الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 939
- بتاريخ: 02 - 07 - 1951
هل الأدب قد مات؟!
لأستاذ سيد قطب
يقول لك الكثيرون: أن نعم! ويمصمصون شفاههم أسفا وحسرة، وهم يعدون لك شواهد الموت، ويصفون لك أعراض الوفاء، ويترحمون على الأيام القريبة التي كان للأدب قيها صولة وجولة، يوم أن كان حياة في ذاته، وكان مبعث حياة!
وما أريد أن أدفع عن الأب تهمة الموت، فقد تكون الحقيقة، ولكنني أريد أن أبحث عن القتلة! القتلة الذين فعلوا هذه الفعلة، والذين هم ماضون فيها للقضاء على الأنفس الأخيرة التي تتردد في تلك الجثة المسجاة!
انهم في نظرتي ثلاثة:
الأدباء أنفسهم بمعرفتهم الشخصية وعلى عهدتهم! والمدرسة المصرية بمعرفة وزارة المعارف العمومية!
والدولة كلها بمعرفة وزارة المالية ووزارة المواصلات!
هؤلاء هم المتهمون الثلاثة الذين خنقوا ذلك الأدب المسكين، حتى سقط جثة هامدة، والذين لا يزالون يخنقون ليلفظ الأنفاس الأخيرة التي ما تزال تتردد في فوت!
فكيف كان ذلك؟
فأما الأدباء فهم الذين انصرفوا كلهم أو معظمهم عن الإخلاص للأدب وللعمل الأدبي، لأن هذا الإخلاص يكلف جهدا ومشقه، ويكلف عزوفا عن شئ من الكسب المادي وعن فرقعه الشهيرة الكاذبة. انه يكلف صبرا على التجويد، وجهدا في الإخراج، ومعظم الأدباء - وبخاصة الذين يسمون الكبار - قد جرفتهم الحرب وما كان في إبانها من رواج في النشر، فانهالوا على السوق بإنتاج سريع (مسلوق) لأن هذا النتاج السريع يحقق لهم أرباح مادية عاجلة، ويعفيهم من جهد البحث وأمانة العمل، ويضخم في الوقت ذاته قائمة مطبوعاتهم في نظر الجماهير.
وقد أقبلت الجماهير عليهم في أول الأمر. ولكنهم شيئا فشيئا جعلوا يكررون أنفسهم، بل يهبطون عن مستواهم. . إنهم راحوا يجترون ما اختزنوه ولا يضيفون إليه شيئا، ولا يضيفون للحياة الأدبية والحياة الإنسانية جديدا.
وكان الكثير من أدباء الصف الثاني قد اتخذوا بيرق الشهرة التي ينالها المشهورون المكثرون، فركضوا كذلك في الطريق وباتت المطبعة وأصبحت فإذا هي تساقط على رؤوس القراء كتبا اقلها قيم ومعظمها هراء. . .
واستيقظت فطرة القراء القلائل بطبيعتهم في العربية، فإذا الإعراض والجفاء عن هذا المكرور المعاد من أعمال الأدباء، وعن الأدب كله عند كثرة القراء!
وصاب هذا ركود حركة النقد الأدبي، النقد الذي يزيف الزائف، ويستبقي الصحيح، والذي يخلق في الجو الأدبي حيوية ونشاطا وتطلعا وأخذا وردا ودفعة إلى الأمام.
والذي بقى من النقد انتهى إلى أن يكون أضحوكة ومهزلة فلقد تالفة شبه نقابات أو عصابات، كل نقابا منها أو عصابة موكلة بالدعاية (لمنتجات الشركة) التي تنتمي إليها بطريقة مفضوحة مكشوفة، ولا تخفى على ذوق القارئ، ولا تزيد على أن تقتل الثقة في نفسه بما يكتب وما يقال!
وامتدت هذه النقابات إلى دور الصحف والمجلات، فعسكرت كل منها في مجلة أو صحيفة، واصبح محرما على أي كتاب لا ينتمي صاحبة إلى (شلة) معينة أن يجد له من صفحات تلك المجلات والصحف نصيبا. وبهذا أتطبق البلاه على النقد وعلى الأدب سواء
واعجب العجب ما سمعته أخيرا من أن بعض المساهمين في المجلات أو الصحف من المؤلفين أو الناشرين، يرون أن هذه المجلات والصحف لا يجوز أن تنشر عن مؤلفاتهمإلا الحمد والثناء، وقد ذهب أحدهم غاضبا محتجا لان مجلة يساهم هو فيها ماليا قد نشرت نقدا لعمل مهلهل من أعماله!
وبذلك تحولت الصحف الأدبية - في هذا المجال - إلى مكاتب إعلان ودعاية لأصحابها والمساهمين فيها. ولم يكن بد للقراء أن يدركوا هذا فنفروا من المجلات الأدبية من الأدب والأدباء!
وأخيرا فقد تخلى معظم الأدباء عن هذه الأمة في كفاحها للحياة والبقاء. بل خانوها خيانة علنية واضحة.
إنني لا أؤمن بتجنيد الأدب والأدباء لخدمة الأغراض القريبة، والصراع الاجتماعي، في فترة محدودة؛ ولكني أؤمن بأن الأديب الذي لا يحس آلام أمته القريبة أو البعيدة هو أديب
ميت لا يتجاوب معه الأحياء.
فإذا لم يستطيع الأدب أو لم يرد أن يشارك في المعركة الحاضرة فله هذا، ولكن على أن يهتف للإنسانية بأشواقها البعيدة وأهدافها الكبرى التي قد تجاوز هذا الجيل، وتتخطاه إلى أفاق أعلى من الصراع في فترة من الفترات.
وأعتقد - من تجاربي الخاصة - أن الجماهير قد أقبلت وما تزال تقبل على نوعين من الإنتاج:
نوع يشاركها، في كفاحها الحاضر، ويستمد منها ويمدها، ويتجاوب مع حاجاتها الموقوتة بهذا الصراع.
ونوع يحدو لها بآمال المستقبل، ويهتف بها إلى مدارج البشرية العليا، ويفتح لها كوى من النور في الظلام.
وإني لأعتقد أن هذا الإقبال دلالة على سلامة وعي هذه الأمة وفطرتها - على قلة القراء فيها وندرتهم - وأنها محقة في إهمال ذلك الركام المكرور التافه الذي تخرجه لها كثرة الكتاب والمؤلفين. وبخاصة أولئك الذين كانوا يوما ما يلقبون بكبار الأدباء!
ولست غافلا عن إقبال الجماهير في جانب الآخر على غثاء القصص والروايات والأفلام والصحافة؛ فلذلك اللون يغذي الجانب الهابط في نفس البشرية. وللإنسانية جانبها؛ وجذبها بخيط الصعود ممكن كجذبها بخيط الهبوط.
وحين لا تجد الأمم من أدبائها الجادين من يلبي حاجة روحها، أو حاجة عصرها، فهي معذورة حين تنكب على المخدرات التي تقدمها تلك القصص والروايات والأفلام!
ونسيت الشعر المسكين، وما رزأتنا به المطبعة في هذه السنوات الأخيرة من ركام يتفاخر أصحابه بضخامة الحجم وكثافة الوزن، ويستعينون بصداقاتهم وبوسائلهم الخفية على الخروج به على الناس في غيره ما خجل ولا حياء!
لقد نظر أحد أصدقائنا إلى ديوان من هذه الدواوين، وقد أكتنز شحما ولحما، وهزل معنى وروحا، ثم قلبه في يديه وقال: قديما كان يقال: حمار شغل. فيها نحن أولاء قد عشنا لنرى: حمار شعر!
وفي هذا الجو تختنق روح الشعر، أو الأنفاس المترددة في جوه الكظيم. ويكره الناس
الشعر والشعراء، وينفرون من مجرد رؤية الدواوين، فضلا عما تحتويه من نظيم!
وما من شك أن القلة من البحوث وقلة من الروايات والقصص، وقلة من الدواوين والقصائد، قد أخرجت للناس في هذه الفترة وهي تستحق الاستجابة، وتستحق الانتباه.
ولقد لقي معظمها ما يستحقه في نفوس الناس من تقدير وإقبال. والذي خانه الحظ فلم يعرف طريقه إلى الناس، إنما جنت عليه غفلة النقد في هذا البلد، ومؤامرات النقابات والعصابات، وسوء ظن القارئ بالمطبعة والمجلة والنقد في هذه الأيام.
ولو نهض المخلصون من النقاد، ووجدوا من الصحافة الأدبية مشجعا لتطهير الجو من هذه الميكروبات السالبة فيه، لاستطاعوا أن يستعيدوا ثقة القارئ بالنقد الأدبي، تلك الثقة التي قضت عليها العصابات والأوكار!
وإني لأعتقد أن صفحات (الرسالة) لن تضيق بالنقد الحر المخلص، إذا أقبل به أهله في جرأة وفي إخلاص.
ذلك نصيب الأدباء في جريمة قتل الأدب. فأما نصيب المدرسة ووزارة المعارف، ونصيب الدولة كلها ممثلة في وزارة المالية ووزارة المواصلات، فموعدي بها قريب أشاء الله.
سيد قطب
موقف لكفار بدر لعل زعمائها يتدبرونه!
للأستاذ عبد الحكيم عابدين
لا تكاد تنتصف أيام الصيام حتى تظلنا من رمضان أحفل ذكرياته بمواكب المجد، وأغنى أيامه بمواقف البطولة، وأوفرمجاليه إشراقا بصورة الفداء والتضحية. وحسبك بذكرى (بدر) بلاغا إلى كل ما يصقل الروح من معاني العبرة، وما تستشرف إليه النفس من جلال الفكرة (وَلَقَدْ نَصَرَكُم الله بِبَدْرٍ وَأنْتُم أذِلَّة فاتَّقُوا الله لَعَلَّكُم تَشكُرون (.
بيد أنى آخذ نفسي اليوم بنهج في تحليل جانب من الذكرى أرجو ألا يثير الانفراد به حفيظة أهل الرأي، وآمل ألا يعقب غرابة السبق إليه أوزار المتزمتين في تصور قداسة الدين. فحسبي - متى أخلصت القصد - أن أبوء بثاني الأجرين، وما توفيقي إلا بالله.
إني إذن مهيب بك أيها القارئ الأثير أن تشاطرني جولة في ربوع مكة وقد استنفرت صناديد قريش لقتال محمد صلوات الله عليه، ثم تغذ معي السير إلى رحاب القليب حيث تراءى الجمعان والتقى العسكران، وإنك لسابقي حينئذ إلى استخراج منازل الفضل التي ندعو إليها زعماء اليوم لا من معسكر الصحابة فذلك ما لا خلاف في روعته وجلاله، بل من معسكر الكفر على ما عرف من بغيه وضلاله!
إي وربي لأقنعن زعماء العصر أن يقتدوا بما سجل التاريخ من رجولة كفار بدر، ولهم إن فعلوا ثناء الناس وحمد التاريخ، وأنا بهما زعيم هذه قريش في البيض واليلب، قد هبت لثأر أبي سفيان حين استصرخها لنجدته ضمضم بن عمرو (يا معشر قريش اللطيمة! اللطيمة! إن أموالكم مع أبي سفيان قد أحاط بها محمد وأصحابه، لا أضن أن تدركوها) ولكن قريشا لا تكاد تستكمل أهبتها للمسير حتى يوافيها أبو سفيان قد استطاع أن يفلت بمحاذاة الشاطئ فسلم من حصار محمد وسلمت لقريش التجارة والعروض، وانقضت بذلك حاجة مكة إلى قتال المدينة. وهنا لا يقنع صناديد مكة المغاوير وفتيان قريش الضيد بالإجابة لداعي السلام، بل (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) وتملي لهم شياطين الكفر علوا واستكبارا، فيأبون أن يضعوا اللامات، أو ينزعوا العصابات، حتى يبلغوا من القتال كما توهموا الإجهاز على محمد ودعوته، ويفضوا من الحرب إلى إعلان مجد قريش وعزتها (وإذْ زيَّنَ لَهُم الشيطانُ أعمالَهُم وقالَ لا غالِبَ لَكُم اليَومَ مِنَ الناسِ وإِنّي
جارٌ لَكُمْ)
وتتداعى حماسة الثائرين إلى لواء زعيم الصلف والفظاظة أبي جهل فيصوغ مشاعرهم صرخات موحشة (والله لا نرجع حتى نأتي بدرا فنقيم عليها ثلاثا، نشرب الخمور، وننحر الجزور، وتعزف علينا النساء، وتسمع بنا وبمسيرنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبد الدهر)
بيد أن صوت العقل لا يضل طريقه وسط هذا الضجيج، وكلمة الفصد والحكمة لا يحجبها عن الآذان صليل هذه البيض، بل تنطلق قوية رزينة مسببة مفحمة على لسان صنديد قريش الأول وزعيمها المطاع عتبة بن ربيعة (يا قوم ما حاجتكم أن تلقوا محمداً غدا وقد سلمت لكم أموالكم ورد الله عليكم رجالكم، إنكم إن لقيتموه فأصاب منكم وأصبتم منه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قد قتل أباه أو ابن عمه أو ابن أخيه. يا قوم ما يضركم أن تدعوا محمدا والناس، فإن أصيب بيد غيركم كان ذلك الذي أحببتم، وإن كانت الأخرى لقيتموه غدا ولم تعدموا منه ما تريدون)
ويسترسل عتبة، ومن ورائه جهابذة قريش وجلة أبطالها وحكمائها؛ كحكيم بن حزام وسهيل بن عمرو، في استدراج قريش إلى وضع السلاح، وإقناعهم بحقن الدماء، في منطق تتساوق أدلته إلى الإفهام، وأسلوب توشك حججه أن تؤثر في الصم الصلاب، حتى يفضي إلى التعرض لحمل التبعة جميعا وينتهي استجابة لداعي العقل والحكمة - إلى التضحية بذكره في مجال الشجاعة وهو فارسها المجلى، والنزول عن حظ نفسه من الثناء والشهرة، وهي خير ما يحرص عليه صنديد عربي، فيقول في ختام هذه الدعوة (يا قوم. اعصبوها اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم).
لقد كانت هذه الكلمات من سيد شجعان مكة والمع أبطال قريش جديرة أن ترد السهام إلى كنائنها، وتوسد السيف بطون أغمادها، وتلجم الضوامر الثائرة بشكائمها، فتنساب في مكة هدأة الأمن، وتغشاها من جديد طمأنينة السلام. ولكن العروبة قرينة العنف في حقها وباطلها، وتربية الصحراء أليفة الثورة في إيمانها وكفرها.
(لا يَسألُونَ أخاهُم حينَ يَندِبُهُم
…
في النائِباتِ على ما قالَ بُرهانا)
وهكذا غلب ضجيج الحماقة على صوت الحكمة، وفتكت شرة الحرب بدعوة السلم فخرجت قريش بخيلها ورجلها تحاد الله وتكذب رسوله وتبغي في الأرض الفساد. وكذلك ساخ في
ركام النزق والغرور رأي عتبة على نضجه واستقامته، وانجرف في غمرة التيار عتبة بن ربيعة على شرفه في القوم وزعامته، ولم يدر إلا وقد فصلت الفيالق تجاه بدر، وتيممت كتائب قريش القليب!!
ترى ما عسى أن يصير إليه موقف عتبة وقد صدق عشيرته النصح فلم تنتصح، ونخل لقومه مخزون الرأي فلم يرشدوا.
هنا هنا موطن العبرة للساسة، بل منزل القدوة للزعماء والقادة.
هذا عتبة وقد أهمل رأيه على وساطته في قومه، ووضوح السداد في دعوته، لا يشغب على الجماعة، ولا يأتي عملا أو قولا يضعف هيبتها أمام الأعداء.
وهذا عتبة وقد انعقد إصرار الأمة على القتال، لا يجدوا لرأيه حقا على نفسه حتى في أن يأوي إلى الصمت والاعتزال.
وهذا عتبة ينكر ذاته، ويفنى وجوده في أمته، فيأخذ أهبته لعسرة النضال.
وهذا عتبة وقد اعتصب للحرب، لا يدع ظلا من شبهة في أنه استكره على الخروج أو أحرج في اللقاء.
بل هذا عتبة وقد جد الجد، وشمرت عن ساقها الحرب، يحتل مكان الصدارة بين المقاتلين، وقد كان بالأمس عدو القتال، فيضرب المثل الرائع في إيثار الوحدة، وفناء الفرد في الجماعة، وإذابة الرأي الواحد وإن استقام وصفا، في مشيئة الأمة متى تيممت وجهة أخرى.
إي والله. . هذا عتبة يرى في طليعة الصفوف، ويتوج هامته بعصابة الحرب ويجعل عن يمينه - في راس الجيش كذلك - أخاه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، يوقد بهما شرارة الحرب الأولى، ويعجل بنفسه وبهما غبار النقع في غزو بدر الكبرى.
