الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 936
- بتاريخ: 11 - 06 - 1951
استقبال رمضان
أذيعت من القاهرة في مساء يوم الثلاثاء الماضي أول رمضان
في هذا اليوم المبارك، استقبل المسلمون في أقطار الأرض شهرهم العظيم رمضان. استقبلوه بعد أحد عشر شهراً قضوها في صراع المادة وجهاد العيش، تكدر فيها القلب، وتبلد الحس، وتلوث الضمير. فهو يجلو صدورهم بالذكر، ويطهر نفوسهم بالعبادة، ويزود قلوبهم من قوى الجمال والحق والخير بما يمسكها العام كله على فتنة الدنيا ومحنة الناس. وإذا كان المرهفون قد استقبلوا في أبريل ربيع الحواس، والمترفون قد استقبلوا في يونيو ربيع الغرائز، فإن المؤمنين استقبلوا في رمضان ربيع الأرواح. وربيع الحواس في الرياض زهور وعطور وفتنة؛ وربيع الغرائز على الشواطئ فجور وغرور ولذة؛ وربيع الأرواح في المساجد صيام وقيام ونسك. ولذلك كان رمضان في الشرع الإلهي طهوراً من رجس العام، وهدنة في حرب القوت، وروحاً في مادية الحياة.
يستقبل المسلمون في رمضان ذكريين جليلتين لحادثتين خطيرتين كان لأولاهما أكبر الفضل في تقدم الإنسانية، وكان لأخراهما أقوى الأثر في نجاح الدعوة الإسلامية: ذكرى نزول القرآن الكريم في ليلة القدر، وذكرى انتصار المسلمين في غزوة بدر.
كان نزول القرآن في رمضان فرقاناً بين عهدين متغايرين: عهد ذل فيه الإنسان حتى عبد الحجر، وضل فيه العقل حتى استحب العمى، وفجر فيه الطغيان حتى أنكر الإنسانية؛ وعهد تدارك الله فيه عباده بلطفه، فهدى بنور دينه ضلال الفكر، وأقام بدستور شرعه ميزان العدل، ورفع بسلطان خلافته معنى الإحسان وكانت معركة بدر في رمضان حكماً قاطعاً من أحكام القدر، غير مجرى التاريخ، وعدّل وجهة الدنيا، ومكن للعرب في دورهم أن يبلغوا رسالة الله، ويؤدوا أمانة الحضارة، ويصلوا ما انقطع من سلسلة العلم. كان المسلمون في بدر على ضرهم وفقرهم ثلث المشركين. وكان المشركون على كثرتهم وعدتهم صفوة قريش. فموقف الإسلام من الشرك كان يومئذ موقف محنة. كان بين العدوتين في بدر مفرق الطريق، فإما أن يقود محمد زمام البشرية في سبيل الله فتنجو، وإما أن يردها أبو جهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك. وقفت مدنية الإنسان بأديانها وعلومها وراء محمد على القليب، ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب. فكان طريق وعقبة، ونور وظلمة، وإله وشيطان؛ فإما أن يتمزق تراث الإنسانية
على هذا الصخر، ويتبدد نور الله في هذا القفر، وإما أن تتم المعجزة فتفيض الحياة على الناس من هذه البئر، ويتصل الماضي بالمستقبل من هذه السبيل، ويبدأ التاريخ عهده الجديد بهذه الموقعة. ولقد أراد الله أن تتم للمعجزة فانتصر ثلاثمائة مسلم على قرابة ألف مشرك.
ويستقبل المسلمون في رمضان ثلاثين عيداً من أعياد القلب والروح، تفيض أيامها بالسرور، وتشرق لياليها بالنور، وتفتر مجالسها بالأنس. ففي المدن يغمر الصائمين فيض من الشعور الديني اللطيف يجعلهم بين صحوة القلب ونشوة الجسد في حال استغراق في الله، يتأملون أكثر مما يعملون، ويستمعون أكثر مما يتكلمون. فإذا أمسى المساء وفرغوا من الطعام انتشروا في المدينة، بالبهجة والزينة؛ فالرجال يحضرون محافل القرآن أو السمر في البيوت أو في المنتديات؛ والنساء يوزعن الوداد على منازل القريبات والصديقات؛ والأطفال يفرحون بأناشيدهم ومصابيحهم الميادين والطرقات، والدور الباقية على العهد تتقرب إلى الله بالذكر والصدقات، والمساجد المقفرة طول العام تعج بالوعظ والصلوات، والمآذن الحالية بالمصابيح، الشادية بالتسبيح، ترسل في أعماق الأبد نور الله وكلمته.
وفي القرى يرجع الفلاح في رمضان نقيا كقطرة المزن، طاهراً كفطرة الوليد، فلا يقتل ولا يسرق ولا يشهد الزور ولا يقول الهجر ولا يأتي المنكر. ثم تعتريه حال من الصوفية الشاعرة فيعف لسانه ويخشع قلبه وتلين يده، فلا تسمع منه لغواً في حديث، ولا عنفاً في جدل، ولا بغياً في خصومة، فإذا أذهله الغضب فرفع صوته ندم عجلان واستغفر وقال: الله إني صائم! وما أجمل أن ترى فانك الأمس وقد أصبح ناسك اليوم يمشي من البيت إلى المسجد في ثوبه النظيف وئيد الخطو، غضيض الطرف، لا تترك السبحة، ولا يفتر عن التسبيح لسانه. حتى إذا قضيت صلاة العصر جلسوا على المصاطب يستمعون القصص أو الوعظ إلى أن تؤذن الشمس بالمغيب، فيمدوا الموائد في الطريق أمام بيوتهم ويدعوا إليها عابري السبيل وطالبي الصدقة؛ ثم لا يلبث الإخاء المحض أن يجعل الموائد المتعددة مائدة واحدة، يصيب منها من يشاء ما يشاء.
ويستقبل القاهريون في رمضان مظهراً قومياً رائعاً يعيد إلى القاهرة عز القرون الماضية، فيصبغ لونها الأوربي الحائل بصبغة الشرق الجميلة، ويرفع صوتها الخافت بشعائر الصوم الجليلة، ويبرز شخصيتها الضائعة في زحمة الأجانب بالمظاهر الرسمية للحكومة، والتقاليد
العرفية للشعب. وما أروع القاهرة في سكتتها عند الإفطار وجلبتها عند السحور وهزتها ساعة انطلاق المدفع! أما إذا كان في دنيا الإسلام من يستقبل رمضان بالوجه الكالح والصدر الضيق واللسان الطويل والغيظ الخانق فهم ثلاثة:
الخمار الأجنبي، والشيطان المغوي، والمسلم المزيف.
فالأجنبي صاحب القهوة أو البار يستقبل في رمضان الكساد المحزن، لأن القهوة في النهار يكثر فيها الجلوس ويقل الطلب، والبار في الليل تهجره الكؤوس ويفارقه الطرب. ورمضان هو المسؤول، لأن السكير في رمضان لا يشرب، والمقامر في رمضان لا يلعب. وصاحب القهوة مضطر بحكم الصنعة أن يقدم إلى الصائمين أدوات التسلية بالمجان حتى المغرب، وأن يقدم إلى المفطرين أكواب الماء المثلج طول السهرة حتى السحر! والشيطان يستقبل في رمضان حصناً من الخير لا يدخله الشر ولا تفتحه الرذيلة. فإذا حاول إبليس أن يدنو منه رده بالنهار، وصده القرآن بالليل، فيظل كما يعتقد القرويون مصفداً بالأغلال مقيداً بالسلاسل حتى ينطلق من إساره في آخر يوم من أيام رمضان.
والمسلم المزيف يستقبل في رمضان فطاماً لشهواته ولجاماً لغرائزه وقيداً لحريته؛ فهو يرميه بما يرميه به الأوربيون من قلة الإنتاج وكثرة الإهلاك وشل الحركة وقتل الصحة، فيشيح بوجهه عنه، ويتخذ لنفسه رمضان آخر رقيق الدين خفيف الظل باريسي الشمائل، يبيح النظرة الآثمة والكلمة العارية والأكلة الدسمة والكأس الدهاق والسيجار الغليظ، ولا يكلفه إلا أن يجعل عشاؤه من باب المجاملة عند الغروب وبعد طلقة المدفع. وإذا كان في بيوت المحافظين قارئ يقرأ القرآن، وذاكر يذكر الله، وساق يقدم المرطبات، فليكن في بيت هذا الصنف من المسلمين مقصف يجمع ما حل وما حرم من لذائذ الحس، فتجتمع إليه زمر من السيدات والأوانس ومعهن أبناؤهن وأخوتهن من الأيفاع والشباب، فيعزف البيان، ويخفق العود، ونشدوا الكواعب، ويهزج الفونغراف، ويدور الرقص على نمطيه الشرقي والغربي، فتلتف السواعد على الخصور، وتلتصق الصدور بالصدور، وتمتزج أنفاس الخمور بأنفاس العطور، ويقف رمضان الأصيل من هذه المناظر المريبة وقفة من شيوخ الدين دفعت به الأقدار إلى ماخور.
وهكذا يجد العالم ونحن نلعب! كأنما كتب علينا أن نأخذ الحياة من جانبها الفضولي العابث
فنتأثر بها ولا نؤثر فيها! وكأنما قضى الله أن نعيش صعاليك على تقاليد الأمم دون أن تميزنا خصيصة من قومية ولا شعيرة من عقيدة! وكأنما عاقت شعائر التلمود القاسية وعقائد التوراة الصلبة أشتات اليهود من المغامرة والنبوغ والتقدم وتكوين دولة نقول إنها مزعومة، ولكنها أخذت تهدد بقوتها سلامة العرب، وتتحدى بأطماعها سيادة الشرق!
ذلكم أيها السادة موجز مما يقال في استقبال رمضان، وجدتموه ولا ريب أقل مما تجسونه في أنفسكم من الإجلال والإكبار والحب لهذا الشهر العظيم الكريم، ولكنها على كل حال تحية خالصة قالها مؤمن وسمعها مؤمنون ولا يدري إلا الله ماذا تدخر مدنية المال ومادية العلم لهذه الروحية التي تتجلى في الصوم، التي تتمثل في الصائم.
وقى الله رمضاننا الكريم شر العلم الجاهل والدين الكاذب والتقليد الأعمى والتمدن المشوه! وجدد الله عليكم به الأعوام المقبلة يا سادتي وأنتم ناعمين في ظلال الأمن ممتعون بنعمة العافية.
أحمد حسن الزيات
2 - على هامش السياسة الدولية
للأستاذ عمر حليق
حددت هيئة اليونسكو موضوع البحث في مسألة الخلق القومي وعلاقته بتوتر العلاقات الدولية على أساس فحواه أن (هناك أوجه تباين جوهري في المقومات الخلقية والعاطفية في الثقافات المختلفة، الأمر الذي لا يزيله مجرد تنسيق التعامل الاقتصادي والتعاهد والتحالف السياسي). فزوال هذا التباين لا يتم إلا بإعادة النظر في كثير من العوامل التربوية والثقافية التي تعيش عليها الشعوب، وتوجيهها بحيث تتلقى على صعيد واحد مع العوامل التي تعيش عليها الشعوب الأخرى، وبحيث يصبح لدى العالم بأسره قاسم مشترك أعظم متين الأصول صادق النية صلب متماسك (لأن جذوره في صميم التكوين النفساني لبني آدم) وهو لذلك قادر على صهر هذه الانفعالات العاطفية التي تثور في نفس شعب ما في حالة من حالات القضية ضد شعب أو شعوب اختلف معها في بعض أوجه الحياة السياسية أو الاقتصادية.
وأول ما يلاحظ المتابع للدراسات التي عنيت بالخلق القومي وتباينه بين الشعوب أن كثيراً من أهل الخبرة يقولون بأن من الممكن التخفيف - من حدة هذا التباين بين الشعوب التي يختلف خلقها القومي عن أخلاق الشعوب الأخرى - من الممكن التخفيف من حدة هذا التباين عن طريق برنامج واسع ينفذ على مستوى عالي ويستهدف تعريف شعوب العالم تعريفاً علمياً صادقاً على طبائع الشعور الأخرى؛ وعلى المؤثرات والعوامل المحلية البحتة التي تعيش عليها تلك الشعوب. وهذه الوسيلة كما ترى تستند إلى مبدأ أولي في علم النفس.
(والتعريف) وسيلة تختلف اختلافاً أساسياً عن (الدعاية) أو (البروبوغاندة)
فالأولى - تؤمن بان المرء عدو لما يجهل، فإذا استطاع التعرف على حقيقة ما يجهله إزاء عداوة حادة لا لذلك العدو (المزعوم) وإنما للجهل الذي كان سبباً للعداوة.
أما الثانية (البروبوغاندة) فهمها الترويج لفكرة معينة كجزء من سياسة مرسومة هدفها إزالة غشاوة الجهل الذي يعمي شعباً ما من حقيقة مقاصد شعب آخر. ولكن إزالة هذه الغشاوة بواسطة البروبوغاندة تكون في أغلب الحالات بطرح غشاوة أخرى على أعين الناس لتعميهم عن حقائق ومقاصد تهتم (البروبوغاندة) بطمس معالمها تعمداً واقتداراً.
وتعريف الشعب بالمقومات الخلقية والثقافية الحقيقية للشعوب التي تشارك هذه المعمورة هدف لا يتم إلا عن طريق التبادل الثقافي الواسع النطاق؛ بحيث لا يقتصر نفوذه على الخاصة؛ وإنما يشمل المجالس العامة. كذلك شرط أن يأتي عن يد هيئات ليس لها طابع (قومي) ولا توجه مراميها وأهدافها أوساط ذوات مصالح سافرة أو مستترة.
وتطمح مثلاً مؤسسة اليونسكو أن تكون النواة لمثل هذه الهيئات (العالية) التي تستطيع تعريف الناس في مختلف الأمصار بالثقافات والمقومات الخلقية لمختلف الشعوب في نزاهة مقصد وتجرد من (البروبوغاندة) وما إليها من أوجه الاتصال المغرض.
وهنا يتساءل المرء عن اختلاف اللغات وما يخلقه من صعوبات جمة في سبيل التعرف الجدي على ثقافات الشعوب الأخرى. فلقد باءت بفشل ذريع محاولات البعض لجعل (الاسبرانتو) لغة عالمية.
فهناك من أهل الخبرة في شؤون المواصلات الفكرية من يؤكد بأن اللغة ليست هي العائق الجوهري الوحيد.
فهناك مثلاً العادات والسلوك التقليدي والتعبيرات المتباينة التي تعبر بها بعض الشعوب عن انفعالاتها الخاصة، والتي توارثتها جيلاً بعد جيل، وأصبحت ملازمة لها ملازمة الطبيعة التي توفر لها الغذاء والمأوى فطابع الناس مزيج من الوراثة والبيئة.
فالعادة في اليابان أو الصين مثلاً أن يبتسم المرء إذا أصابته ملمة أو أهانه شخص. فالابتسام في مثل هذه الحالة يفسر على أنه إشارة مهذبة من الشخص الذي أصابته الملمة أو لحقت به الإهانة، وهذه الإشارة دليل على أنه لا يرد أن يزعج الناس بمصائبه وانفعالاته الشخصية الخاصة.
