المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 938 - بتاريخ: 25 - 06 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٣٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 938

- بتاريخ: 25 - 06 - 1951

ص: -1

‌3 - على هامش السياسة الدولية

للأستاذ عمر حليق

من الأساليب التي تتبعها بعض الحكومات الكبرى التي لها مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية واسعة مع شعوب الشرق للتعرف على حقائق الخلق القومي لتلك الشعوب هي جمع كل ما ينشر عن الحكومات الأوربية والأمريكية في ألسنة الرأي العام في دول الشرق من افتتاحيات صحفية ودراسات علمية وتعليقات سياسية وفصول من كتب التاريخ والآداب التي تدرس في مدارس دولة من دول الشرق، وغير ذلك من مواد الغذاء الفكري التي تتوفر لشعب من الشعوب.

ويعرف كاتب هذه السطور أن هناك ثلاث جامعات أمريكية كبرى تقوم الآن بتحليل هذه المواد المجموعة من مختلف بلدان الشرق العربي؛ وهي التي تغذي القارئ العربي بالغذاء الفكري عن أبناء السياسة الأمريكية المعاصرة، وعن التاريخ والأدب الأمريكي، وعن الإنتاج الأدبي الفني الذي يصدر إلى الشرق العربي من هوليود في شكل أفلام أو قصص أو صور فوتوغرافية تمتلئ بها صحف الناطقين بالضاد.

والجامعات الأمريكية المذكورة تقوم بهذا العمل بتكليف من المراجع الأمريكية المسؤولة وعلى نفقتها. ويقوم خبراء علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي وعلم الأنتروبولوجيا الثقافية بتحليل هذه المواد ليتيقنوا من الفكرة التي يحملها الشعب العربي عن أمريكا؛ لا في ناحية السياسة والاقتصاد فحسب، بل في شتى أوجه النشاط الفكري التي يلعب فيه الخيال والاستنتاج دوراً كبيراً.

وهذه الدراسة توفر لصناع السياسة وأرباب الأعمال وقواد الجيش أسلحة علمية على غاية من الدقة والمهارة يستطيعون بواسطتها معالجة مشاكل الشرق والغرب.

والناس في أغلب الحالات يعتقدون أن نشاط دولة ما في توثيق علاقاتها مع الدول الأخرى يقتصر فيه على الدعاية (البروبوغاندة) أو المساعدة المالية أو الضغط السياسي أو ما شاكل ذلك من أوجه السياسة الدولية التي تحمل أنباءها كل يوم الصحف السيارة ورسائل المواصلات الفكرية السريعة وقل ما يفطن القارئ إلى أن هناك أساليب أخرى لتوثيق العلاقات - خيراً أم شراً - بين دولة وأخرى سواء أنكافأت مصالحها أم لم تتكافأ.

ص: 1

فالشعب العربي وشعوب الشرق إجمالاً فقراء في وساءل المواصلات الفكرية السريعة؛ وفقراء في المكتبات العلمية الحديثة، وفقراء في التحليلات والتعليقات السياسية العميقة التي تعالج المشاكل الدولية من وجهة النظر العربية البحتة. فمعظم ألسنة الرأي العام في الشرق عالة في معلوماتها واستنتاجاتها على مجرى وتطورات السياسة الدولية - عالة على وكالات الأنباء العالمية (روتر والأسوشيتدبرس وغيرهما) وعلى بحوث الأخصائيين الأجانب، وعلى هذه المجلات العلمية القليلة الانتشار التي لاتصل منها إلى الشرق العربي إلا طائفة ضئيلة. ولذلك فإن تحليل قارئ الصحف السيارة في العالم العربي عن الشؤون السياسية الدولية متأثر حتماً بما يتغذى به من أنباء وتعليقات ترد إليه مباشرة عن طريق المعلقين السياسيين والصحفيين والكتاب الذين يعنون بتوجيه الرأي العام، والذين يتأثرون بدورهم لذلك الاجتهاد الأجنبي. وقل أن تجد في العالم العربي - وفي أكثر الدول الصغيرة الشرقية والغربية كذلك - مؤسسات أهلية تعيش على دخل ثابت تتوفر على تحليل الاتجاهات الدولية من وجهة النظر القومية البحتة (كما تفعل مثلاً مؤسسات كاربنجي وروكوفلر ومعهد العلاقات الخارجية في أمريكأن وشاثام هاوس في بريطانيا) غير متأثرة بالاعتبارات السياسية الداخلية أو الضغط الحكومي أو المصلحة الاقتصادية الخاصة بطبقة من طبقات المجتمع.

وبالإضافة إلى تلك المؤسسات الأهلية فإن الجامعات في أوروبا تتوفر في دوائرها المختلفة على القيام بمثل هذه التحليلات التي همها الدقة العلمية المجردة، والبحث الثقافي الخالص. وتنشر تلك الدراسات في بحوث، وانتشارها محدود، ولكن أثرها بعيد، إذ أنها توفر لصناع السياسة الرسميين ولغيرهم من المسؤولين عن توجيه الرأي العام وللمثقفين وغيرهم من المواطنين - توفر لكل هؤلاء ذخيرة علمية نافعة.

قلنا إن الشرق وغيره من الشعوب التي لم يكتمل بعد نموها على نحو النمو في العالم الغربي - هذا الشرق يستمد استنتاجاته عن مجرى العلاقات الدولية عن طريق غير مباشر - أجنبي في أصوله وهدفه، إذ لا يعالج القضية من وجهة النظر العربية وإنما يعالجها من وجهة النظر الدولية التي صدرت فيها الدراسة.

وهذا التأثير غير المباشر يخلق في انطباعات الناس في الشعوب الفقيرة تأثيراً لا يمكن أن

ص: 2

يكون إيجابياً؛ بمعنى أنه مجرد من (الدعاية) حتى لو افترضنا بأن هذه الدعاية جاءت عفواً بدون تصميم أو تعمد.

وهذا الوضع يوفر للدول ذوات المصالح في علاقاتها مع العالم العربي - وغيره من الشعوب العالم - وسائل على غاية من الدقة والمهارة لتوجيهه توجيهاً يتماشى والمصلحة الجوهرية لتلك الدول. أو لا يفطن كثير منا في بعض الحالات إلى هذا النوع من التوجيه فيما تحمله إلينا وكالات إلى هذا النوع من التوجيه فيما تحمله إلينا وكالات الأنباء (الأجنبية) من أنباء أو تعليقات المفروض فيها أن تكون صادقة نزيهة، ولكنها في الواقع صادرة من (مصدر رسمي) أو (مصدر وثيق) في وزارة الخارجية لدولة من الدول التي لها مصالح مباشرة في ترويج ذلك الخير في ألسنة الرأي العام العربي؟ فإذا فطن بعضنا إلى هذا النوع من الغش السياسي في بعض الحالات فإن أكثرنا لا يفطن إليه في جميع الحالات، إذ أنه يستند إلى أسلوب في التوجيه يستمد أصوله من الدراسات الاجتماعية والنفسانية العاطفية للمقومات الخلقية للشعب العربي على نحو ما أشرنا إليه في مكان آخر من هذا البحث، ومن التيارات السياسية والاقتصادية العابرة والوسيلة الوحيدة للتغلب على هذا الوضع - وهو وضع خطير إذا دققت فيه - هي أن توفر لصناع السياسة الرسميين في الدول العربية وللمعنيين بتوجيه الرأي العام العربي من صحفيين ومعلقين سياسيين وغيرهم من المواطنين الواعين وسائل تكشف لهم عن تلك الأساليب العلمية والبحوث العميقة التي توفرت لدى أهل الحل والربط في الدول الكبرى ذوات المصالح التي لها صلات مباشرة وعلاقات جوهرية مع العالم العربي - تلك الأساليب التي يبدو أنها قد حققت قسطاً كبيراً من النجاح لتلك الدول ذوات المصالح في علاقاتها مع العرب - وقد يكون هذا النجاح متماشياً مع المصلحة العربية أو قد لا يكون، إنما المهم أن يكون أولو الأمر والمسؤولون عن توجيه الرأي العام مدركين لتلك الأساليب عالمين بدقائقها وخفاياها. وفي الحديث الشريف (من تعلم لغة قوم أمن شرهم) ، واللغة هنا يجب أن لا تعني فقط الكتابة والمخاطبة، وإنما يجب أن تشمل الاطلاع على تلك الأساليب العلمية الدقيقة التي ندرس بها وضعية جيراننا في هذا العالم - خصوماً وأصدقاء - الفكرية والعاطفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها على نحو ما سبق استعراضه.

ص: 3

فدوائر الاستخبارات السياسية والحربية للدول الكبرى تعتمد على مصدرين في دراستها لوضعيات الشعوب الأخرى:

الأول يزودها به عملاؤها من (الجواسيس) من رعاياها أو من مخدوميها الغرباء. وهذا النوع من الاستخبارات لا تحتاج إليه الدول الصغرى في علاقاتها مع الدول الكبرى إلا بقدر محدود، لأنه يركز نشاطه في آلة الحرب، والاتصال بالعناصر من نظم الحكم في الدول المتخاصمة وغير ذلك من الأمور التي تهم الدول التي تقع على عاتقها مسؤولية الحرب والسلم العالمي.

والمصدر الثاني: (وهو الذي يعنينا هنا) استنتاج المعلومات الدقيقة عن الوضعية الحقيقية في دولة ما عن طريق ما ينشر فيها من صحف ومجلات وإذاعات وكتب وتقارير وما يعكسه الممثلون الدبلوماسيين من ألوان الاتجاهات المستجدة في الدولة التي انتدبوا لتمثيل حكوماتهم بها.

وتحت هذا النوع من الاستنتاج تأتي دراسات من المستشارين وأهل الاختصاص في الدوائر الحكومية في المؤسسات العلمية الأهلية والجامعات وحلقات النقاش الحديث المنتظم على النحو الذي لفتنا إليه النظر في مكان آخر من هذه الكلمة وكثير من هذه الدراسات ليس له طابع السرية في أكثر الأحيان؛ وإنما يباع ويشتري في مكتبات معينة يعرفها أكثر المعنيين بهذا اللون من ألوان الثقافة.

إذن فالحصول على النوع الثاني من الاستنتاجات شرعي لا قيود عليه. ويجب أن لا يقتصر هذا النوع من النشاط على الملحقين الثقافيين في المفوضات والسفارات، وإنما يجب أن يخصص له فرع خاص في الدوائر المسؤولة في حكومات الوطن، وأن تشجع الجامعات على القيام به، وأن تقوم على الاهتمام به المؤسسات القومية، وأن ينشر في الناس أو على الأقل يوزع على المعنيين والمسؤولين عن توجيه الرأي العام العربي من كتاب صحفيين ومعلقين بالإضافة إلى الرجال الرسميين والنواب والشيوخ وغيرهم.

وهذا بالفعل ما تقوم به مثلا الحكومتان الأمريكية والبريطانية في صلاتهما مع نواب الأمة وشيوخها والصحافة المحلية ووكالات الأنباء والمراسلين الأجانب والمدنيين السياسيين وغيرهم، إذ أنها توفر لهم من الحقائق الأوضاع السياسية في الداخل والخارج ما تسمح

ص: 4

المصلحة القومية بنشره ولا يدخل في عداد ذلك طبعاً التقارير السرية وما شابهها من المراسلات الدقيقة الخاصة

ومن أمثلة الحاجة الماسة إلى هذا النوع من توصيات السياسة الخارجية ما اختبره كاتب هذه السطور منذ بضعة أشهر وقد حدثني مؤخراً عربي مسئول يقوم بعمل سياسي هام في منطقة حساسة على حدود إسرائيل بأنه كان منذ عامين أو أكثر يتلهف للحصول على معلومات عن بعض حقائق الوضع السياسي والاقتصادي والعسكري اليهودي كما يعكسها الرأي العام اليهودي في إسرائيل والخارج مما ينشر في عشرات بل مئات النشرات والدراسات التي تصدر بالعبرية واللغات الأجنبية في إسرائيل وفي أمريكا وبريطانيا؟. قال لي ذلك وهو عالم بأن اليهود يحصلون على جميع الصحف والمجلات والكتب العربية والإنتاج الفكري العربي - بوسائلهم الخاصة وهي وسائل هينة - ويستعملونها في دقة ومهارة لتوجيه مكرهم السياسي في هيئة الأمم وفي لجان الهدنة العسكرية وفي أعمالهم الجاسوسية في صميم البلدان العربية، وفي توجيه إذاعتهم العربية من راديو تل أبيب وفي بنهم للدعاية في دخيلة سواء عن طريق المراسلين الأجانب الذين يتخذون إسرائيل مركزاً لهم؛ أم عن طريق (مكاتب الدعاية اليهودية) في نيويورك وواشنطون ولندن ونيودلهي وكثير من عواصم العالم.

جرى هذا الحديث بيني وبين ذلك العربي المسؤول في نيويورك فما كان منا إلا أن اتفقنا بضعة أيام استطعنا خلالها أن نجمع بصورة شرعية لا غبار عليها مئات من النشرات والكتب والصحف والتقارير عن إسرائيل باللغة العبرية والإنجليزية والفرنسية من بعض المكتبات التجارية في نيويورك وواشنطون ومن مكاتب الدعاية اليهودية نفسها في هذا القسم من العالم

وبعض هذه المواد يباع علنا وبعضها يمكن الحصول عليه عن طريق الاشتراك الخاص، وبعضها يوزع لمن يطلبه إذا اتبع بعض اللباقة وتفادي إثارة شكوك أولى الأمر اليهود، وهم شعب حذر مرهف الحس فيما يتعلق بمصلحته ومراميه. فإذا توفر على دراسة هذه المادة جماعة من أهل الاختصاص استطاعوا أن يستبينوا كثيراً من تطورات الغش السياسي اليهودي في نطاقه المحلي وفي نطاقه العالمي كذلك، وأن يتفادوا كثيراً من

ص: 5

الأخطاء التي دفعنا إليها في صراعنا مع اليهود في إسرائيل نفسها وفي خارج إسرائيل.

هذا مثل أحببت أن أورده في معرض الحديث عن هذا اللون من أساليب الاستنتاج المفيد لمجرى السياسة الدولية وطبيعة العلاقات الدولية، كما توفرها الدراسات العلمية الحديثة للمقومات الخلقية والثقافية لمختلف الشعوب التي تؤلف هذه العائلة الإنسانية وهذا اللون كما ترى جزء من حرب الأعصاب التي لا تنقطع حتى في آونة السلم أو في فترة الهدوء التي تسبق العاصفة.

نيويورك

عمر حليق

ص: 6

‌8 - في الحديث المحمدي

للأستاذ محمود أبو رية

وضع الحديث وأسبابه:

كان من آثار تأخير تدوين الحديث إلى ما بعد المائة الأولى من الهجرة وصدر من المائة الثانية، أن اتسمت أبواب الرواية وفاضت أنهار الوضع بغير ما ضابط ولا قيد، حتى لقد بلغ ما روى من الأحاديث الموضوعة مئات الألوف لا يزال شيء كثير منها منبثاً في الكتب المنتشرة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

والحديث الموضوع هو المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله (ص) زوراً وبهتاناً سواءً أكان ذلك عمداًأخطأ ووضع الحديث على رسول الله كان - كما قال أحد الأئمة: - أشد خطراً على الدين وأنكى ضرراً بالمسلمين من تعصب أهل المشرقين والمغربيين، وأن تفرق المسلمين إلى شيعة ورافضة وخوارج ونصيرية الخ لهو أثر من آثار الوضع في الدين.

قال المرتضى اليماني في كتابه إيثار الحقإن معظم ابتداع المبدعين من أهل الإسلام إنما يرجع إلى هذين الأمرين الواضح بطلانهما وهما الزيادة في الدين، والنقص منه، ومن أنواع الزيادة في الدين الكذب عليه.

