الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 940
- بتاريخ: 09 - 07 - 1951
كشف أدبي مهم:
ترجمتان لقصة (المعراج)
أحدهما لاتينية والأخرى فرنسية
للمستشرق الإيطالي أمبرتو ريزيتانو
الأستاذ بجامعة فؤاد الأول
من المعروف أن دانني ألجيري شار إيطاليا العظيم الذي عاش فيما بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر - قد وضع ملحمة فذة هي (الكوميديا الإلهية) التي تعتبر أنضج ثمار الآداب الإيطالية، ولعلها أسمى تحفة فنية ظهرت حتى الآن، وقد ترجمت الكوميديا الإلهية إلى جميع لغات العالم، كما نقلت نثراً إلى اللغة العربية، أو بالأحرى لخصت في هذه الترجمة العربية رحلة دانتي إلى الجحيم والأعراف والجنة.
وكثيراً ما نقب العلماء والباحثون أثناء القرن الماضي عن المصادر التي استقى منها دانتي فكرته في وضع الكوميديا. وطالما تساءل المهتمون بالدراسات الخاصة بالشاعر الإيطالي ومعاصريه من الكتاب عما إذا كانت فكرة دانتي في ملحمته مبتكرة أو مقتبسه. ولقد مضت على ذلك سنوات دون أن يتقدم هذا البحث تقدما مرضياً، ودون أن يتعدى الأمر مرحلة الترجيح. وذلك لأن الباحثين لم يكن في استطاعتهم أن يحصلوا على البراهين القاطعة في هذا الموضوع. أما في أوائل القرن العشرين فقد تطورت الأبحاث الخاصة بالمصادر التي استقى منها دانتي فكرته، وتمت بفضل مجهودات المستشرق الأسباني آسين بلاثيوس الذي أخرج إلى الناس في سنة 1919 بحثا قيما عنوانه:
أي (العقيدة الإسلامية في الكوميديا الإلهية) فلما ظهر هذا البحث كان له وقع عظيم في نفوس المهتمين بالدراسات الدانتية، ولا سيما أولئك الذين لا يشكون في أصالة فكرة الشاعر الإيطالي. ولقد امتاز بلاثيوس في هذا المؤلف بدقة التحليل والتعليل على عادته في كل ما بحثه وكتبه أثناء حياته من البحوث العلمية الخاصة بالاستشراق. وكان بلاثيوس يعتمد في بحثه هذا على تبحره في دراسة الفلسفة العربية والعقيدة الإسلامية، وبصفة خاصة على
إلمامه الوافي بكل ما يخص النشاط العلمي والثقافي في بلاد الأندلس في الوقت الذي التقى فيه الشرق الإسلامي والغرب المسيحي التقاء أدى إلى ازدهار رائع في الآداب والفنون والعلوم.
هذا وقد أشار بلاثيوس في مؤلفه إلى ما بين الكوميديا الإلهية والعقيدة الإسلامية الخاصة بالبعث والقيامة وخلود النفس من تشابه وتقارب، كما أشار إلى ما في الكوميديا الإلهية من صلة بالحديث المعروف عن قصة (المعراج).
أشار بلاثيوس إلى هذا كله إشارة وافية. ومن فرط افتتانه بالموضوع الذي استهواه وتملكه نسب إلهام دانتي في وضع منظومته الخالدة إلى المفكر الصوفي ابن عربي الأندلسي الذي عاش في القرن الثالث عشر. وسرعان ما استفاض الحديث عن هذا البحث واتجهت إليه أنظار المهتمين بالموضوع الذين انقسموا كما هي العادة في مثل هذه الظروف إلى فريقين: فريق أيد نظرية بلاثيوس وفريق عراضها، وظل الفريق المعارض غير مقتنع باستنساخ الباحث الأسباني القدير على دقتها ولا موافق على آرائه بالرغم من دلالتها على علمه المتين وثقافته الرصينة. والواقع أن بحث بلاثيوس كان بضعفه عدم الإشارة إلى السبل التي وصل منها الأفكار الإسلامية إلى دانتي، وذلك لانقطاع الصلة المباشرة بينه وبينها، وكان الأولى أن يشير بلاثيوس إلى تلك النصوص الإسلامية الأصيلة أو المترجمة التي لابد أن يكون دانتي قد اطلع عليها قبل وضع منظومته إذا صح أنه استلهمها من العالم العربي الإسلامي كما أكد بلاثيوس. وبعد معركة حامية بين الفريقين المؤيدين والمعارضين لكثرة ما أثاره هذا البحث من اختلاف الآراء وافتراق الأهواء؛ خيم السكون على هذا الموضوع مدة من الزمن دون أن يصل الفريقان إلى تسوية ما بينهما من اختلاف، ودون أن يقتنع فريق برأي الفريق الآخر.
ظلت الأمور على هذه الحال حتى نشر المستشرق الإيطالي مونيري دي فيبار في عام 1944 مؤلفا هاما عن دراسة الإسلام في أوربا أثناء القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ولفت واضعه أنظار الباحثين إلى مخطوطين: أولهما مكتوب باللغة الفرنسية ومودع بمكتبة أكسفورد؛ والآخر مكتوب باللغة اللاتينية تملكه المكتبة الأهلية بباريس، وكلاهما يشتمل على ترجمتين غريبتين لقصة المعراج كما رواها أهل الحديث، وافترض المستشرق
الإيطالي إذ ذاك أن الترجمتين أصلهما واحد وجاء من بعده المستشرق الإيطالي تشيرولي ودرس المخطوطين وسرعان ما اثبت بطريقة لا تحتمل الشك صدق نظرية (مونتيري) وقد نشر أخيراً هذين المخطوطين وأضاف إليهما كل ما استطاع إضافته من المقدمات والحواشي والتفسيرات لتوضيح المسألة التي كانت موضع الخلاف.
أما المخطوط المشتمل على الترجمة اللاتينية فعنوانه
وأما المخطوط الفرنسي فعنوانه
ومعناهما (كتاب معراج محمد) وهو ملف غفل لم يعرف واضعه للآن، ترجم أولاً من اللغة العربية إلى اللغة القشتالية (نسبة إلى قشتالة) من لغات أسبانيا، وكان الذي قام بترجمته هو (إبراهيم العقيم اليهودي) الذي كان طبيباً ببلاط الملك الصالح الأسباني، كما نقله فيما بعد من هذه اللغة إلى اللغتين المذكورتين آنفاً الكاتب الإيطالي. بونافنتورا داسينا الذي كن سكرتيرا ببلاط الملك السالف الذكر في منتصف القرن الثالث عشر.
وبالرغم من أن المترجم الإيطالي قد اعتمد في نقله إلى اللغتين اللاتينية والفرنسية على الترجمة القشتالية لا على النص الأصلي؛ فإن كل ما في المخطوطين اللذين قام تشيرولي بنشرهما، من المصطلحات والعبارات والتراكيب والأسلوب يدل دلالة قاطعة على أن النص الأصلي إنما هو نص عربي، كما يدل أيضاً على عروبته أسماء الأماكن وأسماء الأعلام وذكر الآيات القرآنية الكريمة الواردة فيهما. ولولا ذلك لما ذكر المترجم الإيطالي بونافنتورا داسينا جملاً عربية كاملة مكتوبة بالأحرف اللاتينية؛ في إمكان القارئ الملم بلغة الضاد أن يعيدها إلى أصلها العربي بكل سهولة مهما طرأ عليها من التحريف، ولكن ماذا يا ترى يكون ذلك النص العربي المجهول؟ ومتى ألف؟ ومن عساه أن يكون مؤلفه؟
يمكننا بالرغم من عدم استطاعتنا الإجابة عن هذه الأسئلة كلها - أن نثبت على الأقل أن المصدر العربي الذي أستيقن منه الترجمات الثلاث لابد يكون كتابا عربياً يشتمل على قصة المعراج كما كانت تروي في بلاد الأندلس في القرن الثالث عشر. وبمجرد أن ترامي إلى سمع الملك ألفونس المذكور وجود قصة ظريفة من هذا النوع أمر بترجمتها حتى يستطيع علماء الغرب أن يطلعوا عليها.
هذا وقد يتساءل الباحث عما إذا كانت ترجمة من هذه التراجم الثلاث كانت معروفة في إيطاليا أثناء القرون الوسطى؟ والإجابة في هذه المرة لابد أن تكون بالإعجاب؛ إذ ورد ذكر هذا الكتاب الخاص بقصة المعراج في مؤلفين من مؤلفات كاتبين إيطاليين، عاش أحدهما في منتصف القرن الرابع عشر وعاش الآخر في أواخر القرن الخامس عشر، وليس هذا إلا دليلاً على انتشار المعلومات عن العقائد الإسلامية وفلسفة العرب في بلاد أوربا ولا سيما في إيطاليا في القرون الوسطى. هذا ولم يقتصر المستشرق في تشيرولي على نشر الترجمتين الفرنسية واللاتينية؛ وعلى ملخص الترجمة القشتالية، فحسب بل أضاف إلى ذلك قسماً آخر يبرهن على هذا الذيوع، كما أضاف قسما ثالثا جمع فيه كل الشواهد التي تثبت هذا الانتشار، وعلى رأسهما حوار جرى بين النبي محمد (ص) وعبد الله بن سلام اليهودي، ترجمه إلى اللاتينية أرمانو الدلماطي سنة 1141 - نقلاً عن الكتاب المعروف باسم (رد الكلام في مسائل عبد الله بن سلام).
وقد يتساءل الإنسان كذلك عن قيمة البحث الذي قام به المستشرق تشيرولي والإجابة عن ذلك أنه نجح كل النجاح في إيضاح المسألة على أساس أمتن من الأساس الذي وضعها عليه المستشرق الأسباني.
كذلك يمكن التساؤل عن موقف تشيرولي في هذا الموضوع. لقد كان المستشرق الإيطالي شديد الحذر عند الإشارة إلى تأثير هذه المعلومات الإسلامية على فكرة دانتي؛ ولذلك اجتهد في أن يثبت آراءه بأكثر مما يلزم من الأدلة وذكر أن من المحتمل كثيراً أن يكون دانتي قد تأثر بقصة المعراج بصفة عامة عندما خطرت بباله فكرة رحلته إلى الأقاليم الثلاثة؛ ولكنه لم يصل إلى الجزم بأن الملحمة مأخوذة بتفاصيلها مأخوذة عن قصة المعراج كما فعل بلاثيوس!
أمبرتو ربزيتانو
في دنيا الشعراء
من وحي العيد
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
من الناس فئة وهبها الله خيالاً خصباً وقادا، وعاطفة مشبوبة، وحسا مرهفا دقيقا، وشعورا فياضا رقيقاً، وهؤلاء هم الشعراء المطبوعون الذي مازهم الله عن غيرهم بالقدرة على رسم الصور وتصوير ما يجول بخاطرهم وما يعتمل في قرارة نفوسهم من مشاعر وأحاسيس، بخلاف الإنسان العادي الذي يحس الألم ويجد الحزن، ويشعر بالسرور ويتذوق اللذة، ولكنه يعجز عن التعبير عن شيء من ذلك.
بل إن الشاعر المطبوع يمتاز بالقدرة على النفاذ إلى أغوار النفس البشرية؛ وإلى قرارة ما في الكون من حقائق لا يستطيع إدراك أسرارها غيره ممن لم يوهبوا موهبته.
لذلك نراهم لا تمر بهم حادثة أو مناسبة إلا سجلوها في شعر يعبرون فيه عما لهذه أو تلك من أثر في نفوسهم، بل وفي نفوس الشعوب التي ينتسبون إليها.
ولما كان عيد الفطر من المناسبات الهامة، فقد اهتم به الشعراء منذ الإسلام، فاتخذوه وسيلة لإزجاء مدائحهم للخلفاء والأمراء وغيرهم ممن بيدهم السلطان، ولكنهم لم يهتموا بتصوير ما يعتلج في نفوسهم من خواطر، وما تجيش به عواطف شعوبهم وما يعتمل فيها من أحاسيس، بل كان همهم الأول التقرب من الممدوح للوصول إلى ما يريدون من إجزال العطاء وحلول المنزلة الأولى لديه.
فها هو ذا موكب الخليفة المتوكل قد انتظم في يوم عيد الفطر للخروج لصلاة العيد، فتأخذ البحتري الشاعر روعة المنظر وعظم المناسبة، فيقول مادحاً المتوكل، واصفاً الموكب في قصيدة عامرة بليغة تعد من غرر الشعر أو من عرائسه التي يفخر بها. فيقول:
بالبر صمت وأنت أفضل صائم
…
وبسنة الله الرضيعة تفطر
فانعم يوم الفطر عيدا إنه
…
يوم أغر من الزمان مشهر
أظهرت عز الملك فيه بجحفل
…
لجب، يحاط الدين فيه وينصر
خلن الجبال تسير فيه وقد عدت
…
عددا يسير بها العديد الأكثر
فالخيل تصهل، والفوارس تعدي
…
والبيض تلمع، والأسنة تزهر
والأرض خاشعة تميد بثقلها
…
والجو معتكر الجوانب أغبر
ذكروا بطلعتك النبي، فهللوا
…
لما طلعت من الصفوف، وكبروا
حتى انتهيت إلى المصلى لا سيما
…
نور الهدى، يبدو عليك ويظهر
ومشيت مشية خاشع متواضع
…
لله لا يزهى، ولا يتكبر
فلو إن مشتاقا تكلف فوق ما
…
في وسعه لسعى إليك المنبر
وهذا هو أبن هانئ الأندلسي يمدح المعز لدين الله الفاطمي ويهنئه بشهر الصيام والعيد، وهو كعهدنا به قوة أسلوب ومبالغة في المدح تصل إلى حد الإسراف الذي يخرج عن حدود الاعتدال، فيقول:
جود كأن اليم فيه نفاشة
…
وكأنما الدنيا عليه غثاء
ملك إذا نطقت علاه بمدحه
…
خرس الوفود وأفحم الخطباء
هو علة الدنيا ومن خلقت له
…
ولعلة ما كانت الأشياء
ليست سماء الله ما تروثها
…
لكن أرضا تحتويه سماء
نزلت ملائكة السماء بنصره
…
وأطاعه الإصباح والإمساء
أرأيت كيف يسمو الشاعر بالخليفة إلى مرتبة الألوهية وهو الذي يقول في غير هذا المكان:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
…
فاحكم فأنت الواحد القهار
ولا أظنك قائلاً إنه نظرية الفلسفة الإسلامية التي تعرف الله سبحانه وتعالى واجب الوجود بعلة العلل. ثم كيف يشبه بالنبي في وقعة بدر إذ نصره الله بالملائكة في قوله تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون، إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين).
ثم يتابع الشاعر المدح فيقول:
يفديك شهر صيامنا وقيامنا
…
ثم الشهور له بذاك فداء
فيه تنزل كل وحي منزل
…
فلأهل بيت الوحي فيه ثناء
فتطول فيه أكف آل محمد
…
وتغل فيه عن الندى الطلقاء
ما زلت تقضي فرضه وأمامه
…
ووراءه لك نائل وحباء
حسبي يمدحك فيه ذخراً أنه
…
للنسك عند الناسكين كفاء
وهذا مهيار الديلمي يكتب إلى أبي الحسين أحمد بن عبد الله الكاتب مستوحشا لبعده متشوقاً للقائه، مهنئا بالصوم والعيد، من قصيدة طويلة بالغ فيها الشاعر في مدح صاحبها ولكنها على رغم ذلك فيها فن جميل وخيال بديع والتفاتات بارعة لطيفة فيقول:
فلله أنت أبن نفس سمت
…
لغايتها قبل أن تولدا
إذا خير اختار إحدى اثنت
…
ين إما العلاء وإما الردى
كأني أراك وقد زاحموا
…
بك الشمس إذ عزلوا الفرقدا
وخاطوا النجوم قميصا عليك
…
ولاثوا السحاب مكان الردا
فما أمكن اسمع أزدك
…
قوافي بادئة عودا
لو استطاع سامع أبياتها
…
إذا قام راويها منشدا
يصير أبياتها سبحة
…
ومثل قرطاسها مسجدا
مهنئة أبداً من علاك
…
بما استأنف الحظ أو جددا
وبالصوم والعيد حتى تكون
…
آخر من صام أو عيدا
إنها قصيدة جيدة بديعة ولكن الشاعر يهتم فيها بممدوحه فيخصه بها كلها ولا يذكر العيد إلا ذكرا عابراً. وغير هؤلاء.