فإذا كان ابتسام الصيني أو الياباني يفسر على هذا النحو فإن كثيراً من سوء الظن والالتباس الضار يحدث فيما لو وجد أمريكي أو أوربي نفسه أمام ياباني أو صيني لحقت به مصيبة أو أصابته إهانة فظل يبتسمن فأكبر الظن أن الأمريكي أو الأوربي سيقدر في نفسه بأن الياباني أو الصيني يزدرى به في سخرية قاتلة (في حالة قبوله الإهانة بالابتسام) أو أنه لا يتأثر بالانفعالات الإنسانية المؤلمة (في حالة مواجهته المصائب والملمات باسماً).
فإذا نقلت هذا الوضع إلى أعلى مراحل الاتصال في مجال السياسة الدولية بين أمريكا
والصين أو اليابان مثلاً فن رد الفعل سيكون ولا شك ذو عواقب وخيمة على تيار العلاقات بين البلدين. وأكبر الظن كذلك بأن مثل هذه الوضعية قد تؤثر تأثيراً سيئاً على ما يطمح إليه المتفاوضون من تنسيق العلاقات الاقتصادية أو السياسية بين البلدين.
وحين يتوفر لأكثرية الشعب الأمريكي مثلاً معرفة حقيقة (الابتسام) أو سواه من التقاليد والعادات عن الصين؛ يسهل على كلا الشعبين أن يتفاهما ويسويا مصالحهما في جو أكثر ملائمة وأدعى إلى تبادل حسن الظن والوداد.
ومن منا نحن العرب من لا ينفعل حين يقرأ أو يسمع ما يفسر به بعض الغربيين انفعالاتنا وتقاليدنا وعاداتنا وسلوكنا تفسيراً خاطئاً وهو لا يستند إلى معرفة حقة بمغازي تلك العادات والتقاليد؛ حتى لو كان التفسير مدفوعاً بروح النزاهة ونيل المقصد؟ الواقع أنك تستطيع أن تفسر كثيراً من أوجه التوتر في علاقاتنا مع الدول الغربية بسوء الفهم الذي يصدر عن صناع السياسة الغربيين في معرض تناولهم لقضايا العرب ومشاكلهم ومصالحهم في شتى أوجه السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية كذلك.
ويقترح المعنيون بهذه الناحية من العلاقات الإنسانية بأن من أفضل الوسائل للتغلب على هذا الجهل بالعادات والتقاليد هو أن تقوم جماعة من أهل الاختصاص في علوم الحياة (الأنترويولوجيا) وعلم النفس الاجتماعي والتاريخ واللغات وغيرهما بدراسة ثقافة معينة - ولنفرض ثقافة الهند - وأن ينفقوا في هذه الدراسة سنوات في صميم القطر الذي ينوون دراسة ثقافته، على أن يكون هؤلاء العلماء من جنسيات مختلفة يساعدهم عدد من العلماء وأهل الدراية من الهنود أنفسهم.
فالثابت أن الأجنبي أكثر ملاحظة للتعبيرات الخاصة والتقاليد والعادات التي تتمايز بها الشعوب. على أن الباحث الأجنبي لا يستطيع استيعاب مغزى تلك العادات والتقاليد دون الاستعانة بأهل الدراية من الذين يمتثلون لتلك التقاليد ويسيرون على تلك العادات، عندئذ يتحقق أكبر قسط من الفهم لأوجه الثقافة جميعها.
وحين تعم مثل هذه الدراسات على الشعوب الأخرى بصورة واسعة وعلى الأخص بين الدبلوماسيين والصحيين والتجار والزوار من الأجانب الذين تدفعهم الظروف للاتصال المباشر بالشعب الذي درست ثقافته دراسة علمية مسهبة - حين تعم مثل هذه الدراسات
يسهل الاتصال الشخصي ويسهل كذلك تفهم ما يصدر عن أهل تلك الثقافة من إشارات وتعبيرات لا تفسرها الأجانب من أصحاب المصالح تفسيراً خاطئاً قد يخلق - في المجال السياسي مثلاً - مشاكل لها ذيولها على صميم العلاقات الجوهرية بين البلدين.
والواقع أن وزارات الخارجية في كثير من الدول الكبرى تقوم الآن بالإنفاق في سخاء على مثل هذه البحوث لتوفر لمبعوثيها الدبلوماسيين ورجال السياسة والحرب مثل هذه الدراسات النافعة التي تسهل لها مهمة اتصالها مع ممثلي الشعوب الأخرى؛ سواء في المجال الرسمي أو شؤون الدعاية أو التبادل التجاري.
فقبل خمس سنوات مثلاً كلفت وزارة الخارجية والحربية في واشنطن الدكتورة روث بنديكت أستاذة علم الأنتروبولوجيا في جامعة كولومبيا بنيويورك بدراسة الثقافة اليابانية على أساس من علم الأنتروبولوجيا لترى ما إذا كان من المناسب لمصلحة الاستقرار السياسي والعسكري في اليابان - من وجهة النظر الأمريكية طبعاً - أن يظل الميكادو عاهلاً لليابان أم أن إبعاده عن العرش هو خير أو أبقى، فأوصت الدكتورة بنديكت بوجوب بقاء الميكادو وبوجوب القيام بإجراءات عديدة كلها تستند إلى الدراسة الاجتماعية. وقد نفذ الجنرال ماك آرثر حاكم اليلبان العسكري آنئذ جميع تلك التوصيات فحاز نجاحاً حفظ للمصلحة الأمريكية في اليابان معظم نواحيها الهامة.
وعلى سبيل المثال أيضاً في أهمية هذه الدراسات الأنتروبولوجية في خدمة سياسات الدول؛ ما حاولت حكومة إسرائيل القيام به منذ بضعة أشهر حين وضعت تحت تصرف أحد كبار أساتذة علم النفس الاجتماعي (وهو يهودي أمريكي) مبلغاً كافياً من المال لتأليف بعثة من الباحثين من اليهود الذين يحملون جنسية أمريكية ومن بعض الأتراك لزيارة شتى بلدان الشرق العربي لدراسة عادات أهله وتقاليدهم دراسة مباشرة لمعرفة مدى العوامل النفسانية التي تؤثر في مشاعرهم. وكان هدف تلك البعثة مراقبة الطريقة التي يربي فيها العرب صغارهم، والوسيلة التي يظهرون بها انفعالاتهم الخاصة إزاء الحوادث المرة أو المحزنة، مع دراسة أمثالهم العامية والطريقة التي يأتون بها ويدفنون بها موتاهم وغير ذلك من أوجه المعيشة التي يمتثل لها الكثرة من سكان الشرق العربي وكان على أعضاء هذه البعثة اليهودية أن ينفرد كل منهم بدراسة وجه من أوجه هذا النشاط الذي أشرنا إليه، ويضع فيه
تقرير خاصاً في أسلوب ومنهج علمي معين، ثم تجمع هذه التقارير ويشرف على صياغتها العالم الكبير الآنف الذكر ليستحق منها زبدة تكون بمثابة دليل لصناع السياسة اليهودية (إسرائيل) يستطيعون بواسطته توجيه سياستهم نحو العرب سواء في شؤون الحرب، أو في مسألة الإذاعة العربية في راديو إسرائيل، أوفي أعمال الجاسوسية داخ البلاد العربية، أو في أوجه سياسة اقتصادية أخرى.
ومن حسن الحظ أن حكومة عربية بواسطة سفارتها بواشنطن اكتشفت هذه المؤامرة اليهودية في حينها فأوعزت إلى بقية الحكومات العربية عن طريق الجامعة العربية بوجوب منع هذه البعثة اليهودية من الدخول إلى البلدان العربية. وكان ذلك بعد أن كانت حكومة لبنان قد سمحت عن حسن نية لبعض أفراد هذه البعثة بالدخول إلى أراضيها.
هذه بعض ألوان النشاط الذي حاول بعض المعنيين بالناحية النفسانية في العلاقات الدولية القيام به في مجال التعرف على قضية الخلق القومي وتباينه ووسائل التغلب على ما يخلقه من عقبات في حقل التعاون الدولي.
نيويورك
للبحث صلة
عمر حليق
6 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
رواية الحديث بالمعنى:
يحسب كثير من الناس أن أحاديث الرسول (ص) التي يقرئونها في الكتب أو يسمعونها من الذين يتحدثون بها قد جاءت صحيحة المعنى مصونة التأليف. وأن ألفاظها قد وصلت إلى الرواة سليمة كما نطق النبي بها بلا تحريف ولا تبديل فيها.
وكذلك يحسبون أن الصحابة ومن جاء بعدهم ممن حملوا عنهم إلى زمن التدوين قد نقلوا هذه الأحاديث بنصها كما سمعوها، وأدوها على وجهها كما لقنوها، فلم ينلها تغيير ولا اعتراها تبديل، ومما وقر في أذهان الناس أن هؤلاء الرواة قد كانوا جميعاً صنفاً خاصاً من بني آدم في جودة الحفظ وكمال الضبط وسلامة الذاكرة، وأن أذهانهم قد فطرت على صورة فريدة غير ما فطرت عليه أذهان غيرهم، فلا يصيبهم النسيان ولا يدركهم السهو، وأن كل ما يسمعونه لا تفلت منه كلمة ولا بند حرف.
ولقد كان لهذا الفهم أثر ولا جرم أثر بالغ في أفكار بعض شيوخ المسلمين جعلهم يعتقدون أن هذه الأحاديث في منزلة آيات الكتاب العزيز في وجوب الاعتقاد بها، وفرض الإذعان لأحكامها بحيث يرتد من يخالفها، أو ينكرها.
من أجل ذلك رأينا أن نتكلم عن هذه الناحية ليعلم الناس وجه الحق فيها، ويدركوا أن الأحاديث التي رويت عن الرسول (ص) قد وصلت إلينا بمعناها، وأن كل راو قد روى ما بقي في ذهنه منها.
الاختلاف في رواية الحديث بالمعنى:
ولما كانت الآراء في رواية الحديث بالمعنى قد اختلفت بين العلماء، وكان هذا الأمر مهماً جداً؛ فقد رأينا أن نأتي بأطراف من هذه الآراء المختلفة حتى يكون القارئ على بينة.
قال العلامة الجزائري في كتابه توجيه النظر
(اختلف العلماء في رواية الحديث بالمعنى، فذهب قوم إلى عدم جواز ذلك مطلقاً، منهم ابن سيرين وثعلب وأبو بكر الرازي وغيرهم، وروى ذلك عن ابن عمر. وذهب الأكثر ون إلى
جواز ذلك إذا كان الراوي عرفاً بدقائق الألفاظ، بصيراً بمقدار التفاوت، نبيهاً خبيراً بما يحيل معناها. . وقد تعرض لهذه المسألة علماء الأصول. . قال الأستاذ أبو إسحق الشيرازي في اللمع: والاختيار في الرواية أن يروى الخبر بلفظه لقوله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمع؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). . وقد احتج من منع الرواية بالمعنى بالنص والمعقول. أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام رحم الله من سمع مقالتي الخ. . قالوا وأداؤه كما سمع هو أداء اللفظ المسموع، ونقل الفقيه إلى من هو أفقه منه، معناه والله أعلم: أن الأفطن ربما فطن بفضل فقهه من فوائد اللفظ بما لم يفطن له الراوي لأنه ربما كان دونه في الفقه.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول - أنا لما جربنا رأينا أن المتأخر ربما استنبط من فوائد آية أو خبر ما لم يتنبه له أهل العصور السالفة من العلماء والمحققين. . فلو جوزنا النقل بالمعنى فربما حصل التفاوت العظيم، مع أن الراوي يظن أن لا تفاوت (الثاني) - أنه لو جاز للراوي تبديل لفظ الرسول بلفظ نفسه كان للراوي الثاني تبديل اللفظ الذي سمعه بلفظ نفسه؛ بل هذا أولى، لأن تبديل لفظ الراوي أولى بالجواز من تبديل لفظ الشارع، وإن كان ذلك في الطبقة الثالثة والرابعة فذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول، لأن الإنسان وإن اجتهد في تطبيق الترجمة لكن لا ينفك عن تفاوت وإن قل، فإذا توالت التفاوت كان التفاوت الأخير تفاوتاً فاحشاً، بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع مناسبة. .
وحجة الجواز أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسمعون الأحاديث ولا يكتبونها ولا يكررون عليها، ثم يروونها بعد السنين الكثيرة، ومثل هذا يجزم الإنسان فيه بأن نفس العبارة لا تنضبط ّبل المعنى فقطّ لأن أحاديث كثيرة وقعت بعبارات مختلفة، وذلك مع اتحاد القصة، وهو دليل جواز النقل بالمعنى، ولأن لفظ السنة ليس متعبداً به بخلاف القرآن، فإذا ضبط المعنى فلا يضر فوات ما ليس بمقصود.
وقال القاسمي في قواعد التحديث
رخص في سوق الحديث بالمعنى دون سياقه جماعة منهم: علي وابن عباس وأنس بن مالك وأبو الدرداء ووائلة بن الأسقع وأبو هريرة ثم جماعة من التابعين يكثر عددهم، منهم إمام الأئمة حسن البصري ثم الشعبي وعمر بن دينار وإبراهيم النخعي. . . وكذلك اختلفت
ألفاظ الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله؛ فمنهم من يرويه تاماً، ومنهم من يأتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصراً، وبعضهم يغاير بين اللفظين ويراه واسعاً إذا لم يخالف المعنى وكلهم لا يتعمد الكذب، وكانوا يقولون: إنما الكذب على من تعمده
وإذا كانوا قد اختلفوا على هذا الأمر فإن العمل قد جرى على رواية الحديث بالمعنى.
قال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة والمعنى واحد والألفاظ مختلفة. وروي عن عمران بن مسلم قال، قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنما تحدث بالحديث أنت أحسن له سياقاً وأجود تحبيراً، وأفصح منه إذا حدثنا به! فقال: إذا أصبت المعنى فلا بأس بذلك. وقال النضر بن شميل: كان هيثم لحاناً فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة يعني بالإعراب وكان سفيان يقول: إذا رأيتم الرجل يشدد في ألفاظ الحديث في المجلس فعلم أنه يقول: اعرفوني! وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه، فقال له يحيى: يا هذا ليس في الدنيا أجل من كتاب الله تعالى قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد.
وقال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني فإنما هو المعنى وقيل له يا أبا عبد الله، حدثنا كما سمعت! فقال: والله ما إليه سبيل وما هي إلا المعاني فأخبر بذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: هو كذلك. وقال النووي جمهور العلماء على جواز رواية الحديث بالمعنى. وقال الآجري عن أبي داود: كان سليمان بن جرب يحدث بالحديث ثم يحدث به كأنه ليس ذاك، قال النسائي كان ثقة مأموناً.
وقال وكيع: إذا لم يكن المعنى واسعاً فقد هلك الناس! وكان أبو الدرداء إذا حدث عن رسول الله ثم فرغ منه يقول: اللهم إن لم يكن هذا فشكله. وكان أنس بن مالك إذا حدث عن رسول الله حديثاً قال: أو كما قال. وعن مسروق عن عبد الله أنه حدث يوماً بحديث فقال سمعت رسول الله! ثم أرعد وأرعدت ثيابه وقال: أو نحو هذا أو شبه هذا. وفي رواية أخرى: أو نحو ذلك أو قريباً من ذلك.
