة صحيحة نظيفة جميلة الخط والشكل من معجمي (التهذيب) للأمام الأزهري و (التكملة) للأمام الصاغاني، وهما بحالة سليمة، عثرت بهذين المعجمين العظيمين مصادفة بتوفيق من الله وحده بين ثمانية آلاف من المخطوطات، بعضها من فوق بعض، وقد استخرت الله في نشرهما فشرح صدري وأعانني، وقد درست كلا المعجمين وقراءتهما قراءة درس وتمحيص فلم أجد بها غلطة واحدة في الخط أو الشكل، مما يدل على العناية الكبيرة التي بذلك في نسختها نسخاً سليما من الخطأ.
وقد رأيت أن أقوم برحلة إلى شمال إفريقيا وأوربا واطلع على المكتبات التي تحوي ذخائرنا وكنوزنا التي أهملناها وأغفلناها، وأفاد منها من يريد بنا السوء والشر، رجاء أن أجد بها ما يعنيني على نشر ما أردت نشره.)
بمكة المكرمة
أحمد عبد الغفور عطار
القصص
أشباح
الكاتب النرويجي هنريك أبسن
بقلم الأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
تعريف: هذه مسرحية: قال عنها النقاد: (إنها عمل أدبي خلق قبل أوانه) فقد أثار ظهورها سنة 1881 م، ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية في كثير من أنحاء العالم، وأبت المسارح تمثيلها في ذلك الوقت، لان الناس كانوا لا يدركون ما يرمي إليه المؤلف من آراء جريئة. وقد ظلت مسرحيتنا هذه حبيسة الملفات، سجينة العادات حتى إذا كانت النهضة القومية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين جرؤ بعض أصحاب المسارح فنفض ما تراكم عليها من تراب السنين، فمثلت ونجحت نجاحا تعدى المسرح النرويجي إلى كثير من المسارح العالمية، فترجمت إلى كثير من اللغات منها الإنجليزية والفرنسية وغيرهما، فترجمت إلى كثير من اللغات منها الإنجليزية والفرنسية وغيرهما، ولم يلبث المؤلفون المسرحيون إن حذوا حذوها في مسرحياتهم بل واتخذوها كثير من العلماء الباحثين موضوعاً لأبحاثهم في الوراثات التي يورثها الآباء أبناءهم. وهذه الوارثات منها الطيب والخبيث. والفكرة الرئيسية في هذه المسرحية إن (الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون). فالأب في هذه المسرحية خدن للشيطان، حليف للشر عبد للشهوة أصيب بالجنون ومات اثر نوبة قلبية متأثراً بما كان يتعاطاه، وقد ورث عنه ابنه الاستعداد للإصابة بهذا المرض رغم انه لم يكن يعرف إن له أباً شريداً مصاباً بالجنون. .)
ولقد عنى المؤلف بالفكرة اكثر مما عنى بالأشخاص، فجاءت المسرحية قوية الموضوع، ضعيفة من ناحية الأبطال، الذين جعلهم كأنهم قطع شطرنج يتحركون بغير روح.
المسرحية: - مستر انجستراند رجل محب للمال يعمل للحصول عليه من اقصر طريق، ويريد الوصول إليه بغير كد ولا عناء، ولا يهمه أن يكون الطريق شريفاً أو وضيعاً، فهو لا يحفل بالشرف، ولا تستهويه الألفاظ الرنانة التي يتشدق بها الآخرون عن الشرف والفضيلة. . . الخ
فإذا رفع الستار نراه يتحادث مع ابنته (ريجينا) يحاورها ويراوغها، ونسمعه يفاوضها في بيع شرفها بالمال لحسابه الخاص، ويطلب منها أن تقدم جسدها طعمة سائغة لمن يدفع أغلى ثمن، فإن رأى منها الأعراض والتأبى، ذكرها بما يجب عليها من طاعته واكتساب رضاه. . . ولكن الابنة ترفض طلب أبيها في أباء وشمم، وتأبى أن تستسلم لإغرائه، فإذا حاول أن يثنيها عن عزمها ثارت في وجهه ونهرته ثم تطرده من المنزل الذي يقيم فيه، فهي تقيم في منزل ربيبتها مسز (الفنج) وهي امرأة واسعة الثراء اشتهرت بالغنى واليسار.
