المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 944 - بتاريخ: 06 - 08 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٤٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 944

- بتاريخ: 06 - 08 - 1951

ص: -1

‌الملك عبد الله

على عتبة المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله خر الملك عبد الله صريعاً ليديه، فصرعت بمصرعه الأليم سياسة، وتزعزع نظام، وتراجع أمل، وتضعضع حلف، وتغير تاريخ!

ذلك لأن الملك عبد الله كان قوة مؤثرة في سياسية الشرق والغرب. اكتسب هذه القوة بفعل هذه الحوادث وحكم الظروف وموقفه المعبر الدال على اتجاه الإنجليز في شؤون العرب. ولم يكن من الميسور أن يكتسبها لو لم يكن قوي الشخصية بعيد الهمة واسع المطامع، لا يقنع بالتمني، ولا يكتفي باليسير، ولا يُدخل في حسابه آراء غيره ولا أراب قومه

دخل الأمير عبد اله بن الحسين التاريخ من الثغرة التي ثغرها الإنجليز بين الترك والعرب في الحرب العالمية الأولى. وكان المغفور له والده قد فهم من لغة الإنجليز في الوعد الذي واعدوه غير ما أرادوه! فهم أن غنيمته من محاربته الأتراك معهم ستكون للأمة العربية الاستقلال والوحدة، وكانوا هم يريدون بهذين اللفظين الانتداب والتجزئة! فلما تقاسم بنو الحسين الميامين تيجان العرب في الأقطار التي انبسط غليها النفوذ البريطاني من تراث الخلافة الصريعة كان ما أصاب الأمير عبد الله رقعة من أجادب الأرض في شرق الأردن، لم تتسع لهمته ولم تستجب لطموحه. وظل فيها كما يظل الأسد في القفص متململاً من الحصر، متبرماً بالضيق، يتطلع من خلال القضبان إلى سواحل فلسطين، ثم تمتد عينيه الرقيبة إلى سهول سورية، ثم يشرق بفكره وقلبه إلى أرياف العراق، ثم يرتد بذكرياته وحسراته إلى أباطح الحجاز، ثم ينطوي على نفسه في قصر ترغدان ويصوغ ما تشاه وتمناه وما تذكره خططا سياسية يسميها: فلسطين الموحدة أو سورية الكبرى أو الهلال الخصيب، ويستعين على تنفيذ هذه الخطط وتحقيق هذه الأماني بمصفحات من جيش (جلوب)، وصفحات من كتاب (الأمير)، ولكن الملك كان يفكر، والقدر كان يدبر، (فحال الجريض دون القريض)، وانهار ما شاد الثائر الطموح من الأمل العريض!

عرفت أصحاب التيجان الهاشمية من بنى الحسين معرفة خبزة وصداقة. عرفت الملوك علياً وفيصلاً وغازياً في بغداد، فرثيتهم رثاء الخبير، وبكيتهم بكاء الصديق! إلا الملك عبد الله فقد لقيته مرة واحدة في القاهرة وهو أمير. لقيته أنا والأستاذ السراج في أحد القصور من جاردن سيتي، فلم يكد يفرغ من تكاليف اللقاء الجميل حتى أخذ يتلو عن ظهر قلب قول الله تعالى: وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم. . . آخر الربع من سورة

ص: 1

(فصلت)، ثم انتهت الزيارة بانتهاء القراءة، فلم أعرف عنه إلا أنه يحفظ القرآن!

من أجل ذلك لا أستطيع أن أتحدث عنه ولا أن احكم عليه إلا من وراء ما يُرى ويُسمع. والناس إنما يرون ويسمعون بعين المخلوق وأذنه. ولعل فيما أبصروا من أفعاله، وسمعوا من أقواله، مبرراً من طيب سريرته وصدق عقيدته. والتاريخ يحاسب المرء على عمله، ولكن الله يحاسبه على نيته!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌ورطة يهود اليمن في إسرائيل

للأستاذ عمر حليق

تواجه الدولة اليهودية اليوم مشكلة داخلية أولدتها هجرة يهود اليمن إلى إسرائيل. ونستعرض فيما يلي أوجه هذه المشكلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومصادر هذا التقرير عديدة توفرت لنا هنا من هيئة الأمم في نشرات وبحوث مختلفة، بعضها يهودي والبعض الآخر من تحريات المرسلين الأجانب