وقال النووي في شرح مسلم نقلاً عن القاضي عياض: الكاذبون حزبان: أحدهما - حزب عرفوا بالكذب في حديث رسول الله وهم أنواع؛ منهم من يضع ما لم يقله (ص) أصلاً كالزنادقة وأشباههم. . . إما حسبة بزعمهم وتدينا كجهلة المتعبدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب وإما أغراباً وسمعة كفسقة المحدثين، وإما تعصباً واحتجاجاً كدعاة المبتدعة وتعصبي المذاهب، وإما إشباعاً لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه، وطلب الفوز لهم فيما أتوه. ومنهم من لا يضع متن الحديث ولكن ربما وضع للمتن الضعيف إسناداً صحيحاً مشهوراً. ومنهم من يقلب الأسانيد أو يزيد فيها ويعتمد ذلك إما للأغراب على غيره، وإما لدفع الجهالة عن نفسه. ومنهم من يكذب فيدعي سماع ما لم يلق. ومنهم من يعمد إلى كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي (ص).

وقال العلامة السيد رشيد رضا في تفسير المنار

ص: 7

(إن العابثين بالإسلام ومحال إفساد المسلمين وإزالة ملكهم من زنادقة اليهود والفرس وغيرهم من أهل الابتداع وأهل العصبيات العلوية والأموية والعباسية قد وضعوا الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله من واضعها. ولقد كان الأستاذ الإمام محمد عبده يقول: (إن الإسلام الصحيح هو ما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الفتن).

وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: إن أصل الكذب في أحاديث الفضائل كلها من وجهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم (علي) حملهم على وضعها عداوة خصومهم. . فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث.

ولوضع الحديث والكذب على رسول الله (ص) أسباب كثيرة ذكرها المحدثون، جمعها السيد رضا ونشرها في مجلة المنار وها هي ذي:(أحدها) وهو أهمها ما وصفة الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غشاً ونفاقاً وقصدهم بذلك إفساد الدين وإيقاع الخلاف والافتراق في المسلمين. قال حماد بن زيد، وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث - وهذا يحسب ما وصل إليه علمه واختباره في كشف كذبهأن وإلا فقد نقلوا أن زنديقاً واحداً وضع هذا المقدار. قالوا: لما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه قال: وضعت فيكم أربعة آلف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل الحرام (ثانيها) الوضع لنصرة المذاهب جعل كل فريق يستفرغ ما في وسعه لإثبات مذهبة، ولم يكن المقصود من ذلك إلا إقحام مناظره والظهور عليه حتى أنهم جعلوا (الخلاف) علماً صنفوا فيه المصنفات، مع أن دينهم ما عادى شيئاً كما عادى الخلاف. . تاب رجل من المبتدعة فجعل يقول: انظروا عمن تأخذون هذا الحديث، فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيرناه حديثاً. وليس الوضع لنصرة المذاهب محصوراً في المبتدعة وأهل المذاهب في الأصول، بل إن من أهل السنة المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذاهبه أو تعظيم إمامه سوف نذكر ونبين الكثير منها في موضعه إن شاء الله. وإليك الآن حديثاً واحداً وهو (يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي! وقد رواه الخطيب عن أبي هريرة مرفوعاً. قالوا: وهذا الإفك لا يحتاج إلى بيان بطلانه، ومع هذا تجد الفقهاء المعتبرين يذكرون في كتبهم الفقهية شق الحديث الذي يصف أبا حنيفة بأنه

ص: 8

سراج الأمة. . (ثالثها) الغفلة عن الحفظ اشتغالاً عنه بالزهد والانقطاع للعبادة، وهؤلاء العباد والصوفية يحسنون الظن بالناس ويعدون الجرح من الغيبة المحرمة، ولذلك راجت عليهم الأكاذيب وحدثوا عن غير معرفة ولا بصيرة. . (رابعها) قصد التقريب من الملوك والسلاطين والأمراء. . وكما كذب علماء السوء على الرسول (ص) لأجل السلاطين كذبوا كذلك في وضع الأحكام والفروع الفقهية لأخلهم (خامسها) الخطأ والسهو - وقع هذا لقوم. ومنهم من ظهر له الصواب ولم يرجع إليه أنفة واستنكافاً أن ينسب إليهم الغلط. ولم تعرف رقة دين هؤلاء وعدم إخلاصهم في الاشتغال برواية الحديث إلا بعد ما وقع لهم ما وقع (سادسها) التحديث عن الحفظ ممن كانت لهم كتب يعتمد عليها فلم يتقن الحفظ فضاعت الكتب فوقع في الغلط (سابعها) اختلاط العقل في آخر العمر، وقع هذا لجماعة من الثقاة فكانوا معذورين دون من سلم بكل ما نسب إليهم من غير تمييز بين ما روى عنهم في طور الكمال والعقل وبين ما روى في طور الاختلاط والهرم (ثامنها) الظهور على الخصم في المناظرة ولاسيما إذا كانت في الملأ. وقال ابن الجوزي: ومن أسباب الوضع ما يقع ممن لا دين له عند المناظرة في المجامع من الاستدلال على ما يقوله كما يطابق هواه توفيقاً لجداله وتقويماً لمقاله واستطالة على خصمه ومحبة للغلب وطلباً للرياسة وفراراً من الفضيحة إذا ظهر عليه من يناظره (تاسعها) إرضاء الناس وابتغاء القبول عندهم واستمالتهم لحضور مجالسهم الوعظية وتوسيع دائرة حلقاتهم وقد ألصق المحدثون هذا السبب بالقصاص. . ونقول إن قصاص هذا الزمان قد اتبعوا خطوات أولئك الوضاع وحفظوا أكاذيبهم - فقلما نرى واعظاً يحفظ الصحاح وتراهم يكادون يحيطون بالموضوعات. . لأن معظمها خرافات وأوهام وتجرئ على المعاصي بالأماني والتشهي. . (عاشرها) شدة الترهيب وزيادة الترغيب لأجل هداية الناس، ولعل الذي سهل على واضعي هذا النوع من الأحاديث الكذوبة هو قول العلماء: إن الأحاديث الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال. . وكأنهم رأوا أن الدين ناقص يحتاج إلى إكمال وإتمام (حادي عشرها) إجارة وضع الأسانيد للكلام الحسن ليجعل حديثاً؛ ذكروا هذا للعلم لنفسه على من يتكلم عنده إذا عرض البحث عن حديث ووقع السؤال عن كونه صحيحاً أو ضعيفاً أو موضوعأن فيقول من في دينه رقة وفي علمه دغل هذا الحديث أخرجه فلان وصححه

ص: 9

فلان، ويسند هذا إلى كتب يندر وجودها ليوهم أنه مطلع على ما لم يكن قد قرع سمعه ذلك اللفظ المسئول عنه قبل السؤال. وهذا نوع من أنواع الوضع وشعبة من شعب الكذب على رسول الله (ص) وقد يسمعه من لم يعرف حقيقة حاله فيعتقد صحة ذلك وينسبه إلى رسول الله (ص). وختم السيد رشيد رحمه الله هذه الأسباب بقوله:

والحاصل أن الثابت من الدين نقلاً بطريق القطع هو القرآن والأحاديث المتواترة وقليل ما هي وما كان عليه أهل العصر الأول من العمل الذي يتعلق بالعبادة، إذ العبادات وأساسها من العقائد وتهذيب الأرواح هو الذي كمل على عهد النبي (ص) جملة وتفصيلاً. وأما المعاملات والأمور القضائية فقد جاءت الشريعة بأصولها العامة وقواعدها الكلية. والجزئيات تجري على ما قال أحد الأئمة:(تحدث للناس أقضيه الخ).

الوضع بالإدراج

وقد يأتي الوضع من الراوي للحديث من غير قصد وعدوا ذلك من باب (الإدراج) والحديث المدرج ما كانت فيه زيادة ليست منه، والأمثلة في ذلك كثيرة نكتفي منها بحديث واحد وهو (أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم - فضيقوا مجاريه بالجوع. ذكره الغزالي في الإحياء. وقد قال العراقي - متفق عليه دون فضيقوا مجاريه بالجوع؛ فإنه مدرج من بعض الصوفية.

وقد ذكروا أن (الإدراج نوعان: إدراج في المتن وإدراج في الإسناد (ومدرج المتن) ثلاثة أقسام (الأول) في أول الحديث مثل: أسبغوا الوضوء وبل للأعقاب من النار (والثاني) في أثنائه وهو كثير مثل حديث (مس الذكر)(والثالث) في آخره وهو القلب المشهور كما في حديث الكسوف في الصحيح وهو (أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم لم يصح نقلها فيجب تكذيب قائلها وأما الإدراج في السند فيرجع إليه في مكانه من كتب القوم لأنه من فنهم.

وهناك أسباب أخرى للوضع ذكرها المستشرقون والباحثون في الدين الإسلامي من غير المسلمين أمسكنا عن ذكرها إيثاراً للإيجار. ومن يرد معرفتها يرجع إليها عندهم.

الوضاع الصالحون

ص: 10

تبين مما ذكرناه في أسباب الوضع أن الكذب على رسول الله (ص) لم يكن مقصوراً على أعداء الدين وأصحاب الأهواء من المسلمين؛ بل كان يقع كذلك من العباد الصالحين ويجعلون ذلك حسبة في زعمهم ويحسبون أنهم بعملهم هذا يخدمون رسول الله ودينه، فكانوا إذا سألهم سائل، كيف تكذبون على رسول الله؟ قالوا (إننا نكذب له لا عليه! وإن الكذب على من تعمده)!

وقد روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن سعيد القطان قال: لم نر الصالحين في شيء أكذب نتهم في الحديث. وفي رواية لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث. قال مسلم يعني أنه يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب قال النووي: لكونهم لا يعانون صناعة أهل الحديث فيقع الخطأ في رواياتهم ولا يعرفون، ويروون الكذب ولا يعلمون أنه كذب

وروى مسلم عن أبي الزناد: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث. وقال إسماعيل بن إدريس سمعت خالي مالكا يقول، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم! لقد أدركت سبعين ممن يقول، قال رسول الله عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئاً لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن.

وقال الحافظ ابن حجر: وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث الترغيب والترهيب وقالوا نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعة! وما دروا أن تقويله (ص) مالم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب والندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام المكروه، ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامة حيث حوزوا وضع الحديث في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في الكتاب والسنة، واحتجوا بأنه (كذب له لا عليه) وهو جهل باللغة العربية.

وقال عبد الله النهاوندي، قلت لغلام خليل من أين لك هذه الأحاديث التي تحدث بها في الرقائق؟ فقال وضعناها لترقق بها قلوب العامة. وقد قال ابن الجوزي عن غلام خليل هذا إنه كان يتنهد ويهجر شهوات الدنيا ويتقوت الباقلاء صرفاً وغلقت أسواق بغداد يوم موته. وكان أحمد بن محمد الفقيه المروزي من صلب أهل زمانه في السنة، وأكثرهم مدافعة عنهأن ويحقر كل من خالفهأن وكان مع ذلك يضع الحديث وبقلبه.

ص: 11

والأمثلة كثيرة جداً.

وقد قال العلائي: أشد الأصناف ضرراً أهل الزهد كما قال ابن الصلاح كذا المتفقهة. وأما باقي الأصناف كالزنادقة فالأمر فيهم سهل لأن كون تلك الأحاديث كذباً لا يخفي إلا على الأغبياء.

المنصور

للكلام صلة

محمود أبو رية

ص: 12

‌مولانا محمد علي

رئيس الجمعية الأحمدية لنشر الإسلام - لاهور - الباكستان

للأستاذ علي محمد سرطاوي

تمهيد

(قدمنا لقراء الرسالة مولانا محمد على في مقال ترجمته له عن مجلة (ليت) الإسلامية التي تشرف عليها الجمعية الأحمدية في لاهور، تقديماً مختصرأن ووعدنا بكتابة مقال مفصل عن حياته المجيدة المباركة. . .

أما وقد بر بوعده صديقي الباكستاني السيد حسين تصدق القاري، فأمدني بما وصل إليه من لاهور عن مولانا محمد علي، فإنه ليشر فني أن أقدم على صفحات مجلة الرسالة الخالدة، أعظم المعاصرين خدمة للإسلام، وأقوى مبشر على الاضطلاع بجلائل الأمور.

والذين تقع في أيديهم ترجمة مولانا محمد على لمعاني القرآن إلى الإنجليزية، وهي تزيد على ألف وثلاثمائة صفحة من القطع الكبير قلما خطر لهم أن هذا العمل قد استغرق سنوات ثمانياً كان يشتغل في كل يوم منها ساعات تزيد في عددها على نصف مجموع ساعات الليل والنهار، وأنه استغرق في ترجمة معاني القرآن إلى الأردية سنوات سبعاً طويلة أخرى، وكان حفظه الله إذا ما أجهده العمل جالسأن راح يعمل واقفاً وراء منضدة مرتفعة عملت خصيصاً لهذه الغاية.

إننا ندعو إلى إقامة حفل تكريمي رائعة لمولانا محمد علي لمناسبة مرور نصف قرن على تطوعه مجاهداً بقلمه تحت راية الإسلام، ونقترح أن تقام في أرض عربية وأن يدعي عظيم المسلمين إلى ذلك الحفل البهيج، من لاهور تقديراً لجهاده وإعجاباً ببطولته، العربية للدراسات الإسلامية ومولانا محمد علي التقى الورع الذي ما انقطع عن أداء صلواته الخمس منذ كان صبياً في المدرسة، وعن صلاة التهجد من الساعة الثانية حتى مطلع الفجر منذ كان في الرابعة والعشرين حتى اليوم، وعن العمل المتواصل ليل نهار دون نصب في نشر مبادئ الإسلام، مثل من أمثلة القدرة الإلهية حين تشاء أن يتم عن طريق البشر ما ليس في استطاعتهم من المعجزات.

ص: 13

ويشاء الله أن يرى مولانا محمد علي الحلم الرائع في سيطرة الإسلام على المبادئ التي يشقى البشر في ظلالها في أوروبا وأمريكا. وسيتم على يد مبادئ الإسلام تحرير الملايين العشرة من العبيد المعذبين في أمريكا الذين لم يستطيع إبراهيم لنكولن اليهودي، تحريرهم في حركته التي لم ترم إلا لبسط ظل اليهود على المسيحيين هناك؛ وسيرى تحرير المعذبين من المنبوذين في الهند، سوف يرى المبادئ الفاسدة والديانات الوثنية في طقوسها فاقدة الحياة على أقدام المبادئ المثالية الخالدة في الدين الإسلامي الحنيف.

ولعمر الحق أن لجوء ألمانيا الغربية في حل المعضلة التي خلقتها الحربان العالميتان المتتاليتان فيها من كثرة النساء وقلة الرجال، إلى السماح بالزواج بأكثر من واحدة زواجاً شرعيأن على الطريقة التي حل بها الإسلام المشكلة نفسها في صدر الجهاد، لنصر كبير لمبادئ الدين الحنيف الخالد.

لقد آن الأوان أن يهب المسلمون في بقاعهم المختلفة، يعرضون في سوق المبادئ، باللغات البشرية جميعهأن ما عندهم من مثل رائعة، ومبادئ سامية، وإنسانية صحيحة، وديمقراطية فطرية، ومساواة تامة، واشتراكية عادلة، على العالم المنهوك الذي يلفظ أنفاسه في ضجيج الآلات وانفجار القنابل الذرية.

ولقد آن للأزهر أن يستيقظ من سبات ألف سنة، وأن يشعر عن ساعد الحد ويتقدم إلى معركة الجهاد الصحيح، ويدخل في مناهجه تدريس عشر لغات على الأقل من لغات البشر المشهورة تدريساً متقناً؛ بحيث يكون في مقدرة خريجي قسم الدعاية الكتابة والخطابة والتحدث بسهولة عظيمة مع أصحاب هذه اللغات متى جاء دورهم للجهاد.

إن البشرية مشرفة على الفناء، والإنسان الذي يشاهد غريقاً ولا يمد له يد المساعدة، وهو يستطيعها؛ إنما هو إنسان غير كريم، والنبي العربي لم يخلق إلا ليتمم مكارم الأخلاق، فأدوا هذه الرسالة الأخلاقية الإنسانية أيها المسلمون.

وإذا قدر للصفحات التالية التي تفضلت الرسالة الغراء، ينشرهأن عن حياة مولانا محمد علي، أن تظهر للذين يقاومون المنكر بأضعف الإيمان، ما يصنع الإيمان الصحيح من المعجزات عن طريق العمل الخالص لوجهه تعالى، فقد وفقت إلى بعض ما ذهبت إليه في نشرها على المؤمنين. ومن يدري؟ فلعل ما فيها من حقائق تدفع العرب وهم مادة الدين إلى

ص: 14

تأسيس الجمعيات التي تبشر بمبادئ الدين في الأقطار البعيدة، أسوة بالجمعية الأحمدية في لاهور.