وقال العلامة السيد رشيد رضا رحمه الله عند كلامه على أحاديث أشراط الساعة): لا شك أن أكثر الأحاديث قد روي بالمعنى كما هو معلوم واتفق عليه العلماء ويدل عليه رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها وما دخل على بعضها من المدرجات
وهو ما يدرج في اللفظ المرفوع من كلام الرواة فعلى هذا كان يروي كل أحد ما فهمه، وربما وقع في فهمه الخطأ وربما فسر بعض ما فهمه بألفاظ يزيدها إلى أن قال: فهل من الغرابة أن يقع الخلط والتعارض فيما يروى عنه بالمعنى بقدر فهم المراد. وسئل رحمه الله عن رأيه فيمن قال: إنه لم يثبت عن النبي إلا 12 أو 14 حديثاً فأجاب: (هذا القول غير صحيح بل لم يقل به أحد بهذا اللفظ؛ وإنما قيل هذا أو ما دونه في الأحاديث التي توتر لفظها) وإليك أمثلة من رواية الحديث بالمعنى.
روى مسلم عن طلحة بن عبيد الله أن رجلاً جاء إلى رسول الله ثائر الرأس يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله: خمس صلوات في اليوم والليلة إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان إلا أن تطوع، وذكر له رسول الله الزكاة فقال هل علي غيرها؟ فقال لا إلا أن تطوع. فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد عن هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله: أفلح إن صدق.
وروي عن أبي هريرة حديث جبريل: جاء رجل فقال يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان قال: صدقت ثم سأله عن الإيمان وعن الإحسان.
وعن أبي أيوب قال: جاء رجل إلى النبي فقال: دلني على عمل أعمله يدنيني من الجنة ويبعدني من النار، قال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل ذا رحمك. قال رسول الله: إن تمسك بما أمر به دخل الجنة.
وعن أبي هريرة أن إعرابياً جاء إلى رسول الله، فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئاً أبداً ولا أنقص منه. فلما ولى قال النبي من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.
قال الإمام النووي معلقاً على هذه الأحاديث ما نصه: (واعلم أنه لم يأت في حديث طلحة ذكر الحج ولا جاء ذكره في حديث جبريل من رواية أبي هريرة، وكذا غير هذه الأحاديث لم يذكر في بعضها (الصوم) ولم يذكر في بعضها (الزكاة) وذكرت في بعضها صلة الرحم وفي بعضها أداء الخمس، ولم يقع في بعضها ذكر الإيمان فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد
خصال الإيمان زيادة ونقصاً وإثباتاً وحذفاً. وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمهم الله بجواب لخصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وهذبه فقال: (ليس هذا باختلاف صادر من رسول الله بل هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصر فاقتصر على ما حفظه فأداه ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات! وإن كان اقتصاره على ذلك يشعر بأنه (الكل) فقد بان بما أتى غيره من الثقاة أن ذلك ليس (بالكل) وأن اقتصاره عليه كان لتصور حفظه عن تمامه. ألا ترى حديث النعمان بن نوفل الذي اختلفت الرواية في خصاله بالزيادة والنقصان مع أن راوي الجميع واحد!
حديث زوجتها بما معك
جاءت امرأة إلى النبي وأرادت أن تهب نفسها له فتقدم رجل فقال يا رسول الله (أنكحنيها) ولم يكن معه من المهر غير القرآن فقال له النبي (أنكحتها بما معك) وفي رواية قد زوجتكها بما معك من القرآن) وفي رواية (قد زوجتكها بما معك من القرآن) وفي رواية (زوجتكها على ما معك) وفي رواية (قد ملكتكها بما معك) وفي رواية (قد أملكتكها بما معك من القرآن) وفي رواية أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها) وفي رواية (أمكناكها) وفي رواية (خذها بما معك) فهذه ثماني روايات في لفظة واحدة!
قال ابن دقيق العيد: هذه لفظة واحدة في قصة واحدة واختلف فيها مع اتحاد مخرج الحديث. وقال العلائي: من المعلوم أن النبي لم يقل هذه الألفاظ كلها تلك الساعة، فلم يبق غلاً أن يكون قال لفظة منها وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى، فمن قال بأن النكاح ينعقد بلفظ التمليك ثم احتج بمجيئه في هذا الحديث إذا عورض ببقية الألفاظ لم ينهض احتجاجه، فإنه جزم بأن هو الذي تلفظ به النبي وقال غيره ذكره بالمعنى؛ قلبه على مخالفه وادعى ضد دعواه فلم يبق إلا الترجيح بأمر خارجي.
وروى البخاري عن ابن عمر أن النبي قال يوم الأحزاب: لا يصلين أحد (العصر) إلا في بني قريظة. فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتها وقال بعضهم بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي فلم يعنف أحداً منهم.
قال ابن حجر في شرح هذا الحديث كذا وقع في جميع النسخ عند البخاري ووقع في جميع النسخ عند مسلم (الظهر) مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد بإسناد
واحد. وقد وافق مسلماً أبو يعلى وآخرون وكذلك أخرجه ابن سعد. وأما أصحاب المغازي فقد اتفقوا على أنها العصر ثم قال ابن حجر بعد ذلك إن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجوز ذلك بخلاف مسلم فإنه يحافظ على اللفظ كثيراً.
ولقد بلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه إلى كتب السنة.
قال العراقي في شرح الغنية: إن البيهقي في السنن والمعرفة والبغوي في شرح السنة وغيرهما يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه إلى البخاري ومسلم مع اختلاف الألفاظ والمعاني، فهم إنما يريدون أصل الحديث لا عزو ألفاظه.
ومن هذا القبيل قول النووي في حديث (الأئمة من قريش) أخرجه الشيخان مع أن لفظ الصحيح (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان) ونكتفي بهذه الأمثلة.
المنصورة
للبحث صلة
محمود أبو رية
الثنائية والألسنية السامية
للأستاذ الأب مرمرجي الدومينيكي
بقية ما نشر في العدد الماضي
هذا ومن المألوف ومن المقرر عند علماء العربية الأقدمين والمعاصرين، وعند الأجانب من مستسلمين ومستعربين، أن الزيادة تجري بالتتويج والإفحام والتذييل، وفي كل حال من هذه الأحوال يتم الأمر علي سبيل الأغلبية، أي بالسماع وليس بقياس محكم، وهذه طائفة من الأمثلة على أنواع الزيادة الثلاثة:
أولاً: الزيادة بالتتويج: (يقطين) كل شجرة لا تقوم على ساق. الياء زائدة تتويجاً لأن اللفظة عن قطن أي انحنى، إذ لا ساق فينحني نحو الأرض. (ترفل، تبختر كبرا، بزيادة التاء تتويجاً، لأن الأصل رفل: أرسل إزاره وتبختر.
(نهبل) من هبل بزيادة النون. (هجرع وهبلع) بزيادة الهاء تتويجاً، لأن الأصل جرع وبلع
ثانياً: الزيادة بالإقحام: (زنبيل) من زبيل، بإقحام النون. (بلطح) من بطح، بإقحام اللام. (شربك) من شبك، بإقحام الراء. (جلمح) من جلح، بإقحام الميم، (دربل) من دبل، بإقحام الراء. (طرمح) من طمح، بإقحام الراء. (عنصل) من عصل بإقحام النون.
ثالثاً: الزيادة بالتذييل: (بلسن) من بلس، بإلحاق النون. (حلكم) من حلك، بإلحاق الميم. (عبدل) من عبد بإلحاق اللام. ومن هذا الشيء كثار في العربية وبقية الساميات فما قد سلم به وقرره الأقدمون من الزيادة بالحروف وطريقة إجرائها في الرباعيات والثلاثيات يسوغ بكل حق وصواب تطبيقه على الثنائيات. وهذا ما قد حاولنا بيانه في تأليفنا الثلاثة الموضوعة لهذه الغاية على ضوء الثنائية والألسنية السامية، مع العلم اليقين بوعورة المسلك.
مع ذلك بعد التقصي والاختيار يمكن أن نضيف الحروف القابلة الزيادة على الرساس الثنائية من باب الأغلبية كما يلي:
أولاً: كل حرف من الحروف النابعة يصلح أن يكون تارة وتارة مقحمة مذيلة هي: أت ع ل م ب هـ وى
ثانياً: الحاء والشين تصلحان للتويج والتذييل
ثالثاً: هذه الحروف التالية تستخدم للتذييل، وهي: س ب ك ق ولمعرفة الأمثلة تفصيلاً على طريقة زيادة كل حرف من هذه الحروف، يمكن الرجوع إلى كتبنا، ففيها من الشواهد المؤيدة غالب ما أبديناه. فأكتفي بإيراد نماذج على الطريقة المتنوعة الجارية بضرب من الاعتباط، أي لدواع غير داعي الدلالة على معنى خاص أو دور معين.
فهناك الزيادة من باب الإلحاق، والإلحاق يحد: بكونه زيادة لا لإضافة معنى جديد، بل لمحص الموافقة بين وزن ووزن آخر ليعامل معاملته.
ولا يكتفي لحروف الإلحاق بأن تكون من حروف سألتمونيها، بل يستعمل غيرها أيضاً. هو ذا الإلحاق من جهة اللام، نحو (ضريب) من ضرب، (جليب) من جلب، (قعدد) من قعد، رعدد، رعشن، كرمم، حرجج، دخلل، شملل، صعرر
هناك الإلحاق من غير جهة اللام، نحو (حنظل) من حظل، (جندل) من جدل، (فلحص) من فحص، (تلعس) من لعس
هناك الزيادة من باب الغنة، نحو (رنز) من رز، (حنظ) من حظ، (أنجار) من أجار، (انجاص) من أجاص
هناك الزيادة لتقوية الحركة دون قصد معني معين، نحو (برا) يقال منه: يرع والنسبة يرعى، أن يراني، كما يقال توقع من توقى، وجزأ وجزع من جزا، وبدأ وبدع من بدا.
هناك الزيادة لعذوبة اللفظ، نحو (يا أبت) عوض يا أبي، (عصاتي) عوض عصاي، قدني قطني بإقحام النون، لعلت ثمت وربت، بإلحاق التاء.
هناك الزيادة لإقامة الوزن، نحو تبيضضي بدل تبيضي هذا، ومن نتائج نظرية الثنائية، أولاً أن المثال والأجوف والناقص ما هي سوى مزيدات أو توسعات في الرس الثنائي الذي يجيء فيه التوسع بتكرار الثاني منه، أو بتشديده، أي بتكراره لفظاً ووضع الشدة عليه.
ثم من جملة أنواع التوسع في الأصول مثلاً: أن الفعل (وثب) مزيد في الثنائي (ثب) وأن (قام) هو الثنائي (قم) أشبعت حركة حرفه الأول، مما يظهر في السريانية في كلمة (قم) إذ لا ألف مقحمة فيها، ومن الكتابة العربية القديمة المتجلية في رسم المصحف المحافظ عليه حتى اليوم. إذ لا نجد فيه قام بل (قم)، كذلك الفتحات المشبعة لا يرسم عليها ألف. ويبين ذلك أيضاً في مجرى التصريف الذي إن هو إلا رس الكلمة ملحقاً به الضمائر، فيقال:(قم)
ت (قم) تم، (قم) نا، مما جاء دليلاً واضحاً على أن الأصل هو الثنائي، وأن هذا الثنائي يدل على معنى تام في حالته الثنائية، وكذا الشأن في الناقص، فإن لامه ليست حرفاً، بل إطالة أو إشباع الفتحة السابقة، مثلاً:(رمى) هو الثنائي (رم) حرك حرفه الثاني بفتحة مشبعة علامتها في الرسم ألف، كذلك (رم) ت هي (رم) نا هما، مما يظهر فيه الأصل الثنائي ملحقاً به ضمير متصل.
أما المضاعف فهو بالحقيقة مركب من حرفين كما يتجلى ذلك في معاجم الأقدمين (ككتاب المقاييس) لابن فارس، فانه يسميه (الثنائي) ويذكر في المادة حرفين لا غير، ويرى ذلك في المضاعف الرباعي أو المطابق كما يدعوه ابن فارس، وما هو سوى ثنائيين مكررين، مثلاً:(قرقر)، (خرخر)، (دبدب)، (مرمر)، (لعلع)، (لألأ. . . إلخ).
ومن هذه المادة شيء كثير في اللغات السامية ولهجاتها، وقد جمعنا منها 350 في العربية الفصحى، ويوجد أكثر منها في اللهجات. وما هذه الأفعال وأسماؤها إلا حكاية أصوات الطبيعة والحيوانات المندفعة إلى تكرار مقاطع لا حروف، وكل مقطع مركب عادة من حرفين متحرك فساكن، مما هو وارد على هذا النمط في اللغات السامية الباقية، كالسريانية مثلاً نجد فيها (بلبل)(زلزل). وكذا الحال في اللهجات، أما الفصحى، فالفتحة الواقعة في آخر الثنائي، وفي آخر الأفعال السالمة، إنما كان داعي وجودها هو الوصل. فعوض القول: خرخر الماء، قيل في الوصل: خرخر الماء.
وبدل مثل الرجل قيل في الوصل، قبل الرجل وبعد ذلك بقيت الفتحة في غير حال الوصل.
وأنت ترى أن الطبيعة عينها ميالة إلى الثنائية، لا إلى الأحادية، كما يمكن بعضهم التوهم أن الإنسان الأول بدأ يتكلم بحروف منفصلة، لأن الحروف المنفصلة لا وجود لها إلا في جدول الأبجدية، أي في الكتابة ولا في اللفظ، والسبب أن أعضاء النطق عينها لا تخرج للتكلم حروفاً صامتة متفرقة، بل مقاطع مركبة من الصامتات تحركها الصائنات.
ومن الأدلة علو وجود الثنائي في أصل اللغات ولا سيما السامية منها، هو أن المضاعف العربي الذي يقال إنه مركب من ثلاثة حروف أصلية لا تجد مقابله في السريانية إلا بحرفين اثنين لا أكثر، مثلاً مقابل (مص) مص، وبحذاء (حم) حم، وبازاء (مس) مس
وهكذا كل المضاعفات التي هي بالحقيقة ثنائيات. الثنائي وارد في كل الساميات متصفاً بمعنى حقيقي وتام ولنا برهان حسي جلي على وجود الثنائي في أصل اللغة يستخرج من العناصر الأولية للغة العربية، وهي أسماء الأصوات ودعاء الحيوانات وزجرها، وبعض أسماء الأفعال، فهي ثنائية. ومنها كان بدء صوغ الفعل المضاعف ومكرره. مثلاً (أف) كلمة تكره (آه) للتوجع (به) بخ لاستعظام الشيء (غس) لزجر الهر (ضع) اسم صوت يزجر به الجمل عند ترويضه (بس) دعاء، وزجر للغنم، (صه) أمر بالسكوت، (مه) أمر بالكف.
فمن هذه الثنائيات صيغ أفعال إما بتحريك الساكن وتشديده؛ وإما بتكرار الثنائي ذاته وتحريك الآخر في العربية. فقيل: أف، أه، به، بخ، غس، ضع، بس، صهصه، مهمه.
وكذا القول في: (تب)، فإنه مشتق من ثب، ومنه المكرر (ثب ثب).