توطئة:

قامت دائرة الأبحاث الشرقية في الجامعة العبرية بالقدس بدراسة تاريخ اليهود في اليمن وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية إلى ما قبيل عملية الترحيل التي قامت بها القيادة الصهيونية العالمية - هذه العملية التي سميت بساط الريح نظراً للسرعة الفائقة التي تمكن بها أعوان الصهيونية في محمية عدن من نقل عشرات الألوف من يهود اليمن على متن القلاع الجوية الطائرة في مدة لا تتجاوز بضعة أسابيع

ونحن ننقل في هذه التوطئة ملخص هذه الدراسة على علاتها. تقول هذه الدراسة إن يهود اليمن كانوا يستوطنون بقعات مختلفة من البلاد بلغ عدد جالياتهم فيها حوالي 800 بين صغيرة وكبيرة ومتوسطة العدد

وكان جزء من يهود اليمن قد استقر هناك منذ الأجيال التاريخية القديمة، وكان الجزء الآخر - وهو الأقل عدداً - قد هاجر من الشواطئ الأفريقية أو نزح من أعالي بلاد الشام والعراق بقصد المتاجرة مع اليهود الأصليين في اليمن السعيد

ويعرف يهود اليمن بتعلقهم بمذهبهم على الطريقة التقليدية، وقد خالط يهوديتهم بعض الدخائل الوثنية ولكنهم مع ذلك بقوا من اشد الجاليات اليهودية تعلقاً بالعادات والتقاليد القديمة وكان يهود اليمن يتكلمون العربية طبعا، ولكن عربيتهم كانت تختلف إلى حد كبير عن العربية التي يتكلم بها يهود العراق مثلاً

حياة يهود اليمن الاقتصادية:

استعرضت المجلة الجغرافية الأمريكية في مجلد عام 1947 نصيب يهود اليمن من الحياة

ص: 3

الاقتصادية هناك فقالت إن طبيعة المناخ الجبلي والسهول الخصبة في ربوع اليمن قد ساعدت على نشوء تجارة وصناعة محلية سيطرت عليها الجاليات اليهودية هناك سيطرة تامة وفرت لها بعض الرخاء على نحو ما كان متوفراً لأكثرية اليمنيين العرب. وقد شرح كاتب يهودي - كانت الجمعية الصهيونية العالمية قد أرسلته إلى اليمن قبل مأساة فلسطين بسنتين - الوضعية الاقتصادية ليهود اليمن في كتاب أسماه ابن سفير فقال - لا تخلو منطقة من المناطق اليمنية التجارية والزراعية من جالية يهودية تتحكم في الوضع الاقتصادي للمنطقة. فقد كانت معظم حوانيت البيع في يديهم. وفي يدهم تركزت صناعة الجواهر والسلع التجارية المحلية والخارجية. وكان يهود اليمن على اتصال مستمر مع يهود العالم الخارجي عن طريق محمية عدن مما ولهم توسيع نشاطهم التجاري بحيث شمل الداخل والخارج. ولم يقتصر تركز يهود اليمن الاقتصادي على التجارة والصناعة وأعمال المصارف (القروض والربا والرهن) وإنما شمل احتلال الأراضي الزراعية والسيطرة على مصادر المياه والتحكم في توزيعها على صغار المزارعين اليمنيين العرب في القرى والدساكر. ومع ذلك لم تنشأ في اليمن أزمة يهودية كما نشأت في بلدان أوربا مثلاً. وسبب ذلك سماحة الإسلام وما طبع عليه المسلمون من إكرام للغرباء والصبر على المكاره. ولم يكن ملاك اليهود في اليمن قائمين على الزراعة بأنفسهم، وإنما كانوا يؤجرون الأرض للمزارع اليمنى وينالون من أتعابه نصيباً كبيراً مما سعاد على تركز جزء كبير من الثروة الزراعية والنفوذ الاقتصادي في أيديهم