كثيرون يضيق المقام عن ذكرهم، ممن اتخذوا هذه المناسبة وسيلة لأغراضهم يرجون فيها مدائحهم للأمراء والخلفاء.
فإذا تركنا القدامى إلى المحدثين وجدنا الأمر يختلف اختلافا بينا، فقد تبدل الحال غير الحال، وسمت الأغراض، وقل مدح الشعراء للملوك والأمراء واستجداء عطاياهم، فقد أصبحوا يتأثرون بما تحسه شعوبهم من آلام وآمال، ويعبرون عما يجول في نفوسهم، مشاركين في كل حركة، مصورين ما يعتلج في قرارة نفوسهم من عواطف وأحاسيس فاعتبر شعرهم بحق سجلا لأيامهم وما يقع فيها من أحداث. . .
فهذا أمير الشعراء أحمد شوقي نراه عندما يستقبل عيد الفطر يستقبله بنفس يملأها الحزن والأسى، وتفيض بالحسرة والألم، لما يرى في مجتمعه من نفاق وغدر، ولانحلال الأخلاق
وتفكك الروابط والصلات، فيتألم أشد الألم بعد ما يحتفل بالعيد الذي خلصه من القيود الثقيلة ليطلق نفسه على سجيتها، ويدعو كأسه ليعانقها فيقول:
رمضان ولى هاتها يا ساقي
…
مشتاقة تسعى إلى مشتاق
ما كان أكثره على ألافها
…
وأقله في طاعة الخلاق
الله غفار الذنوب جميعها
…
إن كان ثم من الذنوب يواق
بالأمس قد كنا سجيني طاعة
…
واليوم من العيد بالإطلاق
لا تسقني إلا دهاقا إنني
…
أسقي بكأس في الهموم دهاق
فلعل سلطان المدامة مخرجي
…
من عالم لم يحو غير نفاق
وطني أسفت عليك في عيد الملا
…
وبكيت من وجد ومن إشفاق
لا عيد لي حتى أراك بأمة
…
شماء راوية من الأخلاق
ذهب الكرام الجامعون لأمرهم
…
وبقيت في خلف يغير خلاق
أيظل بعضهم لبعض خاذلا
…
ويقال شعب في الحضارة راق
وإذا أراد الله أشقاء القرى
…
جعل الهداة بها دعاة شقاق
الحق أننا ظلمنا الشاعر حين قلنا يطلب كأسه يعانقها، فهو لم يفعل هذا حبا في الكأس، ولكنه يريد أن يتخلص بها من همومه وأشجانه، وحتى لا يرى من فساد في الأخلاق كمن يقول (وادوني بالتي كانت هي الداء).
وأما الشاعر المعاصر (محمود أبو الوفا) فيلتفت إلى المجتمع المصري فيروع ما فيه من فروق ومتناقضات ومن سوء توزيع للثروة، فثراء فاحش بجانبه فقر مدقع، ويرى كيف يأكل الأغنياء حقوق الفقراء؛ فيزفر زفرات حري تخرج كأنها اللهب المحرق يلفح الوجوه فيشويها إذ يقول:
أرأيت مصر اليوم كيف أزينت
…
أرأيت وجه العيد في أبنائها
الفقر في أقوامها غطى على
…
آمالها وطغى على سرائها
كبراؤها والأغنياء بأرضها
…
غفلوا حقوق الله في فقرائها
ويقول من قصيدة أخرى في نفس المناسبة:
عهد الصراحة ما بال الصريح به
…
لا يملك النطق إلا بالكتابات
أحب أضحك الدنيا فيمنعني
…
أن عاقبتني على بعض ابتسامات
هاج الجواد فعضته شكيمته
…
شلت أنامل صناع الشكيمات
أنها أنفاس محترقة، وعصارة نفس حساسة، تخر بالشعور النبيل، وتجيش بالعواطف السامية.
والشاعر الحجازي (أحمد العربي) ينظر فيرى الفقير في يوم العيد ذليلا حائراً لا يملك ما يشارك به القوم ليفرح كما يفرحون، فيتألم أشد الألم فيتمنى أن يصبح العيد وسيلة لعطف الأغنياء على الفقراء ليشيع السرور في الجميع فيقول:
ليت شعري متى يكون لنا عي
…
د حقيق برمزه المكنون
فيشيع الهناء في كل نفس
…
ويواسي فؤاد كل حزين
قد، لعمري، أنى لنا أن نرى
…
العيد مشاها وقرة للعيون
هذه بعض نفثات قطفتها لك من شعر شعرائنا لتعرف كيف يحتفلون به كما يحتفل الأجانب بأعيادهم القومية، أعاد الله أمثال هذا العيد على الأمة الإسلامية بالخير وإقبال السعود.
أسيوط
عبد الموجود عبد الحافظ
9 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
الإسرائيليات في الحديث:
لما قويت شوكة الدعوة المحمدية واشتد ساعدها، وتحطمت أمامها كل قوى تنازعها، لم ير من كانوا يقفون أمامها، ويصدون على سبيلها، إلا أن يكيدوا لها من طريق الحلية والاختراع، بعد أن عجزوا عن النيل منها بوسائل القوة والنزاع.
ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، لأنهم بزعمهم شعب الله المختار، فلا يعترفون لأحد من غيرهم بفضل، ولا يقرون لنبي بعد موسى برسالة، فإن دهاتهم وأحبارهم لم يجدوا بدا بعد أن غلبوا على أمرهم وأخرجوا من ديارهم من أن يستعينوا بالمكر ويتوسلوا بالدهاء لكي يصلوا إلى ما يبتغون. فسول لهم المكر اليهودي بأن يتظاهروا بالإسلام ويطووا نفوسهم على دينهم، حتى يخفي كيدهم ويجوز على الناس مكرهم. وقد كان أقوى هؤلاء الكهان دهاء ومكرا كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سبأ فاستعلنوا بإسلامهم، واندسوا بين المسلمين مظهرين عبادتهم وورعهم.
ولما وجدوا أن حيلهم قد راجت وأن المسلمين قد اعتزوا بهم وسكنوا إليهم، جعلوا همهم أن يضربوا المسلمين في صميم دينهم؛ وذلك بأن يدسوا إلى أصوله التي قام عليها، ما يريدون من أساطير وخرافات، وأوهام وترهات، لكي تهيئ هذه الأصول وتضعف. ولما عجزوا عن أن ينالوا من القرآن الكريم لأنه قد حفظ بالكتابة والتدوين، وأستظهره الكثير من المسلمين، وأنه قد أصبح بذلك في منعة من أن يزاد فيه كلمة أو يتدسس إليه حرف - اتجهوا إلى السنة القولية فافتروا على النبي أحاديث لم تصدر عنه، وأعانهم على ذلك أن ما تحدث به النبي في حياته لم يكن محدود المعالم ولا محفوظ الأصول، وأن في استطاعة كل ذي هوى أو دخلة سيئة أن يتدسس إليه بالافتراء، ويسطو عليه بالكذب؛ ذلك بأنه لم يدون في عهد النبي كما دون القرآن، ولا كتبه أصحابه من بعده، وقد يسر لهم كيدهم أن وجدوا الصحابة يرجعون إليهم في معرفة ما يجهلون من أمور العالم الماضية والمستقبلة - واليهود بما لهم من كتاب وبما فيهم من علماء وأحبار يعتبرون أساتذة العرب الأميين فيما يجهلون.
قال الحكيم أبن خلدون في مقدمته عندما تكلم عن التفسير النقلي، وأنه يشمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود: والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهود، وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم. . وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات. وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة.
وقال أبن كثير في تفسيره (لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضى الله عنه فربما استمع له عمر فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده من غث وسمين).
ومن أجل ذلك كله أخذ أولئك الأحبار يبثون في الدين الإسلامي أكاذيب يزعمون مرة أنها في كتابهم، ويدعون أخرى أنها من مكنون علمهم، وما ذلك كله إلا من مفترياتهم. وأنى للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق والكذب من أقوالهم وهم من ناحية لا يعرفون العبرانية التي هي لغة كتبهم، ومن جهة أخرى فإنهم أقل منهم دهاء وأضعف مكرا، وراجت بذلك هذه الأكاذيب وتلقى الصحابة ومن تبعهم كل ما يبثه هؤلاء الدهاة بغير بحث ولا نقد، معتبرين أنه صحيح لا ريب فيه.
وقبل أن نعرض لبيان هذه الإسرائيليات التي امتلأت بها كتب الحديث والتفسير والتاريخ نأتي بفذلكة صغيرة من تاريخ هؤلاء الأحبار الذين بثوا هذه الإسرائيليات ليكون القارئ على بينة منهم.
كعب الأحبار
هو كعب بن مانع الحميري من آل رعين - وقيل من ذي الكلاع من اليمن، كان من أحبار اليهود وعرف بكعب الأحبار، أسلم في عهد عمر وسكن المدينة في خلافة عمر ثم تحول إلى الشام في زمن عثمان ومات بحمص سنة 32 أو سنة 34هـ.
وقد استصفاه معاوية وجعله من مستشاريه لكثرة علمه كما يقولون وأمره أن يقضي. . وقال
عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ. . قدم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم - وروى عنه جماعة من التابعين مرسلا.
سبب إسلامه:
وضع كعب الأحبار لإسلامه سببا عجيبا ليتسلل به إلى عقول المسلمين، فقد أخرج أبن سعد بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: قال العباس لكعب: ما منعك أن تسلم في عهد النبي وأبي بكر؟ فقال عن أبي كتب لي كتابا من التوراة فقال اعجل به، وختم على سائر كتبه، وأخذ على بحق الوالد على الوالد أن لا أفض الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام قلت لعل أبي غيب عني علماً ففتحتها فإذا صفة محمد! وأمته! فجئت الآن مسلما!
وروى عن عبد الله بن عمر أن رجلاً من أهل اليمن جاء إلى كعب فقال له: إن فلانا الحبر اليهودي أرسلني إليك برسالة. فقال كعب هاتها! فقال: إنه يقول لك، ألم تكن سيدا شريفا مطاعا؟ فما الذي أخرجك من دينك إلى أمة محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجعاً إليه؟ قال نعم: قال إن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا ينفر منك! وقل له يقول لك: أسألك بالذي فلق البحر لموسى وأسألك بالله الذي ألقى الألواح إلى موسى أبن عمران فيها علم كل شيء ألست تجد في كلمات الله تعالى أن أمة محمد ثلاث أثلاث، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب! وتلك يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة! وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد! فإنه سيقول لك نعم! فقل له يقول لك كعب: اجعلني في أي الثلاث شئت!
وهب بن منير:
قال المؤرخ جورجي زيدان في تاريخ التمدن التمدن الإسلامي هو فارسي الأصل جاء إلى جده إلى اليمن في جملة من بعثهم كسرى لنجدة اليمن على الحبشة، فأقاموا هناك وتناسلوا، وصاروا يعرفون بين العرب (بالأبناء) - أي أبناء الفرس ومنهم طاووس بن كيسان التابعي الشهير.
وكان آباء وهب على دين الفرس (المجوسية أو الردشتية) فلما أقاموا بين اليهود أخذوا عنهم بآداب اليهود وتقاليدهم فتعلموا شيئاً من النصرانية. وكان يعرف اليونانية (وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير) وقد أدرك عدة من الصحابة وروى عنهم. ومن أقواله: إني
قرأت من كتب الله 72 كتابا! ومن أجل ذلك كان للمسلمين ثقة كبرى به.
وقال الذهبي عنه في تذكرة الحفاظ. ولد سنة 34هـ روى عن أبي هريرة وعن عبد الله بن عمر وأبن عباس وتوفي بصنعاء سنة 110هـ وقيل غير ذلك.
كيف استحوذوا على عقول المسلمين
اتبع هؤلاء الأحبار بدهائهم العجيب طرقا غريبة لكي يستحوذوا بها عقول المسلمين ويكونوا بذلك محل ثقتهم وموضع احترامهم. وإليك طرفا من هذه الأساليب الغربية التي كانوا يتخذونها ليستولوا بها على عقول الصحابة فيركنوا إليهم ويثقوا بهم ويأخذوا عنهم.
أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام وهو من كبار أحبار اليهود الذين أظهروا الإسلام. أنه مكتوب في التوراة في السطر الأول: محمد رسول الله عبد المختار مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام وهذا الذي أخرجه الترمذي عن أبن سلام قد أحكمه الداهية كعب1 فقد ذكر الحافظ أبن حجر في الفتح أن الدرامي روى عن كعب في صفة النبي في التوراة قال: في السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام. وقد بحثنا عن السطر الثاني من هذه الأسطورة أو الخرافة حتى وجدناه في سنن الدرامي كذلك، ومصدره الداهية الأكبر كعب، ووجدنا للسطر الأول تكملة لم يأت بها عبد الله بن سلام، فقد روى ذكوان عن كعب قال في السطر الأول: محمد رسول الله عبدي المختار لافظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام. وفي السطر الثاني: محمد رسول الله، أمته الحمادون يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كل منزل، ويكبرون على شرق رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأسها كناسة، ويأنزرون على أوساطهم ويوضئون أطرافهم وأصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل.
وهذا الكلام قد أورده أبن سعد في طبقاته عن أبن عباس في جواب لكعب، وذكره كذلك ممن عند نفسه أحد تلاميذ كعب: عبد الله بن عمرو بن العاص كما رواه البخاري عندما سئل عن صفة النبي في التوراة.
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام قال: مكتوب في التوراة صفة النبي وعيسى أبن مريم يدفن معه!
وروى الجواليفي في المغرب أن أبن الأعرابي ذكر عن كعب أنه قال: أسماء النبي في الكتب السالفة محمد وأحمد وحمياط أي حامي الحرم! وروى القاضي عياض في الشفاء أن وهب أبن منبه قال:
قرأت في أحد وسبعين كتابا فوجدت في جميعها: أن النبي أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا - وفي رواية أخرى - فوجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جانب عقله (ص) إلا كحبة رمل بين رمال الدنيا!
والذي أغرى كعب الأحبار بالرواية والاتساع فيها أن عمر كان في أول الأمر يستمع إليه ثم توسع الناس في الأخذ عنه، وبالغ هو - كما قال الحافظ بن كثير (في نقل ما نقل من الأشياء إلى كثير منها ما يساوي مداده) ولما تبين لعمر أنه كذاب منع الأخذ عنه، ونهاه عن الرواية عن النبي، وأنذره إذا هو روى أن يعيده إلى بلده.
المنصورة
للكلام صلة
محمود أبو رية
الشعر المطعم
للأستاذ كامل السيد شاهين
نريد بالشعر المطعم ذلك الشعر المعرب الذي اختلطت فيه العامية بالعربية، ونهض مع ذلك شعراً سوياً، يصور الحياة في كل ناحية، فتجده في السياسة، كما تجده في الأخلاق، وتجده في الغزل، كما تجده في الحكم، وهو أبداً خفيف الروح، حلو، حلو عذب، يطربك بهذا الأسلوب اللذيذ، الذي تجتمع فيه المفارقات الحلوة. فبينما تأخذ سمعتك الكلمة العربية الجزلة، تفجؤك بعدها الكلمة العامية المأنوسة، فتجد لها ما تجد للنكتة الحارة من وقع، إذ كانت الكلمة العامية بالغة سمعتك وهو متهيئ للكلمة العربية، فتجد النفس من ذلك ما تجد لرؤية الطويل المفرط مع القصير الدحداح، أو كما تجد لرؤية المرأة متربعة في كرسي القاضي الشرعي، من حيث الفجاءة وعدم التوقع.
