الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 942
- بتاريخ: 23 - 07 - 1951
متى يغضب الفلاح؟
الرضا والقناعة والصبر هي الصفات المميزة للفلاح المصري. تأصلت فيه بالطبع والوراثة والبيئة، فأثرت في حياته، وهيمنت على سلوكه، وتصرفت بهواه!
يستبد بحكمه طاغية كالحاكم بأمر الله فيستكين؛ ويثب على عرشه خصي ككافور فيخضع، وتملك عليه امرأة كشجرة الدر فيطيع؛ ويسيطر على أمره الأجنبي فيرضى؛ ويستأثر بخيره المستعمر فيقنع؛ ويحطمه بالذل صاحب الحكم فينقاد؛ ويسمع بالأحداث تتدفق على وطنه وتتواثب على قومه فلا ينبض فيه عرق ولا يغلى له جوف! كأنما كل امرئ في الريف أمة وحده: شأنه يغنيه، ورزقه يكفيه، وكوخه يؤويه، وكل ما خرج عن غيطه وبيته لا يعنيه!
تقرع سمعه الأحاديث النُّكر عن وزير من الوزراء نشأ على تلال القرية كما نشأ، وذاق بؤس الحياة كما ذاق؛ ثم رفعته الظروف المجيبة والظروف العجيبة إلى كرسي الحكم، فتاه وتكبر، ثم طغي وتجبر، ثم سرق وغصب، ثم جامل وحابى، ثم تاجر ورابى، ثم أمكن عشيرته من دماء الشعب وأموال الأمة ومرافق الدولة، فاستحلوا ما حرم الله، واستباحوا ما حظر القانون، وإستجازوا ما منع الخلق، فيسمع كل ذاك بأذن من طين، وأخرى من عجين، كما يسمع الصوفي المعتكف أنباء الرياضة أو أخبار البرصة!
لا يغضب لمضرة عامة، ولا يرضى لمنفعة بعيدة؛ إنما يغضب أو يرضى تبعا لما يلقى من الشر أو الخير في أهله أو حقله أو بهيمته. يرضى عن الحكومة ويصفها بالصلاح إذا أعفته من تكاليف الخفر، أو كافأته على حراسة النيل، أو خفضت له أجرة السفر على السكة الحديد، أو وزعت عليه بعض الفدادين، أو ارتفعت في عهدها بالمصادفة أسعار المحاصيل. ويسخط على الحكومة ويرميها بالفساد إذا ظهرت الدودة في حقول القطن، أو فشا الطاعون في حظائر الماشية، أو نقص الماء في قنوات الري، أو هبط سعر البيض في سوق البندر!
ذلك لأن الفلاح ابن الأرض، لا يكاد ينزع جسده من حضنها، ولا يخرج يده من بطنها، ولا يفهم الحياة إلا مضافة إليها أو مقدرة بها، ولا يمد بصره إلى أبعد من حدودها. والقائمون على أمره، القابضون على زمامه، لا يريدون أن ينبهوه إلى أن فوق هذه الأرض سماء فيها الروح، وفيها الطموح، وفيها الكرامة، وفيها الأمل، وفيها الرفعة؛ وأن اللاصق بالأرض
حيوان، والعالق بالسماء ملك، والإنسان خلق دون هذا وفوق ذاك.
فما دام الفلاح وهو سواد الشعب ممدوداً في دود الأرض يزرع ليأكل، ويحفر لينام، ولا يهمه أن ظلم حكامه أو عدلوا، وجد زعماؤه أو هزلوا؛ وسواء عليه أخرج المحتلون أم بقوا، وسعد مواطنوه أم شقوا، فهيهات أن يكون لنا رأى عام وحكم صالح ودستور صحيح ووطن مستقل! ومتى استنار ما أظلم من نفسه، واستيقظ ما غفا من حسه، أدرك أنه مصدر السلطة ومورد الثروة وعماد الأمة، فلا يقبل أن يهمله حاكم، أو يستغله ظالم، أو يتغفله زعيم. ولمن ليت شعري بأي طبل يسمع؛ وبأي بوق يفيق؟!
أحمد حسن الزيات
مصر
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
مصر جنة عالية قطوفها دانية، وصحراء جدباء لا زرع فيها ولا ماء
وهي بلد العجائب والمفارقات: بل إني أعتقد أن الطبيعة الهي قسمت مصر إلى واد أخضر يانع ضيق، وإلى صحراء واسعة، قد قسمت مصر بنفس النسبة إلى عجائب ومتناقضات.
فمصر دولة غنية فقيرة، قوية ضعيفة، متعلمة جاهلة، مؤمنة متحررة، ناهضة متأخرة، راضية ساخطة، مستقلة محتلة، حرة مستعبدة، وهي دولة شرقية توشك أن تصبح دولة غربية!
نعم يا أخي! مصر دولة غنية: فيها الثراء الفاحش والغنى البالغ والترف الزائد. فيها قوم ينعمون بالضياع الكبيرة والعمارات الشاهقة وأسهم الشركات الرابحة والسيارات الفخمة. يسكنون القصور والدور الواسعة. لهم الخدم والحشم والأتباع والأنصار. يقضون شتاءهم في القاهرة وإن قضوا جانباً منه في مشاتي الأقصر وأسوان، ويقضون صيفهم في الإسكندرية. وربما دفع الكثيرين منهم الترف إلى السفر إلى أوربا لقضاء الجانب الأكبر من أشهر الصيف القائظ. وهؤلاء القوم مسرفون في ترفهم. ولقد بلغت قيمة ما أهدى إلى أحدهم - بمناسبة زفافه - من ورود سبعة آلاف جنيه!
وفي مصر فقر مدقع: فيها أقوام يعيشون على الكفاف، أجور مبخوسة وأرباح ضئيلة، حياتهم بؤس ومنازلهم أكواخ. بل إن بعضهم لا يجد المأوى فيقضي ليله في العراء يتخذ من الأرض مضجعا ومن السماء والهواء غطاء ولا يجد ماء ولا غذاء ولا كساء! ومن العجيب أن نسبة المترفين من الأغنياء إلى الفقراء تشبه إلى حد كبير النسبة بين الوادي وبين الصحراء! قلة مترفة وأغلبية بائسة
ومصر دولة قوية: يؤمن أبناؤها جميعاً بأن من حقها - وقد كانت فيما مضى مرموقة المكانة مرفوعة الرأس شامخة العز والمجد - أن تسترد ذلك الماضي الزاهر، وأن تحتل مكانها اللائق بها بين الأمم شرقية وغربية. وقد ضرب أبناؤها من متطوعين ومن جند ومن ضباط في حرب فلسطين الأخيرة أمثلة عليا في الشجاعة والبطولة، وقدموا أرواحهم فداء للوطن!! (العربي والمصري)
ولكن مصر مع هذا دولة ضعيفة، فجيشها برغم قوة روحه المعنوية وبرغم شجاعة ضباطه وجنوده؛ ما يزال بعيداً عن مكانه المرموق. ولا تقع تبعة ذلك على مصر أو على المصريين. وإنما يرجع ذلك إلى موقف إنجلترا من مصر. ذلك أنه بمقتضى معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وإنجلترا سنة 1936 تعهدت إنجلترا بإمداد مصر بما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر. ولمن إنجلترا - رغبة منها في بقاء مصر ضعيفة - ما تزال حتى الآن تماطل في إمداد مصر بما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر. وربما كانت مصر الصديقة القوية خيراً لإنجلترا من مصر الضعيفة، ولكن (الثعبان) البريطاني لا يؤمن بذلك
ومصر دولة متعلمة: فيها جامعات أربع ومعاهد متعددة ومئات من المدارس الثانوية وآلاف من المدارس الابتدائية والأولية. فيها تعليم مدني وفيها تعليم ديني يشرف عليه الأزهر الشريف، ومع هذا فما تزال الكثرة في مصر جاهلة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نرى أن الحياة العلمية في مصر ما تزال دونها في أوربا وأمريكا. ولقد حلق أدباؤنا في آفاق الأدب وبلغ بعضهم مكانة ينافس بها أعظم الأدباء العالميين. أما علماؤنا فما يزالون في حاجة إلى أن ينهضوا وإلى أن ينشطوا حتى يلحقوا بزملائهم من علماء الغرب
ومصر دولة مؤمنة: فيها أقوام يؤمنون بربهم أشد الإيمان وزادهم ربهم هدى. يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة. ويخلصون لله فيما بينهم وبين أنفسهم، ويعملون الصالحات ويخشون ربهم ويسعون لمرضاته
ومع هذا فإننا نرى قوماً قد تخلوا عن آداب دينهم وعن تقاليد مواطنيهم وعاداتهم، فإذا أقبل الصيف هرع القوم إلى موانئ البحر: الإسكندرية، وبور سعيد، ودمياط ورأس البر والسويس. وهناك ينزل النساء إلى البحر كاسيات عاريات كأنهن على شواطئ كاليفورنيا أو دوفيل، فإذا خرجن من الماء استلقين على الرمال وقد برزت منهن النهود وتعرت السواعد والسيقان والأفخاذ، وتناثرت الشعور ونسوا تماماً قوله تعالى:(يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما)
ومع هذا أيضاً ففي مصر عائلات محافظة وبيوت ما تزال تحافظ على تقاليد الإسلام أشد المحافظة. بل أنه ما يزال هناك قوم في صعيد مصر لا يسمحون للمرأة أن تخرج بتاتا،
وتغادر البنت دار أبيها يوم زفافها ولا تعود إليها إلا في الضرورة القصوى، وإذا خرجت فإنما يكون ذلك إذا انتصف الليل وخلت الطرقات، وتؤدى الزيارة وتعود بنفس الحال. وأما ملابسها فتغطي كافة الجسم من أعلى الرأس إلى أخمص القدم
وهكذا ترى في مصر ورعا وتقوى، وتبرجاً وخلاعة، ورجعية وتعصباً!
ومصر أمة ناهضة: تحاول جاهدة أن ترتقي بجميع مرافقها ومواردها زراعية وتجارية وصناعية، ومع هذا لم تستطيع مصر أن تبلغ غايتها من التقدم
ومصر أمة زراعية: وما تزال الطرق البدائية هي الطرق المتبعة في الزراعة، ولم تستخدم الآلات الحديثة إلا لدى كبار الملاك والزراع والشركات. على أن أرض مصر خصبة وتربتها جيدة وفلاحها صابر مثابر. كل أولئك ضمن لمصر محصولاً وافراً وخيراً عميماً
أما الصناعة المصرية فقد خطت خطوات كبيرة نحو التقدم، واستطاعت مصانع الغزل والنسيج أن تمد مصر بما تحتاج إليه من أقمشة. ونحن نرجو للصناعة في مصر مستقبلاً زاهراً؛ فهي الأمل الوحيد لحل مشكلات مصر خاصة الناتجة عن تزايد عدد السكان المستمر وهناك مرافق مصريه تفيض بالذهب على الشركات الأجنبية، أهمها قنال السويس وموارد البترول على شواطئ البحر الأحمر. فهل تؤممها مصر؟
وأهل مصر فريقان: قلة مترفة لاهية، وكثرة ساخطة تعاني من ويلات الحياة الكثيرة. وأنت تسمع بين أن وأن عن تذمر مختلف الطوائف وشكواها، وليس من شك إن مصدر الشكوى يرجع أولاً وقبل كل شيء إلى الغلاء الذي استشرى حتى شقت على الناس الحياة. أني أرجو أن يقلل السادة المترفون من ترفهم، وان يوجهوا بعض أموالهم وجهودهم نحو إنقاذ الطبقات الفقيرة فإن ذلك خير لهم وللوطن أجدى
ومصر أمة مستقلة وعضو في هيئة الأمم المتحدة: ومع ذلك فإن الجنود البريطانيين يحتلون منطقة قنال السويس من أرض مصر، ومصر وأبناؤها لن يرتضوا هذا الوضع، ولا بد أن ينتهي الاحتلال إن عاجلاً أو آجلاً سواء رضيت إنجلترا أو لم ترض
أما بعد
فهذه مصر. وأنا أرجو أن يحدثنا أدباء الأقطار الشقيقة كل عن قطره حتى يتم بيننا التعارف أني لهم من الشاكرين
أبو الفتوح عطيفة
المدرس الأول للعلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية
علاقة الأدب العربي بالأدب السوفييتي في القوقاز
للأستاذ شاكر الدبس
منذ سنتين ونيف تقريبا قامت في الاتحاد السوفيتي حملة أدبية الغاية منها العود إلى المنشأ الصحيح للأدب والفن اللذين تمتاز بهما شعوب هذا الاتحاد. وهذا بحسب رأيهم لا يعني انهم يرفضون قبول أي أدب صحيح بأنهم من الخارج، وإنما يريدون أن يثبتوا للملأ أن ما ينسبونه في أدبهم إلى أمم أخرى هو في الواقع غير صحيح. وعلى هذا الأساس نشرت المجلة الأدبية السوفيتية (ليترانورنايا جازيتا) في عددها الصادر في 12 يناير لسنة 1949 مقالاً مطولاً باللغة الروسية للأستاذ كليموفتش في موضوع (المهمة الأدبية اليومية الضاغطة) عالج فيه هذا الموضوع معالجة دقيقة تخلص منها إلى نفي القول بأن الأدب في الجمهوريات السوفيتية في القوقاز يرجع إلى الأدب العربي. وقد آثرت نقل خلاصة عن هذا المقال لخطورته، لما له من العلاقة المباشرة بنا
بعدما يتكلم كليموفتش عن مكانة الأدب في حياة الشعوب السوفييتية، وعن الاهتمام بجعله يتفق مع (التاريخ الأدبي الخطير الذي امتازت به روسيا)، يعود فيلقى تبعة كبرى على الأدباء في ضرورة تحرى الحقائق في تاريخ الأدب في الشرق السوفيتي. ومن ثم يبدأ بحث هذا الأدب وعلاقته بالأدب العربي فيقول بأنه يعتقد بوجود علاقة بين الأدب في هذه الجمهوريات وبينه في تركيا وإيران والعالم العربي؛ ولكنه في نفس الوقت ينكر كل الإنكار ما يذهب إليه بعض الأدباء بأن منشأ الأدب في هذه الجمهوريات السوفيتية هو الأدب التركي والإيراني (الفارسي) والعربي. ولكي يضع النقط على الحروف ويفهم شعوب الجمهوريات السوفيتية الشرقية ما هي علاقة أدبهم بالأدب العربي يقول:
(إن العرب عندما تخطوا حدود جزيرتهم العربية في القرن السابع الميلادي، وتغلبوا على بلدان أخرى، ألفوا منها إمبراطوريتهم الإقطاعية التي عرفت باسم الخلافة، وهدوا شعوبها إلى الإسلام، عملوا على نشر لغتهم كلغة رسمية، على أساس أن القرآن قد أنزل بها، وأنها لغة الله نفسه، وأن ترجمة القرآن إلى لغات هذه الأمم بان في نظرهم تجديفاً. أما من ناحية مستوى العرب الثقافي فقد كانوا أقل حضارة وثقافة من الكثير من الشعوب التي تغلبوا عليها ولكي يحافظ العرب على سيادتهم عملوا على التخلص من تراث الأمم الأخرى
الأدبي والفني. فبإمكاننا أن نقول إن هذه الطريقة التي استخدمها العرب لترسيخ قدم أدبهم وثقافتهم في البلدان التي تغلبوا عليها قد كانت السبب الرئيسي المباشر في فقد هذه البلدان تراثها الأدبي الذي كان لها قبل الفتح العربي. وعلى الرغم من نضال هذه المم للإبقاء على أدبها وثقافتها فقد اضطرت إلى استعمال اللغة العربية، هذه اللغة التي فرض العرب استعمالها فرضا في إمبراطوريتهم المترامية الأطراف، التي امتدت من الصين والهند شرقاً إلى مراكش والأندلس غربا. وما يسمى بالأدب العربي والعلوم العربية والثقافة العربية فقد أنشأها على الغالب غير العرب، أي الأمم التي تغلب عليها العرب وحكموها)
وقد استشهد كليموفتش في مقاله هذا بالأستاذ روزين، أستاذ اللغات الشرقية في بطرسبرج (لينينغراد) في سنة 1872 الذي قال:(إن العرب مدينون في أدبهم وعلومهم إلى الفرس والسريان. غير أنه لما كان هذا الأدب وهذه العلوم قد دونت باللغة العربية فقد عزى الفخر في هذا الجهد العلمي والأدبي والثقافي إلى العرب يوم كانت أوربا غارقة في ديجور حالك من الجهل)
واستشهد أيضاً بما قاله كراتشوفسكي في سنة 1919، إذ قال:(إن القول بأن الأدب العربي هو من صنع الأمة العربية إنما هو خطأ فادح، ذلك لأن الفضل في وجود هذا الأدب يرجع إلى غير العرب (الأعاجم) الذين دونوا أدبهم باللغة العربية، وحتى إلى اليهود والسريان والأسبان والأتراك والأقباط والبربر الذين اشتركوا في إيجاده) (راجع كتاب الأدب في الشرق لمؤلفه كراتشكوفسكي 1919)