وفي عام 1946 اليمن مبعوث أرسلته لجنة التوزيع اليهودية الأمريكية المشتركة (وبعث بتقرير إلى مرءوسيه في نيويورك قال فيه): إن يهود اليمن بالرغم من العزلة الجغرافية التي كانت تحيط بهم استطاعوا توحيد جهودهم وتنظيم وحدتهم المذهبية والطائفية وتبادل التجارة والمنفعة الاقتصادية في أسلوب لم يثر حفيظة اليمنيين العرب، وذلك لأن هذا النظام والتكاتف كان محاطاً بالسرية الدقيقة، وكان يلاقي معونة مادية وأدبية من المنظمات اليهودية العالمية في بريطانيا وأمريكا والعراق ومصر وغيرها من الأمصار التي كانت للجاليات اليهودية فيها نفوذ وقوة عالية وسياسية بالغة)

وكانت حلقة الاتصال بين يهود اليمن وبين هذه المؤسسات اليهودية الخارجية وكر يهودي

ص: 4

اتخذ مدينة عدن مركزاً. وكان هذا الوكر معروفاً للحاكم البريطاني في عدن الذي كان يرعاه ويحنو عليه ولا بدافع العطف فحسبن بل بدافع المنفعة المادية التي كان هذا الوكر يفرقها بسخاء على الموظفين البريطانيين في جنوبي شبه جزيرة العرب

ولقد كان هذا الرخاء الاقتصادي وهذا التنظيم الداخلي، وهذه المعونة الخارجية (اليهودية البريطانية) التي توفرت ليهود اليمن - كان هذا كله من أهم العوامل التي حفظت ليهود اليمن كيانهم سالماً لن يتأثر مطلقاً في ناحيته السياسية أو المالية أو الدينية. ولذل حرص اليهود على السكنى متجاورين معاملة بعضهم مع بعض وستر اجتماعاتهم وإخفاء تدابيرهم عن أعين اليمنيين المسلمين. وهذا هو السر الذي حقق لليهودية العالمية سرعة نقل يهود اليمن إلى فلسطين في دقة فائقة، إذ أن هذه السرعة كانت مسبوقة باستبعاد داخلي وتنظيم دقيق مستتر عن طريق الوكر اليهودي المنظم في محمية عدن

وقد كان من ألوان هذه المخادعة التي ستر بها يهود اليمن خططهم للرحيل إلى فلسطين تفاديهم الظهور بمظهر الباذخ المثري، فقد كان أغنياؤهم حريصين على أبسط الثياب والسكنى في بيوت ظاهرها لا تأخذه العين وإنما تتجمع في داخلها ثروات من المال والجواهر والسلع الغالية الثمن. ولم يكن في اليمن ما يدفع اليهود إلى هذا اللون من الخداع إلى ما كانوا يضمرونه من خطط لمستقبل، فلم تكن الحكومة اليمنية متعسفة في معاملتهم ولم يسبق لمسلمي اليمن أن اعتدوا على يهودي بغير حق

كتب أحد عملاء الصهيونية الذين زاروا اليمن قبيل هجرة اليهود منها في مجلة (كومانتري) الأمريكية اليهودية في عدد يوليو سن 1951 ما يلي:

(لم أسمع من يهودي اليمن في مساورتي لهم سوى المديح لجيرانهم المسلمين. فلم يحدث في تاريخ اليمن أن احرق كنيس يهودي أو انتهكت له حرمة. وكانت معابد اليهود تضاء وتحلى بألوان الزينة تحت أعين اليمنيين المسلمين وأبصارهم. وكان هؤلاء المسلمون يقدرون عنصر التوحيد في الديانة اليهودية حق تقديره، ولم تنشأ في حاضر اليمن أو قديمها أي حركة توخت الحد من الحرية الدينية والاجتماعية للجاليات اليهودية هناك. وكان حاخاميو اليمن يلقون بعض العون المادي من حكومة جلالة الإمام اليماني. ومن الأدلة على سماحة المسلمين في هذه الأيام أن الجاليات اليهودية هناك كانت تحتفظ بنسخ من التوراة

ص: 5

يرجع عهدها إلى مئات السنين في حين أن مثل هذا الرث الدينين قد أعدم مراراً في أوربا الشرقية والغربية خلال القرون الوسطى وفي التاريخ المعاصر)