وأتوجه، وأنا في نهاية هذا التمهيد إلى حياة مولانا محمد علي، بالدعاء إلى الله أن يمد الله في عمره المبارك المجيد، وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدم من خير للاسلام، وأن يحفظ الله الدولة الإسلامية الجبارة الفتية الباكستانية، وأن يمكن لها في الحياة ويعزها بالنصر، ويكلأها بعنايته. كما أتوجه بالشكر الجزيل للأستاذ محمد طفيل كاتب هذا المقال الرائع عن مولانا محمد علي، الأستاذ العلامة الباكستاني السكرتير المساعد للجمعية الأحمدية في لاهور الذي نشرة في مجلة (ليت) عدد (أيار 24 عام 1949)

لا مشاحنة في أن الحركة الأحمدية في التاريخ مدينة إلى مولانا محمد علي في الاتجاه الذي رسمه لها فسارت نحوه في خطوات وئيدة راسخة. ومن المحقق أنها كانت تكون حركة تختلف عما هي عليه الآن، لو لم يكن فجرها الذي أشرق على الظلام الذي اكتنفها في الوجود، إذ ورث عن مؤسس القاديانية ميزا غلام أحمد علمه الرائع العظيم في سيطرة الإسلام على جميع بقاع أوربا وأمريكا.

ومن المحتمل أن يكون قد ولد، ذلك الغلام الذي قدر له أن يترجم معاني الكتاب المعجز الخالد إلى الإنجليزية في قرية مرار الصغيرة التابعة لحكومة كابور ثالا في الهند ويتصل نسبه بأسرة عريقة في حسبها ونسبهأن فهو الابن الخامس لحافظ فاتح الدين زعيم القرية المذكورة.

وحينما بلغ الخامسة من عمره، أرسله أبوه مع أخيه مولانا عزيز بوخاش إلى المدرسة القريبة في قرية دباليور المجاورة، وكان أخوه أكبر منه بأربع سنين أو خمس وبعد مرور سنوات ثلاث عليهما في هذه المدرسة، أرسلا إلى المدرسة العليا في كاربو ثالا وبقيا فيها حتى أتما الدراسة الثانوية عام 1890.

وامتازت حياته في المدرسة بالذكاء والجد. وحينما كان يرجع إلى مسقط رأسه في مرار لقضاء عطلة الصيف كل سنة، كان يحرص على مشاركة القرويين في ألعابهم؛ ولاسيما في اللعبة التي كان يحب ممارستها كثيراً؛ ألا وهي لعبة (الكايادى). وكان إذا عاد إلى المدرسة يلعب (الكركيت) وبعض الألعاب الأخرى.

ص: 15

وقد امتاز في هذا الوقت من عمره بالميل الشديد إلى الصدق والاستقامة في العمل والقول، والسير في ركاب الفضيلة والخلق القويم.

ولم يتعلم تجويد القرآن وتلاوته قبل الذهاب إلى المدرسة، ولكنه انصرف إلى إتقان ذلك من تلقاء نفسه، فعكف على القراءة وصبر على احتمال الصعوبات حتى أصبح يجيد التلاوة والتجويد.

ولما أتم دراسته الثانوية، كانت رغبة أبيه تتركز في أن يتمم دراسته الجامعية على الرغم من سوء حالته المادية، ولكنه استعان على كل ذلك بالصبر والجلد والعزيمة وأرسله إلى الجامعة في لاهور.

وقضى هناك خمس سنوات في الدرس المتواصل والاجتهاد فنال درجة بكالوريوس في العلوم عام 1894 ودرجة أستاذ في العلوم عام 1895.

وامتاز في دراسته الجامعية، كما امتاز في دراسته الثانوية، بالذكاء والنبوغ، وكان موضع إعجاب الجامعة بأسرها. وقد اختار اللغة العربية وتعمق في دراستها الجامعية، دون أن تكون من مواضيع اختصاصه، إذ كان الأول في الرياضيات في جامعة البنجاب وحينما طلب مرة شهادة من أحد أساتذته كتب له فيها:(أنه أحسن طالب في الرياضيات في جامعتنا) وبعد حصوله على شهادة البكالوريوس في العلوم، أخذ يستعد للحصول على شهادة الأستاذية في العلوم، فاختار اللغة الإنجليزية وتخصص فيها وعكف على دراسة آدابها فبلغ في ذلك شأوا بعيدأن وكان من بين الطلاب الخمسة الذين حصلوا على هذه الشهادة من جامعة البنجاب من مجموع ثلاثة وعشرين طالباً تقدموا للحصول عليها.

والغريب في حياته الجامعية، أنه لم يشترك في أي نشاط أدبي مهما كان نوعه، ولم يكتب في تلك الجامعة أي موضوع للنشر، ولم يرتق منصة الخطابة للتحدث عن أي موضوع، وأكثر من ذلك لم تبدر منه أية بادرة تدل على تلك الثروة الأدبية الرائعة المخزونة في ذكائه النادر، والتي قدر لها في مستقبل حياته أن تصنع المعجزات في خدمة الدين الحنيف. إنما كان منصرفاً إلى الألعاب الرياضية في أوقات فراغه في الجامعة ولاسيما لعبتي الكر كيت وكرة القدم. وحتى هذا الهدف وهو في الخامسة والسبعين من عمره السعيد المجيد المبارك، يخرج في الصباح مبكراً للسير مسافات لا يستطيعها من كان في مثل سنة، وإلى

ص: 16

هذا الميل إلى الرياضة، يعزى السبب الأول في تمتعه بالصحة الجيدة في عمر من هذا النوع

وبعد اجتيازها امتحان البكالوريوس في العلوم اختارته الكلية الإسلامية في لاهور أستاذاً للرياضيات فيهأن وهو لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، وهو لا يزال مرتبطاً بجامعة البنجاب في استعداده على فحص الأستاذية في العلوم. وحينما حصل على الشهادة الأخيرة، التحق بكلية الحقوق في الجامعة نفسها وكان الثاني والأول والثالث في ترتيبه في امتحانات السنوات الثلاث في القانون في تلك الجامعة، وبذلك حصل على شهادة الحقوق بامتياز.

وفي عام 1897 ترك التدريس في الكلية الإسلامية وانضم إلى مدرسة اللغات الشرقية في لاهور وبقي أستاذاً فيها حتى عام 1900 وحين ترك عمله في هذه المدرسة ليتمرن على المحاكاة في جورادسيور اتجه اتجاها جديداً لم يدر له على خاطر أو يمر له على بال. ذلك أنه أمضى في تمرينه في تلك المدينة ثلاثة أشهر، ولكنه ترك ذلك العمل استجابة لرغبة ميرزا غلام أحمد القادياني مؤسس الحركة الأحمدية في تاريخ عام 1890، ليرأس تحرير مجلة (ريفيو أف ربلجن) التي أزمع تأسيسها لحمل رسالة الإسلام إلى أوربا وأمريكا.

وترجع صلة مولانا محمد علي بمؤسس الأحمدية إلى عام 1892 حينما زار حضر مزرا غلام أحمد مينة لاهور، فذهب الشقيقان لزيارته، لكثرة ما كان يصل إلى مسامعها في قربتهما من أخبار صلاحه وتقواه، تلك القرية التي لم تكن لتبعد عن (قاديان) مسقط رأس المجدد غير عشرين ميلاً. وقد سمعا من حديثة أن الوقت قد حان لسيطرة الإسلام على بقاع الأرض بأسرهأن متأثراً بدعوته تأثراً عميقاً.

وفتحت هذه الحادثة صفحة جديدة في حياة مولانا محمد علي ولو لم يقدر له التاريخ الاتصال بشخصية مؤسس الحركة الأحمدية الجبارة والتأثر بهأن لما كان أعظم شخصية حية الآن في عمق الاطلاع على الدين الإسلامي.

وبعد انضمامه إلى الحركة الأحمدية، بقي ثلاث سنوات في لاهور، كان يزور فيها قاديان وينقل إلى اللغة الإنجليزية النشرات والكتب التي كانت تصدر عن مرزا غلام أحمد.

وكان الوصول إلى قاديان في تلك الأيام عسيراً جداً؛ لأنها كانت تبعد أثنى عشر ميلاً عن بانالأن أقرب محطة لسكة الحديد، ولأن قطع هذه الأميال صعب جداً لوعورة الطريق،

ص: 17

ولكن مولانا محمد علي، كان الرغم من تلك، يذهب أيام السبت من كل أسبوع في صحبة بعض الأصدقاء سيراً على قدمية، ويعود صباح الأحد لمواصلة أعماله في الكلية.

وحينما أراد العمل في المحاماة والتمس النصح والإرشاد من المجدد، فأشار عليه أن يتريث قليلاً في الأمر، لأنه يفكر في إصدار مجلة تحمل رسالة الإسلام إلى أوروبا وأمريكأن وأنه يرغب في أن يتولى تحرير المجلة والإشراف عليهأن فاستجاب للرغبة الكريمة، وأقلع عن فكرة الاشتغال بالقانون، وعكف على عمله الجديد بكل ما أوتي من عزيمة، كان يغذيها الإيمان العميق بالرسالة السامية التي وقف حياته عليهأن وأخذ الذكاء الجبار الجيش، ويتحرك في النفس العظيمة المؤمنة، وراحت العبقرية الفذة تنطلق إلى آفاق العمل بأجنحة من نور، ومضت المقالات المركزة تتحرك إلى ميادين المعارك في أوروبا وأمريكأن تحمل في طياتهأن بلغة إنجليزية أنيقة، يطل من وراء كلماتها خيال شرقي رائع جميل، لإيقاع العالم بما في الإسلام من جمال وروعة وحلول عملية لأعقد مشاكل الحياة، ولقد مرت عليه خمسون سنة وهو لا يكل ولا يمل في هذا العمل المجيد الذي كان توفيق الله حليفه فيه.

البقية في العدد القادم

علي محمد سرطاوي

ص: 18

‌بريطانيا العظمى

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

(تابع)

تفويض إلهي

في 1603 انتهى عصر أسرة تيودور بموت الملكة العذراء اليصابات وبدأ عصر أسرة استيورت باعتلاء جيمس الأول عرش بريطانيأن وبدأ كذلك نضال عنيف بين الملك والبرلمان.

كان جيمس يؤمن بنظرية التفويض الإلهي ومعناها أن الملك مولى من قبل الله تعالى وليس لأحد من رعاياه محاسبته على أعماله وتصرفاته، وكان جيمس يستند في ادعائه على ما جاء في الكتاب المقدس من قول الله تعالى (بأمري ونيابة عني بحكم الملوك ويقوم المستشارون بوضع القوانين العادلة وبحكم الأمراء). وكذلك جاء في العهد القديم (شخص الملك مقدس وأي اعتداء عليه إثم عظيم، إن الملوك يجب أن ينظر إليهم كأشياء مقدسة، ومن يهمل في المحافظة عليهم يستحق الموت. . إن الملك ظل الله الذي يجلس على عرشه في السماوات ويدبر شؤون الكون. أيها الملوك باشروا سلطانكم بشجاعة لأنها مقدسة وضرورية لحياة الإنسان، ولكن باشروها في تواضع ورحمة.)

وهكذا آمن جيمس بسلطانه المطلق، ولكن البرلمان لم يوافقه فيما ذهب إليه وأصر أعضاؤه على الاحتفاظ بحقوقهم وقدموا إلى الملك عريضة جاء فيها:

(إن حقوقنا وحرياتنا موروثة وهي لا تقل خطراً ولا شأناً عن أملاكنا وأموالنا التي نتوارثها إن صوت الشعب في الأمور التي يصل إليها إدراكه من صوت الله.)، واختتموا عريضتهم قائلين:(إن عنايتنا يجب أن تعمل على تثبيت حب الشعب والتفاوت قلوبه حول عرش جلالتكم، وإن ولاء النواب وحبهم لجلالتكم قوي مكين.)

ولكن جيمس غضب، وبدأ النضال، وزاد المسألة سوءأن ملوك أسرة استيورت كانوا يؤمنون بمذهب كنيسة إنجلترا الأسقفي ظاهرأن ويبطنون إيمانهم بالمذهب الكاثوليكي الذي كان الشعب بكرهه.

وقد كانت الأزمة المالية العامل الأول في قيام النزاع، فقد أراد جيمس أن يفرض الضرائب

ص: 19

حق من حقوقهم وطلبوا أن يناقشوا ميزانية الدولة. وتساءل النواب الساخطون هل للملك حق فرض الضرائب دون موافقتهم؟ ومن الذي يجب أن يشرف على ميزانية الدولة؟ أهو الملك أم البرلمان؟ وكان على الشعب أن يجيب إن عاجلاً أو آجلأن وبطريق السلم أو بطريق الحرب.

وقد مات جيمس الأول 1625 وأجيب عن الأسئلة السابقة بوضوح وجلاء في عصر ابنه شارل الأول أن أجيب عن السؤال التالي: (لماذا كانت إنجلترا أسبق الأمم الأوربية إلى تقييد سلطة مليكها وإخضاعه لإشراف البرلمان، وإلى منح أفراد شعبها حرياتهم المدينة، وإلى تحرير نفسها من سلطان الكنيسة في روما؟).

يجيب بعض المؤرخين على ذلك بقولهم إن الشعب البريطاني والجنس التيوتوني يمتاز بحبه لحريته المدينة وبرغبته في أن يحكم نفسه بنفسه. ويقول مؤرخون آخرون إن موقع إنجلترا بمنأى عن القارة الأوربية لم يجعلها في حاجة إلى الاحتفاظ بجيش قوي للدفاع عن نفسها ضد غزو محتمل، ويؤمن هؤلاء المؤرخون بأن ازدهار التجارة في عصر اليصابات وجميس وانتشار الرخاء كانا من أهم العوامل التي ساعدت على قيام النضال البرلماني في عصر أسرة استيورت.

شارل الاول: 1625 - 1649

كان شارل كأبيه يؤمن بالحق الملكي المقدس ولذلك كرهه الشعب وساعد على ازدياد كراهيته له زواجه من أميرة فرنسية، وسرعان ما قام النضال بينه وبين البرلمان وكان محور النزاع (من صاحب السيادة في إنجلترا؟ أهو الملك أم البرلمان؟).

وكان سبب قيام النزاع مسألة فرض الضرائب، فقد قام شارل بعدة حروب جعلته في حاجة إلى المال، وقد رفض النواب موافقة الملك على فرض ضرائب جديدة فاضطر إلى حل البرلمان مرتين في ثلاث سنوات واضطر إلى عقد قروض إجبارية، على أن الأزمة المالية لم تحل واضطر الملك عام 1628 إلى دعوة البرلمان، وأبى النواب الموافقة على الضرائب الجديدة إلا بعد مصادقة الملك على ملتمس الحقوق 1628 وفيه اعترف الملك للشعب بالحقوق الآتية:

أولاً: لا يجوز للملك فرض ضرائب جديدة على الشعب بدون موافقة البرلمان.

ص: 20

ثانياً: ليس للملك حق عقد قروض إجبارية.

ثالثاً: ليس للملك أن يسجن أي فرد إلا بعد محاكمته أمام محكمة قانونية.

رابعاً: ليس للملك أن يرغم أحداً على إيواء الجند ويعتبر ملتمس الحقوق الوثيقة الثانية في تاريخ الديمقراطية البريطانية.

حكم مطلق:

وعلى رغم توقيع شارل الأول لملتمس الحقوق فإنه ظل يجمع الضرائب بطريق غير قانونية ولم يحترم ملتمس الحقوق، واحتج النواب. ولما رأى شارل إصرارهم فض البرلمان ولمدة إحدى عشرة سنة ظل يحكم بدونه، وتعرف هذه الفترة بفترة الحكم المطلق. لكن النواب قاوموه وأعلنوا أن من يدفع ضرائب لم يقرها البرلمان يعتبر خائناً لوطنه، فاضطر الملك إلى القبص على زعمائهم وإلقائهم في غياهب السجون لامتناعهم عن الدفع، ومع ذلك لم يستسلموا؛ وكان من أشهرهم جون همبدن.