ثم يعود فيقول: (ومن المعروف الآن أن العرب - بما حصلوا عليه من فخار نسب إليهم في حقلي الأدب والعلم - مدينون إلى الكثيرين من مواطنينا؛ كالأدباء الذائعي الصيت في أذربيجان وآسيا الوسطى، ومنهم الفارابي وابن سينا والخوارزمي والبيروني وسواهم. ومما هو جدير بالذكر أنه قد ثبت لمجمعي العلوم في أذربيجان وأوزباكيان أثناء تحريهما العلمي عن منشأ الأدب في بلاديهما، أنه ليس من أصل عربي بل من أصل أذربيجاني وأوزباكياني كان قائماً في البلدين قبل الفتح العربي. وقد بحث المجمع العلمي في جمهورية يوزك السوفيتية منشأ العلم والفلسفة العربيين فتوصل بنتيجة ذلك إلى الحقيقة التالية وهي: (أن الاصطلاح المعروف (بالفلسفة العربية) ليس صحيحاً، ذلك لأنه قد اشترك في إيجاد
هذه الفلسفة مدارس فلسفية متعددة ضمت أعضاء ليس من العرب فحسب؛ بل أيضاً من شعوب الشرق الإسلامي. ومع هذا فإن عددا من العلماء قد تجاهلوا هذه الحقيقة وعزوا هذه الفلسفة إلى أصل عربي)
ويستأنف الأستاذ كليموفتش وقاله بقوله: (إن وحدة اللغة في بلد ما لا تعني وحدة الأدب فيها). واستشهد على صحة نظريته هذه بأن أعطى مثلاً على ذلك وحدة اللغة بين إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية في حين أن لكل من هذين البلدين أدبه الخاص به. وأعطى مثلا آخر على ذلك بلدان غربي أوربا التي كتبت في العصور الوسطى باللغة اللاتينية، وفي نفس الوقت لم يكن منشأ الأدب فيها لاتينيا. ثم استشهد بكتابات أدبية أخرى تعرف باليوتوبية (الخيالية) كتبها الكاتب الإنكليزي (توماس مور) باللغة اللاتينية، ومع هذا لم تخرج عن كونها أدباً إنكليزيا صرفاً
وعلى هذا الأساس قال كليموفتش: (إذا ما عثرنا على قطعة أدبية أو فنية أو فلسفية وأردنا أن نعرف ما إذا كان منشؤها عربياً أو فارسياً أو من أي أصل آخر فيجب علينا والحالة هذه أن نتحقق أولاً عن كاتب هذه القطعة، وأين كتبها، وما هي مضامينها الفكرية، وما هي صبغتها الوطنية. مثال ذلك إذا أردنا تحليل قطعة أدبية كتبت باللغة العربية لنعرف منشأها نجد أن قسما غير قليل منها - على الرغم من كتابته باللغة العربية - يتضمن ميولاً معادية للعرب من قبل الشعوب التي تغلب عليها العرب. ونجد في غالب الأحيان أن كاتبي هذه القطع الأدبية يعبرون بوضوح عن افتخارهم بكونهم ليسوا من أصل عربي. ومن هؤلاء الكتاب شاعر أذربيجان إسماعيل بن يسار الذي تنازع مع الخليفة هشام ونفي على أثر ذلك إلى الحجاز في بلاد العرب) إلى أن يقول أيضاً: (وهنالك أيضاً أدباء غير عرب استولى العرب على بلدانهم ترجموا أدبهم الخاص إلى اللغة العربية، ليس بقصد إغناء الأدب العربي، وإنما بقصد إعطاء العرب فكرة صحيحة عن أدبهم، وفي نفس الوقت لينافسوا به الأدب العربي. ومن هؤلاء عبد الله بن المقفع الذي ترجم كتاب كليلة ودمنة إلى اللغة العربية، وقد قتله الخليفة في بغداد لدعايته المعادية للعرب)
ومن ثميتخلص صاحب المقال إلى النتيجة التالية، وهي قوله: (إن ما كتبه الفارابي وابن سينا والخوارزمي والبيروني وسواهم لا يمكن اعتباره أدباً عربياً صرفاً. أما إذا أردنا أن
نقول عنه أنه أدب عربي فيكون تحليلنا له والحالة هذه تحليلاً ذا جانب واحد. وأكثر خطا من هذا أن نقول إن ما كتبه السوفييت الشرقيين باللغة العربية هو أدب عربي لمجرد أنهم كتبوه باللغة العربية - هذه اللغة الغريبة عنهم - لأنهم لم تكن لديهم لغة مكتوبة خاصة بهم. ومن هؤلاء شعوب شمالي القوقاز الذين دونوا أدبهم باللغة العربية منذ القرن السابع عشر حتى ثورة أكتوبر الكبرى في سنة 1917. غير أن هذا لا يعني مطلقا أنه أدب عربي، لأنهم منذ أن فسح المجال أمامهم، برعاية الحكومة السوفيتية، لتصبح لديهم لغة مكتوبة بعد الثورة، رفضوا أن يكتبوا شيئاً باللغة العربية. ومن جهة ثانية لم يكن بإمكان شعوب شمالي القوقاز اعتبار القاهرة ودمشق وبغداد وسواها من عواصم الأدب العربي عواصم حقيقية لهذا الأدب، لأن هذه الأماكن كانت قبلاً ولايات في السلطنة العثمانية، ومن ثم مستعمرات (هكذا) إنكليزية وفرنسية. وفضلاً عن هذا فإن شمالي القوقاز كان قسماً من روسيا وقد دخلت شعوبه في نطاق الثقافة التقدمية وتأثيرها النافع، هذه الثقافة التي يتنعم بها الشعب الروسي العظيم)
(فالبلاشفة يعتبرون نفوسهم حراساً لمصالح الشعوب وحريتها الوطنية واستقلالها وثقافتها المادية (الاقتصادية) والروحية (العقلية) ويجاهدون ضد الإنقاص من قدر حرمة هذه الشعوب الوطنية وفنونها). وقد استشهد على هذا بقول ستالين بأن الشعوب السوفيتية تعتقد بأن لكل أمة، كبيرة كانت أم صغيرة، مميزاتها الخاصة والتي لا توجد في أية أمة أخرى، وأن هذه المميزات التي تتمتع بها كل أمة تزيد في تراث الثقافة العالمية العام وتغنيه. ولهذا فإن جميع الأمم تتساوى من هذا القبيل بعضها ببعض. فكل محاولة والحالة هذه للحط من الكرامة الوطنية لأي شعب من الشعوب، أو لاستثمار حقوق هذه الشعوب التاريخية، بما في ذلك ثقافة هذه الشعوب، يجب شجبه شجباً حاسماً كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي. ثم يختم كلامه بقوله:(إن لقضايا الميراث الأدبي أهمية حيوية، فيجب إذن أن لا يفسح المجال لأي سوء بفاهم من هذا القبيل. كما أنه من الضروري أن يفهم أن الرجعيين يستخدمون قضايا كهذه في جميع المناسبات والأمور)
شاكر الدبس
شاعر مجهول
للأستاذ حسني كنعان
لقيني بالأمس القريب صديق فاضل من أسرة الجندي الدمشقية فقال لي فيما قال:
- لقد أنكرت فضل الرجل وما عافت له حقه. قلت:
- أي رجل بعني. .؟ قال:
- أعني عميد أسرتنا وشاعر سورية المجلي) (الشيخ أمين الجندي). . إن جميع ما ذكرته من موشحات وقدود وأشعار في فصل أسق العطاش الذي نشرته في الرسالة الغراء منذ أمد هي من نظمه، فقطعة يا غزالي كيف عني أبعدوك، وتيمتني هيمتني عن سواها شغلتني، واسق العطاش تكرماً. . . هي من نظمه. . فلماذا لا تطلعني على مقالك قبل نشره في الرسالة ليكون بحثك كاملا من كل جهاته. .؟ قلت:
- كيف أستطيع أن أتأكد من ذلك. .؟ قال:
- أنا أطلعك على ديوان له مطبوع قد حوى في طياته هذه اللطائف والرقائق. . وكنت أسمع عن هذا الشاعر الشي الكثير ولكني مع الأسف الشديد لم أقع على ديوانه. فألفيتها فرصة سانحة أن يعرض على أحدهم هذا العرض الذي وافق هوى في نفسي التواقة إليه، وذلك أملاً في أن أنصف الرجل. . مضت مدة من الزمن دون أن يفي هذا الصديق بوعده، فذكرت ذلك لصديق آخر من أفراد هذه الأسرة وهو المحامي السيد (تاج الدين) الجندي نجل العلامة الشيخ سليم الجندي أستاذ الطنطاوي، والأفغاني، والجيرودي، والعطار، وصاحب محاضرة المعري التي أعجبت الأستاذين الجليلين معالي طه حسين باشا وصاحب العزة أحمد أمين بك في المهرجان الألفي للشاعر المعري.
فأخذني نجل علامتنا إلى مكتبه، ودفع إلى الديوان للاطلاع عليه. . . فعكفت على دراسته عكوف الهائم الولهان. فوجدت فيه من الدرر واللآلئ ما يصلح أن أحلي جيد هذه الصحيفة به. فالديوان يحوي قدوداً وموشحات وأشعاراً غزلية وصوفية كنا هائمين بها ومعجبين بقائلها قبل أن نعرف مصادرها ومواطنها. . وبقدر اطلاعنا على هذا الديوان الفذ ازددنا عجباً وإكباراً لهذا الشاعر. وها أنا ذا إظهاراً للحقائق وتمشياً مع السنة التي درجت عليها من إحياء ذكرى الأعلام في ربوعنا في هذه الصحيفة التي فتحت صدرها لمثل هذه
البحوث، وعودتنا على طرق بابها، دون أن توصده في وجه من يبغي نشر فضائل بني قومه من الأعلام المجهولين. . جئت مقدما شاعرنا المجهول المغموط الحق بهذه المقدمة الموجزة. .
الشيخ أمين الجندي شاعر مطبوع. ولد بمدينة حمص سنة 1180 ولقد جاء في مقدمه ديوانه ما ننقله بالحرف الواحد بلغة أهل ذلك العصر. .
هو عالم زمانه وشاعر عصره، الحسيب النسيب، مداح المختار الحبيب، الشيخ أمين بن خالد أغا الجندي العباسي. وبعد أن تلقى علومه في حمص على خيرة علمائها توجه إلى دمشق وقرأ على علمائها الأعلام وأخذ الأوزان الشعرية من الشيخ عمر اليافي، ولما رأى فيه هذا الذكاء النادر قال له:
أذهب فأنت أشعر أهل الغرام. فصار الشعر فيه سجيه والبلاغة له عطيه، يرسم القصائد الفريدة والموشحات المفيدة والمواليات العديدة، بحيث لم يكن يمضي عليه يوم يخلو فيه من نظم ونثراه إلى آخر ما هنالك من أقوال كثيرة وردت في المقدمة تمسك عن الاسترسال بسردها لئلا يمل القاري وكلها على هذا الديوان أن الشاعر كان معاصراً للقائد الكبير إبراهيم باشا قائد الحملة المصرية، وفاتح سورية ولبنان وغيرهما من البلاد العربية. ولقد عثرت في الديوان على مقطوعة مدح بها هذا الفاتح العظيم بقوله له:
بوق ابتسام الليث في موقف الخطر
…
وخف باسمه إن غاب يوما أو حضر
وكن بطلا شهما شجاعا ولا تكن
…
جبانا جزوعا قاصر الباع والنظر
فإن الجبان الوغد ما بين قومه
…
يعيش ذليلا سئ الحال محتقر
ولسنا إذن في دولة قيصرية
…
ولا أهل ملك كسروي كما اشتهر
ومن مصر مذ سرنا بأمر عزيزها
…
كشفنا ظلام الجور والبغي والضرر
(وبارودنا) كالبرق والرعد لم تزل
…
صواعقه ترمي وتحرق بالشرر
وكم حافر بئرا ليوقعنا به
…
فخاب وأمسى واقعا بالذي حفر
ومسمر نار للعناد وعندنا
…
بحار لها تطفي وتغرق من سمر
ولكننا في عز دين مؤيد
…
وشرع بوحي جاء من سيد البشر
وإنا بحمد الله في خير دولة
…
لو اعزها في الخافقين قد انتشر
ومنا سيوف للمنايا تجردت
…
على عنق الأعداء بل أسهم القدر
وليس كإبراهيم في موقف الوغا
…
هز براً يرى الأعداء حلما إذا اقتدر
همام بهاب الأسد سطوة بأسه
…
وترجف منه الراسيات إذا زأر
له همة في الحرب أضحت علية
…
وعزم يقد الصلد والصارم الذكر
به ملة الإسلام عزت فأصبحت
…
متوجة بالعدل والأمن والظفر
وأذكى صلاة الله ثم سلامه
…
على خير مبعوث إلى الخلق من مضر
فلا زلت في عز العزيز الذي غدا
…
لأهل العلا شمسا وأنت لهم قمر
مدى الدهر ما (الجندي) أنشد قائلا
…
بوق ابتسام الليث في موقف الخطر
فقالت هذه القصيدة حظوة في عين القائد المصري العتيد وقرب صاحبها إليه وجعله في بطانته، ولقد أفسحت هذه الحظوة المجال أمام الجندي الشاعر، وغدا كبيرا في أعين الدمّاشقة بين قومه، وصار يقصده علية القوم وسراتهم لقضاء حاجاتهم عند الباشا الفاتح، وأوقف شعره في هذه المرحلة على مديح الباشا متكسباً على فرار ما كان يفعله أبو الطيب المتنبي مع سيف الدولة. وقد غدا أتبع إليه من ظله، يصحبه معه للدعاية في كل قطر حل به فطمعه هذا العطف الأريحي به، وجعل شعره في هذه الرحلات مقتصراً على مديحه والدعاية له، فوجد الفاتح في هذا الداعية المطبوع على الشعر خير نصير له في إظهار عظمته، فزاد في إكرامه وإعزازه، وصار يصحبه في روحاته وجيئاته، وكان كلما قدم إلى دمشق أو رحل عنها متنقلاً في أفياء دولته المترامية الأطراف، التي أقام دعائمها على الأسلات والشفرات، رأى الجندي في ذلك الفرص السائحة لإسماعه فيه ما يرغب، وما يرهب به الخصوم، ويفت في سواعدهم من الظهور أمامهم بهذه الأماديح الخالدة بظهور الفاتح المرضى عنه التي يعبده شعبه وتفتديه رعاياه وتفديه بأرواحها، ومما قاله فيه بعد وصوله إلى دمشق قادماً من قونية وهو معه سنة 1248 هـ وكان قد فتح عكا، ودك حصونها وقلاعها دكا: قال في ذلك
نحن الأسود الكاسرة
…
نحن السيوف الباترة
من أرض مصر القاهرة
…
سرنا وقد نلنا المنى
بارودنا شراره
…
تشوي الوجوه ناره
وعزمنا بتاره
…
من العدا أمكننا
نحن بنو الحرب فلا
…
نخشى غبارا إن علا
ولم نضق عن البلا
…
صدرا إذا الموت دنا
عاداتنا أخذ الرجال
…
بالبيض والسمر العوالي
ونارنا بالاشتعال
…
لهيبها يبدي السنا
جهادنا لا ينكر
…
في كل قطر يذكر
وسيفنا إذ يشهر
…
للنصر يبدي معلنا
(أبو خليل) في الحروب
…
لا زال كشاف الكروب
وحين يدعى للركوب
…
بالبيض يغزو والقنا
لما غزونا عطا
…
(بالطوب) دكت دكا
وللأعادي أبكى
…
هجومنا وأخذنا
صبحا علونا سورها
…
وقد هدمنا دورها
أما برى قصورها
…
قد حلها هدم البنا
ويوم حمص لو برى
…
على العداة ما جرى
وقد علا فوق الثرى
…
صرعى يقاسون الفنا
هناك أضحوا هالكين
…
وفي دماهم غارقين
وانحل عقد الظالمين
…
وحل بالباغي العنا
ولحماة مع حلب
…
سرنا وجد بنا الطلب
ولم نجد ممن هرب
…
إلا طريحا في ضنى
وقد أطلنا قهرهم=لما أسرنا صدرهم
ومن ولينا أمرهم
…
بالذل مالوا نحونا
هذا وهذا كله
…
عزيز مصر أصله
وليس يخفى فضله
…
دوما على أهل الثنا
فنسأل الله المعين
…
بحرمة الهادي الأمين
يديمه للمسلمين
…
مولى مغيثا محسنا
أما القصيدة الأولى فقد نقلتها من الديوان منتخباً منها هذه الأبيات المنشورة آنفاً ومطلعها: توق ابتسام الليث إلى آخر الأبيات: وأما القصيدة الثانية: نحن الأسود الكاسرة فلقد أتحفنى بها العلامة الشيخ جميل الشطي مفتي الحنابلة بدمشق منذ علم أني أعد فصلاً للرسالة عن هذا الشاعر المجهول. . . والقصيدة مدونة عنده منذ القديم ومنشورة في كتاب له. . . ولقد جاء في نهاية هذه الحادثة أن الشاعر كوفي عليها من الباشا بـ 100ليرة عثمانية ذهباً، وكان لها وقع عظيم لدى الباشا الممدوح. وفي الديوان قصائد كثيرة منها قصيدة يمدح بها محمد علي باشا الكبير مؤسس الأسرة العلوية وباعث نهضة مصر الحديثة. نرجى نشرها في عدد قادم يأتي، لأن ديواناً يحوي على 450 صفحة لا يمكن أخذ فكرة عن صاحبه في مقال واحد. . فإلى اللقاء يا عزيزي القاري في العدد القادم
دمشق
حسني كنعان
أدبنا القومي بين الفصحى والعامية
للأستاذ حسين كامل عزمي
كان من أثر احتكاك مصر بالغرب الحديث أن تغيرت قيم طائفة من مثقفيها في مناحي الحياة العلمية والعملية، فإذا نظرنا من وجهة نظر أدبية، رأينا أن هذا الأثر - الاحتكاك بالغرب - قد أثر كثيراً في الأدب الحديث. .