إن (ريجين) لا تملك قلبها الذي يريد منها أبوها أن تبيعه لدافع الثمن الأكبر، فقد وهبته من زمن (لاسوالد) ابن مسز (الفنج) صاحبة البيت الذي تربت فيه، فقد التقت به كثيراً كلما عاد إلى بيت والدته من غربته، فأحبته (ريجينا) ووهبته قلبها.
و (إسوالد) هذا وحيد أمه، ولكنها قد أبعدته منذ صغره عن البيت الذي تعيش فيه مع أبيه، فأثار هذا زوبعة من اللفظ والحديث بين أهل القرية، وخاض أهلها في كثير من التفسيرات المختلفة عن عدم حبها لابنها الوحيد، وقسوة قلبها وجمود عاطفتها.
وانه لولا ذلك لما أرسلت ابنها الوحيد إلى إيطاليا ليعيش هناك بعيداً عنها وعن أبيه.
والحق إن كل هذه التفسيرات لم يكن شيء منها صحيحاً، فلم تكن مسز (الفنج) قاسية القلب غريبة الأطوار، بل أنها كانت على عكس ذلك رقيقة القلب جياشة العواطف، حسنة التصرف، ولم يكن إبعادها لابنها ليتعلم فن الرسم كما كانت تقول هي لمن يسألها، ولا كرها له ولا قسوة عليه كما يقول الناس، وإنما الذي أوحى إليها هذا العمل، هو حبها لابنها وعطفها عليه، فقد أشفقت عليه أن يعيش مع أب شريد عربيد كالمستر (الفنج) الذي لا يفيق من سكره، وان أفاق فإنما ليبحث عن امرأة ساقطة يقضي الليل بين أحضانها، لقد أشفقت على ابنها ولم تشأ أن ينكب في أبيه كما نكبت هي، فعملت على أبعاده عن الجو المشبع برائحة الخمر والدعارة.
فكم قاست من شرور زوجها وآثامه وهي صابرة محتملة، فلم ترد أن يتحمل ابنها شيئاً مما لاقته فعملت على أبعاده، ونجحت في إنقاذه من شرور أبيه وتربيته بعيداً عنه؛ ولكنها لم تستطع أن تنقذه من الرذائل والعادات السيئة التي ورثها عن أبيه، فقد انتقلت الشرور والآثام من الأب إلى الابن في الدم كأنها أشباح سوداء في ليلة مظلمة. وكان من اثر هذه
الوراثة أن نشأ (إسوالد) معتل الجسم في عقله استعداد للاعتلال عند الصدمة الأولى. ولقد نصحه طبيبه الإيطالي بأن يربح عقله وجسمه فلا يرهقهما بمجهود عنيف، وانذره إن لم يتبع نصحه فسيلقي حتفه عن هذا الطريق. فلما مات الأب الشريد أرسلت مسز (الفنج) إلى إيطاليا تستدعي ابنها ليعيش في كنفها، فلما حضر منحته عطفها وحنانها اللذين حرمته منهما قسوة الأيام وفساد أخلاق الأب.
والتقى (لإسوالد) و (ريجينا) فخفق قلباهما اللذين أصابهما كيوبيدبسهمه، وقد مهد لهذا الحب تلاقيهما في المرات السابقة التي كان يحضر فيها الشاب لزيارة أمه، على رقم قصرها، فلما عاد هذه المرة التي سيبقى فيها طويلا، أطلقا لنفسيهما العنان، واصبح كل منهما لا يستطع فراق الآخر، وكانت الشواهد تدل على انهما في طريقهما الطبيعي نحو الاكتمال والسعادة المحققة التي ينشدها كل حبيبين.