أما (وثب) فهو ثب زيدت فيه الواو تتويجاً، فحصل من ذلك ما يدعى في الصرف مثالاً، وجدير بالملاحظة كيفية وقوع الزيادة في (ثب)، (ووثب) أي بإضافة حرف مع بقاء اللحمة المعنوية بين المجرد والمزيد، وهي بالحقيقة مستمرة بينهما، إذ أن (ثب) يراد به الجلوس بتمكن، و (وثب) يعني القعود في لغة حمير، ويدل على النهوض وعلى الظفر، على أن هذا التضاد يزول إذا عرفنا أن الثنائي (ثب) متضمن معنى عاماً، هو فحوى الحركة التي هي أساس هذه المداليل المختلفة، لا بل المتنافرة ظاهرياً. فعند فريق أو قبيلة من القبائل دل الفعل على القعود، لأن في القعود حركة، وعند قبيلة أخرى أطلق الفعل على القيام والقفز، لأن في ذلك كامن المدلول، وهو الحركة
أما القول - وهو قول أحد الغربيين - بأن (من وثب) هو بمنزلة من جلس في الهواء، فهو من المعاني التي لم تخطر على بال العرب حين تداولوا كلمة (وثب) لحسبان مثل هذا الحادث عصر ذاك من خوارق الأنبياء، بيد أنه يفهم في عصرنا الذي تمكن فيه الإنسان من أن يجلس نوعاً من الجلوس في الهواء أي بركوبه الطائرة
ومما يجدر بالذكر أن مقابل (ثب) العربية وارد في ومعناخ وثب، جلس، قعد. مما ينجم عنه بوضوح أن الرس الثنائي هو (ثب)، فتوسع في الزيادة بطرق مختلفة مع استمرار الصلة المعنوية بينه وبين مزايداته، أي فحوى الحركة أولاً في العربية بتضعيف حرفه
الثاني، فجاء (ثب) ثم بإضافة واو تتويجاً في العربية ذاتها، فصدر عن ذلك فعل (وثب)، بزيادة ياء التوويج أيضاً في السريانية، وكذلك زيدت الياء بعين الطريقة في العبرية. . . الأرمية ونجد في الحبشية. . . في العربية، بالواو أما الأكدية فوارد فيها بإضافة واو كالعربية والحبشية.
من مفترضات الثنائية أن أصل المفردات حرفان، فيجري التطور بزيادة حرف ثالث عليهما إما تتويجاً وإما إقحاماً، وإما تذييلاً، مع بقاء اللحمة المعنوية بين الثنائي والثلاثي، كما هي مستمرة بين الثلاثي والرباعي، وما فوقه من المزيدات.
على أني بفضل تقصيات خاصة توصلت إلى الوقوف على أن الثلاثي غير ناشي عن ثنائي واحد ليس إلا، بل عن ثنائيين أو ثلاثة، حسب اختلاف مداليله. وقد أوردت في تأليفي شواهد تثبت هذا القول. فأجتزئ هنا بسرد واحد من الأمثلة هناك فعل (هلب) المختلف، لا بل المتنافر، لكن يمكن القول بأن (هلب) مشتق أولاً من (لب) بزيادة الهاء تتويجاً. ثانياً: من (هب) بإنزال اللام إقحاماً. ثالثاً: من (هل) بإضافة الباء تذييلاً.
هلب: كثر شعره، من (لب)، ومنه اللب أي القلب، لتراكم الشحم عليه، واللبة: اللحم المجتمع في أعلى الصدر، وفيه معنى الوفرة والكثرة.
هلب: نتف وجز، من (هب) المراد به القطع، والنتف ضرب من القطع.
هلب: السماء القوم: بلتهم بالندى، ومنه ليلة هالبة أي ماطرة. والهلابة: الريح الباردة، من (هل) الدال على هطول المطر وشدة انصبابه.
الأهلب: المنتوف الشعر، من (هب) ومنه هب السيف: قطعه.
الأهلب: كثير الشعر، من (لب) المراد به: التراكب والتجمع والتلبد. وبهذا تنسق المعاني وتزول الضدية.
أخنم بالقول أن الثنائية ليست كما يتبادر إلى الوهم، هدامة للثلاثية والرباعية، ولا هي مقوضة أركان المعاجم، إنما هي وسيلة للتأصيل السابق طور التصريف. فالقائل بالثنائية يدع التصريف على ما هو للثلاثي والرباعي، ويحصر عمله في المعجمية. وفي هذا الحقل عينه لا يتوخى محق الثلاثية والرباعية، لكنه يرتئي بأنه كما أن الرباعي يسوغ رده إلى الثلاثي، وكذلك يمكن رد الثلاثي إلى الثنائي. مما ينجم عنه أن ليس الثلاثي بدء الاشتقاق،
بل الثنائي.
ويرى عملياً أن في هذه النظرية فوائد جمة للمعجمية، منها تجلي الانسجام والتساوق في تشعب الألفاظ بعضها من بعض، وتوسع المعاني وتطورها مما هو واضح القصدان في الحالة الثلاثية الحاضرة.
فمن ثم، لا خشية على المعاجم من الثنائية، لأنها بالعكس تتمشى فيها تنظيماً معقولاً، كما أن ترتيب المعاجم الحديثة، مثل محيط المحيط، وأقرب الموارد، والبستاني لم يضر المعجمية بل نفعها، وإن خالف في الواقع تنظيم المعاجم القديمة، أو بالأحرى عدم التنسيق فيها.
والآن أكرر للمجمع الموقر آيات الشكران، متمنياً لجميعكم التوفيق والنجاح في خدمة اللغة العربية الجليلة والسلام
الأب مرمرجي الدومنبكي.
صديق رجيم
مهداه إلى صاحب العزة الزيات بك
للأستاذ حبيب الزحلاوي
ما أكثر ما نخدع أنفسنا بأصدقائنا لسلامة في طويتنا، أو غفلة عن النظر إليهم بغير عين الصديق.
كثيراً ما سمعت الأستاذ العقاد يقسم الصداقة إلى أنواع، ويصنف الأصدقاء أصنافاً، هذا نصف صديق من نوع كذا، وذاك ربع أو ثمن صديق من صنف كيت، وكانت لائحة الأصدقاء عنده أشبه ما تكون بورقة ذات خطوط وتعاريج في الطول والعرض يثبتها الطبيب فوق سرير المحموم تسجل المواسية فيها درجات الحرارة وتقلباتها. وما كان يضير أستاذي العقاد أن يسقط صديقاً من صفوف الأنصاف إلى الأثمان أو يرفع آخر إلى أعلى درجة، ولا يؤاخذهم على بادرة أو هنة أو هفوة إلا بالحساب القياسي لمنزلتهم من الصداقة.
كنت أستغرب تلك التقسيمات ولا ترتاح نفسي إليها، لأني تدربت منذ الصغر على أن مكان الصداقة هو الذروة إن تزحزحت عنها هبطت إلى الحضيض، وأن الوسط بين الذروة والحضيض هو النفاق، وكنت إن منحت صداقتي لإنسان فإني أمنحه إياها بسخاء كامل، وإن ظننت بها، فإني أظن ظن الشحيح المتأبي، وكنت أعتمد في الحالتين على الحدس والجاذبية.
لقد قطعت أشواطاً من حياتي، فما أكثر من خاصمت خلالها من أصدقائي، وما أقل، بل ما أندر من عاديت منهم لاعتقاد مني بأن الخصومة من شيم الأصدقاء العقلاء. أما العداوة فهو من أوصال الجهلاء والأغبياء، وإني أنزه أصدقائي عن الغباء والجهل لأنهم كلهم بين أديب ومن خيار المثقفين.
لقد أدهشتني يا صديقي، يوم عاتبتني بشدة، وعهدي بك الدمث السلس، وما عاهدت بك الفجاجة والتوعر قط، لقد أذهلتني ساعة سألتني عن ذلك الإنسان الذي جالسنا فترة بل هنيهة وانصرف. لقد أذهلتني وقد كانت نبرة الكلمة تنطلق من بين شفتيك كالسهم، تسألني بشدة وصرامة أنى وكيف عرفت ذلك الوجه الكالح المكفهر، والقدم الفظ السمج الغليظ، لقد حيرتني وأنت تنقض كالصاعقة تنزل البلاء بصديقي الذي لم تره إلا في تلك الجلسة
العابرة. ولم تسمع سوى نتف من حديثه الخاطف، لقد تحيرت لا لأنك استثقلت روح صديقي ومججت كثافة ظله، بل لأن حكمك الجائر ينصب على ذوقي، وعلى معرفتي وتقديري فيمن أختار من الأصدقاء.
لم أحاول إقناعك بأنك جائر في حكمك على صديقي المسكين لأني كنت في تلك الساعة مشغول الذهن بك وقد جاش صدرك بالغيظ مني، لقد توهمت أنك تنتزع مني كل الصفات والمزايا التي أحببتني من أجلها، توهمت ذلك، بل دهمني التوهم فجأة، أنا الذي طالما اتفقت معك في الذوق والتقدير، والاختيار والإعجاب، ولم نتخلف في حكم واحد على أمر واحد إلا فيما قل أو ندر. وقد كنا في هذا الاختلاف النادر نلجأ إلى المنطق، والذوق والقواعد المقررة والمتعارفة، لنصل إلى الحق والخير فنقف بجانبهما.
لقد انطويت على نفسي أستعرض ملامح وجه ذلك الصديق المسكين، أستذكر حكاياته وتصرفاته، أردد أفكاره وأحكامه، استجلي ماضيه وحاضره، وأستشف غرائزه وملكاته، من جود وبخل، وكرم ولؤم، وأنفة واستكانة، وكبر وتواضع، وشجاعة وجبن، إلى آما هنالك من ملكات تحتم الصداقة معرفتها لتقر الصديق بنفس يقظة، وعين لماحة، وذهن يعي ويحصي ويسجل.
فعلت ذلك لا لأجنس خلائق صديقي، بل لأقارن بين حدتك، وبين جاذبية جذبتني إليه ودفعنك عنه، وبين إئتناسي به ونفورك منه، ولمعرفة الأسباب التي جعلتك ترضى عن أكثر أصحابي، على قلتهم، وتغضب على هذا الفرد الوحيد الذي لم أر فيه وأسمع منه ما يبعدني عنه كما نفرت أنت منه وأنكرته. لم تعد المسألة وقفاً على صديقي ذاك، بل تحولت فصارت مسألتي أنا ومسألتك أنت، وهل هذا الاختلاف الطارئ بيننا سيكون مقدمة لاختلافات تليه، وتباين في الآفة الروحية والانجذاب إلى الأشخاص والأشياء؟
من صعاب الأمور تكليف النفس الخروج على سجيتها، ومن أشقها عليها تحميلها صعاباً تثقل على الولاء بين الأصدقاء، ولكن للظن والقطانة حق علينا، بل لنا عليهما حق اللجوء إليهما في كل ما تدعو الحصافة إليه، وقد أظهرا لي في ذلك الصديق أموراً يحسن السكوت عن أكثرها لبعدها عن الغاية التي كانت موضوعاً لكتابة هذه الرسالة.
أية فائدة لغير الباحث المحلل في معرفة ما إذا كان صديقي ذاك شجاعاً أو جباناً، متديناً أو
غير متدين، مؤمناً أو ملحداً، متعصباً أو متسامحاً، كريماً أو لئيماً، ولكني أقول في مجال العابر بعض ما استنتجت من خلائقه دون البعض الآخر: إنه مخلوق يجمع بين الأضداد التي ذكرتها كلها جميعا مضبوطاً على القد المضبوط، يتقلب في أمواجها المتدافعة والرهو، وسبب ذلك على ما يبدو لي، المرض والثقافة، فهو مريض حقاً، ومثقف متبحر متمكن، وأنت تعلم يا صديقي أن لا محيد للمثقف الحصيف عن تغليب سلطان العقل على الإيمان، كما لا مهرب للمريض من اللجوء إلى المجهول والاستغاثة به، وعلى هذا القياس أقول إنه يجمع بين الشيء وضده في زمن واحد، ولمحة واحدة.
قد تسألني عن كنه هذه الصداقة وارتباطي بها ردحاً من الزمن فأجيب: الكمال نسبي. والإنسان الذي تتوفر فيه أكثر صفات الكمال المثالي نادر، والشذوذ عنصر أصيل في طبيعة الأديب والعالم، وإن رضي الإنسان عن ناحية من الصداقة، لا يعني الرضوان المطلق عن بقية النواحي، والانجذاب إلى الصوب الداني من النفس هو الأساس الذي يشاد عليه بناء الصداقة، ومن هنا نجد أن قاعدة الأستاذ العقاد في تقسيم الصداقة إلى أنصاف وأرباع وأثمان إنما هي قاعد صحيحة.
وصديقي ذاك قوال مدره، ذرب اللسان، حاضر البديهة، واضح البيان (يأخذ من كل جانب من جوانب الأدب والعلم بطرف) فياض في الأحاديث يستقيها من مصادرها، ولست أدري كيف يتوصل إلى تلك المصادر، وإذا ما بدت لك أطراف من الإفك في رواياته فإنه من الصعب أن تتبين غير ملامح الجد في وجهه وتصلب قسماته. وهو كأكثر الناس في المغالاة والمبالغة وتزوق الكلام، مزاح ضحاك، شديد اللدد، يتقلب في لحظة واحد من حالة اللؤم وبوادرها مثلاً إلى حالة طفلة ساذجة. وهو بحكم العلة المرضية التي تنخب كبده (يدعي قول ما كان يود أن يقوله لمجادليه ما قاله لهم حين الجدل، وهو لهزاله وضعفه تصلف ويتكبر تكبر الأقوياء. فأنت ترى أن لا غيوم في أفق هذا الصديق، ولا مذاهبه مستعجمة، ولا مسالكه شائكة، ولا ثرثرته رخيصة، وأن من السهل الهين الأخذ منه ما يعرف والظن عليه بما نعرف، وهو على كل حال طرفة بالقياس لمن نعرف من الناس، ونمرة ظريفة من نوع من الأنواع.
وحدث مرة أن سألني ذلك الصديق سؤالاً لا يمت إلى حياتنا الأدبية بصلة، ولا يدنو إلى ما
ألفنا من أحاديث الأدب والاجتماع. سألني أي أنواع المغامرة أحب إلي؟ قلت: أحبها إلى نفسي هو الجهاد في كسب الرزق. قال: لم أرم في سؤالك إلى طرق الكسب بل قل لي، ألا تميل إلى انتزاع فتاة من عشقها يستتران في الظلام؟ قلت ما قيمة حيازة فتاة دون امتلاك قلبها؟ قال مالنا وللفلسفة؟ ونظر إلي وحدق وقال: نحن الآن عند حافة صحراء (ألماظة) وأنت ترى على مقربة منا سيارة يملكها أحد الأثرياء من داخلها سيدة يغازلها ذلك الثري، ألا يخطر ببالك أن نتضافر فننقض على الرجل ننتزع حافظة نقوده وعلى المرأة تنتزع حليها؟ قلت أعوذ بالله مما تقول، هل أنت مجنون؟!!
انقضى وقت طويل على هذا الاستجواب العجيب الذي اختتمه بضحكة عريضة، ولم أعره اهتماماً لأني ما حدت في مغامراتي كلها عن جادة العمل للمجتمع، ولأن أعمالي الخاصة التي فزت بنصيب منها كانت قرينة الجرأة حليفة الإقدام والمثابرة وحدث مرة ثانية أني كنت وذلك الصديق بعينه مع رفيقين آخرين - سأحدثك عنهما فيما بعد - في مشرب عند صحراء (ألماظة) وأن القدر الذي احتسيناه من الشراب كان كافياً لأن يجعلنا نتحلل من قيود العقل، وأن ينفلت منا زمام التقدير، وأن نستهين بكل مسؤولية.