اسمعوا إليه أيها السادة الزعماء وهو يلقي القفاز في وجه عصبة الحق، ويتحدى كتائب الإيمان، فيطالب الرسول (صلوات الله عليه) أن يجعلها مبارزة رجل برجل!! بل اسمعوا إليه وقد ابتدر فتيان الأنصار هذا التحدي، وخفوا لالتقاط القفاز، كيف يعرض عن قتالهم ويغلو في الاعتداد بشرف قومه - وهم الذين أهملوا رأيه ونصحه - فيقول الرسول العظيم (بل أخرج إلينا أكفاءنا من بني عمومتنا من قريش)
وأطلوا على الموقف أيها الزعماء الأجلاء، وقد استعلنت عزة الحق بلسان النبي، وصرخت
كرامة الأيمان في ندائه الأبي، (أخرج إليهم يا علي بن أبي طالب فعليك بالوليد، ويا حمزة بن عبد المطلب فعليك بعتبة، ويا حارث بن عبد المطلب فعليك بشيبة)
لحظات من الفتوة العربية في إيمانها وكفرها، إن ملأت النفوس هيبة من جلال الحق وخشوعا لسلطان العقيدة في معسكر المؤمنين، فمن الإنصاف أن نشيد بما تصبه في مسمع الدهر من تخليد لرجولة هؤلاء العصبة المشركين.
ولا يطول ريث الفريقين حتى تخلص لهم عاقبة هذا الصراع: لقد انتصرت السماء لجندها المؤمنين، فما هي إلا لحظات حتى كانت دماء عتبة وأخيه وأبنه الوليد تتدافع من صدورهم وجنوبهم ثارة دفاقة في فجاج الثرى توشك - لو أذن لها بالإفصاح - أن تقول للتاريخ الإنسانية (أنا الثمن الطبيعي للحفاظ على وحدة الجماعة، والفدية المتقبلة للإبقاء على استمساك كلمة الأمة، لا بأس أن يهلك أبناء ربيعة وتحيا كلمة قريش أبية كريمة)
وا أسفاه يا عتبة أنك خرجت من الدنيا كافرا لا يحل الترحم عليك (ما كانَ للنَبيِّ والّذينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا للمُشْرِكينَ ولَو كانُوا أُولي قُربى) ولكن القدر الواضح في خلقك من الرجولة، والضوء الغالب على عملك من تقديس وحدة العشيرة، والمثل الساري في تاريخك من إصغار رأى الفرد في سبيل الجماعة، والأدب المتألق من سبقك - وإن أهدرت مشيئتك - إلى افتداء شرف الأمة. كل ذلك يا عتبة بل بعض ذلك ورب الكعبة مواطن للقدوة تندب إليها أئمة الزمان المحتربين ونتمنى بجدع الأنف لو وجدت لها صدى في نفوس زعماء القرن العشرين، الذين أشقوا بتناكرهم البلاد، وأطعموا شرة خلافاتهم مصاير المحكومين.
ألا فروا رأيكم، يا زعماء مصر، أين تقفون من بطولة هذا الزعيم من كفار بدر، ولا روع عليكم أن تتخذوه قدوة، وإن اتسمتم من دونه بسمة الإيمان، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها
- قيل: لا يبالي من أي وعاء خرجت.
والفضل فضل وإن اختلفت الأيدي على تناوله، والمثل الرفيع كذلك وإن خفت همم أهل الكفر إلى تداوله، (وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنْآن قُوم على ألا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوى، واتقوا الله)
عبد الحكيم عابدين
مولانا محمد علي
للأستاذ علي محمد سرطاوي
بقية ما نشر في العدد الماضي
صدر العدد الأول من مجلة (ريفيو أف رليلجن) في كانون الثاني 1902، وقد جاء في تحديد أهداف المجلة ما يأتي:(إننا نرمي من وراء إصدار هذه المجلة إلى غايتين واضحتين: الأولى، أن نقود البشر إلى السراط المستقيم حين نعلمهم المثل العليا ونحبب إليهم الصدق والإيمان، وحين ننشر بينهم المعرفة الحقة، وأخيرا أن تصدر أعمالهم في الحياة عن المبادئ السامية التي أنزلها الله على نبيه في الإسلام. والثانية: أن نجذبهم بمغناطيسية قوية من روعة الدين تجعلهم يسيرون مسحورين، في طريق الهدى، وتوقظ في نفوسهم القوة التي تدفعهم تحت تأثيرها للعمل بأوامر الدين واجتناب نواهيه)
ثم يمضي في شرح الرسالة السامية وينتهي عند قوله: (وستقوم هذه المجلة بالدفاع عن قضية الدين الحنيف، وتقاوم كل المعتقدات الفاسدة الممعنة في الضلال المبين، تلك المعتقدات التي ليست في حد ذاتها غير تجاوز على ما يجب نحو الخالق أو على ما يجب نحو المخلوق)
وكانت المقالة الأولى التي ترجمها مولانا محمد علي في هذه المجلة هي تلك التي كتبها مؤسس الحركة الأحمدية لهذه المناسبة، وكان عنوانها:(كيف نتخلص من الذنوب)
وأخذت المجلة تركز أبحاثها على ما كان يضطرم في عقول الناس في تلك الفترة الزمنية، من القلق، والشك، والحيرة، ولم يمض على ذلك العمل غير سنوات ثلاث، حتى كانت المجلة قد أخذت طريقها إلى أرقى الأوساط في إنجلترا وأمريكا. وكان من أبرز السمات التي امتازت بها، تركيزها المحكم الدقيق في عرض مبادئ الإسلام عرضا موفقا بديعا، على الرغم من استهدافها لحملات عنيفة قاسية، قام بها رجال الدين من الإكليروس النصراني، ولكنها صمدت لهم وهزمتهم في عقر دورهم وأخرست الباطل في ألسنتهم.
وكانت في نفس مؤسس الأحمدية رغبة قوية في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية، وقد صرح بذلك في كتابه المسمى (إبتالا أو هام) غير أن المنية لم تمهله ليرى ذلك الحلم الجميل حقيقة ناصعة، فسار إلى لقاء ربه في السادس والعشرين من أيار
1908، تاركا رئاسة الحركة التي أسسها إلى المرحوم مولانا نور الدين الذي أشتهر بين الناس بعلمه ودينه.
ودعي مولانا محمد على عام 1909 ليقوم بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، وراح في صمت المؤمن، وصبر المجاهد، يواصل العمل طيلة سنوات ثمان. ولم يكن هذا العمل بالشيء اليسير، وإنما كان شائكاً معقداً وعر المسالك، تغلب عليه بهمة أقوى من راسيات الجبال، إذ كان التعليق على الآيات وتفسيرها ونقل معانيها، يتطلب دراسة أمهات كتب الأحاديث ومراجعة جميع المعروف من المعاجم العربية لأمانة نقل المعنى الذي ينطوي عليه اللفظ العربي، إلى الإنجليزية نقلاً صادقاً دقيقاً، وكان يعمل في كل يوم من تلك السنوات الثمان اثنتي عشرة ساعة عملاً متواصلاً، حتى إذا ما أتعبه الجلوس، انتصب قائماً واستعان على عمله بمنضدة مرتفعة يعمل عليها وهو واقف في يسر وسهولة.
وتمت الترجمة بكل ما أضيف إليها من حواش وتعاليق وشروح ومقدمات وأضيف إليها النص العربي، فبلغت الآلاف من الصفحات عام 1917.
وفي هذا الوقت بدأت الخلافات في الحركة الأحمدية وانشقت على نفسها، وهو أمر يستوجب الأسف والحزن، ولكنه أمر لم يكن منه بد، ذلك أن أصدقاء مؤسسي الأحمدية وأعداءه على السواء قد نالوا منه وشوهوا أهدافه وافتروا الضلال المبين عليه، لأن فئة قليلة من أتباعه، دفعتهم العاطفة، وحملهم الوهم على اعتباره نبياً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، واعتقدوا أن جميع الذين لا ينظرون إليه على هذا الشكل إنما هم كفرة خارجون عن حظيرة الدين الإسلامي.
وبعد وفاة مولانا نور الدين عام 1914، ترك مولانا محمد علي قاديان في شهر نيسان من تلك السنة، مبتعدا بنفسه عن تلك الفتنة التي أثارت هذا النزاع في قاديان، وأستقر في لاهور، وأسس الجمعية الأحمدية لإشاعة الإسلام فيها، وانقطعت صلته بالجماعة الأحمدية في قاديان منذ ذلك التاريخ. ولكن على الرغم من الواجبات العملية الشاقة التي تتطلبها رئاسته لتلك الجمعية الإسلامية، فإن أعماله الأدبية ونشاطه الفكري لا يزالان على روعتهما وشمولهما.
وأتم ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الأوردية بعد ظهور الطبعة الإنجليزية بسبع سنوات.
وهو كاتب من الطراز الأول، غزير الإنتاج، ألف عدداً كبيراً من الكتب عن التاريخ والدين الإسلامي باللغة الإنجليزية. ولقد كتب ما يقرب من عشرة آلاف صفحة باللغة الإنجليزية، وعشرة آلاف صفحة أخرى باللغة الأردية عن المواضيع الإسلامية.
قال المستر ماردوك باكتال وهو من الإنجليز الذين هداهم الله إلى الدين الإسلامي، من الذين تصدوا لترجمة معاني القرآن إلى الإنجليزية، عن كتاب مولانا محمد علي (دين الإسلام) الذي ألفه في اللغة الإنجليزية عام 1936 ما يأتي:(لم يستطع إنسان من المعاصرين أن يخدم الإسلام، بأوسع ما في الخدمة من معنى، كما استطاع مولانا محمد علي).
ويعتبر مولانا محمد علي من القلائل من بين بني الإنسان الذين يطيقون العمل المعقد المضني ويصبرون السنوات على احتماله بجلد عظيم. وليس ذلك كل ما يمتاز به، إنما يضاف إليه الترتيب في العمل، والاستفادة من الوقت على أحسن الوجوه بصورة لا يقدر أن يجاريه أي أوربي في مضمار من هذا النوع. وهو في عاداته شديد الاتزان شأنه في ذلك شأن دقته في الحكم على الأشياء والناس والمشاكل في عظائم الأمور. وعلى الرغم من عدم احترافه المحاماة، فإن دراسته العميقة للقانون جعلت أحكامه مبنية على الحقائق لا على العواطف المتغيرة. ولقد تركزت هذه الصفات الرائعة في الحركة الأحمدية التي رأسها في لاهور، وابتعد بذلك عن أتباع الحركة نفسها من المتطرفين في قاديان.
ومنذ موت مؤسس الأحمدية، تعرضت الحركة التي أسسها إلى عوامل مختلفة، داخلية وخارجية عنيفة، غير أن مولانا محمد علي وقف كالصخرة الراسية أمام هذه العواصف خشية أن تعصف بالناحية الروحية المثالية الرائعة التي هي رسالة هذه الحكمة في توجيه مبادئ الإسلام لخدمة الإنسانية.
لقد بلغ مولانا محمد علي من النجاح شأوا بعيدا قلما بلغة إنسان مثله، بسبب إيمانه العميق بالله، ذلك الأيمان الذي لم تكن لتقوى أعاصير الحياة على زعزعته، والذي كان يزيد في رسوخه ومتانته إدمانه قراءة القرآن، والأحاديث المأثورة عن الرسول، والذكريات القوية العميقة الجذور في عواطفه عن مؤسس الحركة الأحمدية، وخشوعه في صلواته التي لا
تنقطع لله تعالى. وهو حين يصلي، كثيرا ما ينفصل عما يحيط به من عالم مادي، وينطلق بروحة إلى آفاق الغيب البعيدة عن حدود الدنيا، فتمر الدقائق وهو لا يشعر بما يدور حوله من حركة وما ينبعث عن الحياة من ضوضاء وتشويش.
ومن عادة مولانا محمد علي أن يستيقظ في الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل، ولقد مرت عليه سبعون سنة وهو يستيقظ في هذا الموعد ليغتسل في مثل هذه الساعة المبكرة التي هي أحلى الساعات النوم عند الذين يعيشون بلا أهداف إنسانية عظيمة في الحياة، وما اضطربت هذه المواعيد مره في هذه السنين الطويلة، حتى إذا ما انتهى من الاستحمام، انهمك في صلاة التهجد حتى يطلع الفجر، ويؤذن لصلاة الصبح. ومن عادته أن يأخذ بعد ذلك قسطا من الرياضة البدنية بعد صلاة الصبح مباشرة، فيسير على قدميه مسافة تتراوح بين ثلاث أميال وخمسة أميال. ولم يقطع فريضة واحدة من الصلوات الخمس منذ أن كان طالبا في المدرسة وعمره لا يزيد على عشر سنين، ولم ينقطع عن صلاة التهجد الذي كان يشارك أستاذه ميرزا غلام أحمد منذ أن كان في الخامسة والعشرين من عمره السعيد.
ولعل بساطته، التي نسبته إلى حد بعيد، إلى بساطة الأطفال، ترجع إلى عمق اتصاله بالأبد وعالم الروح وهو على الأرض، وعلى الرغم من أن مولانا محمد علي يعيش في عالم يضطرب بالخداع والنفاق والغدر والنميمة والأذى، فإنه في أخلاقه كالكتاب المفتوح، يستطيع كل إنسان أن يقرأ فيه من النظر إلى قسمات وجهه كل ما يجيش في عواطفه من شعور السخط أو الغبطة؛ وهو كالمرأة الصافية الأديم، يرى الناظر فيها كل ما في تلك النفس العظيمة من استحسان أو استنكار، تلك النفس التي لا تعرف الخداع والتضليل والأباطيل.
والذين يعرفون مولانا محمد علي معرفة دقيقة من طول عهد الصحبة في مواكب الحياة، لا يذكرون مرة أنه مدح نفسه، أو أشار إلى ذلك من بعيد أو قريب، مهما حملت تلك الإشارة في طياتها.
وإنما يذكرون أنه دائما، يحصي على نفسه ذنوبها وهفواتها ويحاسبها حسابا عسيرا.
وبعد فهذه شخصية إسلامية جليلة القدر، بعيدة الأثر في خدمة الدين، تعمل أعمال الجبابرة وراء صمت التواضع ليكون العمل خالصا لوجه الله العظيم.
وسيمر الزمن وتتلفت الأجيال المقبلة من أبناء المسلمين إلى التراث الخالد الذي صنعه مولانا محمد علي لنشر الدين فتعطيه ما يستحقه من تقدير، وتنصفه من الحياة التي لا تسدد النظر في مواكبها إلا إلى الدجالين والمشعوذين، فيخلد مع الخالدين.
والآن وبعد مرور نصف قرن من جهاد مولانا محمد علي، ذلك الجهاد الذي فتح الآفاق الموصدة في وجه رسالة الإسلام الخالدة، يقف فوق الحياة بعد أن أشاع في ظلامها النور الإلهي الذي يبعث الرحمة إلى القلوب المعذبة فيها.
والعبيد المعذبون في أميركا، والمنبوذون المضطهدون في الهند، والشعوب التي تئن تحت المبادئ المزيفة التي صنعها الإنسان، ينتظرون الفجر الذي يبدد الظلام الذي يعيشون فيه، من عدالة الإسلام ومبادئه الإنسانية الخالدة.
أمد الله في عمر مولانا محمد علي، ونفع به، وأعز به الإسلام، وجزاه خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين.
بغداد
علي محمد سرطاوي
بريطانيا العظمى
لأستاذ أبو الفتوح عطيفة
(تابع)
حديث:
في يونية 1945 كنت قادما من بور سعيد إلى القاهرة، وكان يرافقني أحد الزملاء الكرام ورجل إنجليزي كان يرتدي الثياب المدنية ومعه حقيبة مكتوب عليها بيروت، وكانت بيروت ودمشق تثيران اهتمام العرب كافة، والمصريين خاصة، وتشغلان القلوب بما كان يجري فيها من حوادث مروعة إذ ذاك.
ذلك أن فرنسا لم تكد تتحرر من الاحتلال الألماني حتى جاءت بجحافلها إلى الشرق تحاول أن تسترد نفوذها في سوريا ولبنان وأن تقضي على استقلالهما، وانطلقت طائراتها تضرب الآمنين من سكان بيروت ودمشق في غير إنسانية ولا رحمة، الأمر الذي أثار ثائرة الرأي العام الشرقي عامة والمصريين خاصة. وسط هذه الحوادث والفواجع كان التقائي بالرجل الإنجليزي.
