الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 943
- بتاريخ: 30 - 07 - 1951
هل الأدب قد مات؟
الدولة تخنق الأدب!
- 3 -
للأستاذ سيد قطب
قبل أن نولد تلك المخلوقة الهزيلة المفككة المسماة: جامعة الدولالعربية. . كانت هنالك جامعة ضخمة قوية راسخة للأمة العربية خلقتها الأقلام: أقلام الأدباء والشعراء والكتاب والمفكرين والعلماء. .
. . . وكانت هنالك صلة وثيقة بين كل قلب وقلب وكل روح وروح وكل فكر وفكر في شتى أقطار العربية، يحملها الكتاب، وتحملها الصحيفة، وتحملها الجريدة، ويلتقي عليها المثقفون والقراء في شتى الأقطار.
وظلت جامعة الدول العربية تتسكع وتتلكع، وظلت تجتمع لتنفض، وتنفض لتجتمع، والأمة العربية تسمع جعجعة ولا ترى طحنا، وترى المؤتمرات والموائد ولا تجد وراءها عملا، بينما جامعة الفكر والقلم تؤدي دورها، وتقوم بواجبها، وتنشر الوعي العربي والإسلامي في أقطار العرب جميعها. . .
ولكن الدولة في مصر يجب أن يكون لها عمل. وما يكون عملها إذا لم تخنق الفكر، وتضع في يديه ورجليه الأغلال، وتفصم هذه العرى المقدسة التي كونتها الأجيال.
ما عملها إذا لم يكن هو تقييد تصدير الكتب من مصر إلى البلاد العربية - ومصر هي التي تقوم في الطور الحاضر بدور القيادة - والبلاد العربية هي السوق الأولى لما تنشره مصر من كتب ومن أفكار وتوجيهات؟
لقد فعلتها على عين جامعة الدول العربية وسمعها! فعلتها بمعرفة وزارة المالية التي أصدرت قرارا بمنع تصدير الكتب من مصر. فلما نبهناها إلى الخطر الكامن في هذا الإجراء (الروتيني) الذي اتخذته بجرة قلم، وهو أخطر ما يصيب الروابط العربية بقاصمة الظهر!. . لما أن نبهناها إلى هذا عادت فقالت: إلا بترخيص خاص يتفق عليه مع المسؤولين!
وفي ذات الوقت رفعت رسوم البريد على تصدير الكتب من أربعة قروش للكيلو إلى أثنى عشر قرشاً. ثلاثة أضعاف كاملة فوق عقبات التصدير.
فما معنى هذا الإجراء وذاك في عالم التصدير؟
معنى تقييد تصدير الكتب إلا بترخيص خاص لكل صفقة.
. . . معناه العملي الصريح الذي يجب أن نكشفه للدولة الغافلة. . . هو إفساح المجال للمساومة والارتزاق بين المصدرين وبين المسؤولين! فهل هذا ما قصدته الدولة تيسيرا على موظفيها المختصين؟!
ومعناه كذلك أن نوعا من الكتب يمكن أن يتعرض للضغط والمطاردة والقتل. . . هو الكتب الإسلامية على وجه خاص. ولا احب هذه الإشارة العارضة أن أزيد!
ومعنى رفع رسوم التصدير هو خلق العقبات في طريق الفكر لأن هذه الرسوم سترفع ثمن الكتاب إلى حد معقول وتمنع الإقبال عليه في البلاد العربية، فيختنق الفكر في مورده ومصدره على السواء. وتتعرض الروابط الفكرية بين الأمة العربية للتفكك والانحلال. . وكل ذلك على مرأى من جامعة الدول العربية ومسمع، كما أسلفت الحديث!
إن الدولة لا تتخذ هذا إجراء مع الصحف، إنما تتخذه مع الكتاب وحده. . فلماذا؟
إن الصحف المصرية - إلا النادر القليل - مؤسسات دولية لا مصرية ولا عربية! مؤسسات تساهم فيها أقلام المخابرات البريطانية والأمريكية والفرنسية، والمصرية والعربية أخيراً! مؤسسات تحرر صفحات كاملة منها بمعرفة أقلام المخابرات هذه لتروج في أوساط الجماهير. مؤسسات تخدم الرأسمالية العالمية أكثر مما تخدم قضايا الشعوب العربية. وتخدم الاستعمار الخارجي والجهات الحاكمة قبل أن تخدم أوطانها وشعوبها الفقيرة.
وهذا هو السر في أن الدولة لا تفرض عليها القيود التي تفرضها على الكتب. لأن وراءها أقلام المخابرات ومصالح الرأسمالية العالمية، وهي كفيلة بأن تسندها، وتذلل لها العقبات وتفسد لها الطريق لنشر دعايتها المستورة في أطراف البلاد العربية جميعا. فإذا كان من بينها صحف قليلة من صحافة الرأي والكفاح الفقيرة التي لا تستند إلى هذه القوى الدولية والمحلية. . فهي تنتفع بتسهيلات التصدير ضمنا وعن غير قصد، لأنه لا يمكن استثناؤها.
وحسبها وسائل المضايقة الأخرى وهي كثير!
أما الكتب فقلما تخدم هذه الأغراض التي تخدمها الصحافة، ومن ثم فالدولة تطاردها على هذا النحو. وكلما كانت موضوعاتها غير مرغوب فيها لسبب من الأسباب، فهناك أداة المضايقة حاضرة في الحصول على ترخيصات مفردة يتفق بشأنها مع المسؤولين! وهذه هي حكمة مراجعة أولئك المسؤولين!
ومرة أخرى نتجه إلى تلك المخلوقة الهزيلة المفككة المسماة: جامعة الدول العربية لنسألها: فيم وجودها إذن إذا كانت لا تلتفت إلى هذا الخطر الكامن وراء قيود تصدير الكتب ورفع تكاليف التصدير؟
فيم وجودها إذا كانت لا تدرك أن أساس وجودها وقيامها كلها مهددة بالانهيار، حين تنتهي تلك القيود إلى تقطيع أواصر الفكر والروح بين هذا العالم المترامي الأطراف، المقفل الحدود، الذي لا تجمعه رابطة أقوى من روابط الفكر والروح!
لقد كان الاستعمار وما يزال حريصا على تقطيع هذه الأواصر. وهذه هي فرنسا في الشمال الإفريقي كله، تعد الكتب المصرية بين المحرمات الممنوعة، لأنها تعرف أنها رابطة قوية خطرة على الستار الحديدي الذي تريد أن تضربه بين عرب المغرب وعرب الشرق، وثغرا في تلك الأسلاك الشائكة التي تقيمها على الحدود!
فهل هذا ما تريده الدولة في مصر، وما تريده تلك المؤسسة الهزيلة المفككة؟ أم كيف تسير الأمور؟
إن حجة توفير الورق للتموين في مصر حجة لا تنهض في هذا المجال، وإلا لنهضت في مجال الصحافة كذلك. فالصحف هي التي تستغرق الجانب الضخم من كميات الورق وليست الكتب المحدودة الأعداد والمقادير.
فإذا كانت أقلام المخابرات الخارجية والداخلية ومصالح المؤسسات الرأسمالية وما إليها تشفع للصحف الضخمة. . . أفلا يشفع للكاتب أنه الرابطة الأساسية من روابط الفكر والروح بين الجميع؟
إن القراء في البلاد العربية هم القراء الحقيقيون للكتاب المصري الجاد. فشبابنا في مصر مشغولون بصحافة الأفخاذ والنهود، وبأفلام السينما الداعرة، وبأغاني المخنثين المترهلين. .
إنه لا وقت لديهم لقراءة الكتب. . فجراح القلوب. والقلوب التي في البريد. . والكتب الشهرية التافهة على أكثر تقدير، هي زادهم اليومي الذي عودتهم عليه الأفلام المترهلة والكتاب الداعرون. . .
وإنه لا بد للكتاب الجيد أن يجتاز الحدود المصرية ليؤدي رسالته للأمة العربية، ثم ليعيش.
وما لم يكن هدف الدولة في مصر هو خنق الفكر. فإن كل قيود التصدير يجب أن تلغى، وخزانة الدولة يجب أن تبحث لها عن مصدر آخر غير الزيادة في أجور شحن الكتب بالبريد.
ومرة أخرى لابد أن نتوجه إلى وزير المعارف المصري الأديب.
إنه طه حسين. طه حسين الذي يعرفه الناس أديبا قبل أن يعرفوه باشا أو وزيرا. فأين هو والدولة تخنق الأدب خنقا بيد من حديد؟
إنه في فرنسا!
نرجو له سلامة العودة. ونرجو منه تحطيم هذه القيود.
سيد قطب
هندوكي سفيه
للأستاذ علي محمد سرطاوي
نشرت مجلة (رسالة الباكستان) التي تصدر في القاهرة في عددها المرقم 370 والمؤرخ في اليوم الأول من يونية عام 1951 ما يأتي:
كاتب هندي يطعن في النبي محمد:
وضع الأستاذ سريفاسترا المدرس بجامعة أكرا كتابا في التاريخ حاول فيه الطعن بنبي المسلمين الأكرم سيدنا محمد، والكتاب مقرر في مدارس الهند.
ومما جاء في هذا الكتاب عن الرسول: (أن محمدا لم يكن عظيما كمها بيرا جراستار (هندوسي) وهو لم يكن يؤمن بالسلام ولا بعدم العنف، ولذلك كانت مسؤولية إراقة دماء كثيرة في العالم تقع على عاتقه. وقد تزوج في أواخر حياته، وكان متعجرفا، مخدوعا، جشعا، كما كان عاطفيا يتوق إلى إرضاء شهواته، وخائنا)
والكتاب بما فيه من ملاحظات قذرة، وطعن في رسول الله الذي لم تر إنسانية مثله جمعاء، مقرر على الأولاد المسلمين الذين دوخ آباؤهم منذ قرون البلاد وهزوا الإمبراطوريات في سبيل الدعوة إلى الإسلام والسلام. ويتساءل المسلمون اليوم: هل ترضى الدولة الدنيوية التي قام فيها هذا الكتاب بأن يطعن شخص في دين مجموعة كمجموعة المسلمين؟)
يطيب للكلاب، لسبب مجهول، أن تنبح البدر المنير في كبد السماء، وهو يغمره بنوره الفضي جوانب الأرض، ويشيع في أعماق الأنفس حب الحياة، وجمال الوجود. ولكم شاهدتها العيون، من أزمان موغلة في القدم، مقعية على أذنابها، ومتجهة إلى السماء بوجوهها في مثل هذا الوقت من الأشهر القمرية، تعكر صفو السكون العميق الذي يضفيه نور البدر على الغبراء وهو يغسل ظلام الأرض وما عليها من رجس، بتيار قوي من الرحمة الإلهية تنبعث من نوره إلى آفاق الأرض وآفاق السماء. .
ولكن البدر المنير لا يحس وجود هذه الكلاب، وغنما يستمر في أفقه البعيد وفي عليائه، متهاديا بين النجوم التي تحف به، يثير الحب في القلوب، والخيال الجميل المجنح في الشعر، والأفراح في جنبات الأرض وأرجاء السماء.
ولقد مرت قرون طويلة أوشكت أن تبلغ الأربعة عشر من عمر الدنيا على الرسالة
الإسلامية السماوية التي أنزلها الله على محمد لتكون للحياة الإنسانية جمعاء، في مشارق الأرض ومغاربها، كالنواميس الطبيعية الثابتة الخالدة، التي لا يأتيه البطل، ولا بلم بها التبديل، صالحة لكل زمان ومكان، ولكل ما خلقه الله على صور الإنسان. وهكذا كانت، فحملت في جوانحها كل ما تزخر به الطبيعة من نور، وجمال، وعطر، وربيع، وثمر، وورود، ورياحين، ولم تستطع الحياة في هذا الزمن الطويل أن تجد فيها عنتا أو ضيقا أو عثرة في المسير، وإنما كانت تصقل الجوانب الخشنة من الحياة نفسها، وتشيع النور الإلهي في ظلامهما كما يفعل القمر في الليل والشمس في النهار.
ويعرض علينا التاريخ في مسيره الطويل، منذ أن رأى رسالة الإسلام الخالدة، سجلا طويلا في غير أتباع الإسلام، ممن أنصفوا الحقيقة من أنفسهم، وأقوامهم، وزمانهم، ونوعا آخر من ذلك الطراز الذي عميت قلوبه، والذي زعم أنه لا يستطيع مذاق الماء العذب، لا لأن الماء العذب مر المذاق، وإنما بحكم تلك النفوس من مرض، وما في تلك الطبائع من اعوجاج، وما في تلك القلوب من غل موروث من البيئات المنحطة الحاقدة، التي فتحوا عيونهم على ما فيها من ظلام دامس حجب عنهم النور - ومع كل ذلك فقد بقي الإسلام هو الإسلام سائراً في الطريق المستقيم الذي لا ينحرف، كما تسير الفصول الأربعة، وكما تشرق الشمس، وتطلع النجوم، دون أن يتأثر بالإنصاف أو التجريح، لأنه أقوى من الحياة ومن الطبيعة نفسها.
لقد أنصف كارليل، وغستاف لوبون، وإمام المؤرخين وسيدهم العظيم إدوارد جبون، وغيرهم من أحرار الفكر في بلاد الغرب، النبي العربي، أنصافا انبعث من طبيعة كان الحق فيها أقوى من البيئة الموروثة التي يعشش فيها الباطل، وتسيطر عليها قوى الظلام. وتجنت على النبي نفسه طائفة اخرى من طراز المبشرين الذين اتخذوا الدين وسيلة للعيش، بعد أن أدبروا عن الحياة التي لا يصلحون لها، ومن طراز آخر يجيد افتراء البهتان على علم، وعلى سوء نية، ولؤم تدبير، وقبح غاية، كصاحب (تاريخ العالم) ولز، ومن طراز هابط حقير، يجيد التقليد، إجادة القرود محاكاة الإنسان، على جهل، كسريفا سترا الهندوسي السفيه، المدرس في جامعة أكرا، الذي تطاول على الرسول الكريم في كتابه المقرر في مدارس الهند، التي ترغم أولاد المسلمين هناك، تعلم ما فيه من المثالب
بسيد المرسلين، وأكمل البشر، وأنف مولانا أبي الكلام أزاد، وزير معارف الهند المسلم، راغم، وألف راغم.
ونحن المسلمين، في الوقت الذي نستغرب فيه، أن تقرر الحكومة التي يرأس وزراءها جواهر لال نهروا العظيم، وارث إنسانية المهاتما غاندي الخالد، كتابا فيه مثل هذه المفتريات والمطاعن، على النبي الذي يقسه ثلاثمائة مليون من الشعوب الإسلامية التي تربطها بالهند الناشئة، صلات قوية من الجوار والتاريخ، نحتج أشد الاحتجاج على تقرير هذا الكتاب، وعلى إجبار أبناء المسلمين على تعلم المطاعن في النبي الذي يدينون بدينه الحنيف، والتي وردت فيه.
ونحن المسلمين أيضا، لا نستطيع أن نعلم سريفاسترا وبني قومه الذوق والآداب والإنسانية التي تعارف عليها البشر، في الابتعاد عن كل ما يؤذي شعور الآخرين، ذلك لأن الذوق شيء لا يتعلمه الإنسان من الكتب، ولا يجده في الجامعات، وإنما هو شيء ثمين تضعه العناية الإلهية في الجوهر الخالد في بعض الأرواح، حين تأخذ طريقها من عالم الغيب إلى عالم الوجود. ومن المحقق أن نصيبه من ذلك الذوق كان ضئيلا أو معدوما.
ونريد أن نسأل سريفاسترا عن دماء الأطفال والنساء والشيوخ من المسلمين التي أراقها أبناء بلدته في أفظع صور الوحشية، وأبشع ألوان البربرية والهمجية، تلك الأعمال التي كانت تقود الناس إلى اقترافها الشرطة التي يوكل إلى شرفها حماية أرواح المواطنين بلا تمييز، والتي كانت تتقرب باقترافها، تلك الجماهير الحاقدة، إلى أوثانها التي تعبدها من دون الله. نريد أن نسأل عن الغاية الإنسانية السامية التي كانت تهدف إليها جماعة الأرياسماج، والبراهموسماج في تحريض الناس على ذبح المسلمين؟
والشيء الذي يطيب لنا أن نقوله في هذه المناسبة لجماعة الأرياسماج وجماعة براهموسماج، الجماعتين الحاقدتين على المسلمين وعلى دينهم، واللتين ترميان إلى استئصال الدين الإسلامي من الهند، وإجبار المسلمين على ترك ذلك الدين، ومحاولة إرغام الباكستان، الدولة الإسلامية الفتية الجبارة، على الرضوخ لإرهابهما، والعودة بها إلى ظلام الوثنية والقضاء على استقلالها، نريد أن نؤكد لهما أن الإسلام في إشراقه وخلوده كالشمس، فإذا كان في مقدور البشر القضاء على الشمس وإطفاء نورها، كان في إمكان هاتين
الجماعتينالقضاء على الإسلام في الهند.