قال صديقي مخاطباً رفيقنا: ألم تكن هناك على بعد كيلومترين من هنا؟ ومد ذراعه يشير إلى قلب الصحراء من جهة الشرق ضحك الرفاق الثلاثة ضحكة غريبة الجلجلة وقال أحدهم (ملعون أبوها).
قلت: من هي تلك التي استنزلتم اللعنة على أبيها؟
فتاة اشتهيناها، إن رأيتها أنت كنت أشد شهوة منا إليها.
قلت ما حكايتها؟
أسرع كل من الرفاق الثلاثة إلى قص القصة، وأخذوا يتدافعون في حكايتها تدافعاً، هذا يمهد ويقدم، وذاك يشرع في السرد، والآخر يصحح الوقائع ويعيدها إلى أصولها، وها أنا ذا يا صديقي ألخص الواقعة وأجملها بكلمات، كلمات معدودات وددت لو اختزلتها حرصاً على الكرامة الإنسانية، واستحياء من نفسي.
رضيت فتاة من سبط لاوى أن تبيح عرضها لهؤلاء الشباب المثقفين المهذبين لقاء أجر اتفقوا عليه
وأبت المبيحة إلا أن تقبض الأجر مقدماً، ولما تم الإثم قبض أحدهم على ذراع المرأة وانتزع الثاني حقيبتها من يدها انتزاعاً، وأسرع الثالث إلى السيارة يهيئها للهرب، وقد اندفعت السيارة بأقوى سرعتها تحمل الأبطال الثلاثة وبقيت المسكينة في الصحراء تعوي كالذئبة ولا من مجيب!
أتدري يا صديقي كم حوت حقيبة العاهرة وماذا كان فيها؟
كان فيها منديل، وقرش صاغاً واحد، ومفتاح غرفتها، والأجر الزهيد الذي قبضته ثمناً لعرضها.
أي صديقي، لقد كان كشف لدني فتحه الله على بصيرتك. يوم رأيت ذلك المخلوق التعس فنفرت منه واستثقلت روحه وكثافة ظله، أما أنا فقد كنت أعشى العين والبصيرة. أنظر إلى ذلك الصديق من خلف غشاء قدسي نسجته بيدي إجلالاً للصداقة.
لست بأول إنسان خدع نفسه بمثل هذا الصديق، إن القط الأليف هو من فصيلة النمر المتوحش، كذلك الإنسان المهذب من فصيلة الشرير الأثيم، ولكن متى بدرت بادرة الغرائز الكامنة عاد كل إلى أصله
حبيب الزحلاوي
الرعايا غير العبيد
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كنت أحب للأستاذ الفاضل الشيخ خالد محمد خالد وهو عالم أزهري أن يتأمل قليلاً في اسم كتابه الجديد - مواطنون لا رعايا - ولو أنه تأمل قليلاً في معنى كلمة رعايا لاختار له هذا الاسم - مواطنون لا عبيد - لأن موضوع كتابه في هذا المعنى. ولو أنه سماه أيضاً - رعايا لا عبيد - لما خرج عن معنى كتابه، ولما خرج عما ينبغي لعالم من علماء الدين، والأستاذ من أساتذة اللغة، لأنه أساء إلى كلمة رعايا، وحملها ما لا تحمله في اللغة والدين.
روى مسلم والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال. كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته.
وفي هذا الحديث دلالة صريحة على أن الراعي ليس معناه السيد، حتى تكون الرعية بمعنى العبيد، لأنه جعل كل واحد من الناس راعياً، فلو كان الراعي بمعنى السيد والرعية بمعنى العبيد لكان كل واحد من الناس سيداً وعبداً في وقت واحد، وهذا تناقض. على أن الحديث جعل الخادم راعياً في مال سيده، وفي هذا دلالة قاطعة على أن الراعي ليس بمعنى السيد، وإلا انقلب الوضع في هذه الحالة، لأن الخادم مسود لا سيد.
وهذا عثمان بن عفان يكتب إلى عماله في أول خلافته، فيطلب إليهم أن يكونوا رعاة لا جباة، فيعطي هذه الكلمة معناها الكريم، ويقول في ذلك: أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة، ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة، ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء، والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين، وفيما عليهم، فتعطوهم الذي لهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة، فتعطوهم الذي لهم، وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون، فاستحقوا عليهم بالوفاء.
فيفرق عثمان في هذا بين الرعاة والجباة، وهذا الفرق يكاد يحمل الجباة معنى السادة الذين
يتعالون على الرعية، وينظرون إليها من الناحية المالية، فلا يهمهم إلا أن ينتزعوا منها مالها وهم في عزة السادة، وإلا أن تقدم إليهم هذا المال في صغار وذل، وعلى هذا يكون الرعاة الذين يقابلون الجباة لا يحملون شيئاً من معنى السادة، ولا تكون الرعية لهم عبيداً، بل يجمعهم جميعاً اسم المواطن.
فإذا انتقلنا من هذا إلى معنى كلمة رعية في اللغة وجدنا القاموس يقول: الراعي كل من ولى أمر قوم، والجمع رعاة ورعيان ورعاء وقد يكسر، والقوم رعية كغنية. ثم يقول: وراعيته لاحظته محسنا إليه، وراعيت الأمر نظرت إلى م يصير، وراعي أمره حفظه كرعاه، واسترعاه إياهم استحفظه.
وإذا انتقلنا من القاموس إلى النهاية في غريب الحديث والأثر وجدناها تقول: وفي الحديث (نساء قريش خير نساء، أحناه على طفل في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده) هو من المراعاة الحفظ والرفق وتخفيف الكلف والأثقال عنه، ومنه الحديث (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) أي حافظ مؤتمن، والرعية كل من شمله حفظ الراعي ونظره، وفي الحديث إلا إرعاء عليه) أي إبقاء ورفقاً؟ أرعيت عليه، والمراعاة الملاحظة، وفي حديث عمر (لا يعطى من الغنائم شيء حتى تقسم إلا لراع أو دليل) الراعي ها هنا عين القوم على العدو، من الرعاية والحفظ، ومنه حديث لقمان بن عاد (إذا رعى القوم غفل) يريد إذا انتقلنا بعد هذا إلى المصباح المنير في غريب الشرح الكبير وجدناه يقول: وقيل للحاكم والأمير راع لقيامه بتدبير الناس وسياستهم، والناس رعية، وراعيت الأمر نظرت في عاقبته، وراعيته لاحظته.
وفي كل هذا المنقول من كتب اللغة لا نجد في كلمة راع ورعاة معنى السيادة والتسلط والتحكم، ولا في كلمة رعية معنى الخدمة والعبودية، وإنما وظيفة الراعي حفظ الرعية وملاحظتها بالرفق واللطف، والإبقاء عليها بصيانتها عن موارد الهلكة، وتدبيرها وسياستها بالعدل، وهو في هذا أقرب إلى أن يكون خادماً للرعية، والرعية فيه أقرب إلى أن تكون هي المخدومة.
وكذلك الأمر في الرعية من جهة الدين، لا شيء فيها من معنى العبودية، ولا شيء في الرعاة من معنى السيادة، وإنما الخليفة وولاته أصحاب وظائف في الرعية، يخدمونها بأجر
تفرضه لهم على قدر حاجتهم، وهي التي تختارهم لخدمتها بمحض إرادتها، وهي التي تعزلهم إذا أساءوا في خدمتها، فهي صاحبة السلطة عليهم في الحقيقة، وهي الراعية عليهم في نفس الأمر، وهم خدامها في الواقع، وما الخليفة وولاته إلا وكلاء عنها في تدبير أمورها العامة، لأن كل فرد منها تشغله أموره الخاصة في دنياه، فلا بد لها من أفراد منها ينوبون عنها في تدبير أمورها العامة، ولا يمتازون في هذا بشيء عليها، وإنما هم رعية مثلها، يقومون بأعمالهم كما يقوم كل فرد من الرعية بعمله، ولا يستحقون ما يأخذونه من المال لذاتهم أو لشرفهم، وإنما يستحقونه بما يقومون به من عمل، ولهذا أعطاهم الإسلام اسم العمال، فقال تعالى في الآية - 60 - من سورة التوبة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) فالعاملون عليها هم الولاة، وهم العمال، ولا مانع من أن يدخل فيهم الخليفة، لأنه رئيس هؤلاء العمال، ولم تكن حكومة الخلفاء الراشدين إلا حكومة عمال، وهذا قبل أن تعرف أوربا الحديثة هذا النظام في الحكم، وقد كانت حكومة عمال صالحة، ولم تكن حكومة عمال لا تتورع عن السياسة الآثمة، كما لا تتورع حكومات العمال في أوربا الحديثة عن هذه السياسة وقد كان على الأستاذ الشيخ خالد محمد خالد أن يعرف هذا كله، وأن يدرك أن الناس حينما يطلعون على اسم كتابه - مواطنون لا رعايا - ينتقل نظرهم إلى حديث (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ويفهمون أن الحديث يقر الرعية بالمعنى الذي ينكره اسم كتابه، وفي هذا ما فيه. وعلى الأزهر أن يتدبر في أمر أهله بالإصلاح الذي دعونا إليه، وتوالى علينا الظلم بسببه، حتى يستقيم تفكيرهم، ولا تتغلب عليهم مطالعاتهم الخاصة، وقد أعذر من أنذر
عبد المتعال الصعيدي
عقيدتي
للفيلسوف الإنجليزي المعاصر برتر اند رسل
ترجمة الأديب عبد الجليل السيد حسن
مقدمة المؤلف:
حاولت في هذا الكتيب أن أقول ما أعتقده عن مكانة الإنسان في الكون ومدى إمكانياته على بلوغ الحياة السعيدة. ولقد عبرت عن مخاوفي في (إيكاروس) أما في الصفحات التالية فإني قد عبرت عن آمالي (والتناقض واضح بين الموقفين) ولكن الإنسان لم يحذق فن التنبؤ بالمستقبل إلا في علم الفلك. غير أننا نرى في الأمور الإنسانية: قوى تعمل على السعادة وقوى أخرى تعمل على الشقاء، ولا ندري لأيهما سيكون الظفر والغلبة.
فلكي نعمل بحكمة، علينا أن نكون حذرين من كليهما.
برتر اند رسل
الفصل الأول
الطبيعة والإنسان
إن الإنسان جزء من الطبيعة. وليس شيئاً يقارن بها، فأفكاره وحركاته الجسمية تخضع لنفس القانون الذي يفسر حركات النجوم والذرات، وإن العالم الطبيعي لضخم إذا قورن بالإنسان - بل وأضخم مما كان يظن أيام (دانتي) - ولكنه ليس في الضخامة التي كان يتصور عليها منذ مائة سنة، فإن كلا منها يعلو وينخفض ويكبر ويضؤل. ويبدو أن العلم آخذ في مشارفة النهاية. فالمظنون أن الكون ذو امتداد ممدود في الفضاء، وأن الضوء يستطيع أن يسير حوله في بضع مئات من ملايين السنين.
والمعروف أيضاً. أن المادة تتكون من (إلكترونات وبروتونات) ذات حجم محدود، منهما يوجد عدد محدود في العالم. ومن المحتمل أن لا تكون تغييراتهما مستمرة كما كان يظن، بل إنها تتقدم على دفعات، لا يمكن مطلقاً أن تكون أصغر عن حد أدنى من الدفعات. ويمكن إجمال هذه التغييرات بسهولة، في عدد صغير من مبادئ عامة، تحدد ماضي العالم
ومستقبله، حين يعرف أي جزء ضئيل من تاريخه.
وهكذا يقترب العلم الطبيعي من المرحلة التي سوف يكمل عندها، وحينئذ لن يكون ذا أهمية؛ فحينما تعرف القوانين التي تتحكم في حركات الإلكترونات والبروتونات سيكون الباقي فقط عبارة عن جغرافيا - مجموعة حقائق معينة، تظهر توزيعاتها خلال جزء من تاريخ العالم. ومن المحتمل أن يكون العدد الجم من حقائق (الجغرافيا) المحتاج إليه تعيين تاريخ العالم محدوداً، ومن المستطاع كتابة كل ذلك نظرياً في كتاب ضخم، ليحفظ في بيت (سومرست) ويزود بآلة حاسبة ذات يد تدور، لتعين الطالب على أن يجد الحقائق في أي وقت آخر، بأكثر من هذه النصوص المكتوبة.
وإن لمن الصعوبة بمكان أن نتخيل شيئاً أقل أهمية أو أكثر اختلافاً من الابتهاج الشديد إزاء كشف غير تام، فذلك مثل الصعود إلى جبل شاهق، ثم لا تعثر إلا على مطعم يباع فيه شراب الزنجبيل ويحوطه الضباب، ولكنه مزود باللاسلكي، ولربما كان جدول الضرب مثيراً للعجب أيام أحمس!!
والإنسان جزء من هذا العالم الطبيعي - غير الرائع في ذاته وجسمه كأي مادة أخرى - يتكون من إلكترونات وبروتونات ويخضع تماماً لنفس القوانين، كما تخضع سائر الأشياء التي تدخل في عالم الحيوانات أو النباتات.
وهناك من يقولون: إن الفسيولوجيا: لا تحتاج إلى الطبيعيات، ولكن أداتهم على ذلك غير مقنعة، ومن الحكمة أن نفرض أنهم خاطئين.
ويبدو أن ما نسميه أفكارنا، تعتمد على نظام تلافيف المخ بالطريقة عينها التي تعتمد الأسفار بها على الطرق والسكك الحديدية. ويظهر أيضاً: أن الطاقة المستعملة في التفكير، لها أصل كيميائي - فمثلاً نقص اليود، يحول الرجل الذكي، إلى أبله - والظاهرة العقلية مرتبطة بالبناء المادي للمخ.
ولو كان هذا كذلك، لما استطعنا أن نفرض أن الإلكترون أو البروتون الفرد، يستطيع التفكير، كما لا يمكن أن نتوقع كذلك فرداً واحداً يلعب كرة القدم، ولا يستطيع أيضاً أن نفرض أن تفكير الإنسان يبقى في جسد ميت؛ لأن الموت يمزق نظام المخ ويبدد الطاقة التي تمد تلافيف المخ.
ووجود الله وفكرة الخلود وهما العقيدتان الرئيسيتان، في الديانة المسيحي، لا يجدان لهما أية دعامة من العلم، ولا يمكن القول أن كلا من العقيدتين ضروري للدين؛ لأن كليهما لا يوجد في البوذية (أما من ناحية الخلود، فإن هذه الحالة في إحدى صورها المبهمة، قد تقود إلى الخطأ، ولكنها صحيحة في التحليل الأخير) ولكننا في الشرق، تعودنا أن نفكر فيهما كألزم لوازم اللاهوت.
وليس هناك من شك في أن الناس سيستمرون في الاستمتاع بهذه العقائد، لأنها سارة، كما أنه من السار أن نعد أنفسنا فضلاء وأعداءنا أشراراً.
أما من جانبي فأنا لا أرى أي أساس لكليهما، ومع ذلك فأنا لا أدعي أن في طوقي أن أثبت أن ليس هناك من إله؛ أو أن أبرهن على أن الشيطان خرافة، فقد يوجد الإله المسيحي، وكذلك قد توجد الأولب، أو مصر القديمة أو البابليون؛ ولكن. . . ليس هناك واحد بين هذه الفروض، بأكثر احتمالاً من الآخر، فهي كلها توجد خارجاً، حتى عن دائرة العلم المحتمل، ومن ثم. . . فلا داعي هناك لكي نأخذ بأحدهما - ولن أتوسع في هذه المسألة، فقد عالجتها في مكان آخر.