ولم نلبث أن تجادلنا أطراف الحديث فقلت له: (أيرضيك ما تفعله فرنسا في بيروت ودمشق؟ إن فرنسا كانت تبكي على حريتها منذ حين، فما بالها تقتل الحرية في غير بلادها، ولم تروع الآمنين في ديارهم؟ إن الشرقيين لم يقفوا من قضية الديمقراطية موقفا عدائيا طوال الحرب، بل قدموا للحلفاء ما استطاعوا من مساعدات! فهل يكون هذا جزاؤهم؟).
ولكن الرجل لم يجب وأنتقل إلى موضوع أخر: (أكنتم تقفون حقا في صف الديمقراطية؟) قلت: (بلى) قال: (فلم قتل رئيس وزرائكم؟ (المغفور له أحمد ماهر باشا (، قلت: (إن هذه جريمة فردية ولا تؤخذ أمة بجريمة فرد، والدليل على صدق ما أقول أنه لم يوجد للقاتل شركاء)
وانتقل الرجل إلى حديث آخر قال (أعندكم نظام برلماني سليم؟ أتجرى انتخاباتكم كما يجب أن تجرى الانتخابات؟) قلت له: (مهلا. إن كان في نظامنا البرلماني بعض الهنات فإنها ستصلح سريعا وسنتغلب عليها إن شاء الله) ثم استأنفت حديثي قائلا: (إن نظامكم
البرلماني الذي تفخرون به كان نظاما فاسدا في القرن التاسع عشر، وقد أصلح، فلم لا يصلح نظامنا البرلماني كما أصلح نظامكم؟)
عيوب:
كان النظام البرلماني الإنجليزي في القرن الثامن عشر موضع إعجاب المفكرين الفرنسيين أمثال مونتسكيو، ولكن الإصلاحات التي جاءت بها الثورة الفرنسية جعلته يظهر بعيدا كل البعد عن تحقيق الديمقراطية، فقد كان أعضاؤه من كبار الملاك والأشراف الذين وصلوا إلى مقاعد النيابة بنفوذهم وبالرشوة، ولم يكونوا يمثلون الشعب البريطاني بحال منالأحوال. وقد صبر الشعب على مساوئ النظام البرلماني أثناء الكفاح بين إنجلترا وفرنسا في عصر الثورة ونابليون، ولكن بعد سقوط نابليون تطلع الشعب إلى إصلاح النظام البرلماني. وهنا أحب أن أذكر أن الإصلاح قد تم تدريجا ودون حدوث ثورات خطيرة أو انقلابات عنيفة كما حدث في فرنسا. وقد كان أهم عيوب النظام البرلماني في أوائل القرن التاسع عشر ما يأتي:
أولا: سوء توزيع الدوائر الانتخابية: فقد بقى على ما كان علية في عصر شارل الثاني 1660 رغم التطورات التي حدثت في حياة إنجلترا وفي توزيع سكانها، وقد كان من نتائج ذلك أن حرمت مدن كبيرة - نشأت نتيجة للانقلاب الصناعي مثل مانشستر وليدز وبرمنجهام - ومن التمثيل النيابي، بينما كانت (دنوتش) التي غمرتها مياه بحر الشمال ترسل نوابها إلى البرلمان، وكذلك (سارم القديمة) كانت عبارة عن تل من الخرائب ومع هذا كان لها نواب في البرلمان!
ثانيا: لم يكن التوزيع عادلا من ناحية أخرى: فقد كانت إرلندا تنتخب مائة نائب عن ستة ملايين من السكان، وكانت إسكتلندا تنتخب 45 نائبا عن مليونين، وكانت إنجلترا تنتخب 513 نائبا عن 12 مليونا من السكان. وكذلك كان يمثل الأقاليم 186 عضوا ويمثل المدن 467 عضوا.
ثالثا: تقييد حق الانتخاب: فقد كان قاصرا على طبقات معينة، هم كبار الملاك في الأقاليم وأعضاء البلديات في المدن، وقد كان عدد الناخبين في دائرة جاتن سبعة فقط.
رابعا: كان كثير من الدوائر يقع في أملاك اللوردات؛ وكان لهؤلاء تأثير كبير على
الناخبين، ونتيجة لذلك أختار الدوق نورفوك أحد عشر نائبا في البرلمان، ولورد لونسدول تسعة، ولورد دارلنجتون سبعة، بل إن بعض اللوردات كان يبيع دوائره لمن يدفع أغلى ثمن.
خامسا: كان حق الانتخاب مباحاً لمن يدفع الضرائب سنوية قدرها أربعون شلنا، ولكن اختفاء الملكيات الصغيرة قلل عدد الناخبين لدرجة أنه كان في دائرة (بوت) واحد، وفي أحدالانتخابات حضر هذا الناخب وحضر معه العمدة وضابط يشرف على الانتخاب، وأجريت عملية الانتخاب، وانتخب النائب نفسه، وأصبح نائبا.
سادسا: كانت قلة عدد الناخبين مدعاة لانتشار الرشوة، فكان الصوت يباع بجنيهين وربما وصل إلى عشرة جنيهات.
سابعا: عدم سرية الانتخابات.
وهكذا نرى أن مجلس العموم كان في الواقع لا يمثل الشعب البريطاني، وقد لمس كبار رجال بريطانيا الحاجة إلى الإصلاح، واقتنع به بت الأكبر ثم بت الأصغر، ولكن حوادث الثورة الفرنسية والصراع بين إنكلترا وفرنسا أوقف حركة الإصلاح. ولما انتهت الثورة قام كثير من المفكرين يدعون إلى الإصلاح وزاد الحركة قوة بؤس الطبقات العاملة وسوء حالها وانتشار الغلاء بسبب قانون الغلال الذي صدر عام 1815 لحماية كبار الملاك. ورأى هؤلاء المفكرون أن الإصلاح لن يكون إلا إذا تم الإصلاح النيابي، وزج بكثيرين منهم أمثال وليم كوبت في السجون.
وأخيرا في 1819 قامت مظاهرات في مانشستر للمطالبة بالإصلاح، لكن الحكومة استخدمت الشدة في قمعها، فقتل وجرح الكثيرون، وقد سميت هذه المعركة بمعركة (بيترلو) تهكما. وأصدرت الحكومة قوانين قيدت بها حريةالصحافة وحرية الخطابة وحرية الاجتماع. ورغم هذا ظلت حركة الإصلاح سائرة، وتبناها كثير من أغنياء التجار والصناع.
ولما قامت ثورة 1830 في فرنسا سقطت وزارة المحافظين في إنجلترا، وقامت وزارة من الأحرار بزعامة لورد جراي، وقدم اللورد جون رسل مشروعا بالإصلاح إلى مجلس العموم، ولكن المشروع لقي معارضة، فحل المجلس وأجريت انتخابات، وجاءت النتيجة
في جانب الأحرار فوافق المجلس إلى قانون 1832، ولكن مجلس اللوردات عارض فاستقال جراي. وقد عجز الملك عن تأليف وزارة أخرى، فاضطر إلى استدعاء جراي ثانية، وصرح له برفع بعض الأحرار إلى مرتبة اللوردية حتى تكون له أغلبية، وإزاء هذا التهديد قبل اللوردات المشروع.
وبمقتضى قانون 1832 ألغيت مقاعد المدن البالية، ووزعت الدوائر الانتخابية توزيعا عادلا بحيث تمثل المدن الجديدة في البرلمان، وأنقص النصاب المالي للناخب فزاد عدد الناخبين إلى 656 ألف بعد أن كان 535 ألف.
ولكن القانون لم يحقق الديمقراطية كما كان ينشدها أفراد الشعب البريطاني، وقد أنتفع به أفراد الطبقة الوسطى، أما العمال فقد بقوا بدون تمثيل، ولذلك فبرغم صدور قانون 1833 يحدد ساعات العمل، نراهم ينهضون بزعامة روبرت أون ويطالبون بالإصلاح وقد ضمنوا مطالبهم وثيقة سميت (وثيقة الشعب) وأهمها:
1: الاقتراع العام
2: سرية الانتخاب
3: تجديد مجلس العموم سنويا
4: صرف مكافئات للنواب تشجيعيا للفقراء الأكفاء
5: عدم تقييد النواب بمؤهلات مالية
6: تقسيم البلاد إلى دوائر انتخابية متساوية
على أن هذه الحركة لم تنجح وذلك لتحسن حالة العمال بعد إلغاء قانون الغلال سنة 1846، ولكن ظل العمال يطالبون بحقوقهم السياسية، وفي عام 1867 تبنى حركة الإصلاح غلادستون زعيم الأحرار ودزرائيلى زعيم المحافظين، كل يحاول أن يجعل نفسه محبوبا لدى الشعب بالاستجابة إلى رغباته، ونتيجة لذلك صدر قانون 1867 وبه عدل توزيع الدوائر الانتخابية توزيعا عادلا، وقلل النصاب المالي للناخب فزاد عدد الناخبين وأصبح لبعض العمال حق الانتخاب، ولكن ظلت الأغلبية محرومة.
وفي 1870 تقررت مجانية التعليم الأولى وجعل إجباريا. وفي عام 1872 تقرر سرية الانتخابات.
وفي عام 1884 صدر قانون آخر يبيح للزراع حق الانتخاب، وأعيد توزيع الدوائر بحيث أصبح لكل 50 ألف من السكان نائب في مجلس العموم.
وفي 1918 تقرر حق الانتخاب للبالغين من الرجال والنساء على السواء، وبذلك أصبح مجلس العموم يمثل الشعب البريطاني تمثيلاً كاملاً.
وأحب أن أذكر أيضا أن مجلس العموم عمد إلى تركيز السلطة في يده وسحبها من يد اللوردات، فتقرر سنة 1911 أن الميزانية تصبح نافذة إذا أقرها مجلس العموم ولو لم يقرها مجلس اللوردات، وكذلك تقرر أن القوانين التي يوافق عليها مجلس العموم (النواب) ثلاث مرات تصبح نافذة ولم يوافق عليها مجلس اللوردات. وهكذا أصبح مجلس العموم الذي ينتخبه الشعب البريطاني صاحب الكلمة العليا في بريطانيا، والوزراء ليسوا إلا منفذين لتوجيهاته وإرشاداته.
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية
بسموند الثانوية
بمناسبة رمضان (شهر الإحسان)
سؤال الناس
للأستاذ علي العماري
للشاعر الإسلامي جرول بن أَوس الملقب بالحطيئة وصية غريبة مشهورة عنه، ذلك أنه حين حضرته الوفاة قيل له: أوص يا أبا مليكة. فقال: مالي للذكور من ولدي دون الإناث، قالوا: فإن الله لم يأمر بذلك، قال فإني آمر به. قيل له: ألا توصي بشيء للمساكين؟، قال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا، فإنها تجارة لن تبور، قيل له: فلان اليتيم، ما توصي له بشيء؟، قال: أوصيكم أن تأكلوا ماله!
ومع غرابة هذه الوصية، ومع أننا نظن أنها وضعت لقصد الفكاهة، مع ذلك فإن الناس يعملون بها أكثر مما يعملون بأي وصية أخرى في هذه الشؤون، ويعنينا من وصيته ما وصى به المساكين، فإنهم اتخذوا السؤال مادة للكسب، وتجارة تدر عليهم الربح الوفير، والمال الكثير. ومع أن السؤال أردأ مهنة يحترفها الرجل، ومع أن المال الذي يجيء عن طريق أرذل كسب يكسبه، نجد العاجز والقادر، الشيخ والشاب، الرجل والمرأة، نجد من كل أولئك من يحترف السؤال ويعيش عليه، بل ويجمع الثروة الطائلة عن طريقه.
وليس أضر على المجتمع الناهض، وعلى الأمة التي تريد أن تبني مجدها، من أن يكون فيها جماعة يعيشون على كسب الغير وهم القادرون على العمل، فليس رقي الأمم هبة تعطى، وإنما هو عمل أبنائها، وجهاد في سبيل عظمتها ومجدها، وأول سلم في هذا الجهاد أن يؤدي كل إنسان واجبه، وأن يعمل كل فرد ما يستطيع من العمل. أما الكسل، وأما الاعتماد على الآخرين، فذلك ينافي طبيعة العمران، ويحط من شأن الأمة، ويعطل آلة النجاح والتقدم فيها.
ومن عجب أن أكثر هؤلاء السؤال يتمسحون بالإسلام، ويستدرون عطف الناس باسم الدين، والإسلام ليس فيه لهؤلاء حجة، فقد أزرى على السؤال، وبغض فيه، وحث على العمل، وأوجبه على القادر، ولو كان عملا دنيئا حقيرا، فهو - على كل حال - خير من مسألة الناس، وبعض أصحاب النفوس العالية يفهم ذلك تمام الفهم، فقد حدثني صديق أنه رأى رجلا يعمل عملا يستقذره الناس، فلما فرغ من مسح يديه بالتراب، وجلس يأكل، قال
صديقي فرأيته يتحدث ويقول: أسكتي، تأدبي. والله إن لم ترضى لأهيننك. فقلت له: يا رجل، رأيتك تتحدث وليس معك أحد، فمن تخاطب؟ قال: أخاطب نفسي، فإنها لما رأتني جلست آكل تقززت مني. فقلت له: سمعتك تقول تأدبي وإلا أهينك، فأي عمل أشد إهانة لها من عملك هذا؟ فالتفت الرجل مستغربا، فقال لي: يا مسكين، إن في الأعمال ما هو أخس من عملي وأقذر، ذلك مسألة الناس شيئا.
والإسلام لم يبح السؤال إلا للعاجز عن الكسب عجزا تاما، ومع ذلك دعا إلى التعفف، والإجمال في المسألة وعدم الإلحاف فيها، حتى استحسن العلماء أن يكون الرجل عييا في المسألة، وعند وصف الفاقة، فذلك أدل على كرم الطبع والأنفة من حال المسألة، والتصون من ذكر الفاقة، وقد مدح الله قوما بمثل هذا فقال:(يَحْسَبَهُمْ الجاهِلُ أَغنياءَ مِنْ التَعَفُفِ، تَعْرِفَهُمْ بِسيماهُمْ، لا يَسْأَلونَ الناسَ إِلحافا)
لكن المحترفين للسؤال يطاردونك مطاردة من له عليك دين، وربما تطاولوا عليك وسبوك. روي أن سائلا وقف على باب قوم يسألهم فقالوا: يفتح الله عليك، فقال: كسرة، قالوا: ما نقدر عليها، قال: فقليل من بر أو فول أو شعير، قالوا: لا نقدر عليه، قال: فقطعة دهن أو قليل من زيت أو لبن، قالوا: لا نجده، قال: فشربة ماء، قالوا: وليس عندنا ماء، قال: فما جلوسكم ههنا؟ قوموا فاسألوا فأنتم أحق مني بالسؤال!
ولا شك عندي أن هؤلاء - إذا كانوا صادقين - أحق بالسؤال من هذا السائل الوقح، ولكنهم قوم كرماء النفوس يصونون ماء وجوههم، ويعتزون بأنفسهم، ويخفون ما بهم من ضر وحاجة. وقد قرأت في تاريخ السودان أن الرجل كان إذا احتاج أغلق عليه باب داره، ومكث فيها حتى يموت، وقديما قال الشاعر الجاهلي (الشنقري)
أطيل مطالَ الجوعِ حتى أميته
…
وأضرِب عنه الذكر صفحا فأذهل
وأستف ترب الأَرض كي لا يرى له
…
على من الطول إمرؤ متطول
وقديما سأل رجل أبا دلف العجلي، فقال أبو دلف: أتسأل وجدك الذي يقول:
ومن يفتقر منا يعش بحسامه
…
ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
فخرج الرجل، وجرد سيفه، وعاش عليه.
وهناك جماعة يعيشون على كسب غيرهم، وهم - في نظري - لا يختلفون على عن
هؤلاء في السؤال في شئ، فقد تعجبك هيئة الرجل ووجاهته، فإذا سألت من أين يعيش؟ قيل لك أن له أخا أو أبا أو قريبا غنيا فهو ينفق عليه ويعطيه، أو أن له أصدقاء وتلاميذ يعودون عليه بالخير، ويغمرونه بالهدايا والألطاف، فمنها يعيش. وتحضرني دائما عند ذكر هؤلاء قصة الرجل الذي قيل للنبي صلى الله عليه وسلم فيه إنه صوام قوام متبتل؛ فسألهم: فمن يصلح له أمره، ويكفيه ما يهمه؟ فقالوا: كلتا يا رسول الله، فقال: كلكم خير منه. كما يحضرني الحديث الشريف: أشد الناس عذابا يوم القيامة المكفي الفارغ. وقول خليفة المسلمين يزيد بن عبد الملك: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا لئلا أتعود العجز.