وتمام الحلاوة في أنك لا تجد بين العربي والعامي في البيت الواحد خللا أو اضطراباً، ذلك بأن الكلمة العامية تجيء مصقولة صقلاً عربياً، معربة إعراباً صحيحاً، كأنما تحدرت إليك من أعرابي سليقي.
وميزة الشعر المطعم عن الشعر العام أنه عصري متواضع. يمس الاجتماع الراقي كما يمس الاجتماع الشعبي، وبذلك يصور لنا ناحية يترفع عنها الشعر العام - ونحن نجني في كثير من الأحيان على التاريخ، عندما نعتمد على الشعر العام في تصوير حياة المجتمع، لأنه في برج عال رفيع لا ينحط إلى المستوى الشعبي. فكما كانت الأمثال في القديم أصدق تصويراً للاجتماع العربي من الشعر، كذلك الشعر المطعم اليوم أصدق تصويراً للاجتماع الحاضر من الشعر العام. ولذا يكون من الخطر إهدار هذا النوع من الشعر المطعم لأنه أمس بالحياة العامة. فهو يصور المجتمع وينقده نقدا لاذعاً في خفة وفكاهة.
فنحن - مثلا - تجد الفضول والتطفل داء قديماً، ولكن الشعر العام إذا تناوله لم يبلغ فيه من الصدق وتصوير الواقع ما يبلغ الشعر المطعم فهذا شاعر يقول في وصف ثقيل: -
بارد لو يخش في النار تلقى الناس في النار كلها بردانه
كلما شاف صاحبين يقولا
…
ن كلاماً غري يمد ودانه
ويطيل الحديث آه يانا يا غلبي ويا وعدي من لته آه يانه
وتراه قدامنا مادحا فينا وياما يذمنا من ورانه
يدعى أنه أبن ناس ذوات
…
أورثوه في زعمه أطيافه
وهو والله يا عزيزي أيوه
…
عربجي وأمه بلانه!
ثم أسمع هذا الختام المحكم القوي:
أيها الناس بعضكم عسل صا
…
ف لذيذ، وبعضكم دبانه!
فكم من الأدباء عرض لوصف الثقلاء ولكنهم لم يصورا هذا التصوير البديع الصداق الذي يستمد قوته من صدقه وإبرازه الوقائع كما هي.
والناس يصرخون اليوم من أجرة الأطباء، ولكن الشعراء لا يتناولون هذه الناحية من اجتماع الأمة، ويتناولها الشعر المطعم فيقول الشاعر معارضا قصيدة أبي فراس: -
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
…
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
نعم أنا بردان، وعندي كحة
…
ولكن مثلي لا يطيب له صدر
فهل علم الدكتور أني بكحتي
…
أمزق أحشائي الغداة ولا فخر
وقال التمرجي هل معاك فزينة
…
تخش بها، أو ما معاكشي فتنجر
وقال أصيحابي الدخول أو الردى
…
فقلت هما أمران: أحلاهما مر
ألم تعلموا أني فقير وأنه
…
إذا شافني خمسون قرشاً له أجر
بنصف جنيه نظرة فابتسامة
…
فقصقوصة من دفتر فوقها حبراً
ولكن إذا حم الفضاء على امرئ
…
فليس له بر بقية ولا بحر
فاضطرار المريض، وغلظة الممرض، وجشع الطيب، مصورة ههنا أروع التصوير وأبرعه.
وكثير من الأغنياء لا يسهم في المنافع العامة للشعب، ولذا تجد المجالس الشعبية تلدغهم بقارص نقدها، ويسجل ذلك الشعر المطعم:
نعم لك مال، غير انك جلدة
…
فلست بمودود ولا متودد
إذا لم تكن - يا باشا - صاحب نخوة
…
فخمسون طظا فيك من اليوم للغد
وتجد المجالس الشعبية تتناول عباد المظاهر هازئة ساخرة محقرة، وترى هذا في الشعر المطعم:
وكم من فتى تلقاه تحسب أنه
…
أمير لتزويق به وتبغدد
مرتبه في الشهر ليس يزيد عن
…
جنيهين، وأبن الكلب عامل أفنددي
ولا يقف الشعر المطعم عند تصوير حياة الشعب واجتماعه الخاص، بل يدس أنفه في السياسة العامة، ولكن بروحه الشعبية الجمهورية العاطفية. فيهيب بالأغنياء لإمداد فلسطين قبل طغيان اليهود فيقول:
ومن يعلم بما هم فيه يصعق
…
بخضته، ومنه يطق عرق
فأين الراحمون، الم تشوفوا
…
ألستم تسمعون وذاك زعق
أنأكل كستليتاه بصلصا
…
ونسكر ثم يعد السكر عشق
وبيت الجار مهدوم عليه
…
ومعدته بها للجوع حرق
أغيثوهم وإلا قيل عنا
…
مجانين رءوسهم تلقى
متبقوشي كدا، عيب عليكم
…
إذا ما كنتموش غجرا حتبقوا!
كما يدس أنفه في أمر التعليم، فالمذهب الشعبي في التربية يوجب التأديب بالعصا، وقد علمنا أن بعض المعاهد في إنجلترا تحبذ الضرب في التعليم، وإن كان المربون لا يزالون ينفرون منه. ولما كان الشعر المطعم تعبيراً عن رأي الشعب، فقد جاء منتصراً محبذا للضرب.
وأنا امرؤ قد جئت مصراً ولم أكن
…
إلا غلاما حافيا فلاحا
فدخلت مدرسة وكنت معفرطاً
…
متنططاً متشعبطاً قراحاً
متشابطاً متلابطاً متخانقا
…
متصارعاً متشاتماً رداحا
وإذا اهتديت رأيتني متمألتا
…
متمسخراً، متفلسحاً مزاحا
ولا شك أن هذه (الحيثيات) لابد أن تسوق إليه العصا سوقاء، ولذا يقول: _
لكن خوجاتي على توزوزوا
…
وعلى نفوخي وهات حتى راحا
فعلمت أن اللعب ليس وراءه
…
إلا دمي، تحت العصابة ساحا
فجعلت أقضي الوقت بين قراءة
…
وكتابة متألما وحواحا
ونجحت ثم صبحت فيكم راجلاً
…
ذا شغلة، لا عاطلاً مشكاحا
أخص علي زمن يحرم أهله
…
ضرب الصبي ويشربون الراحا
والله لولا الضرب في التعليم ما
…
نفع البليد ولا أصاب نجاحا
وليس من شك أن المجالس الشعبية كثيراً ما تدور حول لذائذ الأطعمة وطيباتها، والشعر
المطعم يتكلم بلسان هذه المجالس فيقول:
أرحل عن الدار التي أصحابها
…
لا يطعمونك من لذيذ المأكل
بئس الطعام الفول وهو مدمس
…
مهما تحاول بلعه لا ينزل!
زرنا تجد في بيتنا ما تشتهي
…
من كل مطبوخ وكل مخلل
عملت لنا بالأمس عبلة كفتة
…
طباخ باشا مثلها لم يعمل
وكباب عبلة، لا تقل حاتي ولا
…
ماتي، وكل منه ثلاثة أرطل
إن الكنافة لو تمثل شخصها
…
بين الصنوف ونتشتها في الأولى
وإذا سلاطين الخشاف تجهزت
…
فاشمر لها الأكمام واشرب وانجل
والشاعر لا ينسى نفسه في زحمة الكباب والكنافة والخشاف، ولكن يذكر أنه من العزة والكرامة حتى يطيب الطعام فيقول:
لا تسقني مرق الفراغ بذلة
…
بل فاسقني بالعز ماء الفلفل
مرق الفراخ بذلة لا أشتهي
…
والطرشي في عز أراه يلذ لي!
ولكن. كيف الشعر المطعم فن الغزل، والحب يهز قلوب العلية والدهماء على السواء! إذا بحثنا نجد الغزل في هذا الشعر غزلا يناسب الطبقة الدنيا، ويمثلها أروع التمثيل، فلكل طبقة أسلوبها في طريق المغازلة، عملية وكلامية. وفي الطبقة الشعبية نجد من النساء من تحب من زوجها أن يضربها منذ الليالي الأولى، وإلا لم يكن شهما، فهي تشتم زوجها وتعربد عليه، ولتستثيره، وتخبر مبلغ رجولته.
بكرت تبستفني وتلعن لي أبي
…
فأجبتها حالا بضرب الشبشب
مهبولة وتريد مني طبلة
…
يا موت خذها من أمامي، والنبي
يا بنت الكلب، ما دخلي أنا
…
البيت عندك عمري أو خربي
وبينما نجد هذا النوع من النساء في الطبقة الدنيا، نجد نوعا آخر يحب الدلال، ويحب المحاسنة، ولكن ما دلال العامة وكيف يكون هذا شاعر يصور ضربا منه فيقول:
قلت - يا منية الفؤاد أركبيني
…
وامسكي شال عمتي كالعنان!!
وتجد أسلوب الشعر العامي في الغزل مأخوذا من الحي الشعبي لا يتطفل على الأحياء الراقية، فهذا شاعر يشبه قلبه بالقبقاب، يوما في رجل هذه، ويوما في رجل تلك:
يا قلب كالقبقاب حيره الجما
…
ل، فتارة تدنى، وأخرى تزجر
صبحاً برجل فهيمة وعشية
…
في رجل سلمى والزمان تجرجر
وهذا آخر يسمى محبوبته بأسماء بلدية مثل ستيتة، وهنومة وكعب الخير فيقول:
ستيتة لا تكن نجواك عذلي
…
فإن بمهجتي حللا بتغلي
وبين أضالعي وابور جاز
…
وإبرته جفاك لمشمعل
حرام أن أعيش بلا وبور
…
وفي جنبي (بريمس) منه أصلي
ثم يذكر الشاعر دلال محبوبته فيزعم أنها لجهلها بالغزل والدل، لا تميل كما يميل البان، ولكن تميل كما تميل الحائط، ولا ترنوا كما يرنو الغزال، ولكن كما يرنوا الأعمى، ولا تتلفت تلفت الظبي، ولكن تجفل إجفال البغل - وأن غزلها أن تصفعه على قفاه بكف كالرحا كما تشد شعره (جزة الخروف) ثم تمضي في تفليته، واستخراج هوامه، فيقول: -
فمالت حائطا، ورنت كأعمى
…
إلى، وأجفلت إجفال بغلي
وصافح كفها الرحوي قفايا
…
وشدت جزتي ومضت تفلي
فلا والله ما حرب البسوس
…
بأهول من تصيدها لقملي
ولو تتبعنا ذلك لعيبنا، ولأعيينا القراء، وفي ذلك لمن شاء بلاغ.
وبعد: فإننا إذا كنا نبكي اليوم لضياع الأزجال الأندلسية الذي فوت علينا معرفة عامية الأندلس، ولو كشفت الآن لكانت أثرا تاريخيا جليلا - إذا كنا نبكي لضياع هذا التراث، فإننا أجدر بالبكاء إذا ما ضيعت هذه الثروة التي لم يعن يجمعها أحد، ولم يسرع لتقعيد قواعدها أحد، إلا شيئاً يسيراً ذكره المرحوم حسين شفيق المصري لا يشفي ظمأ ولم يعن أحد باستخراج ما تحويه من أساليب وكنايات تعد من أبرع وأروع ما تحوي بلاغات الأمم مما يصلح أن يكون رسالة شائقة فريدة، وحسبنا أننا فتحنا الباب لمن شاء أن يسلك أو يدرس.
كامل السيد شاهين
مبعوث الأزهر للسودان
عقيدتي
للفيلسوف الإنجليزي المعاصر برتر اندرسل
للأديب عبد الجليل السيد حسن
الفصل الخامس
العلم والسعادة
غرض الأخلاقي أن يصلح سلوك الناس، وهذا طموح حميد، لأن سلوكهم إلى حد بعيد يستحق الرثاء، ولكني لا أستطيع أن أمدح الأخلاقي على ما ينشده من إصلاحات خاصة أو على ما يصطفى من طرق لبلوغها، فطريقته الواضحة، هي النصح الخلقي، ومنهجه الحقيقي هو نظام الجزاء والعقاب الاقتصادي والطريقة الأولى تأثيرها غير دائم أو هام، فتأخير الإحصائيين منذ (سافونا رولا) فنازلا كان دائما وقتيا. والثانية - أي الجزاء والعقاب - لها تأثير قوي، فقد جعلت المرء مثلا يفضل عاهرة عارضة على سيدة شبه دائمة، لأنه من الضروري أن تتبع الطريقة الأسهل تخفيا، وهم من أجل ذلك يبقون على عدد من المهن الخطيرة ليحموا بها انتشار داء الزهري، ومع ذلك فليست هذه الموضوعات التي ينشدها الأخلاقي، ولكنه ليس علميا حتى يلاحظ أنها هي الموضوعات التي حصل عليها حقيقة.
ولنر الآن. . هل هناك من شيء أحسن من هذا يمكن أن يكون عوضا عن هذا الخطط غير العلمي من الوعظ والرشوة.؟ أحسب إن هناك شيئاً مثل ذلك.
أعمال الناس مضرة سواء عن جهلهم أو عن رغباتهم السيئة، وحينما نتكلم من وجهة النظر الاجتماعية قد نعرف (الرغبات السيئة) بأنها تلك التي تتجه إلى اعتراض رغبات الآخرين أو بالأحرى هذه التي تعترض من الرغبات أكثر مما تعضد، وليس من الضروري أن يقف طويلاً عند الضرر الذي ينبعث عن الجهل، فكل ما يحتاج إليه حينئذ هو معرفة كثر، ولهذا يكمن طريق الإصلاح في بحث أكثر وتربية أعظم، ولكن الضرر الذي ينبعث عن الرغبات السيئة أمر أكثر صعوبة.
وهناك مقدار من الحقد الفعال عند الرجل والمرأة العاديين ولدى كل منهما ضغن خاص
بوجه نحو أعداء معينين، وسرور عام مبهم لمصائب الناس، وعادة يوشي كل ذلك بكلمات مغسولة، وإن ما يقرب من نصف الأخلاق المألوفة، لهو عبارة عن عباءة ورداء لها، ولكن يجب أن يواجه الأمر بصراحة، إذا أراد الأخلاقيين أن يبلغوا هدفهم في إصلاح الأعمال وقد بدا ذلك بآلاف الطرق، صغيرة وكبيرة: في الغبطة التي يكرر الناس بها الفضيحة، ويعتقدون في صحتها؛ وفي معاملة المجرمين القاسية رغما عن البراهين الجلية في أن المعاملة الحسنة أثرها أكبر في إصلاحهم؛ وفي هذه الوحشية العجيبة، التي يعامل بها جميع الأجناس البيض الزنوج؛ وفي الانشراح الذي تبديه السيدات العجائز والقسيس نحو الخدمة الحربية على الشباب أثناء الحرب؛ وحتى الأطفال قد يكونون موضوعات للقسوة الرعناء، فدافيد كوبر فليد، وألفرتوست ليست كلهم خيالية وهذا الحقد الفعال أسوأ سمة في طبيعة الإنسان؛ ومن الضروري تغييره إذا كان العالم أن يسعد. ومن المحتمل أن هذا السبب ووحده له دخل كبير في الحرب أكثر من الأسباب الاقتصادية والسياسية مجتمعة.