ولقد صمد الإسلام في الحروب الصليبية للدول النصرانية التي هاجمته من أوربا في أوائل القرن الحادي عشر لميلاد المسيح، ونازلها في حروب دامية، استمرت قرنين طويلين، كان النصر في نهايتها، فانهزمت تلك الدول الواحدة بعد الأخرى، تشيعها اللعنات من التاريخ الذي سودت وجهه بما اقترفته من آثام ومحرمات، والذي ذكر بأحرف من نور سماحة الإسلام ممثلة في إنسانية صلاح الدين الأيوبي، وعفوه، وكرمه وبطولته.
إن الجماهير التي قتل الجهل والمرض والفقر جميع النوازع الإنسانية العليا في أنفسها والتي تؤلف الكثرة المطلقة في الهند، والتي لم يسلم غاندي الخالد نفسه من همجيتها، وهو يحاول قيادتها إلى طريق الفضيلة والخير، أحوج ما تكون إلى جيل قوي مؤمن بالإنسانية المطلقة من أساتذة الجامعات، يحاربون عن طريق التسامح، والنوازع الهابطة في الحيوانية في تلك النفوس، ويستمرون في أداء رسالة المهاتما غاندي، للخروج بالهند من ظلام العصور الحجرية التي تعيش فيها الآن من الناحية الإنسانية، إلى نور حضارة القرن العشرين.
لقد كفلت حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة لجميع البشر حرية العبادة، وحرية الرأي، والتحرر من الخوف، ولكن يبدو أن حكومة الهند لا تقيم وزنا لهذه الحقوق التي تكفل بها ذلك النظام للأقلية الإسلامية من رعاياها وهي من أبرز الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة.
وخرجت الهند على المسلمين في التمثيل السياسي بمسرحية بارعة قابلها في جميع أقطارهم بما تستحقه من سخرية، ذلك أنالمكر المبيت قد هداها إلى إرسال نفر من رعاياها المسلمين ليمثلوا في البلدان الإسلامية، لذر الرماد في العيون، ولخدع المسلمين عما تدبره جماعة الأريا سماج ومن على شاكلتها لإخوانهم في الدين من مذابح واضطهاد، ومستقبل مظلم رهيب، يهدد حياتهم ومعتقداتهم، وينذرهم بشر مستطير وفناء محتوم، وبعض هؤلاء المسلمين لم يوصلهم إلى شرف هذا التمثيل غير زواجهم من الهندو كياب غير الكتابيات اللاتي لا تجيز مبادئ الإسلام للمسلمين التزوج بهن لنهن مشركات.
ونحن نقترح على حكومة الهند، بعد أن أدرك المسلمون إدراكا صحيحاً غايتها من إرسال
هؤلاء الدبلوماسيين إلى بلادهم، أن ترسل هؤلاء المسلمين إلى أقطار غير إسلامية، وأن تستبد لهم بجماعات الهنادك المتعصبين المتعطشين إلى سفك دماء المسلمين من جماعات أرباسماج، ومن طراز سريفاسترا، لنعلمهم معنى التسامح الإسلامي، ولنزيل ما في نفوسهم من انحراف واعوجاج، وهي إذا فعلت ذلك أشاعت جوا من روح الود الخالص والتسامح الصحيح بيننا وبينها، وقدمت البرهان العملي على إخلاص نيتها وأنها تسير في الطريق المستقيم.
إن الظلام الذي يعيش في سرفاسترا ومن على شاكلته من الهنادك المتعصبين، ستمحوه الأجيال المقبلة من أبناء المسلمين الذين سيحسنون لغتهم السنسكريتية، ويقبلون عليهم وقد حملوا إليهم نور الإسلام، فيتم الله نعمته عليهم ويزول ظلام الشرك والوثنية عن الهند، وتتحرر فيها الجماهير، الجاهلة، ويصبح سكانها أمة واحدة لا حقود ولا نجس ولا حقير فيها، ولا يتفاوت الناس هناك إلا بما يقوله تعالى وهو أصدق القائلين (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
والمسلمون في أقطارهم المتباعدة يرقبون بعين العطف الشديد والجزع المصير الذي سينتهي إليه إخوانهم في الدين، أولئك الذين رماهم سوء الطالع تحت رحمة تلك الوحوش المفترسة من الأرياسماج. ومن يدري؟ فلعل استمرار هذه الجماعات المتعصبة في تحديها للمسلمين سيدفع البلدان الإسلامية إن آجلا أو عاجلا، إلى منازلة أولئك الهنادكة في حروب صليبية جديدة داخل الهند وخارجها، بالطريقة التي ترضاها الأرياسماج والتي لن يجبن المسلمون عن تقبلها.
لقد أفاق العالم الإسلامي من سبات القرون الطويلة، وأخذ المسلمون يشعرون بأنهم كالجسد الواحد، إذا أصاب الألم عضوا من أعضائه، أحست بصدى الألم سائر الأعضاء الأخرى. والمسلمون الذين يحكمهم الهنادك ليسوا منفردين في معركة الدين، وإنما تحيطهم بالعطف والرعاية قلوب الملايين من إخوانهم في الدين، ولن تتخلى عنهم، وإنما سنجاهد إلى جانبهم حتى نكفل لهم الحرية المطلقة في الدين والرأي، ونحررهم من الخوف.
وإذا كان الأدباء في الأمم كالرواد، يمهدون الطريق الوعرالشائك للسائرين عليه وراءهم من أبناء جنسهم وكان رجال الدين في الأمم كالمصابيح تبدد الظلام الذي قد يكتنف ذلك
الطريق. ورجال الأزهر في مصرن باعتبارهم المؤسسة الإسلامية الخالدة التي تسهر على الإسلاموالمسلمين في ديارهم المتباعدة، ورجال الدين الإسلامي في القطار الإسلامية الأخرى، مسؤولون عن وقف هذا الهندوكي السفيه عند حدود الذوق، وعن منع استعمال كتابة القذر في المدارس التي يتعلم فيها أبناء المسلمين وغير المسلمين، بحكم ما فيه من طعن لا يليق أن يقال عن سيد المرسلين وخاتم النبيين، بالوسائل التي تكفل ذلك، دون اللجوء إلى أضعف الإيمان في مقاومة هذا المنكر، شأن العاجز الذي لا يعرف المبادرة إلى العمل السريع. وإننا لمنتظرون
بغداد
علي محمد سرطاوي
رسالة المربي
(ظهور المدرسة، الطريقة النفسية والمنطقية، التقاليد)
للأستاذ كمال السيد درويش
إذا كانت رسالة المربي في الحياة كما نراها هي المحافظة على سلامة الاتجاه الطبيعي نحو التعليم، فإن ذلك الكلام يحتاج إلى المزيد من التوضيح. والواقع أن هذه الرسالة على بساطتها الظاهرة تستدعي مسئوليات جمة، وتتطلب مجهودات كبيرة، ولكنها إلى جانب ذلك جديرة بأن تحتل أسمى مكان وبأن تصبح المثل الأعلى للجميع.
إن بساطة تلك الرسالة وسهولة إدراكها تدعو إلى التساؤل عما إذا كان الإنسان قد سار عليها من قبل أم لا؟ وإذا كان لم يعمل بها فما هي الأسباب التي حالت بينه وبين ذلك؟ وإذا أردنا العمل بها فما هي الأسس العلمية التي يستدعيها التطبيق؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة جميعها تتطلب منا أن نسير مع عملية منذ بدأت لنرى كيف سارت خلال العصور الماضية وحتى وصلت إلى تلك الحالة التي وصلنا إليها اليوم، والتي لا يحسن السكوت عليها بأي حال.
بدأ الإنسان يتعلم - كما ذكرنا - منذ أن ظهر على سطح الأرض مدفوعا إلى ذلك بغرائزه المتعددة. فالإنسان - مثلا - حينما كان يقطن الغابة - كان إذا ما شعر بالجوع اندفع يبحث عن طعامه داخل الغابة، حتى إذا ما رآه في أعلى شجرة ممثلا في ثمارها اضطر إلى التفكير في كيفية الحصول عليه، وفي تسلق الشجرة مثلا. وقد يفشل أو ينجح، فإذا ما نجح تناول الثمرة ووجد فيها الغذاء الشهي أخذ يتعمد تسلق الشجار جرياً وراء الثمار وإشباعاً لغريزة البحث عن الطعام.
كانت حياة الإنسان الأول في الغابة إذن هي المدرسة التي يتعلم فيها. تعلم فيها كيف يتسلق الأشجار وكيف يقي نفسه شر الحيوانات الكاسرة، كان يتعلم فيها الطريقة العملية، طريقة التفاعل مع البيئة التي يعيش فيها.
وقد ظلت طريقة التعلم بالتفاعل مع البيئة قائمة حتى توالت الأجيال وتغيرت الأحوال وأصبحت لا تفي بالغرض المنشود حين بدأ الإنسان يلمس فشلها فبدأ يتخلى عنها إلى غيرها، إلى طريقة أخرى تلائم الوضع الجديد: ذلك أن المعلومات أخذت تزداد وتنمو
بمضي السنين. واصبح عمر الأبناء عليلا لا يتسع لممارسة خبرة الآباء والأجداد بطريقتهم العملية. ووجد الآباء أنفسهم مضطرين إلى تزويد أبنائهم بخيرات ومعلومات هي خلاصة مئات السنين والآلف على أن يتم ذلك خلال سنوات الطفولة. عند ذلك أحسوا بالمشكلة، مشكلة إعداد الأبناء الناشئين حتى يستطيعوا الانسجام مع هذا المجتمع الذي سيعيشون فيه، لأنها - وهم لا يعلمون شيء عن أسلوب حياته أو طرق المعيشة فيه - طرق وأساليب قد تبلورت خلال مئات الآلف من السنين، فهل نكفي سنوات الطفولة بل سنوات العمر كله لهضم وتمثيل ما لم يهضم إلا خلال القرون والأجيال؟!
ظهرت المشكلة واعترضت الإنسان فأيقن منذ ذلك أن إعداد الطفل الناشئ أمر خطير. وازدادت المشكلة تعقيداً بنمو الإنسانية على مدى العصور حتى أصبحت في القرن العشرين تحمل في طياتها أعباء ما انقضى من القرون.
وبدلا من أن يحاول الإنسان حلها حين اصطدم بها نفض يديه منها وأحالها على غيره. أو لعله وجد حل للمشكلة في أن يتركها ويتخلص منها بإحالتها على من يتخصص للنظر فيها، على هؤلاء الذين عرفوا بين الناس من ذلك الحين بالمربين. وجاء المربي فوجد أمامه ثروة ضخمة هائلة من المعلومات المتراكمة، ووقتا ضئيلا لا يكاد يصلح لممارسة شيء من تلك المعلومات في عقول الناشئين وهل هناك طريقة أسرع وأضمن من طريقة الكلام؟ طريقة التلقين؟ عند ذلك استخدمها وفرج بها وتكالب مع غيره من المربين على اتباعها.
وهكذا انتقلت التربية من وسيلة العمل والتفاعل مع البيئة إلى وسيلة الكلام والاستماع، ومن ميدان الغابة أو ميدان الحياة إلى ميدان المدرسة بجدرانها الأربعة المحدودة. ولقد كان ظهور المدرسة أمرا حتميا للتخلص في عملية التربية، إذ استطاعت منذ ظهورها فرض سيطرتها على التربية والتعليم حتى اليوم. فهل نجحت المدرسة؟ هل أدت رسالتها أو حققت الغرض منها؟
يدرك معظمنا شبح المدرسة؟ ويلمس آثاره. يرهبها الصغير ويهرب منها الكبير ويتحمل مرارتها الصبور والمضطر، ويكفي أن نذكر أن فقدان الميل الطبيعي نحو التعلم هو من بين ضحايا شبح المدرسة الجاثم فوق صدور الناشئين حتى نعلم إلى أي حد نجحت المدرسة أو فشلت في تحقيق رسالتها.
قامت المدرسة ولا تزال تقوم حتى الآن بالدور الرئيسي في عملية التربية، ولذلك تقع عليها معظم المسئولية ابتعاد التربية عن هدفها ورسالتها كما يجب أن تكون. ولكي نتبين ذلك بوضوح سنقارن بين الطريقة النفسية في التربية والطريقة المنطقية.
ذكرنا أن الإنسان تعلم ما تعلم في ميدان الحياة. شعر بالجوع فقام يبحث عن غذائه. سار في الغابة فشاهد حيوانا. أراد صيد الحيوان لطعامه فبدأ يهاجمه فرد عليه الحيوان بالمثل وعاد إلى كوخه جريحا جائعا. نظر إلى جرحه فأيقن فشل طريقته الأولى وبدأ يفكر في طريقة جديدة تجنبه الأخطار. وبدأ يجرب، أمسك فرعا من فروع الأشجار ليستعد به في الدفاع عن نفسه أثناء الصيد هذه المرة. وكسر الفرع ففكر في اتخاذ آلاته من مادة أصلب كالأحجار والصخور ساعدته في التغلب على عدوه والعودة بصيده في سعادة وهناء. ولقد عاد بالصيد ولكن. . . بعد أن تعلم الشيء الكثير. لقد تعلم الشيء الكثير. لقد تعلم عدم المخاطرة بنفسه ضد الحيوان الكاسر، وضرورة الاقتراب منه بحذر وهدوء، وعدم صلاحية فروع الأشجار، والاطمئنان إلى صلابة الأحجار ولا سيما أحجار الصوان بعد صقلها وتهذيبها.
هكذا كان يتعلم الإنسان الأول نتيجة لدوافع غريزية وبطريقة عملية حصل خلالها على تلك المعلومات التي اندمجت في خبرته الحسية لعل بعضها ذلك الجرح الذي لم يندمل أو ذلك الصيد الذي لم ينته من التهامه بعد.
هذه الطريقة التي تعلم بها الإنسان الأول تتمشى مع الغرائز الإنسانية هي الطريقة الطبيعية التي اصطلح العلماء على تسميتها بالطريقة النفسية.
الطريقة النفسية إذن طريقة بسيطة عادية تتمشى مع ميول الإنسان الغريزية. ولذلك كان سلوكه نحو التعلم فيها تلقائيا أو فلنقل سلوكا غريزيا، له للسلوك الغريزي من كل مظاهر التلقائية والتغير والرغبة في تحقيق الهدف المنشود. وتتضح هذه المظاهر فعلا في المثال السابق. فالإنسان الأول حين قام ليصطاد من الغابة قام من تلقاء نفسه ولم يأمره بذلك أحد، ولم يكن سلوكه أثناء الصيد جامدا ثابتا بل كان متغيرا متحولا. لقد استعمل يديه أولا فجرح، واستعمل فرع الشجرة فقصف، فلجأ إلى الأحجار يصقلها ويشحذها حتى نجح. وكان ذلك التغير في سلوكه مرتبطا بتحقيق هدفه المقصود ألا وهو الصيد المنشود. وكان
لسلوكه هدف واضح منذ البداية هو الحصول على ذلك الحيوان. ولقد انتهى السلوك بالحصول على الغاية المنشودة.
وهو لم ينته تماما لأن الخبرة التي حصل عليها من جراء ذلك السلوك هي خبرة حسية دائمة. لن ينسى قط تلك الطريقة الناجحة في الصيد. لقد جربها بنفسه فكيف ينسى؟ لم ينقطع سلوكه تماما ما دامت هذه الخبرة الحسية موجودة وقائمة، إذ أن سلوكه سيظهر من جديد محاولات أخرى للصيد تستخدم فيها تلك الطريقة أي تستخدم فيها الخبرة الماضية ويستفاد منها في الحصول على صيد أكثر بطريقة أضمن وأسهل وأسرع.
تلك هي مميزات الطريقة النفسية التي تعلم بها الإنسان الأول هذه الطريقة التي نعم التعليم يديها بخير كثير حتى نمت الإنسانية خلال القرون والأجيال وازدادت معارف الإنسان. اكتشف المعادن فحلت الحربة النحاسية محل أختها الصوانية الحجرية، ثم ظهرت الطلقة النارية فحلت محل الحربة النحاسية. وظهر المعلم في المدرسة ووكل إليه أمر الناشئين هؤلاء الذين لا يعلمون أمر دنياهم ولا من سبقهم فيها شيئا. ولم يتردد المعلم في التعليم. ولكن كيف لجأ إلى نفس الطريقة التي لجأ إليها الأب حين سأله ابنه وهما خارجان للصيد معاً:
كيف أصطاد؟ ففكر الأب وقال في نفسه: (أأترك ولدي ليقع في الخطأ الذي وقعت فيه من قبل فيجرحه الحيوان وقد يقتله أم أزوده بخبرتي حتى ينتصر بطريقتي؟ لا، سأنصحه وسأسدد خطاه. عند ذلك التفت إلى ولده قائلا: خذ هذا الحجر وضرب به من بعيد، أو خذ هذه الطعنة واطعن بها، فهكذا أوصانا الآباء عن الأجداد.