فمن أراد أن يتفرغ لعبادة ربه، فليكتف من أمر الدنيا بالقليل. واعجب ما في أر هؤلاء أنهم يبررون أخذهم لهذه الأموال بأنهم ينفقونها في سبل الخير، وما علموا أنها أموال لا وجه لعمل فيها، ولقد حدث العالم الكبير عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان يضارع أبا حنيفة في الفقه قال: إني لأساير رجلا من وجوه أهل الشام، إذا مر بحمال معه رمان، فتناول منه رمانة فعجبت من ذلك، فمر به سائل، فمر به سائل فناوله أياها، فقلت له: رأيتك قد فعلت عجبا، قال: ما هو؟ قلت أخذت رمانة من حمال وأعطيتها سائلا، قال: وأنك ممن يقول هذا القول؟ أما علمت أني أخذتها وكانت سيئه وأعطيتها فكانت عشر حسنات، فقلت: أما علمت أنك أخذتها فكانت سيئة، وأعطيتها فلم تقبل منك. قلت: ومنطق هؤلاء لا يختلف في شئ عن منطق ذاك الرجل.
(وبعد) فكيف نعالج هذا الداء المشين، لعلي لا أبعد كثيرا إذا قلت إن العلاج الوحيد هو أن نفهم الناس دينهم على حقيقته، وأن يتأكدوا أن هذه المظاهر تشين الوطن، وتحط من قدر الأمة، والنفوس بطبيعتها شحيحة فلا يمكن أن ندعوها إلى أن تزيد في شحتها، ولكن ندعوها إلى أن تتلمس ذوي الحاجة من الأقرباء والجيران والمعارف فتدفع إليهم ما تجود به، وأن تمتنع امتناعا تاما عن إعطاء هؤلاء الذين يتجرون بالسؤال. وليس صحيحا ما يفهمه الناس إعطاء السائل ولو جاء على فرس، فإن ذلك إذا لم يجد المعطي من هو أحوج من الفارس، وإذا لم يكن صاحب الفرس قد اشتراه من أموال الناس التي سألهم إياها!
وأن يعلم هؤلاء الذين يعيشون على أرزاق غيرهم من الناس أن الموت أهون من ذل السؤال، وأن الإنسان لا يجد عوضا عن ماء وجهه الذي يبذله، وصدق الشاعر:
ما نالَ باذِلٌ وجْهَهُ بِسُؤالِهِ
…
عِوَضاً ولو نالَ الغِنى بِسُؤالِ
علي العماري
عقيدتي
للفيلسوف الإنكليزي المعاصر برتر اندرسل
للأديب عبد الجليل السيد حسن
الفصل الرابع
الخلاص الفردي والاجتماعي
إن إحدى نقائص الدين التقليدي هي فرديته، وهذه النقيصة ترجع أيضا إلى الأخلاق المقترنة، وكانت الحياة الدينية دائما بالتقليد حوارا بين الروح والله، فإن تطع إرادة الله، فذلك هو الصلاح. وكان ذلك في إمكان الفرد الذي يهمل حالة المجتمع تماما، وقد نشرت الفرق البروتستانتية فكرة (وجود المخلص) ولكنها كانت دائما موجودة في التعاليم المسيحية، وهذه الفردية في الروح المفارق كان لها قيمتها في مراحل معينة من التاريخ، ولكننا في العالم الحديث في حاجة إلى تصور اجتماعي للخير أكثر من التصور الفردي. وأود أن نرى - في هذا الفصل - كيف يؤثر هذا في تصورنا للحياة السعيدة.
ظهرت المسيحية في الإمبراطورية الرومانية بين شعوب مجردة من القوى السياسية، قد تحطمت حكومتها القومية وارتبطت بكتلة ضخمة فاقدة الشخصية، وفي أثناء القرون الثلاثة الأولى من العصر المسيحي، كان الأفراد الذين اعتنقوا المسيحية لا يستطيعون أن يغيروا النظم الاجتماعية والسياسية التي كانوا يعيشون في ظلالها على رغم أنهم كانوا مقتنعين تماما بفسادها. وأثناء هذه الظروف كان من الطبيعي أن يؤمنوا بالاعتقاد بأن الفرد من الممكن أن يكون كاملا في عالم غير كامل، وأن الحياة السعيدة ليس لها شأن بهذا العالم. وقد يتضح معانيه أكثر بالمقارنة بجمهورية أفلاطون؛ فحينما أراد أفلاطون أن يصف الحياة السعيدة، وصف المجتمع ككل لا كأفراد، وقد فعل ذلك ليحدد العدالة التي هي معنى اجتماعي جوهري، فقد كانت حقوق (الجمهورية) مألوفة لديه، وكانت المسؤولية السياسية عنده قضية مسلمة، وحينما فقد اليونان حريتهم إلى دور ظهور الرواقية، التي هي - كالمسيحية وليست كأفلاطون - في تصورها الفردي للحياة السعيدة.
ونحن الذين ننتمي إلى ديمقراطيات عظيمة، سنجد عند الآثينيين الأحرار أخلاقا أكثر
ملائمة مما نجد لدى الإمبراطورية الرومانية صاحبة السلطان المطلق. وفي الهند حيث الأحوال السياسية مشابهة تماما لما كان في أرض المعاد في زمن المسيح، نجد غاندي يحث على أخلاق مشابهة جدا لأخلاق المسيح، ويعاقبه من أجلها خلفاء بلاطس المسيحيون، ولكن الوطنيين الهنديين المتطرفين، ليسوا راضين عن الخلاص الفردي، فهم يريدون خلاصا قوميا، وهم في هذا قد أخذوا بنظرة الديمقراطيات الغربية الحرة، وأريد أن أذكر بعض الجوانب التي جعلت هذه النظرة - بسبب المسيحية - إلى الآن خالية من القوة والوعي والكفاية، بل ما زال الاعتقاد في الخلاص الفردي يقيدها.
والحياة السعيدة كما نتصورها تحتاج إلى عدد عظيم من الشروط الاجتماعية التي لا يمكن أن تتحقق بدونها. والحياة السعيدة كما قلنا هي الحياة التي يلهمها الحب وترشدها المعرفة. والمعرفة المتطلبة لا توجد إلا حيث تقف الحكومات وأصحاب الملايين أنفسهم على اكتشافها ونشرها؛ فمثلا انتشار السرطان شئ مخيف، وماذا يجب علينا أن نعمل بازائه؟ في الحالة الراهنة لا يستطيع أحد أن يجيب عن هذا السؤال، لنقص المعرفة. والمعرفة ليس من المحتمل أن تظهر وتكتشف إلا بالبحث الموقوف عليها. ومرة أخرى معرفة العلم والتاريخ والأدب والفن، يجب أن يحصل عليها كل من يرغب فيها، وهذا يقتضي استعداد متعدد النواحي من جانب السلطة العامة، ولا يبلغ إلى ذلك عن طريق التحول الديني. وحينئذ فهاهنا تجارة خارجية بدونها يموت جوعا نصف سكان بريطانيا العظمى. وإذا متنا جوعا، فإن قليلا منا سوف يحيون الحياة السعيدة. ولا داعي لأن نكثر من الأمثلة، ولكن النقطة المهمة هي أنه من بين كل ما يفرق بين الحياة السعيدة والحياة السيئة، هو أن العالم وحده، وأن الإنسان الذي يدعي أنه يعيش مستقلا طفيلي، سواء شعر بذلك أم لم يشعر.
وفكرة الخلاص التي كان المسيحيون الأولون يعللون بها أنفسهم لخضوعهم السياسي تصبح مستحيلة بمجرد أن نتخلى عن التصور الضيق للحياة السعيدة، ففي تصور المسيحية السليمة أن الحياة السعيدة هي حياة الفضيلة والصلاح، والفضيلة في إطاعة إرادة الله، وإرادة الله تتضح لكل إنسان خلال صوت الضمير، وهذا تصور أناس خاضعين لسلطة مطلقة أجنبية مستبدة، والحياة السعيدة تشمل كثيرا، بجانب الفضيلة - الذكاء مثلا - وكثيرا ما يكون الضمير مرشدا مضللا، لأنه يتضمن ذكريات غامضة لمدركات منذ الطفولة،
ولذلك فهو ليس أحكم من صاحبته المربية أو الأم. ولكي يحيا المرء الحياة السعيدة بأتم معانيها، يجب أن ينال قسطا وافرا من التربية، وأن يكون الأصدقاء والحب والأطفال - إذا أرادهم - ودخل كاف ليحفظه من العوز والقلق، وصحة جيدة، وعمل ليس بالممل. وكل هذه الأشياء بدرجات متفاوتة، وتعتمد على المجتمع؛ وتساعدها أو تعوقها الأحداث السياسية. والحياة السعيدة لا تكون أبدا إلا في مجتمع سعيد، وليست بممكنة في عالم ليس كذلك.
وهذا نقص أساسي في المثل الأرستقراطي الأعلى، فبعض الأشياء الصالحة مثل الفن والعلم والصداقة، يمكن أن تزدهر أيما ازدهار في مجتمع أرستقراطي، فقد وجدت في اليونان على أساس الرق، وتوجد بيننا على أساس الاستغلال والتسخير؛ ولكن الحب في صورة المشاركة الوجدانية وحب الخير لا يمكن أن يوجد وحده طليقا في مجتمع أرستقراطي. فالأرستقراطي يقنع نفسه بأن الرقيق أو الأجير أو الرجل الملون من طينة أدنى فإيذاءهم لا يهم وإن الرجل الإنجليزي المثقف في الوقت الحاضر ليضرب الأفريقيين بشدة، حتى أنهم يموتون بعد ساعات من الألم الفظيع. وأنا لا أستطيع أن أقول أن هؤلاء المهذبين - حتى ولو كانوا متعلمين جيدا وفنانين ومحدثين لطافا - يحيون حياة سعيدة، فإن الطبيعة البشرية لتضع بعض الحدود للمشاركة الوجدانية، ولكن ليس بدرجة مثل هذه. وفي المجتمع ذي الوعي الديمقراطي لا يسلك هذا المسلك إلا المهووس وتحديد المشاركة الوجدانية التي يشتمل عليها المثال الأعلى الأرستقراطي لهوسها. والخلاص مثال أرستقراطي لأنه فردي، ولهذا أيضا لا تصلح فكرة الخلاص الشخصي - مهما أولت ووسمت - لتعريف الحياة السعيدة.
وطابع آخر من مميزات (الخلاص) وهو أن ينجم عن تغيير محني (نتيجة محنة) كتحول القديس بولص وأشعار (شلي) تقدم صورة لهذا المعنى تنطبق على المجتمعات، فاللحظة تحين حين يتغير كل إنسان (وتطير الفوضى واختلال الحكم) (ويبدأ عمر العالم العظيم من جديد) ولكن: قد يقال إن الشاعر ليس بذي أهمية، وأفكاره لا نتيجة لها؛ ولكني أقول: إن جزءا كبيرا من القواد الثوريين كان لديهم أفكار مثل ما لدى (شلي) إلى حد بعيد، فقد فكروا في أن البؤس والقسوة والانحطاط ترجع كلها إلى الظلمة، أو القسس أو الرأسماليين، أو
الألمانيين. ولو طرحت منابع الشر هذه لحدث تحول عام في القلوب، ولعشنا جميعا سعداء أبدا. ولاعتقادهم في مثل هذه الاعتقادات فقد أريد منهم أن يستمروا في (الحرب حتى تنتهي الحرب) وبالمقارنة نجد أن المحظوظين هم هؤلاء الذين عانوا الهزيمة والموت، وهؤلاء الذين حالفهم سوء الحظ، فظهروا كمنتصرين، كانوا في حاجة إلى شئ من احتقار اللذات أو الكلبية المسيحية، وكانوا بائسين بتحطيم كل آمالهم البراقة، والمنبع النهائي لهذه الآمال كان العقيدة المسيحية في التحول المحني كطريق للخلاص.
وأنا لا أريد أن أقول إن الثورات ليست بضرورية مطلقا، بل أريد أن أقول أن إنها ليست أقرب الطرق إلى عودة المسيح وليس هناك من طريق مختصر إلى الحياة السعيدة سواء أكانت فردية أم اجتماعية، ولكن لكي نشيد حياة سعيدة علينا أن نشيد الذكاء وضبط النفس والمشاركة الوجدانية، وهذا أمر كمي؛ أمر إصلاح تدريجي وتدريب مبكر وخبرة تربوية. والذي يجعل مكانا للاعتقاد في الإصلاح المفاجئ هو عدم الصبر فقط، والإصلاح التدريجي الممكن، والطرق التي يبلغ إليه بها، أمور قد تكفل بها علم المستقبل، ولكن في مقدورنا أن نقول شيئا الآن، وطرفا مما يمكن قوله. وسأحاول معالجته في ختامي.
عبد الجليل السيد حسن
شوقية أخرى لم تنشر
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
قد يعجب قراء الرسالة الكرام في كافة الأقطار الناطقة بالضاد من حبي وإعجابي بشعر خالد الذكر أمير الشعراء شوقي بك. والسبب في ذلك بسيط جدا، وهو أنني أعد شوقي القمة الشامخة في الأدب العربي، تلك القمة التي لا يدانيها أحد قط منذ أن جدد بشار حتى الآن إلا حبيب بن أوس الطائي الملقب بأبي تمام، أستاذ الشعراء في عصره، والذي أعد أثقف شعراء زمانه، فحبيب عندي من الشعراء القلائل الذين قلما تجود العربية بهم. وهو يختلف عن أبن الرومي وأحمد بن الحسين بسعة أفقه وخصب خياله وعمق ثقافته.
ومن تصفح ديوانه وقرأ شعره قراءة دراسة واستقصاء علم ما أذهب إليه. ولا أريد في هذه العجالة أن أحلل شعره، أو أشير إلى مواطن الإبداع في قصائده أو أختار له من نفائسه شيا، وإنما هي عجالة ألجأتاني إليها كلمة جاءت عرضا، لذلك لم أشأ أن أمر على شعر أبي تمام دون أن أشير إلى أياته التي أبدع فيها، وخصوصا بائيته الخالدة ومطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
ورائيته:
الحق أبلج والسيوف عوار
…
فحذار من أسد العرين حذار
ونونيته التي تعد في مصاف الرائية:
بذ الجلاد البذ فهو دفين
…
ما إن به إلا الوحوش قطين
ومنها هذا البيت الخالد:
قد كان عذرةمغرب فافتضها
…
بالسيف فحل المشرق الأفشين
ومنها هذه الأبيات:
فأعادها تعوى الثعالب وسطها
…
ولقد ترى بالأمس وهي عرين
جادت عليها من جماجم أهلها
…
ديم أمارتها طلى وشؤون
كانت من الدم قبل ذلك مفاوزا
…
غيرا فأمست منه وهي معين
وغيرها من القصائد التي يحفل بها الديوان. هذه كلمة مناسبة قلتها وأود أن أتوسع بها في وقت آخر، وخاصة عند تعرضي لدراسة الدكتور محمد مهدي البصير عن هذا الشاعر؛
تلك الدراسة التي اشترتها من وزارة معارف العراق العمومية بـ (700) دينار وهي لا تستحق حتى المطالعة فإذا ما قلت في المقدمة إن خالد الذكر المرحوم شوقي بك قمة شامخة في الأدب العربي فأنا لا أتعدى الواقع. . وقبل أسابيع نشرت قصيدة له لم تنشر في ديوانه، واليوم أزف لعشاق شعره قصيدة أخرى عثرت عليها عند صديقي الأستاذ الشاعر خضر الطائي وهو محقق ديوان العرجى. وقد كان هذا الأستاذ قد حصل عليها منذ سنة 1930 ميلادية وبقيت في أوراقه حتى هذه الأيام. وقد نضمها أمير الشعراء شوقي بك في تكريم الأستاذ سامي شوا عازف الكمان المشهور بعد عودته من أمريكا. وهاأنذا أزفها إلى تلك الطبقة المثقفة في البلاد العربية كما زففت من قبلها قصيدته (جهاد مصر الوطني). وقبل أن أدرج لهم القصيدة نفسها التي دعاها شوقي بـ (صاحب الفن) أود أن أهمس في أذن صديقي الأستاذ علي شوقي بك وزير مصر المفوض في باريس أن لوالده رواية (الست هدى) و (البخيلة) ولا زالتا مخطوطتين! فهل من الواجب الأدبي والوطني أن نبقي مخطوطات سيد شعراء العربية في دهاليز النسيان؟! هذا ما أردت أن أعاتب به صديقي علي بك النجل الأكبر لأمير الشعراء، وعسى أن تكون هذه الكلمة منبهة له أو لأخيه الأستاذ حسين صاحب كتاب (أبي شوقي). . . لاشك أن القارئ الكريم مل من هذه المقدمة وهو يرغب في الشوقية التي لم تنشر إلا سنة 1930 في جريدة مصرية عثر عليها صديقنا الأستاذ خضر الطائي الشاعر العراقي المعروف، وهاهي:
صاحب الفن
يا صاحب الفن هل أوتيته هبة
…
وهل خلقت له طبعا ووجدانا
وهل وجدت له في النفس عاطفة
…
وهل حملت له في القلب إيمانا
وهل لقيت جمالا فيدقائقه
…
غير الجمال الذي تلقاه أحيانا
وهل هديت لكنه من حقائقه
…
يرد أعمى النهى والقلب حيرانا
الفن روض يمر القاطفون به
…
والسارقون جماعات ووحدانا
أولا الرجال به في الدهر مخترع
…
قدزاده جدولا أو زاد ريحانا
العبقرية فيه غير مالكه
…
إذا مشى غيرهلصا وجنانا
لا تسال الله فنا كل آونة
…
وأساله في فترات الدهر فنانا
يا واحد الفن في أشجى معازفه
…
هذا أوان الثناء العدل قد آنا
يا رب ليل سمارنا الراح فأختلف
…
على بنانك للسمار ألحانا
تلك اللعيبة من عود ومن وتر
…
لولا بنانك لم نجعل لها شأنا
قد أنست رحمة في الصدر فانكأت
…
بجانب الإذن تستوحيك شيطانا
كأنها عش طير هاج أهله
…
من كل ناحية ينساب أشجانا
ضممتها وتواصت راحتاك بها
…
ضم الوليد إشفاقا وإحسانا
تملى عليها الذي توحي إليك به
…
كأن داود والمزمار ما بانا
حركتها فأتاها الروح فاندفعت
…
تبكي وتضحك أوتارا وعيدانا
يا طيبها حين تحدرها بحنجرة
…
كخرطم النحل أرواحا وألوانا
مصرية الغير وهابية عذبت
…
شدوا ونوحا وترجيعا وتحنانا
ذكرت خلقا وراء البحر مغتربا
…
مآلفا وصبابات وأوطانا
غنيتهم بأغاني المهدي فالتمسوا
…
في ملتقى القوس والأوتار لبنانا
ولو هتفت ببيتهوفن ما انصرفت
…
لك القلوب وإن صادفت آذانا
سقيتهم من سلاف طالما دخلت
…
عليهم المهد أعنابا وألبانا
فن تعطل منه الشرق آونة
…
وكان شغل بني العباس أزمانا
بهذا يختم شوقي هذه الرائعة التي قالها في تكريم أمير الكمان الأستاذ سامي شوا عند عوده من أمريكا ولا أريد أن أعلق عليها بمثل ما علقت عل قصيدته السالفة، لان في العراق أقواما يسوؤهم أن يكون شوقي أعظمشعراء العربية بعد أبي تمام، فهم يريدون أن تقول - وتجازف في القول - إن الرصافي أعظم منه.