فكيف نعمل للقضاء على مشكلة الحقد؟
أولاً دعنا نحاول أن نفهم عللها، وها هي ذي كما أحسبها؛ بعضها اجتماعي وبعضها فسيولوجي. فالعالم الآن وكما كان في أي زمن سالف، مؤسس على النزاع بين الموت والحياة، وكان السؤال في النشرة أثناء الحرب هو: هل ألمانيا أو أطفال الحلفاء يجب أن يموتوا من الحاجة والمسبغة.؟ (وبصرف النظر عن الحقد عند كلا الطرفين فلم يكن هناك من الأسباب ما يمنع أن يعيش كلاهما؟) ومعظم الناس يتمثلون في أغوار عقولهم خوفاً ملازماً من الدمار. وهذا على الأخص صحيح عند ذوي الأطفال. أما الأغنياء فيخشون أن يصادر البلاشفة أموالهم. والفقراء كذلك يخشون فقد وظائفهم أو صحتهم، وكل منهم منهمك في مطاردة (السلام) الجنونية، ويتخيلون أمهم يبلغون إلى ذلك بإبقاء أعدائهم الأشداء خاضعين، وفي لحظات الذعر العام تنتشر القسوة على نطاق واسع وجد فظيع، والرجعيون في كل مكان يلجئون إلى الخوف، ففي إنجلترا الخوف من البلشفية، وفي فرنسا الخوف من ألمانيا، وفي ألمانيا الخوف من فرنسا. والنتيجة الوحيدة لما يلجئون إليه هو زيادة الخطر ضد ما يرغبون النجاة منه.
ومن ثم يجب أن يكون أول ما يهم الأخلاقي ذي النزعة العلمية، أن يقاتل الخوف
بطريقتين: بزيادة الأمن ويغرس الشجاعة. وأنا أتحدث عن الخوف كانفعال غير معقول للمصائب المحتملة الوقوع، فحينما تشتعل النار في مسرح يدرك الرجل العاقل الكارثة تماماً كالرجل الذي مسه الذعر، ولكنه يتخذ طرقاً من المحتمل أن تخفف من الكارثة، بينما الرجل الذي مسه الذعر يزيدها أوارا. وأوربا منذ سنة 1914 كالمشاهد الذي مسه الذعر في المسرح المشتعل، وما يحتاج إليه هو الهدوء وإرشادات السلطات ن كيفية الهرب دون أن يسحق بعضهم بعضا أثناء هذه العملية. والعصر الفكتوري رغما عن سيئاته كان فترة تقدم سريع، لأن الناس كان يغلب عليهم الأمل أكثر من الخوف ولو أردنا التقدم ثانية يجب أن يسودنا الأمل.
وكل شيء يزيد في الأمن العام، ومن المحتمل أن يقلل من القسوة. وينطبق هذا على منع الحرب سواء عن طريق عصبة الأمم، أو يمنع الفاقة، والعمل لبلوغ صحة أحسن بالنهوض بالطب والصحة الوقائية. أو بطرق أخرى تخفف من وطأة المخاوف التي تتوارى في أغوار عقول الناس وتلوح كالكوابيس حين ينامون. ولكن لن يتم شيء بمحاولة جعل جزء من الجنس البشري يسعد على حساب جزء آخر. الفرنسيون على حساب الألمان، والرأسماليون على حساب العمال، والبيض على حساب الصفو، وهكذا دواليك، فأن مثل هذه الطرق تزيد الرعب بين الجمهور الساد مخافة أن يقود الاستياء المظلومين إلى الثورة. والعدالة هت التي تنشر (الأمن) وأعني بالعدالة، معرفة الحقوق المتساوية لكل الكائنات البشرية.
وهناك علاوة على التغييرات الاجتماعية المقصود بها أن تأتي بالأمن، وسائل أخرى فعالة لإنقاص الخوف، أعني بذلك نظاما مقتنعا يقصد به زيادة الشجاعة. ولأهمية الشجاعة في المعارك قد أكتشف الأولون وسائل لزيادتها بالتربية والطعام - فكان من المعتقد مثلا أن أكل لحوم البشر مفيد. ولكن الشجاعة الحربية كانت تعتبر امتيازاً للطبقة الحاكمة، فكان الإسربطيون يجب عليهم أن ينالوا حظا من الشجاعة أوفر من الرقيق، والضباط البريطانيون أكثر من العسكر الهنود، والرجال أكثر من النساء، وهكذا دواليك. وكان من المفروض منذ قرون أن يكون ذلك امتيازاً للأرستقراطية، وكل زيادة في الشجاعة لدى الطبقة الحاكمة كانت تستعمل في زيادة الأوقار على المظلومين، ومن ثم تزداد بواعث
الخوف عند المستبدين، ولذلك يتركون أسباب الخوف ولا يقللونها. والشجاعة يجب أن تمقرط قبل أن تجعل الناس إنسانيين.
وقد تمقرطت الشجاعة إلى مدى بعيد بالحوادث الراهنة، فإن النسوة المطالبات بحقوق الانتخاب أبدين أن لديهن من الشجاعة ما عند أشجع الرجال، وهذا البرهان الواضح كان ضروريا لكسبهن حق التصويت. ويحتاج الجندي العادي في الحرب إلى مثل شجاعة الكابتن أو الضابط وأكثر من الجنرال والبلاشفة الذين يدعون أنفسهم أبطال (البروليتاريا) لا تنقصهم الشجاعة مهما قبل عنهم، وقد ثبت هذا باستشهادهم في حقبة ما قبل الثورة وفي اليابان حيث كان سابقاً محتكرين الأعمال الحربية دعا التجنيد الإجباري إلى الحاجة إلى الشجاعة بين الذكور من السكان وهكذا من بين كل (القوى العظمى) قد بذل الكثير في نصف القرن السالف لجعل الشجاعة أقل من ذلك وقفا على الأرستقراطيين: ولو لم تكن هذه الحالة، فإن الخطر على الديمقراطية أعظم مما هو كائن.
ولكن الشجاعة في الحرب ليست الصورة الوحيدة، بل لعلها ليست أهم الصور، فهناك الشجاعة في مواجهة الفقر، والشجاعة في مواجهة الاستهزاء، والشجاعة في مواجهة عشيرة المرء له، وفي كل ذلك غالباً ما يكون أشجع الجنود عاجزاً إلى حد محزن وهناك فوق كل ذلك شجاعة التفكير بهدوء وعقل في مواجهة الخطر، وفي كبح جماح نزوات الخوف العنيف والغضب الشديد وهذه بالتأكيد أشياء تساعد التربية على نيلها وتعليم كل صور الشجاعة يتم بسهولة بالصحة الجيدة والبنية القوية والغذاء الكافي وإخلاء الطريق للدوافع الحيوية الأساسية، وربما اكتشفت المصادر الفسيولوجية للشجاعة بمقارنة دم قطة بدم أرنب. وليس هناك من حد قد يستطيع العلم أن يفعله في زيادة الشجاعة فمثلا التدريب على الخطر، والعيشة، والبيئة الرياضية، والطعام الملائم: كل هذه أشياء يتمتع بها أبناء الطبقة الدنيا عندا إلى مدى بعيد، ولكن ما زالت إلى الآن من امتياز الأغنياء. والشجاعة التي تشجع كثيرا بين الطبقات الفقيرة من المجتمع، هي شجاعة تحت الأوامر، وليست من النوع الذي يشمل الابتكار والقيادة، وحينما تصبح الصفات التي تؤهل لقيادة عامة، فلن يكن يكون هناك قادة ومقودون، وستتحقق الديمقراطية أخيرا.
ولكن ليس الخوف هو المصدر الوحيد للحقد. فالحسد واليأس لهما دخل في ذلك؛ فالأمثال
مستفيضة بذكر العرج والحدب من مصادر عاهات ومصائب أكثر من مصائبهما تنتج نتائج مشابهة، فالرجل أو المرأة الذي عجز جنسيا يصلح لأن يفعم بالحسد، ويظهر هذا بصورة اللعن على من هم أكثر حظاً منها. وأكثر القوى الدافعة إلى الحركات الثورية ترجع إلى حسد الفقراء للأغنياء والغيرة بالطبع شكل خاص من الحسد، (حسد الحب) وغالبا ما يحسد الشيوخ الشباب، وهو حين يفعلون ذلك يميلون إلى معاملتهم بقسوة.
وليس هناك من طريق للتغلب على الحسد كما أعلم، إلا بأن نجعل حياة الحاسدين أسعد وأحفل، وأن نشجع في الشباب فكرة المشروعات الجماعية أكثر من المنافسة وأسوأ أشكال الحسد ما عند الذين لم تكن حياتهم كاملة في سبيل الزواج أو افال أو العمل. ومثل هذه المصائب يستطاع تفاديها في أغلب الحالات بإنشاء منشآت اجتماعية أحسن من القائمة ومع ذلك فأن من المحتمل أن يمكث شيء من بقايا الجسد، ويروي لنا التاريخ أمثلة عدة عن قواد كان كل واحد منهم يغار من الآخر، حتى أنهما كانا يفضلان الهزيمة للإزراء بشهرة الآخر، وعن سياسيين من حزب واحد أو فتانين من مدرسة واحدة، كان يغار أحدهما من الآخر. وفي مثل هذه الحالات يبدو أن ليس هناك من شيء يعمل إلا أن نجعل - على قدر الإمكان - كل منافس غير قادر على ضر الآخر، وأن نعمله أنه يستطيع أن ينتصر بكفاءته الفائقة فقط. وغيره الفنان من منافسه قليلة الضرر، لأن السبيل الوحيد الفعال، لإرضاء رغبته هو أن يرسم صوراً أحسن من صور منافسة، لأنه ليس من المصرح له أن يحطم صور منافسه. وحيثما يكون الحسد أمرا لا يتفادى، يجب أن يتخذ كمحرض لمجهودات المرء الخاصة، لا لتعطيل مجهودات المنافسين.
وقد رأت العلم في سبيل زيادة السعادة ليست مقصورة على إنقاص هذه الجوانب من الطبيعة البشرية التي تدأب على تحقيق الهزيمة المتبادلة، والتي نسميها لذل، الشر، ومن المحتمل أن لا يكون هناك حدود لما يستطيع العلم أن يعمله ي سبيل زيادة الخير الإيجابي، فقد تحسنت الصحة كثيراً بالرغم من عويل هؤلاء الذين يقدسون الماضي، نعمر أكثر، ولدينا أمراض أقل من أي طبقة أو أمة في القرن الثامن عشر، وسنكون قريباً أصح ما نحن عليه الآن باستخدام المعرفة التي حصلنا عليها، ومن المحتمل أن تجعل اكتشافات المستقبل هذه العملية على أوسع نطاق.
وللعلم الطبيعي أشد الأثر إلى حد بعيد في حياتنا، ولكن من المحتمل أن يكون في المستقبل للفسيولوجيا وعلم النفس الأثر الأكبر حينما نكشف الغطاء عن كيفية اعتماد الشخصية على الشروط الفسيولوجية، سنكون قادرين، إذا شئنا، على أن ننتج كثيراً من أنماط الكائنات البشرية التي نستجيدها. والذكاء والقدرة الفنية وحب الخير - كل ذلك يزداد بلا شك بالعلم. ونادرا ما يبدو هنا أية حدود لما سوف يأتي به استعمل الناس للعلم بحكمة في سبيل إحداث عالم سعيد وقد عبرت عن مخاوفي في مكان آخر، من أن الناس قد لا يستعملون القوة التي استخرجوها من العلم استعمالا حكيما وأنا مهتم في الحالة الراهنة بالخير الذي يستطيع الناس عمله إذا اختاروا، وليس بالسؤال: هل سيختارون ما يسيء إليهم أكثر مما ينفعهم؟
وهناك بعض مواقف بصدد استعمال العلم في الحياة الإنسانية أعطف عليها، على رغم أني لا أتفق معها في التحليل الأخير. ومن هذا موقف الذين يخشون (ما ليس بطبيعي) ولقد كان الرائد العظيم لوجهة النظر هذه في أوربا هو (روسو) وفي آسيا الحكيم الصيني (لاوتز) الذي قال بذلك منذ 2400 سنة وكان أشد إقناعا، وإني لأحسب أن هناك خلطا بين الحق والاطل في مسألة الإعجاب بالطبيعة الذي هو أمر جوهري في حل الإشكال ولكي تبدأ في حل هذا الإشكال نتساءل: ما هو الشيء الطبيعي؟ وهو - بدون لف أو دوران - كل ما كان المتكلم متعودا عليه منذ الطفولة، فلاوتز كان يعارض وجود الطرق والعربات، والقوارب ربما لم تكن معروفة في القرية التي نشأ فيها، ولكن روسو كان معتادا على هذه الأشياء، فلم ينظر إليها على أنها شيء ضد الطبيعة، ولكنه كان يرغي ويزيد ضد السكك الحديدة لو أنه عاش حتى يراها، ونحن نعلم أن الملابس والطبخ موجودان منذ القدم، بحيث لا نستطيع أن نقول إنهما أبلغا إلى الناس عن طريق أنبياء الطبيعة، ومع ذلك فهم يعترضون على الطراز الجديدة في كليهما، وأيضا يظن الذين يسمحون بالعزوبة أن تحديد النسل شر؛ لأن الأول (تحديد النسل) انتهاك جديد لحرمة الطبيعة، والثاني (العزوبة) شيء قديم. ومن كل ذلك نرى أن هؤلاء الذين يحبذون فكرة الرجوع إلى كل ما هو طبيعي متناقضون والإنسان مدفوع إلى اعتبارهم محافظين.
ومع ذلك فهناك شيء يقال في صالحهم، مثال ذلك وجود الفيتامينات التي أحدثت اكتشافها انقلابا في خدمة الأطعمة الطبيعة، ولكن يبدو (ذلك واقع الآن) أنه يستطاع استخلاص
الفيتامينات من زيت كبد الحوت والأشعة الكهربائية، ومن المؤكد أن هذين ليسا من طعام الإنسان الطبيعي وهذه الحالة تصور ما قد يحدث من ضرر غير متوقع حين فقدان المعرفة لانتقال جديد في الطبيعة. ولكن حينما يفهم الضرر فهو يعالج عادة ببعض أشياء صناعية جديدة، وأنا أجيب فيما يختص بيئتنا الطبيعية ووسائلنا الطبيعية لإرضاء رغباتنا: أن عقيدة (الرجوع إلى الطبيعة) تبرز أي شيء بعد اتخاذ الاحتياطات التجريبية، حين اختيار شيء ملائم. مثلا: الملابس - على العكس من الطبيعة - تحتاج إلى أن يضاف إليها عمل آخر غير طبيعي؛ أعني الغسيل، وذلك إذا أريد منها ألا تأتي بالمرض؛ والعملان مما يجعلان الإنسان أصح من الحيوان الذي يجتنبها.
وهناك كلام أكثر من ذلك يقال بصدد (الطبيعة) في ناحية الرغبات البشرية، وأنه لشيء قاس وخطر أن ترغم الرجل أو المرأة أو الطفل على حياة تتنافى مع أقوى دوافعهم، وبهذا المعنى تمدح الحياة المطابقة لمقتضى (الطبيعة) وليس هناك من شيء أعظم من إنشاء سكة حديد كهربائية تحت الأرض ولكن، على أن لا يؤخذ أي طفل قسرا ليسافر في إحداهما، وعلى العكس يجد معظم الأطفال في هذا الفعل شيئاً من السرور. والأشياء الصناعية وما يماثلها من الأعمال التي تشبع رغبات الكائن البشري العادي، تعد خيرا ولكن لا يقال مثل ذلك عن وسائل الحياة الصناعية التي تفرضها السلطة أو الحاجة الاقتصادية، فمثل وسائل الحياة هذه هي من دون شك ضرورية إلى مدى بعيد في الوقت الحاضر: فالسفر عبر المحيطات يصبح شاقاً جداً إذا لم يكن هناك وقادون يتعبون في السفن البخارية، ولكن الضرورات من هذا النوع، هي مما يؤسف له، وعلينا أن نبحث عن طريق لتجنبها.