ففي الربع الأول من هذا القرن، نشب ما يشبه المعركة بين طائفتين، أو مدرستين، من الأدباء. . . طائفة تمثل مطمح المصريين إلى حياة أدبية قومية، عناصرها الروح المصرية المتطورة بالاحتكاك بالغرب، النافضة آثار الروح العربية التي سرت فيها قروناً. . . وطائفة لا تزال مستمسكة بعناصر الروح العربية: لغة، ومعنى، وثقافة، ومذهباً. .
وكانت الطائفة الداعية إلى التجديد يعتمل فيها ما يشبه الثورة على الأدب العربي، وما يشبه الانتصار للآداب الغربية.
فإذا عرفنا أن أصحاب الدعوة إلى التجديد في الأدب كانوا ينتصرون لاستعمال العلمية، إذا لزم الأمر، محافظة على روح التعبير وواقعيته، عرفنا إلى أي حد لم يتحقق أملهم، حتى اليوم في إيجاد وتكوين الأدب القومي المنشود الذي ينسجم مع هذه الدعوة. . . اللهم إلا فيما ندر اتفاقه لأديب مصري ممتاز، كتوفيق الحكيم مثلاً، الذي تلمس المصرية الحقة القحة واضحة جلية تكاد تصيح في حيوية أسلوبه الرشيق، وتشبيهاته البيئية الصحيحة، التي نورد منها الآتي:(هذه الفتاة قلبها مثل دغل البوص.) تشبيه مصري
(ووقع العمدة بخطه الذي يشبه نبش الدجاج.) تشبيه منزلي مصري
زد على ذلك غزارة التشبيه عند الحكيم، ممثلاً بهذا التعبير المصري، فالمصريون يكثرون من استعمال حرف (زي) الذي يسبق التشبيه. . . كما ترى في أدب الحكيم إقبالاً على استعمال الألفاظ العامية، خاصة في حواره. . ومن المسلم به أن لكل فنان جمهوره، وكلما كان جمهور الفنان عديداً كلما كان لرسالته في الحياة قيمة عملية فعالة. . والفنان الحق مطالب بفهم عميق لدقائق النفس الإنسانية: خوالجها، ومنازعها، ونزواتها. . . وهو مطالب بعد ذلك بصدق التعبير وواقعية الأداء، بحيث يتمشى مع روح عصره. . فيخاطب الناس على قدر عقولهم وفهومهم، وعلى قدر استعدادهم اللغوي الذي يمكنهم من استيعابه وتدبره.
ثم الانتفاع بنتاجه. . . واللغة أولاً وأخيراً، آلة جمهورية تستعملها الأمة كلها فيما وضعت لأجله، ويتفاهم بها الشعب قاطبة فيما يريد، فجمهرة كلماتها وغمرتها تتداولها ألسن الكافة، ولا سيما الأفعال والحروف. . . وكل شي يتناوله الجمهور ويغير فيه ويبدل، حتى يوافق ذوق المجموع، واللغة جزء من مزاج الشعب، فهي تختمر رويداً رويداً، وقليلاًقليلاً، كما يختمر العجين، ولذلك كانت محاولة تعليم الناس جميعاً لغة عامة (الإسبرانتو) عملاً صبيانيا؛ كما يقول صديقنا الفاضل الأستاذ عبد الفتاح بدوي. .
وليس التطعيم - الذي حدثنا عنه الأستاذ كامل السيد شاهين بالعدد 940 من الرسالة الغراء - مما يشوه اللغة أو يحط من شأنها وقدرها، بل كثيرا ما يزيدها رقة وعذوبة. . . فبمثل هذا التطعيم المعقول المقبول يتم لنا بقريب الشقة بين الأدب والأمة، فتختفي الهوة التي تفصل المتعلمين عن العوام شيئاً فشيئاً. وعلى مر الأيام تصير اللغتان اللتان نستعملهما لغة واحدة. . . فإن الاختلاف اللغوي بين طبقتين في الأمة لمما يضعف القومية. . .
والشعر مرآة عصر قائليه، و (ميزة الشعر المطعم عن الشعر العام أنه عصري متواضع، يمس الاجتماع الراقي كما يمس الاجتماع الشعبي، وبذلك يصور لنا ناحية يترفع عنها الشعر العام - ونحن نجني في مثير من الأحيان على التاريخ، عندما نعتمد على الشعر العام في تصوير حياة المجتمع، لأنه في برج عال رفيع لا ينحط إلى المستوى الشعبي. . .) كما يقول الأستاذ شاهين. . .
وبمناسبة مقال الأستاذ شاهين عن الشعر المطعم، أذكر أن أحد أصدقائي من الأدباء البائسين، أتاني ليلة عيد الأضحى، منذ سنوات مضت، يشكو لي ضيق ذات يده، وحرمانه من تذوق لحوم الأضاحي. . . ثم تركني ومضى. . فقلت:
- على لسانه - واصفاً شتى أحاسيسه:
تثير دوما شجوني
…
رؤيا بدت لعيوني
رأيت في الحلم كبشاً
…
معذبا ذا أنين
يصيح في القوم: ماءا
…
قبيل عصف المنون
فقلت للكبش: صبرا
…
كل يزول وديني!
قد جف ريقك لما
…
رأيت هول اليقين!
ولن يجودوا بماء
…
بل يذبحوا بسكون
وبعد جز الرءوس
…
يزول نطح القرون!!)
ثم التفت لنفسي
…
بذلة المستكين
فما أكابد دوما
…
كمثل هذا الحزين
يسر قوما شقائي
…
فيطربوا لأنيني
لمحض كوني أديبا
…
في خسة جمدوني
ولو رأوني خروفا
…
في قصعة. . أكلوني!
ولو رأوني سمينا
…
بنشوة. . يذبحوني!!
وبعد فكر عميق،
…
وقد كواني حنيني،
تمثلت لخيالي
…
فنون أرسن لوبين
. . . جذبت حبل خروفي
…
والقوم لا يبصروني
وعند صخر بكوخي
…
ربطته. . كالأمين!
لكن خلق إلهي
…
بسرعة لمحوني
وصاح جاري صياحا
…
سمعته كالطنين:
(أيا شويش. . الحرامي
…
ربيب شتى السجون!
خطف خروفي العزيز
…
فياله من لعين!
أذقه طعم البواني
…
بفكه والجبين
وأنت شهم مغيث
…
فلا تخيب ظنوني!)
صحوت فورا!. أصوغ
…
قصيدة من عيوني. .؟!
وقد سر الصديق بهذه القصيدة سروراً عظيماً، إذ وجد فيها - على حد تعبيره - شيئاً من التنفيس عما ينهش بقلبه المسكين. . .! فتركتها بين يديه، بعد أن لمحت بريق الشكر فن عينيه. .!
السويس
حسين كامل عزمي
1 - رحلة إلى ديار الروم
للسيد مصطفى البكري الصديقي
للأستاذ سامح الخالدي
كانت رحلة الشيخ البكري هذه إلى بلاد الروم هي الثانية فقد رحل قبلاً إلى الآستانة سنة (1135 هـ) وأسماها (تفريق الهموم وتفريق الغموم في الرحلة إلى بلاد الروم) ولكننا لم نعثر على هذه الرحلة ضمن مجموعة رحلات الشيخ المخطوطة والمحفوظة في خزانة الكتب الخالدية، والتي علق عليها الشيخ البكري نفسه، الحواشي عليها
وفي رأينا أن هذه الرحلة من ألطف وأشيق رحلات البكري، فقد قطع فيها الشيخ مسافات شاسعة براً وبحراً، إذ توجه إلى الآستانة عن طريق طوروس وقونية، وعاد في مركب إلى الإسكندرية ماراً بسواحل الأناضول وجزيرة رودس
ويلاحظ أن الشيخ البكري لم يكن يترك الفرصة تمر لنشر طريقته الخلوتية، حيث كان، ولهذا لم يكن يحجم عن إدخال جمهور المريدين في طريقته سواء في المدن أو القرى، وسواء أكان مقيماً أم مسافراً، بل ما قولك أنه لم يتردد في إدخال المريدين إلى طريقته وهو في المركب في ميناء الآستانة؟
ولقد كان الشيخ البكري، ذا نفوذ عظيم، وقد كثرت أشياعه وأتباعه، فقد كان له أتباع في أكثر القرى والمدن الفلسطينية، كما كان له مريدون في طرابلس الشام، وحمص، وحماه وحلب، وبغداد والبصرة، ومصر، والإسكندرية، ودمياط ورشيد
ولم يوفق الشيخ في دعوته في أواسط الأناضول فقد حاول أن يستميل إليه البعض في مدينة (أركله) الأناضولية التركية ولكنه لم ينجح، ذلك لأنهم كانوا أتباع الطريقة (الزادلية) وهي طائفة تنتسب إلى قاضي زاده أجل علماء الروم ممن كانوا يقولون بهدم قبور الأولياء ومقاومة التصوف، وقد جرب الشيخ إقناعهم ففشل وبئس منهم وقال أنه ليس ثمة من فائدة لمباحثة أمثال أولئك
ولقد كان الشيخ حريصاً على أن يسير في موكب حافل حيث ذهب وحيث حل، ولذا نراه في هذه الرحلة بدلاً من أن يسلك الطريق السلطاني من القدس إلى الشام عن طريق نابلس، فجنين، فخان التجار فجسر بنات يعقوب فالقنيطرة فدمشق، يسلك طريقاً في داخلية البلاد،
فينضم إليه الحاد حسن بن مقلد لجيوسي شيخ بني صعب والشيخ أحمد الباقاني والحاج سلامة الداميني، والحاج حسن الجماعيلي والحاج محمد الكفرعيني من شيوخ جبلي نابلس والقدس
ويصف الشيخ لنا الطريق، ويعجب من عمران منطقة النصيرية وكثرة زيتونها، وخراب سور إنطاكية، ويذكر وعورة الطريق من إنطاكية إلى أدنه نقونية، وشدة برد الأناضول في الصيف
وينزل الشيخ في مدرسة شمسي باشا في الآستانة، ولشمسي باشا هذا الذي كان حاكماً للشام، مدرسة باسمه في دمشق، ويتقبل دعوة ابن عمه السيد محمد خليل البكري وكان شيخاً (أي رئيساً) لمدرسة حسن باشا المقتول في الآستانة (قتل 1006هـ)
ومن العجب حقاً أن يكون الشيخ في سفرته هذه وفي غيرها دائم الاتصال بإخوانه ومريديه، فتراه يحرر لهم الكتب ويرسل لهم القصائد من كل مكان، كما يتلقى منهم الأجوبة على كتبه وكلها بصف شوقهم إلى لقاء الشيخ والاجتماع به
فمن ذلك أن سليمان باشا المعظم والى الشام عتب على الشيخ عدم مكاتبته له من الآستانة، فبعث الشيخ يعتذر لجناب الوالي ويذكره أنه أرسل له سلاما خاصاً عن طريق كتاب بعث به إلى صديقه الحاج حسن جلبي بن مكي الغزي، وقد كان في معية الباشا، ثم يقول له إن المانع من مكاتبته هو مراعاة مقام الباشا الخطير
ومما يلفت النظر أن الحاج خليل بن كشيش شيخ مقاطعة الرجيل في العراق، وقد كان آنذاك في الآستانة اندرج في سلك المتصوفين وأصبح من أعوان الشيخ، وكان الحاج خليل هذا قد اجتمع بالشيخ البكري يوم زار العراق
وكان من عادة الشيخ أن لا يتحرك في سفر، قبل أن يستخير الله، فإذا ما ظهرت الإشارة منبئة بالسفر فعل ذلك، على اعتبار أن إرادة الإنسان الضعيف في الرحلة والسفر، مرتبطة بإرادة الله، وأن ذوي الكشف الرباني ينتظرون ظهور مثل بلك الإشارة قبل التحرك من مكانهم
ومع أن الطريق البري يستغرق من 2 ربيع الأول إلى حوالي منتصف جمادى الأولى للوصول من دمشق إلى الآستانة فإن الرحلة البحرية في المركب لم تستنفد أكثر من أربعة
عشر يوماً إذ ترك ميناء (بشك طاش) في الآستانة في السابع من رجب ووصل الإسكندرية في 21 منه
وعجيب حقاً ما كان يبديه الشيخ من النشاط في بث دعوته، فهو كالحركة الدائمة لا يهدأ في نشرها بين كبار الحكام، وشيوخ الإقطاع، وطبقة التجار، بل وطلاب الأزهر المجاورين من صغار الشبان!
ويصف لنا الشيخ سوء معاملة رجال المكس في الإسكندرية ويشكو مر الشكوى منهم، ومن الغريب أن ينطبق هذا على ما وصفه لنا ابن جبير في رحلته عن (جمرك) الإسكندرية في القرن السادس الهجري!