ومن أشهر الضرائب التي لجأ شارل الأول إلى فرضها في تلك الفترة ضريبة السفن وهي تعطينا فكرة عن مدى حاجة الملك إلى المال وعن مدى مقاومة الشعب له. كانت ضريبة السفن في أول أمرها عبارة عن بعض السفن تقدمها الموانئ ولكنه أمر أن تستبدل السفن بالنقود ثم عممهأن فبعد أن كانت قاصرة على الموانئ أمر الملك بجمعها من المدن الداخلية، ولكن النواب (أعضاء البرلمان المنحل) رفضوا الدفع وطلبوا من الناس أن يمتنعوا عن دفعها كذلك ففعلوا وقبض الملك على همبدن وأعوانه وسجنهم، فلم يلينوا ولم يضعفوا وذهب همبدن مثلاً للبطولة البريطانية.

وفي 1640 اشتدت حاجة الملك إلى المال بسبب حروبه مع اسكتلندا فاضطر إلى البرلمان للموافقة على الضرائب، ولكن البرلمان ناوأ الملك مما اضطره إلى فضه، ويعرف هذا البرلمان بالبرلمان القصير.

لكن الملك عجز عن تسيير دقة الحكم واضطر إلى دعوة برلمان آخر عرف باسم الطويل (1641 - 1653). اجتمع هذا البرلمان ووجه كل همه للقضاء على أعوان الملك، فقبض على لورد سترافورد ولو وأعدمهما ثم قبض على السلطة وألغى غرفة النجم وطلب أن يكون هو المتصرف في كل شيء؛ يعين الوزراء ويقيلهم وكذلك يعين قواد الجيش، ولكن

ص: 21

الملك رفض قائلاً (إني لو منحتكم (النواب) ما تطلبون فلن أكون إلا ملكاً بالاسم.)

حاول الملك التخلص من النواب واسترداد سلطته فانتهز فرصة الخلاف بين أعضاء المجلس وذهب إلى دار البرلمان للقبض على زعماء المعارضة؛ ولكن المحاولة فشلت واندلعت نيران الثورة، وناصرت لندن أعضاء البرلمان، واضطر الملك إلى أن يهرب إلى شمال إنجلترا.

نظم الجمهوريون قواتهم بزعامة أليفر كرمويل وحاربوا الملك شارل الأول وهزموه في موقعتي ناسبي ومرستن مور ثم سلم نفسه للبرلمان فحاكمه وحكم عليه بالإعدام 1649 يقول جرين: (أثارت أنباء إعدام شارل الأول فزعاً ورعباً في جميع أنحاء أوربأن فطرد قيصر الروسيا وزير بريطانيا من بلاطه، وسحبت فرنسا سفيرها من لندن، وكانت هولندا أشد عداء للجمهورية التي قامت في بريطانيا.)

جمهورية:

بعد إعدام شارل الأول أعلنت الجمهورية في إنجلترا واختير كرومويل حامياً لهأن وكان من المنتظر أن تتوطد دعائم الديمقراطية في عهد الجمهورية، ولكن هذه الآمال تبددت وانتقلت السلطة إلى يد كرمويل وقد عرض عليه عرش إنجلترا فأبى وهكذا ضرب مثلاً في الإخلاص للمبدأ والبعد عن المنفعة الذاتية. وامتاز عهد الجمهورية أيضاً بسيادة التقشف والزهد. وظلت الجمهورية قائمة ما بقى كرمويل، فلما مات انتخب ابنه مكانه ولكنه كان ضعيفاً فثار عليه الشعب وطلب إلى شارل الثاني ابن شارل الأول العودة إلى إنجلترا ففعل وتولى العرش 1660 وبذلك كانت حياة الجمهورية في إنجلترا قصيرة 1649 - 1660 ويرجع ذلك إلى أن الشعب لم يكن ميالاً للجمهورية، وإلى أنه كان قد ألف النظام الملكي، وكذلك كانت الجمهورية قائمة على أكتاف كرمويل ورجال الجيش فلما مات كرومويل انتهت الجمهورية.

الملكة العائدة: 1660 - 1688

كان شارل الثاني من أحب ملوك إنجلترا إلى الشعب البريطاني، وهناك قول مشهور (إن شارل الأول كان رجلاً طيباً وملكاً سيئأن أما شارل الثاني فقد كان رجلاً سيئاً وملكاً طيباً.)

ص: 22

عاد شارل إلى لندن من منفاه فكان أول أعماله دعوة البرلمان إلى الاجتماع وكان هذا البرلمان ملكاً أكثر من الملك.

وامتازت الفترة التي أعقبت عام 1660 بانتشار اللهو والمجون والترف كأن القوم كانوا ينتقمون للزهد والتقشف اللذين اضطروا إليهما زمن الجمهورية.

ورغم هذا كان شارل الثاني يؤمن بالحق الملكي المقدس ويقول (إن الملكية لا يتفق وجودها مع وجود هيئة سياسية تحاسبهأن لأن الملك الذي تنقض آراؤه ويحاسب وزراؤه ليس له من الملك إلا الاسم.) ولكنه كان بعيد النظر كثيراً التساهل ولذلك لم تقم ثورات دستورية في عهده.

وأحب أن أضرب لك مثلاً عن مدى تقيد شارل الثاني برغبات شعبه فأذكر لك أنه كان يدين بالعقيدة الكاثوليكية التي كان الشعب يكرههأن ومع ذلك ظل شارل يبطن حقيقة عقيدته الدينية حتى إذا جاءه الموت أعلن وهو يودع هذا العالم أنه قد عاش ومات وهو يؤمن بهذه العقيدة، مع أنه ظل طول حياته يظهر للشعب أنه يؤمن بمذهب كنيسة إنجلترا الأسقفي.

وقد امتاز عهد شارل الثاني ببدء ظهور الأحزاب السياسية في إنجلترأن إذ ظهر حزب التوري وحزب الهويج وقد تطورا فأصبحا حزبي الأحرار والمحافظين

ثورة: 1688

مات شارل الثاني وتولى بعده جيمس الثاني وكان كاثوليكياً متعصباً يؤمن بالحق الملكي المقدس ميالاً إلى التسامح مع الكاثوليك ولذلك كرهه الشعب والبرلمان، وقد أصدر لائحة التسامح الديني وأمر رجال الدين بتلاوتها في الكنائس ولكنهم امتنعوا فقدمهم إلى المحاكم ونكن حكم ببراءتهم.

وأخيراً كان الشعب يمني نفسه بأنه عند انقضاء أجل جيمس ستعتلي العرش ابنته ماري وكانت بروستانتية، ولكن في 1688 ولد له ولد من زوجته الكاثوليكية وبذلك صار وارثاً للعرش فلم يطق الشعب صبرأن وثار ضد جيمس واستدعى ماري وزوجها وليم أورنج من هولندا للحضور إلى إنجلترا لتولى العرش فقدما.

أرسل جيمس جيشاً ليحول بينهما وبين النزول في أرض إنجلترأن ولكن الجيش رفض أن يحارب الشعب وانضم إلى صفوفه في الترحيب بماري ووليم وأسقط في يد جيمس

ص: 23

واضطر أن يغادر إنجلترا إلى فرنسا. وتعرف هذه الثورة بثورة 1688 المجيدة

بعد فرار جيمس اجتمع البرلمان وقرر أن عرش إنجلترا خال ودعا ماري ووليم لاعتلائه، وكان هذا معناه أن الملك مولى من قبل الشعب وبذلك سقطت نظرية التفويض الإلهي. بعد ذلك قدم البرلمان إلى الملكة وثيقة الثالثة في تاريخ الديمقراطية البريطانية وبمقتضاها تقرر.

أولاً: لا يعتلى عرش إنجلترا إلا من يؤمن بمذهبها الديني. (حرم العرش على الكاثوليك من أبناء جيمس).

ثانياً: ليس للملك أن يعطل القوانين التي يصدرها البرلمان أو أن يحتفظ بجيش أو أن يفرض ضرائب جديدة بدون موافقة البرلمان.

ثالثاً: أعضاء البرلمان أحرار في آرائهم ولا يحاسبون على أقوالهم داخل البرلمان وكذلك تقررت حرية الانتخاب للناخبين

وهكذا نرى أنه بعد نضال دام قرناً تقريباً تقررت المبادئ المعتدلة التي نادي بها أعضاء مجلس العموم فأصبحت الضرائب لا تفرض والقوانين لا توضع والجيش لا يدعى إلا بموافقة أعضاء البرلمان، كما تقرر أنه لا يجوز سجن فرد بمجرد صدور أمر ملكي، كما أنه لا يجوز أن تعطل القوانين بأوامر ملكية، وكذلك كفلت حرية المناقشة في البرلمان.

أبو الفتوح عطيفة

مدرس أول العلوم الاجتماعية بنود الثانوية

ص: 24

‌عقيدتي

للفيلسوف الإنكليزي المعاصر برتر اند رسل

للأديب عبد الجليل السيد حسن

الفصل الثالث

السنن الخلقية

إن الحاجة الملحة للأخلاق نجمت عن تعارض الرغبات، سواء بين أناس مختلفين أو في أوقات مختلفة أو حتى في وقت واحد؛ فالرجل يرغب في احتساء الخمر ويرغب أيضاً أن يتهيأ لعمله في الصباح التالي، ونعده فاسداً إذا اختط لنفسه الخطة التي بالمبذرين والطائشين حتى ولو لم يصيبوا أحد غير أنفسهم بأذى. ويرى (بنتام) أن كل الأخلاق يستطاع ردها إلى (النفع الذاتي المستنير) وأن كل من يعمل دائماً ناظر على مدى الوقت إلى أقصى ما ينيله قدراً من الرضا الخالص، فإنه ينهج النهج القويم دائماً. أما أنا فلا أستطيع أن أقبل هذا الرأي؛ فالطغاة الذين وجدوا سروراً طافحاً من مشاهدة إنزال العذاب، لا أستطيع أن أثنى عليهم حينما أدى بهم الحذر والحكمة إلى أن يبقوا على أرواح ضحاياهم. رغبة منهم في تعذيبهم في يوم آخر. ومهما يكن من شيء فإن الحذر مما تتطلبه الحياة السعيدة؛ وهناك أشياء أخرى مماثلة لذلك، حتى (روبنسون كروزو) كانت عنده الفرصة لأن يمارس المثابرة، وضبط النفس، والتبصر، التي يجب أن تعد من الصفات الأخلاقية، لأن هذه الصفات زادت من مجموع رضاه دون إلحاق ضرر بالآخرين. وهذا الجزء من الأخلاق يلعب دوراً هاماً في تدريب الأطفال الذين لديهم ميل ضئيل إلى التفكير في المستقبل، ولو كان ذلك قد تحقق في زمن سالف لتحول العالم إلى فردوس، لأنه سيكون من السهل منع الحروب التي هي من عمل الهوى لا العقل. ومع ذلك فإنه رغماً عن أهمية الحذر فإنه ليس أهم جزء في الأخلاق. ولا هو بالجزء الذي يثير مشاكل ذهنية لأنه لا يتطلب اهتماماً بشيء خارج المنفعة الذاتية.

والجزء من الأخلاق الذي لا يشمله الحذر والحكمة، هو في جوهره مماثل للقانون أو لقواعد المجتمع؛ إذ أن ذلك منهج لتمكين الناس من أن يعيشوا في مجتمع مع بعضهم

ص: 25

بالرغم من احتمال تعارض رغباتهم، لكن يحتمل هنا منهجان جد متباينين: فهناك منهج قانون العقوبات الذي يهدف إلى تحقيق التوافق الخارجي فقط، يربط الأفعال التي تعترض رغبات أناس آخرين في حالات معينة بنتائج غير مرغوب فيها. وها هو ذا منهج التقريع الاجتماعي: فإذا عد المرء مجتمعه الخاص شريراً فإن ذلك لون من ألوان العقاب، ولذا يتجنب ما يحذره معظم الناس من أن يعرف عنهم أنهم مخالفون لدستور مجتمعهم. ولكن هناك منهج آخر أمتن أساساً وأشد إقناعاً حينما يعمل به، وهذا المنهج هو أن نغير شخصيات الناس ورغباتهم بأن نضيق فرص التعارض والخلاف، بجعل نجاح رغبات إنسان واحد تتفق مع رغبات الكثيرين بقدر الإمكان، وهذا هو السبب في أن الحب خير من البغض، لأن الحب يحل الانسجام محل الاختلاف بين الأشخاص المرتبط بهم، وإن أثنين بينهما آصرة الحب ينجحان معاً أو يفشلان معأن ولكن حينما يكره أحدهما الآخر، فإن نجاحه هو فشل الآخر.

وإذا كنا مصيبين في قولنا إن الحياة السعيدة التي يلهمها الحب وتهديها المعرفة، فإن من الواضح أن الدستور الأخلاقي لدى أي مجتمع ليس قطعياً ولا مكتفياً بذاته، بل يجب أن يمتحن بقصد أن يرى: هل الذي أملاه مثلاً الحكمة وحب الخير؟ ولم تكن القوانين الخلقية دائماً معصومة من الخطأن فإن الآزتك يعدون من واجباتهم المشدودة، أن يأكلوا اللحم البشري، وذلك لئلا يصبح ضوء الشمس معتماً. ولقد اخطئوا في عملهم، ولعلهم كانوا يدركون وجه الخطأ فيه، لو كان عندهم شيء من الحب نحو الضحايا المضحي بها. وبعض القبائل يحسبون البنات في الظلام من سن العاشرة إلى السابعة عشرة، خوفاً من أن تجعلهم أشعة الشمس يحملون ولكن. . . من المؤكد أن قوانيننا الأخلاقية الحديثة لا تحتوي على شيء مماثل لهذه الأعمال الوحشية!! ومن المؤكد أيضاً أننا لا نحرم من الأشياء إلا تلك التي تضر حقيقة، أو على الأقل تلك التي بلغت حد الفظاعة، حتى أن أي شخص مهذب لا يستطيع أن يدافع عنها!!. . ولكني لست متأكداً مثل هذا التأكيد. وأن الأخلاق الشائعة لمزيج عجيب من المنفعة والخرافة، ولكن للجزء الخرافي القدح المعلي، لأن الخرافة هي أصل السنن الخلقية، فلقد كان في الأصل يظن أن بعض الأفعال لا ترضي الآلهة، وقد حرمت بالقانون لأن اللغة الإلهية كان من المتوقع ألا تحل بالأفراد الآثمين فقط،

ص: 26

بل على المجتمع كله، ومن ثم فقد ظهر تصور الخطيئة على أنها الشيء الذي لا يرضي الإله. وليس هناك من سبب يمكن إبداؤه عن بعض الأفعال لماذا تكون غير المرضي أن يتحرق الطفل شوقاً إلى لبن أمه؟ ولكن عرف بالوحي أن ذلك هو الواقع. وفي بعض الأحايين كانت الأوامر الإلهية تفسر حبا في الاستطلاع؛ فمثلاً أمرنا ألا نعمل أيام السبت؛ وأضاف البروتستانت على ذلك معنى ألا نلعب أيام الآحاد، ولكن نفس السلطة السامية، تعزى إلى التحريم الجديد، كما هو للقديم.