هذه هي الطريقة وما أسهلها. يعطيه خلاصة المجهود الذي بذله في سنوات، والذي بذله الآباء والأجداد في آلاف السنين، يعطيه إياه خلال كلمة أو كلمتين. ألا يكون بهذا قد وفر عليه ضياع جهوده في تجارب فاشلة قد وقع هو فيها من قبل؟
تلك هي الطريقة المنطقية، أو هكذا اصطلح العلماء على تسميتها، هي طريقة إعطاء الخلاصة والنتائج مباشرة للناشئين. ولو نظرنا إلى موقف الابن بعد أن تسلم الحربة وبعد أن طلب إليه أن لا يصطاد إلا بها لوجدنا أنه في حاجة إلى توضيح. لقد طلب إليه ألا يصطاد إلا بها وبوده لو ترك لحربته فيصطاد بيديه ويهجم بجسمه هو ليشعر في قرارة
نفسه أنه قد قيد بطريقة لا يفهمها ولا يدري السر في إصرار والده على ضرورة التمسك بها. وهو مضطر للعمل بها إرضاء للسلطة العليا الممثلة في شخص أبيه، فكأنه لم يقبل العمل بهذه الطريقة إلا لإرضاء السلطة العليا، ولذلك يظل عمله بها قائما وباقيا ما دامت هذه السلطة موجودة لتعد عليه حركاته وسكناته وتراقب كل تصرفاته، ولذلك نراه يتخفف من العمل بما أمر به حين يخلو إلى نفسه وحين يبتعد عن سلطة الرقباء يخالف ما تعلمه في الحال ويبدأ في الصيد بطريقة أخرى تنسجم مع ميوله وأهوائه. سيجرب الوسيلة التي كان آباؤه قد جربوها من قبل، وسيصيبه مثل ما أصابهم من ضر وعند ذلك يبدأ في إدراك الحكمة فيما علمه إياه أبوه، ويفهم السر في تمسكه وإصراره، والحكمة في إرشاده وتعاليمه.
وهكذا يمكن أن نجمل موقف المتعلم بالطريقة بذكر المظاهر الآتية: -
1 -
ازوراره عن التعلم أو انعدام الرغبة لديه
2 -
تقيده التام بما يراد له أن يتعلمه
3 -
عدم قبوله للتعلم إلا مضطرا وتحت ضغط عوامل خارجية
4 -
العجز عن الفهم أو عن إدراك الحكم فيما يتعلمه
5 -
إن التعليم غير ثابت ويزول بزوال المؤثرات الخارجية المرتبطة به
6 -
عدم ثبوت ذلك التعليم إلا إذا حدثت خبرة حسية يمر فيها المتعلم مصادفة فتؤدي إلى إعطاء المعلومات الشكلية السابقة قيمتها الحقيقية.
ويلاحظ أن الخبرة العملية هي عودة إلى الطريقة النفسية، وأن مرور المتعلم خلالها وممارسته لها قد غيرت من سلوكه السابق نحو عملية التعليم وحولته من الأدبار إلى الإقبال، كما حولت عملية التعليم ذاتها من الفشل إلى النجاح.
حقا إن الطريقة النفسية بعد أن قارنا بينها وبين الطريقة المنطقية تبدو وثيقةالصلة بالرسالة التي يجب على المربي القيام بها.
البقية في العدد القادم
كمال السيد درويش
ليسانسيه الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي
مدرس بالرمل الثانوية
ألمانيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
أمة من الفرسان تحالف ضدها الإنسان والزمان، ودولة يحتل الأعداء أراضيها وقد كانت تحتل من معظم القارة الأوربية كل مكان، وشعب ينهزم ولكنه لا يلبث أن يقف ناهضاً، ودولة اشد الرهبة، ويرعبهم ذكر اسمها أشد الرعب، وإن كنت غير مصدق فسل فرنسا والفرنسيين، وأنت كفيل بأن تصل حتما إلى الحقيقة واليقين.
وإن أنس لا أنس سيدة فرنسية كانت تقيم في المنزل الذي كنت أقيم به في 1939 أي عند قيام الحرب العالمية الثانية وكان قومها يسكنون على حدود فرنسا الشرقية أي المجاورة لألمانيا، فلما أعلنت الحرب جاءتني فزعة ومضطرة ومعها جريدة فرنسية تحمل النبأ فحاولت أن أهدئ من روعها وأن أطمئنها فقلت لها:(يا سيدتي إن الجنود الفرنسيين البواسل سيصمدون أمام الألمان المعتدين ولن يصيب قومك سوء. .) فكان جوابها: (يا سيدي أنت لا تعرف الألمان؟ سلني عنهم أجبك: إنهم قوة قاهرة غلابة لا قبل لنا بها، وقوم متوحشون لا نعرف الرأفة إلى قلوبهم سبيلا).
في 1943 زارني صديق كان يقيم بمدينة ليون بفرنسا في الفترة من 1938 - 1942 وكان من الطبيعي أن أطلب إليه أن يصف حالة فرنسا والفرنسيين عند قيام الحرب وهن مدى الفزع الذي استولى على الفرنسيين إذ ذاك فأجابني بما يأتي قال: كان لي صديق من الفرنسيين فلما قامت الحرب جنده، فذهبت لأودعه وأبديت أسفي لفراقه وخوفي عليه وإشفاقي من طول غيابه، ولكنه أجابني قائلا (لا يا سيدي لن يطول غيابي فإنني عن قريب عائد). ولا عجب فإن الفرنسيين كانوا لا يثقون بأنفسهم ويؤمنون بأنهم لن يستطيعوا الوقوف في وجه الألمان. وفعلا عندما التقى الفرنسيون - وكانت قلوبهم هواء - بالفرسان الألمان لم يلبثوا إلا عشية وضحاها ثم ولوامدبرين!
ويتجلى مدى وف فرنسا من ألمانيا فيما تقدم به كليمنصو رئيس وزراء فرنسا غداة انتصار الحلفاء 1918 من وجوب تقسيم ألمانيا إلى دولتين حتى تضعف ويزول الخطر عن فرنسا. وقد كان كليمنصو على حق فيما ذهب إليه: لقد احتلت جنود ألمانيا باريس عاصمة فرنسا عدة مرات في خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين:
احتلتها1814، 1815، 1870، وكانت تهددها 1915 ثم احتلتها للمرة الأخيرة 1940 - 1945 وقد نزل الدمار بشمال شرق فرنسا وبشرقها وبعاصمتها في كل غارة من هذه الغارات.
ولكن الحلفاء لم يأخذوا بوجهة نظر فرنسا، فإنجلترا رفضت لأنها كانت وما زالت ترى ضرورة قيام ألمانيا كدولة قوية في وسط أوربا حفظا للتوازن الدولي، ففي شرق القارة توجد روسيا وفي غربها توجد فرنسا ومن ثم يجب أن تكون هناك دولة قوية في وسط القارة لتمنع طغيان إحدى هاتين الدولتين (وخاصة روسيا حاليا) على القارة الأوربية. ولعلنا نلمس ذلك بوضوح في السنوات الأخيرة، فقد كان نتائج هزيمة ألمانيا سنة 1945 أن تقدمت القوات الروسية من الشرق واحتلت شرق ألمانيا وتقدم قوات الحلفاء (إنجلترا وفرنسا وأمريكا) من الغرب واحتلت كل دولة جزءاً ثم بان الخطر الروسي فحاول الحلفاء جاهدين توحيد ألمانيا (رغم معارضة فرنسا) ولكن روسيا وقفت في وجههم وبات أعداء ألمانيا بالأمس على أحر من الجمر يحاولون إعادة ما هدموه وما أنفقوا الملايين من الأرواح في سبيل هدمه، ولا ريب أن كل هذا التطور نشأ عن ظهور الخطر الروسي مما دعا إلى ضرورة إيجاد دولة قوية تقف في وجهه، وقد فطنت روسيا إلى أهداف الحلفاء فعارضت في الجلاء عن الأراضي الألمانية التي تحتلها وفي وحدة ألمانيا حاليا.
وقد عارضت أمريكا (الولايات المتحدة) طلب فرنسا سنة 1981 لأن رئيس جمهوريتها ولسن كان قد أعلن مبادئه الأربعة عشر، وأهم مبدأ فيها أن لكل قوم الحق في تقرير مصيرهم، فرأى ولسن أنه لا يستطيع أن يعلن عن مبادئ ثم يتنكر لها في نفس الوقت أو بعبارة أخرى أن يؤمن بمبادئ ويكفر بها في نفس الوقت، ولذلك رفض فكرة تقسيم ألمانيا. ومضت السنون، وفي عشرين سنة أعادت ألمانيا قوتها وقواتها. وفي 1939 اشتعلت نيران الحرب الثانية وتحققت مخاوف الفرنسيين وداست ألمانيا على حرياتهم واحتلت عاصمتهم وديارهم 1940 وأقامت إلى أن تعاون الحلفاء وأعدوا قواتهم فنزلوا بأرض فرنسا ثم أجلوا الألمان عنها وتقدموا داخل ألمانيا حتى سقطت في يدهم برلين 1945
وتحتل قوات روسيا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا أراضي ألمانيا الآن، ويتمنى الإنجليز على رغم معارضة فرنسا عودة ألمانيا القوية لحفظ التوازن الدولي الأوربي ولكن.
ما كل يتمنى المرء يدركه
…
تأتي الرياح بما لا يشتهي السفن
غارة:
في أواخر القرن الرابع الميلادي وفي خلال القرن الخامس تعرضت أوربا لغارة عنيفة جاءت عليها من الشرق، ذلك أن قبائل (الهون) وهي قبائل مغولية كانت تسكن وسط آسيا بدأت تتحرك غربا وتدفع أمامها غربا الشعوب والقبائل التي تصادفها، وقد صادفت في طريقها القبائل التيوتونية أو الجرمانية فدفعتهم أمامها حتى استقروا في المنطقة بين نهري الربن والفستيولا من وسط أوربا. ومنذ ذلك التاريخ استقر الألمان في تلك المنطقة.
كان الجرمان يعيشون قبائل مستقلة، وكان نظام حكمهم ديمقراطيا فكان أحرار كل قرية يشتركون في غدارة شؤونها، وكانوا يمتازون بفروسيتهم وشجاعتهم ويعيشون على الرعي والزراعة والصيد.
وامتاز الجرمان أيضا بضخامة أجسامهم وبقوة بنيتهم وبولعهم بالحرب والخمر والميسر حتى بلغ بهم الأمر أنهم كانوا يقامرون بنسائهم وأولادهم.
وقد ظل الألمان على وثنيتهم فترة طويلة من الزمان ثم دخلوا في المسيحية في بدء العصور المتوسطة.
ولست أحب أن أتعرض بالتفصيل لتاريخ ألمانيا ولكني أحب فقط أن من يدرستاريخ الألمان يشاهد ظاهرتين بارزتين:
أولا: تأخر قيام دولة موحدة في ألمانيا، إذ تم ذلك في سنة 1870 منذ ثمانين عاما تقريباً، ويرجع السر في ذلك إلى أن القبائل الألمانية كونت ولايات مستقلة وظلت هذه الولايات تعمل على المحافظة على استقلالها. صحيح أنه في فترات مختلفة من التاريخ قامت دول وإمبراطوريات تضم جميع ألمانيا بل وكثيرا من الدول الأوربية، ولكن الدولة الألمانية الموحدة توحيداً كاملا لم تقم إلا سنة 1870
ثانيا: امتاز تاريخ ألمانيا بظهور أبطال عظام تقمصت دولتهم في شخصيتهم، وتقمصوا هم في شخصية دولتهم، أمثال فردريك الأكبر، بسمارك غليوم، هتلر.
وإننا ما نزال نذكر أن الناس كانوا يتحدثون عن هتلر كانوا يقصدون ألمانيا فكان اسم هتلر مرادفا لاسم ألمانيا. ولكن أهم من ذلك أن الألمان كانوا ينزلون لهؤلاء الأبطال عن كثير
من حرياتهم ويمتحنون سلطة مطلقة فيصبح هؤلاء حكاما بأمرهم. ومع هذا لم يطغوا بل استخدموا هذه السلطة في خدمة الوطن، وكانوا أول خادم للوطن والشعب حتى بلغوا مرتبة التقديس عند شعوبهم.
للكلام صلة
أبو الفتوح عطيفة
المدرس الأول للعلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية
بين المتنبي وكافور
دراسة يائية المتنبي في مدح كافور
للأديب نور الدين شمسي
ليس يعنينا في دراستنا لقصيدة المتنبي أن تقف على كل شاردة وواردة فيها، نشرحها ونعللها ونبين ما تنطوي عليه من معنى وما تحويه من لو أن القبح أو الجمال، لأن هذا يخرج بنا عن نطاق الدراسة العاجلة التي نريد بها اليوم أن تقف على قصيدة الدراسة العاجلة التي نريد بها اليوم أن تقف على قصيدة المتنبي جملة فنقرر ما إذا كنا نستطيع أن نرفع من شأنها لنضعها في عداد فوائده وروائع قصائده. . . أو أن نضع من شأنها فتلقي بها بين قصائده التي ابتعد فيها عن عبقريته وانحط من عليائه. . أو أن نلتمس لها مكانة بين المكانين لا نرفعها ولا نضعها. . وإنما ننظر إليها على أنها قصيدة استوى فيها عمود الشعر وأخذت من جماله بنصيب.
الحق أن المتنبي ليس كغيره من الشعراء، وإذا أردنا أن ندرس قصيدته فما ينبغي لنا أن ندرسها كما ندرس أية قصيدة أخرى لأي شاعر آخر. . وإنما يجب أن نراعي خلال ذلك اعتبارات لن نستطيع مطلقا أن نفهم القصيدة ما لم نقف عندها مليا ونتأملها طويلا.
فالمتنبي شاعر طموح كبير النفس، لازمه طموحه منذ أن كان صبيا حتى وافاه أجله وانتهى إلى نهايته. . وطموحه هذا هو الذي جعله في كثير نم الأحيان يخرج عن المألوف فيفخر بنفسه فخرا لا يدانيه فخر، ويعجب بقوته عجبا لا يماثله عجب، وينظر إلى نفسه على أنها من نفوس الملوك والأمراء وإن وضعتها المقادير غمطا وإجحافا في مصاف الشعراء الذين لا حول لهم ولا قوة:
همتي همة الملوك وإن كا
…
ن لساني بري من الشعراء
إذا فهمنا هذه الناحية من حياة أبي الطيب فقد وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام أعذار جمة نستطيع معها أن نقبل من المتنبي إسرافه في مدح كافور في يائيته.
ذلك أن نفس أبي الطيب كانت تتململ بين جنبيه وتأبى أن تظل هكذا بعيدة عن العظمة التي خلقت لها بينما يتمتع بها أناس ليسوا بأحسن منه حالا ولا بأطول باعا ولا بأرسخ في العلم قدما. ولذا نراه يطلبها جادا وبأي ثمن فيمدح العبد ويقدم بين يديه الشعر الرفيع
والقصيدة الخالدة وكأني بنفسه تكبر ذلك وتأباه، وكأني به ينكر ويكذب ما يقول ولكنه يرضاه مرغما ليشبع في نفسه نهما إلى الملك والعظمة وكبار الأمور. ولو لم يكن تكن بين جنبي أبي الطيب تلك النفس الكبيرة لرضى بصغائر الأمور وحقائرها ولقنع بما قنع به غيره من عطاء الملوك ونوال الأمراء.
لم تكن قصيدة المتنبي في مدح كافور ضربا من المدح المعتدل، وإنما كان فيها إغراق في لا تعظيم وإسراف في الثناء. . . وما للمتنبي من غرض يبتغيه إلا أن تبلغ القصيدة قلب الممدوح وتصل إلى وجدانه. . . وما كان له من غابة، بعد ذلك إلا أن يستجيب له ذلك القلب وهذا الوجدان فيبلغه القصد ويدنيه من الأمل.