فلما رأى مستر (انجستراند) والد (ريجينا) هذه البوادر عز عليه أن يفقد ابنته التي يريد أن يستخدمها في مآربه الدنيئة فعاد يحوم حولها، ينذرها حيناً ويرغبها حيناً آخر. فلما أبت أن فريسة شهية لرواد منزله، لجأ إلى القس (ماندرز) يشكو له ابنته العاقة التي تأبى أن تعيش معه. وتؤثر أن تعيش مع سيدة قاسية غليظة القلب كالمسز (الفنج) التي سبقت أن أبعدت ابنها يعيش ليعيش بعيداً عنها محروماً من عطف أبيه وحنانه انه لا يأمن على ابنته في هذا المنزل وخصوصاً بعد عودة (إسوالد) الشاب. وصدق القس كلامه وخدع بمعسول قوله لأنه كان ينظر إلى المسز (الفنج) نظرته إلى امرأة فظة قاسية. ولأنه لم يكن يعلم لماذا أبعدت ابنها عن أبيه. فذهب إليها يأمرها أن ترد البنت إلى كنف أبيها الحنون.
وهنا تضطر مسز (الفنج) أن تعترف للقس بالسبب الذي من اجله أبعدت ابنها وما كان من أمر الأب الشرير الساقط، وتفهمه إن زوجها قد خانها مع خادمة لها، فتقول له: -
إن ريجينا ليست ابنه مستر (انجستراند) فيسألها القس متعجباً وكيف ذلك؟ فتقول له:
- لقد فاجأت زوجي والخادمة بين أحضانه وهما في وضع مشين والخادمة تقول له: أوه. . . أوه. . . مستر الفنج. . . اتركني. . أرجوك أن تتركني) فاضطررت إلى طرد الخادمة الفاسدة الخلق بعد أن منحتها مالا تعيش منه.
وقد تزوج مستر (انجستراند) من تلك الخادم الساقطة من اجل مالها التي أعطيته لها، وبعد
اشهر خمسة من زواجهما أنجبت له (ريجينا).
فدمدم القس قائلاً: (إنها خادمة فاسدة حقاً)
ولكن مسز (الفنج) لا تلقى بالتبعة كلها على كاهل المرأة الساقطة دون أن تحمل شريكها الذي بذر معها بذور الخطيئة ثم تخلى عنها وقت العقاب، بعض الذنب، فتجيب القس قائلة:
(يخيل إلى يا سيدي أحيانا أننا نعيش في عالم كله رياء، وأننا جميعاً ساقطون وان أخطاء الأموات حية في دمائنا، قد أورثوها إيانا، وإني أصارحك أنى أرى هذا العالم يحوي من الخطايا والشرور اكثر مما يحوي من حصى الأرض ورمل الصحراء، وأننا جميعاً نهرب من الضوء ونخشى الظهور في النور لنعيش في الظلام الذي يحجب خطايانا عن عيون الغير)
فقال لها القس وقد ظهر الغضب على وجهه حتى ارتعشت لحيته: (كيف تقولين إننا جميعاً ساقطون وإننا نهرب من الضوء؟)
فقالت له: (ألم تزوجني زواجاً فاسداً باطلاً)؟ فقال لها:
(كيف ذلك، إن زواجك قد تم وفق القانون والواجب، وهما عمودان شامخان يباركان حياة الزوجية الماضية). فقالت له:
(إذا كان القانون والواجب، يرغمان الإنسان على أن يوقف حياته الصالحة على احتمال آثام رجل شرير فاسد لا يرجى منه خير ولا يؤمل فيه صلاح. . فإنهما عمودان شامخان يرمزان إلى مفاسد العالم وآثامه)
ولم تكد مسز الفنج تتم حديثها حتى يدخل مستر (انجستراند) ليسأل القس عما تم ويستشهد به في طلب ابنته، ولكن القس يثور عليه في وجهه إذ كيف يتزوج امرأة ساقطة نظير مالها.