إن مسألة الخلود الشخصي، تقوم على أساس مختلف نوعاً ما، فهنا يتضح أن كلا الطريقين ممكن، فالأشخاص جزء من العالم المادي الذي يتعلق به العلم، والحالات التي تحدد وجودهم معروفة، فقطرة من الماء ليست خالدة، فهي قد تتحلل إلى (أكسجين) و (هيدروجين) ولذلك إذا فرضنا: أن أية قطرة من الماء أصرت على أن لها خاصية من المائية، ستحفظ عليها تحللها فإنا أقرب إلى أن نكون شكاكاً مسفسطين.
وبمثل هذه الطريقة نعلم أن المخ غير خالد؛ وأن الطاقة المدبرة للجسم الحي تصبح كما كانت غير موجودة عند الموت، ومن ثمت، فليست جديرة بعمل جماعي، ولذلك كان من المعقول أن الحياة العقلية تتوقف حينما تتوقف الحياة الجسمية، وهذا دليل محتمل فقط، ولكنه في قوة الأدلة التي تبنى عليها معظم النتائج العلمية، وكل البراهين ترينا أن ما نعده حياتنا العقلية مرتبط ببناء المخ، وبالطاقة المدبرة للجسم، ومن المحتمل أن تهاجم هذه النتيجة بمقتضى أسس مختلفة، فالبحث الطبيعي يقر أن الحصول على برهان علمي صحيح لا يشك في حيثياته، عن البقاء أمر صحيح من الوجهة العلمية، وبرهان من هذا
القبيل قد يكون من القوة بحيث أن أي إنسان ذي نزعة علمية لا يستطيع رفضه، ولكن أهمية الارتباط بالبرهان يجب أن تعتمد على السابقة المحتملة لفروض البقاء؛ فهناك طرق متباينة لتعليل أية مجموعة من الظواهر، ولكننا نفضل من بينها السالفة الأقل استحالة.
وهؤلاء الذين ظنوا احتمال الحياة بعد الموت، سيكونون متأهبين لقبول هذه النظرية كخير تعليل للظاهرة النفسية، وعلى العكس هؤلاء الذين ينظرون إلى هذه النظرية على أنها شيء غير معقول، سيبحثون عن تعاليل أخرى. . . أما من جانبي فأنا إلى الآن، أعتبر أن الحجة التي يقدمها البحث النفسي في صالح البقاء أو هي من الحجة الفسيولوجية في الجانب المقابل، ولكنني أعترف كل الاعتراف أن تلك الحجة قد تصبح في أي وقت أقوى منها الآن، وحينئذ سيكون من غير العلمي، أن لا يعتقد في البقاء ولكن بقاء الجسد بعد الموت أمر مغاير للخلود، فقد يعني ذلك تأجيلاً للموت الطبيعي فقط، ولكنه هو الخلود الذي ينشد الناس الاعتقاد فيه.
والمعقدون في الخلود، سوف يرفضون الأدلة الفسيولوجية التي استعملتها بحجة أن الروح والجسد شيئان منفصلان كلية، وأن الروح شيء مفارق تماماً لمظاهرها التجريبية خلال أعضائنا الجسمية، وأنا أعتقد أن هذا خرافة (ميتافيزيقية) فإن العقل والمادة، وهما في ذلك سواء عبارات مناسبة لمآرب معينة، وليست حقائق نهائية؛ فالإلكترونات والبروتونات مثل الروح أوهام منطقية، وكل منهما في الحقيقة عبارة عن سيرة وسلسلة من الحوادث، وليس ذات يد واحدة ثابتة. وهذا جلي في حالة الروح من بين حقائق النمو؛ فإن كل من أنعم النظر في الحبل والحمل والطفولة، لا يمكنه أن يعتقد جاداً: أن الروح شيء لا يتجزأ، وأنها كاملة تامة، خلال كل هذه الأطوار. ومن الجلي أنها تنمو كالجسم، وأنها تنشأ عن كل من الحيوان المنوي والبويضة، ولذلك لا يمكن اعتبار الروح غير قابلة للتجزئة، وليس هذا هو المذهب المادي، إنه فقط التسليم بأن كل شيء موضوع للتحضر، وليس لمادة أولية وقد قدم الميتافيزيقيون حججاً لا تحصى، ليثبتوا أن الروح يجب أن تكون خالدة، ولكن ها هو ذا اختبار بسيط يمكن هدم هذه الحجج به، فهم يثبتون جميعاً أن الروح يجب أن تكتنف وتتخلل كل الفراغ. . . ولكن بما أننا لسنا متلهفين على أن نعيش طويلاً، فإن أحداً من الميتافيزيقيين في هذه المسألة لم يلاحظ قط هذا الوضع لأداتهم، وهذا مثال من سلطان
الرغبة العجيب الذي يغفل حتى الفطنين ويجرهم إلى الأغاليط التي كانت تتضح في الحال في أي وقت آخر وإني أعتقد أنه لو لم نكن وجلين من الموت لما ظهرت فكرة الخلود أبداً.
إن الخوف أساس العقيدة الدينية كما هو أساس الكثير من أمور الحياة الإنسانية، والخوف من الكائنات البشرية، أفراداً وجماعات، يسود كثيراً من حياتنا الاجتماعية، ولكن الخوف من الطبيعة هو الذي جعل مكاناً للدين. وتباين العقل والمادة كما قد رأينا، أمر وهمي تقريباً، ولكن هناك تباين أكثر أهمية - أعني بين الأشياء التي تتأثر برغباتنا، وتلك التي لا تتأثر بمثل ذلك. والحظ بين الاثنين ليس بالنشيط أو الخامد، فكلما يتقدم العلم، تدخل تحت يد الإنسان أشياء أكثر وأكثر.
ومع ذلك توجد أشياء قطعية في الجانب الآخر، وتقع بينهما كل الحقائق الكبرى في عالمنا، وهي حقائق من النوع الذي يدرسها علم الفلك، والحقائق التي فوق - أو قريبة - من سطح الأرض هي وحدها التي تستطيع - إلى مدى محدود - تشكيلها بحيث تلائم رغباتنا، وحتى على سطح الأرض قوانا محدودة جداً، فقبل كل شيء لا نستطيع أن نمنع الموت، وإن استطعنا تأخيره غالباً.
إن كان الدين لمحاولة التغلب على هذا التناقض. ولو أن العالم يدبره الله، ويمكن تحريك الله بالصلاة والدعاء، فإنا بذلك ننال حصة من القدرة المطلقة. وفي الأيام السالفة كانت تحدث المعجزات استجابة للدعاء، وما زالوا يفعلون ذلك إلى الآن في الكنيسة الكاثوليكية، ولكن البروتستانت قد فقدوا هذه القدرة، ومهما يكن من شيء فمن الممكن أن يستغني عن المعجزات لأن الله قد قضى بأن تنفيذ القوانين الطبيعية سيأتي بخير النتائج الممكنة، ومثل هذا الاعتقاد في الله ما زال يصلح لتهذيب عالم الطبيعة. وجعل الناس يشعرون بأن القوى الفسيولوجية هي في الواقع حليف طيب. وبمثل هذه الطريقة يزيل الخلود الخوف من الموت، فالناس الذين يعتقدون أنهم حين يموتون سيرثون النعيم الأبدي؛ ينتظر أن يواجهوا الموت دون ما فزع. ومع أن هذا لا يحدث بلا تغيير لحسن حظ رجال الطب، ومهما يكن فهو يهدئ من مخاوف الناس بعض الشيء، حتى حينما لا يلاشيها كلية.
إن الدين منذ كان مصدره الرعب، قد عزز بعض أنواع معينة من الخوف؛ وجعل الناس لا يعدونها مخزية، وهو بذلك قد قدم للإنسانية أعظم إساءة، فكل المخاوف سيئة، وينبغي
التغلب عليها، ولكن ليس بأساطير العفاريت، بل بالشجاعة والتفكير المعقول. وأنا أعتقد أني حينما أموت سأتعفن، ولن يبق من ذاتي شيء. ولست حدث السن، ومع ذلك فأنا أهوى الحياة ولكني سوف أستخف بالارتعاد فرقا لفكرة الهلاك. والسعادة لم تبلغ حتى ولا أقل من درجة من السعادة الحق؛ لأنها لا بد أن تنتهي. ولكن الفكر والحب لا يفقدان قيمتهما لأنهما ليسا بخالدين. وكم من إنسان حمل نفسه إلى المشنقة فحورا، ومن المؤكد سيعلمنا مثل هذا الفخر أن نفكر بإمعان في مكانة الإنسان في العالم؛ حتى ولو جعلتنا أول الأمر نوافذ العلم المفتحة، نرتعد من بعد الدفء المريح داخل الأساطير الإنسانية التقليدية، وفي النهاية يأتي الهواء العليل بالنشاط، وللفضاءات العظيمة جلالها الخاص.
إن فلسفة الطبيعة شيء وفلسفة القيم شيء آخر. ولن يحدث إلا الضرر نتيجة الخلط بينهما، فما نعده حسناً وما نبغيه، لا علاقة له مطلقاً بما وهو، الذي هو مطلب الفلسفة الطبيعية. وفي الجهة المقابلة لا يستطاع منعنا تقدير هذا وذاك، على أساس أن العالم غير المتحضر لا يقدره، ولا يستطاع كذلك إجبارنا على الإعجاب بشيء لأنه قانون الطبيعة. ومن دون شك نحن جزء من الطبيعة التي خلقت رغباتنا وآمالنا ومخاوفنا بناء على القوانين التي يكتشفها العالم الطبيعي: وبهذا المعنى نحن جزء من الطبيعة، وفي فلسفة الطبيعة نحن شيء ثانوي بالنسبة للطبيعة، فنحن نتيجة للقوانين الطبيعية وضحاياها أخيراً يجب أن لا تكون فلسفة الطبيعة ترابية مهنية؛ لأن الأرض ليست إلاّ واحدة من أصغر سيارات أصغر نجوم المجرة، وأنها لمهزلة أن نطوي فلسفة الطبيعة لكي نأتي بنتائج تسر الطفيليين الصغار في هذا السيار الذي لا يؤبه له. والمذهب الحيوي كفلسفة، والتطوري، يظهر أن من هذه الجهة، الافتقار إلى معنى المطابقة النسبية والمنطقية؛ لأنهما يعتبران أن وقائع الحياة ذات الأهمية لنا شخصياً، كشيء له أهميته الكونية. وليست أهمية مقتصرة على سطح الأرض. ومذهب التفاؤل ومذهب التشاؤم كفلسفات كونية، يظهر نفس سذاجة المذهب الإنساني؛ والعالم العظيم بالقدر الذي نعلم ليس خيراً أو شراً وليس حريصاً على أن يجعلنا سعداء أو أشقياء. ومثل هذه الفلسفات تبعث عن الاهتمام بالذات، وتقوم خير تقويم بقليل من علم الفلك.
ولكن ينعكس الموقف في فلسفة القيم فالطبيعة ليست إلاّ جزءاً مما نقدر على تخيله، وكل
شيء سواء كان حقيقياً أو متخيلاً أستطيع تقديره، مع أنه ليس هناك من مقياس خارجي نتبين به الصحة أو الخطأ في تقديرنا؛ لأننا أنفسنا الحكم النهائي الذي لا ينقض في أمر القيم. والطبيعة في عالم القيم ليست إلا جزءاً، وهكذا نحن أعظم في هذا العالم من الطبيعة. والطبيعة في ذاتها محايدة في عالم القيم، فليست بالخيرة أو الشريرة، ولا تستحق الإعجاب أو العذل، فنحن أنفسنا الذين خلقنا القيمة، ورغباتنا هي التي منحتها أهمية، ونحن ملوك في هذه المملكة؛ ونحط من قدرنا إذا حنينا الهام للطبيعة، فمن أجلنا تتحدد الحياة السعيدة، لا من أجل الطبيعة أو حتى من أجل الطبيعة تتمثله في الله.
للكلام صلة
عبد الجليل السيد حسن
رِسَالَة الشِعْر
حطام
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
إلى صديقي الأستاذ الكبير عباس خضر
صاح بي عمري: لقد ضاعت سدى
…
زهراتي. . فإلى أين المفر؟!
وعلى أي ذراع أتكئ
…
وبساقي من القيد أثر
وطريقي شائك محلولك
…
حوم الشؤم عليه والضجر
غاضت الرحمة؛ لا أذن تعي
…
صرخة القلب وهل يصغي الحجر
وأنا أقطع ليلي بالضنى
…
ونهاري بالمآسي والفكر
عبثاً أقبس من جمر الصبا
…
لهباً. . وهو رماد يحتضر
يا جناحاً من حنان ضمني
…
قصه الأمس من كان الأبر
ومعيناً كان يروي ظمئي
…
طغت البلوى عليه فاندثر
أعولت فوق فمي أنشودة
…
رقص الدمع عليها فانتثر
أيها الظالم في قتلي انشد
…
إن تعمدت، فما يجدي الحذر
هو جرحي كلما هدهدته
…
بالأماني نكأته فنغر
أمس ولى، وغداً إن عدت لي
…
لم تجد غير حطام من بشر
كان روضاً عصف الهجر به
…
فذوي في أيكه حتى الزهر
وسراجاً خنقت أنفاسه
…
شهقات من أساء فاحتضر
قلت يا عمر: كلانا بلبل
…
أخرست أنغامه كف القدر
صائد فوق نحوي سهمه
…
فثوى بين ضلوعي واستقر
ليته عاد، أريه سقمي
…
ودمائي وجراحاتي الأخر
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
غاية الطموح
للشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري
لمن يبذر الحب كان الثمر
…
ومن يزرع الصبر يجن الظفر
ومن يتحمل وعور الطريق
…
وخوض الدجى واعتناق الخطر
فذلك من رشحته الحياة
…
ليصبح سيدها المنتظر. .