ولذلك نستطيع أن نسيغ تلك المبالغة التي نثرها في قصيدة بغير حساب. . ثم لا نكتفي بذلك بل لا نملك أنفسنا من أن نردد بكثير من الطرب والإعجاب قوله:
كتائب ما انفكت تجوس عمائرا
…
من الأرض قد جاست إليها فيافيا
غزوت بها دور الملوك فباشرت
…
سنابكها هاماتهم. . . والمغانيا
وأنت الذي تفشي الأسنة أولا
…
وتأنف أن تغشى السنة ثانيا
إنها مبالغة لا شك. . ولكنها على جانب كبير من الروعة والجمال، ومن ذا الذي يمنع الشاعر أن يملأ ماضغيه بمثل ذلك وما ميدانه إلا الشعر. . وما قوامه إلا الخيال الواسع البعيد؟
لننتقل الآن إلى العاطفة، ولنفتش عنها بين أبيات هذه القصيدة فهل نرى لها أثرا. . وما حظها من القوة ونصيبها من الصدق؟
لا نستطيع أن نحكم بان المتنبي كان صادقا في مدحه لكافور لأنه إنما كان يمدحه حبا في الوصول إلى غرض معين. . ولكن كيف استطاع المتنبي أن يكسب قصيدته هذا اللون من القوة والتأثير وكيف استطاع أن يرضي كافورا - وإن لم يصل به رضاه إلى حد الاقتناع فالاستجابة؟
والواقع أن المتنبي لم يكن يضمر لكافور شيئاً من الحب كما أنه لم يكن يضمر له شيئا من البغض. . وكل ما هنا أنه كان يطمع في أن يصل إلى شيء عن يديه بواسطته. . إذاً فما له لا يستعمل براعته في أن يجعل من قصيدته هذه قصيدة صالحة لأن تقدم إلى ملك بغية
التأثير عليه وأملا في تحريك قلبه ووجدانه، وما هي حينئذ آلته إلى ذلك؟
يقول أميل فاكيه في عبقرية شاتوربريان (إن العاطفة والجمال هما قوام الشاعر. . . ولكن يكفي أحد هذين العنصرين إذا كان ممتازا أو قويا، وإن كان اجتماعهما عند شاعر ينتج أروع الآثار)
إذاً فلم يلجأ المتنبي إلى خياله الخصب ما دام أحس برودة عاطفته وجمود إحساسه وله في الخيال كعب عال وسبق وتبرز؟ وما لنا ألا نفتش عن سبب جمال القصيدة في ميدان الخيال بع أن بحثنا في ميدان العاطفة؟
إلا ترى إلى هاتيك الجرد الخفاف كيف صورهن خياله على ابرع شكل وبأرع صورة. . . وكيف وضع أمام ناظريك صورة ذلك القطيع من الجياد: يدب أناء الليل وأطراف الناهر ليبلغ كافوراَ ولو بعد المسير إليه:
وجرداً مددنا بين آذانها القنا
…
فبتن خفافا يتبعن العواليا
وتنظر من سود صوادق الدجى
…
يرين بعيدات الشخوص كما هيا
وتنصب للجرس الخفي لسوامعا
…
يخلن مناجاة الضمير تناديا
بعزم يسير الجسم في السرج راكبا
…
به ويسير القلب في الجسم ماشيا
قواصد كافور توارك غيره
…
ومن قصد البحر استقل السواقيا
أولا ترى أن الخيال وحده هو الذي ملأك دهشة وإعجابا.
وانظر إلى هذا البيت الذي اعتمد على العاطفة وحدها إلا نحس ببرودته وتشعر بجموده:
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقا
…
إليه وذا الوجه الذي كنت راجيا
إن الخيال مرة، والمبالغة مرة ثانية، وهذه الموسيقى العذبة تراها شائعة في كل أنحاء القصيدة، وهذا البحر الطويل الملائم الذي اختاره لقصيدته. . وذلك الأسلوب الرصين والديباجة المشرقة التي لا تستطيع أن تذل عليها ببنانك وإنما تشعر بها بجنانك. . هذا كله وشيء من الصناعة الطريفة التي جاءت م غير كد ولا تكلف، ساهم في إعطاء القصيدة درجة ممتازة ومكانة رفيعة بين سائر شعره وقصيده.
على أنه لا يبتغي لنا أن ننظر إلى القصيدة بعين واحدة فحسب هي عين الرضا والارتياح وإنما يجب أن ننظر إليها بالعين الأخرى لترى ما إذا كان عناك بعض ما يؤخذ عليها من
عيوب:
لئن كنا أعجبنا كثيرا ببعض ضروب المبالغة التي جاءت في قصيدة المتنبي اليائية، إلا أن ذلك لا يمنعنا أن ننكر بعضها الآخر ونستقبحه ونستذريه. ولئن سوغنا له أن يتحدث عن شجاعة كافور وبسالته بالمقدار الذي أراد، إلا أننا لا نسوغ له مطلقا أن يجعل الجنس السامي كله وما يملك من نفس ومال فداء له مبالغة في الثناء وإسرافا في الامتداح:
ومن قول سام لو رآك لنسله
…
فدى ابن أخي نسلي ونفسي وماليا
كما أننا نكر أن يقول المتنبي مثل هذا القول:
فتى ما سرينا في ظهور جدودنا
…
إلى عصره إلا نرجي التلاقيا
لأننا ما عهدنا المتنبي يقول ذلك وهو الذي قال صغيرا:
أي مكان أرتقي
…
أي عظيم اتقي
وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي
وهو الذي قال كبيرا:
سيعلم الجمع من ضم مجلسنا
…
بأنني خير من تسعى به قدم
كما قال:
وكيف لا يحسد امرؤ علم
…
له فوق كل هامة قدم
ومما يجعلنا نشتط في إنكارنا هذه المبالغة في هذه الأبيات التي مرت بنا، انه ينشدها في أول زيارة لكافور حين كان هذا يعلم تمام العلم أن المتنبي لم يحبه بعد ولم يعرف عن سجاياه ما يجعله في عينه يستحق مثل هذا الإطراء، الأمر الذي أدخل الشك غلى نفس كافور وعرفه بأن هذه المبالغة إنما هي مبالغة في التملق والرياء لا في المدح والثناء.
ولو اقتصر المتنبي على الإغراق في المدح لهان الأمر. . ولكننا نراه منذ أول قصيدة أنشدها في كافور يلوح به بما في نفسه ويطلب منه الإمارة والولاية فيدرك كافور الغرض من مجيئه ويعرف سر هذه المغالاة في مدحه وتعظيمه.
ولو اقتصر الأمر أيضا على الإغراق في المدح والمطالبة بالولاية لا لتمسنا له بعض العذر - مكابرين - ولكنه أرادها جائزة تليق بعظمته، بدون ستر، أو إخفاء:
وغير كثير أن يزورك راجل
…
فيرجع ملكا للعراقيين واليا
فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا
…
لسائلك الفرد الذي جاء عافيا
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب
…
يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا
مما جعل كافور يخاف من نواياالمتنبي ويقول كلمته المعروفة (يا قوم إن م ادعى النبوة بعد محمد (ص) ألا يدعى الملك بعد كافور؟ فحسبكم)
وشيء آخر لا نريد أن نمر بالقصيدة دون أن نقف عنده بعض الشيء، وهو خلوها من فخره بنفسه على عادته في مدحه للآخرين. . وغن كان المدح الأمثل يتطلب ذوبان شخصية المادح في شخصية الممدوح، إلا أننا نذكرها هنا وخروجه هذا عن عادته لندل أيضا على ما في هذه القصيدة من مبالغة في الرياء، فقد أراد أن يجعلها خالصة لوجه كافور ولو شئت خالصة لوجه الجيش والعراقيين!
لقد سمعناه يمدح سيف الدولة فما كان ينسى نفسه ولا كان يغادر القصيدة إلا وقد بث فيها كثيرا من فخره بنفسه. . ويحدثناالتاريخ أنه كان محبا لسيف الدولة فكانت عاطفته نحوه صادقة أمينة فلم يجد عندئذ من الغضاضة أن يفخر بنفسه ويمدحها في مدحه لسيف الدولة. . وميزة أخرى فيها عادته وطبعه وهي أنه نثر بعض الحكم في قصيدته كما اعتاد أن يفعل في كثير من قصائده فنراه يقول:
إذا كنت ترض أن تعيش بذلة
…
فلا تستعدن الحسام اليمانيا
فما ينفع الأسد الحياء من الطوى
…
ولا تتقي حتى تكون ضواريا
كما يقول:
وللنفس أخلاق تدل على الفتى
…
أكان سخاء ما أتى أم تساخيا
وخلاصة القول أن قصيدة المتنبي هذه من القصائد الرائعة التي كتبت له الخلود، وغن كان فيها بعض ما، أخذه عليه، فإن ثبات المستوى ليس شرطيا في الشاعرية وقد يجمع البحر الماسة الكريمة البيضاء إلى جانب الفحمة القذرة السوداء.
نور الدين شمسي باشا
كلية الآداب - جامعة فؤاد الأول
2 - رحلة إلى ديار الروم
للسيد مصطفى البكري الصديقي
للأستاذ سامح الخالدي
ولما وصلنا، ألقينا لديهم عصا التسيار، وفي ثاني يوم الإقامة عندهم، حال توالي رؤيتنا برهم ورفدهم، قصدت زيارة سيدي سيلان. وممن مشى في الركاب جمع من الأحباب منهم محمد سعيد السلفيتي، وتوجهنا صحبتهم إلى (سعسع) وبعد الغدا سرنا إلى (صفد) وزرنا ابن حبيب والمغارة، وختمنا الربعة الشريفة، وتغدينا عند قاضيها إسماعيل أفندي، ذي الوثبة المنيفة، ودعانا واليها للعشا، وسرنا منها قبيل العشا، وقطعنا (الخيط) صحبة أولاد مراد، وودعناهم عند (عين الذهب) الفائقة عين العسل، وسرنا إلى خان (حاصبية) ومنه أتينا (أكمام) وسرنا إلى قرية (راس العين) فرأيناها منتزها يسر لا خاطر والقلب والعين، وبتنا عند رجلها الشيخ محمد، واجتمعنا فيها برجل مصري يسمى بالشيخ علي، له فضيلة في العلم بها مليء، وفي الصباح بعد وداع رب المنزل والضيف، سرنا كأنا نسير في وادي عوف. وعندما وصلنا (المزة) نزلنا بساحة حلوة، ووردت علينا أحباب أعزة، منهم الصهر النبيل الشيخ إسماعيل، وابن العم ذا الوفا المنلا مصطفى، والصديق احب الأحوال السمان الشيخ عبد الرحمن السمان، وغيرهممن أعيان ونزلت لدى الصهر المحترم من أجل الأخت وأولادها الحرم، وبقية الجماعة في دار قريبة منا، وورد كثير أحباب السلام، حتى حبست في البيت عدة أيام، وبعد أن أقام الحجاج حسن أياما وأخذنا ما يحتاج إليه من الهدية تماما، وزار الصالحية ورجالها، وقصد أعيانها وابطالها، طلب الإذن بالعودة الأحمد، وتوجه فحرك السواكن يوم وداعه، وتوجه صحبته الشيخ أحمد الباقاني والخ الحاج سلامة الراميني والأخ المراعي للعهد الحاج حسن الجماعيلي والحاج محمد الكفرعيني وبعد توجههم إلى البلاد، بهدية للبيت والأولاد، اجتمعت بالوزير المشير جناب سليمان باشا ذو القدر الخطير، وكنت سمعت الخالص والعام يثنون عليه بحسن الالتئام مه أهل الشام، فأكرم بما لا مزيد عليه من إكرام. حباه الله مزيد الإنعام.
(وممن اجتمع بنا المحب المجد الذكي محمد جلبي بن مكي، وأنشقنا مع حسن أدبه عرفه الزكي، ومشى أمامنا يوم وداع الدستور الأكرم المسكي، وقام في خدمتنا وهوالمشار إليه أتم
قيام، بلغا كل مراد ومزام.
(وفي اليوم الثاني من شهر ربيع الأول، توجهنا بعد وداع أهل وأحباب إلى (حرستي) مع الصهر المحترم من الأحبة، ثم رجع الصهر وسرنا إلى (دومة) القرية المعلومة، وبتنا في دار واسعة الأكناف مع إخواننا الكرام الأشراف، وفي الساعة السادسة ودعنا ابن العم المنلا مصطفى، والأخ الأمجد الشيخ محمد السفاريني والصديق الجليل نجل شيخنا الشيخ أحمد أبي المواهب الحنبلي وغيرهم سائرين إلى (القطيفة) ثم سرنا منها إلى (النبك) ذات الحبك والسبك، وأنشدت بعد ما ذكرت الشيخ علي النبكي:
ولما أن أتيت لأرض نبك
…
غدت عيني من الأبعاد تبكي
ومنها أتينا خان (حسبة) العامر الآهل بمعمره ذي الرأي الثامر، ومنها سرنا إلى مدينة حمص وزرت رجالها من الخارج، كالمدتين السابقتين، وقرأت الفاتحة لسيدي خالد بن الوليد، وورد على تاجر يسمى بالسيد عبد الرحيم، وطلب الاندراج في سلك أهل الرحيم، وآخر يقال له الحاج باكير وكان أرسل لي كتابا أودع فيه أساطير، وطلب الإجازة والانتماء للفقير، فأجبته، وأنا راج لي وله التعمير، وسرنا منها إلى حمى (حماة) ولما رأيت سورها المقول في قلب لفظة المأنوس، وسورة حماة بها محروس، شهدت من بعيد أحبابا لهم ود أكيد عرفت منهم صهر الصهر السيد عبد الرحيم العقيلي ذي الشراب السلسبيلي وغيره من أصحاب أعرفهم من دار الصهر المهاب، ثم تتابع استقبال أخبار، من أعيان تلك الديار، وأنزلنا المشار إليه في داره والرفاق، وأغدق الإكرام أي إغداق، وممن حضرنا فاضل علي، وفاصل ملي، يدعي بالشيخ علي، وطلب تحصيل النسبة، مع جماعة لهم في الفضل رتبة، فأجبناهم لذلك، راجين، لنا ولهم سلوك أحسن المسالك، وكتبوا الأوراد والقصائد الأبتهالية، وأخذ بها ما يقارب العشرين من النفس الذكية، وخرج لوداعنا إخواننا الكرام، منحهم الله وافر سافر المرام، وسرنا إلى (قلعة المضيق) وهان علي من بعد قطع كل مضيق، ومنها أتينا (الشنغر) الذي امتلأ بالناس وما شغر، ولصدر نازلة بالأمن شرح فما وغر، ثم سرنا إلى (الزنبقي) وفي الأثناء ذكرت من في الدياربقى، وتذكرت قول المصونة علما، قرة العين، قبل توجهي عنها بيومين، متى يا أبي تذهب فقلت؟ بعد غد والقلب يتلهب، فأسندت رأسها إلى الحائط القبلي، وأجرت دموعا تضنى المحب وتبلى، فمنيتها
بقرب الرجوع، فلم يفدها غير سكب الدموع، بل قالت مرادك تخليني وتروح، وأنت أنة مستهام مجروح، وذكرت أخاها، عندما رقبته حناها، وشقيقتها النفيسة، وبكاها يوم الوداع بأشواق رسيسة، وأتواق كبيسة، فأبدى التذكار، سحاب دمع حار،
على العاصي في بلاد النصيرية:
(ونصبت لنا خيمة على كتف نهر العاصي، فانحظينا ببسط دان غير قاصي، وسرحت طرق في زيتون تلكالقرايا، التي أهلها على المذهب النصيري، وقبل أن جمعنا على مذهب الإمام ابن إدريس، تحركت إلى إنطاكية بوجد رسيس.