وفي الحقيقة ليس قدر معين من العمل بالشيء الذي يتألم منه، ففي تسع حالات من كل عشرة يحمل هذا الإنسان أسعد من الكسل التام، ولكن مقدار ونوع العمل الذي على معظم الناس أن يعملوه في الوقت الحاضر، هو الشر المستطير، وخاصة ما أيأس تلك الحياة الطويلة التي تجعل من الإنسان عبدا لنظام مطرد. والحياة لا ينبغي أن تكون بمثل هذا النظام الرتيب، أو هذه المنهج الدقيق، بل ينبغي أن نفسح المجال لدوافعنا، حينما لا تكون هذه الدوافع مهلكة وضارة بالآخرين. ومن الواجب احترام الطبيعة البشرية لأن دوافعنا ورغباتنا هي المجموع الذي تتألف منه سعادتنا، وليس بشيء ذي بال، أن تمنح الناس شيئاً
مجرداً يدعى (الخير) بل علينا أن تمنحهم شيئا يرغبون فيه ويحتاجون إليه، إذا كنا نريد أن نزيد من سعادتهم وقد يصل العلم في بعض الأوقات إلى أن يشكل رغباتنا حتى لا تتصارع مع رغبات الآخرين كما تتصارع الآن، وعندئذ سنكون قادرين على إرضاء قسم أعظم رغباتنا أكثر مما هو حادث في الوقت الحاضر، وبذلك المعنى، وبذلك المعنى فقط، ستصبح رغباتنا حينئذ (أحسن) والرغبة وحدها ليست خيرا أو شرا من رغبى أخرى حينما نعتبرها وحدها، ولكن مجموعة من الرغبات خير من مجموعة أخرى إذا كانت كل مجموعة الأولى يستطاع إشباعها كلها في آن واحد، بينما المجموعة الثانية، بعضها يتناقض مع البعض الآخر، وهذا هو السبب في أن الحب خير من الكراهية.
أن توقير العالم الطبيعي، لا معنى له، لأنه يجب أن يدرس بقصد جعله له خادماً للغايات الإنسانية بقدر المستطاع، ولكنه يبقى من الوجهة الأخلاقية، ليس خير أو شرا. وحيثما يتفاعل العالم الطبيعي والطبيعة البشرية كما في مسألة السكان فليس هناك من حاجة لأن نبسط أيدينا ساجدين، ونتقبل الحرب والوباء والمجاعة على أنها الوسائل الممكنة فقط لإنقاص الزيادة المفرطة في السكان، والإلهيين يقولون إن من الشر أن نطبق في هذا المجال العلم على الجانب الطبيعي من المشكلة؛ بل يجب علينا (هكذا يقولون) أن نطبق الأخلاق على الجانب الإنساني، ونسير بشيء من الزهد وهم في ذلك يعبدون عن حقيقة أن كل فرد - بما في ذلك الإلهيين أنفسهم - يعلم أن نصائحهم لن تتقبل، فلماذا يكون من الشر أن نحل مشكلة السكان الوسائل الطبيعية لمنع الحمل؟ وليس هناك أية إجابة يحتمل ظهورها. وما عدا واحدة مبنية على عقائد عتيقة، فمن الواضح أن دفاع الإلهيين عن القسوة على الطبيعة ومخالفتها، هو على الأقل عظيم مثل الدفاع عن الرأي القائل بتحديد النسل ويفضل الإلهيين القسوة على الطبيعة البشرية ومخالفاتها، وهذا الأمر - حينما يأخذ مجاله من التطبيق - يشمل الشقاء والحسد والميل إلى الاضطهاد، وغالبا الجنون. أما أنا فأفضل (القسوة) على الطبيعة البشرية، ولكنها قسوة من نوع آخر، تشبه تلك القسوة العمل في آلة بخارية، وهذا المثل يبين إلى أي حد كيف أن العمل بالمبدأ القائل: إننا يجب أن نتبع الطبيعة غامض ومهوش.
إن العالم الطبيعي، وحتى الطبيعة البشرية، سيتوقف أكثر فأكثر، على كونه حقيقة مطلقة،
وأكثر فأكثر سيصبح على نحو ما تشكله المهارة العلمية، والعلم إذا شاء أن يساعد أحفادنا على أن يعيشوا الحياة السعيدة بمنحهم المعرفة وضبط النفس والصفات المؤدية إلى الانسجام أكثر من الشحناء أما في الوقت الحاضر، فهو يعلم أطفالنا قتل بعضهم بعضا، لأن كثيرا من رجال يريدون أن يضحوا بمستقبل الجنس البشري من اجل سعادتهم الوقتية، ولكن هذا الأمر سيزول حينما يحرز الناس على انفعالاتهم نفس السيطرة التي أحرزوها على قوى العالم الخارجي الطبيعية. وأخيرا سنكون قد كسبنا حريتنا.
(تم الكتاب)
عبد الجليل السيد حسن
مخطوطات نادرة
وجيز الكلام في ذيل دول الإسلام للسخاوي
للأستاذ حمد الجاسر
عني الشيخ شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي المولود في القاهرة سنة 831 والمتوفى في المدينة سنة 902 من الهجرة - بالتاريخ عناية برز أثرها فيما كتبه من المؤلفات العظيمة التي أشار إلى بعضها في ترجمته لنفسه في كتابه (الضوء اللامع) وسلم لنا منها من عبث الزمان وعبثه خير كثير، مثل: -
1 -
الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع في ستة مجلدات ضخام - وقد طبع بمطبعة السعادة في مصر سنة 1353 - 1355، حذا فيه حذو شيخه الحافظ أبن حجر في كتاب (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) وسار على منواله آخرون، أتوا بعده.
2 -
التبر المسبوك - ذيل به كتاب (السلوك) للمقريزي من سنة 805 إلى ما بعد سنة 899 - بقليل - ألفه كما قال (إجابة لعظيم وقته الدوادار الكبير في الأيام الأشرفية قايتباي يشبك بن مهدي الظاهري) وقال: إنه يقع في أربعة أسفار - ولعل الجزء المطبوع بهذا الاسم في مطبعة بولاق سنة 1896 قسم من هذا الكتاب.
3 -
الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ - وهو كتاب في التعريف وبأشهر المؤرخين ومؤلفاتهم وهو مطبوع.
4 -
الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام أبن حجر - لا يزال مخطوطا.
5 -
القول المنبى في ترجمة أبن عربي - وهو مخطوط أيضاً - وفي هذا الكتاب أورد السخاوي أقوال العلماء المحققين في شطحات أبن عربي وزلاته.
6 -
وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام - عنه مؤلفه في (الضوء) - إنه نافع جداً، وقال صاحب كشف الظنون (ص762 الطبعة التركية الحديثة) في أثناء الكلام على (دول الإسلام) -: ثم ذيله السخاوي من سنة 741 إلى مختصرا كأصله، وسماه الذيل التام بدول الإسلام - ثم أعاد صاحب الكشف اسم الكتاب مرة أخرى في حرف الذال. وسماه جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربي (ج3 ص169) وجيز الكلام في ذيل تاريخ دول الإسلام وقال إنه من سنة 745 إلى سنة 898 ومنه نسخ في برلين وفينا وأكسفورد
والمتحف البريطاني وكوبرلي.
وقد اطلعت على جزء من هذا الكتاب لدى أحد علماء نجد في الرياض) فرأيت خير تحية أقدمها لحضرات الأساتذة الإجلاء موظفي (القسم الأدبي في دار الكتب المصرية) وصف هذا الجزء - فقط لا يعدمون منه عونا في تصحيح الأجزاء الباقية من كتاب (النجوم الزاهرة)، وقد يجدون فيه مرجعا نافعا في تاريخ مصر - بل البلاد العربية في ذلك العهد.
يؤرخ هذا الجزء - وهو الأول من الكتاب - الزمن الواقع بين سنتي 748 و 890 - أي ثلاثا وأربعين ومائة سنة - من منتصف القرن الثامن إلى نهاية العقد التاسع من القرن التاسع - فيذكر الحوادث ثم يتبعها بوفيات الأعيان من علماء وملوك وأمراء ومشاهير، وهو يوجز في ذلك أحيانا ويفصل حينا - فسنة حوادثها ووفياتها لا تجاوز ثلاث صفحات، وأخرى تستغرق ورقات.
مثال من إيجازه (سنة تسع وعشرين وثماني مائة في رجب برز العسكر المصري وغيره في الحراقة وقبرس (كذا) حين طرق الخبر أن صاحبها استنصر بملوك الإفرنج على المسلمين، لما جرى على بلاده، ما أشير إليه في التي قبلها. وأنهم أمدوه ليأخذ إسكندرية - زعم - تأسيا بوالده، حين طرقها في المحرم سنة سبع وستين أيام الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون - سبق - فكان التقاء الفريقين في رمضان، فخذل حزب اللعين وأمسك صاحب قبرس فقيد، وقتل من عسكرة في يوم واحد ستة آلاف فيما قيل - منهم أخوه وكذا قيد أبنه وأبن أخي صاحب الكيتلان وأخذت الأفقنسية كرسي المملكة وأقيمت الجمعة بقصره الذي وجد من الأمتعة ما لا يحصى، وأذن على صوامع الكنائس، وعادوا بعد أن قتلوا وحازوا من الغنائم القلعة في يوم الاثنين، ثامن شوال، فكان أمرا مهولا لم يعهد في هذه الأزمان مثله وخرج حتى البكر من خدرها؛ وحضر ذلك أمير مكة ورسل كل من أبن عثمان وملك تونس وأمير التركمان وأبن نعير وكثير من قصاد الشام، قرر عليه من المال بسبب افتدائه ما يفوق الوصف، مما يقوم بنصفه الآن، وبالباقي إذا رجع، سوى ما التزم به في كل سنة من المال، والصوف الملون، وأن يطلق من بقي عندهم من أسرى المسلمين وقال لما دخل إسكندرية ورأى كثرة من بها من الجند: والله إن كل من في بلاد الإفرنج لا يقاوم هؤلاء وحدهم، وفرح المسلمون بنصر الله تعالى، وطار خبر هذه
الغزوة إلى الآفاق، وعظم بها قدر سلطان مصر، وقال الشعراء الشعر في ذلك فأكثروا، بل قيل إن الملك بلسانه قبل خلاصه مما عرب: -
يا ملكا ملك الورى بحسامه
…
أنظر إلى برحمة وتعطف
وأرحم عزيزا ذل وأمتن بالذي
…
أعطاك هذا الملك والنصر الوفي
إن لم تؤمني وترحم غربتي
…
فيمن ألوذ ومن سواكم لي بقي
ومات في جمادى الآخرة عن دون الثمانين بدمشق العلامة الزاهد الورع الرباني التقى أبو بكر محمد عبد المؤمن الحصني ثم الدمشقي الشافعي شارح والمنهاج والغابة وأربعين النووي والأسماء الحسنى وصحيح مسلم وغير ذلك؛ كتلخيص المبهمات وقمع النفوس مع القيام بالأمر بالمعروف والنهي ن المنكر، وانجماعه التام، وتقشفه، وعدم محاباته، وانحرافه عن التقي أبنتيمية، ومبالغته في الحط عليه بحيث بسبب ذلك فتن كثيرة مما كان الوقت في غنية عنه. وفي ذي الحجة وقد زاد على الستين ببيت المقدس قاضي الشافعية بالديار المصرية وصاحب تلك الحوادث التي لا تخلوا من التعصب عليه، الشمس محمد بن عطاء الله الرازي الهروي ممن ولى صلاحية المقدس في أول أمره وآخره، والفضاء بينهما مرة بعد أخرى، وكتابة السر. وحدث ودرس وأفتى، وصنف شرح مسلم وغيره، وكان إماما عالماً غواصا على المعاني، حافظاً لكثير من المتون والتواريخ، رئيسا مهابا، ضخما، حسن الشكالة، لين الجانب، أثنى عليه غير واحد على ما فيه من طبع الأعاجم وقوادح وبني بالمقدس مدرسة وفي ذي الحجة بالقرب من المدينة النبوية وهو راجع من الحج والزيارة العلاء أبو الحسن على بن عبد اله بن محمد الدمشقي الشافعي أبن سلام بالتشديد وقد زاد على السبعين وحمل إلى المدينة فدفن بالبقيع وكان حافظاً لكثير (الرافعي) مع إشكالات عليه، وأسئلة حسنة، بحاثاً يقرئ الفقه وأصوله حسنا، مع يد في الأدب، ونظم ونثر واقتصاد في ملبسه وغيره، وحسن محاضرة، وشرف نفس، ولكنه يتكلم في كبار ويرمي بالمناضلة عن أبن عربي. وقد درس في الظاهرية البرانية والعذرانية وغيرها. وفي ربيع الآخر العلامة شيخ الشيخوخة. وأوجد الحنفية السراج عمر بن علي بن فارس القاهري ويعرف الهداية، تصدى للإقراء والإفتاء، وكثرت تلامذته، وصار الممول عليه، مع الاقتصار في أموره كلها، وإعراضه عن بني الدنيا، وعظمته في الأنفس ومحاسنه غزيرة
وفي جمادى الآخرة عن نحو التسعين قاض المالكية بالديار المصرية الجمال أبو المحاسن يوسف بن خالد بن نعيم الطائي البساطي، مصروفا، وكان فيما قاله، وكان فيما قاله العيني: عارفاً بصنعة القضاء غير مشكور فيه، ولا متقدم في مذهبه وغيره. وفي المحرم فجأة الشيخ خليفة الغربي ثم الأزهري، وفي جمادى الآخرة الشريف أمير مكة حسن بن عجلان بن رميثة الحسنى. وفي رمضان الأتابك قجق الشعباني الظاهري، ونزل السلطان فصلى عليه، وكان متواضعا حليما لينا، خائفا على دينه، قاله العيني. واستقر بعده يشبك الساقي الأعرج. وعلبياي بن خليل أبن الغادر قتلا على يد نائب حلب جار قطلو).
ومثال آخر لتفصيله في التراجم - قال في الكلام على حوادث سنة 1748 - في سياق وفياتها (والكمال أبو الفضل جعفر بن تغلب الأدفوي الشافعي مصنف الإقناع في أحكام السماع والطالع السعيد في تاريخ الصعيد والبدر السافر في تحفة المسافر وجملة والماهر في فنون، مع فقه ونظم ونثر - في صفر بالقاهر عن نيف وستين سنة بعد رجوعه من الحج. اثني عليه الأسنوي وغيره وهو القائل:
إن الدروس بمصرنا في عصرنا
…
طبعت على لغط وفرط عياط
ومباحث لا تنتهي لنهاية
…
جدلاً ونقل ظاهر الأغلاط
ومدرس يبدي مباحث كلها
…
نشأت عن التخطيط والأخلاط
ومحدث قد صار غاية علمه
…
أجزاء ترويها عن الدمياطي
وفلانة تروي حديثا عاليا
…
وفلان يروي ذاك عن أسباط
والعرق بين عزيزهم وعزيزهم
…
وافصح عن الخياط والحناط
والفاضل التحرير فيهم دأبه
…
قول أرطاليس أو بقراط
وعلوم دين الله عادت جهرة
…
هذا زمان فيه طي بساطي
ولى زماني وانقضت أوقاته
…
وذهابه من جملة الأشراط
ودفن بمقبرة الصوفية)
وقد يستعمل المؤلف السجع في بعض الأحيان كقوله في حوادث سنة 821 - لؤلؤ الطواشي، كاشف الوجه القبلي - وكان من الحمقى المغفلين، والظلمة الفاتكين، في صورة الناسكين.) وقوله في حوادث سنة 871 وفي جمادى الأولى على بن رمضان، الأسملى،
أبوه القاهري مكاس جدة - ممن ظلم وعسف، وفسق فما كف. وله دار بحارة برجوان كانت مجمعا لمحنه، وأخذ مسجدا كان بجانبها فأذهب هيئته وعمله مدرسة).