ولم يهدأ الشيخ في نشر دعوته في الإسكندرية ورشيد والقاهرة، وهو يصف لنا أشهر مشاهد هذه المدن المصرية، ويذكر لنا من اجتمع إليهم من كبار مشايخ عصره، وقد أخذ البعض منهم عنه الطريق كالشيخ الحفناوي
ويلاحظ أن الشيخ انتهز عودة الوزير المشير عثمان باشا فأنضم إلى القافلة العائدة من مصر إلى فلسطين
ويذكر الشيخ بألم ظاهر ضعف الحكام، وعدم حزمهم للضرب على أيدي قطاع الطرق في هذا الطريق العالمي، ويعجب من ضعفهم، ومما لا ريب فيه أن القوافل كانت تتعرض لتعدي العربان وأذاهم، وقد كان الشيخ يفقد بعض كتبه في هذه الغارات مما كان يؤلمه ويحز في نفسه
ويصف لنا الشيخ حسن استقباله في غزة، ويذكر خراب جامع هذه المدينة، كما ينزل ضيفاً على آل الخيري، ومنهم مفتي الرملة، وقد كان من مريدي الشيخ وأتباع طريقته
ولا ريب أن الشيخ البكري، القطب المتصوف، إنما كان يرحل هذه الرحلات لنشر طريقته وإكثار مريديه، وإذا كان أسلوبه، وتفكيره وجل همه موجهاً إلى هذه الناحية، فإنه لا مراء قد ترك لنا ثروة ذاخرة بالمعلومات والآثار مما يلقى ضوءاً على حالة البلاد ومشاهدها، ورجالها وحكامها، والأمن العام فيها في القرن الثاني عشر الهجري
وقد يقال أنه لم يصف لنا وصفاً موضوعياً ما شاهده من المدن والقرى والمعاهد، ولم يفصل حيث أوجز، ولكن لو لم يكن الشيخ متصوفاً لما قام بهذه الرحلات، ولكنا حرمنا من
هذه المعلومات القيمة، ولكانت معرفتنا لهذا القرن المتأخر ضئيلة زهيدة
ولنترك الشيخ البكري الآن يصف لنا رحلته الرومية الثانية:
مقدمة الرحلة
يقول الشيخ: (وبعد قد أيقظ الحق جل وعلا وتبارك وتعالى، لحظ فؤاد ملاحظ في حبه يتغالى، وكان جال في ميدان الغفلة مجالا يسرح في أكنافه ويحوم، فحرك منه الساكن والجزء الراكن، لهذه الأماكن، ودعاه فلباه إلى ديار الروم (أي الترك) وهناك اشتد محلول العزم، وامتد قصير الحزم، واعتد القلب بعدة الحزم، لما آن للمقعد أن يقوم، وذلك في أوائل عام (1148 هـ) - (1725م)، ما برف عبير عنبر خيشوم)
وكان الشيخ قد رحل إليها سنة (1135 هـ - 1722 م) ودون ذلك في كتاب موسوم (بتفريق الهموم وتغريق الغموم. في الرحلة إلى بلاد الروم وأنشأ في هذه الحظرة رسالة سماها (العرائس القدسية. المفصحة عن الدسائس النفسية) وكان الواسطة في كتابتها العلم المفرد السيد محمد التافلاني (مفتي الديار القدسية)
ولما فارق بلاد الروم توجه إلى جهة العراق ودون رحلته إليها في ما سماه (كشط الصدأ وغسل ألوان. في زيارة العراق وما والاها من البلدان) ووصل البصرة وعاد فأقام في حلب نصف عام، وتوجه منها إلى دمشق وأقام فيها بعض أيام، ثم قصد زيارة القدس عن طريق جبل لبنان وكتب رحلته (أردان حلة الإحسان. في الرحلة إلى جبل لبنان)
وفي سنة (1145 هـ) توجه إلى الحج وكتب رحلته (الحلة الرضوانية الإنجازية الدانية. في الرحلة الإحسانية الحجازية الثانية) وأما رحلته الأولى للحجاز فأسماها (الحلة الحقيقية لا المجازية. في الرحلة الحجازية)
ولما عزم على التوجه إلى البلاد الرومية، كتب كتابا إلى السيد محمد نجل السيد أحمد، وقصد في هذه الأثناء غب عشر المحرم التوجه إلى الزيارة العليلية كعادته ومنها إلى نابلس فدمشق فديار الروم، وقد أسمى هذه الرحلة (النحلة الفانية بها رسوم الهموم والغموم. في الرحلة الثانية القدوم لديار الروم)
قال الشيخ: (لما كان يوم الاثنين الرابع عشر من محرم الحرام عام (1148 هـ) توجه كبير الآثام كبير الإجرام بعد ما ودعنا أولاداً أكباداً وخلاناً، وكان هم فرقة الأولاد عم
جوانب الفؤاد، وخرج للوداع جم غفير من إخوان وأحباب، وودعناهم عند سعد وسعيد وكان منهم البنية السعيدة والولد السعيد، (علما ومحمد كمال الدين) وقصدت تسلية أحزان بزيارة (نبي الله شمويل). ورافقنا إلى زيارته الأخ الشيخ أحمد الميقاتي وغيره من الأصحاب، وأقمنا معهم في (بتيونيا) إلى أن صلينا الظهر جماعة وودعناه ومن معه من رفاق، وسرنا والدموع لها وقع على الخدود اللماعة، وثبنا في قرية (عابود) ودعانا في الصباح الأخ علي بن بدير إلى (دير غسان) فلم ندبه إلى المقصود لنفرة قلب من أهلها، فقال نجعل الدعوة إلى (شوفا) فأجبته ولم نبت إلا لدى الأخ الشيخ رضوان الزاوي وأقمنا الليلة الثانية لديه، وطرنا إلى (صنير) ومنها إلى (الخربة) بقصد أبي الحسن والإقبال عليه، ثم قرأنا له ولجيرانه الربعة وأهديناها إليه، ومنها أتينا المائين وثبنا (جماعين)، ولما أشرفت على علم الهدا، قبل الوصول إليها التمست منه الندا، وكتبت على ظهر الدابة ما أمليه من أبيات:
علم الهدى أهدى لنا الأرواحا
…
فأراح أشباحا بلى أرواحا
وتوجهت ثاني يوم إلى نابلس المحروسة، التي بميائها ورياضها عروسه، وأقمنا بها ثلاثة أيام، وأخذ بها العهود جمع أحبة، ثم بتنا في (كفر قدوم) بانشراح ينفي الهموم، وثبنا أول النهار بحظ (وبسط وسرور) ورافقنا الأخ الحاج حسن بن مقلد (الجيوسي)، إلى قرية (كفر زيباد) وبتنا بها وأتينا (كفر جمال)، وبتنا (الطيبة) بأنس وجمال، وتغدينا في قرية (ارتاح) وودعنا الحاج زين محب بترك الحظ ارتاح، وبتنا في (شويكة) وتغدينا في (عثيل) وبتنا في (زثيا) وأخذ بها العهد الأصيل جماعة، وممن صحبنا إلى الشام الأخ القديم العهد، الشيخ أحمد الباقاني (نسبة إلى قرية باقا)
وقد ارتاح الأصحاب في المراح وزمارين وبتنا في (صرفند) واصطحبنا في عتليت وهي قلعة عجيبة البناء، اعبنى فيها بانيها كل الاعتناء، وزرت مقام الخضر عليه السلام، وصليت الظهر في قرية غب الإكرام، وبتنا في (المغار) لدى أولاد الشيخ سهل رفيع المنار، وبعد صلاة العصر توجهنا إلى (كفورتا) ومضينا إلى (البروة) وأضافنا بها الشيخ علي بن الكيال، وصلينا العصر في قرية (عمقا) عند محب له حسن لقا، وجاءنا محمد سعيد نجل المرحوم الأخ السيد محمد السلفيتي، وتوجهنا منها إلى موطن الشيخ حسين وبتنا
لديه في (جدين) وكنا في السير مجدين، وصلينا العصر في (ترشيحا) المريحة من الأتعاب والمليحة الفيحاء، وأقمنا فيها إلى ظهر اليوم الثاني بعد ما دعانا المحب الفاني الشيخ أحمد نجل الشيخ حسين وقد بذل الطاقة في الإكرام، وبتنا عند (قلعة) محمد نافع، وحين أتيت في الصباح (القاسي) جاءنا من أولاد مراد، حسن وخالد، وصحبتهم الأخ الشيخ محمد بن المرحوم الشيخ عبد الهادي الصفدي
للكلام بقية
سامح الخالدي
قانصوه الغوري
سلطان مصر الشهيد
للأستاذ محمود رزق سليم
الفصل الرابع
أقوال وأحاديث
الشاعر: يا مولانا الشيخ! ليس في هذا الحديث غيبة، وإنما هو نقد مباح ومبادلة رأي. وإذا أصررت على أن فيه غيبة، فلا حيلة لنا في إصرارك! وكيف يستطيع قوم يرون الأحداث من حولهم ببرى، وتمتلئ صدورهم بالحنق عليها، وبفيض أذهانهم بضروب الرأي فيها، ثم لا يتكلمون؟ وفي جلسة متوارية متواضعة كجلستنا؟ اللهم إن هذه هي الغفلة الكاملة، فإذا ارتضيتها لنفسك، فنرجو الله أن يعافينا منها
ولي الدين: أيها الشويعر المتعالم! هل النقد لا يتناول إلا العيوب فينشرها، والنقائص فيذكرها، أوليس للناس حسنات تستحق منكم الثناء والاقتداء؟
الشاعر: أنى لنا ذكر الحسنات، وقد طغت عليها السيئات؟ إن هؤلاء الجراكسة قد ملئوا فجاج هذا الوادي فساداً، وأصبحوا كالخمر ضررها أكبر من نفعها
انظروا. ولقد بلغني منذ أمد قريب أن أحد رعاع المماليك الجليان نزل إلى سوق الرقيق لبعض شأنه، فاختلف مع الدلال لأمر من الأمور، فاستعر بينهما الجدال، وعلا الضجيج، فما كان من المملوك إلا أن هوى على رأس التاجر بقبقاب. . . فوقع على الأرض متردياً، وحمل إلى بيته لا حراك به، ثم مات بعد زمن قريب. . . فماذا جرى لهذا المملوك؟ لم تنتطح في شأنه شاتان!
ثم. . . أتعرفون الأمير أرزمك الناشف أحد الأمراء المقدمين. .؟ لقد ضرب أحد النوتية ضرباً مبرحاً حتى مات بين يديه. . . ثم.! علم السلطان بحادثته، فتغافل عنه، مراعاة للأمير أرزمك، وقيل أنه أوعز إليه بأن يرضي أبناء قتيله بشي من المال
التاجر: لقد سلط الله بعض هذه الطائفة على بعض، ليأخذهم بظلمهم، وفداحة ضرائبهم على الرعية، وسرفهم في الأموال، وسفههم
المستوفي: لعلكم تعرفون أن الأتابكي قيت، كان يأتمر بالسلطنة، ويتطلع إلى منصبها. فكان يراسل الأمراء الطامعين لينضموا إلى صفوفه أمثال سيباي نائب حلب، ودولات بأي نائب طرابلس، ذلك الذي فر مرة إلى ملك العثمانيين، ليحرضه على سلطنة مصر وممتلكاتها. . وبذلك أفسد الأتابكي قيت عدداً غير قليل من الأمراء. وكادت مؤامراته تنجح، لولا أن عيون الغوري يقظى. . . فدهمه وعاجله بالقبض عليه، وواجهه بأدلة قاطعة، على إدانته، فلم يستطع دحضها. . وهكذا أدى به مطاف أقماعه إلى سجن الإسكندرية ينتظر في ظلماته مصيره المحتوم. . . ثم أقام السلطان مكانه في الأتابكية عدوه اللدود الأمير قرقماس
الشيخ ولي الدين: كفى كفى.؟ ألم يعد يحلو لكم، ولا يلذ لألسنتكم، ولا تتلمسون للناس حسنة تذكرونهم بها، ولا يدا تشكرونهم عليها؟ ألا كم لسلطاننا الغوري من حسنات. . . وكم له من أيادي بيضاء
الشاعر: (فاغراً فاه): ألا يتفضل مولانا الشيخ يذكر حسنة من حسناته أو يداً من أياديه؟
الشيخ ولي الدين: ألم يأمر بجميع فقراء القاهرة في يوم عاشوراء؟ فاجتمعوا عند سلم المدرج، ثم نزل إليهم بنفسه، وهو يمتطي فرسه، وفرق عليهم الدنانير بيده؟ لقد قيل أنه أعطى كل فقير منهم ديناراً أشرفياً من الذهب
الشاعر: نعم! نذكر ذلك ولا ننساه. . . كما نذكر أيضاً أن ثلاثة من هؤلاء المساكين فد قتلوا في أثناء ذلك!
الشيخ: اتق الله يا شهاب الدين، ولا تلبس الحق ثوب الباطل. فقد قتلهم الزحام، ولم يقتلهم السلطان
الشاعر: ولهذا، صمم السلطان على عدم النزول إلى الفقراء مرة أخرى. . . حتى يئسوا من بره. . . وحتى قال قائلهم:
سل الله ربك من فضله
…
إذا عرضت حاجة مقلقة
ولا تسأل الترك في حاجة
…
فأعينهم أعين ضيقه. . . .
الشيخ: أن السلطان لكثير البر، وهو ر يفتأ يحسن إلى الفقراء، وقد أمر في أول رمضان أن تحمل إلى القلعة رءوس الضأن وأوعية الدقيق والخبز والسكر، وأن تعرض في ميدان القلعة على أنظاره، كما جرت العادة بذلك، بعد أن تزف في شوارع القاهرة على رءوس
الأشهاد وإعلاناً للناس بها، وحولها المحتسب ووكيل بيت المال. . ثم وزعت على الفقراء وأهدى منها إلى الأصدقاء
الشاعر: ألا قاتل الله حب الظهور! فهم يكلف المرء ما لا يطيق، وإذا كانت للسلطان نفس بره ويد رحيمة محسنة، فلماذا قطع منذ أمد (جوامك)(رواتب) كثير من الأيتام والنساء والصبية المستحقين، الذين تعودوا أن يستعينوا بها، ورتبها لهم الملوك السابقون.؟
الشيخ: يا لك من خبيث ماكر، لا تنفق عنده يد، ولا تصلح لديه معذرة! لقد كانت خزائن السلطان أول أمره خاوية، وكان في حاجة قصوى إلى المال. فكان لا بد له من الاقتصاد في الإنفاق. فلما امتلأت يده وأخصبت خزائنه أعاد سيرة المحسنين من الملوك، وعهد البررة من السلاطين
ومع ذلك! ألم يأمر بإبطال النادبات النائحات في المآتم، والذين يدقون الدفوف خلف الموتى. . . ألا تذكر حينما تفشى الوباء في القاهرة، وفتك بالناس فتكه الذريع، كيف قام القاهريون يندبون موتاهم، وامتلأت حارات المدينة وأزقتها نواحاً وعويلاً كأنما اشتعلت النيران في ربوعها
ألم يأمر السلطان بتحريم شرب الخمر وكسر جرارها ومصادرتها في بيوتها وضبط بائعيها والضرب على يد تجارها، وأمر بكبس بيوت الحشيشة وإحراقها، وإقفال دور (البوزة) وإراقتها
ماذا تريد يا شهاب الدين أن يفعل السلاطين؟ لعل في إراقة الخور وكبس الحشيشة ما يؤلمك ويضنيك؟ ولهذا فشانت ساخط
الشاعر: أنه لا يؤلمني ذلك ولا يضنيني إلا بمقدار ما آلم وأضنى سلفنا الزجال الشاعر الأديب إبراهيم المعمار. . . . فقد قيل أن سلطان عصره الملك الأشرف شعبان بن حسين، حفيد قلاوون، حرم الخمر والحشيشة وأهدر كرامتهما. . . فقال المعمار في ذلك هذه المواليا الفكاهية:
يا من على الخمر أنكر غاية النكران
…
لا تمنع القس يملا الدن والمطران
وأمر بباع الحشيشة تكتسب أجران
…
وتغتنم دعوة المسطول والسكران
الشيخ: قاتله الله وقبحه من شاعر زجال. . . هكذا أنتم يا معشر المتشاعرين. . . لا يلذ لكم
مقام إلا بين بؤرة وبيئة، وكأس مليئة. ومن شاء منكم الشهرة، فليس أمامه من سبيل إليها إلا أن يمجن كما يشاء، أو يهجو أحد العظماء
قل لي يا خليفة المعمار. لماذا رسم السلطان للأمراء بإلغاء نقبائهم الذين كان أرباب المظالم يفدون عليهم للفصل في مظالمهم؟ ورسم أن أحداً لا يشكو، ولا يرفع قصة - قضية - إلا عن طريق قضاة الشرع؟ أليس في ذلك حماية للناس ورعاية لهم من جشع الأمراء والنقباء، وجورهم. . أوليس في ذلك دعوة إلى أن تسود العدالة، وترعى أحكام الشرع الشريف
الشاعر: هذا حسن وقد رسم السلطان بذلك كله، حينما راعه أن الوباء استحر في الناس، وأعمل فيهم سيف فتكه وسفكه. فرأى أن يتقرب إلى الله بتلك القربى، لعل الله يخفف بها الكرب عن المكروبين. . . ولكن لولا الوباء لما اتجهت فطنة السلطان إلى هذه المكرمة. . . وعما قريب سترى أن الأمر عاد إلى ما كان عليه
فقال علم الدين الخياط: أنني أود من الأعماق أن يفيء الناس إلى أحكام الدين، ويرعوا العدالة، ويوكل أمر القضاء إلى قضاة الشرع دون سواهم. واعجب كيف دخل حاجب الحجاب، وغيره من الأمراء، إلى باب القضاء، واصبحوا من الحاكمين بين الناس في مظالمهم وخصوما تهم. انهم كثيراً ما يجنحون إلى الهوى، ويحكمون الغرض، ويتذرعون بمناسبهم لابتزاز أموال الناس بالباطل. . . فإذا وقف السلطان حاجزاً حصيناً دون غاياتهم الجائرة وعبثهم الظالم، فوقفته تلك، يد بيضاء مشكورة. .