في إنطاكية:
(ثم أنا جمعنا وسرنا، وإليها على أجنحة الخيل طرنا، ورأينا غب الوصول سورها الخراب، المحير للألباب، ولكنه كاد يساوي التراب. وبعد أن استقر بنا على جانب العاصي، رأيت ناعورة بصوت حزين، دائرة على قلبها تجري عليه الدمع الحزين فأشجاني وأبكاني بكاها. وزرت من البعد سيدي حبيب لانجار، وكتبت للأخ الأمجد الحلبي، الشيخ محمد بن أحمد المكتبي، كتابا مختصرا على الأخبار بوصول إنطاكية. وصورته (بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على حبيب أسيافه للأعداء ناكية، وبعد فنعم الأخ الكريم غب السلام والتكريم، أنا وصلنا بالسلامة إنطاكية، نهار الثلاثاء الثلاث عشر من شهر المولد الذي طيب عرفه الأطياب حاكية، فأحببنا إعلامكم بذلك كيما يتوجه بالدعاء كل خدن محبة لقيس لبني محاكية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)
ودخلنا بها الحمام الجندي، واشتريت فرسا حمرا، لكي أطفئ من متعب السرجي جمرا، ورحلنا لنحو (بيلان) التي عقبتها أم غيلان وحصل يومها لطف صحبته سلامة لولاه، لأهلنا التراب على رفيقنا الحاج سلامة فقلت:
ثم سرنا مها إلى (باياس)
…
بعد ضيق يلقي بحر الاياس
وسبقنا لها بجمع من الركب
…
وفي خانها شبت بطاسي
ثم منها سرنا (لقرط قلاق)
…
فأصاب الفؤاد حد احتباس
(ولمسيس) قد توجه وجه
…
الجسيم كيما ينل شرب كاسي
ولنسقي من نهر جيحون كوبا
…
مذهبا مذهبا هناهم راسي
واصطحبنا يوم الدخول إليها
…
بمحب في العلم والفضل آسي
أحمد الاسم أحمد الوصف قد
…
حط لدى أحمد الأنام المراسي
أخذ عن أعلام شام كرام
…
حافظ للحواس والأنفاس
خص قربا ممن يحب وشربا
…
وكذلك الأحباب قومي وناسي
في أدنة والأناضول في طريق الحج إلى استنبول
(الأستانة) دار السعادة
(ثم دخلنا في الصباح (أدن) ولم نخف منع حماة سدنة، لأن ركب الحاج، آمنوا من أعوان الحجاج، وطرقنا بها يوما، فاسترحنا إقامة ونوما، ثم قطعنا الشاقط الساقط، بعد جهد بالأساناياقط، وأتينا (اليايلا) أي النجعة بوزن الدقعة، طلب الكلأ في موضعه، تقول منه انتجع فلان فلانا أي يطلب معروفه، والمنتجع بفتح الجيم المنزل في طلب الكلأ، ويقال أربعوا أي أقاموا في المربع، وأربع إبله في مكان كذا أي رعاها في الربيع، فوجدنا من النصب الشديد، ما ليس عليه مزيد، وقطعنا من العقاب، ما جمع كل عقاب، وسرنا منها إلى (خانين) تقابلا بعد قطع مخاضات أربعين، لا تكاد تقطع لفرطشقة وعنا، لولا أن المعين يعين، وصعدنا منها جبلا لا ينتهي صعودا إلى الجوزاء من غير سلم، وعقبه هبطات مزعجة جدا تهبط حيل نازلها ولكن الله سلم، إلى أن وصلنا (أولى قشلة) فانتشلنا بالنزول لديها أي نشلة، ثم منها توجهنا بلا مهلة، إلى مدينة (أركلة) ونزلنا لدى ماء خرار، فتذكرنا الشام الكثيرة النها، وأقمنا للراحة، إذ للمكارين بها عادة استراحة، ولولا اعتناؤهم بهذه الإقامات، ما بلغت دوابهم دور السلامات، وليس في هذا الطريق راضة كطريق الحاج، وبه وعد كثير يدهدك لأبراج. وفي يوم الأحد ورد من أهل البلد، من لهم على الجدلجلد، برد جلدهم عليه وحسنة الخلد، ظنا أنه يدني دار الخلد من الأرضة أخلد، ينتمون إلى الزادية، ويعظمون النكير على الصوفية، بسند عليه لا يعتمد، فاظهر أحدهم ميلا ما به عند، فتكلمنا معه بما التهم الأحد، ورأيت الكلام مه أهل الخصام كالكلام ينكيالقلب والجسد، ومع أهل الاستسلام فكالقند الأملد، ثم سرنا إلى (قرة نبار) أي النبع الأسود، ومنها إلى
(أصمل) بجد دون قرار، ومنها إلى (قونية) بلدة المنلاخنكار، وزرناه وجلسنا في المقابلة، فحظينا بإمدادات مسبلة للسابلين، وإنعامات مختصة بكل قابل وقابلة، وسرنا إلى (اللادق) فأصابنا ريح بارد صادق، ونبه أن هذا الطريق في الصيف برده ينكي، ففي الشتاء عن وصفه أيها المعبرلا تحكي، مرشدنا لي إياك والسير في أكنافي، إلا إن كان في الصيف الصافي. وسرناإلى (الغن ذات القبلوجة) ومنها أتينا (آق شهر) على خيول مسروجة ومنها أممنا (بلاوضون) ومررنا على جسرها الطويل الذي يهون وقبيل غيبوبة قمر، سرنا إلى بياض بليل أظلم بعد ما أخمد، ومنها إلى (خان الوزير) ومنه إلى (الس غازي) ذي المقر الخطير، ومنه إلى (اسكي شهر) من أهلها في السدقة مهارة أمرها شهر، وكتبت منها كتابا للصهر، وكذلك كتابا للولد محمد كمال الدين، ومنها لم نزل نسير في طولها والعرض، ونقطع طول القفار، إلى أن وصلنا (اسكدار) فتلقانا بها أحباب أخيار
في مدرسة شمي باشا:
وأنزلونا مدرسة شمي باشا، وانتعش القلب بالراحة من الأفكار انتعاشا، واجتمعت بجانب المحب الأوحد، المفرد السيد محمد الأمجد، وكتبت منها للصهر كتابا، وآخر للولد، وكتابا للأخ الحاج حسن بن مقلد (الجيوسي) وأخر لمحمد جلبي مكي زادة، صدرته، بـ:
سلام من ديار الروم يهدي
…
لخدن حبه أهدى وأهدى
في دعوة ابن عم الشيخ:
(ولما وصلنا (اسكدار) أقمنا من يوم الأحد إلى يوم الخميس، وكان دعانا ابن العم الرئيس، إلى داره للتأنيس، فسرنا إليها ذلك اليوم النفيس، وبعد أن أقمنا عنده أيام الضيافة، وشربنا في حانته صرف السلافة، أتينا بإشارته مدرسته، وكان أراد أن يدخلنا حوزته، فلم نجبه لحب في العزلة المحمودة، ورعاية الأحباب يردون على منزلتنا المقصودة، والمدرسة منسوبة لحسن باشا المقتول، المبنية فوق سبيله المقبول، ونحن إلى الآن فيها نرتجي حصول الوصول إلى حومل القبول والدخول، ثم يطلب الشيخ من محمد جلبي مكي في ختام كتابه (أن يسدي أجزل تحية لسدة قدوة عمدة الوزراء الفخام (أي سليمان باشا العظيم والي الشام، من نثني عليه ألسنة قلوب ملئت من لطفه بالغرام، حميد الذكر والشيم الكرام،
عند الخاص والعام، من أرباب السؤدد والاحترام، الوحيد الهمام، والفريد المقدام، من نرجو له دوام خدمة بيت الله الحرام، ليحي الدارس في تلك الطلول والآكام، وينشئ ما يجوز به الإكرام من السلام في دار السلام، ويجدد ما يحتاج إليه الحاج فينال الأجر التام، ويحوط أراضي الشام، ويسعى في عمارها ورفع جور الحكام، لهم على الظلم إقدام.
للكلام بقية
سامح الخالدي
رسالة الشعر
سألتني. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
سألتني وهي نشوى من رحيق القبلات
في خميل رائق الزهر ندى النسمات
مخملي العشب مطلول بعطر الزهرات
والدراري عائمات في خضم الظلمات
من ترى توحي إليك الشعر عذب النفحات؟
فتحيل الليل قيثارا شجي النغمات؟
قلت يا أغرودة الروح ويا سر حياتي
من ترى غيرك توحي لي نشيد الصبوات
أنا لولاك لما سلسلت في الناس شكاتي
ولما ساجلت بالشدو هزار الربوات
ثم قالت: وهي تدني ثغرها الظامي لثغري
أصحيح أنت لن تعشق يا شاعر غيري؟
هل أنا الأولى التي ألهمتك الشعر بسحري؟
إن أكن علمتك الحب فلم أفشيت سري؟
قلت يا بهجة أيامي ويا فرحة عمري
بالذي أفرغ في مبسمك الغيسان خمري
والذي أودع في صدرك اثماري وزهري
أنت من كان هواها مالكا قلبي وفكري
وإليها كان بثي، ونجاواي وشعري
فدموعي ملء عيني وحنيني طي صدري
ثم ألقت صدرها الناهد للقلب العميد
ومضت تسال: هل تعشق غيري من جديد؟
قلت، والنسمة تهفو فوق أفنان الورود:
يا هنائي، يا هواي البكر، يا لحن قصيدي
أنت من كانت نشيدا قبل لقياها بعودي
أنت من كانت خيالا طاف بالفكر الشرود
ومثالا يتراءى لعيوني من بعيد
فلم التسآل عن حبك يا سر وجودي؟
أنت من هيج قيثار غنائي للنشيد
فترنمت مع الحبيب بألحان الخلود
مهاجر وفلسطين
إليهم تحت كل خيمة، وخلف كل جدار، وداخل كل كهف
أخي في الكفاح في العذاب
…
أتسمع مثلي عواء الذئب؟
تفزع أطفالنا النائمين
…
وتنذر أحلامهم بالخراب
ويفتح في الظلام
…
دوي الرصاص ولمع الحراب
فقم وداع مثلي ليوم الخلاص
…
وميلاد تلك الأماني العذاب
وإن قيدوك، وإن عذبوك
…
وإن هددوك بشر العقاب
فلا تستكن يا ابن هذا التراب
…
أمام وحوش الحياة الغضاب
أخي يا ابن هذا التراب الحزين
…
أتسمع مثلي أين التراب؟
وقد ملأته جموع العراة
…
أساري الرغيف سكارى العذاب
طريقهم ملأته القبور
…
ورنت بها نعباب الغراب
ومسكنهم هاويات الخيام
…
وملبسهم باليات الثياب
ولكن خلف دجاها الكئيب
…
تبدو منازلهم والقباب
وهم يرفعون إليها العيون
…
ولا يملكون إليها الذهاب
وهم، والليالي تنسى الغريب
…
وتلقى على الذكريات الحجاب
مضوا يحفرون العيون
…
ودموع القلب طريق الإياب
معين توفيق
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
رمزية في الشعر:
أود في هذه الرسالة أن أقف موقف السائل، كما أحب أن تقف مني موقف المجيب. وأتمنى أن تكون معي في هذين الموقفين صريحا وجريئا شأنك في كل المواقف التي عرفتك فيها من قبل.
أنا لا أنكر عليك الجرأة والصراحة، ولكني أخاف أن تحول صداقتك بينك وبين ما عارضه عليك وأخشى مرة أخرى أن تتغلب عليك النزعةالإقليمية التي تتغلب على الكثير من كتاب مصر - وحاشاك من هذا الظن الخاطئ - عندما يسألون عن كتاب أو كتاب وقيمته في ميزان النقد الأدبي فليفون ويراوغون، ويجيبون على قدر ما تقضيه حقوق الزمالة وصلة الجوار، خصوصا إذا كان الكاتب مصريا والسائل من بلاد أخرى، متخذين من الألفة عينا تغض النظر عن العيوب ما دام الأثر الفني الكسيح صديقا يجب ألا ينال منه معول النقد النزيه أو من أثره المتصدع الأركان!
والسؤال الذي أعرضه عليك يتعلق بالشعر، هذا الفن الجميل الذي أصبح الآن ملهاة بيد أناس لا يحسنون حتى أداءه! أما هذا الشعر فهو يتعلق بقصيدة وسمها وناظمها باسم (إلى فتاة)، وأما صاحبها فهو صديقك - كما قيل لي - بشر فارس الحائر على شهادة الدكتوراه من السربون، وقد نشرت هذه القصيدة أو هذا الهذر المنظوم في العدد الثامن عشر من المجلد الخامس من مجلة (الكاتب المصري) التي كان يرأس تحريرها معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف المصرية، ولم يتسن لي الاطلاع عليها في حينها لانشغالي بقراءات أخرى متعددة.
لقد عرض علي هذه القصيدة قبل أيام صديق من شباب الأدباء، وطلب إلي أن أبدي رأي فيها. . ولقد قرأتها عدة مرات وفي كل مرة كنت أخرج منها بعدم الفهم أو بلا شيء! وخفت أن أظلم الدكتور بشر فارس، أو اتهم نفسي بالمغالاة والأنانية، فجئت أعرض قصيدته عليك لتقف حكما بين فهمي وذوقي وبين شعر الدكتور الشاعر، ناظم هذه المعجزة التي حيرت عقول البشر من شعراء ونقاد. . إن قراء (الرسالة) في الشرق والغرب
ليتطلعون إلى حكمك النزيه الذي أعتقد أن روابط الصداقة لن تحول بينك وبين إصداره، أو بينك وبين صراحتك المعهودة وجرأتك النادرة المثال! وهذه هي القصيدة:
فيض أهواء العيون
…
تنشد المرمي اللطيف
خاف جسات الجفون
…
تحصر الوهم الرهيف
فر هفاف الجنون
…
نحو أبراج الطريف
يجتلى ما قد يكون
…
بعد منظور كثيف
عاد من قطب الظنون
…
من سنا أوج عفيف
مثل زهو في الغصون
…
ولم يروضه الخريف
بصريني يا (وضوح)
…
ثروة القطب الخطير
أنا في وهج الفتوح
…
يقظ لكن حسير
خف كشف طموح
…
وكبا فهم كسير
فسرت فوحات روح
…
في غيابات الضمير
لمحات قد تبوح
…
بخيفات الأثير
ويه جودي بالشروح
…
يسري أنس الغرير!
وختاما لك مني أصدق المودة وأخلص التحية. . . واسلم للأدب وللقراء ولأخيك:
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
مشكلة النزعة الإقليمية التي ورد ذكرها في رسالة الأستاذ الناصري، تفرضعلي أن أعود وبالقراء إلى الأمس القريب، إلى ذلك اليوم الذي ظهر فيه العدد (915) من الرسالة حاملا إلى هذه الكلمات من قارئ أديب:
(قبل أن تطلع علينا بهذا المذهب النقدي الجليل - مذهب الأداء النفسي - كنت أتوق وأتمنى لو أن في أدبنا العربي مثل هذا المنهج في دراسة الأدب ونقد الشعر وعندما قرأت مقالك الأول، وأخذت في قراءة الثاني أمسكت عن القراءة وعزمت على أمر. . . عزمت علي أن انتظرك حتى تتم هذه المقالات أو هذا المنهج في فصولك النفيسة، فتضع بذلك
حجر الزاوية في بناء النقد العربي الحديث، لأني أردتها قراءة مترابطة آخذا بعضها بعرى بعض.
إلى هنا يا سيدي وأنا أوافقك على ما ترى، وأذهب معك إلى أن (الأداء النفسي) هو المنظار الأفضل الذي يجب أن ننظر منه إلى القرائح وفيض العقول. . . ولكن يظهر - واسمح لي بهذه - أني أخالفك فيمن طبق عليه هذا المذهب وذلك التطبيق الواسع، أو فيمن يجوز أن نجده في شعره بصورة واضحة، ومن يقرأ تعقيباتك وردوك، ودمعة الذكرى على الشاعر الراحل يعرف أنك تقصر هذا المذهب على نابغة المنصورة، وإن اضطررت - لسبب ما - ألا تغفل بعض من يسكنون الشام وأستطيع أن أخرج من هذا بأن العصبية الإقليمية ما زال لها مكان مرموق وصوت مسموع، حتى عند أئمة النقد وحاملي لوائه)!
بالأمس اتهمني هذا القارئ الفاضل - وهو من الأدباء السوريين - بالعصبية الإقليمية، يوم أن تحدثت في بحث متصل الفصول عن شعر علي محمود طه. . . واليوم أسمع هذه الكلمة نفسها من صديقنا الأستاذ الناصري - وهو من الشعراء العراقيين حين يشفق علي من أثرها في معرض الحكم على شعر الدكتور بشر فارس! إن ردي على هذا الإشفاق هو ردي على ذلك الاتهام حين قلت معقبا عليه منذ شهور:
(الشيء الوحيد الذي لم أكن أنتظره أو أفكر فيهن هو أن يتهمني قارئ فاضل بالعصبية الإقليمية، أنا الذي حاربت هذه العصبية بكل ما أملك من جهد على صفحات (الرسالة) كلما أطلت برأسها من قلم كاتب أو من لسان أديب. . ومع ذلك فقد فوجئت بالقارئ الذي اتهمني على غير ترقب وانتظار!
لقد طبقت مذهب (الأداء النفسي) على شعر علي محمود طه، وغن تلك النماذج الفنية التي استشهدت بها من شعره، هي الحكم الفاصل بيني وبين كل معترض على أمانة النقد وسلامة التطبيق. ولن أضيق أبدا بأي قارئ يجادلني فيما كتبت، ما دام نقده قائما على أسس واعية من الفهم والذوق والمراجعة!
إن إيليا أبا ماضي الذي أضعه في الطبقة الأولى من الشعراء ليس شاعرا مصريا، ولعل القراء يذكرون أن أول تطبيق لمذهب الأداء النفسي على صفحات (الرسالة) كان منصبا على شعر هذا الشاعر، حتى لقد دفعته الدهشة من أن يحتفل ناقد (مصري) بشعره، إلى
يبعث إلينا الصداقة وشكره الخالص، على لسنان صديقنا وصديقه الأستاذ محمد الحوماني. . . ماذا أقول بعد هذه اللفتة التي أذكرها لأول مرة، حين دعت إليها المناسبة واقتضاها المقام)؟!
هذه الكلمات التي تصور موقفنا من العصبية الإقليمية هي التي فرضت علينا أن نعود بالأستاذ الناصري وبالقراء إلى الماضي القريب، الماضي الذي لا يختلف عن الحاضر في شيء من أهدافه ومراميه. . وإذن فليس هناك ما يدعو الأستاذ الصديق إلى أن يشفق علينا من هذه العصبية التي ما زلنا نحاربها بالقلم واللسان، في كل مناسبة وكل زمان!