والمؤلف ينقل عن أبن كثير والمقريزي وأبن حجر وأبن دقمقاق والعيني وغيره - ولكن نقله عن هؤلاء وتعويله عليهم لا يعفيهم من النقد والتجريح - وقد يتجامل على بعضهم تحاملاً ظاهراً فلا تمر به مناسبة إلا ابتدرها، ولا هفوة إلا ذكرها، كما فعل مع برهان الدين إبراهيم البقاعي المتوفى سنة (885هـ) ويكتفي بالغمز الخفي وبالتلميح بعبارة مجملة إن لم يجد موقعا مناسبا - فصارم الدين إبراهيم بن محمج بن دقماق الذي استفاد من كتابه (الجوهر الثمين في الخفاء والملوك والسلاطين) كما صرح بذلك في الكلام على سنة (805) التي انتهى الكتاب بانتهائها، لا يجد المؤلف غضاضة في أن يصفه لما تكلم على وفاته سنة (809) بأنه مؤرخ الديار المصرية ولكنه يتبع ذلك بقوله (وعليه معول كثيرين في التاريخ مع كونه عامي العبارة). وتقي الذين المفرزي الذي لم يكتشف بنقل كثير من عباراته بدون إشارة إلى ذلك - بل عمد إلى تذييل كتبه وتكميلها يقول عنه (وصنف فيه - يعني التاريخ - وطار اسمه به مع تميزه في غيره) وهذه العبارة المبهمة المجملة يوضحها ما ذكره السخارى في ترجمة المقريزي في (الضوء) من أن عثر على مسودات لكتابه (الخطط) لأحد العلماء المتقدمين - وهو قول يرده ما عرف من تحامل السخاوي على مؤرخي صره. والتحاسد بين المتعاصرين المشتركين في عمل أمر معروف. ويقول السخاوي حينما ساق ترجمة أبن تغري بردى سنة 874 (المؤرخ الفريد في أبناء جنسه. وما عسى أن يصل إليه تركي مما مشتملا عليه يستكثر من مثله) أما موقفه مع السيوطي فما لا يحتاج إلى بيان. حتى شيخه الحافظ أبن حجر المتوفى سنة (852) والذي أفرد ترجمته بمؤلف خاص - ولغ في الثناء عليه مبالغة جاوزت الحد، حدثني الأستاذ الشيخ سليمان بن حمدان نجد أن السخاوى هذا ألف في حقه كتابا سماه (العجر والبجر من أحوال أبن ججر).
أوصاف النسخة:
يقع هذا الجزء في 592 صفحة - مقياس الصفحة 16 في 12 سنتيمترا - والمكتوب فيه منها 12 في 9 سنتيمترا - تحتوي كل صفحة على 19 سطرا - تتراوح كلمات السطور
بين كلمات السطور بين 12 و 15 كلمة، ونوع الكتابة الخط الفارسي الدقيق المهمل من الإعجام والشكل والخالي من كتابة الهمزات - إلا نادرا ومداد الكتابة أسود سوى أسماء السنين فبالمداد الأحمر - ولا ذكر للكاتب ولا لتاريخ الكتابة ولا يبعد أن تكون هذه النسخة من مخطوطات القرن العاشر الهجري، ويؤيد هذا ما جاء النسخة من مخطوطات القرن العاشر الهجري، ويؤيد هذا ما جاء في آخرها بخط مغاير لخط الأصل مما نصبه (آخر الجزء الأول من وجيز الكلام في الذيل لدول الإسلام للذهبي - لشيخنا العلامة الحجة خاتمة الحفاظ والمتقدمين (كذا) أبي الخير محمد بن. . عبد الرحمن بن محمد بن محمد أبي السخاوي القاهري. . .) ومكان النقط كلمات غير واضحة - وكلمة شيخنا تدل على أن كاتب هذا من تلاميذ السخاوي - وكتابة النسخة أقدم من هذه الكتابة.
وقد سقط من أول هذا الجزء كراسة - في عشر ورقات - لأن كراسات جميع النسخة مرقمة من (1) إلى (31) وكل كراسة عشر ورقات سوى الكراسة الأخيرة فورقهاست. وقد يسهو الكاتب فينقص ورق بعض الكراسات ولكنه يستدرك ذلك في الكراسة التي بعدها - فيجعلها زائدة بمقدار ما نقص من التي قبلها كما في الكراستين (15 - 16).
ويبتدئ الكتاب من جملة (استكثر على دمشق فليولني أي البلاد شاء ولا أدخل مصر. ثم خرج من الغد ومعه أهله وعياله ودوابه وحواصله إلى خارج البلد عند قبته المعروفة به) ثم بعد هذا كلام يقع في ثلاث صفحات عن قتل (يلبغا) في آخر جمادى الأولى سنة 748 وعن إقامة حسن بن الناصر محمد بن قلاون سلطانا في يوم الثلاثاء رابع عشر رمضان، ثم بعده سياق خبر وفيات (الذهبي) وأبن منصور المقدسي والأدفوني وغيرهم، ثم في آخر الصفحة الأولى من الورقة الثالثة (سنة تسع وأربعين. استلت والسلطان الناصر حسن بن الناصر محمد قلاوون (كذا) ونائبه بعصر بيبغاروس (بدون نقط) الناصري).
ثم يسترسل المؤلف في سرد حوادث السنين إلى نهاية سنة 890 - على طريقة المقريزي في (السلوك) بإيجاز.
ومن أمثلة الإشارات اللطيفة الطريفة التي أوردها قوله في حوادث سنة 880 (ي شعبان اجتهد الداردار الكبير في تحصيل كتب المؤيدية حين بلغه جحد بعضهم استعارة تفسير الفخر الرازي في مجلد وإرساله لأبن عثمان، ورسم على الخازن وصهره حتى استرجع
غالبها وعجز عن التفسير بعد إهانة أبن الشحنة الصغير بسببه. وفي رمضان احتال جماعة من تجار كيتلان الإفرنج في أسر جماعة من أعيان التجار المسلمين من ساحل الثغر السكندري ثم باعوهم لبعض الروادسة إلى أن افتكوا من أيديهم بعد أخذ القدر المتفق عليه في شعبان سنة اثنتين وثمانين).
هذا وصف مجمل لهذا الجزء. وجاء أن يتبعه أحد قراء هذه الصحيفة بوصف أتم وأكمل للكتاب كله.
الرياض
حمد الجاسر
قانصوه الغوري
سلطان مصر الشهيد
للأستاذ محمود رزق سليم
الفصل الرابع
أقوال وأحاديث
بعد تولية السلطان الغوري ببضع سنوات، جلس الشيخ (ولي الدين القوصي) الفقيه، في إحدى مسائيات شهر رمضان تجاه مسجد الغوري، الذي أنشأ حديثا في حي الشرابشيين، في حانوت صديق له يمتهن حرفة الحياكة، ويتعاطى صناعة الأدب. . ويدعى (علم الدين الخياط).
خرج (علم الدين) من غمار عاميته بعض الخروج، وأصبح ربع مثقف. ولقد كان رجلا سمح الوجه، رطب الحديث، حسن اللقاء، يحب الأدباء من مجالسهم، ومن أفواههم، خليطا من النكات البارعة، والمحاضرات اللطيفة، والقولات النافعة. ودس نفسه في مجالاتهم، وعانوه عمله على أن يكون له من بينهم عدة من الأصدقاء.
أقبل الناس على (علم الدين) وكثرت زبائنه، فاتسع حانوته وازدان وتجمل. واستطاع أن يحتجز ركنا من أركان هذا الحانوت، ليكون مكانا مطمئنا، وملتقى هادئا، يتداعى إليه أصدقائه.
وكان أجمل ما يكون اللقاء بينهم في تلك الليالي الرمضانية الجميلة التي يحلو فيها السفر والسمر والحديث.
ولقد أعد (علم الدين) بهذا الركن عدة من مصاطب واطئة كساها بالحصير الملون. وربما تجد ببعض جوانبها وسائد وحشيات تلطف الجلسة وتهون أمرها وتسهل إطالتها، بل ربما تغري بها وتدعوا الأصدقاء إليها.
وأنتشر في نواحي الحانوت، القناديل الزيتية النظيفة الوضيئة فأضفت عليه ثوبا جذابا من النور.
وكان (ولي الدين) الفقيه، ممن يفد إلى (علم الدين) ويتردد عليه من آن لآن، ومجالسه في
حانوته ويقيم معه في ركنه المعد لضيفانه، زمنا ليس بالقليل بل ربما كان (ولي الدين) من خاصة خلصانه الذين أدمنوا القبوع في ركن حانوته الوثير وفي الليلة المذكورة وفدا إليهن وفاء لموعد اتفقا عليه، ليجتمع إلى سمرها طائفة من الأصدقاء، يطالع بعضهم بعضا بالجديد من أخباره واللذيذ الممتع من قصصه، والخفي من مذخرات علمه.
وكان علم الدين، وولي الدين، من يجلس إليهما، قد اعتادوا أن يتناولوا في مجالسهم أخلاطا من مسائل شتى قد لا تجمعها جامعة، إلا مناسبات استطرادية تافهة، وهي ما بين روايات أدبية، وطرف فكاهية، وأحاديث سياسية، ونقدات اجتماعية، ومساءلات فقهية، وعظات تاريخية، ونحو ذلك.
وقد يحمي بينهم وطيس الجدل والنقاش. وقد يسفل بهم الحديث وخفه ولجاجة، إلى مجانة ممجوجة، ودعابة مكشوفة، وقد يرتفع بهم الحديث، فيسمون إلى أعلى المقامات. . فينقدون النقد المر اللاذع حقاً كان أم باطلاً. . . صواباً كان أم خطأ. . . حتى إذا ما انفض سامرهم، وانقضى مجلسهم، انفض كل شيء من حديثهم فيه، وانقضى. ولم يبق في ذهنهم ولا لسانهم من أثره شيء وإن علقت أشياء منه بنفوسهم ولونت عواطفهم.
غير أن خطر هذا الحدث - إن كان ثمة خطر - لا يتعدى دائرة هذا الحانوت. . . وما كان لخطره أن يتعداها. . . لأن هؤلاء المتحدثين أشباه مثقفين، ثم لبس لهم صلة وثيقة بالعامة تجمعه معها على رأي: وليسوا بواجدين من يصيخ لهم إذا أهابوا، أو إذا دعوا. ثم إن العامة غافلة لاهية، وحولها هذا النطاق الحديدي للضروري من السلطان وأمرائه ورجال دولته.
ثم ما لهؤلاء والجهاد والكفاح وهم لم يجتمعوا قط إلا لتسلية وقطع وقت فراغ؟
هبت أنسام الليل وانية لطيفة، فأيقظت من الأذهان راقدها، وأنشئت من النفوس كاسدها، وكان الجمع قد التأم شمله: وانتظم عقده، ومن بينه أديب يتعاطى الشعر يدعى (شهاب الدين) ومتعمم من مستوفى الدولة يسمى (زكي الدين)، وتاجر من جيران علم الدين، ولقبه (غرس الدين)، وآخرون على غرارهم.
قال الشيخ ولي الدين: ما أجمل هذه الأنسام، وما ألطفها، وما أرق فؤادها، وما آسى يدها، إنها لتسري إلى النفس فتبعث يها نشوة غريبة، وتهزها هزة الفرح والسرور والابتهاج،
كأنما تعطف بها على أهل الأرض سكان الجنة.
أما الأمس فقد شقت الهاجرة علينا عصا الطاعة - على غير عادتها في مثل هذا الوقت - ولفحتنا بصفات حامية من يديها متوالية. وقد عاونتها علينا تلك الرمال السافية اليقظى التي كانت ناعسة الجفون في حضن الجبل، فحركتها الرياح من سباتها، وأقلقتها من مضجعها، وشهرتها سلاحاً تؤذي به من يعترض سبيلها. . .
فقال التاجر غرس الدين: وأين كنت يا مولانا الشيخ في ذلك الوقت القائظ؟ إن المرء حين ذلك لتجتمع عليه عدة عوامل تدفعه دفعا إلى منزله، لينال قسطا من النوم أو الراحة. فالحر الشديد، والرياح الشاردة، والرمال الهابية، وانفضاض السوق من التجار والمارة، وآلام الصوم، وما تعانيه البطون من الطوى، كل أولئك يغري المرء بالتماس الدعة والجنوح إلى السكون في عقر داره. . .
فقال الشيخ ولي الدين: حقاً! كل يغري بطلب الراحة والاستجمام: ولكن لي صديقا مريضا، احتجب عن عيني منذ أمد، فوددت أن أزوره وفاء للصداقة وطلباً للأجر. . .! وكنت أخشى أن يضيق وقت الليل عن زيارته. ولقد اضطرت مرارا أن أسير غامض العينين في الطريق حتى لا يؤذيني الغبار. ولا أكاد أفتحهما حتى تقتحمهما ذراته، فتقطر عبراتهما. . .
ثم أتدري ماذا أصابني؟ صادفت حفرة لم أحتط لها، فترديت فيها عاثرا في فضل ردائي، وأصبحت بذلك عبرة للمارة من الصبية وأشباه الصبية ألا اله الهرم وضعفه.
فقال التاجر غرس الدين: هنيئاً لك مرئياً يا مولانا. . .! (ضحك).
فرد الشيخ ولي الدين قائلا: هنأك الله يا بني، وأحسن إليك بأمثالها.
فقال الشاعر شهاب الدين: جاء في الحديث الشريف ما معناه: (إنما الأعمال بالنيات) وقال بعض الشارحين عن هناك مضافا محذوفاً، تقديره (جزاء الأعمال). . . (ضحك).
فقال الشيخ ولي الدين: صه! متى عرفت الفقه والحديث أيها الشعرور. . .؟ لا تلغ فيما لا تعرف. . ولا ترف وكيف. . حسبك أبيات هزيلة تقيم أودها، وقواف نحيلة ترمم جسدها. . ثم تدفع بها بين أسماعنا المصطكة، وتطن بها الذباب. . ألا قاتل الله حمقى زماننا من أمثالك الذي يحسبون أنفسهم في الشعراء وهو لا يحسنون قراءة الشعر وتقويم بيت من
أبياته. . . ألم ما قاله من قبلنا مجد الدين الخياط. . لقد قال:
وفي متشاعري عصري أناس
…
أقل صفات شعرهم الجنون
يظنون الفريض قيام وزن
…
وقافية وما شاءت تكون. . .
فقال شهاب الدين: هكذا أنتم يا معشر الفقهاء، تتأولون. . .! الشيخ أنني قصدت أن الله عجل لك الجزاء في الدنيا،. . . لعله يدخره لك في الآخرة!
أما نحن فإننا نعرف أن بعضنا من أمثالك الشيوخ بزلقون عن عمد في الطريق تمهيداً لغاية، وسبيلاً إلى مأرب. . . وقد قال أحد الشعراء:
إذا ما الشيخ ردى في طريق
…
وفاء الناس من جزع إليه
فذاك لكي يرى غرا صباحا
…
تحن لفرط نجدتها عليه. . .
أما فقهكوحديثك فكما قال كمال الدين الإدفوي:
إن الدروس بمصرنا في عصرنا
…
طبعت على لغط وفرط عياط
ومباحث لا تنتهي لنهاية
…
جدلاً ونقل ظاهر الأغلاط
ومدرس يبدي مباحث كلها
…
نشأت عن التخليط والإحلاط
ومحدث قد كان غاية علمه
…
أجزاء يرويها عن الدمياطي
وفلانة تروي حديثاً عاليا
…
وفلان يروي ذاك عن أسباط
والفرق بين عزيزهم وغزيزهم
…
وافصح عن الخياط والحناط
والفاضل التحرير فيهم دأبه
…
أقوال وسطاليس أو بقراط
علوم دين الله نادت جهرة
…
هذا زمان فيه طي بساطي
فقال الشيخ ولي الدين: اتق الله أيها الشويعر، ولا تظن بالناس الظنون، ونحن في رمضان. . .
فقال شهاب الدين: إذا لننتظر حتى يودع رمضان. وبعد ذلك تسن لنا الظنون. . .؟ (ضحك).