الشيخ: أجل! أيها الأصدقاء! تلك يد بيضاء مشكورة، وكم للسلطان من أيادي، وكم أحيا من عادات وتقاليد شعبية، عفاها الزمان ودرست معالمها منذ أمد طويل.
إليكم مثلا دوران المحمل في رجب، ولعب الرماحة في حفلة دورانه. . تلك عادة جميلة دارسة. وتقليد بائد محبوب لم تنعم به عيون القاهريين منذ سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة هجرية، أيام حكم الملك الظاهر خشقدم. لقد كان لهم في تلك العادة متعة وترويح، وللقاهرة عندها زينة وتبرج
وها نحن أولاء نرى سلطاننا الغوري يأمر بتدريب الرماحة من جديد، وبدوران المحمل في رجب. ورجعت هذه العادة بذلك تقليدا جديدا من تقاليد بلادنا. . .
أنسيتم في سنة تسع وتسعمائة هجرية، ليلة أن بات الغوري بالقصر، وأحرقت إحراقة النفط بالرملة. . . وفي الصباح. . جلس السلطان في شرف مطل على الرملة، وتقدم إليه الرماحة في ثيابهم الحريرية الحمراء، ومعهم رماحهم مشروعة في أيمانهم. . . لقد قاموا بألعابهم البهلوانية الجميلة الخلابة، ثم طيف بالكسوة الشريفة والمحمل مرة في بكرة النهار، ومرة بعد الظهر. واجتمع الناس للتفرج به، من كل حدب وصوب، وافدين من القاهرة والخانكاة وبلبيس ومن نواحي شتى. حينذاك كنتم ترون الفرح يغشى بأمواجه المتدافقة جموع الناس. تلك الجموع المتراصة الضاحكة. وقد ألقى كل امرئ منهم همه جانبا، وأراح كاهله من عبء أتراحه، ونسى كل أثقال الحياة إلا هذه الفرصة الماثلة. . والناس ما بين حدث يافع، وغلامة ناهد مخدرة، ونصف عوان مختمرة، وعجوز فانية مودعة. وبين شاب شارخ لدن، وشيخ هم متداعى الأوصال، وبين سيد قوم، وشجاع همام صنديد، وجبان نكس رعديد. . .
لقد سرت حينذاك بين الجميع نشوة واحدة، وانتظمتهم سكرة فرح مشتركة، حتى أخذوا يرقصون وينشدون قائلين:
بيع اللحاف والطراحه
…
حتى أرى دى الرماحه
بيع لي لحافي ذي المخمل
…
حتى أرى شكل المحمل
الشاعر: لله درك يا ولي الدين! لقد أذكيت في نفسي عوامل الشعر، وأوقدت الشاعرية، وأشعلت في خاطري جذوة القريض بهذه الأوصاف والمواقف العاطفية. . . وهكذا نحن معشر الشعراء. .! نراع بكل مظهر من مظاهر العاطفية، فردية كانت أم جماعية. . ويطوح بنا الخيال حينذاك في ميادينه الواهمة. وسناته الحلة. . فنعيش لحظات كالمحمومين. . .
أما أنت وأمثالك يا معشر الفقهاء. .! فلكم من هذه المظاهر ما فيها من طعام وشراب، مما لذ وطاب. . . ولله در الفاطميين الذين ابتدعوا لنا ولأسلافنا أمثال هذه المواسم، ليشغلوا أذهاننا وبطوننا عن سياستهم الخرقاء، وعن تقصيها ونقدها. . . وليبهروا أنظار العامة منا ببهارج لا طائل تحتها، ولا غنية فيها. . ولله كذلك السلطان الملك الظاهر بيبرس، أول من أمر بخروج المحمل. .!
يا مولانا الشيخ! أنا لا أهتم بهذه الخزعبلات والترهات، ولا أنظر إليها نظرة المحلل أو المحرم، ولكني أهتم كل الاهتمام بمن حول بلادنا من الأعداء، وما بين جدرانها من الجبناء. .
أتستطيع أن تذكر لي ماذا صنع الغوري لحماية الممتلكات المصرية؟
المستوفي: الذي أعلمه أن السلطان حريص كل الحرص على هذه الممتلكات جاد في الضرب على أيدي العابثين بها. حذر على بقاء نفوذه في الأصقاع النائية
لقد أشخص إلى الأقطار الحجازية بجريدة لتأديب العرب الخارجين عليه فيها. كما بعث حملة قوية إلى شواطئ بلاد الهند للقضاء على عبث الفرنجة هناك بسواحل الممتلكات المصرية، وعلى سلبهم أموال التجار. . وربما كان لسفر تغري بردي الترجمان إلى بلاد الفرنجة للقاء بطركهم، صلة بذلك. ولعل السلطان يهدد هذا البطرك بالقضاء على النصارى ببلادنا، إن لم يدفع كيد أتباعه عن سواحلنا ومتاجرنا. .
الشاعر: هناك دولة بني عثمان. دولة بني عثمان. . .! لقد كان بينها وبين سلاطين مصر السابقين مناوشات، وتحارب. وقد قوى اليوم أمرها، واشتدت مرتها، وفتل ساعدها. ولا أدري ماذا تخبئه الأقدار في جعبتها لبلادنا العزيزة، على يد هذه الدولة الماكرة الخبيثة. . .
الشيخ ولي الدين: مهما يكن من شيء، فهم مسلمون، والجراكسة مسلمون. . والله يولي من المسلمين علينا من يصلح. .
الشاعر: هذه يا مولانا الشيخ! نغمة الذل ووحي الضعف والاستسلام. ألا تحفظ قول الله سبحانه وتعالى: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون) صدق الله العظيم
إلى هنا سمع صوت المسحر، وأخذ يدق طبله ويردد أناشيده وقد أوقدت المصابيح إشعارا بدخول وقت السحور. وارتفع أذان المؤذن ينادي للسحور، ويقول:(إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا)
فأفاق القوم من جدلهم وتنحنح الشيخ ولي الدين، وحوقل. . . ثم قال باسما: (أتحبون أن ننفض؟. أو نتناول بلغة هنا. . .؟ والتفصيل على صاحبنا علم الدين. . .؟
فقال علم الدين الخياط ضاحكا: لقد نزلت على رأيك يا مولانا قبل أن تفصح به، وأعددت
لك العدة لنتناول جميعا سحورنا هنا، ثم نصلي الفجر بإمامتك في مسجد السلطان
فأخذ القوم يلهجون بالثناء الطيب عليه
(للقصة بقية)
محمود رزق سليم
الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية
رسالة الشعر
النور الحائر
للشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري
في ليلة من ليالي التي احترقت
…
فيها الحياة. . وغام الناي بالنغم
مددت كفي نحو الله مبتهلا
…
والنار ملء دمي. . واليأس ملء فمي:
يا رب. . يا رب هذا الكون أجمعه
…
الخير والشر. . والأنوار والظلم
يا أيها الأزل المحجوب بالقدم
…
يا أيها الأبد المستور بالعدم. .
يا أيها القدر العالي الذي سعدت
…
به الطغاة. . وشالت كفة القيم
إني شقي بأحلامي. . بفلسفتي
…
بفطرتي. . بخيالي الجامح النهم
إني غريب. . غريب عن عوالمهم
…
وغربة الروح تنسى قربة الرحم
إني على الأرض عيسى في تعاسته
…
ضحية الكافرين: الحقد والصمم
فامدد يد القوة العليا ترفعني
…
إلى سمواتك القدسية العصم
حتى يراجع هذا النور منبعه
…
إني ابن شمسك لا ابن الطين والسدم
فأشرقت فوق ودهي صفحة كتبت
…
بأحرف النور روحانية الكلم
لثمتها لثمة الإيمان مرتعشا
…
ورحت أقرأ فيها حكمة الحكم
(إن السماوات لا تعطي حقائقها
…
إلا لكل نبي غير متهم. . .!)
محمد مفتاح الفيتوري
المنظار المسروق
للأستاذ عبد المعطي حجازي
تنكر في غدره واستتر
…
وراح ورائي يقفو الأثر
وفي زحمة العيد مال الغبي
…
علي وظل يطيل النظر
وأحسن بي الظن من جهله
…
فخال بأني كنز العمر
لقد سرق النذل نظارتي
…
وعاد قريرا بهذا الظفر
ولو علم الخائب العبقري
…
حقيقة مغنمة لانتحر
فليس بها من نفيس يباع
…
إذا ما رجا طامع وانتظر
وفي السوق لا تشتري بالفلوس،
…
ولو جن بائعها أو كفر
ولكنها لي شمس النهار
…
وعطر الزهور ونور القمر
غذائي إما أضر الطوى
…
وربي إما اللهيب استعر
ومؤنستي إذ يعز الأنيس
…
وراويتي حين يحلو السمر
ومشكاة ليلى إذا مادجا
…
ومرسى أماني وقت الخطر
أجوز بها كل عات عصى
…
وأغزو بها كل صعب عسر
وأمشي بها في ظلام السطور
…
فيسعفني نورها المدخر
وأعلو إلى وكنات النسور
…
وأهوى إلى مستقر الدرر
وأعبر في محجريها الزمان
…
وأطوي على كاهليها العصر
وانظر في معجزات الوجود
…
وأقرأ في صفحات القدر
وفي كل فن، ومن كل روض
…
أطوف وأجني شهى الثمر
فجعت بها فطواني الظلام
…
وران على الدجى واعتكر
وأصبحت ألمح ظل السطور
…
كأطلال بيت هوى واندثر
وترقص في عيني الكلمات
…
كما يرقص الغصن وقت السحر
وأعثر في هضبات الحروف
…
كأعرج يظلع فوق الحجر
وكنت رفيق المنى والكتاب
…
فصرت رفيق الأسى والضجر
وما لذة العيش في روضة
…
إذا أنت لم تر حسن الزهر
ففي ذمة الله نظارتي
…
ذهبت شهيدة غدر البشر
وغفلة لص قليل الحياء
…
رخيص الذكاء قصير النظر
ويا أيها اللص ما من أديب
…
ثوى القرش في جيبه واستقر
ولكنه كخيالاته
…
يجيء ويمضي كلمح البصر
فجل وأسرق الناس حتى الحفاة
…
وخذ إن لقيت الأديب الحذر
ففي جيبه ليس غير الهواء
…
وإن كان في الرأس أغلى الدرر
القاهرة
عبد المعطي حجازي
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
المسئولون عن موت الأدب:
هل الأدب فد مات؟ سؤال جعله صديقنا الأستاذ سيد قطب عنوانا لمقاله الذي ظهر في العدد (939) من الرسالة، أما الجواب الذي يحمل وجهة نظره فقد بدأه بهذه الكلمات: (يقول لك الكثيرون: أن نعم! ويمصمصون شفاههم أسفا وحسرة، وهم يعدون لك شواهد الموت، ويصفون لك أعراض الوفاة، ويترحمون على الأيام القريبة التي كان للأدب فيها صولة وجولة، يوم أن كان حياة في ذاته، وكان مبعث حياة!
وما أريد أن أدفع عن الأدب تهمة الموت، فقد تكون حقيقة؛ ولكني أريد أن ابحث عن القتلة! القتلة الذين فعلوا هذه الفعلة، والذين هم ماضون فيها للقضاء على الأنفاس الأخيرة التي تتردد في تلك الجثة المسجاة! إنهم في بظري ثلاثة:
الأدباء أنفسهم بمعرفتهم الشخصية وعلى عهدتهم!
والمدرسة المصرية بمعرفة وزارة المعارف العمومية!
والدولة كلها بمعرفة وزارة المالية ووزارة المواصلات!
هؤلاء هم المتهمون الثلاثة الذين خنقوا ذلك الأدب المسكين، حتى سقط جثة هامدة، والذين لا يزالون يخنقونه ليلفظ الأنفاس الأخيرة التي ما تزال تتردد في خفوت! فكيف كان ذلك؟
فأما الأدباء فهم الذين انصرفوا كلهم أو معظمهم عن الإخلاص للأدب وللعمل الأدبي؛ لأن هذا الإخلاص يكلف جهدا ومشقة، ويكلف عزوفا عن شيء من الكسب المادي وعن فرقعة الشهرة الكاذبة. . إنه يكلف صبرا على التجويد، وجهدا في الإخراج، ومعظم الأدباء - وبخاصة الذين كانوا يسمون الكبار - قد جرفتهم الحرب وما كان في إبانها من رواج في النشر، فانهالوا على السوق بإنتاج سريع (مسلوق) لأن هذا الإنتاج السريع يحقق لهم أرباحا عادية وعاجله، ويعفيهم من جهد البحث وأمانة العمل، ويضخم في الوقت ذاته قائمة مطبوعاتهم في نظر الجماهير!
وقد أقبلت الجماهير عليهم في أول الأمر. . . ولكنهم شيئا فشيئا جعلوا يكررون أنفسهم، بل يهبطون عن مستواهم. إنهم راحوا يجترون ما اختزنوه، ولا يضيفون إليه شيئا، ولا
يضيفون للحياة الأدبية ولا للحياة الإنسانية جديدا
وكان الكثيرون من أدباء الصف الثاني قد أخذوا ببريق الشهرة التي ينالها المشهورون المكثرون، فركضوا كذلك في الطريق، وباتت المطبعة وأصبحت فإذا هي تساقط على رءوس القراء كتبا أقلها قيم ومعظمها هراء. . .
واستيقظت فطرة القراء القلائل بطبيعتهم في العربية، فإذا الإعراض والجفاء عن هذا المكرور المعاد من أعمال الأدباء، وعن الأدب كله عند كثرة القراء. . . وصاحب هذا ركود حركة النقد الأدبي، النقد الذي يزيف الزائف، ويستبقي الصحيح، والذي يخلق في الجو الأدبي حيوية ونشاطا وتطلعا وأخذا وردا ودفعة إلى الأمام
والذي بقى من النقد الأدبي انتهى إلى أن يكون أضحوكة ومهزلة، فلقد تألفت شبه نقابات أو عصابات، كل نقابة منها أو عصابة. وكلة بالدعاية (لمنتجات الشركة) التي تنتمي إليها بطريقة مفضوحة مكشوفة، لا تخفى على ذوق القارئ ولا تزيد على أن تقتل الثقة في نفسه بما يكتب وما يقال!
وامتدت هذه النقابات إلى دور الصحف والمجلات، فعسكرت كل منها في مجلة أو صحيفة، وأصبح محرما على أي كتاب لا ينتمي صاحبه إلى (شلة) معينة أن يجد له من صفحات تلك المجلات والصحف نصيبا. . . وبهذا أطبق البلاء على النقد وعلى الأدب سواء!)
هذه فقرات مما كتبه الأستاذ الصديق في عدد مضى من الرسالة. فقرات فيها الحق، وفيها اصدق، وفيها العرض الموفق لجانب من جوانب المشكلة التي نضعها اليوم على بساط البحث والمناقشة، نقول اليوم ونعني بقولنا الوقت الذي أثيرت فيه ودفعنا إلى شيء من التعقيب، ونعود إلى الأمس القريب الذي عرضنا فيه للمشكلة قبل أنيعرض لها الأستاذ قطب، هناك حيث قلنا في مقدمة كتابنا الذي سيكون بين أيدي القراء بعد أيام:
(في حياتنا الأدبية ظواهر تستوقف النظر، وتغري بالبحث، وتدعو إلى التأمل والمراجعة. . وتستطيع أن تسمي كل ظاهرة من هذه الظواهر مشكلة؛ مشكلة تتعدد فيها الجوانب، وتتشعب الزوايا، وتبقى بعد ذلك في انتظار العلاج. . . ولك أن تضع مشكلة النقد الأدبي في مقدمة المشكلات التي تعانيها الحياة الأدبية في هذه الأيام!