وإذا كان الأستاذ الناصري يريد أن يعرف رأينا في هذه القصيدة الرمزية، فلا بأس من مطالعته بهذا الرأي الذي يستطيع على ضوئه أن يزن شعر الدكتور بشر فارس، وهو رأي نقتطفهمن كتابنا الثاني الذي يتطلع بعد الأول إلى النور في الغد القريب. . إنه دراسة فنية عامة للرمزية النفسية والرمزية اللفظية أو الرمزية المطبوعة والرمزية المصنوعة، أو الرمزية المستحسنة والرمزية المستهجنة، ومن خلال تلك السطور التي وضعنا تحتها الخطوط، يتضح رأينا في رمزية (صديقنا) الدكتور بشر وكل رمزية أخرى تماثلها في الصورة وتشاركها في الإطار:
(ما دمنا نقسم الأداء في الشعر إلى قسمين: أداء لفظي وأداء نفسين وننسب الموسيقى في الشعر إلى نوعين: موسيقي اللفظ وموسيقي النفس، فإننا نفرق أيضا بين لونين من الرمزية: هما الرمزية اللفظية والرمزية النفسية. . ومادمنا ننكر القسم الأول من الأداء ولا نقيم كبير وزن للنوع الأول من الموسيقى فإننا نستهجن أيضا ذلك اللون الأول من الرمزية! إن الفارق بين الرمزية اللفظية والرمزية النفسية هو الفارق بين الرمزية المصنوعة والرمزية المطبوعة. إننا ننشد الوضوح في الفن لأنه ركن من أركان الجمال فيه، وطريق من طرق إحساس بهذا الجمال، والشعر فن من الفنون الجميلة لا مراء، إذا أخفينا هذا العنصر الفعال الذي يسلكه في عداد تلك الفنون، إذا أخفينا وراء ستار من التعقيد والغموض والتعمية والإبهام فقد تلاشى أول بريق أخاذ يمكن أن تتملاه النفس في هذا الفن، ونعني به الجمال! نريد في شعر الأداء النفسي تلك الرمزية النفسية المطبوعة، الرمزية التي تلف الفكرة العامة أو الموضوع العام بوشاحها الرقيق الذي لا يحجب الضوء
ولا تضيع من ورائه المعالم. . وكل رمزية في واقع الأمر نقاب يلقى على الوجه الجميل، ولكن هناك وجها يحول النقاب الكثيف بين جماله وبين جمال العيون، ووجها آخر يكسبه النقاب الكثيف بين جماله وبين جمال العيون، ووجها آخر يكسبه النقاب الشفيف فوق جماله ألوانا من الفتون. . . وهكذا تجد الفارق الدقيق بين الرمزية اللفظية والرمزية النفسية!
إن الرمزية في جوهرها ما هي إلا وسيلة من وسائل التعبير تستحيل معها المدركات الحسية إلى مدركات نفسية. . . إنها الجسر الذي تعبره الألفاظ والأخيلة والمعاني لتلتقي في بقعة فكرية بعينها تنطمس فيها الماديات لتحل محل المعنويات. وهي في الشعر بعد ذلك ألوان. رمزية جزئية تصب في قالب اللفظ وحده ولا تتعداه، ورمزية مماثلة تقع من الصورة الصوفية موقع الإطار، ورمزية كلية تشمل الهيكل العام أو الموضع العام للقصيدة. . أما رمزية اللفظ فهي رمزية الشطحات التعبيرية، وأما رمزية الصورة فهي رمزية الشطحات التخيلية، وكلتاهما تمثل ذلك النقاب الكثيف الذي يلقى ظلاله المبهمة الداكنة على وجه الفن، ويحيل الومضة النفسية ظلاما تتخبط فيه الأذواق وتضطرب المقاييس في تحديد مداه. . هناك لفظ يدفعك إلى أن تبذل في استجلاء مراميه كثراً من العناء لأنه يمنح من نبع شفوي معقد يتدفق من وجود داخلي، وهناك صورة تجهد فكرك إذا حاولت أن توفق بين خطوطها المتنافرة، لأنها مرسومة بريشة الحركة اللا واعية، ألا لأنها من صنع المخيلة المحلقة في آفاق ذهنية لا تنعكس منها غير مظاهر الضباب، وهكذا نجد الرمزية المصنوعة حين تردها إلى شطحات التعبير والتحليل في نطاق الصور والألفاظ. ولا كذلك الرمزية المطبوعة لأنها حركة استبطان نفسي قبل كل شيء، استبطان تبدأ مرحلته الأولى بجمع المادة الأولية لكل ظاهرة حسية في مجالها المادي، وتبدأ مرحلته الثانية بفحص هذه المادة الأولية فحصا يرجعها إلى مصادرها من النفس والحياة، وتبدأ مرحلته الثالثة بعملية المقابلة والموازنة بين الطابع الحسي للظاهرة المادية وبين الطابع النفسي للفكرة الفنية. وفي هذه المرحلة الأخيرة يتم التوافق الدقيق الكامل بين عالمي الماديات والمعنويات!.
هذه الرمزية المطبوعة التي نعنيها بهذه الكلمات، هي الرمزية التي يرفل فيها اللفظ في أثوابه النفسية البسيطة التي لا تختلف كل ما يماثلها في الشعر من أثواب، والتي تخطر فيها الصورة الوصفية في مواكبها البيانية وهي مغمورة بأضواء الحركة الواعية التي تعمل
في وضح النهار، وهي الرمزية التي يبقى فيها الرمز بعد ذلك مقصورا على الفكرة العامة للقصيدة أو منصبا على الموضوع العام. عندئذ تكون الرمزية في الشعر عملا فنيا جديرا بالنظر فيه والاطمئنان إليه، وكذلك كل عمل فني يخلو من الشعوذة اللفظية والشعوذة الفكرية!
ونخطو إلى أبعد من لك خطوة أخرى حين نطالب بأن تكون تلك الرمزية الموضوعية أشبه بالخريطة الجغرافية فيها مواقع المرتفعات والمنخفضات، عن طريق (الإيماء) إلى هذه وتلك بما يتعارف عليه من ألوان. . هنا في مثل هذه الخريطة (ألوان مادية) تومئ أو ترمز للجبال والوديان والأنهار، وهناك في مثل تلك الرمزية (ألوان نفسية) تومئ هي الأخرى أو ترمز للظواهر والخواطر والمدركات)!
ترى هل يحتاج الأستاذ الناصري بعد هذه الدراسة الفنية إلى إبداء رأينا في هذه القصيدة الرمزية؟ مهما يكن من شيء فإن الذنب ليس ذنب (صديقنا الدكتور بشر فارس) ولكنه ذنب الصحافة الأدبية التي تنشر له مثل هذا السخف وتشجعه على مثل هذا الهراء. . . ومعذرة للصداقة التي تربطنا بالدكتور الصديق، لأننا قد تعودنا في النقد الأدبي ألا نجامل الأصدقاء!!
أنور المعداوي
رسالة النقد
في عالم النقد
الوجودية
(2)
(مهداة إلى الدكتور محمد القصاص
للأستاذ علي متولي صلاح
في الكلمة الموجزة التي قدمت عن (الوجودية) ما يكشف عن الخطوط الرئيسية لهذا المذهب، ويوضح معالمه الكبرى، وإن يكن الحديث عن (الوجودية) كلمات وكلمات، حتى يمكن أن تستقر في أذهان الناس مبادئ هذا المذهب الذي أعتقد أننا - نحن الشرقيين على وجه العموم - أشد ما نكون حاجة إلى قراره في نفوسنا، لتحلل من الميوعة والوغادة والانحلال الساري بها.
وقد أوضحت في كلمتي أن (الوجودية) تطلب إلى الناس أن يكونوا شجعانا في حمل المسئوليات التي تلقيها الحياة عليهم، أشداء أقوياء من أعمال، وأن يهدفوا بأفعالهم وأقوالهم - فإن القول عند المذهب الوجودي إنما هو عمل إيجابي بل الصمت ذاته نوع من العمل وإن يكن سلبيا - أن يهدفوا إلى تغيير أو تعديل أو هدم لوضعية من وضعيات الحياة، لا أن يهرفوا في الهواء بكلام ولكن لا غناء فيه ولا فيه أثر له!
ولكي أقرب إلى أذهان القراء المذهب أربد أن أعقد في كلمتي هذه مقارنة بين أسطورة تناولها بين اليونان الأقدمون على طريقتهم التقليدية الكلاسيكية المعروفة، وتناولها (جان بول سارتر) على طريقته الوجودية المستحدثة، وتوضح فرق ما بين خصائص المذهب الوجودي وما عداه من المذاهب، وتكشف في جلاء عن القواعد الصحيحة التي يقوم عليها هذا المذهب الذي يناله الجاهلون بالذم والإساءة، ويقصدونه بالتشهير والتعيير، ليزجوا النكتة إلى القارئ، ويقدموا غليه التسلية والتلهية، ويكونوا عنده من الظرفاء المحبين!!
فنحن نعرف الأسطورة اليونانية الشهيرة التي نظمها أول الشعراء الممثلين النابهين من
اليونان إسكيلوس في القرن الخامس قبل الميلاد، ونظمها من بعده الشاعر اليوناني الخطير سوفوكليس في مسرحيتين ما زالتا تنبضان بالحرارة والحياة، وما زالتا معينا خصبا للشعراء والكتاب على مختلف العصور، وأعني بها أسطورة (أجا ممنون)، التي نلخصها في أيجار شديد وفي اقتضاب لا يمكن أن يجزئ عن قراءتها كاملة - بما يأتي:
هب (أجا ممنون) مع الذاهبين إلى حرب (طروادة) تلك الحرب الضروس التي عقد (هوميروس) الإلياذة وعلى العودة منها (الأوديسة) وغاب (أجا ممنون) عشر سنوات عن زوجه التي لم تكن تعلم عنه خلال هذه السنين شيئا ولا تدري من أنبائه قليلا أو كثيرا، فاتخذت لها من دونه عشيقا (إيجست) أخاه، وظلت تقاسمه الفراش طوال هذا الزمن، وبيتت معه أمرا إن آذنت الأقدار بعودة (أجا ممنون)!
وكتب الله النصر لليونانيين على الطرواديين، وعاد (أجا منون) فيمن عاد من الظافرين المنتصرين، فاستقبلته زوجه استقبالا رائعا وأبت أن تمس قدماء الأرض فمدت له البسط الأرجوانية وأقامت له معالم الفرح والسرور. وما هو غلا أن يدخل إلى الحمام حتى تشده فيلباس يحتويه كالشبكة إذ تحتوي السمكة، ثم تهوي على عنقه فتصميه!
وكان كل منها ابنة اسمها (ألكترا) وابن اسمه (أورست)، أما الابن فقد استطاعت أخته إخفاءه وتهريبه مع مربيه الذي لازمه وما فتئ يلقنه كيف يأخذ بثأر أبيه، وأما الابنة فقد ظلت في قصر أبيها القتيل أشبه ما تكون بالخادم أو الأمة تشهد عشيق أمها يقاسمها فراش أبيها (أجا ممنون) وتنتظر أخاها الغائب - وقد شب عن الطوق وصار رجلا يستطيع أن ينهض بما ينهض به الرجال - تنتظره ليأخذ بثأر أبيه ويخلصها مما تعاني، وقد أوحى إليها أنه لا محالة عائدة فعاشت على هذا الأمل المرجو.
ثم يجيء (أورست) بوحي من الإله (أبولون) فيقتل أمه ويقتل عشيقها (إيجست) تنفيذاً للوحي، ثم يهرب إلى معبد هذا الإله محتميا به طالبا إليه ألا يتركه وألا يتخلى عنه، ثم يحاكم (أورست) أمام مجلس من أهل أتينا ترأسه الإلهة (أتينا) فيدفع (أورست) عن نفسه بأنه لم يقترف جريمة القتل إلا استجابة لما أوحى إليه به الإله (أبولون)، ويعترف الإله (أبولون) بذلك وبأنه هو الآخر قد أوحى إلى (أورست) بما أوحى استجابة لما أمره به كبير الآلهة (ذوس)! ويدافع عنه دفاعا مجيدا حتى تنتهي المحاكمة بتبرئته!.
هذا هو ملخص مضغوط جدا لأسطورة (أجا ممنون) كما ذكرتها الأساطير اليونانية. والذي يهمنا من هذه الأسطورة جميعها هي شخصية (أورست) وعليه سنعقد المقارنة، فماذا كان (أورست) هذا في الأسطورة اليونانية؟ ثم كيف صار عند زعيم المذهب الوجودي؟
لم يكن (أورست) في الأسطورة اليونانية غير آلة في يد الأقدار اتخذته لتنفيذ إرادتها، فلم يكن له هدف خاص في جريمته ولم تكن لديه (فكرة) عنها، ولم تكن لجريمته هذه علاقة بالحياة. . بحياته هو أو حياة الناس الذين يعايشهم، ولم يكن ينبغي بها تغيير أو تبديلا لشيء في الحياة، وهو قد تنصل منها بعد أن أتاها وضعف واستخذى وخارت قواه، وفر إلى الإله (أبولون) ثم إلى الإلهة (أتينا) يستجير بهما من ربات الانتقام اللائى يلاحقنه يبغين قتله جزاء على فعلته، فكانت جريمته بلهاء صماء لا معنى لها ولا أثر ولا هدف تهدف إليه.
وكيف كان (أورست) هذا عند زعيم الوجودية (جان بول سارتر)؟
إنه أخرج هذه الأسطورة على طريقته في روايته الشهيرة المسماة (الذباب أو الندم) التي قام بترجمتها الكاتب الكبير المبشر بالوجودية في مصر (الدكتور محمد القصاص) والتي أدعو القراء وبخاصة هؤلاء الذين يتهكمون على الوجودية أن يقرءوها في إخلاص وتجرد من الهوى. . . وأنا زعيم لهم بأن ينقلبوا لهذا المذهب أنصارا ومحبين.
جعل سارتر من (أورست) رجلا آخر يغاير تمام المغايرة ما كان عليه عند اليونان، جعله الرجل (الوجودي) المنشود!
يقترف الجريمة وهو يعني ما يفعل، ويقترفها حرا كريما مسئولا عنها وحده دون وحي سابق أو معونة خارجية، ويقترفها وهو يهدف باقترافها إلى احتمال آثام الناس التي يتردون فيها، والانفراد بالندم الذي يلاحقهم ويملأ عليهم حياتهم، وتلاحقه ربات الانتقام وتلازمه ليضعف أو يندم أو يهن فلا يكون ذلك منه أبدا. . ويقول في قوة وعنف (لقد فعلت ما فعلت ولن أندم عليه.) ويخاطب أخته (ألكترا) في أمر شعبة البائس النادم الغارق في الإثم فيقول لها: - (أصغي إلي: هؤلاء الناس الذين يرتعدون فرقا في غرفاتهم المظلمة تحيط بهم فقداؤهم الأعزاء. ما ترين لو أخذت على كاهلي جميع خطاياهم؟ ولو أردت أن ألقب عن جدارة (يسارق الندم)! وأن أفسح في نفسي مكانا لجميع توباتهم)
ثم يخاطب شعبه المجتمع بين يديه فيقول لهم: (. . . إن جريمة لا يقوى صاحبها على الاضطلاع بحملها ليست جريمة إنسان بل هي أقرب إلى الحادث العارض. . . وأنا أصر أمام وجه الشمس على نسبتها إلي وهي كنه حياتي ومعدن كبريائي، ولم أرتكب جريمة القتل إلا من أجلكم. . . من أجلكم أنتم. . . ألقوا على بخطاياكم وبندمكم وبالضيق الذي يقبض لياليكم وبجريمة (إيجست) وليضطلع بجميعها كاهلي)
هذا هو (أورست) الوجودي، أو على الأصح هذه هي (الوجودية) ممثلة في أورست، فماذا تكون الوجودية إذن؟ إنها الرجولة والحرية والشجاعة واحتمال المسئولية والصراحة والجرأة، والاتفاق مع النفس في السر والعلن، وبذل الجهد لإصلاح الحياة الراهنة وتطورها. . .
فقل للذين يعيبونها دون فهم، ويزدرونها دون علم، ما ضر لو صبرتم حتى تدركوا وما تكتبون، وتفهوا ما تقولون؟
انتهى
علي متولي صلاح
الكتب
نظرات في إصلاح الريف
تأليف الأستاذ عبد الرزاق الهلالي
للأستاذ علي محمد سرطاوي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
(143 صفحة، مطابع دار الكشاف ببيروت - الطبعة الثانية)
والمياه النقية، لا تزال بعيدة عن (88) قصبة وقرية، يتراوح عدد السكان في كل منها من ألف إلى ألفين.
وأما التعليم في الريف فلا يزال في مراحله الأولى، إذ تبلغ نسبة الأميين في العراق اثنتين وتسعين في المائة، وأكثرهم يعيشون في الريف.
والجهود التي بذلت لنشر التعليم هناك تتضاءل إذا ما قورنت بما يبذل في سبيل التعليم في المدن، ومراكز الأقضية، ومرد ذلك إلى عدم وجود سياسية تعليمية خاصة بنشر التعليم بين أبناء الريف، وموقف بعض الشيوخ، ورؤساء العشائر، ومقاومتهم رسالة المدرسة والمعلم، لرغبتها الشديدة في بقاء القديم على قدمه، وترك الناس في الريف كالأنعام، في ضلالهم يعمهون.