وأنا لا أريد أن أجاري هؤلاء ومنهم الدكتور مهدي البصير وبعض أساتذة الأدب العربي في العراق، لأنني أفهم منهم لمعاني الشعر ودقائقه، ولكن على الرغم من ذلك أقول إن شوقي هو الشاعر العملاق، وغيره من شعراء العراق كالرصافي والزهاوي ما هما إلا أقزام صغار؛ فهلا يعتبر الجاهلون.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
(بداية ونهاية) لنجيب محفوظ:
(بداية ونهاية) دليل مادي لا ينكر، على أن الجهد والمثابرةجديران يخلق عمل فني كامل.
لقد أتى عل وقت ظننت فيه أن نجيب محفوظ قد بلغ غايته في (زقاق المدق)، وأنه لن يخطو بعد ذلك خطوة أخرى إلى الأمام. أقول غايته هو لا غاية الفن، لأن (زقاق المدق) كانت تمثل في رأي الظنون أقصى الخطوات الفنية بالنسبة إلى إمكانيته القصصية. ولهذا، خيل إلى أن مواهب نجيب قد (تبلورت) هنا وأخذت طابعها النهائي وتوقفت عند شوطها الأخير. ومما أيد هذا الظن أن (السراب) وقد جاءت بعد (زقاق المدق) كانت خطوة (واقفة) في حدود مجاله المألوف، ولم تكن الخطوة الزاحفة إلى الأمام!
كان ذلك بالأمس. . أما اليوم، فلا أجد بدا من القول بأن (بداية ونهاية) قد غيرت رأيي في (إمكانيات) نجيب، وجعلتني أعتقد أنه قد بلغ الغاية التي كنت أرجوها له، غايته هو وغاية الفن حين كانت الغايتان مطلبا عسير المنال!
أنني أصف هذا الأثر القصصي الجديد لهذا القصاص الشاب، بأنه عمل فني كامل. هذا الوصف، أو هذا الحكم، مرده إلى أن أعماله الفنية السابقة كانت تفتقر إلى أشياء؛ تفتقر إليها على الرغم من المزايا المختلفة التي تحتشد فيها وتحدد مكان صاحبها في الطليعة من كتاب الرواية!
ماذا كان ينقص نجيب قبل (بداية ونهاية)؟ ماذا كان ينقصه في (خان الخليلي) و (القاهرة الجديدة) و (زقاق المدق) و (السراب)، لقد كان نجيب في هذه الروايات الأربع يمتلك من الخطوط الفنية ما يتيح له من أن يخرج (التصميم العام) للقصة وهو سليم في جملته. ومع ذلك فقد كان ينقصه عنصر الالتزام الدقيق لحدود (الواقعية الأولى) في عرض حوادث القصة وتوجيه حركات الشخوص. وأقول (الواقعية الأولى) لأن (الواقعية الثانية) هي الساحة الكبرى التي دأب نجيب على أن يعرض فيها أكثر نماذجه البشرية!
إن الفرق بين هذين اللونين من الواقعية هو أن اللون الأول نقل (مباشر) لصور الحياة وطبائع الأحياء، كما هي في الواقع المجس الذي تلمسه العين وتألفه النفس. أعني أن تكون
الحادثة القصصية أو النموذج البشري مما يقع كل يوم في محيط اللقطة البصرية والنفسية؛ أعني مرة أخرى أن تكون تمثلنا للحوادث والشخصيات تمثيلا شعوريا لا ذهنيا عندما تقارن بين حقيقتها على الورق وبين حقيقتها في الحياة. هذا هو اللون الأول وهذه هي مظاهره، أما اللون الثاني من الواقعية وهو ما نعبر عنه بـ (الواقعية الثانية)، فهو التصوير (التقليدي) لا (الطبيعي) للحوادث اليومية والنزعات الإنسانية. أو هو تلك النسخة من الحياة التي يمكن أن نقول عنها أنها (قريبة) من الأصل، ولا يمكننا القول بأنها (طبق) الأصل، ونسخة كهذه منهما اقتربت من الواقع فهي نسخة (مقلدة) على كل حال. . وقد يكون الفن في جوهرة تقليدا للحياة، ولكن رسالة الفنان هي أن يشعرنا بأن المشهد الذي بصوره أصيل لا أثر فيه للمحاكاة.
وألا يترك لنا فرصة للشك في أن هناك اختلافا بين الصورة الحقيقية والصورة المنقولة، أو أن هناك حلقة اتصال مفقودة بين الواقع والمثال!
نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة هو ذلك القصاص الذي يمثل (الواقعية الثانية) في الكثير الغالب من الأعيان. ولست أنكر أن بالواقعية الأولى مجالا في فنه، ولكنه المجال (المحدود) تبعا لطريقته الفنية التي تغلب عليه في كتابة القصة. هذه الطريقة الفنية أساسها أن نجيب مولع بأن يضع كثيرا من نماذجه البشرية تحت مجهر التحليل النفسي، ليتخذ من سلوكها الإنساني مادته الرئيسية في تحليل ما يقع تحت المجهر من (حالات مرضية (! قل إذا شئت أنه يطبق بعض الأصول من (علم النفس المرضي) على كثير من أبطال قصصه (المنحرفين) وأنه تبعا لهذا التطبيق يفرض عل فنه أن يسير في خط اتجاه نفسي محدد تدور فيه الشخصية (المريضة) من البداية إلى النهاية؛ تدور فيه بقوة الدفع (المرضية) التي تبرر سلوكها في محيط (الواقعية الثانية). . من هنا يخرج نجيب بعض الشيء عل منطق (الواقعية الأولى)، لأنه يجبر حوادث القصة وحركات الشخوص على أن تسير نحو غاية معينة، تحقيقا لمنهجه الفني الذي يلتمس عند النتائج المادية تفسيرا للظاهرة النفسية أو تشخيصا (للحالة المرضية). وتشعر أن التشخيص النفسي لهؤلاء (المرضى) غير سليم في بعض الأحيان، ومرجع هذا الشعور إلى أن سلوكهم مفروض عليهم فرضا ولا يملكون فيه حرية الاختيار! هنا مفرق الطريق بين واقعيتين:(الواقعية الأولى) و (الواقعية الثانية).
هذه صورة (تقليدية) للحياة كما قلت، وتلك صورة (طبيعية). وموقف الفن بينهما واضح عندما نضع أنفسنا أمام هذه الحقيقة، وهي أن النموذج البشري في حدود الواقعية الأولى موجود في الحياة (بالفعل)، وأنه في حدود الواقعية الثانية موجود في الحياة (بالإمكان). . أي أننا إذا رجعنا إلى بعض الشخصيات التي رسمها الأستاذ نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة، وسألنا أنفسنا هل هي موجودة بيننا حقا تروح وتجيء، وتقع عليها العين وتدركها الحواس، ونشعر نحوها بشيء من الألفة التي تخلق بيننا وبينها نوعا من المشاركة الوجدانية؟ إذا سألنا أنفسنا هذا السؤال فإننا ننتهي إلى هذا الجواب: وهو أنها غير موجودة (فعلا) ولكنها (ممكنة) الوجود؛ أي أن وجودها غير متعذر لأن منطق الحياة يهضمه إذا (وجد) وكذلك طبيعة الأحياء. ومن هنا نلتمس الفارق الدقيق بين كلمتين: (موجود). . و (ممكن إن وجد)، وبالطبع لا يضيق الفن بالكلمة الأخيرة وإن كان يفضل الكلمة الأولى بلا مراء!!
هذا عنصر من العناصر الفنية كان ينقص نجيب محفوظ. وثمة عنصر آخر كان ينقصه، وأعني به (التذوق الشعوري) الكامل للحياة. . هناك قصاص فهم الحياة حق الفهم وخبرها كل الخبرة، ومع ذلك فهو يتذوقها بقدر معلوم لا يتناسب وخبرته العميقة وفهمه الأصيل؛ فما هو الفارق بين طبيعة (الفهم) وطبيعة (التذوق) في حياة القصاصين؟ لتوضيح هذا الفارق الفني نقول: إنك تفهم الشيء بعقلك ولكنك تتذوقه بشعورك، أعني أن الفهم أداته الذهن الفاحص، وأن التذوق أداته الإحساس الرهيف. . إنهما طاقتان: طاقة عقلية وطاقة شعورية، والذين قويت عندهم الطاقة الأولى وضعفت الثانية هم الذين تتوقد في نفوسهم شعلة الفهم، وتخبو شعلة التذوق، بالنسبة إلى كل قيمة من قيم الأشياء وكل معنى من معاني الحياة.
إن هناك مثلا من (يفهم) قصيدة من الشعر؛ يفهم فيها اللفظ والمعنى، ويفهم فيها الوزن والقيافة، ويفهمها شرحا أن طلبت إليه الشرح والتفسير. ومع هذا كله فهو لا يستطيع أن (يتذوق) فيها الوحدة الفنية، ولا الظلال النفيسة، ولا التجربة الكبرى وهي مصبوبة في بوتقة الشعور. . وقل مثل ذلك عن الذي يفهم (النوتة الموسيقية) للحن من الألحان، ثم لا يتذوق جمال اللحن، ولا يهتز فيه لروعة الإيقاع، ولا يستجيب لأنغامه التصويرية!
إن فهم الحياة هو أن تفتح لمشاهدها أبواب القلب. . إننا (نراها) هناك تحت إشعاع الومضة الفكرية، و (نتلقاها) هنا تحت تأثير الدقة الوجدانية! وعلى مدار هذه الكلمات تستطيع أن تنظر إلى نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة. . إنك لا تستطيع أن تجرده من التذوق الشعوري للحياة، ولكنه التذوق العابر الذي لا يتناسب وخبرته العميقة بها وفهمه الأصيل!
ويبقى بعد ذلك عنصر فني ثالث كان ينقص هذا القصاص الموهوب. . أتدري ما هو؟ هو تلوين الأسلوب القصصي تلوينا خاصا يتلائم وجو المشهد المصور، أو طبيعة النموذج البشري المرسوم. . في القصة مثلا موقف إنساني يتطلب عند تصويره أسلوبا معينا تتوفر فيه لمعات الشاعرية، وموقف آخر لا نحتاجفيه إلى مثل هذا الأسلوب الشاعري، وعندما نتناول الملامح المادية لمشهد من المشاهد أو لشخصيةمن الشخصيات، بأسلوب السرد الفني المألوف الذي تحتشد له القدرة على التقاط الجزئيات، وهناك موقف ثالث يفرض علينا أن نعالجه بأسلوب آخر هو أسلوب التجريد والتحليل، حين تعترض طريقنا تلك اللحظات
الزاخرة بألوان من الحركة الذهنية أو النفسية!
نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة يكاد يستخدم أسلوبا واحدا في تصوير شتى المواقف والسمات، وأعني به أسلوب الرد الفني المألوف. . مثل هذا الأسلوب إذا ارتضيناه في تلك المواقف المهيأة لتجسيد الملامح المادية للمشاهد والشخوص، وتجاوزنا عنه في تلك المواقف الأخرى المخصصة لتسجيل الحركة الجائشة في الذهن أو المختلجة في الشعور، فإننا لا يمكن أن نسيغه بالنسبة إلى المواقف الإنسانية؛ لأنه يفقدها طابع الجو الشعري الذي يجب أن تعيش فيه، هذا الجو الذي إذا فقدته تعرضت للهمود واعتراها الفتور!
كل من هذه العناصر الفنية الثلاثة التي كانت تنقصه بالأمس: عنصر الالتزام الدقيق لحدود
(الواقعية الأولى)، وعنصر (التذوق الشعوري) الكامل للحياة، وعنصر (التلوين الخاص) للأسلوب القصصي؛ كل منها قد أحتشد له اليوم في صورته القوية الرائعة في (بداية ونهاية)، وإذا هذه الرواية القصصية تعد في رأي النقد عملا فنيا كاملا لا مثيل له في تاريخ القصة المصرية باستثناء (عودة الروح) لتوفيق الحكيم!!
(بداية ونهاية) قصة مصرية تمثل حياة أسرة. . أسرة تذوقت طعم الفقر وتجرعت ذل
الفاقة، بعد أن فرقت بينها وبين عائلها تلك اليد التي تفرق بين الأحياء. والفقر وحده هو المسؤول عن البناء الذي تصدع والشمل الذي تبدد، شمل الأسرة الكادحة التي كان للتضحية عند كل فرد من أفرادها طعم ومذاق.
الأم، وحسين، وحسن، وحسنين، ونفيسة؛ كل نموذج من هذه النماذج البشرية التي كونت الهيكل الإنساني العام للقصة، قد فهم التضحية فهما خاصا وكانت له فيها وجهة نظر خاصة، وجهة نظر حددت الطريق وقررت المصير. . كانوافلاسفة حياة؛ فلاسفة أخضعوا الفلسفة لمنطق الشعور المحترق بلهب الحرمان، حتى خرج بعضهم من الفلسفة وهو منحرف العقل مريض النفس، والفقر وحده هو المحور الرئيسي الذي دار حوله السلوك الإنساني لهؤلاء المنحرفين!
هذه الأم العظيمة كان عليها أن تكافح بعد موت الزوج لتخلق من هؤلاء الصغار رجالا يواجهون الحياة وهؤلاء الأبناء الأربعة لم يكن لهم مورد في الحياة غير تلك الجنيهات الخمسة التي كانت تأتيهم من معاش الوالد الراحل؛ كامل أفندي علي الذي أنفق في خدمة الحكومة زهرة العمر وعصارة الشباب! وماذا تفعل الجنيهات الخمسة لأسرة تواجه مطالب الحياة من مأكل ومسكن وملبس ومحافظة على المظهر القديم أمام الناس؟! هنا يبرز دور الأم. الأم الصابرة العاقلة الحازمة المكافحة في سبيل البقاء. لقد باعت أثاث البيت قطعة بعد قطعة لتسكت البطون الصارخة من وطأة الجوع، وهجرت (الشقة) التي كان يدخلها النور
والهواء ولجأت إلى أخرى عشش فيها البؤس والظلام توفيرا لقروش معدودات، وقضى حسنين وحسين أيام الدراسةالثانوية بلا (مصروف) يومي يشعرهما بأن للحياة فرحة يستشعرها الصغار من الأحياء، ومضت نفيسة تطرق الأبواب لتحصل لهم على الأجر الضئيل الذي كان يأتيها من حياكة الثياب بين حين وحين، وهام حسن الذي دلله أبوه حتى طردته المدرسة ونبذته الحياة، هام عل وجهه في الطرقات بحثا عن لقمة العيش من كل طريق غير شريف!
