الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 937
- بتاريخ: 18 - 06 - 1951
للأزهر رسالة. . . ولكنه لا يؤديها.
. .
للأستاذ سيد قطب
هذا المعهد العظيم العريق، الذي قام حارساً على الثقافة العربية، والثقافة الإسلامية، زهاء ألف عام. . لم ينته دوره بعد، ولم تكمل رسالته. ودوره الذي ينتظره كبير، ورسالته التي تناديه ضخمة.
ولكنه لا يؤديها. . .!
لقد أدى الأزهر دوره في تلك الأجيال المتعاقبة التي انحسر فيها المد الإسلامي، ووقف جريانه؛ وانطوى فيها العالم الإسلامي على نفسه وانزوي عن الركب المندفع إلى الأمام، وراح يجتر ما أنبتته النهضة وما خلفته، فيستهلكه ولا يزيد عليه.
أدى الأزهر دوره في هذه الحقبة فوقف حارساً على ذلك التراث، يؤدي وظيفة الحارس ولا يضيف للتراث شيئاً بذكر، ولم تكن هذه بالمهمة الهينة في ذلك الأوان، ولا بالقليلة القيمة في تاريخ الشعوب.
ولكن هذه الحقبة قد انقضى أمرها - والحمد لله - ودبت اليقظة في العالم الإسلامي من جديد. وتطلع فإذا قرون مضت وقرون؛ وإذا هو متخلف في حقول شتى؛ وإذا هو يريد وصل ما انقطع، ويعتزم أن يتخذ له مكاناً في القافلة، ليس في ذيلها على وجه اليقين.
وتلفت الأزهر فإذا هو حيث هو، والقافلة كلها تسير. وعز على الأزهر أن يقف وحده، فإذا هويهم، ولكنه فيما يبدو منه حتى اليوم، لم يدرك أين مكانه، ولم يعرف لنفسه قدرها. إنه يحاول أن يتجدد، ولكن على طريقة التقليد. إنه يريد أن يلحق، ولكن ليلهث وراء القافلة؟، لا ليأخذ بزمامها ويوجهها وإني لأعيذ الأزهر العظيم أن يكون في ذلك الموقف المهين إن رسالة الأزهر اليوم ليست مجرد العكوف على الحواشي والشروح والتنبيهات والاعتراضات. وليست كذلك المحاكاة لبعض المعاهد والكليات الجامعية باسم التجدد. فكلتاهما هي اللدنية بالقياس إلى رسالة الأزهر الحقيقة.
إن رسالة الأزهر اليوم رسالة إنشائية إبداعية، لا تفسيرية ولا تقليدية. رسالة خلق وبناء وكفاح. رسالة بعث للفكرة الإسلامية وللنهضة الإسلامية.
إن العالم اليوم تسيره نظريات فكرية واجتماعية معينة: الاشتراكية تغلب في الغرب،
والشرعية تغلب في الشرق. ونحن في مصر وفي العالم الإسلامي نلهث في اللحاق بإحداهما، يجذبنا البريق من هنا ومن هناك، ولا يجذبنا البريق من هنا ومن هناك، ولا وجهة لنا مقررة، ولا فكرة لنا مستنيرة.
والجامعة والمدرسة، والجماهير والدولة، كلها تلهث.
وكلها تركض، وكلها مبهورة الأنفاس والمشاعر، لاعن خيرة ولاعن بصيرة، ولكنه البهر والتلاشي والدوار!
. . هنا تتعين رسالة الأزهر، رسالته التي يجب أن يدركها، وأن يؤمن بها، وأن يؤديها حق الأداء
إن للإسلام فكرة مستقلة معينة عن الحياة. فكرة كلية تمد فروعها إلى كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية الكثيرة. وإن للإسلام رأياً في الشعور والسلوك، في العبادة والعمل، في الاقتصاد، والاجتماع، في سياسة الحكم وسياسة المال، في سياسة الدولة الخارجية والداخلية. . . في كل باب من أبواب النشاط الإنساني في كل اتجاه.
ورسالة الأزهر الأولى هي أن يعكف على استخلاص هذه الفكرة الكلية، وعلى تنميتها بالبحوث والدراسات في كل حقل من حقول المعرفة، وعلى إعدادها للتطبيق العملي في واقع الحياة اليومية الحاضرة، ثم على الدعوة إليها في النهاية بعد هذه الخطوات.
رسالة الأزهر الأولى أن ينشئ ثقافة إسلامية كاملة مستمدة من الأصول الأولى للإسلام، ومن الحياة النامية المتجددة في كل آن. . هذه الثقافة لن يجدها الأزهر في الحواشي والشروح والتنبيهات والاعتراضات، أو قد يجدها ولكن في حاجة إلى أن تعرض بأسلوب العصر وطريقته، وأن تنمى بالدراسات والإضافات، كي تصبح في متناول الجماهير كلها، وفي حقول الثقافة جميعها.
ليست وظيفة الأزهر أن يقف بين الحين والحين لينادي بتدريس الدين في المدارس على أن يتولى تدريسه والتفتيش عليه رجال الأزهر كما يقول دائماً! وليست وظيفته أن يقف بين الحين والحين ليطالب برد المجالس الحسبية إلى سلطة القضاء الشرعي. وليست وظيفته أن ينادي بالويل والثبور على انحطاط الأخلاق وانتهاك الحرمات.
إنها مجرد صيحات تقليدية صغيرة لا تلقى إلا الهزؤ والزراية من الدولة ومن الناس.
أين هي الثقافة الإسلامية التي يريد الأزهر أن تدرس بالمدارس؟ إن كان يعني تلك الحواشي والشروح التي ثمرتها حقب الانطواء والاجترار، فتلك كفيلة أن تذهب بالتلاميذ إلى الكفر أو البلبلة! وإن كان يعني مجرد حفظ سور من القرآن وشئ من الأحكام الفقهية في العبادات، فألوف وألوف يحفظون القرآن كله ويعرفون تلك الأحكام، والإسلام بعد ذلك مهمل لا يعرفه الأكثرون.
إنه ينبغي أن توجد أولا ثقافة إسلامية. ثقافة حقيقية واضحة حية، مطبقة على واقع الحياة الحاضر، تتناول مشكلات الحياة الفردية والاجتماعية القائمة بالبحث، وتوجد لها الحلول، ويومئذ ستزحف هذه الثقافة بذاتها إلى المدارس وإلى المجتمعات، ستزحف بحكم أنها ثقافة حية، لا بحكم أن طائفة تنفع أولا تنتفع بتقريرها في المدارس والمحاكم والدواوين! وتلك هي سنة الحياة.
ما أرى الإسلام في العمل والأجور؟ ما رأيه في توزيع الملكيات والثروات؟ ما رأيه في علاقة الفرد بالدولة، وعلاقة الدولة بالفرد؟ ما رأيه في سياسة الدولة الخارجية وفي المجتمعات الدولية؟ ما رأيه في الجريمة والعقوبة؟ ما رأيه في المعاملات المالية والاقتصادية؟ ما رأيه في طرق الحكم ونظام الإدارة؟ ما رأيه في خلق الكون وناموس الحياة؟
إن للإسلام لرأيا في حقل من هذه الحقول. وحول هذه الآراء يمكن أن تنهض ثقافة متشعبة الفروع، متشابكة الأصول، تواجه فلسفات الشرق وفلسفات الغرب، وتعلن عن وجودها العالمي في هذا المضمار.
والأزهر هو الذي يجب أن يمثل هذه الثقافة، فيكون مهبطها الذي تطلب فيه، وتكون موضوعه الذي يعالجه، وعندئذ يقال: هذه فكرة الإسلام وهذه فكرة الثقافة الغربية.
وعندئذ يمكن أن تنهض الأحزاب لتمثل فكرة في الحياة ونظاماً في المجتمع، ولتضع برامجها في ظل هذه الفكرة أن تلك، وللشعب بعدها أن يختار. يختار على أسس واضحة معروفة له، لا مدسوسة في بطون الكتب الصفر، نائمة منذ ألف عام!
وعندئذ يمكن أن يقوم الحكم على أساس هذه الفكرة، فيحققها في كل حقل من حقول الحياة، لا في تلك الجزئيات التي يطالب بها الأزهر في بعض الأحيان، فتذهب صيحته في
الهواء!
وهناك عمل جبار ينتظر الأزهر. . هناك تنمية التشريع الإسلامي الذي وقف ألف عام، ليساير حاجات الحياة كافة ميادين الحياة: في العقوبات والمعاملات، في التجارة والملاحة، في السياسة والحكم، في علاقات الأفراد والجماعات وهناك إعادة كتابة التاريخ - التاريخ الذي نتلقفه من أفواه أجنبية، مصوغا في ظل فلسفات تناقض فكرة الإسلام عن الحياة - لنكتبه من زاوية النظر الإسلامية إلى الحياة وإلى الحوادث، وإلى القوى التي تعمل في ظاهر الكون وباطنه على السواء.
وهناك اللغة العربية وآدابها وتراثها، مدروسة بعقلية إسلامية، مسلطاً عليها ضوء الفكرة الإسلامية. وما من شك في أننا نتلقى هذه الدراسات اليوم من أيدي المستشرقين، متأثرة - لا أقول بكيد المستشرقين للإسلام - ولكن على أقل تقدير البشرية، وتأثيراتهم الخاصة ببيئات لا يتفق جوها مع جو الإسلام.
إن الحياة الإنسانية وعرة، وإن الإنسان ليعيش بمجموعة نفسه وكيانه، فلا يمكن فصل فلسفته الفكرية عن مشاعره، ولا يمكن فصل شعوره عن سلوكه، ولا يمكن فصل يلوكه عما توحي به الثقافات والأحداث.
وحين نريد أن يكون لنا وجود مستقل يشعر به الآخرون يجب أن تكون لنا فكرة خاصة عن الحياة، ونظم مستمدة من هذه الفكرة، وثقافات تنبع منها وتنميها. ولن يكون معنى هذا هو العزلة الفكرية والثقافة؛ ولكن سيكون معناه أن تكون لنا بيئة حية تنتفع بالغذاء والشراب من كل حقل ومن كل ينبوع، وألا نكون جثة ميتة موشاة بالرقع من جميع الألوان والشياط!
ترى يعرف الأزهر واجبه، وينهض برسالته؟
إن أملي كبير لا في الجيل الذي شاخ في الأزهر، ولكن في جيل الشباب.
سيد قطب
في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
ضرر رواية الحديث بالمعنى للدين:
لما كانت أحاديث النبي (ص) قد جاء نقلها بالمعنى - كما بينا من قبل - وأنهم قد أباحوا لرواتها أن يزيدوا فيها، ويختصروا منها، وأن يقوموا ويؤخروا في ألفاظها - بله ما صوغوه من قبول الملحون منها - لما كان الأمر قد جرى على ذلك، فقد نشأ منه ولا جرم - وبخاصة بسبب نقل الحديث بالمعنى - ضرر عظيم قال العلامة الجزائري في توجيه النظر.
(بعد البحث والتتبع تبين أن كثيراً ممن روى بالمعنى قد قصر في الأداء، ولذلك قال بعضهم: ينبغي سد باب الرواية بالمعنى لئلا يتسلط من لا يحسن، ممن يظن أنه يحسن، كما وقع لكثير من الرواة قديماً وحديثاً. وقد نشأ عن الرواية بالمعنى ضرر عظيم حتى عد من جملة أسباب اختلاف الأمة. قال بعض المؤلفين في ذلك في مقدمة كتابه: إن الخلاف قد عرض للأمة من ثمانية أوجه، وجميع وجوه الخلاف متولدة منها ومتفرعة عنها (الأول) منها اشتراك الألفاظ واحتمالها للتأويلات الكثيرة (الثاني) الحقيقة والمجاز (الثالث) الإفراد والتركيب (الرابع) الخصوص والعموم (الخامس) الرواية والنقل (السادس) الاجتهاد فيما لا نص فيه (السابع) الناسخ والمنسوخ (الثامن) الإباحة والتوسيع. وقال في باب الخلاف العرض من جهة الرواية والنقل: هذا الباب لا تتم الفائدة التي قصدناها منه إلا بمعرفة العلل التي تعرض للحديث فتحيل معناه، فربما أوهمت فيه معارضة بعض لبعض وربما ولدت فيه إشكالاً يحوج العلماء إلى طلب التأويل البعيد، فاعلم أن الحديث المأثور عن رسول الله (ص) وعن أصحابه والتابعين لهم، تعرض له ثماني علل، أولها فساد الإسناد، والثانية من جهة نقل الحديث على معناه دون لفظه، والثالثة من الجهل بالإعراب، والرابعة من جهة التصحيف، والخامسة من جهة إسقاط شئ من الحديث لا يتم المعنى إلا به، والسادسة أن ينقل المحدث الحديث ويغفل السبب الموجب له، أو بسط الأمر الذي جر ذكره، والسابعة أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه، والثامنة نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ.
وقد أحببنا أن تقصر مما ذكر على أمس مما نحن بصدده (العلة الأولى) وهي فساد الإسناد. وهذه العلة هي أشهر العلل عند الناس حتى أن كثيراً منهم يتوهم أنه إذا صح الإسناد صح الحديث! وليس كذلك فإنه قد يتفق أنيكون رواة الحديث مشهورين بالعدالة معروفين بصحة الدين والأمانة غير مطعون عليهم ولا مستراب بنقلهم ويعرض مع ذلك لأحاديثهم أعراض على وجوه شتى من غير قصد منهم إلى ذلك. والإسناد يعرض له الفساد من أوجه شتى من غير قصد منهم إلى ذلك. والإسناد يعرض له الفساد من أوجه: منها الإرسال وعدم الاتصال، ومنها أن يكون بعض رواته صاحب بدعة أو منهما بكذب وقلة ثقة، أو مشهوراً ببله وغفلة، أو يكون متعصباً ثم الصحابة منحرفاً عن بعضهم، فإن كان مشهوراً بالتعصب ثم روى حديثاً في تفصيل من يتعصب له ولم يرد من غير طريقة لزم أن يستراب به، وذلك أن إفراط عصبية الإنسان لمن يتعصب له وشدة محبته يحمله على افتعال الحديث وإن لم يفتعله بدله غير بعض حروفه. ومما يبعث على الإسترابة بنقل الناقل أن يعلم منه حرص على الدنيا وتهافت على الاتصال بالملوك ونيل المكانة والحظوة عندهم. فإن من كان بهذه الصفة لم يؤمن عليه التغير والتبديل والافتعال للحديث والكذب حرصاً على مكسب يحصل عليه.
وقد روى أن قوما من الفرس واليهود وغيرهم لما رأوا الإسلام قد ظهر وعم، ودوخ وأذل جميع الأمم، ورأوا أنه لا سبيل إلى مناسبته رجعوا إلى الحيلة والمكيدة فأظهروا الإسلام من غير رغبة فيه، وأخذوا أنفسهم بالتعبد والتقشف. فلما حمد الناس طريقتهم ولدوا الأحاديث والمقالات وفرقوا الناس فرقاً. وإذا كان عمر بن الخطاب يتشدد في الحديث ويتوعد عليه والزمان زمان والصحابة متوافرون، والبدع لم تظهر والناس في القرن الذي أثنى عليه رسول الله (ص)، فما ظنك بالحال في الأزمنة التي ذمها وقد كثرت البدع وقلت الأمانة. . .