يقول بول منرو في تقريره عن إصلاح المعارف في العراق، (والمشكلة التي تستوجب اهتمامنا هي مشكلة القرية الزراعية. إن منهج المدارس المعمول به في القوت الحاضر، منهج مدني، يتضمنن على الأكثر، درس اللغات بصورة مشددة، وهو ما لا تحتاج إليه الحياة الريفية، وليس منهج المدرسة محشوا بإفراط فحسب، بل إنه لم يؤسس على أسس رشيدة، إذ لا يتلاءم والاحتياجات الريفية. . .)
ويعاني معلم القرية في مشاكل العيش، وما لا يجده أمثاله في غير الأرياف، فوسائل الراحة مفقودة، ذلك إلى جانب ما يجده من مقاومة الشيوخ والرؤساء الأقطاعيين، كتهديد حياته، ونهب أمواله، وسرقة أمتعته.
والذي يحول بين الفلاح وبين تعليم أبنائه، اضطراره إلى النقل من مكان إلى آخر، جريا
وراء الرغيف، غير مستقر في مكان، لأنه لا يملك أرضا يستقر عليها.
هنالك في أرياف العراق (449) مدرسة للبنين، عدد طلابها (82128)، وعدد معلميها (1489)، وفي ذلك أيضا مدارس للبنات عددها (24) مدرسة، وعدد طالباتها (1408) ومعلماتها (79) معلمة.
وفي المدن العراقية مدارس للبنين والبنات يبلغ عدد طالباتها وطلابها (78118)، وعدد المعلمات والمعلمين (3030)
ونحن إذا ألقينا نظرة دقيقة على هذه الأرقام، وجدنا أن مدارس القرى تزيد في عددها على مدارس المدن بمقدار (82) مدرسة، ووجدنا طلاب المدن وطالباتها يزيدون على القرى بمقدار (34482)، وأن زيادة عد المعلمات والمعلمين تبلغ (1517) أيضا.
ونخلص من هذه المقارنة بنتيجة تهز مشاعرنا هزا عنيفاً شديدا، ذلك أننا نجد سبعين في المائة من سكان يملئون ريف العراق لا يقام لهم وزن، ولا يحسب في توزيع عدالة التعليم بين أبناء الشعب، وإنما على النقيض من ذلك يعطى الاهتمام لمن يعيشون في المدن وعددهم اثنتان وعشرون في المائة من السكان، وذلك يستدعي من المسئولين تبديل نظراتهم إلى التعليم الريفي، وإعطاء ما يستحق من الاهتمام، لأن الفلاحين يؤلفون هيكل الأمة العظمى، ولا حياة لجسد هيكله العظمى غير سليم.
والمساكن في الريف تتألف من بيوت حقيرة صغيرة مبنية من القصب، أو اللبن أو الطين، بغير ترتيب، فهي ضيقة لا يدخلها النور والهواء، يعيش فيها الإنسان جنبا إلى جنب مع الحيوان، طرقها معوجة تكثر فيها الحفر والأكوام الأوساخ، والبرك التي تنتشر منها الروائح الكريهة، وعلى الرغم من سعة الأراضي في العراق، فإنها متلاصقة، دون نظام وخالية من المرافق
العامة.
وحالة العمال الذين يعيشون في المدن وضواحيها لا يقل في سوئها عن الريف. فإن الزائر الذي يزور بغداد، ويعرج على محلة (الشيخ عمر)، و (باب الشيخ) و (العاصمة)، ووراء سدة (ناظم باشا)، وغيرها من الجهات، يؤسفه اشد الأسف أن يرى هذه الألوف العديدة من أبناء البلاد، في هذا الوضع السيئ على الرغم من أنهم يعيشون ضمن حدود أمانة العاصمة
وما يضيق على بغداد يصدق على جميع مدن العراق.
وحاول المسؤولون تشييد قرى حديثة تتوفر فيها الوسائل الصحية في بيوتها، فصدر عام 1926 القانون رقم (70) ولكنه بقي حبرا على ورق، ولو نفذ في حينه، لكان لسكان الأرياف في العراق الآن، قرى صحية نموذجية، تليق بكرامة الإنسان، وتلا ذلك محاولتان فاشلتان في السنتين 1941و1949.
وهجرة الفلاحين من الأرياف إلى المدن، ظاهرة اجتماعية شديدة الخطر على قطر زراعي كالعراق، وسببها انحطاط مستوى المعيشة، وسوء العلاقة بين الفلاحين والشيوخ، وما يثقل كاهلهم من تبعات وأعمال، ثم ما يشعر به شبابهم من غبن، بعد عودتهم من خدمة العلم، حيث لا يجدون وجها للمقارنة بين حياتهم في القرى وبين حياة الناس في المدن.
ولقد ملأ هؤلاء المهاجرون مدينة بغداد، والبصرة، والناصرية، والعمارة، وارتضوا لأنفسهم الحياة في الأكواخ الحقيرة، التي نراها منتشرة في جهات متعددة من بغداد، وفي الفجوات بين قصورها، فتعقدت بهجرتهم مشكلة الفقر في المدن، وازدادت المتاعب الصحية والإدارية، والأمن، لأن الفقر كثيرا ما يدفعهم إلى السرقة، وارتكاب الجرائم، ذلك إلى جانب الارتباك الاجتماعي الذي يحدثه وجود جماعات لا يشعرون برابطة نحو أحد، وأثر ذلك المباشر على كثير من التراخي في الضبط الاجتماعي، وظهور المشاكل الإدارية، والأخلاقية والنفسية، ويزيد في المشكلة، الفيضان السنوي الذي يدمر في العادة، أكواخ هؤلاء التعساء، ومصيرهم بلا مأوى، هائمين على وجوهم، فيولدون ارتباكا لسلطات الأمن. وقد فشلت الحلول التي تفضي بإعادتهم إلى الأرياف التي هاجروا منها.
هذه لمحات عابرة، صور فلم المؤلف حقائقها تصويرا رائعا استمده من قلب ينبض بحب الخير المطلق، وهو في هذا التصوير الدقيق، لا يهدف إلى التجريح والإيلام إلى تشخيص الداء العضال، ليتيح الفرص للمخلصين، فيتقدمون بالعلاج الناجع. وهو في هذا العمل، أشبه ما يكون بالطبيب الحاذق الرحيم، يمد أدواته الجراحية إلى جسم المريض وهي تحمل في أطرافها الحادة، المعاني التي تخفف الألم، وتزيل الأوجاع.
والجرأة على تصوير الحقائق المريرة، التي ينفر الناس من النظر إليها، ولا يقوون على مواجهتها، التي هي بطولة لا يتقدم إلى ميدانها الأصيل، إلا كل مغامر جرئ، لا يخشى
الباطل ويقاوم المنكر بأقوى الأيمان.
والرياء الاجتماعي، والنفاق الرخيص الخسيس، والشعور بالحقارة، إنما هي العار الذي قد التصق بجيل العبيد الحاضر، فراح الناس في غمرتها يسمون الأسماء بغير مسمياتها، ويسيرون في ركاب الباطل، ولكن بعض النفوس الأبية في بعض شباب هذا الجيل قد تمردت على هذا الهوان، ولم تسر وراء القطيع في طريق الاستعباد.
والمعجزة التي تنتظر حدوثها الأرواح الخاملة، لترفع مجتمعنا من الهوان الذي تردى فيه، لن تحدث أبدا، ذلك لأن زمن المعجزات قد سار في ركاب الأنبياء. وتوارى في ظلام الزم البعيد. والمعجزة إنما يجب أن ينبثق نورها من إيماننا العميق بالإصلاح الاجتماعي العاجل، ذلك الإصلاح الذي يملأ المعد الجائعة بالخبز، والأدمغة الفارغة بالعلم الصحيح، والنفوس المستغربة الحقيرة الخاملة بالرجولة، وبمعاني الكرامةالقومية والعزة الإسلامية، فتبادر إلى العمل المنتج، وتشيح بوجهها عن التبجح الرخيص بعظام الأبطال من البائدين، ونحن في حقارة القرود بين الأمم المتمدنة.
إن الوطنية المدركة، تتطلب من أفراد الأمة أن يجدوا الحلول العملية لهذه المشاكل، وكل تقاعس عن ذلك، يدفعنا موثقين بها، في تيارات دولية عنيفة، تتربص وتضمر لنا الشر والحقد الدفين.
يجب أن تنتقل ملكية الأرض إلى الفلاحين، وأن تقام لهم المساكن التي تليق بكرامة الإنسان، وأن تكون العناية بصحتهم، وغذائهم، وتعليمهم، شغل القلوب المخلصة الشاغل التي تستطيع - حتى يتساوى الجميع في عدالة اجتماعية - أن تكفل الطمأنينة لكل مواطن في حدود التبعات والواجبات.
والأمة حين تفكر جديا، في حل هذه المشاكل، لا تبصر غير مصلحة الوطن العليا.
ولقد اقترح مؤلف الكتاب حلولا سليمة لكثير من المشاكل التي أثارها، لو أخذنا بها لجعلت الريف جنة وارفة، وجعلته مصدر قوة رهيبة يحسب لها الأجنبي حسابا يحطم أعصابه ويبتعد عنها إلى حيث ذهبت أم قشعم.
ومشروع (الدجيلة) العظيم الذي أتاح الاستقرار لآلاف من الفلاحين في العراق على أرض يملكونها، وبرعن الفلاحون باستتباب الأمن، وخلودهم إلى الاستقرار في بيوت صحية على
طمأنينة ووعي عميقين، إنما هو تباشير الفجر الذي سيعقبه إشراق شمس العدالة، فلا يبقى سيد وعبد، وظالم ومظلوم في مواطن العروبة.
وقصة الحاج رويس - التي قصها المؤلف معالي الشيخ علي الشرقي - ذلك المرابي الذي سلف أحد المزارعين مائتي روبية على أساس أن يدفع له الفلاح وزنة من الشعير عن كل روبية وبمرور الزمن أصبح هذا المبلغ ستين ألف روبية دفع الفلاح المسكين نصفها في حياته وبقى ورثته مدينين بنصفها الباقي، إنما هي المثال الصارخ على ظلم الفلاحين واستعبادهم.
يجب أن ترتبط أجزاء الوطن العربي الكبير، بنظام اقتصادي، عميق الجذور، قوي الأركان، يستمد كل جزء من أجزائه، حاجته من أيد عاملة، أو رؤوس أموال، أو خبراء، من الجزء الذي يتوفر فيه ذلك، فتصان الثروة للشعوب العربية. وينبغي أن يسبق ذلك أو يتبعه، تغيير جارف في مناهج التعليم، لتصبح عملية، تواجه مطالب الحياة الحديثة بإعداد جيل قوي من المهندسين، والكيميائيين، والإخصائيين، وعلماء الطبيعة والرياضيين والمخترعين. ولقد آن للشبان في هذا الجيل أن يشيحوا بوجوههم عن دراسة اللغات والآداب والتاريخ، وأن ينصرفوا بشعور وطني عميق إلى التخصص في الرياضيات والطبيعيات والكيمياء والتعدين، والهندسة والزراعة، بكل أنواعها ودقائقها وفروعها، فإننا في حاجة ملحة إليها الآن.
وبعد فإن الأستاذ عبد الرزاق الهلالي، مؤلف هذا الكتاب، يستحق الشكر الجزيل، والتقدير العميق، على هذا الاتجاه الرشيد في معالجة مشاكلنا الاجتماعية، ونحن نرجو أن يكون فاتحة خير للشباب، يخرجهم من عزلتهم، فيظهرون شجاعة أدبية في التوفر على دراسة المشاكل التي يواجهها الجيل الحاضر، تلك المشاكل التي تتعذب في جوها أرواح هي أجزاء من أرواحنا، ونفوس هي نفوسنا، وما أبشع ذنب الذي يقف على طرف الماء فيرى غرقنا ولا يمد يد المساعدة إليه.
وأسلوب المؤلف في الكتاب يغلب عليه تكرار الحقائق، وكأنه يريد أن يبالغ في إظهارها، ولكنه أسلوب متين، سلس، تطل من وراءكلماته حرارة الروح، ووجيب القلب، وأنسام العواطف الرفيقة الرحيمة.
ووسائل الإعجاب التي ألحقتها بالكتاب من بعض أصدقائه، إنما هي أمور شخصية لا شأن للقراء بها، وهي كالقذى في العين الجميلة التي تبعث الفتنة إلى القلوب.
بغداد
دار المعلمات الابتدائية
علي محمد سرطاوي
من هنا ومن هناك
جوائزنوبل:
أصدرت اليونسكو بياناً عن سيرة ألفرد نوبل وجوائزه جاء فيها:
نوبل العالم والمخترع قضى معظم حياته في إنتاج أنواع المتفجرات. في عام 1854 أخرج أول نوع من الألغام والمتفجرات، وفي 862 ابتدأ بصنع النيروغلسرين والديناميت، وبعد مدة قصيرة اخترع البارود بلا دخان.
ولما بلغ نوبل الثالثة والأربعين اتخذ فتاة نمساوية اسمها برث كينسكس كاتبة سر له ولم يلبث أن علق بها وطلبها للزواج ولكنها اعتذرت بكونها خطيبة لمواطن لها يدعى أرثر فون سوتنر وكان من دعاة السلام العالمي.
وفي عام 1869 أوصى نوبل بربع ثروته التي كانت تقدر بنحو أربعين مليون كروا أسوجية ليوزع سنويا على الذين يخدمون الإنسانية بعلومهم وأفكارهم. والوصية تحدد الجوائز بخمس: فالجائزة الأولى للكيمياء، والثانية للطبيعيات، والثالثة للطب والرابعة للآداب والخامسة للإخاء البشري والسلام العالمي.
ووزعت الجوائز لأول مرة في العاشر من ديسمبر عام 1901، وأربع سنوات منحت جائزة السلام لتلك الفتاة التي كانت أمينة سر نوبل وغدت تقلب بعدئذ بارونة فون سوتنر لأعمالها السلمية وكتاباتها الداعية إلى الإخاء الإنساني.
والجوائز المالية تختلف قيمتها باختلاف دخل مؤسسة نوبل، ففي السنوات الأخيرة كان المعدل نحو مليون و120 ألف فرنك لكل جائزة.
أما ترشيح الأشخاص فتتولاه المؤسسات الرسمية والجامعات والمجامع العلمية ويعرض على هيئة تحكمية. فجائزة الآداب تحكم الأكاديمية الأسوجية، وجوائز الكيمياء والطبيعيات تمنحها الأكاديمية العلمية الأسوجية، وجائزة الطب يمنحها معهد كارولينا في اسوكهولم، وجائزة السلام تمنحها لجنة تنتخب من مجلس النواب النرويجي. ولا يخفى أن أسوج ونروج كانتا مملكة واحدة عندما توفي نوبل.
وفي عام 1935 حظر هتلر على الألمان فبول جوائز نوبل بعد أن محت جائزة السلام لكارل فون أوسياتزكي الذي اعتقله النازيون. وعلى رغم ذلك فقد منح ريشاركوهن جائزة
الكيمياء لعام 1938 لأبحاثه في خصائص الفيتامين. وفي العام التالي منح أدولف فردريك جوهن بوتسينتدت الجائزة نفسها لمباحثه في الهرمونات.
وفي خلال الحرب الأخيرة حبست جائزة السلام لعدم التئام المجلس النيابي النرويجي بسبب الاحتلال الأماني. وكثيرا ما تختلف الآراء في اللجان التحكمية فيحول الاختلاف دون منح الجائزة كما جرى في العام الماضي فلم تمنح لأحد الجائزة الأدبية أما الذين فازوا بجائزة نوبل الأدبية.
أما الذين فازوا بجائزة نوبل الأدبية منذ إنشائها حتى اليوم فهم: 1901 سيلي برودم (فرنسا) 1902 تيودور مومسن (ألمانيا)، 1903 بجورنسون (نروج) 1904 فردريك مسترال (فرنسا) وخوسة اتشاغارى (أسبانيا) 1905 هنريك سينكويز (بولونيا) 1906 غيوسوه كردشي (إيطاليا) 1907ريدارد كبيلنغ (إنجلترا) 1908 رودلف أوكن (ألمانيا) 1910 بول فون هيس (ألمانيا) 1911 موريس مترلنك (بلجيكيا) 1912 مرهرت هوتمن (ألمانيا) 1913 رابندراناتطاغور (الهند) 1915 رومان رولان (فرنسا) 1910 فرنرفون هيدنستام (أسوج) 1917 كارل غلروب (الدانيمراك) وهنريك بونتوبيدان (الدانيمراك) 1919 كارل سبيتلر (سويسرا) 1920 كنويت همسون (نروج) 1921 أناطول فرانس (فرنسا) 1922 خاسينتو بافنتي (أسبانيا) 1923 وليم يتس (أيرلندا) 1924 برناردشو (إنجلترا) 1926 غرازيا ديلادا (إيطاليا) 1927 هنري برغسون (فرنسا) 1928 سيغريد أوندست (أسوج) 1929 توماس (ألمانيا) 1930 سانكليرلاوس (الولايات المتحدة) 1931 أريك كارفلدت (أسوج) 1932 دجون غلاسورثي (إنكلترا) 1923 إيفان بونين (روسيا) 1934 لويجي بيراندللو (إيطاليا) 1936 أوجين أونيل (الولايات المتحدة) 1939 روجه مرتين دي غارد (فرنسا) 1938 بيرك بوك (الولايات المتحدة) 1939 فرانزأميل سيلامبا (فنلندايا) 1944 جوهانس جنسن (الدانيمرك) 1945 غبريالا ميسترال (شيلي) 1946 هرمن هس (سويسرا) 1947 أندره جيد (فرنسا) 1948 ت. اليوت (إنكلترا).