ودارت عجلة الزمن والأم العظيمة الصابرة ما زالت تكافح. . كانت الطريق طويلة، رهيبة، قد انتثرت على جانبيها الصخور. ومع ذلك فقد مضت في طريقها لا تلوي عل
شيء: يد تجفف العرق المتصبب من حرارة الكفاح، ويد تدفع إلى الأمام بالقافلة المكدودة التي أنهكها طول المسير! لقد كان هناك أمل. . أمل يتراءى على جنبات الأفق البعيد فينسيهم أنهم متشردون وإن ضمهم مسكن، عراة وإن سترهم ثوب، جياع وإن حصلوا على الرغيف. أمل يتمثل في الغد القريب الذي سيفتح عيني الأم الصابرة المكافحة على منظر فريد، تسعد فيه برؤية الصغيرين وقد أصبحا رجلين، يشغل كل منهما بعد الفراغ من التعليم مكانه المنتظر في دنيا الناس!
وجاء الغد المرتقب يحمل إليهم البشرى. . . لقد ظفر حسين بالبكالوريا والتحق بإحدى الوظائف في مدينة طنطا. قبل الوظيفة الصغيرة ليستطيع أن يمد يد العون إلى أسرته. أخوه حسنين، أمه، أخته نفيسة، كان من الظلم ألا يختصر طريقه في الحياة ليخفف عنهم جزءا من أعباء الحياة. ترى أكان يمكنهم أن يصبروا على شظف العيش حتى ينتهي من دراسته العالية؟ محال! وحين أضمأت نفسه إلى هذه الحقيقة أقدم على التضحية وهو سعيد مرتاح البال.
لقد ضحى حسين بآماله العراض. . إن المصير الذي ينتظرهلن يفترق عن مصير أبيه، وهو مصير الألوف من الموظفين الصغار! مستقبل محدود مظلم ولكنها فلسفة حياة. . وفلسفة الحياة تفرض على أصحابها التضحية في كثير من الأحيان! ونفيسة. . لقد ضحت هي الأخرى وكانت التضحية فادحة، ضحت بالشرف الغالي والعرض المصون. . كانت فقيرة، ودميمة، وأين الزوج المأمول وقد حرمت إلى الأبد عزة المال ونعمة الجمال؟ رجل واحد يستطيع أن يقبلها زوجة وتعيش معه تحت سقف واحد، رجل مضيع في الحياة مثلها فقير دميم! ولقد وجدت يوما هذا الرجل. . هذا الحيوان الذي استجابت له مرغمة تحت تأثير الحلم الجميل، حلم كل عذراء قبيحة الوجه وجدت بعد طول انتظار من يقول لها إنك جميلة، يا زوجة الغد القريب! وسقطت نفيسة. . وفر الحيوان الذي سلبها الشرف وتركها وحيدة تواجه الخاتمة في معركة المصير.
وقالت لنفسها يوما: ماذا بقي لك يا بائسة؟ لا مال، ولا جمال، ولا شرف. . هل بقي شيء تحرصين عليه؟ هل هناك ذرة من أمل في زوج جديد؟ وحين قهقه في أعماقها الجواب. . انطلقت تلبي رغبات الجسد عند كل عابر سبيل! وأمها، وأخواتها، لا أحد يعلم بم انتهت
إليه من ضياع. انحدار إلى الهوة السحيقة الرهيبة ولكنها فلسفة الحياة. . وفلسفة الحياة تفرض على أصحابها التضحية في كثير من الأحيان! وحسن، ذلك الشريد الهائم في الطرقات. . ماذا فعلت به المقادير؟ لقد جاع. . جاع لأنه لا يصلح لأي عمل (نظيف)، لقد فقد القدرة على أن يحيا حياة نظيفة، مرتبة، هادئة فيها أمن وفيها استقرار!
هناك في الحياة خط سير يستطيع أمثاله أن يسلكوه. . خط سير يعج بالدروب والمنحنيات التي تختفي فيها الكرامة، والشرف، والفضيلة، والإنسانية. . قيم ستختفي إلى الأبد، ومثل ستذهب إلى غير معاد. .
ولكن ستظهر بعدها اللقمة الدسمة التي تشبع كل معدة خاوية، وسيقبل في أثرها الثوب الجديد الذي ينعش كل جسد مهان، وستخطر البسمة المشرقة التي تسعد كل شعور ملتاع، وهذ1 هو خط السير الذي سلكه الفتى الشريد. . يتاجر بالمخدرات، ويعيش مع العاهرات، ويالها من حياة. حياة ينكرها عليه الشرفاء من أسرته وفي طليعتهم أخوه حسين، ذلك الفتى الطموح الذي تخرج في الكلية الحربية وأصبح ضابطا في سلاح الفرسان!
من فيض هذه الحياة الآثمة الهابطة استطاع حسن أن يخلق من العدم حياة أخوين. . ساعد الأخ الموظف حتى أستقر في وظيفته، ساعده بتلك الأسوار الذهبية التي سطا عليها من بيت عشيقته ذات صباح، ولولا التضحيات المماثلة التي قدمها لأخيه الضابط لما استطاع أن يسدد أقساط الكلية الحربية، وأن يرتدي الحلة لأنيقة ذات النجمة الصفراء. . ومع ذلك يعيره الضابط الشريف بحياته الشائنة، ويحاول جاهدا أن ينتشله من وهدة الإثم والهوان! لقد انحرف حسن وحاد عن الطريق، ولكنها فلسفة حياة. . وفلسفة الحياة تفرض على أصحابها التضحية في كثير من الأحيان!
أما حسنين، الملازم حسنين كامل علي فقد كانت تضحيته من ذلك النوع النادر في حياة البشر. . كان فتى طموحا منذ نشأته الأولى في (عطفة نصر الله) بحي شبرا، تلك العطفة الحقيرة التي لم تحد من طموحه يوم أن كان تلميذا صغيرا في بالمدرسة التوفيقية! كان طموحا رغم فقره، ورغم حاجته، ورغم البيئة التي نشأ فيها ولم تكن توحي لأحد من أبنائها بأمل الطموح. . إنه يقارن منذ أن صار ضابطا بين يومه وأمسه، فيشعر بهول الفارق بين حاضره وماضيه! هذه العطفة الحقيرة التي شهدت أيام بؤسه وبؤس أسرته يجب أن
تغادرها الأسرة إلى مكان بعيد؛ مكان يسدل الماضي البغيض ستارا من النسيان. . حسبه أن تلك العطفة القذرة قد شهدت أثاث بيتهم وهو يباع قطعة بعد قطعة ليعيشوا على الكفاف. وحسبه مرة أخرى أن تلك العطفة القذرة قد شهدت أخته نفيسة وهي تسعى إلى كسب عيشهم بعد أن كلت قدماها من السير وتعبت يداها من طرق الأبواب. وحسبه مرة ثالثة أن تلك العطفة القذرة قد شهدت رجال البوليس وهم يقتحمون المسكن الذليل بحثا عن أخيه المجرم الطريد. . كل شيء قد فسد يستطيع حسين أن يصلحه إلا شيا واحد
يتعذر معه الإصلاح، وهو أن يهتدي حسن إلى الطريق القويم! لقد استطاع الفتى الطموح أن ينتقل بأسرته إلى مصر الجديدة، وأن يرد إلى نفيسة كرامتها وكرامة الأسرة حين حال بينها وبين الهوان!
وهناك في ذلك المكان الجديد الآمن تنفس حسنين الصعداء. . لقد بدأت الحياة تبتسم بعد طول التهجم والعبوس، حين انقطعت أخبار حسن الذي كان يهدد طموحه وسمعته ونظرته إلى المستقبل كما فكر فيه!
و (بهية)، تلك الفتاة التي أحبها في عطفة نصر الله وخطبها إلى أبوها وهو تلميذ صغير، تلك الفتاة (البلدي) الفقيرة الساذجة لم تعد تصلح لأن تكون زوجة لضابط عظيم. . إن زوجة المستقبل وشريكة الحياة هناك في ذلك القصر الأنيق الذي ذهب إليه (خاطبا) منذ أيام. إنه يريد أن يقطع كل علاقة تربطه بعطفة نصر الله، ولو كان له في تلك العطفة حب قديم، حب قضى بين أحضانه أجمل أيام العمر وأسعد لحظات الشباب!
لقد اختفى حسن، واستقرت نفيسة، وذهبت بهية، وبقى أن يفتح القلب على مصراعيه ليستروح أنسام السعادة التي كان يحلم بها منذ بعيد. . ولكن القدر لا يريد للأسرة البائسة المسكينة أن تستريح، ولا يريد للفتى الطموح الأمل أ، يسعد بأحلامه وأمانيه! لقد هوى بضرباته السريعة المتلاحقة على أحلام العمر فبعثرها مع الريح في كل طريق. . لقد حيل بينه وبين حبه الجديد، حين رفضت الأسرة العريقة المترفعة أن تصاهر ضابطا يتهامس الناس حول أخته ويتحدثون عن أخيه. وحين أفاق حسين من الصدمة الأولى زلزلت
كيانه الصدمة الثانية، حين جيء إلى بيته بأخيه حسن محمولا تنزف منه الدماء، وعليه أن ينتظر اللحظة الرهيبة المنتظرة، حين طرق الباب رجل من رجال الشرطة ليستدعيه إلى
قسم البوليس. حسن! بالطبع ليس هناك غير حسن، تلك السحابة السوداء في أفق ينذر بالغيوم. . وحوله، حوله وحده ينتظره هناك سؤال وجواب!
وفي قسم البوليس وجد أخته الساقطة بدلا من أن يجد استجوابا عن أخيه الطريد. . لقد ضبطت نفيسة في بيت يدار للفساد!! وأظلمت الدنيا في عينيه وضاق الفضاء. . لقد فقد كل شيء: فقد حبه، وفقد أمله، وفقد سمعته وفقد في الحياة القصيرة التي ملاها بالأحلام كل حلم جميل! وأخذ أخته وخرج إلى أين؟ لا يدري فكره ولا تدري قدماه. . إن في أمواج النيل الحانية مثوى لكل بائس شريد منبوذ من الحياة، هكذا قالت له نفيسة حين سألها أن تحدد لنفسها الطريق! ومضت أمامه ومضى خلفها إلى هناك. . إلى حيث يتاح للبائسين أن يعرفوا طعم الراحة بعد طول العناء! وقال الملازم حسنين لنفسه: لقد حكمت عليها بالإعدام فقبلت الحكم وهي راضية صابرة مستسلمة للقضاء. . وما كان أشجعها وهي تستقبل الموت وكأنها تستقبل الزوج الحبيب الذي قضت العمر تفتش عنه في دروب الأمل. امرأة ضحت بأيام الحياة فرارا من قسوة الحياة، وأنت؟ أنت يا رجل ماذا تنتظر؟!
ترى هل كان الملازم حسنين شجاعا حين لحق بنفيسة، أم كانجبانا حين فر من لقاء الناس؟ مهما يكن من شيء فقد كانت تضحيته فلسفة حياة. . وفلسفة الحياة تفرض على أصحابها التضحية في كثير من الأحيان!.
أنور المعداوي
رسالة الفن
الوجودية
(مهداة إلى الدكتور محمد القصاص)
للأستاذ علي متولي صلاح
يكتب الكثيرون عن الفلسفة الوجودية، وعن المذهب الأدبي الوجودي، فيتهمون المذهب بالشذوذ والانحراف عما يقضي به العقل السليم، ويرمونه بأنه انتكاس للطبيعة الإنسانية، ورجوع بها إلى حال الهمجية والبدائية الأولى، وهم في ذلك لم يبلغوا من فهم هذا المذهب شيئا، ولم يدرسوه دراسة تبيح لهم أن ينالوه بهذه المطاعن، والناس - بعد - أعداء ما جهلوا، وهم أسرع إلى الاتهام، وأشد نهضة إلى كلمة السوء!
وكان آخر ما كتب في هذا الصدد تلك الكلمة الفجة المبتسرة التي كتبها الأستاذ أحمد الصاوي محمد في (الأهرام) منذ أيام، فلم يبسط فيها رأيا، ولم يتكلم فيها بشيء عن قواعد المذهب الوجودي ومقوماته، ولكنه أبتدر أصحابه بالإساءة رأسا حين كتب يقول:(هل المخلوق إلا عدما!؟ من ذا الذي يقول ذلك غير زعيم (الوجوديين) جان بول سارتر زعيم ذلك الخليط العجيب من الناس الذين اجتمعت كلمتهم على تقبيل بعضهم بعضا في المقاهي دون أن يعرف بعضهم بعضا؟. لقد شهدت باريس أمس روايته التمثيلية الجديدة (الشيطان والله سبحانه)! ولم يجتمع لرؤيتها أولئك (الحرافيش) الذين ينتسبون إلى أستاذهم؛ وهم في ثياب مهللة مفتوحة، بل اجتمعت طائفة من أشهر نجوم السينما.
والعجيب في أمر هذا المذهب أنه - ولو أن براعمه لم تتفتح بعد - قد تعرض لأذى كثير، وسخرية كبيرة من الناس، ونقم عليه الشيوعيون والبرجوازيون وأصحاب المذاهب المتطرفة كما نقم عليه المواطنون والاستعماريون والمحافظون، ولعنه الكاثوليكيون والراديكاليون الفرنسيون، وأولئك يعادون الكاثوليكيين أشد معاداة! وأتخذ الناس رمز القبيح والسفه، حتى ليروي جان بول سارتر أن سيدة فرنسية غضبها بقولها (يبدو أني قد أصبحت وجودية)!
ولكن أصحابه صامدون لهذا الأذى الذي يتناولهم الناس به، مؤمنون بأنهم يقومون الإنسانية
بأجل خدمة، إذ ينشرون مبدأ (الحرية) والعزة والكرامة الإنسانية، ويبشرون بأن الإنسان هو أثمن شيء في الوجود، وبأنه يجب أن يحيا كريما عظيما حرا.
الوجودية لا تذهب هذا المذهب الذي ألصقه بها الأستاذ أحمد الصاوي في زعمه أنها لا ترى في المخلوق إلا عدما!
إن المذهب الوجودي لا يرى هذا الرأي، وإنما نقيضه تماما، إنه يرى الإنسان هو كل شيء في هذه الحياة، ويراه محور كل هذه الدنيا التي نعيش فيها، إليه يرجع كل عمل، ومنه يصدر كل تغيير أو تعديل لأوضاع الحياة، ومن أجله تقوم التشريعات والتقاليد والنظم، فكيف يراه عدما وهو في رأيه جماع ذلك كله؟
تقوم الوجودية على فلسفة ومذهب في الأدب ينقض كل ما سبق من مذاهب أدبية كالسوريالية
والواقعية والرومانية وما إلى ذلك من المذاهب الصغيرة كالدادية والتكعيبية وسواهما من مختلف المذاهب.
أما الفلسفة الوجودية فتقوم على أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي له كامل الحرية في تكوين
ماهيته على الوجه الذي يراه، وعلى الصورة التي يبغيها، وهو يقوم بذلك قويا قادرا غير خاضع للبيئة والظروف كما تنادى بها نظرية (تين (، ولا خاضع للإطار العام للدولة كما ينادى بذلك (كارل ماركس) الذي يجعل من الإنسان آلة أو أداة في يد الدولة لا أكثر ولا أقل! لا يدور إلا في فلكها، ولا يتعدى تفكيره تفكيرها.
وفي هذه الفلسفة السارترية ما يأباه علينا أيماننا، وليس من بأس أن نتركه ولا نستمسك بأهدابه، ولا على المذهب الأدبي السارتري بعد ذلك من بأس إذا هجرنا الفلسفة السارترية واستمسكنا به، ونبذناها واتبعناه، وإن كان في حقيقته وجوهره مبنيا عليها ومتفرعا عنها.