أول زاوية يمكن أن ننظر منها إلى المشكلة، هي أن أكثر الذين يتولون صناعة النقد لا
يصلحون لها على التحقيق؛ فبعضهم تنقصه الثقافة الرفيعة فهو من أنصاف المثقفين، وبعضهم تنقصه التجربة الكاملة فهو من المبتدئين، وبعضهم ينقصه الذوق المرهف فهم من ضعاف الملكة وقاصري الأداة! هذه الأركان الثلاثة من أركان النقد الأدبي نضعها مجتمعة في كفة، لنضع في الكفة الأخرى ذلك الركن الخطير الرابع ونعني به الضمير الأدبي وهو وحده مشكلة المشكلات. . . وماذا تجدي الثقافة، وماذا تجدي التجربة، وماذا يجدي الذوق، إذا كان الضمير الأدبي لا وجود له؟ لا شيء يجدي على الإطلاق! لأن الضمير يوجه الثقافة فلا تجور، ويهدي التجربة فلا تضل، ويرشد الذوق فلا ينحرف. . وماذا نفعل وكتاب النقد الأدبي في مصر هم فئة من ذوي الأهواء والأغراض، يسيرون في ركاب هذا وذاك، يصفقون وليس هناك ما يدعو إلى التصفيق، ويهتفون وليس هناك ما يبعث على الهتاف!؟ الضمير الأدبي عندنا هو مشكلة المشكلات، وأعجب العجب أن الذين يتولون صناعة النقد في هذه الأيام لا يشعرون بأنهم معرضون لميزان فيرهم من النقاد، وانهم حين يظفرون بثناء بعض الناس يفقدون من الكثرة الغالبة كل احترام وتوقير، لا يشعرون بشيء من هذا لأنهم أغمار، ولأنهم أصحاب أهواء وأغراض!
النقد الأدبي في مصر تنقصه هذه الدعائم الأربع مجتمعة: الثقافة، والذوق، والتجربة، والضمير. . . ونقول مجتمعة لأن هناك المثقف المحروم من الذوق؛ ذلك الذي يوفق حين يقدم إليك نظرية في النقد ويخفق إذا ما وصل إلى مرحلة التمثيل والتطبيق. وهناك المثقف الذي لم يمد ثقافته بروافد من التجربة الكاملة؛ ونعني بها معالجة الكتابة في النقد الأدبي على هدى الإحاطة التامة بأصوله ومناهجه. وهناك المثقف الذي تجتمع له الثقافة والذوق والتجربة ولكنه يتخلى عن الضمير؛ حين يدفعه الهوى إلى أن يهاجم الخصم ويجامل الصديق!
هذه هي بعض الزوايا التي ننظر منها إلى من يتولون صناعة النقد في هذه الأيام. . . وتبقى بعد ذلك زاوية لا تقل عن سوابقها خطورة؛ وهي أن هؤلاء الناس تنقصهم صنعة التخصص: فبعضهم يتحدث عن القصة وهو لا يعرف شيئا عن الخطوط الفنية التي تكون الهيكل العام للقصة، وعن المسرحية وهو لا يدرك على أي الدعائم يقوم البناء الفني للمسرحية، وعن أدب التراجم وهو لا يستطيع أن يفرق بينه وبين غيره من ألوان الدراسة
الأدبية، وعن الشعر وهو محروم من نعمة الشعور. ومما يبعث على الأسف أن الذين أجادوا التحليق يوما في أفق النقد قد هجروه إلى غيره من الآفاق، دون أن يقدروا مدى الفراغ الذي تحسه المكتبة العربية في هذا المجال!
نظرت إلى النقد الأدبي في مصر فوجدته على تلك الحال: يغلب عليه طابع الغفلة والبلادة والجهل والمجاملة. . . ونظرت إلى أدبنا في محيط الدراسة الفنية فوجدته في أكثر حالاته أدب المحاكاة الناقلة لا أدب الأصالة الخالقة؛ أدب الترديد والتقليد لا أدب الإبداع والتجديد: ليس له طابع خاص وليست له شخصية مستقلة، وإنما ضاع طابعه واختفت شخصيته في زحمة الجلوس إلى موائد الغير بغية الاقتباس من شتى الطعوم والألوان. . لماذا لا تكون لنا آراؤنا الذاتية ونظراتنا الخاصة وأذواقنا المتميزة؟ لماذا لا نحاول أن نقف على أقدامنا دون أن يساعدنا أحد على الوقوف، وأن نسير دون أن يدفعنا أحد إلى السير أو يحدد لنا معالم الطريق؟ لماذا نجبن في أكثر الأحيان عن القيام بمثل هذه المحاولة؟ أهو ضعف في الشخصية الأدبية يحول بيننا وبين الكرامة العقلية، أم هو نقص في الوسائل وقصور في الأدوات؟! أغلب الظن أن للناحيتين أثرهما البعيد في صبغ الأدب المصري بصبغة الجمود والركود، وفي الوقوف به عند تلك المرحلة التي وصفناها بأنها مرحلة المحاكاة الناقلة لا الأصالة الخالقة
إنني أتحدث هنا عن أدبنا المصري في نطاق الدراسة الأدبية والنقدية. . . الدراسة التي تضع تحت المجهر نظرية في الأدب أو مشكلة في الفن، أو شخصية كان لها في محيط الفكر الإنساني مكان ملحوظ. إننا إذا تحدثنا مثلا عن نظرية أدبية ظهرت في أفق غير هذا الأفق الذي نعيش بأفكارنا فيه، كان كل صنيعنا أن ننقلها كما وعيناها فإن زدنا عليها شيئا فهو من أقوال غيرنا بلا مراء. . . وقل مثل ذلك إذا عرضنا في ميدان الفن لمشكلة من المشكلات أو لشخصية من الشخصيات، سواء أكانت المشكلة تتصل بكياننا الأدبي أم كانت الشخصية من تراث الغرب أو من تراثنا العربي القديم. لا نحاول مخلصين أن يكون لنا رأي مبتكر يضارع هذا الذي قرأناه. أو مذهب مبتدع ينافس هذا الذي نقلناه، أو تعقيب جديد يعترض في جرأة وشعور بالشخصية على وجهة نظر خرج بها كاتب غربي على جمهرة القراء. . . ومن هنا مات أدبنا وانصرف عنه الذين أقبلوا عليه في يوم من
الأيام!!)
قلنا هذا في مقدمة الكتاب الذي يتطلع إلى النور في الغد القريب، ونخرج من هذا الذي قلناه بأننا متفقون مع الأستاذ قطب في هذا الجانب الأول من جوانب المشكلة، ونعني به نصيب الأدباء في جريمة قتل الأدب كما عبر هو وأصاب في التعبير. ولعلك تلاحظ أن الاتفاق هنا قد تم في ميدانين هما ميدان الأدب وميدان النقد، بالنسبة إلى ما يتصف به كلاهما من أسباب النقص وعوامل القصور. . . وإذا كان هناك اختلاف فهو في طريقة العرض واتجاه خط السير الذي لم يحل مع ذلك بيننا وبين اللقاء في نهاية الطريق!
ومرة أخرى نتفق مع الأستاذ قطب في نظرنه إلى الشعر حيث يقول: (ونسيت الشعر المسكين، وما رزأتنا به المطبعة في هذه السنوات الأخيرة من ركام يتفاخر أصحابه بضخامة الحجم وكثافة الوزن، ويستعينون بصداقاتهم وبوسائلهم الخفية على الخروج به على الناس في غير ما خجل ولا حياء!
لقد نظر أحد أصدقائنا إلى ديوان من هذه الدواوين، وقد اكتنز شحما ولحماً، وهزل معنى وروحا، ثم قلبه في يديه وقال: قديما كان يقال: حمار شغل. فها نحن أولاء قد عشنا لنرى: حمار شعر!
وفي هذا الجو تختنق روح الشعر، أو الأنفاس المترددة في جوه الكظيم. ويكره الناس الشعر والشعراء، وينفرون من مجرد رؤية الدواوين، فضلا عما تحتويه من نظيم!)
كلمات قالها الأستاذ الصديق وهو يشير إلى ديوان كبير الحجم أخرجته المطبعة منذ شهور، ولا أظن أن ذلك الديوان بعد هذه الإشارة قد خفي على فطنة القراء. . . ولقد قلنا مثلها ونحن نتحدث عن الشعر المصري في الأعوام الأخيرة عارضين ومعترضين هناك في الصفحة الحادية عشرة بعد المائتين من كتابنا الذي يتطلع إلى النور في الغد القريب: (حياتنا الأدبية تعاني تخمة في الشعر وأزمة في الشعور. . . إن نظرة واحدة إلى ما تخرجه المطبعة من دواوين الشعر في هذه الأيام، تنتهي بك إلى الإيمان بهذا الحكم؛ الإيمان به كحقيقة ملموسة. ونظرة فيها التذوق والتمعن تسلمك إلى حقيقة أخرى لا تقل عن الأولى صدقا وأصالة وهي أنك لو رحت تبحث وسط هذه التخمة الشعرية عن آثار فنية ترضي الذوق حين تحفل بصدق الشعور، لما وجدت غير بضعة دواوين لقلة من الشعراء
المطبوعين. ونظرة ثالثة فيها التأمل والنفاذ تقنعك بأن أزمة الشعور عند الكثرة الغالبة من شعرائنا مرجعها إلى أن التجربة النفسية قد تمر بهم فكأنما ثمر بفراغ موحش، لا تلقي فيه إلا مجموعة حواس معطلة لا تستجيب لأحداث النفس والحياة)!
نحن هنا أيضا متفقون مع الأستاذ الصديق، فإذا اختلفنا فهو الاختلاف الذي يتمثل في طريقة العرض واتجاه خط السير الذي لا يحول بيننا وبين اللقاء في نهاية الفريق!
هذا الأدب المصري الذي شهدت موته على يد الأدباء المصريين، هو الذي أحال القلم يوما في يدي إلى معول ثائر معول تنصب ثورته على بعض القيم والأوضاع. . ومن هنا قيل عني أو قيل لي: إنك عامل هدم في الحياة الأدبية ولست عامل بناء! ولم أضق بهذا الاتهام السافر الذي وجه إلي على صفحات (الرسالة)، لأنني قد طبعت على ألا أضيق بأي اتهام ما دمت قادرا على الدفاع!
قالت وثيقة الاتهام بعد كلام طويل: إننا نفخر بك ككاتب له رسالة، وهدف يحاول أن يحققه عن طريق النقد والتوجيه. . . غير أن آراءك ونقدك تتسم غالبا بطابع العنف والقسوة، ولذلك فأنت في نظرنا عامل هدم ولست عامل بناء. وفرق كبير بين كاتب يحاول أن يضيء شمعة وسط الظلام، وآخر يسعى إلى ذبالة النور التي يتلمسها كل حائر ليطفئها! أنت كاتب طويل اللسان من أول يوم خطوته في طريق المجد؛ المجد الأدبي الذي يهيب بك أن تبقى على الشموع التي تضيء لنا الطريق)!
وقالت وثيقة الدفاع في مجال التفسير والتبرير: (يتهمونني بأنني كاتب طويل اللسان؟ هذا حق لا أجادل فيه! وأزيد عليه أنني واحد من الذين جبلوا على الصراحة وفطروا على الشجاعة، حتى لتدفعهم صراحتهم وشجاعتهم إلى أن يقولوا عن أنفسهم ما قد يشفق منه غيرهم من الناس. ولولا هذا الذي فطرت عليه وجبلت، لم وافقت متهمي على أنني كاتب طويل اللسان! أوافقهم على هذه المقدمة وأختلف معهم حول ما انتهوا إليه من نتيجة، محورها أنني عامل هدم في الحياة الأدبية ولست عامل بناء. . . هنا شيء من الظلم للحقيقة والمجافاة للواقع، لأنني ما استخدمت طول لساني في هدم قيمة من القيم إلا إذا كانت بالية، ومتداعية وينبغي أن تزول. أعني أنني لا أهدم إلا ونصب عيني هدف واحد هو أن أقيم البناء الموطد الأركان على ركام الأنقاض!
أقول هذا ولا أريد أن أذكر أسماء من هاجمت من الأدباء. حسبي أنني آمنت وما زلت أومن، بأن الحياة الأدبية في مصر محتاجة إلى حركة تطهير يقوم بها لسان طويل! ذلك لأن الأدب هنا، في هذا البلد، أشبه برجل كريم النفس سمح الخلق مضياف: يفتح بابه لكل طارق، ويهيئ مائدته لكل عابر، ولو اندس بين جموع الطارقين والعابرين من هم خلاصة الأدعياء والمتطفلين! هذا الرجل، الذي هو الأدب في حاجة إلى صديق طويل اللسان ينهر تلك الجموع المتطفلة، الدخيلة، التي استغلت سماحة رب البيت ونبل محتده وكرم ضيافته، فاندفعت من أبوابه وجلست إلى موائده، في غير ما خجل ولا حياء. . . هذا الصديق الطويل اللسان هو كاتب هذه السطور، ولا ضير عليه أبدا إذا ما أنقذ الرجل الكريم المضياف من هؤلاء الضيوف الثقلاء، وألهب ظهورهم بالسياط!
وليصدقني أصحاب الاتهام أنني أضيق بأضواء الشموع؛ هذه الأضواء الضئيلة، الهزيلة، التي لا تستطيع أن ترد عادية الظلام. وإذا كنت قد دأبت على إطفائها فلأنني أوثر أن أحدق في أضواء المصابيح الضخمة، المتوهجة، التي يغمر شعاعها كل حنية وكل ركن وكل تعريجة في منعطف الطريق. فلتبق هذه ولتذهب تلك ما دمنا نريد للنور أن يقوى على مواجهة العواصف والأعاصير؛ هدم للقيم البالية المتداعية يعقبه بناء على ركام الأنقاض، وإخماد للأضواء الضئيلة الهزيلة يشع على أثره كل نور وهاج. . أهذا هو ما ألام عليه وتوجه إلي من أجله فنون الاتهام؟ أن الصورة التي نستمد أضواءها وظلالها من هذه الكلمات لجديرة بتأمل العاتبين)!
فقرات أخرى أثبتناها في مقدمة الكتاب الذي يتطلع إلى النور في الغد القريب. . من هم الذين عنيناهم بتلك الفقرات ونحن في موقف التفسير والتبرير؟ هم أولئك الأدباء المجترون الذين عناهم الأستاذ قطب بكلماته وهو يتحدث عن نصيبهم في جريمة قتل الأدب و (تطفيش) القراء؛ وهم أيضا أولئك المتطفلون على موائد الأدب في غير ما خجل ولا حياء؛ وهم مرة ثالثة أولئك الذين يمثلون العصابات في دور الصحف والمجلات!
هذه العصابات الأدبية قد هاجمت بعضها يوما على صفحات (الرسالة) هجوما لا هوادة فيه. . . من هذا البعض عصابة كان يمثلها ثلاثة: أولهم ينسب جهلا إلى الفلسفة، والثاني ينسب غفلة إلى الشعر، والثالث ينسب ظلما إلى الأدب! وهم بعد هذا كله متطفلون على
موائد النقد. . لا يكاد يظهر لأحدهم كتاب حتى يبادر الآخران إلى الكتابة عنه في أكثر من صحيفة، مشيدين بما تزخر به صفحاته من علم، مشيرين إلى ما يتمتع به صاحبه من نبوغ! وتقرأ الكتاب فتضحك، وتقرأ النقد فتسخر
يريد صديقنا الأستاذ قطب أن يحمل الأدباء ووزارة المعارف ووزارتي المالية والمواصلات مسئولية قتل الأدب. . كلا أيها الصديق؛ أن الأدباء وحدهم هم المسئولون! هل وزارة المعارف أو وزارة المالية أو وزارة المواصلات هي التي (طفشت) القراء؟ أن هؤلاء القراء لم يزهدهم في القراءة ولم يصرفهم عنها غير هذا الأدب الهامد الذي لا حياة فيه؛ الأدب الذي ينتجه فريق من المجترين وفريق من الأدعياء والمتطفلين! ترى هل تستطيع تلك الوزارات الثلاث مهما أوتيت من القدرة على إخلاء الطريق أمام أدبنا منا العقبات، ترى هل تستطيع أن تقنع القراء بالعودة إلى هذا الأدب من جديد؟ لا أظن. . لأن هذا الأدب بوضعه الذي تحدثنا عنه وتحدث عنه الأستاذ الصديق، لا يمكن أن يحبب القراءة إلى الجمهور القارئ بعد أن خبره مرة ومرات! لا يمكن أن يحببها إليه ولو رفعت وزارة المالية قيود التصدير ويسرت وزارة المواصلات وسائل النقل وضحت وزارة المعارف فطبعت هذا الأدب على نفقتها ووزعته على الناس بالمجان!