(العلة الثانية) وهي نقل الحديث على المعنى دون اللفظ بعينه، وهذا باب يعظم الغلط فيه جدا، وقد نشأت منه بين الناس شعوب شنيعة، وذاك أن أكثر المحدثين لا يراعون ألفاظ النبي (ص) التي نطق بها، وإنما ينقلون إلى من بعدهم معنى ما أراده بألفاظ أخرى، ولذلك الحديث الواحد في المعنى الواحد يرد بألفاظ شتى ولغات مختلفة يزيد بعض ألفاظها على
بعض. . . ووجه الغلط الواقع من هذه الجهة أن الناس يتفاضلون في صورهم وألوانهم وغي ذلك من أمورهم وأحوالهم فربما اتفق أن يسمع الراوي الحديث من النبي (ص) أو من غيره فيصور معناه في نفسه على غير الجهة التي أرادها، وإذا عبر عن ذلك المعنى الذي تصور في نفسه بألفاظ أخر كان قد حدث بخلاف ما سمع من غير قصد منه إلى ذلك، وذلك أن الكلام الواحد قد يحتمل معنيين وثلاثة، وقد تكون فيه اللفظة المشتركة التي تقع على الشيء؛ وضده ففي مثل هذا يجوز أن يذهب النبي (ص) إلى المعنى الواحد، ويذهب الراوي عنه إلى المعنى الآخر، فإذا أدى معنى ما سمع دون لفظه بعينه كان قد روى عنه ضد ما أراده غير عامد، ولو أدى لفظه بعينه لأوشك أن يفهم منه الآخر ما لم يفهم الأول، وقد علم (ص) أن هذا سيعرض بعده فقال محذرا من ذلك (نصر الله امرأ سمع مقالتي وأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع) هـ.
وإن أحببت أن تعرف مقدار ما قد تؤدي إليه الرواية بالمعنى فسيكفيك أن تنظر في الحديث الذي انفرد بإخراجه مسلم في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم قال: حديثاً الأوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه فقال: صليت خلف النبي (ص) وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها. ثم رواه من رواية الوليد عن الأوزاعي أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنسا يذكر ذلك. وروى مالك في الموطأ عن حميد عن أنس قال: صليت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وزاد فيه الوليد بن مسلم عن مالك: صليت خلف رسول الله (ص) وقد أعل بعض المحدثين الحديث المذكور وقالوا: إن من رواه باللفظ المذكور قد رواه بالمعنى الذي وقع في نفسه، فإنه فهم من قول أنس: كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، أنهم كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فرواه على ما فهم وأخطأ، لأن مراد أنس بيان. . أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة، وليس مراده بذلك أنهم كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم! فانظر إلى ما أدت إليه الرواية بالمعنى على قول هؤلاء حتى نشأ بذلك من الاختلاف في هذا الأمر المهم ما لا يخفي على ناظره. وقال ابن الصلاح في الأحاديث الواردة في الصحيح المتعلقة بدخول الجنة بمجرد الشهادة مثل حديث: من مات وهو يعلم
أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، وحديث: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول حرم الله عليه النار، وحديث لا يشهد أحد أنه لا إله إلا اله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه: يجوز أن يكون ذلك اقتصاراً من بعض الرواة نشأ من تقصيره في الحفظ والضبط لا من رسول الله (ص) بدلالة مجيئه تاماً في رواية غيره، ويجوز أن يكون اختصار من رسول الله فيما خاطب به الكفار عبدة الأوثان الذين كان توحيدهم لله مصحوباً بسائر ما يتوقف عليه الإسلام ومستلزماً له.
واعلم أن الرواية بالمعنى قد أحس بضررها كثير من العلماء وشكوا منها على اختلاف علومهم، غير أن معظم ضررها كان في الحديث والفقه لعظيم أمرهما. وقد نسب لكثير من العلماء الأعلام أقوال بعيدة عن السداد جداً اتخذها كثير من خصومهم ذريعة للطعن فيهم والإزراء بهم ثم تبين بعد البحث الشديد والتتبع أنهم لم يقولوا بها، وإنما نشأت نسبتها إليهم من أقوال رواها الراوي عنهم بالمعنى فقصر في التعبير عما قالوه فكان من ذلك ما كان. .
وقد تعرض العلامة التحرير نجم الدين أحمد حمدان الحراني الحنبلي للضرر الذي نشأ من الرواية بالمعنى في مذهبه فقال في آخر كتاب صفة المفتي في باب جعله لبيان عيوب التأليف وغير ذلك ليعرف المفتي كيف يتصرف في المنقول، ويقف على مراد القائل بما يقول، ليصح نقله للمذهب، وعزوه إلى الإمام أو إلى بعض من إليه ينسب (اعلم أن أعظم المحاذير في التأليف النقلي إهمال نقل الألفاظ بأعيانها والاكتفاء بنقل المعاني مع قصور الناقل عن استيفاء مراد المتكلم الأول بلفظه، وربما كانت بقية الأسباب مفرعة عنه، لأن القطع بحصول مراد المتكلم بكلامه أو الكاتب بكتابته مع ثقة الراوي تتوقف على انتفاء الإضمار والتخصيص والنسخ والتقديم والتأجير والاشتراك والتجوز والتقدير والنقل والعرض العقلي، فكل نقل لا يؤمن معه حصول بعض الأسباب لانقطع بانتفائها نحن ولا الناقل، ولا يظن عدمها ولا قرينة تنفيها ولا نجزم فيه بمراد المتكلم، بل ربما ظنناه أو توهمناه - ولو نقل لفظه بعينه وقرائنه وتاريخه وأسابه انتفي هذا المحذور أو أكثره. .)
ضرر الرواية بالمعنى من الناحية اللغوية والبلاغية:
هذا بعض ما قالوه في ضرر رواية الحديث بالمعنى في الأمور الدينية، أما ضررها من ناحية اللغة والبلاغة فقد بينه نابغة الأدب وحجة العرب مصطفى صادق الرافعي بقوله
رحمه الله.
(ليس كل ما يروى على أنه حديث يكون من كلام النبي (ص) بألفاظه وعبارته، بل من الأحاديث ما يروى بالمعنى فتكون ألفاظه أو بعضها لمن أسندت إليه في النقل، ولجواز الرواية بالمعنى لم يستشهد سيبويه وغيره من أئمة المصرين على النحو واللغة بالحديث واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب. ولو كان التدوين شائعاً في الصدر الأول وتيسر لهم أن يدونوا كل ما سمعوه من النبي (ص) بألفاظه وصوغه وبيانه لكان لهذه اللغة شأن غير شأنها؛ (ذلك بأن) ألفاظ النبوة يعمرها قلب متصل بجلال خالقه، ويصقلها لسان نزل عليه القرآن بحقائقه، فهي إن لم تكن من الوحي ولكنها جاءت من سبيله، وإن لم يكن لها منه دليل فقد كانت هي من دليله).
المنصورة
للكلام صلة
محمود أبو رية
عقيدتي
للفيلسوف الإنجليزي المعاصر برتر ان ندرسل
ترجمة الأديب عبد الجليل السيد حسن
الفصل الثاني
الحياة السعيدة
لقد كان يوجد في أزمان متباينة وبين شعوب متباينة، تصورات مختلفة عن الحياة السعيدة. وكانت الاختلافات - إلى مدى محدود - تنقاد إلى الحجة، وذلك حينما يختلف الناس بصدد الوسائل التي يبلغون بها غاية مقصودة؛ فالبعض يظن أن السجن نهيج قويم للقضاء على الجريمة، وآخرون يعتقدون أن التربية أقوم منه. ومثل هذا الاختلاف يمكن فضه بدليل كاف، ولكن بعض الاختلافات لا يمكن أن تختبر بمثل هذه الطريقة؛ فإن (تولستوي) يحمل على جميع أنواع الحروب؛ ويعتقد آخرون أن حياة الجندي الذي يخوض المعارك من أجل الحق في غاية النبل. ومن الممكن في هذا المقام وقوع اختلاف جوهري متشابك بالنسبة للغايات عند كل منهم، فهؤلاء الذين يثنون عادة على الجندي يعتبرون عقاب الخاطئين خير في ذاته، وتولستوي لا يوافق على ذلك. وفي مثل هذا المجال لا يحتمل الجدال. ولذلك فلن أستطيع أن أجزم بأن نظرتي عن الحياة السعيدة هي الصواب، ولكن أستطيع فقط أن أطرح نظرتي وآمل أن يوافق عليها كثيرون بقدر المستطاع، أما نظرتي فها هي ذي:
(إن الحياة السعيدة هي الحياة التي يوحيها الحب وتهديها المعرفة).
وكل من المعرفة والحب غير محدود المدى؛ ولذلك فإن أية حياة سعيدة يمكن أن تتخيل حياة أسعد منها. وليس الحب بدون المعرفة أو المعرفة بدون الحب بجالب الحياة السعيدة؛ ففي العصور الوسطى كان رجال الدين حينما يظهر وباء في أحد البلاد، ينصحون السكان بالتجمع في الكنائس والدعاء للنجاء؛ وكانت النتيجة أن تنتشر العدوى بسرعة غريبة بين حشود الضارعين، وكان ذلك مثلا للحب بدون معرفة. أما الحرب الأخيرة (بقصد الحرب العالمية الأولى) فقد قدمت خير مثال للمعرفة بدون حب. وفي كلا الحالين كانت النتيجة انتشار الهلاك على نطاق واسع.
ومع أن كلاً من المعرفة والحب ضروري؛ إلا أن الحب بمعنى من المعاني أكثر أهمية لأنه يدفع بالأذكياء من الناس إلى البحث عن المعرفة، حتى يعرفوا كيف يفيدون من يحبون، ولكن إذا لم يكونوا بالأذكياء فإنهم سيقنعون بتصديق ما قيل لهم (منذ الصغر) وقد يرتكبون بذلك ضرراً رغماً عن حبهم الصادق للخير. ولعل الطب هو الذي يقدم خير مثال لما أعني؛ فإن الطبيب القدير أنفع للمريض من أعز أصدقائه. والتقدم في المعرفة الطبية يحسن إلى صحة المجموع أكثر من محب دعا الإنسانية، ومع ذلك فإن عنصر (حب الخير) ضروري حتى في حالة الاكتشافات العلمية التي لا يستفيد منها إلا الأغنياء.
والحب نقطة تندرج تحتها ضروب من المشاعر، وقد استعملتها هادفاً إلى ذلك لأني أقصد شمولها كلها. والحب كعاطفة - وهي تلك التي أتكلم عنها لأن الحب يبدو لي أنه أصلي خالص - تتذبذب بين قطبين: في أولهما، السرور المحض في التأمل، وفي ثانيهما حب الخير المحض والسرور لا يتدخل قط إلا حينما يتعلق الأمر بالموضوعات الجامدة، فلا يمكن أن تشعر بحب الخير إزاء منظر طبيعي أو قطعة موسيقية. ومن المحتمل أن يكون هذا النمط من السرور هو مصدر الفن، وهذا أقوى عند الأطفال منه عند البالغين الذين تعودوا أن يتناولوا الموضوعات بروح المنفعة التي تلعب دوراً هاماً في التأثير على مشاعرنا، تجاه الكائنات البشرية: فبعضهم ساحر فتان، وبعضهم على الضد من ذلك، حينما يعتبرون كموضوعات لتأمل الجمال فقط.
والقطب الآخر من الحب هو الخير المحض. فهناك رجال قد وقفوا حياتهم على مساعدة المجذومين، فالحب الذي يشعرون به في مثل هذه الحالة ليس فيه أي عنصر من السرور الجمالي.
والعاطفة الأبوية يصحبها البشر حين يشرق الطفل، ولكنها تبقى قوية حين يغيب هذا العنصر تماماُ. ومن الشاذ أن نسمي عناية الأم بالطفل المريض (عاطفة حب الخير) لأننا نكون تسعة أعشار مدعين في تعودنا استعمال هذه اللفظة لنصف بها عاطفة باهته. ومع ذلك فمن الصعب أن تجد كلمة لتصف بها الرغبة في سعادة شخص آخر. وحقيقة أن رغبة من هذا النوع قد تبلغ أعظم درجة من الشدة في حالة الشعور الأبوي. وفي الحالات الأخرى تكون أقل شدة. وفي الحقيقة يبدو أنه من المحتمل أن كل عاطفة إيثارية هي
نوع من فيضان (غمرة) الشعور الأبوي، أو في بعض الأحيان هي إعلاء له. وللافتقار إلى كلمة أصلح سأسمي هذه العاطفة (عاطفة حب الخير) ولكني أريد أن أوضح أني إنما أتحدث عن عاطفة لا عن قاعدة، وإني لا أدرج تحتها أي شعور بالسمو، كهذا الذي يقترن بالكلمة أحياناً. وكلمة (المشاركة الوجدانية) تعبر عن جزء مما أعنيه، ولكنها تترك عنصر الحيوية الذي أود أن أشمله.
والحب في أكمل مظاهره رباط وثيق بين عنصري السرور وتمني الخير، وسرور الأب بالطفل الجميل المفلح، يتضمن كلا العنصرين. كذلك يفعل الحب الجنسي في أرقى صوره؛ ولكن في حالة الحب الجنسي لن توجد عاطفة حب الخير إلا حينما توجد ملكية مضمونة، وإلا ستعصف به الغيرة، في حين إلا حين أنها ربما تزيد السرور في حالة التأمل، والسرور بدون تمني الخير قد يكون قاسياً، وتمني الخير بدون السرور يصبح بارداً وقليل السمو. والشخص الذي يرغب أو يود أن يكون محبوباً، يرغب كذلك أن يكون موضوعاً أو يود أن يكون محبوباً، يرغب كذلك أن يكون موضوعاً لحب يشتمل كلا العنصرين، ما عدا حالات الضعف القصوى، كما في الطفولة والمرض الشديد، ففي هذه الحالات قد يكون (عاطفة حب الخير) هو كل ما يرغب فيه، وعلى العكس من ذلك في حالات القوة القصوى يستحب الإعجاب أكثر من حب الخير، وهذه هي حالة الاحتفال بأصحاب الحول والطول، والغانيات المشهورات؛ ونحن نرغب فقط في تمنيات الغير الطيبة، حينما نشعر أنا في حاجة إلى مساعدتهم أو في خطر من أذاهم، وعلى الأقل يبدو أن ذلك هو المنطق البيولوجي للموقف، ولكنه ليس صادقاً كل الصدق بالنسبة للحياة، فنحن ننشد الود لكي نهرب من الشعور بالوحدة، ولنكون - كما نقول - (مفهومين). وهذا هو أهمية المشاركة الوجدانية، وليس فقط عاطفة حب الخير؛ فالشخص الذي يرضينا وده، لا يجب أن يتمنى لنا الخير فقط، بل يجب أن يعرف في أي شئ تكمن سعادتنا، ولكن هذا ينتمي إلى العنصر الآخر من الحياة السعيدة، وأعني به عنصر المعرفة.
في عالم كامل، سيكون كل كائن حساس، موضوع حب عميق للآخر متآلف من السرور وعاطفة حب الخير والفهم. كل ذلك مختلط بصورة معقدة، ولا يعني ذلك أنه يجب علينا - في هذا العالم الواقعي - أن نجهد في الحصول على مثل هذه الاحساسات تجاه كل الكائنات
الحساسة التي نصطدم بها؛ فمنها كثيرون لا نستطيع أن نحس نحوهم شيئاً من السرور، إذ يتقزز منهم بطبيعتهم. وإذا أرغمنا أنفسنا بمحاولة رؤية أي جمال، فإنا نبلد بذلك احساساتنا نحو ما نجده جميلاً حقيقة. وقد لا نعني بذلك الكائنات البشرية فهناك البراغيث والقمل والبق، فإنه لحتم علينا أن نكره أنفسنا بشدة كالبحارة القدماء قبل أن نشعر بالسرور من تأمل هذه المخلوقات. وبعض القديسين - وهذا ثابت فعلاً - قد دعاها (لآلئ الله) ولكن ما كان يسر به هؤلاء الرجال هو فرصة إظهار قداستهم فقط.