إذا لم تكن عبقري الطموح
…
مراميك فوق مرامي البشر
فمت وليكفنك ريح الفناء
…
ويدفنك في قلبه المكفهر
فمثلك لا يستحق الحياة=وأولى به ظلمات الحفر
وإن شئت موعظة فالطبيعة
…
أستاذة الحيوات الكبر
فما ولدتك لقطف الزهور
…
ولا أنجبتك لحلب البقر
ولكن لتحتضن الكائنات
…
إذا اسطعت. . أو تتحدى القدر
ولولا قصورك يا ابن الترا
…
ب عن أن تحس وأن تذكر
وأنك لازلت طفلاً كبيراً
…
عميق السذاجة فج الفكر
لأبصرت ملهمة العبقريات
…
وهي تسطر اسمى العبر
تأمل بقلبك لا ناظراك
…
ففي القلب أودع سر النظر
تر الفجر يولد بين حقول
…
الضباب وغاب الدجى المنتشر
تر الزهر ينبت فوق القبور
…
ويسخر بالميت المندثر
تر الماء ينبع بين الصخور
…
ويحفر مجراه بين الحجر
تر اللحن يرقص فوق السحاب
…
وقد كان منحبساً في وتر
تر الريح تسجد عند الهضاب
…
وتعول هازئة بالحفر
تر الموج ما انفك يبني جبالاً
…
ويهدمها جاهداً مستمر
تر النحل ترشف ريق الورود
…
وما عاقها شوكها والإبر
تر الطير تجعل أعشاشها
…
رؤوس الجبال وهام الشجر
تر الجاذبية نحو السماء
…
تعانق حتى خيال النهر
فكن فيلسوفاً كزهر القبور
…
على جثث الهالكين ازدهر
حكيماً كماء الينابيع يمضي
…
يذيب الصخور ويبلي الحجر
طموحاً كطير الربى ليس يرضى
…
بما هاماتها مستقر
قوي الإرادة مثل الفراشة
…
تغشى اللظى وتدوس الخطر
ولاتك كالدود تهوى الوحول
…
وكالبوم تخشى ضياء القمر
فخير من الآدمي الخمول
…
غراب يصيح وكلب يهر
محمد مفتاح الفيتوري
الأدب والفنّ في أُسْبُوع
للأستاذ عباس خضر
أثر الدراسات البلاغية:
(قال لي صاحبي)، وكان في جملة المستمعين إلى محاضرة الأستاذ محمد خلف الله بك ينادي دار العلوم في أثر الدراسات القرآنية في تطور النقد الأدبي) وقرأ ما أشرت إليه في الأسبوع الماضي من أن الأستاذ كان يخلط في محاضرته بين العربية والعامية - قال: لقد مررت عابراً بهذه النقطة، فإن الأستاذ كان يخطب كبار الأساتذة وصفوة رجال اللغة العربية وهو نفسه منهم، وكان يتكلم في بلاغة اللغة العربية، والمكان نادي القوم الذين قيل إن الفصحى تموت في كل مكان وتحي في دارهم. . أفيليق مع كل هذا أن يخلط في حديثه بين العربية والعامية. .؟
سكت قليلاً وأنا أقول في نفسي: عجباً! إننا نعيب مثل هذا على أناس ليسوا من هذا الطراز، ويخطبون جمهوراً من عامة الناس في موضوعات عامة وفي أماكن أخرى. . ثم قلت لصاحبي: ترى إذا لم يكن حديث الأستاذ خلف الله خالصاً من العامية؟ ليس من المقبول أن يقال إنه أراد أن يدنو من إفهام المستمعين، فهم هم. . أتراه لا يقدر على الاسترسال في التعبير الفصيح؟
بدأ على صاحبي الإنكار لهذا التساؤل، وهو ممن يعرفون الأستاذ خلف الله منذ القديم، فأسرع يقول: لا. إني أعرفه خطيباً فصيحاً متمكناً منذ كان طالباً في دار العلوم، وطالما سمعنا منه آيات بينات، والعجيب أنه يأتينا اليوم هكذا بعد أن زادت ثقافته وكبر مقامه!
وأنا كنت أسمع عن الأستاذ خلف الله - قبل سفره في البعثة إلى إنجلترا - أنه شاعر مجيد. فلما رجع من البعثة انقطع صوته في مضمار الشعر، فلعله أيضاً فقد الحماسة للعربية فلم يعد يهتم بشد لسانه إليها!
وقلت لصاحبي: يظهر أن المسألة ليست مسألة قدرة، وإنما هي حرارة في القلب، فإن أولئك الأساتذة الذين يحدثون الجموع فلا يلتزمون التعبير الفصيح - وهم من رجال العلم والأدب - إنما يفعلون ذلك استجابة للفتور والتهاون ومطاوعة لاسترخاء اللسان؛ وعلى عكس ذلك نرى كثيراً من السياسيين والمحامين ورجال النيابة العامة تنطلق ألسنتهم في
المحافل والمحاكم بالكلام العربي المبين، وليس أولئك بأقل قدرة من هؤلاء، ولكنها حرارة القلب. ألم يأتك نبأ أولئك الصغار تلاميذ المدرسة النموذجية الابتدائية الذين تحدثت عن التزامهم الحديث بالعربية في عدد مضى من الرسالة؟ ويظهر أن حرارة القلوب الغضة أكثر ارتفاعاً من حرارة القلوب الكبيرة.
قال صاحبي: لقد وازنت في تعليقك على المحاضرة بين الأدباء ودارسي البلاغة، أفلا ترى أن الأستاذ خلف الله كان في العهد الأول من الأدباء ثم صار الآن من دارسي البلاغة، وأن الذي يتعاظمنا وقوعه منه إنما هو من أثر الدراسات البلاغية. .؟
معرض خريجي الفنون
أقام اتحاد خريجي الفنون الجميلة العليا، معرضهم الرابع، بدار نقابة المحامين، وقد افتتح المعرض في الأسبوع الماضي، ولا يزال قائماً. وأول ما يلاحظ أنه أقيم في وقت متأخر من العام، أي بعد موسم المعارض الذي يكون عادة في أواخر الشتاء وأوائل الربيع، وجاء وقته أيضاً في أيام الامتحانات التي بشغل فيها طلبة الجامعات عن شهود مثل هذا المعرض، ولكن يبدو لي - بعد كتابة الجملة السابقة - أن هؤلاء الطلبة - في مجموعهم - لا يهتمون بالسعي إلى معارض الفن، بل يبدو لي أيضاً أن أكثر المثقفين في مصر لا يهتمون بذلك، وفي هؤلاء المثقفين الذين لا ينشطون لمعارض الفنون، أهل الفنون الأخرى كالأدباء والشعراء والموسيقيين والمسرحيين والسينمائيين، ولست بحاجة إلى بيان مكانة روائع التصوير والنحت وأثرها في ثقافة المثقفين وفن الفنانين، فالخوض في ذلك من الأوليات. ثم أوجه الكلام إلى الهيئات المشرفة على المعارض وخاصة اتحاد خريجي الفنون الذي يقيم هذا المعرض: أليس في الإمكان أن يقوموا بنشاط يجذب الجمهور المثقف إلى معارضهم؟ أوجه إليهم هذا السؤال وأترك لهم التفكير في الوسائل التي تؤدي إلى هذا الغرض.
قلت إن المعرض أقيم متأخراً، وقد علمت أن سبب هذا التأخر خارج عن إرادة الاتحاد، فليس له مكان يصلح للمعرض، وهو أكبر هيئة فنية في مصر. . وهو يمثل خريجي كلية الفنون الجميلة، فهو متصل بمعينها متجدد باستمرارها، وهو بذلك تجتمع فيه روافد الفن وتتمثل به الاتجاهات الفنية في مصر، ومع ذلك لا يملك مكاناً لمعارضه، فليس أمامه إلا
دور العرض الأهلية التي تقتضي العارضين أجوراً مرتفعة - من جنيه إلى عشرة جنيهات في اليوم! أو رجاء أصحاب النوادي الصالحة للعرض والتي يستمهل أصحابها حتى يستطاع إعدادها للمعرض، وهذا ما حدث في هذا العام.
وندرك مدى تلك المتاعب عندما نعلم أن المعرض هو الوسيلة الوحيدة للمصور والمثال التي تصله بالجمهور، فهو بمثابة الكتاب والصحيفة للمؤلف والأديب.
ذلك إلى انعدام التشجيع وعد الإقبال على شراء المنتجات الفنية، سواء من الجهات الرسمية والأهلية، فالأولى تعتذر عادة بأن الاعتماد قد نفد. . وعندنا جمعيات غنية تنتسب إلى الفن، ولكنها تقصر تشجيعها واحتفالها على الفن الأجنبي ولا تلتفت إلى الفن المصري.
وقد أدى عدم التشجيع وأزمة المكان إلى احتفاء كثير من الفنانين، وضيق الدائرة على مجموعة صغيرة ثابتة، على حين كان المفروض أن تظهر مواهب جديدة من خريجي الكلية كل عام.
هذا المعرض القائم، صورة صادقة للحركة الفنية في مصر، ويستطيع المشاهد أن يلمس فيه الصراع بين القديم والحديث، وإن كانت غلبة الاتجاهات الحديثة ظاهرة، فقد طغت هذه الاتجاهات حتى على المدرسين (الأكاديميين) وليس أدل على ذلك من تطور حسين بيكار الذي بدأ يخرج عن الاتجاه التقريري، أو الحرفية في النقل، وهي نقل الواقع المشاهد مع بعض اللمسات الجمالية إلى إدخال الفكر فيما يراه، فهو يذهب إلى تحليل الأشكال وإرجاعها إلى النظريات العلمية التي وصل إليها البحث العلمي الحديث، ومن هذا أنه يتجه إلى التكعيبيين ليستفيد من مفهومهم العلمي للمسطحات، وينظر إلى التصوير كأسلوب قائم بذاته في التعبير عن الحياة ودفع المشاهد إلى الإحساس بها دون الاعتماد على تأثير الفكرة الأدبية في موضوعاته، ومن هنا يبدأ التصوير في الاستقلال بنفسه كوسيلة للتعبير، كما تستقل الموسيقى عن الشعر والأدب بوسيلتها الإحساسية.
إن التجريد هو أسلوب الوحيد لاستقلال فن التصوير، ولكن المجتمع والجماهير المتذوقة ذات المفهوم العام تحتاج إلى الفكرة فلا تستوقفها التجريديات، لأن مكانها المتاحف باعتبارها مثابة الخاصة من الفنانين، وفهمها يحتاج إلى دراسة فنية طويلة ودرجة معينة من التأهيل.
وفي الوقت الذي ترك فيه بيكار طريقه الأول بقي أمثال حسني البناني وصلاح طاهر في إصرار على الاتجاه الأكاديمي، فصلاح طاهر فنان حالم ينظر إلى الأشياء نظرة شاعرة، يغير في لوحاته في حدود نظرته النفسية (السيكولوجية) الواقعية دون أن تغريه المذاهب الحديثة وأبحاثها. والبناني الذي جرى على تصوير الحياة المصرية خلال النور والظل، تحت شمس مصر المحرقة وظلالها القائمة - هو هو، لم يتغير، إلا إذا اعتبرنا زيادة قدرته وتمكنه في أسلوب المدرسة التأثيرية التي تعتمد على تحليل اللون في التصوير.
والجديد في هذا المعرض، ظهور الفن الشعبي يبدأه جمال السجيني وعبد الهادي الجزار على اختلافهما في البداية. والاتجاه الشعبي لم يطرق في مصر من قبل على أهميته كفن صادق الإحساس تنعكس فيه الفلسفة المصرية الساذجة والذوق الشعبي العام في الأداء. وهذا الاتجاه يفتح مجالاً واسعاً في اللون والتكوين، فهو يشمل كل الحياة المصرية ويخرج بالتصوير عن الدائرة الضيقة، دائرة رسم الوجوه والمناظر الخلوية والأزهار، التي ترى في كل معرض.
وتظل أعمال عبد السلام الشريف وأسعد مظهر، تسترعي الأنظار في كل معرض، فهما في الطريق الذي بدأه منذ أكثر من عشر سنوات، يتوخيان الموضوع الشعبي والأداء الجمالي الذي يقوم على الخطوط الزخرفية والمساحة اللونية في توافق يلائم كل لوحة؛ فالشريف يستغل ألوان الأقمشة في التعبير عن موضوعه بأسلوب الفن العربي في زخرفة الأقمشة، وأسعد مظهر يستعمل التطعيم بالخشب في أدائه.
وهناك في النحت نرى التطورات في أعمال كامل جاويش الذي بدأ يخرج من المذهب الدراسي البحت إلى الاهتمام بالكتلة والموضوع، على حين يظل عبد القادر مختار محافظاً على القيام بدراسة الرؤوس التي تعتبر المجال الوحيد لظهور براعته.
وجدير بالذكر، في الحديث عن معرض اتحاد خريجي الفنون الجميلة العليا، الجهود الكبيرة الموفقة التي بذلها الأستاذ أبو صالح الألفي رئيس الاتحاد في إقامة هذا المعرض وتنظيمه.
عباس خضر
البَريدُ الأَدَبِي
شهر المسابح
التحنث يعطي معنى التجريد؛ فليست العبادة طقوساً مصورة في السلوك الآلي، لكنها وصلة بين العيد وربه، وزلفى يتقرب بها ليكفر عن مساوئ سيئاته!
والإسلام دين يهذب الغريزة، ويطارد عربدة الشهوة، ويكسر الحدود التي يضعها الإثم في طريق انطلاق القلب إلى نور المعرفة!
وإن (رمضان) قد شرف بنزول القرآن؛ الذي أنزل ليصلح أوضاع البشر، ووضع الأمعاء في مخمصة الحرمان لإبعاد الاشتهاء؛ فامتلاء البطن مغر على الاشتهاء المعربد الطاغي المتمرد!
لكن الناس يفهمون العبادة على أنها مظاهر معروفة، وطقوس مألوفة، فهم يهجرون الهاجرة إلى الفراش اللين، ويقيلون ليقيلوا أنفسهم من جفاف الحلوق لحرقة الظمأ؛ ثم يصحون مع شحوب الشمس، ليؤدوا فريضة العصر على كره واستكراه! ويؤثرون قضاء الأصيل جالسين على قهوة، وقد أمسك كل واحد بمسبحته يعد عليها ما يخرجه اللسان من ذم في أعراض اللسان غير مراع إلا ولا ذمة!
يا محبي المسابح في رمضان!
عدوا حبات قلوبكم بالآية الكريمة، ودعوا حبات المسبحة لأن الشيطان يعدها لكم، فتودعون يومكم وداع الخيبة وسوء المنقلب!
يا محبي المسابح. . .
جردوا نفوسكم من أحقادها وقيدوا شهواتكم في أصفادها، وانظروا إلى الإيمان نظرة اليقين، وإليكم الكتاب الخالد تصفحوه وتفحصوه لتعارفوا معنى حب العابد للمعبود.
ليكن التسبيح في قلوبكم نجوى روحية؛ فتشرق عليكم الأنوار، وبذلك تتكشف لكم الأسرار؛ وتنكشف عنكم الأوزار!
أحمد عبد اللطيف بدر
رواية الشعر
أعجب الأستاذ علي العماري ممثل كاتب سوداني، وهو يصف التقاء النيلين الأبيض والأزرق عند المقرن؛ في نهاية مدينة الخرطوم الغربية البحرية، بهذين البيتين:
ولما التقينا قرب الشوق جهده
…
حبيبين فاضا لوعة وعتابا
كأن حبيباً في خلال حبيبه
…
تسرب أثناء العناق وغابا
والبيتان للشاعر المبدع المرحوم إسماعيل صبري باشا، وعنوانهما في ديوانه ص110 (العناق) وقد وضع الكاتب السوداني كلمة حبيبين مكان كلمة شجيين كما في الديوان! وقد رواهما المرحوم مصطفى صادق الرافعي في كتابه وحي القلم جـ3 على هذا النحو:
ولم التقينا قرب الشوق جهده
…
شجيين فاضا لوعة وعتابا
كأن صديقاً في خلال صديقه
…
تسرب أثناء العناق وذابا
وعلق عليهما الرافعي بقول: (على أني لا أستحسن قوله (كأن صديقاً)؛ فما هذا بعناق الأصدقاء، ولو كان الصديق راجعاً من سفرة الآخرة، وإذا غاب واحد في الآخر فالآخر حامل به! وقد أخذت أنا هذا المعنى منه، ولولاه ما اهتديت إليه فقلت في ذلك:
ولما التقينا ضمنا الحب ضمة
…
بها كل ما في مهجتنا من الحب
(وشد الهوى صدراً لصدر كأنما
…
يريد الهوى إنفاذ قلب إلى قلب)!