وأما المذهب الأدبي الوجودي الذي ينادي به جان بول سارتر: فأنه يقوم على ما يسمى (التزام الآداب) ومعناه أن يكون للأدب هدف، وأن يكون الأدب في الحياة عملا إنشائيا إيجابيا في خلق الحياة الفاضلة، وتغيير الحياة السيئة وتطويرها، فالكاتب الذي التزم الكتابة قد حمل نفسه مسئولية عظمى في هذه الحياة، أو على الأصح حمل نفسه أعظم مسئوليات
الحياة جميعا، فهو يكتب لا لتزجية فراغ، ولا لإظهار البراعة اللفظية والمقدرة اللغوية، ولا ليقيم مهرجانات ومواكب من العبارات الموسيقية الخلابة. ولكنه يكتب ليكشف الحياة لنفسه وللناس، ثم ليدعو الناس إلى عمل ما بازاء هذه الحياة، ويدعوهم إلى حبها إن كانت تستحق الحب، وإلى تغييرها إن رآها تستوجب التغيير، وإلى هدمها واقتلاعها من جذورها إن وجدها جديرة بذلك. . فالكتابة - عند المذهب الوجودي - عمل من الأعمال أو قل أنها أهم عمل من أعمال الحياة، وعلى الكاتب تقع مسئولية ما في الحياة من عوج وشذوذ وفساد أول ما تقع، والكلمات عند سارتر إنما هي أسلحة نارية، ومن تكلم أو كتب فقد أطلق هذه السهام، والكاتب مسئول عن الحياة اليومية الواقعية للناس وللوجود ومن هنا كان اشتقاق أسم المذهب الذي يشارك في الوجود وفي الحياة مشاركة فعالة، منتجة مغيرة، هدامة في بعض الحالات، والكتاب مشتركون، أو هم قادة للجهاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الحياة التي يعيشونها، وعليهم أن يعرفوا ذلك تماما، وأن يفرضوا لمل يكتبون أوسع انتشار وأعظم دوى وأبعد صدى.
والوجودية - في تحميلها الكاتب كل هذه المسئوليات - إنما تلتمسها من الحرية العريضة التي تفترضها فيه، إنها تفترض فيه حرية شاملة كاملة لا يحد منها شيء، حرية لا تغشاها مثل ومبادئ سابقة، ولا تقهرها ظروف أو بيئة، فالكاتب الحر قدير على أن يهزم هذه الظروف ويرتفع على تلك البيئة، ولا تحدها وطنية ضيقة، فالكاتب الوجودي لا يقف عند حدود وطنه، بل يتعداه إلى دفع الظلم أيا كان موطنه، ومحاربة الفساد في أي مكان يراه، فسارتر مثلا دافع عن الزنوج وأنتصر لهم على الأمريكان في روايته المسماة (القحبة الحفية) التي قام بترجمتها الكاتب الوجودي المصري (الدكتور محمد القصاص) والتي نرجو أن ينشرها على الناس حتى يتعرفوا بحق بعض المبادئ الإنسانية العالية التي ينطوي عليها المذهب الوجودي.
والوجودية تطلب إلى الكاتب ألا يهرف في الهواء، ويرثى الحريات المضيعة، ويبكي الظلم في الحياة، ويذرف الدمع سخينا على خلو الحياة من العدالة وما إلى ذلك. إن الوجودية لا تعرف هذا النواح في الهواء الطلق، ولا البكاء في الخلاء العريض، ولكنها تطلب إلى الكاتب أن يحارب ظلما بعينة واقعا من ظالمين بأعينهم، عل مظلومين بأعينهم! إنها تطلب
إلى الكاتب أن ينظر حواليه، فإن وجد ظالما أخذ بتلابيبه وحاربه حربا لا هوادة فيها ولا رحمة، فإن سكت الكاتب عن ظلم يراه ويشهده فقد خان الأمانة وخرج - بسكوته عن محاربة هذا الظلم - على قواعد المذهب الوجودي الصحيح.
والوجودية تطلب أن يكون الناس متفقين مع أنفسهم، صادقين معها في السر والعلن، يحملون
مسئولية ما يفعلون، ولا يتنصلون من عمل يعملونه، وألا يكونوا أوغادا منافقين يصنعون ما يطلبه إليهم ذلك الشاعر الذي يقول: فالبس لحال جديدا=والبس لآخر رثا!
تلك هي الخطوط الرئيسية جدا، للمذهب الوجودي، قصدنا بها إيضاح حقيقة المذهب وإن كان إيضاحا يسيرا قصيرا. وما أحرانا نحن المصريين أن نستمسك بأهداف هذا المذهب، فالفساد عندنا مستشر، والنفاق عندنا عام مشترك، والحريات عندنا مضيعة مهدرة. وما أحرانا - قبل ذلك كله - ألا نخوض في حديث لم نسير غوره، ونتعرف - بعد - وجه الرأي فيه، كما يفعل أولئك الذين يعيبون المذهب الوجودي. وأغلب الظن انهم لا يعرفون منه إلا أسمه.
علي متولي صلاح
الكتب
أسرار النفس
تأليف الدكتور أحم فؤاد الأهواني
للدكتور زكي المحاسني
أحب أن أعرب عن خواطري في تأليف الفلسفة الحديثة. فإن كثيرا من كتبها في السنوات الأخيرة كان مترجما إلى العربية من اللغات الغربية، أو مقتبسا أو مصنوعا للطلاب يتدارسونه في معاهدهم. ولم أجد سوى القليل من كتب الفلسفة بمعناها الصحيح الذي يكون دراسة للفكر والشعور، وفيضا للتأمل، أو حكما على المجتمع، وتجربة ذاتية للمؤلف.
من هذا القليل المنشور كتاب (أسرار النفس) للدكتور أحمد فؤاد الأهواني. ولقد شعرت وأنا أقرأ هذا الكتاب أني أعيش في عالم فلسفي مع الفلاسفة، فرحت أجول في صفحاته وآرائه بنظري وعقلي. وكانت نفسي تنجلي كما مضيت شوطا في القراءة والتأمل. فما أجمل أن نقرأ صور العقول مرسومة على الصفحات يخاطبنا أصحابها بسديد من آرائهم، ويزجون لنا بمناظر من نفوسهم.
كتب الدكتور الأهواني كتابه هذا بروح فلسفة مجربة. فليس هذا الأثر مدرسيا صنعه من أجل طلابه وتلاميذه وإنما جعله مرآة يستطيع كل مفكر أن يرى فيها نفسه، وأن يتلمس عندها حسه. إنه تجارب بسيكولوجية، وتأملات فلسفية صافية في الكون والفساد، والحياة والمشاعر، وفي وصف الأحاسيس، والتشريح الروحي.
مضيت فيه شوطا أستكشف معاني لمسي وشمي، وأسبر أعماق ذوق وسمعي، لأجد عوالم لا تنتهي.
ومن حظنا - مع فنائنا على الأرض - أن نمرح قليلا في تفهم كوننا الذاتي، ومعرفة أنفسنا؛ لنعلو على طبقة الحيوان الأعجم. وجميل بالفيلسوف البصير أن يدلنا على نفوسنا دلالة محكمة، ويمضي بنا وهو حامل مصباحه الوقاد ليبدد لنا في ظلمات نفوسنا أغوارها الدامسة.
ما أقدر الدكتور الأهواني على ربطه الذوق بالشم، وما أجود فلسفته التي ركبها على محور
نصبه بين الإذن والعين. العين هذا الإبداع الإلهي الذي تجلس من حواليه كل عدسات المناظير وهي حيرى في تكوينه حسرى عاجزة عن مجاراته. كذلك كان المؤلف الحكيم يربط بين خلجات الأنفس ومشاعر الوجود، داخلة إلى دنيانا الروحية من مسالك السمع وشقوق النظر. وحين تبحر في تفصيل الذوق ذكرني بقولة قالها فولتير وهي:(أستاذك ذوقك) وقد تناول في هذا الفصل ذوق اللسان وأذواق الأرواح.
ومن هنا تتجه فلسفة هذا المفكر الأديب اتجاها اجتماعيا ينساب إلى أذواق الأقوام في طعامهم
ومعايشهم. وهل كان أجدى على الناس من البحوث التي تتناول روح الجماعات في ذوقها وحسها. وحين فرع من بابه الذي سماه: (عل الدرب) استطعت أن أعرف منهجه في التأليف. فهو يطرح الموضوع طرحا، ثم يطرقه من أطراف شتى ليستنتج من حقائق في البشر والوجود، يصوغ منها عظات بالغات، ثم يطبق آخر الأمر أحكامه عل بلده وقومه فينقد ويوجه أو يفند. فهو بذلك مفلسف أو مصلح.
وأراني أنظر في فصول بكتابه لها لون آخر، ولا سيما الفصل الذي فيه انتقال الفكر من إنسان إلى آخر. وهذا هاجسه يعجبني فقد جربت أن أنقل ما يدور برأسي إلى أناس معي، فكنت أصيب قليلا وأتعثر في الخطأ كثيرا. وقفت مرة على جزار في دمشق فرأيت المنوم الدكتور سلمون يشتري لحما. وكان مبلا من مرض، وأعصابه مكدودة. فلم أشأ أن أمازحه بشيء من التأثير الفكري فما كدت أقف قريبا منه دون أن يراني حتى ألتفت إلي وقال:
لا تشفق علي فأني أستعيد قدرتي على قراءة الأفكار قد عرفتك الساعة في انهدام نال لأعصابي فتزهد في مزاحك.
وخرج الدكتور الأهواني من انتقال الأفكار إلى السحر الذي يعرفه العامة في مصر، فساق شواهد من سحر الأقدمينمسحوبة إلى عصر المحدثين، ثم أجال الطرف في شجون الروح وشؤونها وانتقالها وتعبيرها، حتى أوشك أن يحطنا حول مائدة خشبية تنقر الروح عليها نقرات هي رموزها الغيبية. ثم ألزم بحثه هذا مبضع نقده فشق به شعوذة المشعوذين، وكذب الدجالين. وجرى هذا البحث الأسطوري إلى بحث آخر هو أعلق بالحياة وأعلى، هو الاتصال الروحي وقديما قيل:(بين الروح والروح سبيل).
قلت في مستهل الكلام إن الدكتور الأواني فيلسوف مجرب. ففي كتابه كثير من الشواهد التجريبية. وكان خير المتفلسفة أهل التجارب. . وفي كل إنسان مقدرة على هذا الاتصال الروحي تبدو فيه قوية أو ضعيفة، ويعوزها الصفاء، فكلما صفت خواطرنا، ورقت نفوسنا؛ اتصلنا بأرواحنا، وهفا بعضنا إلى بعض ولو كان بيننا ضيق السدود. ولقد سمعت بعض الصوفيين يعزى في الحب نفسه ويقول:
- إلى لأعشقها من غير أن تعلم بي
ثم سدد بطرفه شطر الأفق وقال:
- لا أطمع بوصال، حتى الزوال
كنت عصاري يوم في القاهرة منذ ثلاث سنين، مزمعا من الغداة عودة إلى دمشق، وبي شوق ولهفة إلى رؤية صديق فقلت لابد من ذلك قبل السفر. وانطلقت لأبحث عنه في الدروب وإذا بي أيلقاه في غير مشقة بناصية (عماد الدين) فابتدرني بقوله:
- والله خشيت سفرك دون أن أراك، فأنا الساعة أبحث عنك.
ويأبى على فيلسوفنا المؤلف طبعه فلا يفوت على قراءه ولا على نفسه بحثا هو اليوم من أطرف بحوث الفلسفة المعاصرة؛ ذلك كلامه على الأحلام. وكنت أن أوثر أن يتفرغ هذا الصديق إلى كتاب يصنفه في قضية الأحلام عند المسلمين والمفسرين كابن سيرين وأضرابه. وكيف تطورت الأحلام في الفلسفة الحديثة حتى صارت من أروع البحوث في التحليل النفسي عند الفلاسفة الفرويديين.
ومنذا الذي خلا ليلة من حلم. إننا لنرقد جميعا مثل الأطفال، وحين يسيطر علينا الكرى بسحره الأزلي ويطرحنا في المضاجع هناك ترف على جفوننا رؤى لا حد لها. رؤى زاهية التلوين، أسطورة التكوين، منسوجة من خيوط جنية. ونستفيق بغتة فلا نعلم لها سببا. تفر من أيدينا بمباهجها ونعيمها وجمالها الإلهي الذي لا مثيل له في الوجود. فإذا حلمنا بخير وددنا لو كان حقا، وإذا رئينا في المنام شرورا فزعنا في اليقظة فحمدناها أن لم تكن الشرور جاثمة في الحقيقة.
تلك أسرار في نفوسنا. فمن يدلنا عليها؟. لقد صنع جميلا المؤلف الأهواني في أن يعرفنا بأنفسنا، ويغوص بنا على أسرارها الرهيفة، فكان كتابه أحد ذخائر العصر في علم النفس
الحديث. سأقول له حين ألقاه:
- لقد أدخلتنا إلى بيوت أنفسنا. وفي نفوسنا مجال لمنظر لا ينتهي التطلع إليه مدى الحياة. .
فإذا بدأت كلامي على إيثاري لفلسفة التجريب أعجبت لخواتم المؤلف في كتابه حين ورد كلامه على العداوة والمودة فلم يقع في نقص القادرين على التمام؛ وأعان ببراءته على ردنا إلى نفوسنا - وقد تركناها - وكان له أسلوب المحدث المتبسط، وقلم الكاتب المترسل. وحين انتهت من قراءة كتابه ذكرت من أجله معجزة القرآن الكريم في آيته النفيسة التي يقول فيها:(وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
القاهرة
زكي المحاسني
الهوامل والشوامل
لأبي حيان التوحيدي
تحقيق الدكتور أحمد أمين بك والأستاذ السيد صقر
من الشخصيات التي أضافت إلى تراثنا الأدبي والفكري ثروة يعتز بها تاريخنا الأدبي؛ والفكري - أبو حيان التوحيدي - فقد رزقت هذه الشخصية من القدرة في الأداء الفني الجميل. والتحليل النفسي العميق وإبداع، آيات فنية لا تزال ترف نضارة على تتابع العصور. لقد وثب فن الأسلوب عل يدي - التوحيدي - وثبة لم يستطعها غيره من كتاب النثر الفني القديم، وبلغ أسلوبه من الصفاء والعمق ما ممكن له من أن يحتل الذروة بين أصحاب الأساليب. ولكن هذه العبقرية قد قست عليها الأقدار فأستهدف صاحبها في حياته بألوان قاسية من البلاء الذي أصابه في رزقه وفي مكانته، ولاحق تراثه بعد خلا وجه الحياة منه فأحال بينه وبين الحياة. وظل هذا التراث يعاني مرارة الإهمال؛ وظلم التشويه هذا الأمد الطويل؛ فإذا ما رزق - أبو حيان - من ينقذ آثاره؛ ويخلصها من بطش الظلم؛ وبراثن الموت؛ وينفض عنها غبار القبر؛ فقد رد للحياة الجانب الخالد من شخصية الرجل
العبقري. وكانت يد للدكتور - أحمد أمين بك - في نهوضه بنشر آثاره، والعناية بإصلاح ما أفسده الدهر من كيانها، وشوه من معالمها؛ حتى شق على النظر إدراكها. وما أشقاها من مهمة لا يدرك ما فيها من صعوبة، وما تتطلبه من جهد لا يقوى عل تحمل أعبائه إلا من كان ذا عزيمة لا تنهى؛ وثقافة أدبية؛ ولغوية واسعة وعميقة. وليس هذا مما يتأنى للكثير. وكتاب - الهوامل والشوامل - أثر من آثار - التوحيدي - الناضجة الحية. وهو يدور على كثير من الأفكار التي كانت سدى ولحمة النسيج الفكري والأدبي، في بيئة - التوحيدي - وعصره. وقد أخذ - التوحيدي - يعرض هذه المشاكل الأدبية والفكرية ويجيب عليها - مسكوبة - فالكتاب من هذه الناحية مرآة تعكس أمام أنظارنا التيارات التي كانت تسود هذه البيئة. والكتاب بعد وثيقة تاريخية إذ هو يصور لنا مرحلة من مراحل تفكيرنا الأدبي والعلمي. وهو آية من آيات النثر الفني من حيث الأداء والتصوير وللأستاذ - أحمد أمين بك - حسنة لا تجحد بتهيئة الميدان للأستاذ - السيد صقر - وإفساح الطريق أمامه ليتمكن من أ، يستغل مواهبه وثقافته في هذا الميدان الذي شب وترعرع مولعا به؛ معتزا بالسير فيه. فكنت تراه وهو لا يزال في مطالع بواكير حياته الأدبية يعكف في - دار الكتب - الساعات الطوال بين المخطوطات القديمة يقرأ: وينقل؛ ويستوعب؛ وكانت الثمرة الأولى لهذا المجهود - تحقيق - ديوان - علقمة الفحل - والأمل وطيد في انتظار الآثار التي يقدمها هذا الجندي في ميدان يشفق الكثيرون من اقتحامه، وهو ميدان نشر ترثنا نشرا علميا دقيقا.
محمد عبد الحليم أبو زيد
دبلوم في التربية وعلم النفس
البريد الأدبي
الرعايا هم العبيد:
أصدر الأستاذ خالد محمد خالد كتيبه الثاني (مواطنون لا رعايا) والكتيب - كما يتضح من عنوانه - إحدى صرخات الأستاذ في سبيل تصحيح الأوضاع الاجتماعية في هذا البلد.