من السهل اتساع دائرة حب الخير ولكن إلى حدود معينة. فإذا أراد رجل أن يتزوج سيدة فلا نظن أن من الخير له أن يتراجع إذا وجد شخصاً آخر يريد زواجها، بل علينا أن ننظر إلى ذلك كميدان حر للمنافسة، ومع ذلك فإن مشاعره تجاه أي منافس لا يمكن أن تكون خيرة جميعاً. وأحسب أننا هنا على الأرض عند أي وصف للحياة السعيدة يجب أن نضع نصب أعيننا بعض أسس الحياة الحيوانية والغريزة الحيوانية؛ فبدون هذا تصبح الحياة فاقدة الروح غير ذات أهمية، ويجب أن تكون المدينة شيئاً يضاف إلى هذا لا شيئاً يستعاض به عنها، فالقديس الزاهد والحكيم المتزن يفشلان على هذا الاعتبار في كونهم كائنات بشرية كاملة. وعدد صغير منهم قد يثقف ويزين مجتمعاً، ولكن عالماً مؤلفاً منهم قد يموت من الانحلال.
وهذه الاعتبارات تؤدي إلى توكيد أن عنصر السرور أحد العناصر الجوهرية في أنواع الحب. والسرور - في هذا العالم الواقعي - أمر اختياري لا مفر منه، ويمنعنا من أن يكون عندنا نفس المشاعر تجاه الجنس البشري كله وحينما ينجم التعارض بين السرور وعاطفة حب الخير يجب أن يفضا باتفاق متبادل، لا بالتسليم التام من كليهما، فللغريزة حقوقها؛ وإذا شددنا عليها النكير أكثر من حد معلوم، فإنها تثأر لنفسها بطرق ملتوية، ومن ثم ينبغي أن يكون مدى إمكانيات الإنسان حاضرة في أذهاننا حينما تهدف إلى حياة سعيدة. وها نحن أولاء قد رجعنا ثانية إلى ضرورة المعرفة.
وحينما أتكلم عن المعرفة كأحد العناصر الجوهرية في الحياة السعيدة، لا أفكر مطلقاً في المعرفة الأخلاقية، بل في المعرفة العلمية، والمعرفة ذات الحقائق الدقيقة. ولست أحسب أنه يوجد - وأنا أتكلم على سبيل الحصر - شئ اسمه المعرفة الأخلاقية. فإذا أردنا أن
نصيب هدفاً معينا، فإن المعرفة قد ترينا الوسائل. وهذه المعرفة قد تمر مع شئ من التساهل على أنها معرفة أخلاقية؛ ولكني لا أظن أنا نستطيع أن نقرر أي نوع من السلوك هو حق أو باطل إلا بالإشارة إلى نتائجه المحتملة. وتحديد غاية لبلوغها مسألة، العلم هو الذي يكتشف لنا كيف نبلغها. وكل الأسس الخلقية يجب أن تختبر بالتحقيق من أنها تجنح إلى تحقيق الغايات التي نرغبها. وأقول الغايات التي نرغبها لا الغايات التي (ينبغي) أن نرغبها. لأن (ما ينبغي) أن نرغبه ليس شيئاً أكثر مما يريد شخص آخر أن نرغبه. وعادة هو ما ترغب السلطات أن تريده - كالوالدين والأساتذة ورجال البوليس والقضاة - وإذا قلت لي:(يجب أن نفعل كيت وكيت) فإن القوة الباعثة على قولك تكمن في رغبتي في موافقتك لما قد يحتمل من الجزاء أو العقاب المرتبط بموافقتك أو مخالفتك، وما دام كل سلوك يصدر عن الرغبة، فمن الواضح أن الأفكار الأخلاقية ليست لها من أهمية إلا بمقدار ما تؤثر به على الرغبة. وهم يفعلون ذلك رغبة في الموافقة وخوفاً من المخالفة، لأن هذه قوى اجتماعية شديدة: وسنحاول بالطبع أن نكسبها إلى جانبنا إذا رغبنا أن نحقق أي غرض اجتماعي. وحين أقول إن خلقية السلوك يجب أن يحكم عليها بنتائجها المحتملة، أعني أني أرغب أن أرى الموافقة تطلق على السلوك المحتمل أن يحقق أغراضاً اجتماعية، والمخالفة تطلق على السلوك المضاد. وهذا لا يفعل في الوقت الراهن، لأن هناك سننا تقليدية معينة، يقاس بمقتضاها الموافق والمخالف والملائم والمنافر، دون نظر إلى النتائج. ولكن هذا موضوع سنتناوله في الفصل التالي.
إن الزيادة في الأخلاق النظرية لواضحة في حالات بسيطة. فلنفرض مثلاً أن طفلك مريض، فالحب يجعلك تريد أن تشفيه، ولكن العلم هو الذي يخبرك كيف تعمل ذلك. وليس هناك من مرحلة وسطى في النظرية الأخلاقية، حيث يتضح أن طفلك كان يحسن أن يشفى، وفعلك يصدر مباشرة عن الرغبة في الوصول إلى هدف، وأيضاً في نفس الوقت مع معرفة الوسائل إليه. وهذا صادق تماماً في كل الأفعال سواء أكانت خيراً أم شراً. والغايات تتباين، والمعرفة أكثر سداداً وصلاحية في بعض الحالات منها في الأخرى، ولكن ليس هناك من طريق تتصور لجعل الناس يؤدون مالا يرغبون في أدائه، ولكن الشيء الممكن هو أن تغير رغباتهم عن طريق نظام الجزاء والعقاب اللذين من بينهما الموافقة
والمخالفة الاجتماعية، لا تقل قوة. ومن ثم فإن المسألة للمشرع الأخلاقي هي كيف يعد نظام الجزاء والعقاب هذا حتى يصون أقصى حد ترغبه السلطة المشرعة؟ فإذا قلت أنا: إن السلطة المشرعة نياتها سيئة، فإني أعني فقط أن رغباتها تتعارض مع رغبات قسم من المجتمع أنتمي إليه، لأنه ليس هناك من مستوى خلقي خارج الرغبات البشرية.
وهكذا فإن ما يميز الأخلاق عن العلم، ليس هو أي نوع خاص من المعرفة، بل هو الرغبة. والمعرفة المحتاج إليها في الأخلاق، هي بالضبط مثل أي معرفة أخرى. والشيء الغريب هو أن هناك غايات يرغب فيها. والسلوك الحق هو الذي يفضي إليها، وبالطبع إذا كان تعريف السلوك الحق يثير رغبات واسعة متعددة، فإن الغايات يجب أن تكون كما يريد أقسام كبيرة من الجنس البشري. فإذا عرفت السلوك الحق بأنه هو الذي يزيد دخلي الخاص، فإن القراء لن يوافقوا، وإن القوة كلها في أية حجة أخلاقية لتكمن في جزئها العلمي، أعني في البرهان على أن نوعاً من السلوك أكثر من سلوك آخر وسيلة لغاية ترغب بشدة. ولكني أميز بين الحجة الأخلاقية والتربية الأخلاقية، فالأخيرة تتوقف على تقوية رغبات معينة وإضعاف أخرى، وهذه عملية مختلفة تماماً ستناقش وحدها في مكان آخر.
ونستطيع الآن أن نشرح بدقة أكثر معنى تعريف الحياة السعيدة. الذي بدئ به هذا الفصل فحين قلت إن الحياة السعيدة تتألف من الحب الذي إليه المعرفة، كانت الرغبة التي دفعتني هي الرغبة في أن ترى الآخرين يعيشون نفس الحياة. والإقناع المنطقي في هذا القول هو أنه في مجتمع يعيش فيه الناس على هذه الصورة، سترضي رغبات أكثر من مجتمع آخر، فيه حب أقل ومعرفة أقل، وأنا لا أعني أن مثل هذه الحياة (فاضلة) أو عكسها (رذيلة) لأن هذه تصورات يبدو لي أن ليس فيها تأييد علمي.
عبد الجليل السيد حسن
بريطانيا العظمى
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
ديمقراطية:
لعل السؤال التالي يجول بخاطرك أيها القارئ الكريم: من يحكم إنجلترا؟ أهو مليكها أم رئيس الوزراء أم مجلس العموم أم مجلس اللوردات؟ وأنا أجيبك عن هذا السؤال فأقول: إن مجلس العموم هو الذي يحكم إنجلترا؛ ذلك أن مجلس العموم يمثل الشعب البريطاني أصدق تمثيل، ورئيس وزرائها لا يستطيع أن يبقي في مركزه يوماً واحداً إذا قبض هذا المجلس عنه ثقته، وإذن فمصدر السلطات جميعا هو الشعب البريطاني، وأما ملك إنجلترا فإنه حسب التقاليد يملك ولا يحكم، وأما مجلس اللوردات فهو مجلس تقليدي ليس له من الأمر شئ.
وأجب أن أضرب للقارئ مثلاً عن الديمقراطية في بريطانيا وهو مثل قريب جداً إلى الأذهان، ولكنه يبين لنا إلى أي حد يعتبر مجلس العموم ممثلاً للشعب البريطاني، ويوضح أيضاً مدى الحرية التي يختار بها هذا الشعب نوابه وممثليه. إننا جميعاً نذكر أن مستر تشرشل زعيم حزب المحافظين كان رئيساً للوزارة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وإننا نذكر أيضاً ذلك المجهود الجبار الذي قام به حتى أنقذ بريطانيا من أشد أزمة مرت بها في تاريخها، ومع هذا فعقب انتهاء الحرب 1945 أجريت الانتخابات لمجلس العموم وأدار دقتها مستر تشرشل، وسقط مرشحوه أي مرشحو المحافظين ونجح مرشحو حزب العمال وأحرزوا الأغلبية في مجلس العموم، فانتقلت الوزارة من يد تشرشل المكافح العظيم والمناضل الكبير إلى يد المستر تشرشل في نزاهة الانتخابات طبعاً، ولم يرم الشعب البريطاني بالجحود وبنكر ان الجميل، وسلم بالأمر الواقع مطاعاً مختاراً!
ومثال آخر أحب أن أسوقه للقرئ الكريم. دعي مستر تشرشل لحضور مؤتمر بوتسدام في صيف 1945 باعتباره مندوباً عن بريطانيا - وكان هذا المؤتمر بمفرده، بل اصطحب معه المستر كلمنت أنلي زعيم المعارضة ورئيس حزب العمال. لماذا؟ لأن إنجلترا كانت مقبلة على انتخابات، وربما جاءت الانتخابات بما لم يشته مستر تشرشل - وهذا ما حدث فعلاً - وانتقلت الوزارة إلى العمال، وإذن فيجب أن يكون زعيم العمال على علم بما يجري في
المؤتمرات الدولية.
وهكذا نرى أن بريطانيا تعتبر بحق زعيمة الدول الديمقراطية. إن جميع أفراد الشعب البريطاني البالغين رجالاً ونساء ينتخبون ممثليهم أو نوابهم إلى مجلس العموم في حرية تامة، وهؤلاء النواب هم الذين يقيمون الوزراء وبدون تأييدهم تسقط الوزارة، وإذن فالشعب البريطاني ممثلاً في نوابه هو الذي يحكم بريطانيا.
وتعتبر بريطانيا أعرق الأمم الدستورية قامت لأول مرة في التاريخ في بلاد اليونان وكان ذلك منذ آلاف السنين، ومازالت الأنظمة الديمقراطية اليونانية تعتبر خير مثال للديمقراطية. وكذلك أحب أن ألفت النظر إلى أن النظام الحكومي الذي قام في الإسلام منذ قيام الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى نهاية عصر الخلفاء الراشدين كان نظاماً ديمقراطياً سليماً، فقد كان الخلفاء الراشدين ينتخبون كما ينتخب رؤساء الجمهوريات في عصرنا الحالي تقريباً، وكانت سلطتهم مقيدة بقيدها القرآن الكريم وهو الدستور المسلمين وخوف الخلفاء من المولى سبحانه وتعالى. استمع إلى قول عمر بن الخطاب وقد طلب إليه أن يرشح ابنه عبد الله ضمن المرشحين للخلافة بعده (يكفي بني الخطاب أن يحاسب منهم عمر.) وإلى قوله (والله لو عثرت بغلة بأرض العراق لسئل عمر عنها يوم القيامة. لم يعبد لها الطريق؟) وهكذا كان الوازع الديني أكبر مقيد لسلطة الخليفة. كانوا يستشيرون الصحابة في مهام الأمور بل إن النبي صلوات الله عليه كان ذلك؛ وقد خاطبه المولى سبحانه وتعالى قائلاً (وشاورهم في الأمر).
ولعل مما يعطينا فكرة عن الديمقراطية الإسلامية أن نقرأ خطبة أبي بكر عقب انتخابه خليفة (أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن كنت على حق فأعينوني، وإن كنت على باطل فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.)
وأجب أن أذكر أيضاً أن المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الحديثة وتفخر بها الحضارة القائمة قد جاء بها الإسلام الحنيف، فقد قرر الإسلام الحرية والإخاء والمساواة بين الناس جميعاً لا فرق في ذلك بين عربي أو حبشي. (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. (إنما المؤمنون أخوة) فهل يعترف علماء الغرب بهذه الحقائق
الواضحة وهل يرد الفضل لأهله؟
على أننا حين نعرض لتاريخ الديمقراطية الحديث لابد من أن نعترف بأن بريطانيا تعتبر أعرق الأمم الديمقراطية الحديثة، فقد سعى الشعب البريطاني إلى تقييد سلطة ملوكه وحكامه منذ بدء العصور الوسطى، فقد كان الأشراف يحكمون الولايات والمقاطعات وكانت هناك مجالس نيابية بدائية في القرى والمقاطعات وقد تطورت هذه المجالس ونشأ منها مجلس بمثل الشعب البريطاني ويعرف بمجلس العقلاء
وقد حدث بعد هذا أن دخلت بريطانيا في الديانة المسيحية الكاثوليكية وسرعان ما قام نضال بين الملوك والكنيسة حول الاستئثار بالسلطة مما اضطر الملوك إلى الاستعانة بالأشراف لمقاومة نفوذ الكنيسة وبدأ بذلك قيام العهد الإقطاعي في إنجلترا.
الفتح النورماندي
في عام 1066 غزا وليم الفاتح دوق نرمنديا في فرنسا إنجلترا وهزم ملكها (هارولد) في موقعة (هستنجس) وأصبح ملكاً لإنجلترا. وقد أراد وليم أن يقضي على سلطة الأشراف فجمع الفلاحين وحلفوا له يمين الولاء والطاعة ولكن الملوك الذين جاءوا بعده كانوا ضعافاً. وكان الملك جون (يوحنا) ملكاً ضعيفاً ميالاً إلى الظلم والغدر فقد أملاكه في فرنسا فثار عليه الشعب وخاصة الأشراف ورجال الدين وأرغموه على أن يوقع (البعد الأعظم) 1215 وأهم الحقوق التي اكتسبها الشعب بمقتضى هذا العهد:
1: لا يجوز للملك أن يقبض على شخص أو أن يسجنه أو ينفيه أو يصادر أملاكه أو يحرمه من حقوقه إلا إذا حوكم أمام محكمة مؤلفة من نظرائه. وفي هذا تحديد لسلطة الملك وبدء قيام نظام المحلفين.