ومن الجلي أن الإنسان ذا النظرة العلمية إلى الحياة، لا يدع نفسه ترهب نصوص الكتاب المقدس أو تعاليم الكنيسة، ولا يسره أن يقول إن هذا أو ذاك منالأفعال إثم، وبذلك ينتهي الأمر. بل سيتحرى إن كان ذلك يسبب ضرراً؟ وهل العكس الاعتقاد بأنه إثم يسبب ضرراً؟ وسيجد - وخصوصاً فيما يتعلق بالأمور الجنسية - أن أخلاقنا الشائعة تحتوي على قسم كبير أصله خرافي محض. وسيجد أن هذه الخرافة - مثل خرافات (الأزتك) - تحتم قسوة لا لزوم لهأن وأنها تزول إذا تأثر الإنسان بالمشاعر الرقيقة تجاه جيرانهم. ولكن المدافعين عن الأخلاق التقليدية، هم وحدهم أصحاب القلوب المتحمسة، كما فد يبدو في حب الحرب الذي يبديه رؤساء الكنيسة. وعلى ذلك، فالإنسان مدفوع إلى أن يظن أنهم يعتبرون الأخلاق كشيء قانوني يمكنهم من إشباع رغبتهم في تعذيب الآخرين: والآثم ليس من العدل خداعه، ومن ثم فهو بعيد عن التسامح الديني

ودعنا نتابع حياة الإنسان العادي من المهد إلى اللحد. ونلاحظ النقاط الخرافية التي تسبب له آلاماً. وأبدأ من الحمل والولادة، لأن تأثير الخرافة هنا جدير بالعناية، فإن الوالدين إذا لم يكونا متزوجين فالطفل ووصمة لا يستحق إلا اللعنة. وإذا كانا قد رزقا أطفالاً أكثر مما يحتمله دخل الأسرة فستكون الفاقة ونقض التغذية وتضخم السكان، بل ومن المحتمل جداً الزنا بين الأقارب؛ ومع ذلك فإن الغالبية العظمى من الأخلاقيين متفقة على أن الأحسن للوالدين ألا يعلما كيف يمنعان هذا البؤس بمنع الحمل. ولكي يسر ويغتبط هؤلاء الأخلاقيين فإن الملايين من الكائنات البشرية الذين لم يكن من الواجب أن توجد، تقاسي حياة كلها عذاب. وذلك لأنه قد فرض أن الفعل الجنسي شر إذا لم يصحب بالرغبة في النسل. وليس شراً حينما توجد هذه الرغبة، حتى ولو كان من المؤكد أن هذا النسل سيكون

ص: 27

تعيساً. وقتل الإنسان فجأة ثم أكله - كما كان مصير ضحايا قبائل (الأزتك) - أقل درجة بكثير من الألم الصادر عن مولد طفل في محيط تعس وملوث بداء الزهري. ومن ثم فإن العذاب الأعظم هو الذي يسببه الأساقفة والسياسيون عن عمد وسبق إصرار باسم الأخلاق، فلو كان لديهم حتى أصغر جذوة من الحب أو الشفقة نحو الأطفال، ما ألصقوا بالقانون الأخلاقي هذه القسوة الشيطانية.

إن الطفل المتوسط يقاسي حين الميلاد؛ وفي أيام طفولته المبكرة، من الأسباب الاقتصادية أكثر مما يقاسيه من الأسباب الخرافية؛ فحينما يولد للنسوة الغنيات أطفال فإنهم يجدون خير أطباء، وخير عناية، وخير طعام وشراب، وخير راحة، وخير لعب؛ بينما النساء من الطبقة الكادحة لا يتمتعن بهذه المزايا. وقد عملت السلطات العامة بعض الشيء في سبيل العناية بالأمهات، ولكن وهي كارهة؛ ففي اللحظة التي تمنع فيها كميات اللبن المخصصة للأمهات لتغطية العجز في المصروفات، تنفق السلطات العامة مبالغ ضخمة في رصف طرق السكان الأغنياء، حيث حركة المرور ضئيلة. ويجب أن يعلموا أنهم بمثل هذا القرار يتسببون في موت عدد من أطفال الطبقة الكادحة، بسبب جريمة الفقر. ومع ذلك فإن الطبقة الحاكمة، يشد أزرها الأغلبية الساحقة من رؤساء الدين، وعلى رأسهم البابأن قد ارصدوا قوى الخرافة الضخمة في العالم لتدعيم الظلم الاجتماعي.

وتأثير الخرافة في كل مراحل التربية نكبة. فإن نسبة مئوية من الأطفال لديهم عادة التفكير. ومن أهداف التربية أن تخلصهم من هذه العادة. فالأسئلة المحرجة تقابل بالقول (صه. . صه) أو بالعقاب، وتستخدم العاطفة الجماعية في تلقين أنواع معينة من الاعتقاد، وعلى الأخص الأنواع الوطنية. والرأسماليون والحربيين ورجال الكهنوت، يتعاونون في التربية، في زيادة هذه الميول، لدى الإنسان المتوسط.

وها هي ذي طريقة أخرى تحطم بها الخرافة التربية، وهي تأثيرها في اختيار المدرسين، فلأسباب اقتصادية ينبغي ألا تتزوج المعلمة، وأسباب أخلاقية يجب ألا يكون لها صلات جنسية خارج نطاق الزوجية، مع أن كل من درس علم النفس المختص بالسقم يعلم أن إطالة أمد العذرة، جد مضر على المرأة، فلا ينبغي ألا تشجع عليه المدرسات في المجتمع السليم. وهذه القيود المفروضة تؤدي إلى رفض جانب من النسوة القويات الجريئات أن

ص: 28

يتعاطين مهنة التدريس. وهذا كله يرجع إلى التأثير المستتر لمذهب الزهد الخرافي.

والأمر أسوأ في مدارس الطبقة المتوسطة والدنيأن فهناك الصلوات الكنسية والعناية بالأخلاق موكولة إلى رجال الدين؛ ورجال الدين غالباً ما يقعون في طريقتين كمعلمين للأخلاق، فهم ينكرون الأفعال التي لا تسبب ضررأن ويتجاوزون عن الأفعال التي تسبب ضرراً عظيماً. فهم جميعاً يسخطون عن الأفعال التي تسبب ضرراً عظيماً. فهم جميعاً يسخطون على الصلات الجنسية بين الشخصين غير المتزوجين اللذين يعشق كلاهما الآخر، ولكنهما بعد ليسا متأكدين أنهما يرغبان أن يعيشا معاً طوال حياتهمأن ومعظمهم يسخطون على تحديد النسل؛ ولكن أحداً منهم لا يسخط على وحشية الزوج الذي يتسبب في وفاة زوجته من كثرة الحمل. وقد عرفت قسيساً عصرياً كان لزوجته تسعة أطفال في تسعة أعوام؛ وقد أخبره الأطباء أنها إذا أتت بالعاشر فقد تموت. وفي العام الثاني حملت به فماتت، ومع ذلك فلم يسخط عليه أحد منهم، واستعمر في أبرشيته، وتزوج مرة أخرى، وما دام رجال الدين مستمرين في تجاوزهم عن القسوة وفي سخطهم على الاستمتاع البرئ، فإنهم لا يقدرون إلا على عمل الشر والضر كحراس الأخلاق الصغار.

وها هو ذا تأثيراً آخر سيئ للخرافة في التربية، وهو عدم تعليم الحقائق الجنسية، فإن الحقائق الفسيولوجية الأساسية ينبغي أن تعلم في الجنسين بكل بساطة، وبالطبع قبل سن البلوغ أي في هذا الوقت الذي لا يكونون فيه نشيطين. ففي سن البلوغ ينبغي أن تعلم أصول الأخلاق الجنسية غير الخرافية. ويجب أن يلقن البنون والبنات أنه لاشيء يبرر الاتصال الجنسي إذا لم يكن هناك ميل متبادل. وهذا على العكس من تعاليم الكنيسة التي تعتقد أنه ما دام الزوجان قد تزوجأن وما دام الرجل يرغب في طفل آخر فإن العمل الجنسي له ما يبرره أيا ما كان عظم نفور الزوجة. وينبغي أن يعلم البنون والبنات احترام كل منهما لحرية الآخر، وأن يشعروا أنه لا شيء هناك يمنح كائنا بشرياً - أياً كان - حقوقاً أكثر من الآخر، وأن الغيرة وحب التملك والاستئثار تقتل الحب. وينبغي أن يعلموا أيضاً طرق التحكم في النسل لكي يكونوا على بينة من أن الأطفال يجب أن يأتوا حينما يرغب فيهم. وأخيراً ينبغي أن يعلموا أخطار داء الزهري وطرق الوقاية والعلاج. وعلينا أن نتوقع من التربية الجنسية على هذه المناهج زيادة في السعادة البشرية لا تقاس.

ص: 29

من الواجب أن يعرف أن الصلات الجنسية - في حالة عدم وجود الأطفال - أمر خاص محض لا علاقة للدولة أو الجيران به. وفي الوقت الراهن يعاقب قانون العقوبات على بعض صور معينة من الاتصال الجنسي لا تؤدي إلى ذرية، وهذا خرافة خالصة، لأن الأمر لا تأثير له على أحد إلا على الفردين المتعلق بهما مباشرة، ومن الخطأ أن يقال - حين وجود الأطفال - إن من الضروري لمصلحتهم جعل الطلاق مستحيلأن فالعربدة والسكر المعتاد، والقسوة والجنون، أمور تحتم ضرورة الطلاق لصالح الأطفال تماماً كما هو لصالح الزوجة أو الزوج. والاهتمام الغريب - في الوقت الحاضر - الخاص بالزنا ليس عقلياً تماماً. فمن الواضح أن أنواعاً عدة من سوء السلوك أشد خطراً على السعادة الزوجية من الخيانة المختلسة. وأشد خطراً من كل ذلك، هو إصرار الذكر على إنجاب طفل كل عام، هذا الإصرار الذي يبدو أنه من سوء السلوك أو القسوة المقنعين.

يجب ألا تكون السنن الأخلاقية شيئاً يجعل السعادة الغريزية مستحيلة، ولكن ذلك أثر من التشدد في الاقتصار على زوجة واحدة، في مجتمع عدد الجنسين فيه ليس متعادلاً. فبالطبع تحت مثل هذه الظروف تنتهك السنن الخلقية، ولكن حينما تكون السنن كذلك فإنها لا يمكن أن تطاع إلا بإنقاص كبير في سعادة المجتمع. ولكن حينما يكون من الخير انتهاكها (أي هذه السنن) لا مراعاتهأن فمن المؤكد أنه قد حان وقت تغييرها. وإذا لم يفعل ذلك فسيواجه كثير من الناس الذين يسيرون في طريق مضاد للمصلحة العامة، تغييراً غير مرغوب فيه في النفاق أو الذم. والكنيسة لا تحفل بالنفاق الذي هو جزية متملقة لسلطاتها. أما في أي مكان آخر فقد عرف النفاق على أنه شر يجب أن لا يحارب بهوادة.

وأشد ضرراً من خرافات اللاهوت خرافات القومية، وواجب كل فرد نحو دولته الخاصة. لأية دولة أخرى، ولكني لا أعرض في هذه المناسبة إلى مناقشة هذا الأمر أكثر من أن أشير إلى أن اقتصار اهتمام كل فرد على أبناء وطنه أمر مضاد لمبدأ الحب الذي عرفناه، كلبنة في بناء الحياة السعيدة. وهو كذلك مضاد للشخصية المستنيرة، لأن القومية الضيقة لا تخلق أبداً أمما منتصرة.

وناحية أخرى مما يعانيه مجتمعنا من جراء التصور اللاهوتي للخطيئة، وهي علاج المجرمين. فوجهة النظر القائلة بأن المجرمين (أشرار) ويستحقون (العقاب) ليست بشيء

ص: 30

يستطيع أن نؤيده الأخلاق العقلية وليس من شك في أن بعض الناس يرتكبون أشياء يريد المجتمع منعهأن وهو على صواب في منعهأن ولنأخذ جريمة القتل كأوضح مثال، فمن الجلي أنه إذا أردنا مجتمعاً متماسكاً نتمتع بمباهجه ومزاياه، فلن نسمح للناس أن يقتل بعضهم بعضاً وقتما يشعرون بميل إلى أن يفعلوا ذلك. ولكن هذه المشكلة يجب أن تعالج بروح علمية محضة، فنسأل ببساطة: ما هي أنجع طريقة لمنع القتل.؟ ومن بين طريقتين متعادلتين التأثير في منع القتل نختار تلك التي تسبب ضرراً أقل للقاتل، فإن إيذاء القاتل مما يؤسف له، مثل الألم في العملية الجراحية، فقد يكون ضرورياً مثله، ولكنه ليس موضوعاً للتفكه والشعور بأخذ الحق الذي يسمى (الإهانة الخلقية) فليس إلا صورة من القسوة. وإيلام المجرم لا يمكن تبريره أبداً بفكرة العقاب لأخذ الثأر، وإذا كانت التربية المصحوبة بالشفقة. تساويها في التأثير، فإنها تفضل أكثر إذا كان تأثيرها أكثر. وبالطبع منع الجريمة وعقاب المجرم سؤالان متباينان. وموضوع توقيع الألم بالمجرم من المفروض أنه للإرهاب فقط. ومع ذلك فإذا جعلت السجون إنسانية إلى درجة أن السجن ينال فيها قسطاً عظيماً من التربية بدون مقابل، فقد يرتكب الناس الجرائم لكي يؤهلوا لدخولها. وليس هناك من شك في أن السجن يجب أن يكون أقل متعة من الحرية. ولكن خير طريق لتجنب هذه النتيجة أن تجعل الحرية أكثر متعة مما هي بعض الأوقات في الوقت الحاضر. ولكني لا أريد أن أطرق موضوع (الإصلاح الجنائي) ولكني لا أريد فقط أن أقول: إن من الواجب أن نعامل المجرم كما نعامل إنساناً مصاباً بالطاعون، فكل منهما خطر عام، وكل منهما يجب أن يحد من حريته، حتى يتوقف عن كونه خطرأن ولكن الرجل المصاب بالطاعون موضوع للعطف والمواساة، بينما المجرم موضوع اللعنة. وهذا وضع غير عقلي، وبسبب هذا الاختلاف في المعاملة فإن سجوننا أقل نجاحاً في شفاه الميول الإجرامية من مستشفياتنا في علاج الأمراض.

لكلام بقية

عبد الجليل السيد حسن

ص: 31

‌الأدب والفن في أسبُوع

للأستاذ عباس خضر

مناقشة رسالة جامعية:

عافتني بعض العوائق عن حضور مناقشة الرسالة التي قدمها الأستاذ بدوي طبانة في كلية دار العلوم للحصول على درجة (الماجستير) وموضوعها (أبو هلال العسكري ومقاييسه البلاغية) ولكن شاباً أديباً هو صديقي الأستاذ حسن صبري علوان - جزاه الله صالحة - قد سد الثغرة وهو من أعزائي المدمنين على قراءة (الأدب والفن) وقد تعارفنا أولاً عن طريق المراسلة ثم التقينا فظفرت بصداقته. تفقدني صبري هناك يوم مناقشة تلك الرسالة، فلما لم يلقني حرص على أن يقوم مقامي ويؤدي مهمتي. وثمة مفارقة لا بأس بذكرهأن وهي أن صبري طالب بالسنة النهائية بكلية العلوم، ومع ذلك ستراه ينقد أساتذة الأدب في البلاغة في الجامعة: كلية دار العلوم وكلية الآداب، نقداً حصيفاً يدل على من وراء. . خرج من غازات المعامل وتجاربها وامتحاناتها إلى عالم الأدب الذي يعشقه، يرتاد آفاقه ويبحث عن مجالاته، وهو يسمى هذا العالم (العش الكبير) الذي يقابل (العش الصغير) عش دراساته في كلية العلوم. . . وهكذا نرى الأديب هو الأديب في أي مكان.

كتب إلى صديقي صبري يقول، وقد ذهب لحضور تلك المناقشة:(. . . فألقيت بجميع وراء كل كلمة قالها العارض، وكل كلمة قالها مناقش. . . ثم وجدت في نفسي حنيناً أن أكتب إليك، لأنك ناحية من نواحي العش الكبير الذي أستطيع أن أتنفس في أجوائه) ثم يحدثنا عن مناقشة الرسالة، فيقول:

(كانت هيئة التحكيم مشتملة على الأساتذة: إبراهيم سلامة رئيساً وعلى الجندي وأمين الخولي بك عضوين. . وبعد أن عرض الأستاذ طبانة رسالته. . أعطيت الكلمة للأستاذ علي الجندي الذي كان أكثر الثلاثة كما في المناقشة. . أعقبه الأستاذ أمين لخولي بك كان يهوى بفأسه. . كأنما يريد أن يقتلع الجذور! لا أن يهشم الأغصان! ثم أعقبه الأستاذ إبراهيم سلامة.