وكان طبيعيا أن يستقر هذا الكتيب في كل يد، وأن تلتهم سطوره كل عين، وكان طبيعيا أيضا أن تلقفه أيدي الأفاضل من علماء الأزهر، ولا عجب، فالأمر أمس بهم وأدنى إليهم، فالمؤلف عالم آثر الانطلاق والتجديد، على التقيد والتقليد، وأباح لعقله وفكره أن ينطلقا من إسار المتون والشروح، والهوامش والحواشي إلى فضاء المجتمع العريض، فعينه تقع على كل دقيقة فيه، يرى بعض الناس كل الناس، ومن بقى هملا، قطعانا تسعى إلى ساقط العيش، وترقى إلى أدنى الرزق، وما هي بمالئة منها بطنا، ولا قريرة بها عينا، بل سابغة لاغبة، واجفة خائفة، لا ترى فيما حولها هدوءا ولا أمنا، فأنى لها أن تحسن الظن؟ أنى؟!
وتعرض الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المتعال الصعيدي في العدد رقم (936) من الرسالة الغراء للكتيب - أو بعبارة أدق لعنوانه - بالنقد؛ وكان كل ما أخذه على الكاتب أنه لم يكن موفقا في اختيار كلمة (رعايا) لأن المعنى الذي سيقت إليه في الكتيب هو الذل والعبودية، وهذا يخالف معناها في كتب اللغة والحديث! والذي وقع فيه حضرة الناقد، عين ما أراد المؤلف نفسه على أن نتخلص منه، وننفر عنه. .
لم يبحث الأستاذ الناقد عن معنى الكلمة في قاموس المجتمع الذي يلفظ أنفاسه، تحت لذعات السياط، وركلات الأقدام، ولا في هذه المزق تشدها إلى بعضها مسكنة تستسلم سريعا لعوامل الفناء، فوق أجساد عجاف!
ولا بين هذه الأكوام الآدمية التي تحظى دائما بامتهاد الفرش الوفيرة على جوانب الشوارع، حشوها (الزلط والأسمنت والقار) وتسعد دائما بالتحاف الطبقات الرقيقة الرفيقة من نسائم الليل، تداعب أوصالا تتداعى في إلحاف إلى الانحلال والفرقة!
لم يبحث الأستاذ الفاضل عن معنى تلك الكلمة بين ذلك كله، ولكنه آثر أن يبحث عنه في (القاموس) و (النهاية) و (المصباح المنير)! وهكذا ظن حضرته أنه قد أمسك بخناق المؤلف، وورطه وأحرجه أيما توريط وإحراج! وهو بعد ذلك وقبل ذلك ينحى على الكاتب
باللائمة أن صرف وجه عن هذا المعنى القاموسي، فهو لذلك مخطئ، وخطؤه غير مغتفر، لأنه عالم باللغة، عالم بالدين، لاشك أن الأستاذ الصعيدي لم يدفعه إلى لومه هذا إلا حبه للأزهر وحرصه على سمعته وسمعة علمائه، خشية أن يتمسك الناس بأخطائهم وهم الذين تفترض فيهم الإمامة.
ومع ذلك فالمؤلف غير مخطئ، وعنوان كتيبه، عنوان الصواب. هو لم يشأ أن ينطلق إلى كتب اللغة يستوحيها معنى كلمته، لأنه يعلم أن هذا هو مدخل البلاء على الأزهر. .! فعلماؤه ينفصلون تماما عن الحياة حولهم وما يعتريها من تطور وتغير، ويؤثرون أن يعيشوا في أجوائهم الخاصة.
ولكنه طفق يبحث عن معناها بين الشفاه التي قددها الجوع، والحلاقيم التي جففها الظمأ،
والضلوع التي أيبستها وطوحت بها أعاصير الداء، لا مقادير الفضاء. .!
طفق يبحث عن معناها بين هذه المواكب الحافلة بالبؤس والمذلة والشقاء، والتي أطلق عليها سلفا وجهلا أنها رعية ترعى وشعب يساس.
أليس في الأولين يختصون بنصيب من حسن التدبير وحسن الإشراف، وجميل العناية، وأن الآخرين أقل من أن يقبل عليهم برعاية، وأدنى من أن ينظر إليهم بإمعان. .؟
فأين هذا التدبير الحسن، وتلك العناية الجميلة. .؟
أهما في أن تجوع وتعرى أجساد وأكباد، وأن تلهو وترتع أفراد وآحاد. .؟
أهما في أن تقتات الملايين شر القوت، وتسام جدب المرعى، وأن تكتظ معد العشرات بدمائهم وعروقهم ودموعهم. .؟
أهما في تلك الجحافل الساعية ليل نهار تسأل وتستجدي. .؟
أين يا سيدي اللقم السائغة للمنكوب والمنكود. .؟
أين الكسوة السابغة للمعروق والمكدود. .؟
أين الجرعة الصافية للمتعوس والمطرود. .؟
إن الرعايا في مصر هم العبيد، والعبيد في مصر هم الرعايا، وأنف كل قاموس راغم. .!
أحمد قاسم أحمد
بيني وبين قرائي
تفضل الزميل الصديق الأستاذ عباس خضر فأشار في كشكوله منذ قريب، إلى أن بعض القراء قد سأله عن كاتب هذه السطور وسر انقطاعه عن الكتابة. . ولقد أفصح الزميل الصديق عن سر هذا الانقطاع بما لم يعد الحق والواقع.
أنني أكتب هذه الكلمة لأؤكد لحضرات السائلينعني ممن كتبوا إلى الأستاذ عباس وإلي، أن ما وقع في ظنهم حول صلتي بالأستاذ الجليل صاحب الرسالة، كان أبعد من أن يطيقه منطق الصلاة الروحية والودية بين الخلص من الأصدقاء!
لقد انقطعت عن الكتابة لأدفع إلى المطبعة بكتابين، شغل أولهما وقتي بين تقديم الفصول ومراجعة الأصول، وشغل الأخر قلمي بين التفكير والتحرير. وبعد أيام سيكون الكتاب الأول بين أيدي القراء، أولئك الذين طالما كتبوا إلي راغبين في إصداره. أما الكتاب الثاني فسيكون بين أيديهم أيضا في الغد القريب.
ولا يسعني بعد أن عدت بقلمي إلى هذا المكان الحبيب، إلا أن أبعث بشكري خالصا إلى كل من كتب إلى مصر والبلاد العربية، معبرا عن صادق الود وخالص الوفاء.
أنور المعداوي
مستقبل الثقافة في مصر
قرأت في العدد 936 من (الرسالة (الغراء أنه تألفت في مصر شعبة قومية برياسة معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف العمومية لدراسة المسائل المهمة في ميادين الثقافة والتربية والعلوم، ودراسة أحوال البلاد في هذه الميادين وتقديمها إلى الجهات المختصة لتنفيذها أو الاستفادة منها. وأن مجرد التفكير في مثل هذا الأمر في الوقت الحاضر ليدل دلالة واضحة على أن معالي الوزير الجليل رأى بفكره الثاقب أن يمهد لمستقبل الثقافة في مصر طريق الازدهار بتأليف هذه الشعبة للتخلص من أنانية الحياة العقلية في مصر وجمودها.
ولا شك أن هذا رأى سديد ينطوي على إحساس صاحبه العميق بخطورة المجاعة العقلية التي يرزح الشعب تحت أعبائها البغيضة في النصف الثاني من القرن العشرين. وأنا لنأمل أن توفق الشعبة القومية في تحقيق الأغراض النبيلة التي تألفت من أجلها. وفي الواقع أن
الحياة العقلية في مصر الآن تعاني مشكلة من أكبر المشاكل، وهي أنها حياة الخاصة وليس للعامة حياة عقلية بالمعنى الحقيقي. ونحن إذا أردنا النهوض بالشعب المصري وجب أن يصل نور العلم والمعرفة إلى عقول الفلاحين والعمال قبل أن يصل نور الكهرباء والماء النظيف إلى أكواخهم ومساكنهم. وإذا أردنا أن يصل نور العلم والمعرفة إلى ملايين العقول المظلمة،
وجب أن نبدأ أولا بإصلاح البيئات العلمية والمناطق التعليمية إصلاحا شاملا يتناول الأشخاص والأدوات والمناهج والأساليب لتؤدي رسالتها على الوجه الأكمل في قوة وصراحة وإخلاص، لأن البحث عن أثر هذه البيئات طوال الثلاثين عاما الأخيرة في حياة الشعب الاجتماعية يثبت أن المجهود الذي بذلته في ذلك السبيل أفضى إلى نتائج خطيرة مفزعة: إلى الفقر والجهل والمرض، إلى الضعف والخلف والتخلف، إلى اللهو واللعب والتحلل، إلى غير ذلك مما نشكو منه ونتوجع.
محمد يوسف الغزالي
القصص
دموع صغيرة
للأديب محمد أبو المعاطي أبو النجا
كان (رأفت بك) يغادر المحطة واضعا يديه في جيوب معطفه الصوفي الثمين وقد رفع ياقته حتى تلتف حول عنقه، فقد كان الجو شديد البرودةوالريح سريعة الهبوب. . وكان بين آن يلتفت خلفه يستعجل الحمال الذي يحمل حقيبته بكلمات مقتضبة. وكان الحمال أو بعبارة أدق الصبي الذي يحمل الحقيبة في الثامنة من عمره؛ وكان يعدو خلفه بخطوات سريعة وهو يشعر بنشوة تدفئ جسمه وتسعد خواطره. . فهو يأمل خيرا في ذلك الأفندي الأنيق. . سيعطيه ثلاثة قروش من غير شك؛ فمظاهر الثراء التي تلوح عليه تحمل (حسونة) على أن لا يتنازل عن هذا المبلغ، وهو مبلغ لا بأس به. سيستطيع أن يشتري (سندوتش) بقرش ويذهب بالباقي إلى السينما وهكذا يكون مثل محروس الذي لا يفتأ يفخر عليه بأنه يذهب إلىالسينما، ويشاهد (الشجيع) وهو في إمكانه أن يجمع نقودا كثيرة ويذهب بها إلى السينما كل مساء مثل محروس، لولا أن بقية الحمالين يسبقونه إلى أمتعة الركاب فهم أقدر منه على السير وسط الزحام، وهم أبرع منه في ركوب القطار أثناء سيره فيقومون بتنزيل أمتعة المسافرين، وبذلك يكون لهم حق المساومة فيها وهكذا يبقى هو تحت رحمة الظروف. وقد أوشك اليوم أن يمضي دون أن يحمل شيا لأحد لولا أن ساقت إليه الأقدار ذلك الأفندي الأنيق الذي ينزل من القطار دون أن يساعده أحد في إنزال حقيبته. هو الآن سعيد من غير شك؛ ففي إمكانه شراء (السندوتش) وما دام الوقت عصرا فيمكنه أن يكتفي به عن العشاء، وفي إمكانه أيضا أن يذهب إلى السينما فيرى (الشجيع) ويتعلم منه كيف يقفز إلى القطار أثناء سيره، وكيف يشق طريقه وسط الزحامببراعة وقوة، بل كيف يتغلب على محروس نفسه حين يساومه على حقيبة أحد المسافرين.
أليست هي تلك الأشياء التي تعلمها (محروس) من (الشجيع) والتي يفخر بها دائما على (حسونة)؟. . .
وكفت طيور أحلامه عن التحليق حين وقف (رأفت بك) أمام محل بيع لعب الأطفال؛ فقد نسى لكثرة مشاغله أن يشتري شيئا منها لأبنائه من القاهرة، وهو لا يستطيع أن يدخل
عليهم بدون أن يحمل لعبهم المفضلة. . ووقف (حسونة) يتأمل اللعب في سذاجة الأطفال، ويبدو أنها قد أعجبته إلى حد كبير فقد نسى أن يضع الحقيبة عن كتفه أثناء شراء اللعب!
وسار (رأفت بك) من جديد يتبعه (حسونة). . ولكن خواطره في هذه المرة كانت تختلف تماما عن ذي قبل. . إن الطفل الراقد في أعماقه. . الطفل المستتر خلف هذه الثياب الخرقة التي مزقتها أنواء الحياة. . الطفل الذي قست عليه ظروف المجتمع فحرمته لعبه حين حرمته أبويه. . هذا الطفل قد تنبه فجأة ليهتف بحق ضائع، حق ضاع في غمار ذلك المجتمع الذي تضيع قيه حقوق اليتامى والمشردين. . وهتف في صمت: ما اجمل اللعب وما أجمل. . وما أجمل أن تكون له إحداها!
واستقرت نظراته على حصان من المطاط جميل يحمله (رأفت بك) فيما يحمل من لعب. ما أروع أن يكون هذا الحصان له؛ إذن لواصل النفخ في ذيله المثقوب حتى يكبر ويستوي حصانا كاملا؛ ثم يضعه أمامه ويتأمله بعين فرحة هي عين طفل!
ليت ذلك الأفندي يعطيه إياه بدلا من أجرته؟ وهم بأن يسأله ذلك لولا أن تذكر فجأة أن ثمنه أكثر من أجرته. .
واستولت عليه الدهشة حين أعطاه (رأفت بك) جميع اللعب ليحملها بدلا عنه. . لم يخطر بباله مطلقا أنه فعل ذلك ليتسنى له وضع يده في جيب معطفه، وإنما تسائل في حيرة أتراه أدرك رغبته في التفرج على اللعب؟
أتراه فهم تلك الرغبة من نظراته القلقة التي كانت تتردد بين اللعب والطريق منذ غادر المحل؟ مهما يكن من شيء فهو سعيد ما دامت تلك اللعب ملء حضنه الصغير، وما دام ذلك الحصان قد وجد في يده يتحسس جلده الناعم في شغف كبير!
كانت تلك هي المرة الأولى التي تمنى فيها (حسونة) أن يطول الطريق! وكانت تلك هي المرة الأولى أيضا التي مضى فيها الطريق بسرعة!
وكان حسونة يشعر بضيق نفسي غامر حين ضغط (رأفت بك)(زر) الجرس الكهربائي في شقته وانفرج الباب عن وجوه صغيرة غضة كانت تستبق إلى رأفت بك، فهذا الصغير يطوق عنقه في لهفة، وذاك يثب على كتفيه في مرح، وذلك يهتف في غبطة: ماذا أحضرت لنا يا بابا؟
وهنا التفت رأفت بك إلى الحمال الصغير ليأخذ من اللعب، وهنا أيضا كان (حسونة) لمشاعر مختلطة مبهمة بدت حيرة في عينيه واستحالت وجوما عل شفتيه، مشاعر لم يتضح منها في خاطره غير تلك الرغبة الملحة في أن تكون له لعبة كهؤلاء الأطفال أليس هو مثلهم؟ بل إن فيهم من يكبره!
وانحسرت موجة المشاعر المختلطة عن عواطفه حين أعطاه (رأفت بك) قطعة فضية من فئة الخمسة قروش حدق فيها ببلاهة ثم قال له ليس معي (فكة) يا بك. . ولكن ألبك الذي تأثر بوجومه وانقباضه قال له في عطف وهو يربت على كتفيه
- كلها لك يا شاطر. . .!
وضم حسونة يديه معا على القطعة الفضية وجعل يتأمل وجه الأفندي الأنيق بذهول ثم تمتم بعبارات متقطعة. .
- ربنا يخليك يا بك. . .
وسار في الطريق من جديد. كان شيء واحد هو الذي يتمثل في خاطره، الحصان الجميل. . . وكان سؤال واحد هو الذي يلح عليه
- ماذا يمنعه ألان من شراء الحصان. .؟
ومضت لحظات قصيرة كان بعدها يمسك بحصان المطاط ويضع ذيله المثقوب في فمه الصغير وينفخ فيه بملء رغبته. . حتى إذا أستوى حصانا كبيرا جعل يتأمله في مرح طافر. ثم طاف بذهنه خاطر جميل: لماذا لا يذهب إلى المحطة ليتفرج عليه صاحباه (عطوة) و (أمين)؟ ولماذا لا يريه لمحروس؟ ويزهى عليه به!
وجعل يعدو تجاه المحطة وكله فرح سعادة. وبعد حين من العدو تقاربت خطواته وبدأ يتمهل في سيره. كان يشعر بأنفاسه تتلاحق، وبأعصابه توشك أن تتفكك، وبعينيه يكاد أن يختنق فيهما النور. . كان هناك إحساس آخر بدء يشعر به؛ إحساس لم يراوده منذ حين. . مرة مع الأفندي الأنيق ببائع اللعب. . إحساس بالجوع. .!!
ونظر حسونة إلى الحصان في ضيق هائل وانهال عليه بأسنانه يمزقه ثم ألقى به بعيدا في غيظ
وتابع خطواته المتخاذلة تجاه المحطة وهو يذرف فصت حزين دموعا صغيرة!
محمد أبو المعاطي أبو النجا