2: لا يجوز للملك فرض ضرائب جديدة بدون موافقة البرلمان وفي هذا تحديد لسلطة الملك التشريعية.
3: ليس الملك أن يعبث بالعدالة فينكر حق فرد أو يؤخره على أن نصوص العهد الأعظم لم تكن واضحة حلية ولذلك اختلف الملك والشعب في تفسرها وحاول كل منهم أن يفسرها لمصلحته هذه الوثيقة تعتبر أساس حرية الشعب البريطاني
وجدير بي أن أذكر بهذه المناسبة أن الدستور البريطاني دستور غير مكتوب، وأنهعبارة
عن حقوق اكتسبها الشعب ولا يمكن للملك أن يرجع فيها بتاتاً. ومن الطريف أن أذكر أن ملك إنجلترا كان له حق رئاسة مجلس الوزراء ثم حدث أن تولى عرش إنجلترا فحضر بعض جلسات المجلس، ولكنه لم يكن يفهم شيئاً مما يدور في المجلس، وبذلك امتنع عن حضور جلسات المجلس، ومنذ ذلك التاريخ فقد ملك إنجلترا حقه في رئاسة جلسات مجلس الوزراء وأعود إلى مواصلة البحث فأقول إنه منذ عام 1215 والشعب البريطاني دائب على كسب حقوقه، وكلما حاول أحد الملوك الخروج على نصوص العهد الأعظم ثار الشعب في وجهه. وقد أراد هنري الثالث فرض ضرائب جديدة فثار الشعب. وفي 1265 اضطر هذا الملك إلى دعوة برلمان يضم نوايا من الأشراف ورجال الدين وفارسين عن كل مقاطعة، وبذلك أصبح البرلمان ممثلاً لجميع عناصر الأمة وقد وافق الملك على أنه لابد من دعوة البرلمان للاجتماع ثلاث مرات كل عام على الأقل.
وفي عهد إدوارد الأول انقسم البرلمان إلى مجلسين: مجلس عموم ومجلس لوردات. وفي عام 1455 قام نزاع بين أسرة لنكستر وأسرة يورك وقامت الحروب المعروفة باسم حرب اللوردتين وانتهى الأمر بفوز أسرة تيودور (لنكستر) بعرش إنجلترا 1485.
عهد أسرة نيودور
امتاز عهد هذه الأسرة بتوقف النزاع بين الملوك والبرلمان، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب؛ أهمها رغبة الشعب في السلم بعد هذه الحروب الطويلة، وانصرافه إلى طلب العلم والمال وتكون مستعمرات فيها وراء البحار، ولمعرفة ملوك التيودور للخلق البريطاني ولأنهم لم ينكروا حق البرلمان، فكان البرلمان يعمل وفق رغباتهم وبذلك انقضى عهدهم في سلام، وأهم تغيير حدث في عهدهم هو فصل كنيسة إنجلترا عن البابوية في روما
على أن أعضاء البرلمان في نهاية عهد هذه الأسرة أخذوا يناقشون الملكة إليصابات ويجادلونها وقد اضطرت الملكة أن ترد على أحدهم قائلة: (أنكم لم تأتوا إلى هنا لتناقشوا ولكن لتوافقوا).
على أن هذه الملكة قد ماتت دون وارث 1603 وانتقل عرش إنجلترا إلى جميس السادس ملك اسكتلندا إنجلترا واسكتلندا تحت تاج واحد، وبدأ عهد أسرة استورت الذي امتاز
باحتدام النضال بين الملك والبرلمان
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بنود الثانوية
ما فسد الناس ولكن اطرد القياس
للأستاذ علي العماري
(إن واجب الإنصاف يضطرني أن أبرئ الحكومة القائمة من
تهمة الخروج على العصبية الحزبية. . . لأنها لا تزال تعتقد
أن من لم يكن لها فهو عليها، وأن مر لم يكن وفدياً فليس
مصرياً).
(الزيات بك)
نظرت في أهل دهرنا، وحال عصرنا، فوجدت الموازين مختلفة، والمقاييس مضطربة: موازين الرجال والأعمال، ومقاييس الأخلاق والفضائل. لا تكاد تجد رجلاً في موضعه الطبيعي؛ فكثيراً ما ترى إنساناً في مكانة رفيعة، ومركز محسوس، فإذا أحببت أن تعرف كيف وصل، زكمت أنفك روائح كريهة من أخلاقه وسلوكه. وكثيراً ما تجد رجلا يشكو زمانه، ويبكي حظه، فإذا أحببت أن تعرف السر الذي قعد به، والسبب الذي من أجله تخلف عن ركب أقرانه، طالعتك صفحة رائعة من سلوكه وأخلاقه وعلمه وفضله.
ولا شك أن قيمة الأدب هانت، وهانت قيمة العلم، ونزلت قيم كثير من الأشياء، حتى الأخلاق لم تعد شيئاً مذكوراً في موازين كثير من الأفراد والجماعات والأمم، وبقي شئ واحد له قيمته، وله خطره، وله قدره في وزن الرجال والأعمال، ذلك هو (المنفعة). المنفعة هي الوسيلة، وهي الغاية وهي الدافع لكل ذي عمل إلى عمله، ولكل ذي يد إلى أن يتخذ يده عند من يظن أنه سيردها إليه أضعافاً مضاعفة. ولا أقصد - بطبيعة الحال - المنفعة العامة فتلك أسطورة من الأساطير وخرافة من الخرافات، أشبه بالغول والعنقاء والخل الوفي، وإنما أقصد المنفعة الشخصية، تلك التي تطبع الأخلاق والأعمال والسلوك بطابعها، فلا تكاد العين الفاحصة تخطئ من ذلك شيئاً، فلا بأس أن يبيع الأخ أخاه، وأن يتنكر الصديق لصديقة، وأن يطعن البرئ، ويكرم الميئ، لابأس بشيء من ذلك مادام قانون المنفعة هو القانون، ولا بأس أن نجامل في الحق، وأن ننتصر للباطل، وأن نرفع الوضيع،
ونضع الرفيع. . لا بأس!
هذا كله ساد ويسود، والنفوس خاضعة له مستسلمة، فأينما وجهت نظرك لا تجد براً ولا فاجراً، عالماً ولا جاهلاً، كبيراً ولا صغيراً، استطاع أن يجعل الأخلاق والكفاءة والإخلاص في العمل هي المقياس.
كن أنحى من سيبويه، وأفقه من الشافعي، وأنفذ بصراً من ابن سينا، وأنور بصيرة من الحسن البصري، وكن بجانب ذلك صريحاً في الحق، لا تخشى في الله لوم لائم، ولا تداهن ولا تتملق ثم من أنك ستموت جرعاً.
وكن على ما شئت من خلق شئ، وخذ حضك وافراً من الجهل، وقسطك وافياً من الغباء، ولكن صانع الرؤساء وتملق الكبراء، وكن أداة طيعة في يد من يريد، ثم ثق أنك ستحيى حياة طيبة، وستنعم بموفور النعم، ورغداً لعيش، وسترأس أقرانك، وتغلب نظراءك، وتصل إلى أرفع المناصب.
رأيت كل هذا، وسمعت بكثير مثله، لا يخلو منه بلد من البلدان، ولا يتورع عنه رئيس من الرؤساء. ثم رجعت إلى بطون التاريخ أتعرف أحوال تلك الأزمان، وأبحث في سلوك الماضين، وحظوظهم، فرأيت عالم العربية الأكبر الخليل بن أحمد مخترع علم أوزان الشعر، وواضع أصول فن الموسيقى، ومبتكر أول طريقة لوضع المعاجم العربية، وصاحب الفضل الأكبر على النحو العربي، رأيته يسكن في خص، ويعيش على كسر الخبز اليابسة الجافة، لأنه لم يتصل بأمير أو وزير، ثم رأيت الناس يأكلون بعلمه لباب البر بجني النحل!
وخطوت إلى الأمام خطوة فإذا أديب العربية الأكبر أبو عثمان الجاحظ يشكو مما نشكو منه، ويكتب رسالة لأحد أصدقائه، ينعى فيها على دهره، ويألم لقلة من يثق به من الناس لاستحالة الزمان، وفساد الأيام، ويبكي على الماضي حين كان الصديق والحياء، وإيثار الحق مطية السلامة. وسبب النعمة، ولكن الحال تتحول، والدولة تتبدل، فيصبح (الحياء متصلاً بالحرمان، والصدق آفة على المال، وتصير الحظوة البالغة، والنعمة السابفة، في المثالب الفاضحة، والكذب المبرح، والجهالة المفرطة، واليقين الضعيف) وكل من كانت هذه صفاته يستكمل سروره، وتعتدل أموره، ويفوز بالسهم الأغلب، والحظ الأوفر والقدر
الرفيع، والأمر النافذ، ثم يقول:(ثم نظرنا في الوفاء والأمانة، والنبل والبلاغة، وحسن المذهب، وكمال المروءة، وسعة الصدر، وقلة الغضب، وكرم النفس، والفائق في سعة علمه، والغلب لهواه، فوجدنا (فلان بن فلان) ثم وجدنا الزمان لم ينصفه من حقه، ووجدنا فضائله القائمة له قاعدة به، فهذا دليل أن الفضل قد مضى زمانه، وعفت آثاره، ووجدنا العقل بشقي به قرينه، كما أن الجهل يحظى به خدينه).
فإذا رجعنا إلى الشعر وجدنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يقول
يا محنة الدهر كفي
…
إن لم تكفي فخفي
ما آن أن ترحمينا
…
من طوال هذا التشفي
فلا علومي تجدي
…
ولا صناعة كفي
ثور ينال الثريا
…
وعالم متخف
وتمضي خطوات في الزمن فنجد الطغرائي يقول
وأعظم ما بي أنني بفضائلي
…
جرمت ومالي غيرهن ذرائع
وخطوة أخرى فإذا القاضي الفاضل يقول
ما ضر جهل الجاه
…
لين ولا انتفعت
وثالثة فإذا ابن دانيال يقول
كل من كان فاضلاً كان مثلي
…
فاضلاً عند قسمة الأرزاق
فإذا جئنا إلى العصر الحديث وجدنا بعض شعراء الشباب يقول
عبث هذه الحياة وفوضى
…
ما نراه في هذه الأكوان
ولو ان الحياة تنظم شعراً
…
جعلت شعرها بلا أوزان
ولو ان الحياة ترسل نثراً
…
جعلت نثرها بغير معان
بعد هذه الرحلة الطويلة ذكرت رسالة بديع الزمان الهمداني التي يقول فيها: (الشيخ الإمام يقول: فسد الزمان، أفلا يقول متى كان صالحاً؟ أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها وسمعنا بأولها، أم في المدة المروانية وفي أخبارها: لا تكسع السول بأغبارها، إنك لاتدري لمن الفائج، أم السنين الحربية
والسيف يغمد في الطلي
…
والرمح يركز في الكلى
ومبيت حجر بالفلا
…
والحرثان وكربلا
أم الأيام العدوية، فنقول: هل بعد البزول إلا النزول؟ أم الأيام التيمية ونقول: طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام، أم على عهد الرسالة، وقيل اسكني يا رحالة: فقد ذهبت الأمانة، أم في الجاهلية والبيد يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
…
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول:
بلاد بها كنا وكنا نحبها
…
إذ الأهل أهل والبلاد بلاد
أم قبل ذلك وقد قال آدم عليه سلام
تغيرت البلاد ومن عليها
…
فوجه الأرض مغبر قبيح
أم قبل ذلك والملائكة تقول (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)؟
هذه هي الحياة.
ولكن أليس في الناس من ينظر إلى الأمام البعيد، أليس فيهم من يثق بنفسه وإيمانه، ويؤمن أن كل ما في أيدي الناس من مال وجاه إنما هو باطل وزور، وأنه مهما عظم لا يعدل حبة خردل تنتقض من كرامته؟
أليس في الناس من إذا أقدم على عمل تلمس فيه حكم الضمير والخلق، وعرضه على ميزان الفضيلة والحق؟
أليس في الناس من يقنع بالقليل، ويرضى بالكفاف، ويحتفظ بما لنفسه من كرامة، ويضمن بها أن تكون مستعبدة للمنافع، خاضعة لذل العيش؟
بلى؛ إن في الناس من هؤلاء أعزة، ولكنهم - غالباً - يعيشون على هامش الحياة، فلا يلبث أحدهم أن ينطق كلمة الحق حتى تمسك الزبانية بتلابيبه، وتهدد المكايد مركزه، ويعيش في هم ونكد - على ما يرى الناس - ولكنه يعيش من رضا ضميره، وصفاء نفسه، وسمو قلبه، في جنة وارفة الظلال، وسعادة لا تعد لها سعادة.
علي العماري
حول مستقبل الأزهر
للأستاذ كامل السيد شاهين
المسئولون في الأزهر قلما يمدون أبصارهم لترى مستقبله القريب أو البعيد، فلهم الساعة التي هم فيها، فإذا ما عبرت، استقبلوا ما يليها لا ممتدين ولاعابثين، ولكن ممدودي الأبدي مرتمي الصدور. وكأنهم مسئولون - حسب - عن الميزانية زادت أم نقصت، وعن العلاوات أطلقت أم حبست، وعن الترقيات أصيب بها موضعها أم جرت مع أهواء العصبية والحزبية والقرابة. فهذا من حسابهم، يدركونه مرة، ويكبون دونه مرات؛ ويرعون فيه الذمة والأمانة تارة، وينساقون وراء الآراب والشهوات تارات. فيحقرون الذمم ويخونون الأمانة، ولكنهم يرون هذه الشؤون - على أي حال - مما يدخل في حسابهم. فإما مستقبل الأزهر فما عليهم من حسابه من شئ!
أقول هذا بمناسبة ما تناوله مجلس التعليم الأعلى الذي مثلت فيه الطوائف ما عدا الأزهر الشريف، وبحث فيه أمر مراحل التعليم، وتوحيد مرحلته الأولى ثم تشعيبها أفناناً وطرائف، والأزهر يغط في نومته لا يدري أينبت الطريق إليه أم يتصل، أيعوج أم يستقيم. وليس هذا من عيب الوزارة التي أغفلته، ولكن عيب هؤلاء المسئولين فيه الذين استرسلوا في غفلتهم فلم تنبئهم الجرائد، ولم توقظهم الإذاعات، ولم يفتح أذهانهم هذا اللغط اللاغط الذي يتناثر من أفواه المتكلمين في الطرق والمقاهي والمجالس العامة أو الخاصة.
من المسئول عن هذه الغفلة من رجال الأزهر. شيخة؟ وماذا يمنع أن نقول نعم جريئة قوية. وما نحسب أن المرض الذي غشيه مانع من التفكير والتدبير. أم وكيله؟ وماذا يمنع أن نقول نعم جريئة قوية. وما نحسب أن شؤون الأزهر التي جمعها في حجره يعرفها في تؤدة وعناء وولاء، ويقوم عليها في الإصباح والإمساء ما نعته من التفكير في مستقبله، وتأمين الطريق إليه، فإن كان كذلك فقد استهلك وكيل الأزهر وقته في الجزئيات التي كان يستطيع أن يملأ بها الأيدي الفارغة التي أصابها أكال من قلة العمل. فهذا مدير الأزهر، وهذا سكرتيره العام، لا يكادان يجدان عملاً، وهما من قبل ومن بعد يقضيان صدر نهارهما في الإدارة العامة، مجالسة ومؤانسة وترحيباً.