القصص
قصة واقعية
من الأعماق
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
إلى الأستاذ المعداوي، وكل من في حياته قصة وفي أعماقه
حب قديم وفي قلبه أشجان، أهدي قصتي. ع. ع
صديقي. . .
إنك أعرف الماس بمقدار حرصي على الإبقاء لهذه الذكرى طي الكتمان في أعناق القلب الذي حملها سنوات، وما تثيره هذه الذكرى في نفسي من ألام وأشجان تذهب بهناءتي أياما بل شهورا لأنها تذكرني بجريمة ارتكبتها جنيت فيها على قلب كبير، وتصور لي نفسي مذنبة آثمة، فيهب ضميري من رقاده فلا يزال وخزه كالحراب حتى يقيض الله لي من ينسيني هذه الذكرى بعض الوقت.
ألست أنت الذي حاول مرارا أن ينتزع ها السر الذي احتفظت به وضننت به على أقرب الناس إلي وغليها، فهل تظن أن البعد الذي بيننا بحل عقدة لساني فأقص عليك قصتي التي من أجلها هجرت بلدي إلى غير رجعة، وأفضي إليك بذات نفسي فأطلعك على جرح قلبي الدامي الذي تجعله الذكرى ينزف كأول عهده؟
إن هذا الجرح هو الذيحال بيني وبين مشاركة الناس التمتع بهذا الجمال الذي وهبه الله عباده. إنني لا آتمن هذه الصحائف لأخط عليها ما عجز عن انتزاعه الآخرون ولكن. . . لا! محال أن البوح. لقد كثر إلحافك بعد أن افترقنا وأنا أريد أن اسكت هذا اللسان الذي يطاردنيفي حضوره وغيبته مهما بعدت بيني وبينه المسافات، وكأنك تتعمد إيلامي لأفضي لك بسري. وماذا لو أخبرتك خبرها، وأنا اليوم لا أخاف قالة السوء ولا أخشى أن يزاحمني عليها أحد.
كان ذلك منذ أعوام سبعة يوم كنت معي والتقينا بصديقنا (م) بعد عودته من الغيبة التي طال أجلها بيننا، ثم التقيت به مرات ولم تكن أنت معنا. ودعاني يوما لزيارته فلبيت دعوته
ولا أدري لم دعاني وقد مضت سنوات على صداقتنا ولم يدع أحدنا الآخر إلى منزله؟ ولا لماذا خرجت أنا عن مألوف عادتي فلبيت دعوته؟ ذهبت فراعني منزلهم الجميل ورياشه الفاخر وتلك الحديقة الزاهرة التي تحيط به.
ولما استقر بي المقام جاءت شقيقته (ن) وهي إذ ذاك في الثالثة عشرة من سني حياته، وهي طالبة في المدرسة وقدمني إليها قائلا:(أستاذك الذي سيقوم بإعطائك درس اللغة العربية) وأخذت بهذه المفاجأة إذكنت أتحاشى دائما هذا النوع من الدروس مهما كانت سن الفتاة. بيد أن الموقف ألجم لساني وصداقتنا حالت بيني وبين الاعتراض، كل ذلك كان سهلا بجانب نظرتها إلي، نظرة فيها كل أنواع البراءة والدلال، فوجدتني أومن على قوله بغير شعور مني.
ومدت يدها الصغيرة تصافحني وعلى ثغرها ابتسامة جميلة خلت من أنواع المخاتلة والرياء، لأنها بسمة تكسوها براءة الطفولة، إذ كانت إلى هذه السن لا تزال طفلة في كل أعمالها. فإذا قدرت سني حياتها عند رؤيتها ما زادت على عشر سنوات لضمور جسمها ووداعة خلقها وتعثر كلماتها في النطق.
وحددنا موعد الرس، وفي اليوم التالي ذهبت إلى منزل صديقين أو بالأحرى تلميذتي، فوجدتها في حجرتها الخاصة تنتظرني فقضينا بعض الساعة في ترتيب وتنظيم، واتفقنا على الخطة التي تناسبها.
صرت بعد ذلك أذهب إليها في الموعد المحدد. وعلى مر الأيام زال ما بها من تلعثم، وكنت أرى منها غبطة وسرورا كلما رأتني قادما، فقد كانت تنتظرني في نافذة حجرتها المطلة على الحديقة فإذا رأتني هبت تتلقاني بباب حجرتها. وبدأت ألحظ عليها أنها تبذل جهداً كبيراً لتعوقني عن الخروج وتحتال لذلك الحيل، وأكثرها توجيه أسئلة أجدني مضطرا للإجابة عنها لأني كنت أخشى أن تظن بي العجز. وكم من مرة أضاعت علي فرصا كنت أنتظرها بفارغ صبر. مر العام على خير وجوه. وكانت أولى المتقدمات من زميلاتها وانتقلت من مرحلة إلى مرحلة أخرى.
وظننت أن مهمتي قد انتهت، فانقطعت عنها، وماذا بقي علي؟ لقد أديت واجبي وقمت بما تقتضيه الصداقة.
وبعد أيام من انقطاعي وكنت جالسا في حجرتي غارقا بين أوراقي، إذ طرق الباب طارق، فلما أذنت له بالدخول وكنت أحسبه خادمي فلم أهتم بالأمر. ولما رفعت وجهي لأسأله ما يريد، رأيت أمامي صديقي (م) وتلميذتي فأخذت بهذه المفاجأة ومددت يدي مسلما معتذرا. فلما تقدمت أسلم عليها مدت يدها وهي تتصنع الغضب ولكنها لن تستطع أن تخفي تلك الابتسامة الحلوة التي عودتني إياها كلما لقيتها.
جلسنا في غرفتي، وكلما نظرت إليها ازدادت شفتاها انفراجاً، ولكنها سرعان ما كانت تسردها بمظهر الغاضبة. ثم انفرجت شفتاهالا عن ابتسامة ولكن عن عتاب جميل لتقصيري عن زيارتهم بعد انتهاء العام الدراسي. ولقد كانت في إلقاء الأسئلة وتضييق الحلقة ماهرة كأنها نائب يحقق في حادثة يريد أن يصل إلى الجاني، وكلما هربتمن طريق جاءتني من آخر. وقدمت لها من المعاذير ما لا يحصى ولكنها تقبل منها واحدا وكانت كلما ألقيت إليها عذرا رأيتها تهز ذلك الرأس الصغير علامة عدم الارتياح، ولم تتركني حتى قطعت على نفسي عهدا باستئناف زيارتهم مرة أخرى وسيكون ذلك بعد غد. ذهبت إلى منزلها فإذا بي أفاجأ باستعداد الحفل. باسمة الثغر طلقة المحيا عليها سماء من تجاوزن سنها، وكان حف تزينه زهرات لم تتفتح مثلها وما زالت قلوبهن في الأكمام وتم عقد المدعوين ووقفت تقول كلمة صغيرة كما قالت فإذا هي تبدع وتجيد، وفي نهاية كلمتها قدمتني للمدعوين على أن أتكلم كلمة فلم أسر لاقتراحها قدر ما سرني كلمتها التي أشادت فيها مما بذلت معها من مجهود أهلها لهذا التقدم، فكدت أعتذر لولا نظرتها إلي وما رايته منعيون متجهة إلى شخصي.
وقدمت لنا بعض زميلاتها أغنيات ورقصات أضفت على الحفل عنصر البهجة والسرور.
وكانت جلستي بجانب فتاة وسيمة الوجه طلقة المحيا ذات شعر فاحم أهيف. . وعلى غير قصد مني لمست يدي ذراعها العاري فسرت رعشة غريبة في يدي فاضطربت ولحظت فتاتي ذلك إذ كانت لا تفارقني، فأسرعت تقدمها إلي، فإذا هي ابنة عمها قد أتممت دراستها الجامعية هذا العام، وحادثتني حديثاً شهياً خلب لبي واستولى على مشاعري ولم ينته الحفل حتى كنا على موعد للقاء في اليوم التالي. وتكرر لقاؤنا فازددت بها شفا وهمت بها حبا، وترامت الأخبار إلى تلميذتي بعلاقتي بابنة عمها، فكنت كلما زرتها شاهدت على وجهها
مسحة من الهم والألم، وكانت تتعمد ذكر ابنة عمها أمامي وتنظر إلي أثناء ذلك نظرات لم أعرف مغزاها إلا بعد فوات الأوان.
وصحبتها إلى السينما وكنت على موعد مع ابنة عمها فاختارت المقعد الأوسط لتجلس بيننا فنفذت رغبتها ولكن فعلها آلم ابنة عمها، فعتبت علي على مصاحبتي لهذه الصغيرة وإذعاني لرغبتها، فقد كانت كل منهما تتربص بالأخرى ولكنها تتحاشى لقاءها، عرفت حبيبتي أن ابنة عمها تحبني ولكنها لم تذكر لي شيئا عن ذلك.
وها لني ما طرأ على تلميذتي من تغير ملحوظ فأصبحت تؤثر الوحدة وتتحاشى الناس. وتجلس معي صامتة واجمة، وبدأت عيناها تذبلان ونظراتها تتكسر، فحاولت أن اعرف سر ذلك منها فلم أفلح. وكانت كلما خرجت معي بمفردها - لأنها كانت ترفض دعوتي إذا علمت أن ابنة عمها سترافقها - تسر لذلك ويذهب عنها بعض حزنها وصارت لا تذكر غريمتها أمامي كما كانت تفعل قبل اليوم.
وذهبت لأطلب يد ابنة عمها فلما تم كل شيء بعثت من يعلن الخبر في بيتها وكانت ترمي من وراء ذلك إلى غرض في نفسها. ولما ذهبت في اليوم التالي إلى صديقي إذ كنا على اتفاق لنذهب إلى إحدى الحفلات، ولم أجد تلميذتي تنتظرني كما هو مألوف. وهنأني الجميع ولكنها لم تحضر، فسألت عنها فعجب الجميع لغيابها، وبحثوا عنها حتى وجدوها، فلما جاءت رأيتها قد انكمشت في نفسها.
وسألتها عن تقدم استعدادها للذهاب معنا فاعتذرت بتعب تحسه. وحاولت كثيراً فلم توافق. وفي اليوم التالي علمت بأنها مريضة فزرتها وواظبت على زيارتها كل يوم، غير أن حالها كان يسير من سيئ إلى أسوأ. وكانت تسرع خطواتها إلى العام الآخر فأضفت على البيت الحزن والكآبة. وفي أحد الأيام ذهبت لعيادتها فانتهزت فرصة خلو حجرتها من الآخرين وسلمتني غلافا. فلما ههمت بفضه أشارت إلي إشارة فهمت منها أنهالا ترغب في ذلك. ولما صرت خارج الدار فضضت الغلاف فوجدت صورتها بين أوراقه وتصفحت كتابها فإذا فيه. . .
(حبيبي لقد أحببتك وأنت لا تدري، وان كنت قد بادلتني هذا الحب، غير أنك كنت تستخف به لأنه في نظرك حب طفلة وما دريت أن لهذه الطفلة قلبا. . .
(وكم ندمت على أني كنت سبباً في تعرفك بتلك التي سلبتك مني واستولت عليك من دوني، وكثيراً ما حدثتني نفسي أن أسحقها كما سحقت قلبي وأحطم حياتها كما حطمت حياتي. ولكني كنت أخشى أن يكدر فعلي هذا صفو حياتك ويسبب لك الشقاء والآلام.
(لقد كان أسعد يوم في حياتك هو أشقى أيام حياتي، فبينما أنت تنعم بقرب حبيبتك وقد فاضت منك كأس السعادة. كنت أنا أقاسي آلاما تهد الجبال وأتجرع كأس الخيبة والحرمان غارقة في حمى الحب الذي حطم أعصابي. بينما أنت تضحك ملء فمك، كنت أنا أبكي مصير حبي وأندب ذكرياتي الجميلة واشبع آمالي الواسعة، في حجرتي المظلمة التي تذكرني كل قطعة فيها بحبي، وبأنك كنت في يوم من الأيام لي وحدي فكم تمتعت فيها بالجلوس إليك لا يشاركني فيك أحد. في هذه الحجرة رحت أشكو منك وكنت قبل اليوم أشكو لك. في هذه الحجرة سعدت بأحلامي الجميلة واليوم أذرف فيها الدمع على أطلال سعادتي الذاهبة.
(لقد ههمت كثيرا بأن أكتب إليك بما ألاقيولكن كان الوقت قد مضى والفرصة ضاعت. وهل كنت تصغي لكلماتي وأنا في نظرك لا أعدو طفلتك الصغيرة؟
(أتذكر يوم لقيتني في حجرتي منفردة أضع رأسي بين يدي وعلامات الألم تبدو على وجهي فقلت لي: لقد كبرت وغدوت تفكرين كما يفكر الكبار. ثم جلست تربت على كتفي وتمسح بيدك شعري، وأنت تسألنيعن سبب همي، فكدت أجثو على ركبتي وافتح قلبي بين يديك وأريق أمامك كل ما كنت أكظمه من الحنان وما يكربني من لاحب، ويملأ قلبي من العواطف.
(لقد أصبح كل شيء في هذا الوجود مصدره عذابي فكرت كل شيء وأحست بأبغض لهذا العالم ومن فيه فلم أعد أطيق رؤية أحد.
(لقد كان حبي لك كبيرا وكانت خيبته أكبر. فلم أقدر على تحمل ثقلهما. فإذا طواني الموت فابك يا حبيبي على حبي لك لأنه سيبلىولأنه قد توسد الثرى وكان يحلم بتوسد ذراعك ولأنه ضمه القبر وكان الواجب أن تضمه في أحضانك، ولفه الكفن وكان حقيقيا أن يلفه وإياك فراش واحد، واحتوت صحراء مقفرة وكانت أمنيته أن يحتويه عش تكون أنت سيده.
(إن تعلقي بالحياة لا لأن نفسي عزيزة علي ولكن للحب الذي تكنه لك. فإذا مت فلا تبك علي لأن بكاءك يؤلمني. . ولا تحزن فان حزنك يشقيني. . . ولكن اذكرني كلما خلوت إلى نفسك).
في هذا الأسلوب الذي لا غموض فيه ولا تكلف فيه كتبت إلي خطابها وهو خطاب طويل، فما انتهيت من قراءته حتى أحسست الدمع يتساقط من عيني، وان الأرض تدور بي، ولم أعرف أين أنا سائر، وكدت أعود لأضمها بين ذراعيوأغمر وجهها بالقبل لأخفف عنها وطأة آلامها ولكني لم أستطع إذ كانت قواي قد خارت ونفسي قد تضعضعت فجلست عل أقرب مقهى وجدته، وما شعرت إلا والنادل ينبهني إلى موعد الانتهاء من سهرته. فقت أهيم على وجهي طيلة الليل وأنا حائر ماذا أفعل وقد قطعت مع عمها وعدا بالزواج من ابنته. ولو كان الحب فقط الذي أكنه لابنة عمها لكتمت أنفاسه وتخلصت منه. . . ولكن كيف أتخلص من وعدي وبماذا لأعود إلى تلك أحبتني في صمت وتعذبت في سبيلي كل هذا العذاب وأنا سادر عنها غافل عن أشجانها وآلامها، فذبلت كما تذبل الزهرة قبل تفتحا لأنها حرمت الساقي الذي يتعهدها.
وفي اليوم التالي بكرت في الصباح وقد بيت في نفسي أمرا. وقبل أن أصل إلى الدار صكت أذني أصوات النساء يندبنها. فلما ولجت الباب رأيت خادمها حزينا. فلما سألته أخبرني أن شريانا قد انفجر إثر صدمة نفسية لم تستطع لها احتمالاً. هكذا قال الطبيب. يا رحمتاه لها.
فعلمت أني قد قتلتها وأنا عنها غافل.
وبعد أسبوع كنت أستقل القطار مبتعدا عن معهد ذكرياتي المؤلمة، ولكنها ما زالت تطاردني كلما وقعت عيني على صورتها التي لا تفارقني.
عبد الموجود عبد الحافظ