(وكتب يهودي آخر في مجلة (كومنري) نفسها قال: (إن خلو حياة يهودي اليمن من الاضطهاد المحلي لم يمنعهم من الانقسام إلى طوائف متخاصمة. فقد كانت بعض الجاليات اليهودية لا ترضى بزعامة بعض الحاخاميين من الجاليات الأخرى، وهذا الأمر كثيراً ما أولد بينهم الشقاق ولطالما لجأت هذه الجاليات اليهودية إلى الحكومة اليمنية أو الأئمة المسلمين في اليمن بغية التوسط في وضع حد لمثل هذه الخلافات الطائفية بين اليهود أنفسهم. . ومع ذلك لم يكن هذا الشقاق ليحول دون تكاتفهم (يهود اليمن) على الخطط التي وضعتها لهم القيادة الصهيونية العالمية للرحيل عن اليمن السعيد والامتثال لتعليمات مبعوثي تلك القيادة الذين كانوا يتخذون وكر الصهيونية في محمية عدن مركزاً لهذه الخدعة الكبرى)

والآن وقد أنتجت هذه الخدعة الكبرى ثمارها وتم رحيل يهود اليمن عن هذا البلد الإسلامي إلى إسرائيل فلنلتفت إلى وضعية يهود اليمن في إسرائيل وما خلقوه لأنفسهم والدولة اليهودية من متاعب أصبحت تؤلف مشكلة داخلية من النوع العويص. ولا ريب أن هذه التدابير البعيدة التي اتخذتها القيادة الصهيونية العليا لنقل يهود اليمن إلى إسرائيل تتوخى أهدافاً سياسية واقتصادية معينة سنحاول أن نتعرف على داخلها من صميم المصادر اليهودية والأجنبية المتوفرة لدينا

(للكلام صلة)

نيويورك

عمر حليق

ص: 6

‌10 - في الحديث المحمدي

للأستاذ محمود أبو ريه

كعب الأحبار وعمر:

لما قدم كعب الأحبار إلى المدينة في عهد عم بن الخطاب مظهراً إسلامه أخذ يعمل في دهاء ومكر لما اسلم من أجلهن وكان مما وجه غليه همه أن يفتري الكذب على النبي صلوات الله عليه ولكن عمر فطن لكيده فنهاه عن الروية عن النبي وتوعده أن يلحقه بأرض القردة

وعلى أن عمر قد ظل يرقب هذا الداهية بحزمة وحكمته وينفذ إلى أغراضه الخبيثة بنور بصيرته كما سترى في قصة الصخرة فإن شدة دهاء هذا الرجل اليهودي قد تغلبت على فطنة عمر ويقظته فظل يعمل بكيده في السر والعلن إلى أن قتل عمر، ومن ثم انفجر بركانه بالخرافات والأساطير التي لم يسلم منها كتاب في التفسير والحديث والتاريخ

قصة الصخرة

لما افتتحت إيلياء في عهد عمر في سنة 16هـ ودخل عمر بيت المقدس وجد على الصخرة زبالة عظيمة كان النصارى من الروم قد ألقتها عليها معاندة لليهود الذي يعظمون الصخرة ويصلون إليها، فأخذ عمر ومن معه في تنظيفها، وبينما هم في عملهم إذ سمع عمر تكبيراً من خلفه فقال ما هذا؟ فقالوا: كبر كعب وكبر الناس بتكبيره! فقال علي به. فقال يا أمير المؤمنين أنه قد تنبأ على ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة!! قال وكيف؟ قال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل فأديلوا عليهم فدفنوه. . . إلى أن وليت - فبعث الله نبيا على الكنانة فقال ابشري أو يرى شلم عليك الفاروق ينقيك مما فيك

ولما فرغوا من نظيف الصخرة قال عمر لكعب: أين ترى أن ابني مصلى المسلمين؟ فقال: ابنه خلف الصخرة - أي أن تكون الصخرة قبلة - فقال له عمر: ضاهيت والله اليهودية يا كعب. وفي رواية أخرى، خالطتك يهودية يا ابن اليهودية وقد رأيتك وخلفك نعليك!! أبنية في صدر المسجد. فبناه في قبلي المسجد - وهو الذي يسميه كثير من العامة اليوم الأقصى، والأقصى اسم للمسجد كله