ابتدأ الأستاذ الجندي قائلاً: نحن وإن كنا سنعصرك. . فلا تخش. فقد يسكون كما نعصر عود القصب لنستخرج منه السكر!. . وقد كان كثير الاستشهاد بالشعر. . وكان يقول: قال

ص: 32

أميرنا. . عندما يستشهد لشوقي!. . يريد أنه من الشعراء. . ولاشك أن هذا إعلان طيب على كل اعتراض في مناقشة الأستاذ الجندي. . وكان رأى الأستاذ الجندي ككرة المطاط إن ضغط عليها تباينت أبعاد حوافها عن مركزها. ولكن شاعرنا كان يصر في كثير أن يظل المركز على أبعاد متساوية. ومن ذلك قوله إن الجاحظ وأبا هلال لم يعطيا اللفظ كل شيء، واستشهد للجاحظ وترك أبا هلال. . فرد الأستاذ طبانة قائلاً إن النص لأبي هلال يلزمنا ويقول:(وليس الشأن في إيراد المعاني. فالمعاني يعرفها العربي والعجمي. . . وإنما هي جودة اللفظ. . . وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً) أي لا يكون خطأ!. . ولكن الأستاذ الجندي أصر. .!

وقد غمر شاعرنا النقاد غمرة ما كنت لأرضاها له قال: من هو الناقد الأدبي؟ هو رجل لم يستطيع أن يقول أي شيء! فأراد أن يقول في كل شيء!. لم يستطع أن يكون قاصاً أو شاعراً أو ناثراً. . فالتمس باب المجد من هذا الباب! وكان متحمساً كأنما يلقي قصيدة! وهو يعلم أن النقد موهبة لا تتفق لكثيرين في دولة النقد، كما أن الشعر موهبة لا تتفق لكثيرين في إمارة الشعر!

وقال إنه ألف ديواناً فإنه لا يبالي ما يقول فيه النقاد. ولكن ما يقول الجمهور المثقف. كأن النقاد ليسوا من هؤلاء! ولفت الأستاذ الجندي نظر صاحب منهجاً من مناهج الدراسات الأدبية.

وقد ذكر الأستاذ سيد قطب في المناقشة حين عرض الأستاذ الجندي لقولة الأستاذ طبانة عن كلمة عمر بن الخطاب في زهير: إنه كان لا يعاظل. . قال: إن التعليق منقول عن كتاب النقد الأدبي (للأستاذ سيد قطب). . . وكلا الرأيين خطأ! لأن كلمة عمر لم تكن أول عهدنا بالنقد المفصل! فهناك حكاية النابغة مع الخنساء وحسان. . إن صحت! وهناك محمد رسول الله. . كان ينهى عن الحوشى. . . والتشدق والتقعر! ويقول: إن من البيان لسحراً!. . . وحكاية النابغة إن صحت فإنما هي إعجاب أو حكم غير معلل. . وذيل القصة الذي يفصل ويعلل ظاهر البطلان لأنه لا يتفق مع طبيعة النقد في هذا العصر كما قال الأستاذ سيد قطب. على أن أبا الفرج لم يذكر الذيل في الأغاني. .

وأما سيدنا محمد فإنما قال ما قال في معرض التقوى والصلاح لأن من صفات المؤمن ألا

ص: 33

يتشدق أو يتفيهق أو يغرب، بل أن يكون مستقيماً. واضحاً. . متواضعاً! وانتهت مناقشة الأستاذ الجندي بقوله: إنني وأن أكن قد قرأت رسالتك بين الصحة والمرض، فإنني قد تدبرتها جيداً. . . وقد لاحظت فيها أثر الجهد والسهر!

ثم تكلم الخولي بك فقال: إنني لن أكثر. سأضرب لكل نقطة مثلاً واحداً. . إنني قرأت رسالتك وحاولت أن أجد فيها صورة قلمية لأبي هلال أو ترجمة علمية له فلم أوفق! إنني أعرف أن للبحث من أول نقطة إلى آخر نقطة، ثم يخلص إلى ما يريد من نتيجة! ولكنني وجدتك تناقض نفسك مناقضة لا أدري كيف وقعت فيها. . اتهمت أبا هلال في ذمته وفي خلقه وفي ذوقه وفي أدبه. . ثم رجعت تسائل نفسك. . هل وضع أبو هلال مقاييس للبلاغة؟ ثم تجيب: كلا! إنه اعتدى على من سبقوه فنقل ما قالوا وحاول جهده أن يخفي ما فعل. .

فاتهمته كذلك باللصوصية!! وبعد هذا تجعله ومقاييسه البلاغية عنواناً لرسالتك!. ثم إنك عرفت الأدب بأنه الكلام الجيد. فما بالك بالمتوسط؟ وقلت إن موضوع الأدب علوم الأدب وهذه ليست دقة علمية. . فقال الأستاذ طبانه: هذا عند القدامى! فقال الخولي بك: تأكد أن القدامى أدق من أكبر منك ومني! كان لك أن تقول إنها من ثقافة الأديب أو الناقد الأدبي!. ثم إني رأيتك تعزو التحول في الظواهر الأدبية إلى الأشخاص وهو كالتحول في الظواهر الاجتماعية يعزى إلى العصور. . وتكلم الأستاذ إبراهيم سلامة عن الذوق والقاعدة أو عن الفن والعلم فقال، إن أرسطو نفسه كان يحيرنا في خلطه بين الفن والعلم فكان يضع أحدهما مكان الآخر فيقول عن الطب مثلاً: إنه فن الطب!

وقال: إن موضوعك كان شائكاً لأنه فترة انتقال بين عصرين أو هو عصر التردد!. . وقد لاحظ قلة المراجع في الرسالة قائلاً: لماذا تعتمد على الفرع دون الأصل. . لماذا تنقل عن فلان أو فلان. . إنهم ليسوا أحسن منك. . . لماذا تأخذ حكاية عمر عن (مش عارف مين. .) خذها من الأغاني. . . خذها من غيره. . ارجع إلى الأصل دون الفرع. . وخلت اللجنة للمداولة. . بعد مناقشة استغرقت ما يقرب من خمس ساعات تخللتها استراحات قصيرة. . . وقضت اللجنة للأستاذ بدوي بدرجة الماجستير من رتبة ممتاز.)

وما أحسب الأستاذ على الجندي - بعد قراءة هذا النقد - إلا مسلماً بأن في كنانة الأدب

ص: 34

نقاداً لا يستهان بهم. . وأن المدار في الأدب على الموهبة!

وليت شعري، هل يرى الأستاذ الجندي رأيه ذاك في أبي هلال العسكري باعتباره - أعني أبا هلال - ناقداً، وهو موضوع الرسالة التي عينها وما هي إلا نقد؟ وهل يرى رأيه ذاك في نفسه وفي زميليه وهم يناقشون الرسالة وما هم في هذا إلا نقاد؟ ثم هل يرى رأيه ذاك في نفسه باعتباره أستاذاً في دار العلوم جل عمله إن لم يكن كله الدراسة التي لا تخرج عن النقد؟ وبعد فلي نظرة في مسألتين: الأولى تعريف الأدب بأنه الكلام الجيد، من حيث اعتراض الأستاذ الخولي بقوله (فما بالك بالمتوسط؟) والذي أراه أن المقصود بالكلام الجيد ما يقابل الكلام العادي غير الأدب، فالأدب المتوسط بالإضافة إلى الأدب الجيد، وهو جيد بالنظر إلى غير الأدب.

والمسألة الثانية ما قاله الدكتور إبراهيم سلامة في الفن والعلم وخلط أرسطو بينهما في قولته عن الطب إنه الطب. ولست أدري ماذا يعنيه أرسطو فلم أطلع على كلامه هذا. وإنما أقول: إن فن الطب غير علم الطب، فلأول عمل وتطبيق، والثاني أبحاث ونظريات.

الأهرام ومنصور جاب الله:

لعل قراء الرسالة يذكرون ما حدثتهم به من قبل، عن النزاع بين صحيفة الأهرام وبين الأستاذ منصور جاب الله، ذلك النزاع الذي يتلخص في أن الأستاذ كان يعمل محرراً بالأهرام وقد استقال من وظيفته بوزارة المعارف ليتفرع للتحرير بها، ولا يجهل أحد من القارئين ما كان يكتبه في الأهرام من افتتاحيات ومقالات وتحقيقات صحفية. ثم تقلبت الأحوال في الأهرام، وجاء ناس بعد ناس، وإذا الأستاذ منصور مخرج من عمله في الصحيفة دون أي مبرر. . . وحاول التفاهم، ولجأ إلى النقابة، فلم يجده شيء من ذلك، فاضطر إلى المقاضاة أمام المحكمة

وقد سرنا أن القضاة أنصفه وحكم له بتعويض، وكان لهذا الحكم وقع طيب وخاصة لدى أدباء الإسكندرية الذين عبروا عن مشاعرهم بحفلات التكريم التي أقاموها له

ثم حدثت بعد ذلك ملابسات، أدعه يحدثنا عنها في رسالته التي تلقيتها منه في هذا الأسبوع:

(. . وإذ كان المبلغ الذي قضى لي به لا يتجاوز عشر التعويض المطلوب، فقد أزمعت

ص: 35

استئناف الحكم، ولكن بعض الأدباء الذين تربطهم بالأهرام صلة سعي إلى بالمودة قائلاً: إنني طالب مبدأ لا طالب مبلغ، وأن حسي هذا الحكم الرائع وعطف الرأي العام. وطلب إلى أن أتنازل عن الاستئناف على أن تدفع لي جريدة الأهرام المبلغ المحكوم به. وأجيبت الأديب الفاضل إلى ما طلب. وبعد يومين من هذه (الوساطة) علمت أن الصحيفة المذكورة قدمت استئنافاً، فلم أجد أنا بدا من الاستئناف. ولعلك عاذري يا صديقي إذا أنا لجأت إلى الأساليب ذاتها التي تلجأ إليها الأهرام. وأحب أن يعلم المسئولون فيها أنه من الخطأ أن يستضعف الخصم خصمه، فقد يصيب المستضعف مقاتل القوى. . .)

وإنني الآن لأشعر بالإشفاق على الأهرام نظراً إلى ماضيها وإلى ما تحب لهأن وإلى جانب ما أشعر به من الرغبة في الانتصاف لأديب وصديق ناله عنت، وألم به ضيق، فإنه - وإن كان يعاني هذا الذي ناله - سينصفه القضاء وقد أنصفه فعلاً، والقضاء العادل هو أعز ما تملكه في هذه البلاد. أما الصحيفة الكبيرة فلا يشرفها، ولا يتفق مع روح العصر، أن يخرج عامل فيها بعد سنين في خدمتها إلى الطريق صفر اليدين. . .

وهنا طرف آخر في هذا الموضوع، هو نقابة الصحفيين. . لست أدري أي شيء هذه النقابة إن لم يكن مثل هذا من صميم عملها؟ أليست تسعى لتقرير معاشات للصحفيين الذين يعجزون عن العمل؟ فما بالها تقف عاجزة عن إنصاف محرر عامل من صحيفة؟ إن النقابة تمثل أصحاب والمحررين فهي تجمع بين لقط والفأر. . ولا بأس بذلك على أن تقلم أظفار الأول، ولكن لبأس كل البأس أن تمكن الأول من التهام الثاني. . .

عباس خضر

ص: 36

‌المسَرَح والسِينَما

في عالم النقد:

حورية من المريخ

للأستاذ علي متولي صلاح

تحية طيبة نبعث بها إلى تلك الفرقة الناشئة الشابة المتوثبة، من فوق منبر (الرسالة) مجلة الفن والأدب والعلم، ونعني بها فرقة (المسرح المصري الحديث) التي ظهرت خلال هذا المرسم كما تظهر بواكير الندى، وكما تتفتح براعم الورود فتجلو كامن الحسن وخفي الجمال.

أخذ الناس إشفاق على تلك الفرقة يوم رأوها تنتظم عصافير ناعمة بضة حسبوها تزقزق على خشبة المسرح فلا تبين، وتهتز الخشبة من تحتها فلا تثبت، وقالوا: من أين لزغب القطا أن تقوى على ما تنبهر أمامه أنفاس النسور؟ ومن أين للظبي الأغن أن ينهض بما يعيا به الأسد الهصور؟

. . ولكن هؤلاء المشفقين انقلوا مشدوهين عجبين عند ما رأوا هذه الفرقة تنهض بالروائع والآيات لكبار المؤلفين من أمثال: موليير وتشيخوف وتيمور، تنهض بها نهضة يرى الناس فيها بحق أن الأمر لو كان بالسن لكان في الأمة من هو أحق من أمير المؤمنين بمجلسه كما قال الغلام العربي القديم! وتنهض بها نهضة يبدو فيها - أظهر وأبين ما يبدو - معنى التضامن وفناء الفرد في سبيل المجموع، ومعنى نكران الذات. . فما رأينا واحداً منهم حاول في موقف له أن يسطع على حساب زملائه، أو أن يسلبه مجداً يراه له حقاً. ولعل مرد ذلك فيهم إلى ما لقنوه من ثقافة ومعرفة حرمهما الكثير من رجال المسرح الأقدمين.

هؤلاء بحق هم (الأعوان الذين يمكن أن يعتمد عليهم وزير المعارف) كما يقول معالي الوزير الجليل في حديثه مع صديقنا الأستاذ عباس حسان خضر، وليس عمل هؤلاء قط هو (الترفيه وإضاعة الوقت) كما يقول معاليه عن المسرح عامة في مصر، وإنما عملهم هو (التعليم وإشاعة الجمال والذوق في نفوس الناس) كما يفعلون بحق، معرضين إعراضاً

ص: 37

ملائكياً عن المادة وسيطرتها على الفن، والانحدار به إلى مرتبة الوسيلة الرخيصة، والأداء الذلول!

ولقد كانت آخر مسرحية قامت بها هذه الفرقة هي المسرحية التي جعلناها عنواناً لهذا المقال (حورية من المريخ)، وهي تدور في جملتها على فكرة واحدة، تلك هي أن الإنسان كما يضيق بالمتاعب والمصاعب التي يخلقها له من يخالطونه في العيش، فتكدر صفوه، وتشرد أمنه، فإنه يضيق كذلك بالراحة الكبرى والطاعة الدائمة والصفو المقيم!

فالزواج (رفعت) يضيق بزوجته (إحسان) لما تحدثه له من متاعب متصلة، فيهب الله له حورية من المريخ حسناء رائعة الحسن تطيعه طاعة عمياء، وتوافقه في كل ما يرى، وتذهب مع هواه حيثما ذهب، فلا خلاف ولا شجار، ولا عصيان ولاشقاق، ولكنها حياة رتيبة هينة لينة! فيضيق الزوج بهذا الهدوء الشامل، ويشقى بهذا الأمن الكامل، وتعلم الحورية بما يعتل في صدره من غم، وما تسببه هذه الحياة الناعمة له من هم، فتعود أدراجها إلى المريخ بعد أن تعيد ما انقطع بينه وبين زوجه الآدمية من صلة، وتسترجع ما كان انبت بسببها من علاقة!

هذه المسرحية تلفحنا منها ريح أسطورة يونانية شهيرة، هي أسطورة (بجماليون) ذلك المثال البارع الذي صنع تمثالاً رائع الفتنة لامرأة سماها (جالاتيا) ولكنه أغرم بالتمثال وتمنى على الإلهة (فينوس) أن تمنحها الحياة ليتخذها زوجاً له، فاستجابت الإلهة لدعائه ومنحتها الحياة، وما إن دبت فيها الحياة الإنسانية حتى دبت معها غرائز الإنسان! فكان أن خانته وهربت منه! فعاد يتمنى على الإله (أيولون) أن يعيدها إليه ثم يسلبها الحياة ويرجعها كما كانت تمثالاً من العاج، فاستجاب له الإله وأعادها كما كانت فهوى عليها بجماليون فحطمها تحطيماً!

تلك هي الأسطورة القديمة التي نشتم رائحتها قوية في (حورية من المريخ) فإن صح ما نحس به فإن المؤلف يكون قد استطاع الانتفاع بالأسطورة القديمة أكبر انتفاع، ولا لوم عليه في ذلك ولا تثريب. وليت الكثير من أدبائنا يحسبون الانتفاع بهذه الأساطير إذن لأثرى الأديب العربي إثراء كبيراً ويأخذ الأستاذ زكي طليمات في مقدمته التي كتبها للرواية على المؤلف أنه (أجرى الحوار فيها تارة باللهجة العامية وتارة باللغة العربية

ص: 38

الفصحى. . وقد كان يفضل أن تشمل المسرحية كلها وحدة في الأسلوب البياني حتى تحتفظ بطابع واحد من التعبير اللفظي يسوده الانسجام اللغوي) ولسنا نذهب هذا المذهب حتى ولو استطاع المؤلف أن يستنبط إمكانيات أخرى يبتغي بها استقامة مفاجآت المسرحية ومشوقاتها كما يقول الأستاذ زكي طليمات.