إن المشكلة مشكلة هذا الأدب الهامد الذي لا حياة فيه، ولن تحل هذه المشكلة إلا إذا بعثنا هذا الأدب من مرقده ونفضنا عنه التراب، ولن يتم هذا البعث إلا إذا وجد لدينا عدد من الأدباء المجددين، أولئك الذين يجعلون نصب أعينهم أن ينقلوا الأدب من مرحلة المحاكاة الناقلة إلى مرحلة الأصالة الخالقة. . . عندئذ يمكننا أن نجبر القراء على القراءة بعد أن نعيد إليهم الثقة المفقودة والإيمان المسلوب، وعندئذ يمكننا أن نقضي على البقية الباقية من المجترين المتطفلين، أولئك الذين يتحملون وحدهم تبعة قتل الأدب في وضح النهار. . . مع سبق الترصد والإصرار!
أنور المعداوي
الكتب
نظرات في إصلاح الريف
تأليف الأستاذ عبد الرازق الهلالي
للأستاذ علي محمد سرطاوي
(143 مطابع دار الكشاف ببيروت - الطبعة الثانية)
هذا كتاب الموسم في العراق؛ تلقته النفوس المؤمنة بالإصلاح الاجتماعي، باللهفة والغبطة، والشوق، كما يتلقى الثرى المكدود، الجاف، قطرات الغيث، تهطل من جفون الغيوم، فأعيد طبعه، ولما تمضي على الطبعة الأولى، غير بضعة شهور، فكان ذلك تقديرا، بليغا، صامتا لرسالة الكتاب العظيمة
ومؤلف هذا السفر النفيس، شاب في طليعة شباب العراق طموحا، وثقافة، وتفانيا في خدمة الهدف المجيد؛ طوف في الشرق والغرب، فأفاد من ذلك تجارب، لها قيمتها، وخطرها، وأثرها في صقل مواهبه وتجاربه وتوجيههما التوجيه الذي ربط روحه بأرواح الملايين المعذبة من أبناء جنسه، في سبل الحياة، فانعكست منهم على نفسه تلك المعاني التي تقشعر من هولها الأبدان، مجسمة لأولئك البائسين، في مظاهر الجوع والمرض والجهل، فكان هذا الكتاب تعبيرا صادقا عن هذه المعاني
درس الآداب متخصصا في دراسته الجامعية، وضرب بسهم وافر فيه، وصال وجال في ميادينه مؤلفا، وكاتبا، ثم مد بصره إلى لآفاق القانون فحلق إلى أعاليها كالنسر الجريء، ثم راح يتدرج في الخدمة المدنية من التدريس إلى التوجيه في وزارة المعارف ثم إلى إدارة نقابات العمال في مديرية العمل والضمان الاجتماعي، وأخيرا استقر في البلاط الملكي العامر، مساعدا لرئيس التشريفات في بغداد
والمعذبون في ريف العراق، هم أولئك الفلاحون الذين يؤلفون سبعين في المائة من مجموع السكان؛ يتضورون جوعا على مدار السنة، ويتحركون عراة، حفاة، ورضى، على الأرض التي يسخرون على زرعها بالإكراه، كما تتحرك الأنعام، التي لا تملك من أمر نفسها شيئا، وإنما يملك أمرها صاحب الأرض الظالم، ذلك الراعي، الذي يذبحها إذا شاء، ويجيعها إذا
أراد، ويبيعها متى أحب
ومن دواعي الاغتباط العميق، والأمل الباسم، أن يبعث الله إلى الظلام الحالك فوق دنيا هؤلاء المعذبين، إقباساً من رحمته تشرق من قلوب طبقة من الشباب المتزن، المؤمن بربه، وعظمة أمته، لا تعيش على هامش الحياة في تلك الأبراج العاجية السخيفة التي يلجأ إليها، عادة، المهزومون من الحياة، والذين لا يصلحون لها، ولا تشعر بوجودهم فيها، وإنما يضطرمون في صميمها، ويجاهدون أحداثها، ويمدون أيديهم لإنقاذ الملايين من نفوس مواطنيهم، التي يدفعها الجوع والمرض والجهل إلى تصديق كل ما تزيفه لها الحضارة الغربية من أوهام وأباطيل؛ ويجولون بين أولئك المواطنين، وبين الجري وراء سراب الشيوعية الخادع، ذلك السراب الذي يتراءى لأعينهم في بيداء ظلم الحياة وعذابها، ماء، وما هو بالماء. . . وإنما هو لعاب الشيطان تعكسه زبانية الجحيم على أجنحتها في الفضاء، تغريرا بالمغفلين
وأصدرت المطابع الغربية كتبا كثيرة، بعد الحرب العالمية الثانية، تحدثت فيها عن قصة الجوع في الشرق الأوسط، وعن الظلم الاجتماعي، وما قد يجر وراءه هذا اللون من الاضطهاد والإرهاق للجماهير، ومن كوارث يخشى منها على هدم هذا المجتمع التعس؛ وحذرت المسؤولين وأنذرتهم باقتراب العاصفة، وأوصيت بالقيام بإصلاح شامل سريع
ومن بين هذه الكتب المتعددة، كتاب الإنجليزية ألفته المس وارنر، وقام بنشره معهد العلاقات الدولية في بلاد الإنجليز تحت عنوان (الفقر والجوع في الشرق الأوسط).
والكتاب دراسة مركزة لمشاكل الفلاحين في مصر وفلسطين وشرق الأردن، ولبنان وسوريا والعراق؛ قالت فيه عن مصر، إن العلاقات التي تربط الإنسان بالحيوان، عن طريق الرحمة الإنسانية، والشفقة المطلقة، لا وجود لها بين مالك الأرض والفلاح هناك، وحذرت من انفجار اجتماعي مفاجئ قد يعصف بالحياة عصفا عنيفا لا رحمة ولا هوادة فيه، وأوصلتها دراساتها إلى وجود مليونين من الجائعين في مصر يجب نقلهم إلى العراق للعمل في الزراعة، بحكم التشابه بين مناخ البلدين، وبحكم الصلاة المتينة من الدم واللغة والدين والجوار بين الشعبين، ولكنها لم تحبذ ذلك العمل الآن، لعلمها أن الفلاح العراقي يئن من
ظلم أشد هولا، وأرجأ ذلك العمل إلى ما بعد الإصلاح الاجتماعي الشامل الذي يجب أن يتم سريعا في العراق. .
ومضت تدافع في كتابها عن سياسة أبناء جنسها في مصر وفلسطين وشرق الأردن والعراق، وعن أصدقائهم الفرنسيين في سوريا، حينما عجزوا عن تقديم أية مساعدة لتلك الطبقات المعذبة في تلك البلدان التي حكموها حكما مباشرا، أو غير مباشر، مدة ثلث قرن من الزمن أو يزيد، فزعمت في معرض دفاعها، أن الطبقات الأرستقراطية التي ورثت النفوذ من الماضي، كانت تحرض، تلك الجماهير عليها، عن طريق الوطنية الرخيصة، الرعناء، غير الواعية، وتدفعها إلى الثورة، فكانت والحالة هذه، مضطرة إلى مهادنة تلك الطبقات، وإطلاق يدها، وإفساح المجال لها تعبث بهذه الجماهير، وتظلمها وتسومها الخسف كما تشاء وتريد، حبا في استتباب الأمن
ونحن لا نريد أن نصدق هذا القول، لا لأنه يعيد الاحتمال، بل لأن التجارب علمتنا أن نكون حذرين في كل ما نسمعه عنا من أقلام الغربيين، ونشك فيه، ونعتبره دفاعا باطلا عن الظلم الذي أصاب هذه الطبقات من أبناء جنسها، وأصدقائهم الفرنسيين ونرى أن الفرص التي تتيح إشاعة العدالة، والإصلاح الاجتماعي لم تكن في استطاعة الطبقات العربية التي أشارت إليها، بحكم سوء التوجيه الخفي، الذي لا تكاد تجهله المس وارنر، وتعرفه الدنيا. .
وشيء آخر يراه القارئ المتأمل في ذلك الكتاب؛ تلك هي الصورة التي رسمتها لشقاء الفلاحين، فلقد كانت مشوشة، غامضة، بعيدة عن الواقع، بعدا كبيرا، إذا ما قارناها بتلك الصورة الرائعة التي وسمها الأستاذ الهلالي لأولئك المعذبين بألوان زاهية من دم قلبه، وعواطفه وحبه العميق
وكلما قارنت هذه الصورة بتلك التي رسمها قلم المس وارنر، وغيرها من كتاب الغريب لحياتنا الاجتماعية، كلما ازددت إيماناً بأن صاحب البيت أدرى بالذي فيه، وكلما بدا لي الضلال المبين الذي نسج في غمرة عقول لا تزال تؤمن بالغرب حتى في الحديث عن أنفسنا، وعاب أحد أصحاب هذه العقول على المؤلف عدم رجوعه إلى المصادر الأجنبية في وصف حياة الفلاحين في العراق فكانت لفتة فير موفقة، وزلة كشفت عمله في أعماق النفس، تستحق السخرية العميقة من المتزنين
ونحن في سبيل الحديث عن الفلاح العراقي. إنما نتحدث عن الفلاح في كل جزء من وطن العروبة، فلقد وحد الألم المشترك والعذاب الذي لا يحتمل، والظلم الاجتماعي الذي لا يطاق، بين قلوب أولئك المعذبين، على بعد الدار، ونأي المزار، فكان الحديث عن أية طبقة منهم في أي مكان من الوطن الشامل، إنما هم الحديث عنهم جميعا
العراق بلد زراعي، ومساحته (435) ألف كيلومتر مربع، وعدد السكان فيه يقرب من خمسة ملايين، وكان هذا العدد زمن العباسيين يزيد على أربعين مليونا. والأرض الصالحة للزراعة في الوقت الحاضر تبلغ مساحتها (92) ألف كيلو متر مربع، لا يزرع منها فير خمسها
وتقسم الأرض الزراعية إلى منطقتين: شمالية، وهي الأرض التي تعتمد الزراعة فيها على مياه الأمطار ومساحتها (41) ألف كيلو متر مربع؛ وجنوبية وهي التي تعتمد الزراعة فيها على مياه الأنهار ومساحتها (51) ألف كيلو متر مربع
ويتألف سكان العراق، من البدو الرحل ونسبتهم العددية لمجموع السكان ثمانية في المائة، وسكان المدن، ونسبتهم العددية، اثنتان وعشرون في المائة، وسكان الأرياف، وتبلغ نسبتهم ستعون في المائة
وتؤلف القرية في منطقة الأمطار الشمالية، الوحدة الاجتماعية، وكان فيها الفلاح على وجه العموم، يتمتع بملكية صغيرة، وشبه استقلال، ولكن مرور الزمن، جعل (المختار) أو (الأغا) مستبدا، فاعتدى على الفلاحين، واستولى على أراضيهم، وسكتت السلطات، وغضت الطرف عن هذا الظلم، حتى فدا الفلاح عاملا مأجورا (للأغوات)
أما في الجنوب، فتتألف الوحدة الاجتماعية، من القبيلة، تمتعت منذ زمن موغل في القدم بحق المعيشة في أراض واسعة، بطلق عليها اسم (الديرة)، وزعت الأراضي منها على الرؤساء، والمشايخ، وغدا أفراد القبيلة مزارعين عند هؤلاء، لا يملكون شيئا. . .
وهذا النوع من الملكية في المنطقتين الذكورتين، ليس إلا لونا من ألوان الإقطاع البغيض، يجعل لفريق من أبناء الأمة سلطانا على أرض الوطن وأبنائه، مرتكزا على حق الوراثة، أو حق الغزو، أو حق العصيان، وسلطان من هذا النوع، لا يستمد قوته من إرادة الأمة، ولا يوافق مصالحها، ويجب القضاء عليه
وظيفة الفلاحين لا تتناول ما يكفيها من الأغذية المكونة للطاقة الحرارية، أو المكتسبة للمناعة، فهم في شبه جوع دائم، ويمكن القول أن ثمانين في المائة من السكان لا تتوفر في أغذيتهم المواد التي يحتاج إليها الجسم
وسوء التغذية يجعل الجسم عرضة للأمراض الفتاكة التي يشكو منها الفلاح العراقي، كالملاريا، والبلهارسيا، والإنكلستوما، والزحار، والسل الرئوي، والزهري، والتراخوما
وعدد الأطباء في العراق (816) طبيبا، ويتركز منهم في بغداد ولوائها (527) طبيبا، ويبقى لألوية العراق الأخرى البالغ عددها ثلاثة عشر لواء (299) طبيبا، ومن تحصيل الحاصل أن يزعم إنسان أن في مقدور هذا العدد الضئيل، مكافحة تلك الأمراض الفتاكة
(البقية في العدد القادم)
على محمد سرطاوي
البريد الأدبي
هل مات الأدب
كتب الأستاذ سيد قطب مقالا بمجلة الرسالة عنوانه (هل الأدب قد مات). وهذا التركيب ليس صحيحا، أو على الأقل ليس فصيحا، ذلك أن النحاة مجمعون على أن (هل) لها مزيد اختصاص بالفعل، وأنه إذا كان الفعل في جملتها اقترنت به، ولا تقترن بالاسم، فلا يقال عندهم في الكلام الفصيح هل الأدب قد مات، وإنما يقال هل مات الأدب
نعم تدخل (هل) على الجملة الاسمية الخالصة نحو قوله تعالى (فهل أنتم منتهون)؟ وقول الشاعر (هل الأعصر اللائي مضين رواجع)؟ والشواهد على ذلك كثيرة
ولسعد الدين التفتازاني عبارة مستملحة في التفرقة بين دخولها على الاسم إذا كان خبره اسما، وعدم دخولها عليه إذا كان خبره فعلا يقول:(قلت الفرق أنها - يريد هل - إذا رأت الفعل في حيزها تذكرت عهودا بالحمى، وحنت إلى الإلف المألوف وعانقته، ولم ترض بافتراق الاسم بينهما، بخلاف ما إذا لم تره في حيزها فإنها تسلت عنه ذاهلة)
ويقول في موضع آخر. . وما ذكره صاحب المفصل من أن نحو هل زيد خرج على تقدير الفعل فتصحيح للوجه القبيح البعيد، لا أنه شائع حسن
وحتى على ما يرى الزمخشري لا تستقيم عبارة الأستاذ قطب، فإن الكلام عليه يقدر هكذا، هل قد مات الأدب، لأن دخول (هل) على (قد) ليس بشيء
علي العماري
كلمة حق حول رسالة الأزهر:
لا جرم أن الذين يكتبون عن الأزهر في هذه الأيام منصفون مخلصون، يدفعهم إيمانهم بمكانته، وفهمهم لحقيقة رسالته، ومعرفتهم بكنه منزلته، وما يجب أن يكون عليه أهمه - يدفعهم ذلك إلى الصراحة في القول، والجرأة في تصوير الداء، وتشخيص العلة، وتجسيم المرض، ثم إلى وصف الدواء أخيرا. . . والصراحة لا تتقبلها النفوس بارتياح في هذه الأيام، ولا ترى فيها محض النصح، ولا خالص الإرشاد، بل على العكس من ذلك، وقد ترى فيها سوء النية، وفساد الطوية، والرمي إلى التجريح، والسعي إلى التشهير والتقبيح،
سواء بالإفصاح أو التلميح!
ولذا، فإن هذه الصراحة تؤذي بعض رجال الأزهر، ممن يعتزون بأزهريتهم، ويحرصون على كرامتهم، ويرون ففي تجسيم الداء، وتكبير العلة، وتضخيم المرض، تجنيا على الأزهر والأزهريين، ويذهبون إلى أبعد من ذلك، فيعتقدون أن هناك نية مبيتة، تهدف إلى النيل منهم، والطعن فيهم، وتهوين عملهم، وبخاصة في هذه الأيام بالذات، حيث يرون عملهم عظيما، وجهدهم كريما، ولهذا يعملون جاهدين لإنصافهم، ويسعون جادين لنيل حقهم المهتضم، والذود عن حوضهم المهتدم، والدفاع عن حماهم المستباح. . .