ص: 7

وظلت الصخرة مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلي ثم كذلك في إمارة معاوية وابنه وحفيده. فلما كان زمن عبد الملك ابن مروان بنيت القبة على الصخرة. وقد تم بناؤها وعمارة المسجد الأقصى في سنة 73 هجرية وكان السبب في ذلك على ما رواه صاحب (مرآة الزمان): أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة وكان يخطب في أيام عرفة ومقام الناس بمكة وينال من عبد الملك ويذكر مساوئ بني مروان ويقول: إن النبي لعن الحكم وما نسل منه وأنه طريد رسول الله ولعينه. . وكان يدعو الناس إلى نفسه وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا فبنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحجج ويستعطف قلوبهم. . وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم

وذكر ابن تيميه في اقتضاء الصراط المستقيم غير ذلك، أن عبد الملك بن مروان قد جعل عليها من الكسوة في الشتاء والصيف ليكثر قصد الناس للبيت المقدس فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن ابن الزبير - والناس على دين الملوك - وظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن المسلمون يعرفونه، وصار بعض الناس ينقل الإسرائيليات في تعظيمها حتى روى بعضهم أن كعب الأحبار قال: إن الله قال للصخرة أنت عرشي الأدنى. وقد وصف طائفة من الناس مصنفات في فضائل بيت المقدس وغيره من البقاع بالشام وذكروا فيها من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب وعمن أخذ عنهم ما لا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم. . وأمثل من ينقل عنه تلك الإسرائيليات كعب الأحبار. وكان الشاميون قد أخذوا عنه كثيراً من الإسرائيليات

ومما قاله كعب في الصخرة كذلك أن الله قد نظر إلى الأرض فقال: إني واطئ على بعضك فاستبقت له الجبال وتضعضعت الصخرة فشكر لها فوضع عليها قدمه

قتل عمر ويد كعب فيه:

مما ريب فيه أن قتل عمر كان بمؤامرة اشترك فيها هذا الدهى وجماعة منهم الهرمزان ملك خراسان وكان قد جيء به إلى المدينة أسيراً في عهد عمر

ذكر المسور بن مخرمة أن عمر لما انصرف إلى منزله بعد أن أوعده أبو لؤلؤة جاءه كعب الحبار فقال يا أمير المؤمنين جاءه كعب الأحبار فقال يا أمير المؤمنين (أعهد) فإنك في

ص: 8

ثلاث ليال (رواية الطبري في ثلاثة أيام) قال، وما يدريك؟ قال أجده في كتاب التوراة! قال عمر: أتجد عمر بن الخطاب في التوراة! قال اللهم لا ولكن أجد حليتك وصفتك وإنك قد فني أجلك! قال لك وعمر لا يحس وجعاً. فلما كان الغد جاءه كعب فقال: بقي يومان! فلما كان الغد جاءه كعب فقال: مضى يومان وبقي يوم (ورواية الطبري - وبقي يوم وليلة وهي إلى صبحتها، فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته

وأتى كعب عمر بعد أن ضرب فقال له: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيداً وإنك متى أين وأنا في جزيرة العرب؟ وفي رواية أنه قال له قبل هذه العبارة. الحق من ربك ف تكونن من الممترين

وعن شداد بن أوس عن كعب قال: كان في بني إسرائيل ملك إذا ذكرناه ذكرنا عمر، وإذا ذكرنا عمر ذكرناه، وكان إلى جنبه نبي يوحي إليه فأوحى الله إلى النبي أن يقول له أعهد عهدك واكتب إلى وصيتك فإنك ميت إلى ثلاثة أيام. فأخبره النبي بذلك، فلما كان اليوم الثالث وقع بين الجدار والسرير ثم جاء إلى ربه فقال: اللهم إن كنت تعلم أني كنت أعدل في الحكم وكنت وكنت فزد في عمري حتى يكبر طفلي وتربوا أمتي، فأوحى الله إلى النبي: قد زدته في عمر عشرة سنة، فلما طعن فقال: اللهم اقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم مخلصاً