فلو أن الحورية تكلمت باللهجة العامية لانتفت عنها فورها صفة الحورية ولكانت بشراً ممن يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق! فنحن نعلم أن العامية هي لغة السواد من الناس وأين الحورية من هذا السواد؟

ولنا - بعد - على المسرحية ملاحظات يسيرة نتوجه بها إلى هذه الفرقة المرموقة المأمول منها خير كثير، نتوجه بها إليها في رفق ولين، ولكن هذا الرفق لن يطول أمده، وسنأخذها فيما بعد بصرامة الحق وصراحة القول فذلك أنفع لها وأجدى عليها، ونحمل تلك الملاحظات فيما يأتي: -

1 -

يتكلف الأستاذ (عدلي كاسب) شخصية الأستاذ (حسن فائق) تكلفاً ظاهراً جداً. وأرجو أن يعلم الأستاذ أن في هذا التكلف إفناء لشخصية وإعلاء لشخص الأستاذ حسن فائق! فالناس إذ يرونه كذلك لا يذكرونه وإنما يذكرون حسن فائق!

2 -

الأبيات التي يرويها الزوج (الأستاذ نور الدمرداش) لعلقم الفحل يرويها مكسورة وبها بعض الأخطاء. وليس مما ينهض عذراً له أنها وردت كذلك في الأصل المطبوع فقد كان عليه بل كان على المخرج أن يتلافى هذا الخطأ وبخاصة الكسر الذي في البيت الأخير. . وصحة الأبيات هي كالآتي مأخوذة من الديوان ومن الجزء الثالث من كتاب (نهاية الأرب) وكما ينبغي أن تكون وأرجو أن يرويها كذلك مستقلاً: -

فإن تسألوني بالنساء فإنني

عليم بأدواء النساء طبيب

إذا شارب رأس المرء أو قل ماله

فليس له في ودهن نصيب

يردن ثراء المال حيث علمنه

وشرخ الشباب عندهن عجيب

3 -

انتقلت ملابس الحورية فجأة من ملابس الحوريات الغريبة، فصارت بمجرد هبوطها إلى الأرض ومن أول لحظة ملابس (إسبور) وبنصف كم! وعندي - ولو أن هذا مصدر من مصادر سوء التفاهم لاستحالة فهم الأناسي الذين يعاشرون الزوج أنها من حوريات

ص: 39

المريخ وهي تلبس ملابسهم - عندي أنه كان الأولى أن تنتقل من ملابس الحوريات إلى ملابس الآدميين المعاصرين الإسبور انتقالاً تدريجياً لتبقى لها هالة الحوريات بعض البقاء الخفيف وبحيث لا يجب ماضيها جبأن ولم تبقى لها لغتها دون ملابسها؟؟

4 -

شخصية الأستاذ (عزمي عثمان) في دور (صلاح) صديق الزوج ضعيفة باهتة جداً يمكن وصفها بأنها لا لون لها ولا رائحة، ولم يستطيع أن ينفث الحياة في شيء مما قال بتاتاً؛ مع أن في دوره ما كان يمكن أن تدب فيه حياة حارة نابضة

5 -

كان وضع (الميكروفون) غير حكيم، فالصوت كان يخفت جداً إذا جرى الكلام في مؤخرة المسرح، ويقوى ويشتد حتى يمتلئ حشرجة إذا جرى الكلام في مقدمة المسرح، وصوت الممثل ينبغي أن يكون نقياً خالصاً من هذه الحشرات والنتوءات الصوتية التي قد نغتفرها في السينما.

هذا - وقد كان الزوج وزوجه والحورية وأعني بهم: الأستاذ نور الدمرداش والآنستين ملك الجمل وزهرة العلا بكير، كانوا يقومون بأدوارهم قياماً يشكرون عليه. أما الأستاذ أحمد الجزيري فقد بلغ شأواً بعيداً في تمثيله حيث كان ينطلق انطلاقاً طبيعياً لا تكلف فيه ولا صنعة مما يستحق عليه أطيب الثناء.

وبعد: فتلك كلمة إجمالية لم نذهب فيها مذهب التفصيل والإسهاب، ولم نعرض فيها إلا القليل من الحسنات والقليل من السيئات، راجين أن نتتبع الحركة الفنية القائمة بالعرض والنقد والتسجيل، ولن يحدونا إلا الحق وحده.

علي متولي صلاح

ص: 40

‌الكُتُب

درجات الناس

تأليف الأستاذ طه محمد الساكت

للأستاذ منصور جاب الله

كلما هممت بإرسال المقال في هذا الكتاب، صرفتني عنه مشاغل طرآنية، أو حجرتني صوارف الدنيا من هم أو مرض أو عمل! بيد أني الساعة حريص على الكتابة في هذا السفر رغم هذه الشكاة التي تغرقني منذ مطالع شهر رمضان!

أول ما يطالع القارئ في هذا الكتاب صورة ضوئية لمسجد يحيى باشا الكبير في رمل الإسكندرية، والقارئ العادي لا يعرف المغزى في نشر هذه الصورة حتى يقرأ ما كتب في الصفحة المقابلة؛ إذ يروى المؤلف نص الدعاة الذي حاول (أن يدعو به مرة عقب صلاة الفاروق - أيده الله - بمسجد يحيى باشا ليؤمن المصلون على دعائه، فحال الحرس بينه وبين بغيته) وإذن فالكتاب وليد عقدة نفسية عند المؤلف بقيت تحز في نفسه طوال هذه الحقبة. ومما يؤيد هذا المذهب أن الأستاذ المؤلف ذكر في الصفحة الأخيرة من مؤلفه أن أصوله عنده منذ أربعة عشر عامأن أي منذ أن حاول الدعاء لمليكه في مسجد يحيى باشا فحيل بينه وبين ما يريد.

على ان نشر هذه الصورة العزيزة في مقدمة الكتاب قد ردني إلى الوراء بضعة وعشرين عاماً ترادفت ترادف الموج في محيط الزمان، فإني لأذكر هاتك الحلقات التي كانت تلتئم في ذلك المسجد المعمور يتوسطها العارف بالله الشيخ محمد البوريني إمام الخديو السابق، وكيف أعادت إلى تلك الدروس ذكريات مدارسات السلف الصالح من أمثال الحسن البصري وسفيان الثوري، وأشهد أني ما حضرت درساً دينياً كان له الأثر في نفشي ما كان لشيخنا البوريني رحمة الله.

ومتصفح الكتاب إذا شاء عرضه على الناس لابد واجد صعوبة، فهو من كتب التصريف التي أجهد المؤلف نفسه في جمع شتاتها ومطا منة ضروبها حتى استوت له جملة صالحة عرضها على القارئين. فهو يبدأ بمناجاة ملك الملوك محرمأن وأرسلت إلينا رسلك فضلاً

ص: 41

منك وكرمأن ثم أورثت الكتاب الذين اصطفيت من عبادك، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات).

ويخلص من ذلك إلى مخاطبة (السادة الملوك) فيرفع إليهم الحديث في أدب المخضع الخاشع (هل أتتكم سادتي أنباء الأسفلين من الرعايا إذ ركبوا بحور الظلم والظلمات في سفائن باسم الشيطان مجراها ومرساها ارتدوا فيها فراعنة، وتمردوا فيها على الربابنة، ثم خرقوا أسفلها وأنتم العالون، ورقعوا في حدود الله وأنتم عليها قائمون. وقد بلغ من أمرهم أن سخروا من الناصحين حتى استيئسوا، وهزئوا بالراشدين حتى أبلسوا! فلم يبق في النجاة من أمل إلا تأخذوا بسلطان الله على أيديهم قبل أن تهلك جميعاً بشؤم معاصيهم).

ولعل في هذه الكلمات القصار التي اقتطفناها ما يوضح مقصد الكتاب وهدفه، فهو يريد النصح إلى من ملكهم الله الأمر وتبصيرهم مواطن الضعف والقوة في الأمة، فإن (صلاح كل من الراعي والرعية يؤثر في الآخر تأثيراً بليغاً، وإن كان صلاح الراعي في رعيته لأبلغ أثراً وأهدى سبيلاً، وليس من العدل والإنصاف في شيء أن نتجاهل قوة الرابطة بين الجانبين كليهما فنذكر اثر واحد دون صاحبه).

ويستطرد المؤلف من ذلك إلى تبيان درجات الأفراد ويتحدث عن المثل الكامل ودرجات الأمم، ويورد بعض الأحاديث في منزلة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بلغ الحديث درجات الملوك أورد ذلك الدستور الرشيد الذي وضعه الحسن البصري للإمام العادل عمر بن عبد العزيز فسار على سننه مدة حكمه القصير، حتى إذا مات نقضه الأحداث من بني أمية! وإذ يتكلم المؤلف عن درجات الناس عند الملوك لا تخونه شجاعته وإنما يقول في صراحة مؤدية (أعظم الناس عندهم - أي عند الملوك - أسرعهم إلى تحقيق رغباتهم وأشدهم ميلاً إلى هواهم، وأقل الناس كرجة عندهم ومنزلة أشجعهم على نصيحتهم وأخوفهم عليهم من بطش الله وعقابه).

(من أجل ذلك تحامي الناس نصحهم حتى الدعاة إلى الله عز وجل وكانوا بين خائف منهم ويائس، وبالغ كثير من الناس في مدحهم والثناء عليهم ابتغاء المال والدنيا).

وكم كان جميلاً من المؤلف أن يورد شذوراً عن بعض المؤلفات التي وضعت لخدمة الملوك في عهد السلف الصالح من هذه الأمة مثل سراج الملوك للإمام الطرطوشي؛ وسلوك

ص: 42

المالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع.

ولقد كان المؤلف بارعاً في استشهاده بنكبة المنصور لأبي مسلم الخرساني والرشيد للبرامكة على أن بطانة السوء لابد أن يفتضح أمرها على الأيام، وقد قبل لأبي مسلم (لم خرجت الدولة عن بني أمية؟) وقال (لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقة بهم، وأدنوا أعداءهم تألفاً لهم، فبم يعد العدو صديقاً بالدنو، وصار الصديق عدواً بالإبعاد).

وجهد الكاتب جهده في بيان في القرآن الكريم فذهب إلى أنها ذكرت ثماني عشرة مرة في الكتاب المنير في أربع عشرة سورة نصفها مكي ونصفها مدني، ومضى في تخريجه إلى درجة تشهد له بالبراعة والاجتهاد.

وأفراد المؤلف فصلا لحقوق الملك استهله برواية الشعبي عن ابن عباس قال (قال لي أبي: أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب - يستفهمك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله علي وسلم وإني موصيك بخلال أربع: لا تفشين له سراً، ولا يجرين عليك كذباً، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحداً. قال الشعبي: فقلت لابن عباس كل واحدة خير من ألف قال: إي والله ومن عشرة آلاف!).

ولا نستطيع أن نمضي في الاقتباس إلى نهايته، فحسبنا أن نذكر بالحمد تلك (العقيدة النفسية) التي تخلفت في صديقنا الأستاذ طه محمد الساكت قبل بضعة عشر عاماً، فكان نتاجها هذا الكتاب الأول من نوعه بعد عهد السلف الصالح، وعندنا أنه كتاب وضع للخاصة وإن كان صاحبه نص على ذلك في مقدمته. ففيه من المسائل الفلسفية العميقة ما يحمل القارئ على المطاولة والمجاهدة في سبيل تفهمهاً، وفيه توريات بعيدة المرمى لا يتفتق لها إلا الذهن الخصب الطيع.

فعلى هذا الأساس نتقبل كتاب الأستاذ الساكت ونعتبره كتاب تصوف وفلسفة، ونحمد له هذا الجهد الذي بذل، ونقد له هذه الشجاعة في إبداء بطريقة مؤدبة ملفوفة، فلو أن كاتباً غيره تناول مثل هذه الدقائق لزل به القلم ووقع في نزواته وشطحاته!

منصور جاب الله

ص: 43

‌البَرَيد الأَدَبِي

ختان البنات بين الطب والإسلام:

منذ ثمانية أعوام نشرت الرسالة الزاهرة مقالاً لأحد الأطباء محبذاً عدم ختان البنات، مبيناً ضرر هذه العادة في نظره نافياً أنها من الإسلام أو أن لها أصلاً دينياً وقد عقب على المقال أحد الفضلاء مؤيداً تعقيبه بأحاديث نبوية وآراء الأئمة والفقهاء، ولم تنته هذه المشكلة إلى ناحية ترتاح لها النفوس في ذلك الحين.

وقد تجددت هذه المشكلة في أيامنا هذه، وقامت مجلة (الدكتور) باستطلاع آراء بعض الأطباء وجمعت أقوالهم في ملحق خاص مع عدد شهر مايو سنة 1951 وكلهم قد أيد عدم ختان البنات، بل إن بعضهم قد أظهر مدى ضرر هذه العادة في كثير من الحالات. . .

واستكمالاً لهذا البحث قامت مجلة (لواء الإسلام) مشكورة باستطلاع آراء كبار العلماء من رجال الأزهر في هذا الموضوع الخطير وكلهم كان له القدح المعلى في هذا الشأن بإظهار أن هذه العادة إسلامية بحتة، وقد أتى بحكم نفيسة على مشروعيتها ترتاح لها النفوس وتنشرح لها الصدور!

قال فضيلة المفتي (إن ختان الأنثى من شعار الإسلام وردت به السنة النبوية واتفقت كلمة فقهاء المسلمين وأئمتهم على مشروعيته، ومع اختلافهم في كونه واجباً أو سنة فإننا نختار للفتوى القول بسنته، ومع اختلافهم في كونه واجباً أو سنة فإننا نختار للفتوى القول بسنته لترجح سنده ووضوح وجهته والحكمة في مشروعية ما فيه من تلطيف الميل الجنسي في المرأة والاتجاه به إلى الاعتدال المحمود. . . إلى أن قال: أما آراء الأطباء مما نشر في مجلة الدكتور وغيرها من مضار ختان الأنثى فإنها آراء فردية لا نستند إلى أساس علمي متفق عليه، ولم تصبح نظرية علمية مقررة، وهم معترفون بأنه للآن لم يحصل اختبار للنساء المختلفات، وأن نسبة الإصابة بالسرطان في المختتنين من الرجال أقل منها في غير المختتنين.

وبعض هؤلاء الأطباء يرمي بصراحة إلى أن يعهد بعملية ختان الأنثى إلى الأطباء دون الخاتنات الجاهلات حتى تكون العملية سليمة مأمونة العواقب الصحية. . . إلى أن قال في ختام الفتوى وقد علمتنا التجارب أن الحوادث على طول الزمن تظهر لنا ما قد يخفى علينا

ص: 44

من حكمة الشارع فيما شرعه لنا من أحكام وهدانا إليه من سنن، والله يوفقنا جميعاً إلى سبل الرشاد. . .

ومما قاله فضيلة الأستاذ رئيس المحكمة العليا الشرعية:

. . . (ولا شك في أن ختان الأنثى على هذا الوجه - أي إزالة الجزء البارز فقط وإبقاء الجزء الكامن - يكسبها صحة في الجسم وجمالاً في الأنوثة وصيانة في الخلق ومناعة في العفة والشرف مع الإبقاء على الحساسية الجنسية بالقدر المناسب الذي لا شطط فيه. أما استئصال البظر من أساسه وإزالة الأغشية الداخلية بأسرها بالطريقة المتبعة عند الجهلة من أهل القرى فإن الشريعة الإسلامية لا تقرر وتعتبره بدعة مكروهة لما ينجم عنه من فقدان حساسية الأنوثة فقداناً تاماً قد يؤدي إلى الزهد في وسائل التناسل. ويتضح مما تقدم أنه لا وجه لاعتراض بعض الأطباء في ختان البنات بالطريقة الشرعية، ولا مبرر لاقتراحهم منعه منعاً مطلقاً: ولعل اعتراضهم منصب على ما تخيلوه من أن ختان البنات يجري على طريقة الجهلة من أهل الريف. .).