وكيل الأزهر، يضع عائشة على أم الخير، وقد كان في أم الخير له شاغل أي شاغل،
ولكنه يقاوم ويقوى ويعمل على رهق. . ومثل هذا جدير بأن يزل وأن يكثر منه هذا الزلل. وميزان العمل جدير بأن يختل، وأن يطول به هذا الاختلاف. . وحقيق بوكيل الأزهر مادام يدير دولاب العمل وحده أن ينصرف عن النظر في مستقبل الأزهر، إلى النظر في التوافه والسفاسف التي تملأ الوقت ولا تؤتي الثمر.
نظر مجلس التعليم في أمر المرحلة الأولى فجعلها نوعاً واحداً قائماً على دراسة ست سنوات سماها التعليم الابتدائي، منها اثنتان لرياض الأطفال. وأباح - بقرار من الوزير - إنشاء فرق لتحفيظ القرآن الكريم تمهيداً لمن شاء أن يتم دراسته في المعاهد الدينية، ثم قسم التعليم الثانوي إلى علمي وتجاري وزراعي وصناعي، وجعلها كلها إمداداً للكليات في الجامعات.
فما موقف الأزهر من هذا التنظيم؟ أيبقى على القسم الابتدائي فيه، وكيف ينسق هذا القسم مع الابتدائي العام، أيكون بعده، فيقضي التلميذ ست سنوات في الابتدائي العام ثم يتقدم للقسم الابتدائي في الأزهر؟. إننا إذا اتبعنا هذا فسوف نجد ابتدائي الأزهر خاوياً لا ينظر إليه أحد، لأن أحداً لا يضيع على نفسه ست سنوات كاملات لا لشيء إلا ليدرس في الأزهر. وما الدارسة في الأزهر بممتازة شيئاً، ولا بمعادلة في نظر الكثرة من الأمة للدراسة في المدارس أيا كان شكلها. إذا فنحن مضطرون إلى إلغاء هذا القسم، ولكن كيف ينظم هذا الإلغاء، وإلى أين يذهب هؤلاء المدرسون؟ هذا يحتاج - من غير شك - إلى مباحثة وزارة المعارف والاتفاق معها على هذه التصفية، ولندع الآن أمر هذه التصفية وطرقها، ونستقيم في طريقنا الذي نعرض فيه موقف الأزهر من التعليم العام.
إذا ألغى القسم الابتدائي من الأزهر بقي القسم الثانوي نهراً لا يرفده رافد. فالتلميذ الحاصل على الشهادة الابتدائية لا يستطيع أن بشق طريقه في القسم الثانوي بالأزهر. ثم هو راغب عن هذا الطريق لأن أمامه طرقاً كثيرة أيسر يسراً، وأوضح قصداً، وأربح غاية. والنظر اليوم للحياة نظرة تسليح الطالب والغلاب، ولاشك أن كليات الجامعة في هذه الناحية تسلح الطالب للحياة أكثر مما تسلحه كليات الأزهر، وقد كان كيان الأزهر قائماً على شيئين: القداسة والفقر. فأما الفقر فقد كان عاملاً مهما في انصراف الناس عن المدارس إلى الأزهر. فقد كان للمدرسة منذ عشر سنوات مضت مظاهرها ومصاريفها للكتب وللتعليم
وللحفلات. أما اليوم فالكتب بالمجان والتعليم بالمجان ووجبة الغداء بالمجان، فأي مدعاة بعد انقضاض هاتين الدعامتين تدعوا أمراً إلى أن يدفع بابنه إلى التعليم الأزهري؟ لقد رأينا الأساتذة من مدرسي الأزهر حينما يوسرون بعض اليسار يعرضون عن الأزهر إعراضاً، ويسلكون أبناءهم في التعليم المدني إيثاراً له، وإدراكاً منهم أن الدولة تنظر إلى التعليم في الجامعة نظرة أعلى من نظرتها للتعليم في الأزهر. وأن الحياة تطلب النوع الأول ألحف من طلبها للنوع الآخر. . فإذا أنحينا على القسم الثانوي بلا سلم، وهو بعد بعيد كل البعد عن كل نوع من أنواع الإغراء. فالدراسة فيه ليست سهلة ممهدة. ونتيجتها ليست زاهرة باهرة محببة.
إذن فكل ظواهر المنطق تؤذن بأن الأزهر مقضي عليه لا محالة. ومخدوع من مخدوعين ذلك الذي يزعم أن النزعة الدينية في الأمة يمكن الاعتماد عليها في الإبقاء على الأزهر وحفظ كيانه فإن التيار العام أقوى وأعتى من أن يتصدى له أفراد شذاذ من سوقة الأمة ورعاعها. ومخدوع كذلك من يعتمد على وزارة المعارف في توجيه طائفة من أبناء الأمة للتعليم في الأزهر، فوزارة المعارف في توجيه طائفة من أبناء الأمة للتعليم في الأزهر، فوزارة المعارف لا تملك هذا التوجية، ولو ملكته لوجب ألا تلجأ إليه، فما لم يكن للأزهر في نفسه من المحببات فيه ما يقيمه ويدفع قلوب الناس إليه راغبين، فعليه العفاء. ونحن لا نملك أن نوجه لوماً إلى وزارة المعارف فيما يسرت من أمور التعليم واحترمت من رغبات المتعلمين، وإن عاد ذلك على الأزهر بالضمور والاضمحلال؛ فإن حجتها في ذلك أبهر وأظهر من أن يدل عليها. وكيف نطلب الحماية للأزهر من التعليم العام إلا إذا كان الأزهر نفسه لم يستطع أن يثبت صلاحيته ويقوم على قدميه، فإذا كان هذا حالة فلتذهب به الرياح ليبقى الأصلح والأنجع، وخلا المعارف ذم.
ولكن ينبغي أن نضع في حسابنا أمرين قبل أن نحكم على الأزهر بالإعدام. أول لكليات الجامعة أن تقوم بها؟ الجواب. لا. ثم نتساءل: هل هذه الدراسة مفيدة في ذاتها، مطلوبة لصيانة الأمة الإسلامية. ولو فكرنا من ناحية حفظ تراث إن لم نحتجه اليوم فربما احتجناه غداً، وإن غطى الزمن على بهارة نوره فترة، فربما كشف عنها في مقبل منه قريب أو بعيد؟ الجواب نعم: وما دام الأمر كذلك فيجب أن يبقي الأزهر. ويجب أن يفهم المسئولون
عن التعليم أنه لابد من بقائه لأداء رسالة حاضرة أو مقبلة، ولفظ تراث مجيد من اللغة والفقه، ولو أنه حفظ يقوم على الترديد أكثر مما يقوم على التجديد حتى يتاح له من يخطو به يوماً.
وثاني الأمرين: هذه الإشاحة المعرضة عن الدراسات الأزهرية هل تنبني دائماً على حسن التقدير أو يداخلها قليل أو كثير من الوراثة لأفكار جاهلة تتبع أكثر مما تتأمل، وتنخدع أكثر مما تصيب، ويغرها الزخرف أكثر مما تبهرها الحقيقة. فالحق أن كثيراً ممن يعرضون عن الدراسات الأزهرية، قد استقر في أذهانهم أن الأزهر إنما يدرس فيه أبناء الفقراء، وان الالتحاق به عبادة أكثر مما هو دراسة، وأن أبناءه لا تنظر إليهم الحكومات بعين الاعتبار والتقدير، وإنما تجاملهم مجاملة، أو تطاولهم مطاولة، أملاً في أن تصل على ظهورهم لغاية، أو تكف بسكونهم شراً وتتقي قلاقل.
وإذن فما عند الناس من أفكار سيئة عن الدراسات الأزهرية لا يمثل الحقيقة، والدراسات الأزهرية جديرة بالإقبال عليها لذاتها. والحكومة والأمة الإسلامية جديرة أن تحميها وأن تحتفظ بها. ولكن كيف السبيل اليوم، وليس لأحد أن يرغم أحداً على اتجاه بعينه في الدراسات؟
قلنا إن الأزهر قام على عنصرين: على القداسة، وعلى الفقر. ونحن لا نحب أن نبقي على العصا الأولى لأنها عصا وهمية سخيفة، ولو أدخلناها في الأساس اليوم، فأجدر أن ينهار البناء كله وأما العصا الأخرى فما زالت باقية برغم مجانية التعليم ووجبة الغداء. ذلك بأن أقواماً - وكثير ما هم - في ضر من العيلة. فإن وجدوا مجانية التعليم ووجبة الظهيرة، فمن لهم بوجبة الصباح ووجبة المساء؟ ومن لهم بمصروف اليد والكساء؟ إذن فليحتضن الأزهر الفقراء من هذا الصنف، وليبق بأقسامه الثلاثة قائماً، وليقلل من هذه المعاهد المنبثة في أنحاء القطر، فلبست الدولة بحاجة إلى كثيرين من المتوسعين في دراسات الأزهر. وأخيراً فليكن الأزهر جامعة داخلية تضمن الطعام والكساء والتربية والتعلم على يزيد داخلوه كل عام على مائة. وليضمن لطلابه ومتخرجيه من الميزات ما تضمن الحكومة لمتخرجي الجامعات الأخرى.
وليستصف هذا الوفر الوفير من الأساتذة والكتاب عاماً في إثر عام، وليبق فيه خلاصة
مخلصة من الأفذاذ علما وخلقا، وليرب هؤلاء الجدد من الطلاب تربية حرة لا تخضع لمبدأ من مبادئ السياسة، ولا تنقاد لغرض من أغراض الحكام. فإذا تخرج علمية وخلقية، وليقومن الأزهر بعد على قدمية، وليثبتن أنه أهل للحياة!
وقد يظن ظانون أن هذا خيال خائل، ولكن سوف يشهدون بأعينهم هذا الإعراض الشنيع عن الأزهر، وعن دار العلوم حين ينقطع سببها من الأزهر، وسيجدون أنفسهم قد أخلدوا إلى الآمال أكثر مما يصح الإخلاد، وأن ما يواجههم من الشر أكبر من أن يدفع بالتصايح والبكاء!
كامل السيد شاهين
رِسَالَة الشِعْر
أغنية الحرمان
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
إلى صديقي الأستاذ حسين وفيق الجادر
يا شاباً في دمائي يتدفق
…
وشهاباً شع في أفق حياتي
عمري الأول ولي فترفق
…
بالذي أبقيت لي من سنوات
سنوات قد تولين سدى
…
مثلما يفني على الأرض الشعاع
لم أجد في ظلها إلا العنا
…
والأسى القاتل والدمع المضاع
أنا ذوبت شبابي في هواك
…
وأبحت السهد جفني ودمي
أتراني لم أنل بعد رضاك
…
ولقد بح من الشكوى فمي
إن تكن تسخر من دمعي وحبي
…
فلقد صغتك من نسج خيالي
دمية أبصر فيها طيف ربي
…
وأرى في ظلها سر الجمال
أنا كونتك لكن لا لقتلي
…
ولإلقائي بأحضان الظلما
تائهاً أقطع بالآهات ليلى
…
وجراحي تتنزى ألماً
سرت والأشواق تستقبل دربي
…
علني ألقاك في الوادي القريب
فلماذا عندما أصبحت قربي
…
ملت عني كعدو أو غريب
أكذا سرعان ما تهجرني
…
مثقل الخطو بأغلال الزمن
فكأن لم تك قد حملني
…
عبء أيام ثقيلات المحن
سوف تلقاني وألقاك أنا
…
وعلى كفي جراحي ودمي
فإذا رف الهوى ما بيننا
…
أترى يدنيك مني سقمي
شاء وجه الحسن إن كان المصير
…
ما ألاقيه ويا ويح المني
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
في لجة الصمت. .
للأستاذ محمود فتحي المحروق
أيهذا الغريق. يا شاعر الصمت. . كفاك التديق خلف الضفاف
قد مضى الزورق الحزين. . ومازلت تغني للموج سر الطواف
هي ذي يا شقي هوج الأعاصير تدوي. . وأنت تهب السوافي
سوف تطويك عاصفات من الصمت. . فتغدو ممزق الأعطاف
وستمحو الأمواج بيض أمانيك. . وتنعى جنازة الأطياف
أيهذا الغريق. . رفقاً بدنياك. . فخلف الضفاف صمت عميق
قد تضللت!. . ما نصباك يا شاعر؟. . عد. . فالحياة بحر سحيق
كلما رمت للحياة وصولاً. . سخرت منك موجة وبروق
فيم تقضي الشباب في غيهب الصمت؟ وتطوى المني. وأنت غريق
وعداً؟. . لن تعي سوى صرخات. . يتغنى بها الظلام المحيق
أيها الشاعر الذي يتغنى. . تهت في الكائنات عرضاً وطولاً
ارجع الآن. لن ترى تم شيئاً. . أنت في الأرض ترتجي المستحيلات
أنت يا شاعر السكينة قلب. . أوصد الكون دونه المجهولا
لم هذا الوجوم؟. حسبك دنيا. . خلقتها الأحلام عرساً جميلاً
لغط هذه الحياة. . وسخف أن تظل. . الحياة. . تبغي الوصولا
أيها الصمت يا إله المآسي. . أيها الخالد الذي ليس يفنى
أنا يا صمت - لو عملت - فؤاداً. . سادرا في اللجاج ضيع لحنا
آه. . يا صمت. . قد عبت فعدبي. . . نحو دنياي خافقاً مطمئناً
موجك الساحر المروع أغرني. . فما شمت ضفافك أمنا
أبداً. . سوف يستبيني سراب. منك يا صمت. . كاذب. . يتجنى
أيها الصمت. . أيها العالم الزاخر. . رفقاً بجسمي المكدود
أنا يا صمت خافق. . رائع اللحن. . دجي الأسرار. . جم الشرود
سحرتني إلهة الشعر. في هيكلك الحالم. . الرهيب. . البعيد
عبثاً. . أستبين زورق أحلامي. . وقد طرق الضباب وجودي
عبثاً. . لن يعود غير حطام. . يتهاوى تحت الظلام المديد
رحمة منك. . قد سئمت الشرور خلف البحور
هاأنا الآن. . بين موجك طيف. . راعب الظل. . كالشذا المأسور
ليتني كنت صرخة في فم الدهر تلاشت. . أو كنت بعض سطور
ليتني مت قبل أن أدفن الأحلام في بحرك العميق. . . الغزير
آه. . يا صمت. . لا تكن مثل دنياي خؤونا. . فخلي واكتئابي
لا ترعني. . فقد كرهت حياتي. . واجتويت المكوث فوق التراب
ليس لي في الحياة أي آمال. . فوا خيبة المنى والرغاب!
منذ أن تاه زروقي بين أمواجك. . ياصمت. . ضاع مني شبابي
أسفاً. . خابت الظنون وماتت. . أمنياتي في خاطري المرتاب
(الموصل - العراق)
محمود فتحي المحروق
الأدب والفن في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
ويل للأدب إذا أحتاج إنتاجه الرفيع إلى التشجيع، واذكر كبار الأدباء في الشرق والغرب فإنهم قد منحوا الإنسانية هذا التراث العميق الضخم دون أن يشجعوا إلا نادراً، وتستطيع أن تقول أنهم اشتقوه من آلام نفوسهم وقلوبهم ومن استمتاعهم بلذة البؤس والحرمان، وإنها للذة حلوة لشدة قسوتها!