فقال الشيخ ولي الدين: لا! أعني أن رمضان فترة زمنية طاهرة مباركة، يتجمل المرء فيها بالسليم من الأخلاق والكامل من الأحاديث، ليكون صيامه من كل شابة. ولعل النفس تصفو خلاله، فيستمر لها من بعده صفاؤها. . . .
فقال التاجر غرس الدين: لقد صمت يا مولانا أكثر من أربعين وصمت أنا أكثر من ثلاثين. فهل صنت نفسك؟ أو لا تزال في حاجة إلى تجارب أخرى جديدة. . .
فقال الشيخ: قال الله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) والصوم عبادة مشروعة وتهذيب للنفوس.
فقال المستوفي زكي الدين: يبدو أن مولانا قد أثرت فيه أنسام هذه الليلة، فانسجم في حديثه. . . أفلا تخبرني أين تصلي الفجر القادم؟ ليكون لي حظ الجماعة من خلفك. .؟ (ضحك).
فقال الشيخ: حتى أنت تورى يا زكي الدين. . .؟
لقد هزأت حتى بدا من هزالها
…
كلاهما وحتى سماها كل مفلس
يا معشر القاهربين! أنتم لا تفوتكم النكتة، ولا تفلتكم التورية، ولو كانت على أنفسكم، حتى أصبحتم فيها مضرب الأمثال.
وما دمت يا زكي الدين تريد المزاح، فإن لك متسعا في مسجد الشرابشين. . . (ضحك).
فقال علم الدين: الأقل لنا يا مولانا الشيخ! ما حكم الشرع في الصلاة في هذا المسجد؟
فقال الشيخ: حكم الصلاة؟ مباحة في كافة المساجد، وفي الأماكن الطاهرة، لا حرمة فيها على المصلي، أما الجمعة وخطبتها، فقد أجاز الحنفية تعددها في المدينة الواحدة. وقد أفتى قاضي الحنفية الشيخ عبد البربن الشحنة، لمولانا السلطان الغوري بجوازهما في مسجده هذا، وأذن السلطان بها.
فقال علم الدين: أنا لا أسأل عن حكم الصلاة من هذه الناحية. وإنما قيل إن السلطان بناه بأموال جميعها ظلما وجوراً وعدوانا: فهل تصح صلاة في مسجد لم يؤسس على التقوى؟
الشيخ: أما الجور فوزره على من يجور. وأما الصلاة فليس هناك ما يبطلها في مثل هذا المسجد. فالصلاة صحيحة، وإن لزم المصلى حرمة. .
ثم إن الله تعالى بذات الصدور، وهو يزن الأعمال صالحها وطالحها، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.
علم الدين: أعلمت يا مولانا الشيخ كيف بنى السلطان مسجده هذا؟
الشيخ: لقد تهاوى إلى سمعي منذ أمد ما اجترحه السلطان حين تصدى لبناء هذا المسجد وتشييده وتجميله. ولكني دائما لا أسرع إلى الظن بالناس، فإن بعض الظن إثم. . ثم إني
أكره الغيبة والنميمة، وأعرف ان أهل مصر لا تطاق ألسنتهم. . ويل لامرئ تقع عيونهم منه على مذمة، أو تسمع آذانهم عنه منقصة، فإنهم لا يغفرون له ذنبا، ولا يسترون له عيبا. وقد يبالغون في لومه والحملة عليه بما لا يستحقه. . .
ثم إن هذا المسجد قد افتتحه السلطان ومعه قضاة القضاة. فحضورهم معه في افتتاحه والصلاة فيه فتوى ضمنية للعامة بجواز إقامتها فيه. فأن يكن هناك إثم أو حرمة، فهي لاصقة بهم. . . ولكن كيف جمع السلطان هذه الأموال ظلما وجوراً؟
فقال المستوفي زكي الدين: الحق أن السلطان قد اشتط في فرض الغرامات على المتهمين، وجاوز في ذلك حد العدالة. وأصبحت أقرب عقوبة يؤدبهم بها الغرم المالي. فامتلأت بذلك الخزائن الشريفة. . .
ربما كان له عذر عند أول عهده بالسلطنة، لأنه وجد خزائنها خاوية على عروشها، بعد أن عانت ما عانت إبان عهد الملك العادل وفتنته. . . أما الآن وقد امتلأت بالدنانير، وغصت بالأموال فلا معنى لكل هذه الغرامات والمصادرات. . .
إن مدرسته المنشأة في هذا الحي، قد أنفق على أموال المصادرات ووجوه الظلم. وبعثر على تزيينها ما فرضه من الغرامات الممتلكات وأراضي الأوقاف حتى أوقاف البيمارستان المنصوري قد فرض عليها مالاً.
ولم يقف عند هذا الحد، بل غلا في البناء، وبالغ في الزخرف، وجلب إلى مدرسة الرخام النفيس النادر وقد ابتاعه من مالكيه بأبخس الأثمان. وخرب قاعة شموال اليهودي الصيرفي، ونقل منها رخامها وأبوابها قسراً، وهكذا. . . حتى سماها بعض الظرفاء:(المسجد الحرام)! (ضحك).
فقال الشاعر: وقال فيها أيضا بعض الشعراء:
بني الأشرف الغوري للناس جامعا
…
فضاع ثواب الله فيه لمطالبه
كمثل حمام جمعت في شباكها
…
متى تلقى عنها طار كل لصاحبه
فقال المستوفي: أجل! ثم إنه بافتتاحها، وأقام الولائم الحافلة للأمراء، والقضاة وأعيان الدولة، فأمر الناس فأقاموا علي دورهم وحوانيتهم معالم الزينة، وعلقوا القناديل الموقودة.
وقد عقد بهذه المدرسة تلك القبة العظيمة التي غلفها بالقاشاني الأزرق، وخلع على عدد
كبير من اشترك في بنائها من المهندسين والبنائين والنجارين والمرخمين وغيرهم من الصناع خلعا ثمينة، وأنعم عليهم بالإنعامات النفسية، وأعطى كل (فاعل) ألف درهم.
(للكلام بقية)
محمود رزق سليم
رسالة الشعر
أول موعد. . . .
طال انتظاري يا حبيبة. . منذ الغروب
والليل قد بسط الجناح على المعالم والدروب
ما جئت أنت، ولا بدا للعين موكبك الرغيب
أما أنا. . فأنا هنا. . من قبل موعدنا الحبيب
قد حان وقت لقائنا، ومضى، ولما تقبلي
أنت التي بضياء عينيك الشهي حلفت لي
ماذا ترى ألهاك عن عدة اللقاء الأول؟
ما تفعلين إذن بحبي في الزمان المقبل؟!
واعدتني القيا، فكدت أطير من فرحي بها
وطفقت أنتهب المدى - شغفا - إلى محرابها
استلهم الأنسام عطرك عالقا بثيابها
وصبابتي في أوجها، في عنفوان شبابها
ما رف حولي في شعاب الليل طيف أو هفا
إلا أطرت وراءه بصرا وسمعا مرهفا
حتى مضى الزمن العجول، كنشوتي متلهفا؛
يستطلع الفجر الوليد. . . ولم أزل مستشرفا
ويفيض بي بأسي الممض فأنثني بمدامعي
صفر اليدين من اللقاء. . . سوى لقاء مواجعي
لا شيء في كفي سوى أشلاء حلم رائع
لا شيء غير حطامة الأمل الرضيع الجائع
هي خطوة، أو خطوتا، كلهجة المتعلثم
البيت بعدهما نداء الوهم يهتف في دمي؛
بمزارك الهاني، وعدت لموضعي المتوسم
كيما أراك، فلا أرى حتى سراب توهمي
أفنيت أيامي التي سبقت، أهدهد لهفتي
مترقبا صبح المنى يبدو بأجمل ليلة
أزجي خطاي لكل بستان، وكل صديقة
حتى جمعت من الشذى المنصور أحلى باقة
من أبيض يحكي جبينك، أو وفاء محبتي
أو أحمر خدودك، أو جواي وحرقتي
لو كنت أدري ما انتزعت الشوك منه براحتي
لتركته رمزا لغدرك قبلي أول فرحة
واها لأزهاري التي قطفتهن لتفرحي!!
وفصلت بين عروشهن وبينهن لتمرحي
واهاً لأرهاري أصابتهن خيبة مطمحي!!
فذوين بعد نضارة، وذبلن بعد تفتح
واها لأشواقي، ولى من حرها المتوقد!!
يخبطن في قفص الضلوع كثائر متمرد
يسألني سببا إليك كأن قلبك في يدي
وكأنني. . . لا أنت. . . من نسى الوفاء بموعدي
الذنب ذنبي لا تخافي ثورة الشوق المريد
وأنا الملوم، فواعدي ثم أغدري، هل من مزيد؟
يا كم خدعت، فما ارعويت وكنت ذياك الشهيد
ولدغت من نفس المكان، وسوف ألدغ من جديد
عبد الرحيم عثمان صارو
بابل في الجيزة
مهداة إلى الشاعر الشاب الأستاذ كمال نشأت بمناسبة إصداره ديوان شعر (رياح وشموع).
للأستاذ عبد اللطيف النشار
ما سحر بابل يا كمال
…
أحقيقة هو أم خيال؟
ما السحر؟ هل هو ما يفيض به على النفس الجمال
ما السحر؟ هل هو أن يدين لمن يحاوله المحاول؟
ما السحر؟ هل هو أن تقول فيبلغ النفس المقال؟
ما السحر؟ هل هو أن تجول بحيث يستعصي المجال؟
ما بابل تلك التي نالت مكانا لا ينال؟
هل لاختلاف لغاتها
…
فازت بألوية الجلال؟
أم للملاكين اللذين يروضان على الظلال
أم للصروح العاليات كأنها بعض الجبال
أم للحدائق فوق أبنية مباركة الظلال
ماذا ترى في بابل؟
…
هل سحرها الموصوف زال؟
أذهب إلى الأهرام وأنظر بابلا فوق الرمل
استأسدت وتحجرت
…
والسحر باق لا يزال
وأنظر إلى ثالوث أبنية بجانبها طوال
فيهن شيء ليس يدرك كنهه إلا الخيال
في حيث لا مرئي يشهد ناظر أقسى قتال
وترى القرون الأربعين وقد وضعن بها الرحال
جيش من الأجداد يهبط من ذرى فيها عوال
جيش من الأجداد يبلغ كثرة عدد الرمال
أشهدت معركة القديم مع الجديد ولم تبال
ويل لجيلك يا كمال
…
أن يفوزوا في النضال
أرأيت (بنتاؤور) يدعو بعض جيلك للنزال؟
من فيكمو ند له
…
إن صال بينكمو وجال؟
رأس على كتفيك يوشك أن تحطمه النصال
إن لم تكن عوضا
…
لجدك في المقال وفي الفعال
أكمال ما أدعوك إذ
…
أدعوك إلا للكمال
والسحر عندك يا كمال
…
والسحر يطمع في المحال
وتريد شيئاً دونها
…
والمجد في طوقي الرجال
عبد الطيف النشار
البريد الأدبي
حول تحريم الأغاني الخليعة:
قد قررت أخيراً إدارة المطبوعات تحريم عشرين أغنية سواء في الإذاعة أو الصلات أو الحفلات العامة أو الخاصة - وتلك همة مشكورة تحمد عليها - ولكن أين الأغاني الباقية المبتذلة وهي تستحق أن يسري عليها هذا التحريم!
ويعلم الله أن قد آلمنا - ونحن أمة شعارها الإسلام - أن تركنا - إلى الآن - هذه الأغاني الماجنة التي سرت وانتشرت هذا الانتشار في المدن والقرى حتى طغت على كل شيء في حياتنا وألبستها غير لباسها الذي كان الطهر والعفاف والقداسة!
ومالي أذهب بعيدا؟ فها هي ذاكرتنا بقايا أغاني الماضي التي كانت تمثل الحياء بصورة فاتنة أخاذة تبين مزاياه وتشير من طرف خفي إلى ما يدور في خلد الفتيان والفتيات من آمال وآلام!
أما أغانينا المستحدثة الهزيلة فإني لا أتصورها إلا حربا على الأخلاق والعادات، بل أني لأستحي أن أشير إلى طرف منها لما فيها من جارح القول وفاحش اللفظ. وأكبر الظن أن هذا النوع من الغناء هو العامل الأكبر في تنحي القليل من فتياتنا عن جادة الصواب وتخبطهن في مهاوي الرذيلة.
ولا يخفى على الجميع أن الغناء الفاحش هو أشد على الأخلاق من التهتك المكشوف، إذ أنه وسيلة عملية للإباحة لكثرة ترديده على ألسن الشبان والشابات من آن لآخر.
فإلى أن تظهر تلك الأغاني التي نريدها وهي التي تمثل الحياة المصرية في منها وقراه بأسلوب سهل محبوب، ويهدي إلى الأخلاق العالية، ويمجد الوطن والعروبة، وينشر بأريجه حياة الطهر والعفاف، ويحض على المثل العليا في الحياة، ويمثل في ثناياه أمراضنا الاجتماعية بصورة مزرعة حقيرة وينفر منها الطبع السليم والخلق الكامل والتربية الصالحة.
أقول ثانيا إلى أن تظهر تلك الأغاني، نريد تحريما باتاً لكل الأغاني التي يشم منها رائحة الخلاعة والمجون، لنحمي أنفسنا وذرياتنا من هذا العبث المهين.
شطانوف
محمد منصور خضر
سلطان السليط
السلاطة (هبة) يباهي بها طوال الأسنة، في زمن معوج لطم الباطل وجه الحق غير متهيب ولا خزيا!
والسليط مسف مستخف، لا يبالي سوى نوعه، ولكل شيء آفة كم جنسه، فهو فانك لهج على الوادعين المسالمين، ومنزو منطو أمام المسلطين المؤذن، لا يعرف قدر اللئيم غير اللئيم!
والسليط يعلق بلسانه الإسفاف، ويلعق الهذر في نهم الذئب1
ومن العجب أن المجتمع يغريه على استدامة سلاطته بالمقاربة والمدراة والتخوف؛ فيكبر وهمه في رأسه حتى يغالي في نزواته وغلوائه!
وإن هذا السلطان الذي صنعه بخشونة طبعه، وخسة حسه، واتضاع نفسه، وضآلة شخصه، يجب أن يحطم على رأسه.
وإن المسالمة في جانب المخاشنة ضعف، والمراوغة مع الوضيع غفلة!
يجب أن نحرر شعورنا ونطلقه من محبس الاستحياء، ما دام الزمن لا يعرف سوى العنف في منطق المؤاخذة.
والحياة سجل يحفل بتلك الصور القاتمة التي تظلم جوانبها المضيئة فتدعونا إلى السأم، والضجر، والمضايقة، ونحن الذين نجلب إلى أنفسنا هذه المعاني بعدم مطاردة الجبناء!
حدثني رجل فاضل قال: كنت أجالس جلة المجالسين؛ فيغشى مجلسنا معتوه أعمى الجنسان، مستطيل اللسان، أغراه تسمعي إليه، وترفقي به، إلى تزييف كل قول في جرأة وقحة، والجلساء يخشون سلاطته، ويحاولون مجاراته. ولما برم شعوري به اعتزمت أمرا، وجعلت على يميني العصا التي تطوي لسان هذا الرعديد. ولقد عاود سخفه فزجرته حتى انكمش وتكور ونظر إلى عصاي نظرة الترفق، ثم طواه أفق الخزي ولم يعد إلى المضايقة! قلت: إن سلطان السليط مصنوع من الطيبة المرادفة للغفلة!