فيجيبه مستر (انجستراند) بهدوء تام قائلاً: (أليست الشرائع السماوية تأمرنا، أن نمد العون لمن تزل قدمه؟ (فيؤمن القس على قوله) فيواصل (انجستراند) قائلاً: فأنا قد سمعت أمر السماء وانتشلت والدة (ريجينا) من الوحل الذي ألقاه فيه مستز (الفنج)
كان ذلك عندما اقتحمت يوما أحد المراقص الأرستقراطية هناك في المدينة حيث تراق الخمر كالماء، وتبعثر الأموال ذات اليمين وذات الشمال بغير حساب، والفقراء هنا في
القرية يقتلهم الجوع ويفرى أجسامهم البرد، وهناك النساء مرتميات كأنهن الوسائد، وقد اقتحمت ذلك المرقص محاولا زجر أولئك القوم عن آثامهم التي يرتكبوها، ولكنهم لم يسمعوا إلى بل القوا بي إلى الخارج فكسرت إحدى ساقي، وفي محنتي تقدمت إلى والدة (ريجينيا) وساعدتني على الوصول إلى داري، ثم اعترفت لي إن رجلاً سلبها عفافها، فقلت لها لقد ارتكبت جرما وأصبحت امرأة ساقطة تحملين الآثم والفجور، ولكن ها أنا ذا اقف بجانبك لأنقذك مما أنت فيه حتى لا تضيفي إلى أبيك آثاماً، أخرى، وقد أنقذت المسكينة حتى لا تكون خطيئتها مضغة الأفواه
وخدع القس بهذا الكلام الزائف، فلبث برهة صامتا لا يتكلم وهو ينظر إلى مسز (الفنج) كأنه يؤنبها على ما قالت في حق (انجستراند) وفي أثناء ذلك خرج (انجستراند) من الدار ليعود إلى المنزل الذي يديره.
وهم القس بالكلام مع مسز (الفنج) ولكنها سمعا صوت (ريجينا) من الداخل تصيح:
أوه. . . أوه. . . مستر إسوالد. . . اتركني، أرجوك أن تتركني. . .)
ويعقب هذا أصوات اصطدام أشياء، فيلتفت القس إلى مسز (الفنج) ويسألها عن مصدر هذا، فتجيبه وقد أدركت كل شي (إنها أشباح مثقلة بالآثام والشرور ورثها الابن عن أبيه). .
ثم يخرج القس وتستدعى مسز (الفنج) إليها إسوالد وتسأله عما حدث بينه وبين (ريجينا) فيقسم لها انه لم يحاول الإساءة إليها ولكنه يحبها، ويثق أنها تحبه حباً صادقا، فيقول لها: إن حبها هو الذي صانني عن كل عبث وحال بيني وبين ما كنت أهم بارتكابه في غربتي. ولقد همت كثيراً أن افعل ما يفعله الشباب، ولكن كان مجرد تفكيري في إن هذه الفتاة البريئة الطاهرة الذيل تنتظر أو بتي وأنها تمد لي ذراعها لأتلقاها. كان هذا وحده يبعدني عن مز الق الشر ويدفعني إلى الثقة بنفسي فأبتعد عن كل ما يشين.
وهنا يظهر الارتباك على مسز الفنج وتستغرق في سهوم طويل، لا يخرجها إلا صوت ابنها (إسوالد) يسألها أن تبارك حبها، فتلتفت إليه وهي لا تزال شاردة، وتقول له في صوت شارد حزين:
أنها أختك يا بني. فيرد عليها في صوت مزعج:
هذا محال، كيف ذلك بربك؟ أصدقيني أهي أختي حقاً؟ هذا محال. . .
فتهدئ والدته من روعه، ثم تخبره بقصة (جوانا) الخادمة التي اعتدى أبوه عليها فأنجبت (ريجينا) ولكن بعد زواجها من انجستراند بمدة قصيرة جداً. . . وهنا تنزل بالشاب المسكين الصدمة التي حذره الطبيب إياها.
وعندما تعرف (ريجينا) إن (إسوالد) أخوها وان زواجها منه مستحيل تضيق بها الحياة وتصمم على الرحيل. . .
فتسألها مسز (الفنج)(إلى أين ياريجينا) فتقول لها:
إلى حيث أراد أبي أن! أهب جسمي لدافع الثمن الأكبر. فتقول لها:
ولكنك يا ريجينا تلقين بنفسك في الهاوية.
ليكن هذا مادام مسز إسوالد سر أبيه، فلأكن أنا الأخرى سر أمي. ثم تخرج هائمة على وجهها.
وتظهر دلائل الاختلال على إسوالد، فيستولي الرعب على الأم وتلقى بنفسها تحت قدميه وتصيح:
إسوالد ابني ارحم أمك التي منحتك الحياة والحب والحنان.
ولكنها لا تسمع إلا صوت سقوط إسوالد على الأرض ميتاً، فقد انفجر شريان في فمه فخر صريعاً.
أسيوط
عبد الموجود عبد الحافظ