طه حسين
ساعة من العميد:
لم يخدعني الحرس الواقف بباب معالي الدكتور طه حسين باشا عما كان يدور بخلدي وأنا في الطريق أليه. كنت نشطاً إلى لقاء معاليه في الموعد المضروب، وأنا أعرف عن نفسي - فما أعرف عنها - التثاقل بل العزوف عن مقابلة الوزراء وأمثالهم من الكبراء، ولكني كنت موقناً أني ذاهب إلى رجل ليس من هؤلاء، أو هو منهم شكلاً ورسماً، ولكن فيه ما أقصد غير ذلك، فيه الأديب الأستاذ الذي وطالما ألقي إلى وطالما وعيت عنه، وطالما تحدث إلى وتحدثت إليه وإن لم ألقه قبل ذلك إلا لقاء عابراً، طالما أصغيت إليه في السطور وعشت معه فيما بين السطور، وطالما أنس به خيالي وأنا أسوق إليه الحديث في بعض ما أكتب.
كان ذلك ما يدور بخلدي حين أقبلت على دار العميد أستأذن في الدخول. وأذن لي، واستقبلني معاليه في غرفة المكتبة، وقد لقيت منه الأنس أول ما لقيت، وشاء أدبه أن يعتذر لوقوفي دقائق بالباب. وأخذت مجلسي بجواره، وأنا أشعر - على انقباض في - بأن التعارف بيننا قديم العهد. وأخذنا في الحديث، تنتقل من الخاص إلى العام، ومن عام إلى خاص، وكان يجيبني عما وجهت إليه من أسئلة في شؤون الأدب والفن بطلاقته المعروفة، ويمزج ذلك بمرح ودعابة في بعض المواطن، ويمسك عن الحديث العام حيناً فيسبغ على أنسه وإلطافه. . . فكان يفكر ويعبر ويلطف ويؤنس في آن. . قضيت معه ساعة ما أعظمها! وما أقصرها! وخرجت من لدنه، وقد قبست لقراء الرسالة أقباساً من أدب العميد،
وتزودت لنفسي بما لن تنساه نفسي.
كدت أنسى:
كان أول سؤال وجهته إلى معالي الدكتور طه حسين باشا ما يلي:
أنت وزير المعارف، وأنت - قبل هذا ومع هذا وبعد هذا - عميد الأدب والأدباء. وقد رأت البلاد أعمالكم المجيدة في نشر التعليم، والأمل أن يظفر الأدب والثقافة العامة من الدولة على يديكم بمثل ذلك، فماذا أعددتم في هذا السبيل؟
قال معاليه: الواقع أن تيسير التعليم ونشره وما فيهما من مصاعب يجب قهرها ومن عقبات يحب تذليلها - كل ذلك قد استغرق وقتي وجهدي وتفكيري، حتى نسيت أو كدت أنسى أن بيني وبين الأدب صلة، ونسيت أو كدت أنسى أن للأدب على حقوقا يجب أن تؤدي. ولا أرى إلا أن سؤالك هذا سيضطرني إلى أن أحاسب نفسي وإلى أن أجعل الحساب عسيراً. وأنا الآن والآن فقط أسأل نفسي ماذا يجب على أن أفعل للأدب والأدباء، وأحسبني أؤدي لهم خدمة خطيرة مادمت أنشر التعليم فأعد للأدب والأدباء قراء قد يكون لهم أثر في نشر الأدب أولاً، وفي توجيهه ثانياً، وفي إشعار الأدباء بأنهم لا يكتبون لأنفسهم وحدها ولا يكتبون لنظرائهم من الأدباء والمتأدبين فحسب، وإنما يكتبون لشعب يقرأ قراءة مباشرة، وأظن أن هذا ليس قليلاً. ودعني الآن أسألك أنت: ماذا تحب أن أصنع للأدب والأدباء أثناء نهوضي بأعباء الوزارة؟
مظاهر النشاط الأدبي:
قلت: يمكن القول - على وجه الإجمال - بأن النشاط الأدبي الذي تتطلبه البلاد يتمثل في ثلاثة أمور: (1) خدمة التراث بإحيائه وتنميته (2) والأخذ من الآداب الأجنبية (3) ثم الإضافة الذاتية. فالأمران الأولان يحتاجان إلى الإدارات الحكومة القادرة على العمل المنتج. ويتطلب الأمر الثالث، وهو الإضافة الذاتية، تشجيع الأدباء وإثابة جهودهم إثابة لا يحققها لهم الجمهور الحالي.
إحياء التراث:
قال معاليه: أما إحياء التراث القديم فإن جهودا كثيرة تبذل فيه، فإدارة الثقافة العامة مستعدة
لنشر الآثار الأدبية القديمة، وتشجيع الذين يعدونها للنشر ويقومون عليه تشجيعاً حسناً. ولست أشكو من تقصير المحققين الذين لا أكاد أحس منهم جهداً، وربما انتهى بي الأمر إلى أن أختار أنا طائفة من الكتب القديمة وأكلف بعض الباحثين بدرسها وتحقيقها، وأدعو بالقياس إلى بعضها الآخر أدباءنا إلى أن يستبقوا في درسها وتحقيقها، ولكن كنت أتمنى ألا يحتاج الأدباء إلى هذا التوجيه الإداري. وفي دار الكتب لجنة لإحياء الأدب العربي القديم برأسها الأستاذ أحمد أمين بك وأنا بعض أعضائها، ولكنها لم تكد تبدأ عملها بعد، وأرجو أن تكون جهودنا منتجة فيضاف عملها إلى عمل المكتبات الخاصة. وما أظنك تطلب أكثر من هذا.
الترجمة:
ثم قال معاليه: وأما النقل عن الآداب الأجنبية فقد ترجم في الأعوام الأخيرة عدد صالح من الكتب، نشر بعضه وبعضه ينتظر النشر؛ وإدارة الثقافة هي المشرقة على ذلك، وربما كان اختيار هذه الكتب موضع شئ من الجدل، ولكنها حركة على أي حال. وقد قررت في هذا العام نقل آثار شكسبير كلها إلى اللغة العربية، ونقل آثار راسين إليها كذلك. ولولا الصعوبات التي تثار دائماً في وزارة المالية لأخذنا في تنفيذ هذين العملين الخطيرين، ولكني واثق من أن هذه الصعوبات ستنتهي، ولن تصدر الميزانية الجديدة إلا وفيها الاعتماد الذي نحتاج إليه. وعسى أن يتصل هذا الجهد فتنقل إلى اللغة العربية آثار كبار الكتاب والشعراء في الغرب شيئاً.
تشجيع الأدباء:
وقال: أما الإضافة الذاتية فلست واثقاً بأنها تحتاج إلى التشجيع وحده، وأخشى أن تكون في حاجة إلى شئ آخر غير التشجيع، هو خصب القرائح وإيثار الأناة والتجويد على العجلة وابتغاء الكسب، وفي كل عام تعطى جائزة فؤاد الأول للآداب، وتعطى جوائز المجتمع اللغوي، ولعلك توافقني على أن الذين ظفروا بهذه الجوائز لم يعملوا لها ولم يسعوا إليها، وإنما اضطرهم الأدب إلى أن يكتبوا فكتبوا، وعرفت لهم الدولة قدرهم فإجازتهم. روبل للأدب إذا احتاج إنتاجه الرفيع إلى التشجيع، واذكر كبار الأدباء في الشرق والغرب، لأنهم
قد منحوا الإنسانية هذا التراث الرفيع الضخم دون أن يشجعوا إلا نادرا، وتستطيع أن تقول إنهم اشتقوه من آلام نفوسهم وقلوبهم ومن استمتاعهم بلذة البؤس والحرمان، وإنها للذة لشدة قسوتها!
جماعة الأدباء:
ثم قلت لمعاليه: كنتم تدعون الأدباء إلى تكوين جماعة تمثلهم وترعي حقوقهم، ولعل مكانكم الآن في الوزارة مما بعين على إنشاء هذه الجماعة ورعاية الدولة إياها، فما رأيكم في ذلك؟
قال: لو أنشأ الأدباء جماعتهم هذه إنشاء جد لا عبث فيه لكنت أول من يسعى إلى الاشتراك فيها ولكنت سفيرها في مجلس الوزراء في البرلمان، ولكن جماعات الأدباء لا تنشأ بالمراسيم ولا بالقرارات الوزارية، وإنما تنشأ أولاً ثم تعترف بها الدولة بعد ذلك. ومع ذلك فبين يدي مشروع قانون أرجو أن أقدمه إلى البرلمان في أول دورته المقبلة إن شاء الله، وهو ينشئ معهد فاروق الأول للعلوم والفنون والآداب، وسيكون هذا المعهد مؤلفاً من شعب خمس: شعبة الطب. وشعبة الأدب والحديث، وشعبة الفنون الجملة. وليس هذا المشروع جديداً، وإنما حاولت استصداره مع السنهوري باشا حين كان وكيلاً لوزارة المعارف وكنت أنا مراقباً للثقافة العامة، وحاولت استصداره حين كان نجيب الهلالي باشا وزيرا للمعارف، ولم أوفق، وأرجو أن يكتب لي التوفيق في هذه المحاولة الثالثة. ولن يغني هذا المعهد عن إنشاء جماعة الأدباء الحرة، ولن يمنعني أن أكون من السابقين إلى الاشتراك فيها.
المسرح والمجلات الأدبية:
وقلت: الحكومة تمد المسرح بالإعانات المالية ليقوم إلى جانب السينما التي تجتذب إليها الجماهير، فلماذا لا تعين المجلات الأدبية لتسير إلى جانب المجلات الأخرى؟
قال: ليست وزارة المعارف هي التي تعين المسرح، لأنه كما هو الآن لا يكاد يخدم الأدب العربي، وإنما هو لون من الترفيه وإضاعة الوقت. ولن تقصر وزارة المعارف عن إعانة المجلات الأدبية الخالصة إذا جدت ووقفت نفسها على الأدب الرفيع والثقافة الممتازة، وسبيلها إلى هذه الإعانة هو الاشتراك في أعداد ضخمة منها لمدارسها الكثيرة التي تزداد كثرة من يوم إلى يوم.
وقلت: بما للمسرح من أثر في التثقيف وتذوق الأدب المسرحي، ألا ترون أنه يجدر بوزارة المعارف أن تعين على النهوض بهذا الفن أكثر مما تفعل؟
قال: جئني بالأعوان الذين يمكن أن أعتقد عليهم في ذلك، ثم لمني إن قصرت بعد هذا.
كتابان:
قلت: أراني قد فرغت من معالي الوزير، وأريد أن أتوجه إلى طه حسين الكاتب الأديب بهذا السؤال: هل في برنامجه الحالي أن ينتهز بعض الفرص فينتج جديداً في عالم الأدب والفن؟
قال: في رأسي كتابان لن أستريح حتى أكتبهما إن مد لي في أسباب الحياة، أحدهما يسير لا احتاج فيه إلا إلى الوقت لأمليه، وهو رسائل إنسانية؛ والآخر يحتاج إلى الوقت والجهد، وهو تاريخ الشعر العربي إلى عصر أبي العلاء. ولكن الوقت يمضي والصحة تضعف وأنا أتعزى بمداعبة الأمل، والله المستعان.
روائع وإسفاف:
ثم سألت معاليه السؤال الأخير: ما رأيكم في أدب الجيل الذي يلي طبقتكم؟
قال: فيه روائع عن الشك، ولكن فيه إسفافاً كثيراً. ولا تدخل في التفصيل فلن تنال مني شيئاً
عباس خضر
الكُتُب
ديوان العرجي
شرح وتحقيق الأستاذ خضر الطائي
(ليقرأها صديقي معالي العلامة خليل مردم بك)
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
العرجي، عبد الله بن عمر بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان من شعراء قريش الذين شهروا بالغزل والنسيب، نحا فيه نحو عمر بن أبي ربيعة وكان مشغوفاً باللهو والصيد. ولقب بالعرجي نسبة إلى (العرج) وهو ماء له بالطائف، وكان من أبرز فتيان قريش عاش إلى سنة 120 هـ وقد اشتراك في الجيش الذي غزا القسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبد الله في عهد سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي، وقد ذكر المؤرخون أنه كان كريماً إلى حد الإسراف ومن صفاته الفتك والنجدة والشجاعة والمجون، وقد قيل إن ميله إلى القصف واللهو ومغازلة النساء الحسناوات كان شديداً. أما شعره فيتسم بالطابع الوجداني وقد نحا فيه كما قلت نحو عمر بن أبي ربيعة حتى أنه اعتزي به عند وفاة عمر لسده مسده في هذه الطريقة، وقد ذكر الأصفهاني في الصفحة 387 من الجزء الأول من أغانيه:
أنه لما مات عمر بن أبي ربيعة بكته نساء مكة بكاء شديداً وقالت إحداهن (من لمكة وشعابها، وأبطحها، ونزهها، ووصف نسئها، وحسنهن وجمالهن ووصف ما فيها! فقيل لها خفضي عليك، فقد نشأ فتي من ولد عثمان رضي الله عنه أي العرجي - يأخذ مأخذه ويسلك مسلكه. فقال أنشدوني من شعره. فأنشدوها فمسحت عينيها وضحكت وقالت - الحمد لله الذي لم يضيع حرمه. وديباجة العرجي في شعره مشرقة صافية عليها مسحة من الجزالة ولون من الرقة، حتى أن المغنين تغنوا بالكثير من شعره، وهو كما قال الأستاذ العقاد في كتابه (شاعر الغزل - عمر بن أبي ربيعة):
(إحدى هاتين المدرستين هي مدرسة الشعراء الذين اشتهروا بحب امرأة واحدة كما اشتهر قيس بليلى وعروة بعفراء وجميل ببثينة وكثير بعزة وتوبة بليلى. والمدرسة الأخرى هي مدرسة الشعراء الذين تغزلوا بأكثر من امرأة واحدة أو اشتهروا بحب النساء عامة كعمر بن
أبي ربيعة والعرجي وابن قيس الرقيات. ومن هنا تتضح لنا صفات شعره.
وقد ختمت حياة هذا الشاعر الفذ بمأساة؛ إذ أضغن عليه أمير مكة محمد بن هشام المخزومي في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك وهو خال الخليفة فقبض عليه بتهمة أسندها إليه وضربه وسجنه ومكث في السجن 9 سنوات حتى توفي، وله في السجن جملة قصائد نفيسة منها قوله
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
…
ليوم كريهة وسداد ثغر
وخلوني لمعترك المنايا
…
وقد شرعت أسنتهم لنحوي
كأني لم أكن فيه وسيطا
…
ولا لي نسبة في آل عمرو
ويذكر المؤرخون أن السبب في سجنه هو أنه كان قد شيب في جيداء أم محمد بن هشام المخزومي وكان والياً على مكة هجاء لابنها.
وفيها يقول
عوجي علينا ربة الهودج
…
إنك أن لا تفعلي تحرجي
إني أتيحت لي يمانية
…
إحدى بني الحارث من مذحج
نلبث حولا كاملا كله
…
ما نلتقي إلا على منهج
في الحج إن حجت وماذا مني
…
وأهلة إن هي لم تحجج
أيسر ما نال محب لدي
…
بين حبيب قوله عرج
نقض إليكم حاجة أو نقل
…
هل لي مما بي من مخرج
ومن رقيق شعره وقد غنى به
أماطت كساء الخز عن حروجهها
…
وأدنت على الخدين برداً مهلهل
من اللء لم بحججن ببغين حسبة
…
ولكن ليقتلن البريء المغفلا
وليتصور القارئ الذواقة جمال قوله (البريء المغفلا)
كما شبب العرجي ببحيرة وفيها يقول
عوجي على فسلمي جبر
…
فيم الصدود وأنتمو سفر
وتغزل في أم الأوقص - محمد بن عبد الرحمن المخزومي - وفي عاتكة زوجة طريح بن إسماعيل الثقفي، كما تغزل في كلابة مولاة لثقيف، كانت عند عبد الله بن قاسم الأموي.