ومما لا شك فيه أن المنصف يرى فيما نشر عن رسالة الأزهر، تجنيا إلى حد ما، ففيه تغافل عن جهود الأزهر في مختلف نواحي الحياة، حتى جهوده التي تعتبر عماد حياته، وجماع كيانه، وأساس وجوده. .
فالثقافة الإسلامية الحية المطبقة على واقع الحياة والتي يريدها الكاتب، تدرس في كليات الأزهر الثلاث كلية اللغة العربية، وكلية أصول الدين، وكلية الشريعة، دراسة مستفيضة، لا توجد في أي معهد يماثلها، في مصر كلها، بل في الشرق العربي، أو الإسلامي. . تتناولها كل كلية من زاوية خاصة، وتلونها بلونها، وتطبعها بطابعها. . دراسة عامة شاملة بادئ ذي بدء، ثم تعطى اهتماما خاصا بما يتصل بها، بالقدر الذي تسمح به مناهجها، ويعطيك في الوقت نفسه فكرة إسلامية ناضجة في هذه النواحي الثلاث، من حيث اللغة والأدب، والعقيدة الخالصة، والفلسفة الفاحصة، والشريعة ومسائلها، وفروعها وأحكامها. .
هذا ما يجدر بالمصنف أن ينكره، أو يسقطه من حسابه عند الحديث عن الأزهر ورسالته، أو يتغافل عنه ويتناساه، كما لا يجوز له أن ينكر ما يقوم به بعض أساتذة الكليات الأزهرية، وكبار العلماء، والمتخرجين في الأزهر وكلياته، بل وبعض الطلاب فيه. . لا يجوز أن ينكر ما يقومون به من جهد واضح، وسعي دائب، في توضيح المذاهب الإسلامية المختلفة، والآراء الفقهية المتباينة، وإلقاء الأضواء على جوانب الحياة الإنسانية، كما يراها الإنسان، في المناسبات المختلفة، سواء بالخطب والمحاضرات، في الأندية والمجتمعات، أو بالأحاديث الدينية والاجتماعية والأدبية في المذياع، في الصباح والمساء، أو بالمقالات والرسائل في الصحف والمجلات، إلى غير ذلك مما يؤمن الآن ويلمسه كل إنسان. .
ولست أدعى أن هذا كل رسالة الأزهر ولا شيء غير ذلك، وإنما هو بلا شك من رسالته. وإننا لنتطلب من رجاله دائما المزيد من هذا الجهد المشكور، حتى يصل صوتهم إلى كل فج من فجاج الدنيا، وكل رجا من أرجاء الوجود، وحينئذ نقول بحق إن الأزهر قد أدى رسالته. .
وإذا كنا نغتفر للعامة والسوقة من الناس بعض التطاول على تراثنا الجليل، ومخلدات مصر الإسلامية، التي ينظر إليها العالم الآن نظره إلى شيء مقدس، له احترامه ومكانته، ومنزلته في النفوس، فإننا لا نغتفر ذلك للمثقفين المتعلمين، الذين نعتبرهم خاصة هذه الآمة الكريمة، وقلبها النابض، وفؤادها الخافق، وعقلها المفكر، ولسانها الناطق باسمها في مل مكان. .!!
إنني لأعجب بالغ العجب لعقلية حديثة تنظر إلى الأزهر الآن نظرة عامية عتيقة. وكأنها لا تسمع له صوتا، ولا ترى له جهدا، ولا تعترف بما فيه من مواد مختلفة، ونظم قد تكون حقيقة في حاجة إلى التعديل والتهذيب والتنسيق، ولكنها ليست في حاجة إلى الهدم المطلق، والنقد بلا معيار أو حدود. . وإذا نوقشت فيما تقول، وروجعت فيما تدعي، يظهر لك بجلاء جهلها المطلق بنظم الأزهر، ومواده المختلفة، وطرق الدراسة فيه. .
إن الأزهر الآن يقوم بالتدريس فيه أساتذة مشهور شأنهم معروف أمرهم، من ذوي الكفايات الممتازة، والدارية الواسعة، قد تخصص كل منهم في المادة التي يدرسها، متفرغ تفرغا تاما لخدمة هذه المادة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وتدريسها على خير ما يرجو المخلصون والمصلحون. . .
ولا ننكر أن هناك بعض العوامل والموانع التي تعوق هؤلاء الأساتذة عن تنفيذ كل ما يرجون من إصلاح، ويرون من حذف أو إضافة في بعض المواد، أو تغيير في طرق التدريس، أو الكتب المقررة، إلى غير ذلك مما يدعو إليه التطور العلمي، ولكن هذا لا يمنع من أهمية ما يدرس الآن، وأن ننظر إلى الأزهر دائما نظرتنا إلى حصن العروبة الحصين، ومعقل الإسلام المنيع، وأن نتناوله بالإصلاح الشامل في رفق وتؤدة وهوادة، ولا نهاجمه في عنف وشدة، لنجعل ذلك طريقا إلى الشهرة، وسبيلا إلى ذيوع الصيت، وطيران الذكر، موحين إلى الناس إيحاء سيئا أن الأزهر ورجاله رمز الرجعية وعنوان الجمود. .
إني أربأ بكاتب مصري أن يفعل ذلك. أو يحاوله، لئلا يوجد الفرصة لأعداء الأزهر، وأعداء الدين على السواء، من للتجني عليه، والنيل منه بغير حق، لأن الأزهر مهما حاول المحاولون؛ هو عنوان الدراسات العربية، والبحوث العقلية والشرعية في مصر والعالم العربي والإسلامي فيما مضى، وفي هذا الزمان
عبد الحفيظ أبو السعود
القصص
أشجار السنديان
للكاتب الروسي الكبير ايفان بوتين
للأديب حسن فتحي خليل
كنت حينئذ في الثامنة والعشرين من عمري، ولقد حدث هذا منذ زمن بعيد، أيام القيصر نيقولا الأول، وكنت قد عينت ضابطاً في الحرس القيصري
وفي تلك السنة التي لن أنساها منحت إجازة أسبوعين لزيارة عائلتي في أملاكنا القريبة من ريازان حيث تقيم والدتي بمفردها بعد وفاة والدي
وما أن وصلت البلدة حتى وقعت في شباك الحب فلقد ذهبت لتفقد أملاك جدي بالقرب من قرية بتروفسكوي التي لا تبعد عن ضيعتنا كثيراً، ومنذ ذلك اليوم وأنا أحاول أن أجد عذرا لمعاودة الذهاب إلى هناك دائما، فالريف الروسي ريف مقفر وخاصة في فصل الشتاء، ولكن قرية بتروفسكوي قد أحسنت الطبيعة وضعها، يقوم على أطرافها متنزه صغير يطلقون عليه (أشجار السنديان) فهو يتاخم مجموعة من أشجار السنديان الضخمة العتيقة_يقبع تحتها كوخ قديم في محاذاة الحديقة المغطاة آنئذ بالثلوج، ويتناثر بقربه حطام مالك المقاطعة القديم المتداعي
هناك. . وفي هذا الكوخ القابع تحت كوخ أشجار السنديان كنت أذهب يوميا لأبادل لامز محضر المحكمة الذي يقطن هناك أحاديث تافهة لا معنى لها، محاولاً أن أكسب صداقته، وأنا أبعث نظرات دافئة إلى زوجه الصامتة أنفيسا التي تبدو وكأنها امرأة أسبانية أكثر منها فلاحة روسية ساذجة. كانت في نصف عمر لافر، ذلك الفلاح القاسي بوجهه الأحمر ولحيته النحاسية كأنه زعيم عصابة من اللصوص
كنت أقرأ في الصباح أي شيء يقع تحت يدي ثم أقوم إلى البيان فأعزف وأنشد أغنية (أيتها النفس. . هل تلتمسين الحب أو الفناء؟) وبعد تناول الغذاء أستعد لقضاء الغروب في (أشجار السنديان) بالرغم من الرياح والعواصف
وهكذا انقضت عطلة عيد الميلاد وقرب ميعاد عودتي إلى عملي، وقد أخبرت لافر وأنفيسا
يوما في عدم مبالاة بقرب سفري فقال لافر، إن خدمة الإمبراطور طبعا مقدمة على كل شيء. ثم استدار خارجا من الكوخ ليحضر شيئا ما، وكانت أنفيسا تجلس وعلى ركبتيها ثوب تخيطه، فتابعت زوجها بعينيها الأسبانيتين. وفي اللحظة التي أغلق فيها الباب خلفه رفعت إلى عينيها الدافئتين وقالت في همس:
(يا سيدي. . إنه سيقضي ليلته غدا في القرية، فتعال هنا لنقضي أمسية الوداع، لقد كنت أخفي ذلك في قلبي. ولكني الآن أصرح لك بكل شيء. . فإن أشد ما يؤلمني هو أن أفترق عنك)
ولقد غمرني هذا التصريح بالغبطة طبعا ولكني حاولت أن أهز رأسي موافقا إذ دلف لافر بعدها إلى الكوخ
ويمكنك تخيل اللهفة التي كنت أشعر بها وأنا أنتظر ذلك الموعد. لم أدر ماذا أفعل لأقطع الوقت حتى غروب اليوم التالي. وكنت أفكر في شيء واحد فحسب، سأترك كل شيء وسأستقيل من فرقتي وأقضي بقية عمري في الريف وأربط حياتي بها حين يموت لافر. . وهكذا كنت أحدث نفسي (أنه رجل عجوز. . . ويجب أن يموت وشيكا) بالرغم من أني لم أضع في إعتباري أنه ما زال في الخمسين من عمره فقط
وأخيرا انقضى الليل، فجلست أدخن في غليوني وتناولت بعض الشراب وأثملتني تخيلاتي الحارة حتى انقضى النهار الشتوي القصير، وابتدأ الظلام يهبط، وقامت عاصفة هوجاء في الخارج. وتساءلت كيف أغادر المنزل وأي عذر أنتحله لوالدتي؟ فلم أحر جواباً حتى خطرت لي فكرة مفاجئة ز سأتسلل سرا. . . وهذا كل ما في الأمر
وتظاهرت بأني متعب فلم أتناول العشاء وأويت إلى فراشي. وما أن انتهت والدتي من تناول عشائها ودلفت إلى حجرتها حتى أسرعت بارتداء ملابسي في خفة وأسرعت إلى الإسطبل وطلبت من الخادم أن يجهز لي المركبة الخفيفة
كان الجو في الخارج قاتماً حتى أنه يتعسر عليك أن ترى ما هو أمام أنفك بالرغم من الثلوج المتساقطة العاصفة. ولكن الحصان كان يعرف الطريق جيدا، وما أن مرت نصف الساعة حتى ظهرت أشجار السنديان حول الكوخ، ولمع الضوء الخافت في النافذة، فربطت الحصان وألقيت عليه غطاء ثم ركضت نحو الكوخ وهناك وجدتها في أكمل زينتها ووهج
شعلة الخشب يلقي على وجهها ظلالا جميلة وقد جلست على مقعد بجوار المائدة. كانت تنتظرني بكل ما في عينيها من حرارة. كانت الظلال المرتعشة تغطي جوانب الحجرة بالنسبة لذلك الضوء الخافت، ألا أن عينيها كانتا أكثر لمعانا من كل شيء. . . عيناها الواسعتان العميقتان. وكانت على الموائد أطباق بها جوز وبسكويت وإناء مملوء بالخمر المعتقة وكوبان صغيران، بينما جلست هي وقد أولت ظهرها إلى النافذة الصغيرة المغطاة بالثلوج وقد ارتدت فستانا حريريا بأكمام واسعة وحول رقبتها عقد من المرجان وتركت شعرها الناعم يموج على كتفيها بينما يتدلى من أذنيها قرطان من الفضة، وما أن وأتني حتى هبت واقفة وأسرعت تخلع قبعتي المغطاة بالثلج ومعطفي وسترتي ودفعتني إلى المقعد، وفي نشوة حارة، لم أكن أعتقد أنها قادرة عليها، وكنت أظنها من قبل امرأة مترفعة صعبة المنال ألقت بنفسها علي واحتضنتني وهي تمسح وجهي بخديها الناعمتين فقلت (كيف أخفيت كل ذلك حتى الوقت الذي حان فيه فراقنا؟)
فأجابتني في عاطفة دافقة (أه. . . ماذا أفعل؟ لقد استوليت على قلبي منذ مجيئك إلى هنا لأول مرة وكنت أشعر بآلامك، ولكني شريفة ولم يسبق لي أن زللت، أضف إلى ذلك أنه لم تكن هناك أية فرصة تسمح لي تأن أطلعك فيها على مكنون قلبي، فلقد كان هو دائما بيننا، ولم أتمكن حتى من مجرد مبادلتك نظراتك، فهو حاد البصر كأنه النسر، ولو لاحظ شيئا لقتلني للتو)
وعادت تحتضنني وهي تضغط يدي بين ركبتيها، وأحسست بحرارة جسدها على فخذي فكدت أفقد توازني، وإذا بها تقفز فجأة وتنظر إلي في اضطراب وهي تقول:(أتسمع؟ فأرهفت أذني ولكني لم أسمع شيئا سوى زئير العاصفة. ولكنها همست قائلة: (لقد وصل. . .)
وأسرعت تجلس إلى الوائدة وهي تحاول ضبط أنفاسها المتلاحقة، ثم قالت في صوت طبيعي مرتفع وهي تفرغ الإناء بيدها المرتعشة (لتشرب قليلا من خمرنا المعتقة يا سيدي ولتأكل فإنك ترتعش)
ودخل هو في هذه اللحظة وثيابه وقبعته مغطاة بالثلوج، ونظر حوله ثم قال في صوت خفيض (مساء الخير يا سيدي) وخلع ملابسه ثم نفض عنها الثلج وعاد يقول (حسناً) يا له
من جو، لقد وصلت حتى بولش وتوري ثم وجدت أنه لا فائدة ترجى إذ سأفقد طريقي لا محالة، فذهبت إلى الخان وتناولت بعض الطعام ووجدت أنه من الأوفق أن أعود أدراجي، فما قيمة العمل في مثل هذا الجو الثائر المجنون)
بقينا صامتين ونحن نجلس مذهولين مضطربين فقد لاحظنا أنه أدرك كل شيء من أول نظرة، فلم ترفع عينها إليه، أما أنا فقد كنت أنظر نحوه من وقت إلى آخر، ويجب أن أعترف أنه كان مهيبا وهو واقف بقامته الطويلة وكتفيه العريضتين وحزامه الخضر حول وسطه وحذائه العالي ووجهه الأحمر من لسع الريح ولحيته تلمع فيها حبات الثلج وعينيه تفصحان عما يدور في رأسه من أفكار مخيفة
وتقدم فأشعل قطعة أخرى من الخشب ثم جلس إلى المائدة وأمسك بإناء الخمر بأصابعه الغليظة وأفرغ منها في الكوب ثم شربها حتى الثمالة ثم قال دون أن ينظر حوله (لا أدري كيف ستعود يا سيدي، لقد تأخر الوقت بك وجوادك غارق في الثلج، ولكن أرجو ألا تغضب مني إذا ما اعتذرت عن مصاحبتك فإني جد متعب من رحلتي، أضف إلى ذلك أني مشوق إلى زوجتي التي لم أرها طيلة النهار. . وعندي من الأحاديث ما أريد أن أبثها إياها)
وفي الصباح حين لاح ضوء النهار وصل أحد الفلاحين من بتروفسكوي وأخبرنا أن لافار شنق زوجه مساء الأمس بحزامه الأخضر وعلقها بخطاف في الباب. وفي الصباح ذهب إلى بتروفسكوي وأعلن الفلاحين صائحا (يا جيراني) لقد وقعت بي مصيبة فإن زوجتي شنقت نفسها، لقد أصابها مس من الجنون، فلقد عدت في الفجر فوجدتها معلقة هناك، وجهها أزرق ورأسها مدلى على صدرنا، كانت في كامل زينتها لسبب ما وقد طلت خديها الحمراوين. . وهاهي هناك معلقة وقدماها تكادان تلامسان الأرض (اشهدوا معي يا إخواني) فنظروا إليه وقالوا (ما الذي فعلته أنت بنفسك أيها المحضر. كيف تأتي للحيتك أن تنتف هكذا. . وما هذا الخمش في وجهك من أعلاه إلى أسفله. وما زال جرح عينك يدمي. . هيا أوثقوه أيها الإخوان)
وكان نصيبه الجلد. . ثم أرسل إلى سيبيريا ليعمل في المناجم
أحمد فتحي خليل