بور سعيد:
أحمد عبد اللطيف بدر
حول رسالة الأزهر:
كنت أطالع، ما كتبه الأستاذان - سيد قطب - وشاهين - عن الأزهر وكأنه فزعة تنطلق من كياننا الثقافي والروحي لإيقاظ الأزهر وشارة الأضواء حول موقفه الغامض ومستقبله المريب. ولكن كيف يتسنى للأزهر - ما دام يحبس نفسه داخل جدران العصور الوسطى ولا يسمح لنور العصر الحديث أن يملأ آفاقه - أن تكون له رسالة إنشائية إبداعية في الميدان الديني وهو في عزلة عن تلك الدراسات التي تعوم حول رسالة الدين الاجتماعية، والتي تبلورت في علم الاجتماع الديني وعلم مقارنة الأديان. وقد أخذت دراسة الظواهر الدينية في عصرنا تحتمل مكانا هاما جدا بين مجموعة العلوم الاجتماعية. ولا شك أن الأزهر في أشد الحاجة إلى هذا النوع من البحوث، إذ ليس من الممكن أن تزدهر الدراسات الإسلامية ودراسات التوحيد بصفة خاصة دون هذا العلم. والأزهر يحرص على دراسة اللغة والأدب وشيد لهذه الغاية كلية، فهل حرص الأزهر على كيانها فطعمها بالدراسات الأدبية واللغوية التي تنهض بها الكليات التي تعنى بدراسة اللغة والأدب. والتي تقع على بضع خطوات منها - هي لا تعرف قيم لدراسة اللغة إلا للجانب الذي يتعلق بالإعراب؛ ولهذا كان - الأشموني وحاشية الصبان - يتمتعان بقسط وافر من العناية والجهد. ولكن هل عرفت - الكلية - أن هناك أبحاثا تدور حول اللغة ليست ناحية الإعراب أخصب منها ولا أجدى؛ منها الجانب الاجتماعي والجانب المنطقي والجانب النفسي والتطور اللغوي. الخ، فهل استحقت هذه الدراسات نظرة ولو خاطفة من واضح المنهج لكلية تدرس اللغة؟ وتدرس الكلية ما يقال له الدراسات الأدبية، فهل عرف الأزهر أن الدراسات الأدبية تطورت عظيما وأن هناك ما يقال له - علم النفس الأدبي - الذي أصبح ضرورة في فهم الأدباء وتأريخهم. فالدب حينما يحس ويتأثر فيجد الحاجة إلى التعبير، والناقد أو القارئ الأديب حينما يتفهم هذا التعبير والإحساس ويتذوقه ليقدره لا يستطيع أحدهما أن يقيم عمله إلا على أساس ثابت من معرفة النفس الإنسانية وحياتها الفنية، وذلك هو ميدان علم النفس الأدبي - فيجب أن نقيم دراستنا الأدبية على الفهم
النفسي لكل نص أدبي، وإلا فإنا بدون هذا الفهم النفسي لن ندرك الدب إدراكا حقيقيا ولن نتذوقه، وسيكون حكمنا عليه قاصرا خاطئا. . .
وتدرس الكلية البلاغة في كتب أبعد ما تكون عن تكوين الذوق البلاغي. فهل تعرف كيف تدرس البلاغة في الكليات التي تدرس البلاغة؟ الدراسة المثمرة هي أن تسبق أولا بمقدمة نفسية تنظيم دراسة القوى الإنسانية عامة وصلتها بالحياة الفنية والناط الوجداني وعلاقته بمظاهر الشعور الأخرى في عمله الفني ودرس الخيال والذاكرة والإحساس والذوق ومعرفة أمهات الخوالج النفسية من حب وبغض وحزن وفرح وغضب وغيرة وانتقام وما إلى ذلك مما هو منبع المعاني الأدبية الكبرى في الآداب الإنسانية على اختلافها. . . وعلى صاحب الفن المنتج وناقدا أن يعرف آخر ما وصل إليه البحث النفسي. وقد أصبح التقسيم للبلاغة إلى معاني. وبيان. وبديع. غير ذات موضوع في البحث البلاغي. . وصارت البلاغة تدرس على أنها وعدة متصلة تبدأ من البسيط إلى ما يليه. تبدأ من الكلمة المفردة فالجملة والفقرة فالقطعة الأدبية وهكذا يقوم المنهج الفني البلاغي على أصول وأسس نفسية قبل كل شيء -
أين الأزهر - يا صديقي - من هذه الأبحاث التي تملأ شعاب المعاهد والكليات التي تشعر أن لها رسالة إنشائية إبداعية. .
فهل تنفذ هذه الصيحات إلى حيث نأمل؟ هذا ما نرجو أن يكون.
محمد عبد الحليم أبو زيد
القصص
أعاصير
للأستاذ أحمد القادر الصاوي
خرجت إلى الطريق وفي رأسي معركة، ومشيت ومشيت، ولكنني كنت أمشي داخل نفسي، وطالت الطريق. . ترامت أمامي وامتدت. . ترامت كما يترامى الزمن ويمتد، وصعدت فيها وهبطت. وحين تطلعت بعيني لأرى ما بقى، رأيت أنه على مسافات. ومشيت ومشيت.
وكان يخيل إلي أحيانا أنني لا أمشي، بل أسبح.
وصلت، وقدامي تتخاذلان. وتواريت في حجرتي وتهالكت إلى سرير نبت على جوانبه الشوك. وتلتفت نحو نفسي المنهوكة أسالها العون. وقادتني إلى مستقبل عبوس. قطعة من ظلام دامس خضتها حائراً.
وطاف بي أمسي نقلني باردة. وانسكب وجداني في أودية من الذهول. . عميقة مظلمة.
ودققت في أمري. واكتشفت أني مريض برضاي. وفرحت جداً. . سأتخلص من الداء بيد أنني فشلت تماما واستلقيت في أحضان أوهامي، وسريعا شملت كل أفكاري.
وأغمضت العينين. وإذا بي أتهادى وسط مواكب ومشاهد، الذكريات مواكب، والأحداث مشاهد وتتابعت سلسلة من الصور طويلة جداً وما برح الذهن يجذبها إليه، فتطوي فيه طيا. وراح - وهو يستعرضها - ينمقها. . يشيد هذا الماضي الوارف. إن للماضي رونقا.
واستيقظ على صوت يناديه إلى الطعام. قام مرتبكا. وألقى جسده على أقرب كرسي. ومد يدا فاترة. وسأله:
- مالك! - وأجاب - لا شيء.
واستجمع همته ليسترد نشاطه المسلوب، فتضاحك: - تعجلتم.
- بل تأخرنا كثيراً.
وعلته دهشة، لأنه ما كان يحتج على تأخر الغذاء. وقيل له: - تعزمك؟
وأكل أثقل طعام. وأوهم من حوله أنه امتلأ. تنهدت والدته وتعجبت أخته.
وأقبل الأصيل. وهبت الريح شديدة عاتية. وسمع لها هواء رهيبا. وتمضي فترة تتكشف
نسيما رقيقا. وتنفست بسمات خفيفة على كبدي. . أفرجت عنها قليلا أن دفعات ناعمة أهدت إليها أريج البنفسج. وتذوب فيه.
وتفتحت نافذة أمام روحي. وأطلت منها على عالم جديد.
وتنبهت. . وعت وأرهفت لتستمع بنظرة أو بضحكة أو بكلمة. وأني لها على البعد والنوى!
وعادت العاصفة
وتتابعت أفكار كثيرة مزعجة. وجرفته بين طياتها أمواج عالية ورسب واختنق.
وكانت وساوسه كزوبعة تهب فلا تبقى
وأظلته سحابة داكنة. ولا يملك فؤاده، فتمتصه مجاهل ملتوية. . أشجانه وآماله.
وظل يرقب نفسه حزينا تتحلل وتتساقط. ورثى لها!
أشعة ساخنة تدفق في جوانحه. . تشيع في أنفاسه اللهب ما احبه إليه يحيط قلبه بالدفء.
وصورة أمام عينيه لا تنحرف عنهما ما أكرمها عليه برغم حجابها الرؤية والمرئيات.
أصبحت لا أرى. . أرى فقط جمالها وأنوثتها وفتنتها
أصبحت عجولا. . أود ان أثب من فوق الحوادث. . أسبقها ولا أطيق مكثاً. . .
وأقود نفسي إلى منزلها وأشواقي تحثني وادعوا قلبي إلى الصبر، فلا يستجيب.
وتشابكت السحب، وراحت تزرف. وأحار تحت الدموع الغرزية. وحولت خطاي إلى مسكني. . . .
وفجأة صفت السماء. وانثنيت مرة أخرى إليها وتألقت النجمة في نافذتها كالماسة الكريمة. ونظرت ذاهلاً ونظرت هي ي حزينة وخفق قلبي خفقته أحسست بعدها أنه يتصدع ويتداعى
رباه، أيلقى بعض الناس ما ألقى؟!
وانتزعت رجلي العودة. انتزعها نزعا
وتجمع الظلام على الدنيا. وتراكم على قلبي جبل حالك من الترهات.
لو تستتر المرئيات. وتظهر صورتها وأشعر أن مخدرا يسري في جسدي. . أخيلة وخيمة تنثال إلى رأسي كأخيلة رجل تناول قدا كبيرا من المخدر. . . وتضيق أنفاسي.
وفتحت النوافذ والأبواب، ولكها تتعقد في صدري واستقبلت السماء.
وتراءى القمر وحيداً حزينا. . تراءى كفجوة تخترق حائط الظلام الهائل. وجذبت نفسا طويلا. . لو استطعت كان أطول من الليل. ودخل الهواء الأسود رئتي.
وبقيت في النافذة، والليل أمواج ساكنة. . .
وسمعت صوت أقدام ثقيلة وقورة. كان رجل الدولة يتولى حراستها، ومر حوذي خاطب خيله مدللا إياها ربما أفاد كثيرا ذلك المساء. وأدار عربته ليأوي.
ويعبر أحد السكارى. . يطلق مزعجاته. . أغان مخنوقة مبتورة وفاجأه الجندي. كف! ومشى مستخذيا.
أولئك جماعة ما بعد الساعة الواحدة بعد نصف الليل. . . كلهم مرح. . كلهم سعيد. . .
والليل يزحف فوق صدري كغمامة سوداء، ليس لها نواح تدركها العين. وتحولت إلى البدر كالغريق. أنني غريق لجة قاتمة.
ويلاه! اختفى، وترك الدنيا. كانت متعلقة بأشعته، فلما قبضها هوت في بحر من الظلام.
وأنظر من قاعه، فيشاهد خيالي قمرا آخر. إنه يشرق من قلبي فيضئ حناياه. ويهتز الظلام. . يرتجف ومولي.
وأشاهد نفسي طافيا في بحيرة من الضوء. وأشاهد فتاة تسبح في ذهني، وكلها مفاتن.
. . . وجه كالزهرة الناضرة، وقوام كالرمح الممشوق، وأنوثة تتألق وتزهو. وصوت كأصوات الملائكة. . ترتيل ونغم.
تلك فتاة جمعت في نفسها حشدا من الحسن. . وستركع أمنع القلاع أمامه. . ستخر مويل قلب غزاه. . ستزلزل. . سيهوى
ويل عين رأت لن تغفى ستسهد.
وأفتك ما في الوجه عينان تثبتان على قلبي. . تصبان عليه الوهج ناعما رقيقا ما أبهجه!
وينصهر القلب تحت النظرات. . يترقرق ويسيل في مسارب ضيقة معقدة. وبحثت عنه فأخفقت. . تشربته المسارب الضيقة. غرق في أحزانه! ويلي. ويله!
أيتها العينان، ما بال ذبولكما يسري إلى قلبي؟ حسبت العين المريضة لا تمرض الأعين.
أيتها العينان، إذا تأملتكما أشرفت على قلب من النور
أيتها العينان، أي صفاء بعتماه في روحي؟
أية مرآة أنتما أية صورة تعكسانها أية صورة ترعرعت فيكما
يا روحها، أنت أنضر صورة وأجملها وفمها؟!
إذا ما ارتسم في ذهني، تخيلته عليه قبلة، أشعر بعدها ببرودة رافية. وتقدمت بفمي أقتطعها. ولم أصل!
إنني أفيد الخيال بالواقع، فأنشئ قبلا، لا تلبث فتنتها - يا طالما تعلقت في حبال من الخيال. ويا طالما تراخت الحبال، وما أسرع أن تتراخى!
فمها وردة متوهجة. إذا تكلمت تفتحت. كثيرا ما تفتحت الوردة فعطرت الحياة حواليها.
وأتصورها الآن تتفتح، فأسمع تغريدة وترددها الوردة. . . أسمع نبرات كلها موسيقى. كلمات موشاة منمقة مختصرة كخفقة الضوء، ولكنها بليغة في أوج البلاغة وذروتها.
لو سمعتها وحدها حياتي كلها، لعمر الله، ما قنعت ولا مللت!
والجبين الوضاح. والشعر اللين. والقوام المعتدل؟
أسنة مشرعة نحو صدري
والليل متمدد على الدنيا كوحش خرافي لا يقف البصر على زواياه. . والسكون لا صور له. . موحش رهيب. .
وماتت الضوضاء
وتجمعت الحركات الساخنة في رأسي. وتحولت في تيار ساحق. وازدحمت فيه بضعة أسباب مائعة للغز الذي أقاسي من أجل حله.
ويشب الجوي، فيثير في قلبي أحزانا. ويتحامل على، فيجرد لي فيلقا من الشجن.
ويتنقل اليأس في نواحي الروح، فيهوي بها إلى قرارة الجسد، وتغيب في ظلمات وأعاصير.
ويتداعى الأمل. هل من بعث يعيد ما هلك في الأركان العتمة؟ أحاوله. . ألتمس ثغرة يتنفس منها، فأمشي نحوها. أو خيطا من نور يؤدي إليه، فأتعلق به! وعجزت جد العجز. .
وبثق في قلبي الضيق واستقر في بدني الملل. رحماك!
وتفتحت آذان السماء، فرفرفت على عيني سنة قصيرة، وانتهيت بعدها.
تقضي الليل، وآذن الفجر أن يولد، واستهل صراخ الوليد عن ضجيج الناس وحركتهم.
واستيقظت الدنيا. واتسع الأفق وأضاء. وطلى الضوء كل شيء. . صبغه بلون الحياة والرضى والأمل. اللون البهيج.
وآن لقلبي أن يتنهد بعد امتداد بكائه
وألقى إلى صاحبه خطاب. وفضضته. وتسلسلت أمام عيني كتاباتها. واتسعت حدقتهما والتهمتا الكلمات حرفا حرفا.
كل جملة تكون معنى قائما.
كل كلمة تبرز تعبيرات شتى. . تمثل ضميرها ثم تطبعه على الورق، فيكاد المداد الأسود يضئ.
كل لفظ يستشف معه ضراوة البعد وصرامة الشوق، واستبداد الألم.
ويزدحم صدري بالمعاني الواردة ويصيغ مادة التأويل والمفكك.
والكتاب، أوله حتى آخره صورة خلجات نفس هالعة، والهلع موزع في معانيه كلمة كلمة، مرتسم عليها جملة جملة. وأول نظرة ألقيتها عليه أكدت أنه عمل روح جازع.
ليس به تاريخ ليس به عنوان ليس به إشارة إلى لقاء فأستند وأضع لهذه البلبلة حداً.
وزاد الغموض، أن بعض الكلمات أزيلت. لم يكتب شيء مكانها، فارتبك بناء الجمل والمعاني. وتكبدت في حل تلك الرموز البالية العناء.
قالت: سأحضر، انتظرني!
وانتظرت حتى أودي الصبر. وانسلخت أربعة أسابيع وأيام. . هل بررت؟!
وأصحب قلبي بعد طول المهلة إلى نافذتها. وأظل تحتها ساعة أو ما يعادلها، فلا أرى الطلعة السمحة.
ضللت معها وأبعدت
أقدمت أسير في صحراء قفراء. . أقطع الفيافي والمسافات، فإذا تركتها، وحللت من ذكراها في واحة نارية.
أقدمت على النار، وأنا أعلم أنها ليست النور ولا الدفء وأقدمت!!
أحمد عبد القادر الصاوي