ومما قاله فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت بعد أن وفي الموضوع حقه كسابقه: (هذا والشريعة تقرر مبدأ عاماً وهو: أنه متى ثبت بطريق البحث الدقيق - لا بطريق الآراء الوقتية التي تلقى تلبية لنزعة خاصة أو مجاراة لتقاليد قوم معينة - أن في أمر ما ضرراً صحياً أو فساد خلقياً وجب شرعاً منع العمل دفعاً للضرر أو الفساد، وإلى أن يثبت ذلك في ختان الأنثى فإن الأمر فيه على ما درج عليه الناس وتعودوه في ظل الشريعة الإسلامية وعلم رجال الشريعة من عهد النبوة إلى يومنا هذا. . .).

وبعد فقد كانت أقوال حضرات العلماء الأعلام حاسمة وشافية في هذه المشكلة حتى لا تثار ثانياً من جديد. وفقنا الله جميعاً إلى الصواب.

شطانوف

محمود منصور خضر

الشخصية المفروضة!

إن ما يقلق الوجدان المتحرر فرض بعض الناس ذواتهم متخذين من السماحة سماجة، ومن

ص: 45

التواضع لجاجة، ومن الدعة ضعة!

والشخصية المفروضة ليس لها كيان يحدد وجودها، أو نطاق يرسم حدودها، فتتخذ من جهلها تجاهل سواها، وتدل على تفاهتها بسفاهتها!

والمجتمع مرزأ بتلك الشخصية البعيدة عن الصفاء النفسي، والسمو الشعوري، فهي قد تعرفك بسمتك، لكنها تستر المعرفة بتناسي فضلك، وتحاول أن توقع في وهمك أنك لست في حسابها، فتعمد إلى إيهامك، وتنطق اسمك من العجز إلى الصدر لتشعرك أنك مجهول في جهلة صفاقتها!. والشخصية المفروضة ناقصة، لأنها تريد السعي إلى إثبات الوجود وإكمال ما حرمته بأساليب السلوك الملتوية. . .

وإذا كان النفسيون يقولون: إن الشخصية مجموع ما في الشخص من صفات جسمية، وعقلية، وخلقية، فيتجه كل (ناقص) إلى بعض الصفات على طريقته الخاصة التي يزعج بها شعور الأحرار! والسبيل إلى مطاردة هذه الشخصية أن يحطم رأس غرورها حتى يستقيم أمرها؛ وتكون الصراحة الموجعة أداة التحطيم؛ فالبلة، والغفلة والثقل، والحمق. صفات هؤلاء المفروضين على الناس؛ فيجب أن نشعرهم بحقائق أنفسهم، ونقيدهم في قيود سخافتهم؛ ثم نرمي بهم مرمى الاستخفاف!

جاءني رجل طيب جهر الاسم ذو نشاط ملحوظ، وشكا إلى جفوة جاف جاهل جلف، يحاول أن يطمئن من قدره، لأن ظروف الحياة جعلته مفروضاً عليه؛ فكان رئيسه!

قلت: يا أخي!. لا عليك! دعه وشأنه. . . أرفض وجوده من الوجود فتجد شخصيته المفروضة مرفوضة!

بور سعيد

أحمد عبد اللطيف بدر

جمع معجم

وردت كلمة - معاجم - في مقال - إقرار كلمات محدثة - للأستاذ عباس خضر ص 560ع 232 الصادرة في 14 مايو سنة 1951 من هذه المجلة. بينما الأستاذ مصطفى جواد في ص 1553 عدد خاص أكتوبر سنة 1949، من مجلة - الكتاب - ذكر أن جمع

ص: 46

معجم معاجم مثل مرسل ومراسيل، ومسند ومسانيد، ومنكر ومناكير، ومصعب ومصاعيب، وكل ما كان على مفعل بضم الميم، فهذا بانه، إلا إذا كان فيه لغتان.

بعد هذا أرجو أن أقف على رأي الأستاذ خضر فيما إذا كان يتلاقى مع الأستاذ جواد أو يفترق عنه في هذا الرأي

بغداد

أحمد الظاهر

وكيل وزارة الداخلية

هنات لغوية:

اشتملت قصة (اليتيم) للأستاذ عبد اللطيف الأرناؤوط في العدد (933) على هنات لغوية أوردها فيما يلي:

1 -

(حتى كاد أن يهجر حياته). . الأكثر في مثل هذا التركيب أن تترك (أن). . . ففي التنزيل (وما كادوا يفعلون). . . سورة البقرة. . وقال ابن مالك:

وكونه بدون أن بعد عسى

نزر. . وكاد. . الأمر فيه عكسا

2 -

(يكرس وقته في سبيل وضع قصص). . . التكريس تأسيس البناء كما ورد في القاموس، وتجميع الشيء كما ورد في المصباح، وأكثر الظن أن الأستاذ الكاتب لم يقصد إلى واحد من هذين كما يدل سياق الحديث حيث يرمى إلى بذل الوقت وإنفاقه.

3 -

(ويشكره على ما أصبغ عليه). الأكثر (ويشكر له). . . قال المصباح: (ويتعدى في الأكثر باللام) فيقال: (شكرت له) وربما تعدى بنفسه، فقال (شكرته) وأنكره الأصمعي في السعة، وقول الناس في القنوت:(نشكرك ولا نكفرك) لم يثبت في الرواية المنقولة عن عمر، على أن له وجهاً هو الازدواج). . أهو. . هذا كله، وقد سوى القاموس بين التعدية باللام وبغيرها. . . وللكاتب أن يختار الأكثر أو سواه.

4 -

(فأحاطت عيشة هالة دكناء). . . الصواب (أحاطت بعيشه). . . في التنزيل: (وأحاط لديهم)، (ولا يحيطون به علماً)، (فقال أحطت بما لم تحط به)، (ولا يحيطون بشيء من علمه). . . وإلى غير هذه الآيات. . .

ص: 47

5 -

(وسحقا لمن يرضخ لها). . أورد الأستاذ كلمة (يرضخ) بمعنى يخضع. . وليس كذلك. . فلها معان منها (يعطيه شيئاً ليس بالكثير)، (ويكسر)، ورضخ به الأرض جلده بها. .

6 -

(ها هي عشرة فرنكات) الأولى (ها هي ذي). . بزيادة اسم إشارة.

7 -

(واتركي الطفل هنا أقوم على حراسته). . الصواب (أقم) لأنه جواب الأمر فتحذف الواو لالتقائها ساكنة مع الميم الساكنة للجزم.

8 -

(اقترح عملاً نقوم به سوية). . (سوية) معناها مستوية قال الله: (فتمثل لها بشراً سوياً) أي مستوياً قائماً، وإنني لأذكر أن (الرسالة) تناولت هذا البحث في عدد سابق وفيه أن (سويا وسوية) ليستا بمعنى (معاً) كما هو مرمي العبارة.

9 -

(بكل سرور وامتنان). . . الامتنان تعداد النعم مثل (المن) وهو عكس ما يقصد إليه تعبير الأستاذ، والقصة فيما بعد ذلك لا يغض منها هذه الهنات الهينات، وللقصاص الكبير صادق المودة، وخالص التحية.

محمد محمد الأبشيهي

مدرس بيسيون الابتدائية

ص: 48

‌القَصَصُ

القرار الأخير

للسيدة ألفت آدلبي

عندما تلقى أحمد أمراً بنقل وظيفته من دمشق إلى ناحية من نواحيها النائية، تأفف وتذمر، ولعن الحاجة التي جعلته عبداً ذليلاً لوظيفة صغيرة.

صعب عليه أن يترك دمشق وفيها ناديه الليلي وقهوته النهارية، وكان يعرف أن لا فائدة من الاعتراض على هذا النقل فسار إلى مقر عمله الجديد صابراً على مضض. وفي الغد باشر وظيفته. كان زميله الذي يقاسمه مكتبه رجلاً ذا فطنة وظرف، لاحظ أن أحمد رفيقه الجديد أديب مهذب، وأدرك الخيبة التي تصيب شاباً لا زوج له حكم عليه أن يترك دمشق وما فيها من لهو وتسلية إلى هذا البلد الموحش المقفر حتى من دار صغيرة للسينما. فأحب أن يخفف عنه بعض الشيء، فأخذ يحبب إليه الانضمام إلى رحلات يقوم بها بعض الموظفين في نهاية الأسبوع إلى الجبال والأردية القريبة حيث الطبيعة الأخاذة والصيد الوفير، وسهرات يقضونها في تبادل النكات ولعب الورق، يشترك فيها أحياناً بعض الموظفين ممن يرغبون في مظاهر المدينة الجديدة، فيصطحبون أسرهم ويسهرون في دار المدير يسمرون حينا ويستمعون لجهاز الراديو حيناً آخر، حيث المدير هو الموظف الوحيد الذي يملك راديو. وهو رجل مضياف أنيس وديع في بيته بقدر ما هو حازم وجاد في وظيفته. وزوجه شابه أنيقة لبقة تعرف كيف تسلي ضيوفها وتخلع على سهراتها جوا بديعاً من المرح والوقار.

فإذا أحب أحمد أن يصحبه في سهرة إلى دار المدير فعل لأن لديه من الثقة بالمدير وزوجه والدالة عليهما ما يجيز له أن يصطحب معه صديقاً له يقدمه إليهما. رضى أحمد شاكر لا حباً لمديره المضياف، ولا رغبة في زوجه الأنيقة اللبقة، بل أملا في أن تكون السهرة هناك أحسن حالا من السهرة في غرفته الباردة، ومصباح المدير أبعث نوراً من مصباحه الضئيل.

وعندما قدمه زميله إلى زوج المدير ذهل أحمد ولم يكد يحبس شهقة كادت تخرج عالية من فمه. . إنها سلمى! مثله الأعلى يعيدها القدر إليه بعد أن أضاعها عشر سنين كاملة. جلس

ص: 49

أحمد في زاوية منفردة وأخذ يرد على الأسئلة والمجاملات التي توجه إلى زائر جديد رداً مقتضباً متظاهراً بالاهتمام بما تذيعه آله الراديو من أغان وأحاديث.

أما عقله فكان قد شرد بعيداً جداً. ارتد عشر سنين إلى الوراء.

ترى هل تذكرت سلمى ذلك الشاب النحيل الأسمر الذي كان يتبعها عندما كانت في الثامنة عشرة تسير في الشارع ذهاباً لمدرستها وإياباً منها فيتبع خطواتها ويبعث إليها بكلمات دعابة رقيقة. وكثيراً ما كانت تبتسم لكلماته ابتسامة مشرقة تسفر عن أسنان تلوح نضيدة لألاءة خلف نقابها الشفاف فتبعث ابتسامتها فيه أملاً وسحراً. وربما لازمه طيفها بعض الليالي حتى الصباح. كان هذا ديدنه سنة كاملة إلى أن عاد يوماً من رحلته الكشفية فلم يجدها. ولما سأل عنها قيل له: إن رب العائلة غريب من دمشق فلما أحيل على التقاعد آثر العودة إلى بلده. فعرف أنه حرم منها إلى الأبد. ولا يزال يذكركم كان وصف نفسه بالجبن والغباوة لأنه لم يكتب إليها ولم يحاول أن يجد السبيل للتعرف عليها. أليست ابتسامتها كانت كافية لتشجيعه على الكتابة إليها؟! تباً لهذا النقاب الشفاف! إنه حاجز يحول دون التعارف بين الرجل والمرأة مهما شف ورق. لعلها كانت تبادله الشعور. . . ولو أنهما استطاعا أن يتفاهما لأخلص كل واحد لصاحبه ولكانا اليوم زوجين سعيدين.

عاد أحمد من سهرته. ولو سئل عنها كيف كانت لما استطاع أن يجيب؛ لأنه ما وعي منها حديثاً، ولم يبق في ذاكرته إلا رسم قد أهيف يصلح نموذجاً لفنان: وابتسامة مشرقة لا تزال كعهده بها تسفر عن أسنان نضيدة لألاءة غير أنها كانت فيما مضى تبعث فيه أملا وسحراً. . . أما الآن فقد بعثت فيه ألماً ويأساً وشعوراً قوياً بالحرمان!

مضى شهران فإذا أحمد صياد ماهر يجوب الجبال والأودية القريبة ويمتع نفسه بالطبيعة الأخاذة، وإذا هو صديق حميم لبيت المدير يتحفهم من حين آخر بصيده الوفير ويحظى بالابتسامة المشرقة. ولو سئل عن حاله لأجاب إنه قانع ولعله سعيد. . ولو خير بين العودة إلى دمشق وفيها نادية الليلي وقهوته النهارية فربما آثر البقاء في الناحية الموحشة التي صارت في نظره عامرة آهلة.

ولكن سوء طالعه لم يشأ أن يمتعه طويلاً بهذا النزر اليسير من السعادة والرضا، فقد قدم الناحية مفتش كبير، فأثنى على المدير لحسن تصرفه وعظم كفايته، وأراد أن يكافئه فترك

ص: 50

له الخيار في أن يبقى في ناحيته أو ينتخب لنفسه ناحية أخرى

لقد فرح المدير بهذه المنحة وأحال الأمر على زوجه فهي أحرى أن تبت فيه. قلق الموظفون لفراق مديرهم، وكان أحمد أشدهم قلقاً. . .

أتعاوده غباوته وجبنه المعهودان؟ فيحرم من سلمى مرة أخرى! لا. ليس هو الفتى الغر، لقد أصبح رجلاً كامل الرجولة، له صولات وجولات في ميدان الحب والغرام. ألم تبادله سلمى نظرات بنظرات؟ ألم تجاهر بإعجابها به؟ ألم تثن على آرائه وتستسيغ نكاته؟ ألم يلمح بوارق الحب تلوح في عينيها من حين لآخر مهما حاولت إخفاءها؟

فماذا عليه إذا كتب إليها يرجوها أن تبقى، أو حسبه أن تعلم أنه أحبها وظلت مثله الأعلى عشر سنين كاملة وستبقى كذلك دائماً أبداً.

تلقت سلمى رسالة احمد وقرأتها مرات كثيرة. وفي كل مرة كان يخفق قلبها بقوة وعنف وحارت ماذا تجيب. وفي المساء أوت إلى السرير الذي كانت تقتسمه هي وزوجها. . وظلت فريسة صراع عنيف قام بين ضميرها وعاطفتها حتى الفجر.

كانت العاطفة تطغى فتقرر البقاء لتتمتع بهذا الحب الذي هبط عليها من السماء وسوف لا يجود به الدهر مرة ثانية. . سترعاه نقيا طاهراً وستجعله مقتصراً على النظرات المختلفة ودقات القلب العنيفة اللذيذة، ولكن الضمير كان يغالب العاطفة ويكبتها بآيات بينات. ألم تبتدئ قصص الحب التي قرأتها أو سمعتها بنظرات بريئة وتنتهي بآثام مريعة؟! أتجيز لنفسها ما آخذت عليه الآخرين؟

وأخيراً استطاعت أن تخرس الضمير وتصم أذنيها عن آياته البينات وتقرر البقاء. كان الإعياء قد بلغ منها كل مبلغ. فشعرت بالحرارة تتمشى في أطرافها وأحست وهجها في خديها، وفي حركة عصبية أزاحت الغطاء بعيداً وأخرجت ذراعيها العاريتين على رغم البرد الشديد. فإذا يد تمتد بعطف وحنان فنعيد الغطاء يرفق وأناة وتحكمه حول عنقها وفي منحنى خصرها، وأصابع رفيقة تجس الخد لطيفاً لتطمئن على أن ليس هناك حرارة! وكأن الأصابع الرفيقة عندما مست الخد مست الضمير أيضاً فتنبه مرة ثانية، ولكنه كان أكثر نشاطاً وأبلغ حجة فاستطاع أن ينتصر.

وإذا زفرة حرى تخرج من أعماق قلبها ودمعتان كبيرتان تجولان في عينها. . أما شفتاها

ص: 51

فقد تمتمتا بكلمتين قاطعتين حازمتين: (سنسافر غداً) وكان هذا هو القرار الأخير.

دمشق

ألفت آدلبي

ص: 52