ولم يكن قتل عمر على يدي أبي لؤلؤة تنفيذاً لتلك المؤامرة التي دبرها الهرمزان لما كان يكنه من الحقد والموجدة للعرب بعد أن نالوا عرش الفرس ومزقوا دولتهم وأعانه عليها كعب لأن عمر هو الذي أجلى اليهود عن جزيرة العرب. ومما يمتلخ عرق الشك من أن كعباً له يد في قتل عمر والتآمر به ما أخرجه الخطيب عن مالك أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي (وهي زوجته) فوجدها تبكي فقال ما يبكيك؟ قالت هذا اليهودي - أي كعب يقول إنك من باب من أبواب جهنم. . . فقال عمر ما شاء الله! ثم خرج فأرسل إلى كعب فجاءه فقال يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة، فقال ما هذا!؟ مرة في الجنة ومرة في النار! قال: أنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها فإذا مت اقتحموا! وقد برت يمينه لعنه الله فقد قتل عمر

ص: 9

في ذي الحجة سنة 23هـ

هل تجوز رواية الإسرائيليات:

جاءت الشريعة الإسلامية فنسخت ما قبلها من الشرائع، وبين القرآن أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد بدلوا من كتاب الله وكتبوا بأيديهم كتباً زعموا أنها من عند الله ليشتروا بها ثمناً قليلاً، ومن أجل ذلك نهى رسول الله صلوات الله عليه عن أن يأخذ المسلمون عن أهل الكتاب شيئاً، وكان يغضب أشد الغضب إذا رأى أحداً نقل عنهم أو استمع إليهم، فروى أحمد عن جابر بن عبد الله أن عم بن الخطاب أتى النبي بكتاب أصابه عن بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي فغضب وقال: أمهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني

ولقد كان صلوات الله عليه يقول لأصحابه لا تصدقوهم ولا تكذبوهم إذ قد يكون في قولهم الكذب مما بدلوه فتصديقه يضر. . وقد يكون في قولهم الصحيح الذي لم يبدلوه فتكذيبه يضر كذلك. وهذا قول حكيم. ونحن هنا بعض ما روى عن النبي (ص) في ذلك: روى البخاري عن أبي هريرة لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهاكم واحد ونحن له مسلمون. وروى أحمد عن أبي نملة الأنصاري عن أبيه قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمناً بالله وكتبه ورسله فإن كان حقاً لم تكذبوهم وإن كان باطلاً لم تصدقوهم - وروى البخاري عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شئ وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث الكتب تقرءونه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه بأيديهم وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ألا ينهاك ما جاءكم من العلم عن مسألتهم! لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل إليكم)

هذا بعض ما روى عن النبي (ص) في النهي عن رواية الإسرائيليات وهو الحق الذي يتفق مع مبادئ الإسلام الصحيحة وتفكير العقول السليمة، ولكن ما لبث الأمر بعد أن أغتر المسلمون بمن اسلم من أحبار اليهود خدعة إلا أن ظهرت أحاديث رفعت إلى النبي تناقض نهيه الأول وتبيح الرواية عن بني إسرائيل إباحة مطلقة

فقد روى أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: حدثوا عن بني

ص: 10

إسرائيل ولا حرج. . ومعلوم أن أبا هريرة وعبد الله بن عمرو كانا من الذين تلقوا عن كعب، وأن عمرو هذا كان قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من علوم أهل الكتاب فكان يحدث منهما بأشياء كثرة من إسرائيليات قال فيها الحافظ ابن كثير: منها المعروف والمشهور والمنكور والمردود. وسنحدث إن شاء الله عن ابن عمرو وزاملتيه وقيمتها

رواية يعص الصحابة عن إجابة اليهود:

ولقد كان اثر ذلك أن بعض الصحابة روى عن أحبار اليهود وقد نص رجال في كتبهم في باب رواية الأكابر عن الأصاغر أو رواية الصحابة عن التابعين: أن العبادلة وأبا هريرة ومعاوية وأنس وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار وأخذوا عنه - وكان أبو هريرة أكثر الصحابة وثوقاً بهم وأخذ عنهم وانقياداً لهم كما تبين لك من تاريخه الذي سيقابلك إن شاء الله. وقد استطاع هذا اليهودي كما دعته السيدة الجليلة أم كلثوم بوسائله الشيطانية أن يدس من الخرافات والأوهام والأساطير في الدين ما امتلأت به الكتب وكانت شبها على الإسلام يحتج بها عليه أعداؤه، ويضيق بها ذرعاً أولياؤه

ومما يدلك عل أن الصحابة كانوا يرجعون عليه فيما لا يعرفون ما رواه عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس قال: أربع آيات من كتاب الله لم أدر ما هي حتى سألت عنها كعب الأحبار وذكر منها آية (وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب) وكان جواب كعب عن ذلك: أن الشيطان اخذ خاتم سليمان الذي فيه ملكة فقذف به في البحر فوقع في بطن سمكة ثم وقعت هذه السمكة في يد سليمان فاشتهوها وأكلها فإذا فيها خاتمه فرجع إليه ملكه!