وفيها يقول:
قالت كلابة من هذا فقلت لها
…
أنا التي أنت من أعدائه زعموا
أنا امرؤ جدبي حب فأحرضني
…
حتى بليت وحتى شفني سقم
لا تكليني إلى قوم لو انهمو
…
من بغضنا أطعموا الحمي إذاً طعموا
وأنعمى نعمة تجزي بأحسنها
…
فطالما مسني من أهلك النعيم
ستر المحبين في الدنيا لعلهمو
…
أن يحدثوا توبة فيها إذا أثموا
هذي يميني رهن بالوفاء لكم
…
فارضي بها، ولأنف الكاشح الرغم
وقد حدثنا الأصفهاني في أغانيه مرة أخرى ذات يوم إلى جنات الطائف متنزهاً فبصر بها مع نسوة جالسة، فعرفها وأحب أن يتأملها من قرب، دفعته الحيلة إلى ما دفعت إليه جميلاً إذ رأت أعرابياً ومعه سقاء لبن فرفع إليه العرجي ثيابه وأخذ قعوده ولبنه ولبس ثيابه ومر قريباً من النسوة، فصحن به: أمعك لبن؟ قال نعم، ومال إليهم وجعل يتأمل أم الأوقص وينظر حيناً إلى الأرض كأنه يطلب شيئاً وهن بشرين من اللبن، فقالت امرأة منهن: أي شئ تطلب يا أعرابي في الأرض؟ أضاع منك شئ؟ قال نعم، قلبي، فلما سمعت أم الأوقص كلامه نظرت إليه، وكان أزرق فعرفته. . فقالت العرجي ورب الكعبة! ووثبت وسترها نساؤها وقلن: انصرف عنا لا حاجة بنا إلى لبنك، فمضى منصرفاً وقال في ذلك:
أقول لصاحبي، ومثل ما بي
…
شكاه المرء ذو الوجد الأليم
إلى الأخوين مثلهما إذا ما
…
تأويه مؤرقة الهموم
لحيني والبلاء لقيت ظهراً
…
بأعلى النفع أخت بني تميم
فمن هذه الرواية يتضح لنا أنه كان بجاري ابن أبي ربيعة حتى في مغامراته الغزلية وإن كان لا يجاريه في الشعر. وإخال أنه كان يتقصد هذه الأعمال طلباً للموضوع الشعري الذي ينظمه وخصوصاً وهو من فتيان قريش المعدودين في الحسب والجاه والرفعة والوسامة والفروسية والبطولة ومن ذوي اليسار.
سقت هذه الكلمة الموجزة عن هذا الشاعر بمناسبة ديوانه الخطى النفيس الذي عثر عليه صديقنا الأستاذ الشاعر خضر الطائي والديوان نسخة خطية فريدة وحيدة في العالم كله (ابن جني) استنسخها لنفسه. فقام الأستاذ الطائي بتحقيقها وشرحها والتعليق عليها بعد مقابلة
أبيات القصائد بكثير من كتب الأدب. كما كتب لهذه المجموعة مقدمة شائقة ألم فيها بشعر الشاعر وعصره وظروف ذلك العهد من الناحية الأدبية والسياسية وحلل فيها شعره مع مقارنته بشعر ابن أبي ربيعة من الوجهة الفنية، ووصف المخطوط وكيف عثر عليه، وقد اطلعت على الديوان قبل أشهر فنصحته أو أشرت عليه أن يقدمه إلى المجمع العلمي العراقي لطبعه ونشره حتى يكون في متناول أيدي القراء في كافة البلاد الناطقة بلغة القرآن، ولكن يظهر أن المجتمع العلمي العراقي لا يريد أن يبشر ذخائر الشعر العربي الخطية، لذلك لم يقم لحد الآن بعمل يشم من رائحته أنه سيطبع الديوان أترك هذا الأمر إلى صديقي العلامة الأستاذ محمد بهجت الأثري وفي الوقت نفسه أهيب بصديقي العلامة معالي شاعر الشام الجليل الأستاذ خليل مردم بك أن يمد يده الكريمة فينشل هذا الديوان من وحدة الانطمار وببعثة من جديد وذلك بطبعه على نفقة المجمع العربي بدمشق كما فعل سابقاً. وبذلك يسدى إلى العربية جميلاً لا ينسى وخصوصاً وأن نسخة هذه الديوان فريدة من نوعها، وشعر العرجي يستحق التقدير والاحتفاء، وإن معالي الدكتور طه حسين باسا يوم كتب دراسته عن شعر العرجي تلك التي جمعت مع إخوانها في كتابة القيم (حديث الأربعاء) لو كان قد اطلع على كل شعره لكانت دراسته غير ما كتبت قبلاً. ولعله الآن يتفضل فيسدى هو يداً كريمة أخرى بتنبيه الحكومة العراقية إلى أن المخطوطات العربية إن لم يقم المجتمع العلمي العراقي بطبعها فمن الواجب أن تشكل لجنة من كبار الأدباء في العراق بطبعها فمن الواجب أن تشكل لجنة من كبار الأدباء في العراق برئاسة وزير معارف العراق غايتها دراسة تلك المخطوطات ونشرها في حلل قشيبة تناسب مقام أصحابها ومواهبهم، ولعلنا نأمل خيراً على يديه
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري
البَرَيدُ الأَدَبِيّ
مع الصافي أيضاً:
قلت في العدد 934 من هذه المجلة إن الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي نزيل دمشق حالياً أنه استعمل كلمة (دهس) بمعنى وطئه وداسه وهو استعمال خاطئ إذ الصواب أن يقول دعس كما هو في القاموس، ولكن يظن أن الصافي لا يعترف بالخطأ في استعمال الكلمات التي لا يقرها علماء اللغة. ولست أدري مرجع ذلك الإضرار! أهو غرور أم اضطراب في الأعصاب؟! فقد قرأت له في العدد (4143) من جريدة الزمان البغدادية قصيدة بعنوان (حسناء تسوق حسناء) وجدت فيها كثيراً من الخطأ أحببت أن أنبهه إليها لعله يدركها في المستقبل. وقبل أن أدرج هذه الأخطاء أود أن ألفت نظر صاحب الجريدة السيد توفيق السمعاني إلى أن الشاعر الكبير كما وصفت الجريدة الصافي يجب أن يلم على الأقل بأبسط قواعد اللغة وبالمفردات، فهل من الجائز أن يقع الشاعر الكبير الصافي في هذا الخطأ وهو
قال في مطلع القصيدة:
غانية فاقت على جيلها
…
وحق قرآني وإنجيلها
لا يقال فاق عليه بل فاق الشيء وفاقه.
ساقت أتومبيلا رقيقاُ لها
…
يجري رجاء وفق مأمولها
لست أدري كيف تكون السارة رقيقة وكيف تجري رخاء إذا كانت حسناؤه تسوقها.
دقيق سير كالغنا
…
بأعذب النغمة مقبولها
بالرغم عن سخف هذا المعنى ففيه خطأ نحوي وهو أن يأتي اسم التفصيل بعد أعذب أقبلها أو أكثر قبولاً فتأمل؟!
ثم يقول:
ألطف قد صيغ من جيله
…
فيه التي ألطف من جيلها
أنا أعطي جائزة لمن يحل هذه الأحجية غير اللطيفة.
آخر موديل جمال كما
…
موديله حلو كموديلها
إن الروى هذه القصيدة الياء والحرف الذي قبله يجب أن يكسر ولكن حرف الدال في
الموديل مفتوحة وكذلك أخطأ في قوله:
أحيته نهو الروح حلت به
…
يلمس كفيها ومنديلها
حرف اللام في منديلها بعد الروى مفتوحة لأنها معطوفة على كتفيها وهي مفعول لمس، ثم يقول في ختام هذه الأبيات الركيكة التي تشبه نظم المبتدئين لا نظم شاعر كالصافي:
أهوى ركوباً لي في جنبها
…
أولا فدهساً بأتومبيلها
إن ركوباً لي تركيب أعجمي إذ لا يقال أهوى الركوب لي بل أهوى، الركوب لأن كلمة أهوى تغني عن أنا أو لي. أما كلمة جنبها فهي غير شعرية، وكلمة دهس خطأ كما بينت سابقاً إذ الصحيح أن يقال دعس. فهل يرعى بعد هذا التحذير أستاذنا الصافي فلا ينشر إلا بعد الرواية والتنقيح؟ ثم هل ألام إذا ما قلت إن جل صحفي العراق أبناؤها تقويم ألسنتهم وهم عرب وليسوا بأعاجم!.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
ختان البنات بين الطب والإسلام:
نشرت مجلة (الدكتور) ملحقاً لعدد مايو سنة 1951 خاصاً بمسألة ختان البنات استفتت فيه بعض الأطباء الذين رأوا أنه لا ضرورة لهذا الختان؛ بل لعل بعضهم رأى فيه ضرراً نفسياً واجتماعياً. وقد تعرض بعض بعضهم للدين قائلاً بأنه لا يوجد شرعاً ثم لا يوجد طبياً أي مبرر لهذا الختان، وأنه ليس في الأحاديث النبوية ولا في أقوال الأئمة ما يشير إلى الختان إن البنات كما ورد عن الذكور لذلك رأيت لزاماً أن أبين وجهة الدين ثم أتبعه برأبي الطبي الخاص.
يقول الرسول (ص)(الختان سنة للرجال مكرمة للنساء) فهل هناك شئ أفضل من هذه المكرمة التي تضبط اشتهاءهن وتقلل استهتارهن وفي الوقت نفسه لا تحرمهن لذاتهن (كما سأبين بعد) ثم انظر إلى قول حضرة الرسول (ص) عندما هاجرت النساء وكان فيهن امرأة يقال لها أم حبيبة وكانت تختن الجواري، فلما رآها رسول الله (ص) قال لها يا أم حبيبة، هل الذي كان في يدك هو في يدك اليوم؟ فقالت نعم يا رسول الله إلا أن يكون حراماً
فتنهاني عنه، قال بل هو حلال، فأدني مني حتى أعلمك، فدنت منه، فقال يا أم حبيبة: إذا أنت فعلت فلا تنهكي فإنه أشرق للوجه وأحظى عند الزوج.
فانظر أيها القارئ الكريم إلى كلمة (لا تنهكي) أي لا تستأصلي، أليس في هذا الحديث معجزة تنطق عن نفسها وتدل بوجهها، فلم يكن الطب قد أظهر شيئاً عن هذا العضو الحساس (البظر) ولا التشريح أيان الأعصاب التي فيه، ولكن الرسول (ص) الذي علمه الخبير العليم عرف ذلك فأمر ألا يستأصل العضو كله.
هذا وإن عملية الختان الصحيحة من الوجهة الطبية أن لا يقطع البظر من جذره، بل يقطع جزء منه فتقطع الحشفة وجزء من العضو، وهذا الجزء الأعلى هو ذو الحساسية الشديدة، ثم يبقى جزء منه توجد فيه أيضاً الحساسية ولكن بدرجة أقل ويقول حضرات الأطباء الذين استفتهم المجلة إن الختان يحرم المرأة الشعور الصحيح باللذة الجنسية، لكن الحقيقة التي لا مرية فيها أن الفتاة التي استهدفت لعملية الختان قلت فيها حساسية الشهور نوعاً ما، بخلاف التي لم يعمل لها الختان فإن أي احتكاك بالبظر - حتى يثوبها - يحرك فيها حساسية شديدة ربما لا يؤمن جانبها في الفتيات. وأما المتزوجة فالشعور لا يزال فيها لكنه شعور غير فياض، رزين غير عابث، مضبوط زمامه غير منفلت فالتأثير الجنسي لم يعدم في المرأة بعد ختانها؛ إنما وجد بمقدار إن زاد أضر بها.
هذا وإني أرى فائدة الختان للبنات تتلخص طبياً فيما يأتي:
(أولاً) الإفراز الدهني المفرز من (الشفريين الصغيرين) إن لم تقطعاً مع جزء من البظر في الختان، تتجمع وتتزنخ ويكون لها رائحة غير مقبولة، وتحدث التهابات قد تمتد إلى المهبل بل إلى قناة مجرى البول، وقد رأيت حالات كثيرة بهذه الالتهابات في بعض السيدات سببها عدم الختان.
(ثانياً) هذا القطع كما أشرنا يقلل الحساسية للبنت حيث لا شيء لديها ينشأ عنه احتكاك جالب للاشتهاء؛ وحينئذ لا تصير البنت عصبية من صغرها.
وصدق رسول الله (ص) أن الختان مكرمة للنساء، وهو أشرق للوجه إذا لم يستأصل في الختان البظر كله، وإلا كانت المرأة عصبية المزاج صفراء اللون، ونرى أن الختان يجب أن يقوم به الأطباء والحكيمات المتمرنات، لا أن يترك لهؤلاء النساء الجاهلات.
دكتور حامد الغوابي
دائرة المعارف الحديثة
لمواطننا الأستاذ أحمد عطية الله مدير متحف التعليم بوزارة المعارف ولع بكثرة الإنتاج والتأليف، فهو من وقت لآخر يطالع القراء بأبحاثه ومؤلفاته، وآخرها فيما أظن دائرة المعارف الحديثة التي تصدرها تباعاً مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة، وقد عنيت بصفة خاصة بقراءة ما ظهر من أجزاء هذه الدائرة حرفية فلم أجد فيها ما يشعر مطلقاً بحرص كاتبها ليل يختطف من كل كتاب كلمة، وينتزع من كل صحيفة بحثاً حسبما يتفق له وبريق في نظره دون أن يكلف نفسه دقة التقل والتأكيد من صحة المعلومات التي يملأ بها صفحات دائرة معارفه. ولقد أساء بذلك إلى العلم والمعرفة كما أساء إلى نفسه، وكان خيراً له أن يقرأ ويتثقف حتى ينضج، ثم بعد ذلك يعمد للتأليف ويتصدى لمثل هذه المباحث وكان خيراً له أن يشرك معه في البحث والمراجعة علماً من أولى الخبرة والدراية ليكون إنتاجه ممحصاً مهذباً، وإني أضع بين يدي القارئ الكريم مادة واحدة من بين آلاف المواد التي تحتويها دائرة معارفه الحديثة ليرى ما في هذه المادة وحدها من خلط، تلك مادة - رمضان - ص 240 بالجزء الرابع فقد جاء بها ما يلي (ورمضان من الأشهر الحرم نزل القرآن في الرابع منه، وفي الأخير منه ليلة القدر، وفي السابع والعشرين منه حدثت موقعة بدر الكبرى) ومن المجمع عليه لدى أهل العلم أن الأشهر الحرم هي: رجب وذو العقدة وذو الحجة والمحرم. ولم يقل أحد مطلقاً أن رمضان من الأشهر الحرم. وبمراجعة ما كتبه المؤلف نفسه بصفحة 227 من هذا الجزء في مادة رجب - نجده يقول عن شهر رجب (وهو أحد الأشهر الحرم وهي المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة) وهذا خلط واضح وتناقض معيب! ولم يذكر أحد الثقاة ولا غيرهم أن القرآن الكريم نزل في الرابع من شهر رمضان كما لم يذكر أحد أن ليلة القدر في الأخير من هذا الشهر كما يقول المؤلف، وكان يكفيه أن يقف حيث وقف القرآن حين قال تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) ولكنه أبى إلا أن يتعالم بذكر المرويات فلم يحسن نقلها؛ فقد روى العلامة الألوسي في تفسير للقرآن الكريم عند قوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وخرج الإمام
أحمد والطبراني من حديث وائلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاثة عشرة والقرآن لأربع وعشرين) ولم يقل أحد مطلقاً أن ليلة القدر في الأخير من رمضان ونحن مأمورون بتلمسها في العشر الأواخر منه؛ لقول النبي الكريم تحررها في العشر الأواخر من رمضان وأكثر العلماء على أنها ليلة السابع والعشرين.