فانظر أيها القارئ الكريم إلى اختلاف الرواية في الشعر، وتصحيف الأبيات، وتحريف الكلمات مع قرب العهد بالشاعر، وسهولة الاطلاع على ديوانه! ولولا تحريف الرواية ما غمز الرافعي شاعرية صبري بذلك النقد اللاذع، وصبري مما نسب إليه براء!! فكيف بالشعر القديم؛ وقد تداولته الألسن، وتناولته الأزمان، وتناقلته الرواة؟
محمد محمود بكر هلال
في المركز الثقافي بالمنصورة:
. . يعيش المركز الثقافي بالمنصورة بمعزل عن الأدباء، وكان لذلك أثره المباشر في انصراف هؤلاء عن المركز لهذه الحال وقد حدث هذا العام أن أعمل المشرف الثقافي شأن المحاضرات ثم شاء آخر الأمر أن يتدارك هذا الإهمال، فقدم محاضراً في موضوع (حقوق المرأة السياسية) ولكن لم يحضر لسماع المحاضرة (اليتيمة) سوى ثلاثة أشخاص من بينهم
الأستاذ علي بك الهاكع مراقب عام المنطقة التعليمية الذي أشار على المسؤولين بتأجيل المحاضرة، وكان هذا هو رأي المحاضر أيضاً، لأنه رأى إهمال المشرف الثقافي في توجيه الدعوة للجمهور سبباً للاعتذار من عدم إلقاء المحاضرة!.
والعجيب أن المشرف لم يقدم طول العام سوى هذه المحاضرة بينما يقدم على المسرح الثقافي (عوالم الأفراح) يلقين المنلوجات المبتذلة، ويؤدين الرقصات الخليعة مما كان مثار الانتقاد اللاذع من الأستاذ أحمد الصاوي محمد بك في الأهرام!.
لقد انقضى هذا العام كما انقضى العام الماضي دون أن يكون للمركز نشاط أدبي. . ويبدو لي أن المشرف الثقافي يظن أن المركز ليس إلا مدرسة ليلية تقتصر على ما تلقنه للطلبة من دروس. .
فلعل الأستاذ الكبير الأنصاري بك مدير عام مؤسسة الثقافة الشعبية بعد هذه الكلمة الموجزة أن يصدر أمره بإجراء تحقيق لمعرفة الدواعي والأسباب التي دفعت بالمركز إلى هذه الحال المحزنة.
المنصورة
كمال رستم
1 -
سؤال
قرأت في سيرة المستشرق السر وليم جونس أنه لما كان في جامعة أكسفورد سنة 1768 استعان بأستاذ سوري على تعلم اللغة العربية فأتقنها وترجم منها المعلقات إلى اللغة الإنكليزية وغيرها من الكتب في المواريث وفق الشريعة الإسلامية الغراء. . فمن هو هذا الأستاذ السوري الذي كان في أكسفورد وقتذاك.
بغداد
عبد الخالق عبد الرحمن
القَصَصُ
من الماضي. .!
للكاتب الروسي أنطون تشيخوف
للأستاذ عبد القادر حسن حميدة
كان الجو في بداية أمره منعشاً هادئاً. . تنبعث خلال سكونه الحالم أغاريد طير (الأج) العذبة. . . والمستنقعات قد حفلت بأجسام ضئيلة حية ترسل أنات متحشرجة محزنة أشبه بفحيح الأفاعي. . . وانطلق طائر (البكاسين) فرددت الريح صدى دوي الرصاصة التي صوبت نحوه. . . بيد أنه حينما بدأت الظلمة الحالكة تنشر على الكون غلالتها السوداء.
هبت من ناحية الشرق ريح نفاذة. . . وغاص كل شيء في بحر من الصمت الرهيب. . . وعلت البركة طبقة متماسكة من الثلج. . . وإذا بالغابة كلها خالية مقفرة مخيفة. . .
لقد بدأت علامات الشتاء تظهر على محيا الزمن. .!!
وكان (إيفان فيلكوبولكني) عائداً إلى بيته بعد قضاء يوم مليء بالمغامرات والقنص - وهو ابن أمين مكتبة الكنيسة وطالب بالمجمع الكنائسي - وكانت أنامله قد أصابها شيء من التخدير ووجهه قد اتقد بهبات الريح. . وخيل إليه أن ذلك البرد الذي هبط فجأة. . قد أفسد على الأشياء رونقها. . وران على معالمها. . وأن الطبيعة ذاتها خامرها القلق. . وساورها الاضطراب. . وهذا علة ما شاهد من أن الحلكة قد بدأت تخيم على الأرض أسرع مما كانت عليه من قبل. . وكان كل ما يحيط به مهجوراً كئيباً. . ولم يكن ثمة بارق من الضوء يومض إلا في حدائق الأرامل - وكانت القرية. . وهي على بعد ثلاثة أميال - وكل ما يأخذ العين سابحاً في ضباب المساء البللوري. .
وتذكر الطالب أنه حين غادر بيته كانت أمه تفترش الأديم. عارية القدمين. تنظف وعاء الشاي. . وأبوه جالساً على مقربة من الموقد يعاني آلام السعال. . ولما كان اليوم هو الجمعة الحزينة لم يطبخوا شيئاً. . فاستشعر لذعات الجوع الهائل. . ثم تقلصت أعضاؤه. . ودار بخلده أن مثل هذه الموجات من البرد كانت قد اجتاحت أيام رادك وبطرس وإيفان الجبار. . وأن في زمانهم الفقر المدقع قد تفشى. . والجوع المهلك قد انتشر. . وكذلك نفس
السقوف التي صنعت من القش التي اتخذت منها الخروق والثقوب العديدة موطناً لها. . كما اتخذ الجهل والبؤس ونفس الحيرة والظلمة والضجر من الأهليين حقلاً خصيباً تنمو فيه يوماً بعد يوم. . لقد كان ذلك في عهدهم. . وحدث بلا مراء ولا جدال. . ثم تدور على أسطوانة الدهر ألف عام. . والحياة هي. هي لا يعتريها تقدم. . ولا تحسن. . .!!
وكان متقيناً إلى نفس الشاب أن يؤوب إلى بيته. .
ويرجع السبب إلى إطلاقهم على الحدائق اسم حدائق الأرامل أن أرملتين - أما وابنتها - كانتا قد آلتا على نفسيهما أن يتعهداها بالرعاية. . ويسهرا على شؤونها. .
وكانت هناك نار مضيئة ملتهبة. . وأصوات طقطقة صاخبة. . يحملها الأثير إلى مسافات كبيرة فوق الأرض المحروثة. . وكانت الأرمل فازيليا - وهي بدينة الجسم فارعة القامة - ترتدي سترة رجل واقفة إلى جانب النيران تحدق بعينين شاردتين. . تنطويان على التفكير العميق والرحلة إلى عالم غامض مبهم. . وكانت ابنتها ليكريا جالسة على الأرض تنظف الملاعق والصحاف، وهي امرأة ذات نظرة متبلدة فاترة قد انتشرت على وجهها آثار الجدري. . وكان واضحاً لدي أنهما قد فرغتا من تناول عشاؤهما. . منذ برهة. وكان صوت العمال يصل إلى آذاننا. . وهم يسقون جيادهم من النهر. .
واتجه الطالب صوب النار. . وقال:
- لقد عاود الشتاء كرته. مساء الخير. . .!!
فارتاعت فاريليا. . غير أنها تبينته لتوها. . فارتسمت على شفتيها ظلال ابتسامة رقيقة وقالت:
- إنني لم أعرفك. .! لتحرسك عناية الخالق الأكبر سوف تصيب ثراء واسعاً. .!
ثم أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث. .
كانت فاريليا. . ذات خبرة كبيرة. قد اختلطت بالطبقات العالية. . إذ كانت تعمل وصيفة. ثم مربية للأطفال. . فراحت تطرق باب الحديث بعصا اللباقة والرقة. . ولم تفارق شفتيها. . ابتسامة ناعمة دسمة. . أما ابنتها ليكريا فكانت ريفية قد ألهبها زوجها بسياط معاملته القاسية. . فسمرت نظراتها على وجه الطالب. . ولم تشرك نفسها بالحديث، وكانت تلوح على وجهها سمة كالتي تراها ضافية دائماً على الصم والبكم. .
وحرك الطالب يديه حول النار ينشد الدفء وهو يقول:
- لقد كان القديس بطرس يدفئ نفسه على مثل تلك النار. . فلا ريب إذن. أن الجو كانت تسوده البرودة آنذاك. . آه. . . لابد أنها كانت ليلة مروعة يا جدتي. .! ليلة طويلة مشؤومة لا محالة.!. . ثم ألقى ببصره إلى ما عقد حوله من نطاق الظلمة الدامسة وهز رأسه في تأثر بالغ وقال:
- لا شك أنك كنت تطالعين في الإنجيل ثنى عشر. .؟
فأجابت فازيليا: - أجل. .! لقد كنت أجيل الطرف خلال صفحاته. .
هل يعلق بذاكرتك أن بطرس قال في العشاء الأخير (إنني متأهب تمام الأهبة لأن أخوض برفقتك معمعة الظلمة والموت) فأجاب مولانا السيد (إنني أقول لك يا بطرس إنك ستشرك بي ثلاثا قبل أن تصيح الديكة وخرج يسوع) عقب العشاء إلى الحديقة. . ويوقد له نيران الموت وكان بطرس المسكين. . خامد النفس. . واهي القلب. . وعيناه مثقلتان. . فلم تصمدا أمام جيوش النعاس فهزمهما النوم. . ولقد أدركني أن يهوذا تقابل ويسوع في تلك نفسها. وأفشى أمره إلى مضطهديه. . وأنهم. . أدوا به إلى الكاهن الأكبر مغلولاً. . فضرب كثيراً. .!!
واستيقظ بطرس متثاقلاً وهو يتوقع أن الشيء الخطير المفزع سيحل بالأرض. . ولقد كان يحمل ليسوع الحب والتقدير الشديدين. . وهاهو ذا الآن يضرب على البعد.
. . وألقت ليكريا بالملاعق من يدها وأدارت بصرها إلى الطالب الذي استطرد في القول. .
- فلما انتهوا حيث دار الكاهن الأكبر راحوا يمطرون يسوع بوابل من الأسئلة المتزاحمة بيننا أشعل الرجال النار في الفناء يصطلون. . واندس بطرس بينهم يدفئ نفسه كشأني الآن هنا. . فرأته إحدى النساء. . فصاحت (لقد كان هذا مع يسوع. . أيسوع أيضاً؟) ومعنى ذلك أنه ينبغي أن يستجوب أيضاً. . ولابد أن جميع العمال قد نظروا إليه في ارتياب وحذر. . إذ أن الارتباك استولى عليه فقال (كلا. . إنني لست أعرفه) وما انصرمت فترة قصيرة الأمد حتى عرف شخص آخر أن هذا الرجل من تلاميذ يسوع فقال (إنك كذلك أحدهم) ولكن بطرس آثر الإنكار للمرة الثانية. . غير أن شخصاً ثالثاً تحول
إليه وقال (كيف هذا. ألم أشاهدكما معاً في الحديقة اليوم؟) فأصر بطرس على ألا يعترف للمرة الثالثة. . وفي تلك الآونة انبعثت صيحة الديك. . ونظر بطرس إلى يسوع على البعد. . واجتر في ذاكرته تلك الكلمات التي تفوه بها في المساء إذ قال له (إنك ستشرك بي ثلاثاً قبل أن تصيح الديكة) وعندما استعاد في ذاكرته هذا. . عرته رجفة من الألم الممض. . وزايل الحديقة. . وأرخى العنان لمقلتيه. . تذرف الدمع الحار. . والإنجيل يقول (لقد انصرف والدمع السخين يهطل من عينيه مدرارا). .
إنني لألمس ذلك الآن واضحاً جلياً. . فها هي ذي الحديقة يطويها الظلام. . ويخيم على أرجائها السكون. . .
وفي ذلك الهدوء الشامل اختنق صوته بالعبرات. . حتى وقف الكلام في حلقه. .
وتنهد الطالب تنهداً عميقاً. . وسرح ببصره في متاهات التفكير. . وكانت فازيليا لا زالت على شفتيها الابتسامة المشرقة. . بيد أنها غصت بريقها بغتة. . وانحدرت الدموع على وجنتيها المتوردتين وكأنما أخجلها أن تبكي فوارت وجهها بطرف ثوبها. . أما ليكريا فكانت عيناها تحملقان في الطالب في نهم وشراهة. . فتصاعد الدم إلى وجهها. . وبدت على سحنتها علامات التبرم. . كأنما تقاسي ضيقاً مؤلماً. . .
وانقلب العمال راجعين من النهر. . بعد أن أطفئوا ظمأ خيلهم. . ومر واحد منهم على الدار ممتطياً صهوة جواده. . بينما الأضواء تترنح على جسمه. . فحيا الطالب الأرملتين. . وودعهما. . وطواه الليل برداء الظلام مرة أخرى. . وسرى التخدر في أنامله. . وكانت الريح تعصف وتهب. . حتى كأن الشتاء قد عاد حقيقة. . ولم يكن هناك من الدلائل ما يوحي بأن شمس العيد ستشرق في الصباح الباكر!
وفي تلك اللحظة كانت خواطر الطالب منصرفة إلى فازيليا (لا ريب أن نشيجها هذا له صلة بما وقع لبطرس في الليلة التي طويت قبيل صلب المسيح. وأرسل إشعاعات من بصره على ما حوله وكان الضوء لا يزال يلمع في بهمة الليل. . بيد أنه كان وحيداً. . ولم يكن بجانبه آدمي ما. . وأجهد الطالب فكره ثانية. . في أنه ما دامت فازيليا قد بكت. . وما دامت ابنتها قد اضطربت فلا ريب أن ذلك حدث منذ تسعة عشر قرناً. . والذي أفضى بحديثه الآن. . لاشك أن هناك خيوطاً قوية. . تربط ذلك الشيء بالحاضر. . بهاتين
المرأتي،. . بالقرية الرابضة في الخلاء. . بنفسه. بالعالم كله!
لقد أجهشت تلك المرأة العجوز بالبكاء. . لا لأنه عرف كيف يروي عليها القصة. . بأسلوب له عمل السحر في النفس. . وإنما لأن بطرس. . متصل بها. . قريب منها. . ولأن ما ساور دخيلته قد هز كيانها. . واستحوذ على مشاعرها. . .
وطغت عليه موجة من المرح بغتة. . فوقف. . ليتنفس وفكر هنيهة. . قائلاً:
- ألا إن الماضي لمتماسك بالحاضر. . بحلقات من الحوادث تربط بعضها بعضاً.! وخيل إليه أنه أدرك كنه هذه الحلقات. . إنه حين يقبض على حلقة تتحرك الأخرى. . .
ثم خاض النهر في أحد القوارب. . وصعد إلى التل. . ووقف يرنو عبر قريته ثم إلى الغرب حيث يلوح في الأفق البعيد خيط واه من النور خلفته الشمس الحمراء. .
وظن أن الجمال المبدع. . والحق الخالد. . اللذين قادا ركب البشرية المواج. . هنالك في الحديقة. . وفي فناء الكاهن الأكبر،. ما زالا على جبروتهما حتى الساعة. . بل إنهما أحوج ما تكون إليه الإنسانية. . وذلك العالم الأرضي!
وبدأ يستشعر شيئاً فشيئاً. . بالحيوية. . والقوة وذلك الانتظار الحلو للسعادة - وهو انتظار لا يمكن الإحاطة بكنهه - ترقب لسعادة مجهولة غريبة. . وانقشعت السحب من أمام عينيه. . فبدت الحياة رائعة. . زاخرة بشتى المعاني النبيلة. . .
عبد القادر حسين حميدة