وفي تفسير الطبري أن ابن عباس سأل كعباً عن سدرا المنتهى فقال إنها على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق ثم ليس لأحد وراءها علم ولذلك سميت سدرا المنتهى لانتهاء العلم إليها

وفي حديث أبي هريرة - هي شجرة من اصلها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن وأنهار من خمر وأنهار من عسل وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها والورقة منها تغطي الأمة كلها. ولا نستكثر فهي لا تعد على أن كثرة رواياته الباطلة قد أوحيت أن يشك في روايته بعض الصحابة حتى قال فيه وهو أحد تلاميذه إنه من أصدق هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب رواه البخاري وغيره

ص: 11

اليد اليهودية في تفضيل الشام:

ذكرنا لك من قبل أن إشارة كهان اليهود إلى أن ملك النبي سيكون في الشام إنما هو لأمر خبئ في أنفسهم. ونبين هنا أن الشام ما كان لينال من الإشادة بذكره والثناء عليه إلا لقيام دولة بني أمية فيه، تلك الدولة التي قبلت نظام الخلافة. إلى ملك عضوض، وتحت كنفها نشأت الفرق الإسلامية التي فتت في عضد الدولة ومزقتها تمزيقاً. . أفكان جديراً بكهنة اليهود أن ينفخوا في نار الفتنة ويهيئوا لها وقودها. وكان من هذا الوقود أن يبالغوا في مدح الأم وأهله. وان الخير كله فيه والشر في غيره

لم يكتف هؤلاء الكهان بما قالوه في الشام وفي أهله وما صنفوه من كتب في فضائل بلادهن وان الإبدال سيظهرون به، بل زادوا على ذلك أن جعلوا الطائفة الظاهرة على الحق إنما تكون بالشام كذلك. . . وحتى نزول عيسى سيكون به. . فقد روى الشيخان: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك - وفي البخاري - هم بالشام! وعن مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة - قال أحمد وغيره هم أهل الشام! وفي كشف الخلفاء أن كعب الحبار وقال: أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم من العصاة. ولعل العصاة هم الذين جاءوا من المدينة والكوفة وغيرها بقيادة أمير العصاة على!!

ومن أحاديث الجامع الصغير للسيوطي التي أشرنا عليها بالصحة: الشام صفوة الله من بلاده إليها يجتبى صفوته من عباده، فمن خرج من الشام غلى غيرها فبسخطه، ومن دخلها فبرحمته. طوبى للشام إن الرحمن لباسط رحمته عليه. ليبعثن الله من مدينة بالشام يقال لها حمص سبعين ألفا يوم القيامة لا حساب عليهم ولا عذاب، مبعثهم فيما بين الزيتونة والحائط

ومدينة حمص هذه يجب أن يكون لها هذا الشان العظيم حتى في الآخرة لن سيدنا كعب الأحبار قد اتخذها مقاماً له. ثم مات فيها، ولا نطيل بإيراد كل ما قيل في فضل الشام أهله لأنه يملا مصنفات

المنصورة

للكلام بقية

ص: 12

محمود أبو ريه

ص: 13

‌2 - ألمانيا

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

امتاز تاريخ ألمانيا بظهور عبقريات فذة وأبطال عظام استأثروا بالسلطة في الدولة وكانوا أول خدامها، وكان اعظم هؤلاء البطال أربعة: فريديك الأكبر وبسمارك وليم الثاني (غليوم) وهتلر. وإني هنا احدث القراء عن البطل الأول وهو فريدريك الأكبر