أما موقعة بدر الكبرى فكانت في السابع عشر من رمضان لا في السابع والعشرين منه كما قال المؤلف. وكثير من العامة وناشئة المتعلمين يدركون هذه الموقعة في السابع عشر من رمضان. ومؤلفنا الفاضل لا تعنيه السوق بمؤلفاته العديدة ليربح منها - فما يزعم - الصيت والمال، وهي مادامت فجة ضعيفة فلن يربح منها غير المذمة والإفلاس.
الأقصر
علي إبراهيم القنديلي
القَصَصُ
عندما يسخر القدر
للكاتب الأمريكي أو. هنري
للأستاذ رمزي مزيغيت
تململ سوبي على مقعده في متنزه ماديسون بقلق واضطراب، ولم يلبث أن انتفض من مضجعه فزعاً مهموماً. فقد اهتزت الشجرة التي تظله وسقطت في حجرة أوراق ذاوية صفراء. وقد دلته التجارب والأيام أن الأوراق الصفراء ما هي إلا نذير الطبيعة الرؤوم لأمثاله من منا كيد الدهر تحذرهم بأن قد آن الأوان ليبحثوا لهم عن مأوى يقيهم قر الشتاء وشآبيب السماء.
واعتقد سوبي رأسه بين يديه وغرق في لجة من التفكير. . إلى أين يذهب، وأي مأوى يختار لفصل الشتاء؟ إنه لا يطمع في القصور المنيفة، ولا يبغي وثير الفراش. . إن كل ما يطلبه وتهفو إليه نفسه غرفة ضيقة حقيرة في سجن الجزيرة يقيم فيها وتعصمه من البرد خلال أشهر الشتاء الثلاثة.
وقد كان سجن الجزيرة هذا مشتي سوبي المفضل لعدة سنوات خلت. . فكان إذا ما قرعت ريح الشتاء أبواب إلى سجن الجزيرة، كما يسعى المترفون إلى اتخاذ الترتيبات للاشتاء في الريفييرا وغيرها. . وها هو ذا الفلك قد أتم دورته وحل الشتاء. وفي الليلة السابقة نخر البرد عظامه رغم ما التف به من صحف وأوراق وهو نائم على المقعد في المتنزه. . وكان بوسعه أن يلتجئ إلى أحد الملاجئ الخيرية الكثيرة في المدينة، حيث يقدم له الطعام والمأوى مجاناً. . إلا أنه كان يفضل ضيافة السلطات القانونية على ضيافة الملاجئ الخيرية، وكانت نفسه الأبية ترى في الاستجداء ضعة وهواناً، فهو إن لم يدفع لمأواه في هذه الملاجئ مالا يدفع له من عزة نفسه ضريبة. . كلا ثم كلا. . أنه لن يستجدي لقمته على حساب كرامته. .
وما كاد يقف عند هذا العزم حتى انقلب يفكر في الوسيلة التي توصله إلى السجن. . وكانت الوسائل كثيرة سهلة، ولكن أفضلها أن يدخل مطعماً من المطاعم الراقية ويتزود بأكلة شهية
لرحلته الطويلة إلى الجزيرة، وعندما يفرغ من طعامه ويتأكد أن كل زاوية من الزوايا معدته الخاوية قد سدت وامتلأت، يدعو إليه الخادم وينبئه بخلو جيبه، فيستدعي هذا شرطياً من الخارج دون ما ضجة أو جلبة إلى حيث يمثل أمام القاضي العادل. . .
وللحال غادر سوبي مقعده في المتنزه، وانطلق في شارع طويل عريض يغص بالحركة، حتى وصل إلى مطعم فخم تنبعث منه رائحة تفتح لها شهرة المكظوظين. ووقف سوبي لحظة أمام الواجهة، وأرسل نظراته إلى الداخل متأملاً مفكراً. هاهي ذي مائدة لا تبعد كثيراً عن الباب لا يشغلها أحد. فلو قدر له أن يصلها دون أن ينتبه أحد إلى سرواله المهلهل وحذائه الممزق، لهان الأمر وتحققت الآمال. . فهو حليق الذهن نظيف المعطف، ورباط عنقه أنيق جميل أهدته إليه إحدى المبشرات يوم عيد الشكر. . فإن ما جلس إلى المائدة فلن يظهر منه إلا الجزء الأنيق، ولن يداخل الخادم أدنى شك في أنه سيد محترم. . وعندئذ يطلب منه أطيب المأكولات، ولكن باعتدال، حتى لا يثير غضبة المدير وقت الحساب فينزل عقاباً غير الذي يرغب. . وارتاح سوبي لهذا الخاطر واتجه نحو الباب، ولكنه لم يكد يتخطى العتبة حتى اتجهت عينا رئيس الخدم إلى سرواله وحذائه. . وما هي إلا لحظات حتى تلقفته أيد قوية جبارة أخذت تجره دون ما ضجة إلى أحد الشوارع الجانبية.
وقدر سوبي أن الوصول إلى السجن لن يكون سهلاً كما تصور. ثم انطلق في شارع آخر وهو يعمل الفكر في وسيلة أضمن. وما كاد يسير بضعة أمتار حتى لفت نظره واجهة متجر كبير تشع منها تشع منها الأنوار الباهرة، وقد عرضت فيها شتى الملابس الثمينة. . وللحال التقط حجراً، وقذف به زجاج الواجهة فحطمه. . فتراكض السابلة يتساءلون عن الخبر، وقدم شرطي من رأس الشارع يهرول مسرعاً. ولكن سوبي لم يتحرك من مكانه، بل وقف جامداً ويداه في جيبه. . وواجه الشرطي بابتسامة عريضة. . وسأله رجل البوليس: من فعل هذا؟ فرد عليه سوبي برزانة وهدوء: أو لا يخامرك شك بأني قد أكون أنا من تسأل عنه؟
ولكن رجل البوليس لم يفكر في ذلك قط، بل لم يشأ أن يتخذ من سوبي شاهداً على ما حدث. . فسارق الواجهات لا يقف مكانه هادئاً ويداعب رجل القانون. . بل يولى بجلده هارباً. . وتلفت الشرطي حوله، فرأى رجلاً يركض مسرعاً للحاق بسيارة، فقبض على
هراوته بشدة وانطلق وراءه مهرولاً. . ولوى سوبي شفتيه ازدراء وتابع سيره يائساً خائباً.
وعلى الرصيف المقابل رأى مطعماً من الرجة المتوسطة، شهي الطعام معتدل الكلفة. فلم يتردد لحظة واتجه إليه ودخله دون أن يلفت إليه الأنظار. ولما جاءه الخادم طلب من أطايب المأكولات أصنافاً وألواناً. وعندما انتهى دعا الخادم إليه وقال مبتسماً: إن جيبي يا صاحبي خال، فهيا أسرع واستدع البوليس، ولا تتركني أنتظر طويلاً. . ولكن الخادم قال مزمجراً - وما حاجتي إلى رجال البوليس؟ ثم التفت إلى زميل له قريب وأشار إليه بطرف عينه، فأقبل هذا عليه وأمسك الاثنان بسوبي من كتفيه وجراه حتى الباب ثم قذفا به إلى عرض الرصيف. . ولملم سوبي نفسه ونهض. . وعلى مقربة منه رأى شرطياً فعاوده الأمل. . ولكن الشرطي قهقه عالياً وانثنى في طريقة يواصل دورته. .
وواصل سوبي سيرة وقد تملك اليأس نفسه وقوض صروح أحلامه. . وقطع مسافة طويلة دون أن يبرق في ذهنه ما يحيى ميت الآمال. . وعلى حين غرة رأى سيدة فتية ممشوقة القد تقف أمام واجهة مخزن كبير تطوف بعينيها في معروضاته وعلى مسافة قريبة منها ينتصب شرطي طويل تبدو على محياه علامات القسوة والصرامة. . فخطر ببال سوبي أن يمثل دور أفاق يعاكس السيدات، وشجعه على ذلك مظهر السيدة الأنيق ووجود رجل البوليس، وقدر أنه لن يلبث أن يحس بقبضة رجل القانون تهوى على كتفه وتسوقه إلى مشتاه المحبب في سجن الجزيرة. . وللحال أصلح سوبي رباط عنقه وأمال قبعته فوق أذنه، واتجه نحو السيدة. . ولما اقترب منها أخذ يحملق فيها ويسعل ويتنحنح ويبتسم. ثم نظر بطرف عينه إلى الشرطي فرأى أنه قد انتبه إليه وراح يصليه بنظراته الحادة. وتململت السيدة في وقفتها ولكنها لم تنتقل من مكانها. . فتقدم سوبي منها بجرأة ثم رفع قبعته عن رأسه وقال لها: أهذ أنت يا باديليا؟ هلا جئت لنلعب معاً في ساحتنا؟ وكان رجل البوليس لا يزال يرقبه، وما كان على السيدة إلا أن تشير بإصبعها إليه حتى يكون سوبي في طريقة إلى الجزيرة. ولكن السيدة لم تفعل شيئاً من ذلك، بل ألقت بيدها على كتف سوبي وصاحب جذلة: كم اشتهي ذلك يا عزيزي ما بك. . ثم تأبطت ذراعه وهمست في أذنه: اعذرني إذ لم ألتفت إليك قبل الآن، فقد كان الشرطي يرقبنا عن كثب. وسار سوبي مرغماً إلى جانب صديقته المزعومة ومرا من أمام الشرطي وقد خابت الآمال وفاته حلم
الاعتقال. وعندما وصلا إلى منعطف الشارع تملص سوبي من رفيقته وأطلق ساقيه للريح. . ولم يقف إلا عندما وصل ميدانا يغص بالحركة، فسار في الزحمة متأملا مفكراً. وما كادت عيناه تقعان على قبعة شرطي ثالث حتى لمعت في ذهنه حيلة جديدة. فنطلق في اتجاهه يترنح في مشيته كالسكران يضرب بالمارة يميناً وشمالاً ويغني بأعلى صوته أبذأ الأنعام. . وتأمله الشرطي لحظة ثم أدار له ظهره وقال لأحد المارة - هذا أحد المحتفين بحفلة كلية هارتفورد الخيرة، ولدينا تعليمات بأن لا نعترض أمثاله ما داموا لا يؤذون. وسمع سوبي وينصرفون عنه. .؟! وتابع سيرة بعد أن زره سترته ليدرأ عن نفسه برد الليل. . وفي أحد حوانيت التبغ رأى سيداً أنيق الثياب يشعل سيجاراً وقد ترك مظلته الحريرية الثمينة بالقرب من الباب. . فلم يتردد سوبي ودخل المخزن وأخذ المظلة وعاد إلى الشارع ببطيء وهدوء، ورآه السيد وتبعه مسرعاً وهو يقول - هذه مظلتي. . هذه مظلتي. . فرد عليه سوبي بازدراء - أحقاً؟ إذا كانت فعلاً مظلتك فلم لا تدعو البوليس؟ لقد سرقتها. . أليس كذلك؟ هيا إذن واستدع البوليس. . . وها هو أحدهم يقف هناك عند المنعطف. . وخفف صاحب المظلة من سرعته وكذلك فعل سوبي مخافة أن يتراجع السيد وتفوته الفرصة. وراقب البوليس ما يجري باهتمام. . وقال السيد - عفواً، عفواً، فكثيراً ما يحدث هذا الالتباس، وإني لأعتذر عما بدر مني إذا كانت هذه مظلتك فقد أخذتها اليوم خطأ من أحد المطاعم وأنا أحسبها مظلتي، فإذا عرفت فيها مظلتك فأرجو. . . فقاطعه سوبي بحدة: طبعاً إنها مظلتي. . . وعاد صاحب المظلة أدراجه، وانصرف اهتمام الشرطي إلى مساعدة سيدة تقطع الشارع من رصيف إلى رصيف واتجه سوبي جهة الشرق وطرق شارعاً خرباً. . . ثم قذف بالمظلة إلى إحدى الحفر بغضب وثورة وهو ينزل اللعنات على رؤوس رجال البوليس الأغبياء. ووصل أخيراً إلى شارع يخف فيه الضجيج وتقل الحركة، واتجه دون ما شعور صوب متنزه ماديسون. وعند منعطف انعدمت فيه الحركة وانقطعت السابلة توقف سوبي عن السير وثبت في مكانه وقد عقل منه القدم والقلب معاً. . فعلى بعد خطوات قليلة منه رأى كنيسة عتيقة تآكلت حجارتها وتفتتت ومن زجاج نوافذها الملون ينبعث شبه ضوء أرجواني يحمل على أمواجه أنغام أرغن ناعمة شجية، نفذت إلى أعماق روحه وملكت عليه لبه. . وكان البدر يخطر في كبد السماء باسطا على الكون ستراً
من لجين، والطير المستجم على الشجر يزقزق في أمن وهدوء. . . فكان لهذا المشهد الطبيعي وذاك النغم الهادئ في نفس سوبي فعل السحر، فوقف وقفة المتعبد الضارع في هيكل الخشوع. وترك رأسه يسقط على صدره وأرخى لفكرة العنان. . إنه ليذكر هذا اللحن السحري ويعرفه تماماً. . لطالما ترنم به وردده يوم كانت حياته هنيئة رخية يظللها عطف الأب وحنان الأم. ويجملها أنس الصحب والرفاق ولذة الأمل والرجاء. آه ما كان أحلاها من أيام. . لقد صدق من قال: إن الدهر مداج ذميم يستل الشقاء من ضلع الهناء. ولكن لم ألوم الدهر وأنا الملوم أولاً وآخر؟ لقد أبيت الهدى والإرشاد، وركبت رأسي وسرت وفق هواي تاركاً خطاي حرة مسترسلة في دروب المعاصي والآثام، حتى استقر بي المطاف على مقعد في أحد المنتزهات. . ودفن سوبي وجهه بين راحتيه كأنما يحجب عن عينيه صور ماضيه البغيض. . ولم يلبث أن أشرق في ذهنه خاطر جميل، وشعت في ظلمات نفسه بوادر أمل. . لم لا يصلح حاله ويبدأ حياته من جديد. . إنه مازال في ربيع شبابه وكامل قوته. . فليجند قواه الفتية ويشنها حربا عاتية على قوى الشر والخمول. نعم! سينزل إلى الميدان، ويزاحم بمنكبيه، ويقرع أبواب العمل بقبضتيه حتى تستجيب له. إنه يذكر أن مستورداً للغراء كان قد عرض عليه يوماً أن يعمل عنده سائقا، فأبي ترفعاً. . . سيذهب إليه في الغد ويعمل عنده بأي أجر، حتى يجعل من نفسه شخصاً جديراً بالفخر.
وضاء وجه سوبي لهذا الخاطر وافتر ثغره عن ابتسامة مشرقة. . ولكنه سرعان ما انكمش في نفسه وغاض البشر من محياه، عندما هبطت على كتفه قبضة ثقيلة. فالتفت وراءه ليرى شرطياً يتأمله. وسأله الشرطي:
- ماذا تعمل هنا في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
- فقال سوبي: لا شيء
- إذن فهيا معي إلى قسم البوليس. .
وفي اليوم التالي أصدر القاضي حكمه عليه بالسجن ثلاثة أشهر في سجن الجزيرة.
رمزي مزيغيت