ولكني قبل أن أبدأ حديثي احب أن أذكر أننا إذا رجعنا القهقري إلى العصور الوسطى وجدنا العالم الأماني مقسماً على عدة ولايات ولم تكن هناك دولة موحدة في ألمانيا. وكانت النواة الأولى لقيام الدولة الألمانية دوقية برندنبرج، وقد استطاع حكامها وهم من أسرة الهوهنزلون ضم بقع متناثرة من شرق ألمانيا وغربها ووسطها وكونوا منها دولة موحدة هي مملكة بروسيا، وكان أول ملك لها فرديك الأول 1688 - 1713

وقد خلفه على العرش فردريك وليم الأول 1713 - 1740الذي استطاع أن يصلح حال روسياً اقتصادياً وكون لها جيشاً قوياً ونظم إدارتها وشؤونها حتى أن كثيرين من المؤرخين يعدونه من أقوى واحسن ملوك بروسيا

فردريك الأكبر 1740 - 1772:

في 1740 لفظ فردريك وليم الأول آخر أنفاسه وترك لابنه فردريك دولة قوية اقتصادياً وحربياً، ولعله قد مات ونفسه تقطع حسرات على ملكه ودولته، ذلك أن وراثة فردريك الثاني لم يثبت في شبابه أنه سينهض بأعباء المملكة بعد وفاة، والده بل أنه على العكس أثار استياء والده بشغفه بقراءة الكتب الفرنسية وبحبه للشعر والموسيقى، وقد حاول الهرب من التعليم العسكري وهو في الثامنة عشرة من عمره ولكن اكتشف أمره وأحضر أمام والده الذي بلغ به الغضب أن كان على وشك أن يقتله بسيفه

تولى فردريك الثاني في ربيع 1740 يلبث إلا قليلاً حتى اثبت عبقريته وعظمته لنفسه لقب فردريك الأكبر

وكان أول أعماله عمله على توسيع رقعة املاكه، واصطدم في هذا بالنمسا وكانت صاحبة السيادة على العالم الألماني وتحكم إمبراطورية واسعة تشمل النمسا والمجر وبوهيميا وغيرها. ولم يرهب النمسا رغم اتساع أملاكها وسرعان ما قامت الحرب بينه وبينها

ص: 14

ضمان وراثي:

كان شارل السادس إمبراطور للنمسا وكانت ابنته ماريا تريزا هي الوارثة للمملكة، واحتياطاً طلب شارل إلى ملوك الدول (بروسيا وروسيا وإنجلترا وفرنسا وإسبانيا) أن يقرروا قبولهم اعتلاء ماري لعرش دون نزاع، وقد وافق الملوك على ذلك وتعرف هذه الوثيقة في التاريخ بوثيقة الضمان الوراثي

ومات شارل السادس في خريف 1740 حين من الدهر اعتلت فيه ماريا العرش ولم تجد منازعاً فانصرفت بقوتها وشبابها إذ كانت في الثالثة والعشرين من عمرها إلى العناية بشؤون إمبراطوريتها الشاسعة الأطراف المتعددة الشعوب والأجناس وإصلاح أحوالها والنهوض بها

حرب الوراثة النمساوية: 1740 - 1748

لكن حلم بالسلام لم يدم طويلاً، ذلك أن فردريك - رغم أن والده كان من الموقعين على الضمان الوراثي - لم يعبأ بهذا الضمان وعرض على ماريا أن نزل عن سيلزيا فرفضت وقالت إنها مستعدة للدفاع عن بقايا رعاياها ولن تبيعهم. حينذاك تقدم فردريك إلى سيلزيا واحتلها واستولى على برزلاو أشهر مدنها ولم يعلن الحرب، وكانت حجته أن سيلزيا كانت ملكاً لأحد أجداده

جمعت ماريا قواتها وتقدمت للقاء فردريك ولكنه انتصر عليها انتصاراً رائعاً في معركة مولتر في أبريل 1741. . انتهزت فرنسا وإسبانيا وبافاريا وسردينيا الفرصة وحاولت انتزاع أملاك ماريا. تقدمت جيوش فرنسا وبافاريا ودخلت بوهيميا واحتلت براج في نوفمبر 1741 دوق إمبراطوراً بدلاً من ماريا ولقب شارل السابع)

توغل الأعداء داخل أملاك ماريا ومع هذا لم تفقد شجاعتها ولجأت إلى رعاياها المجربين أقنعتهم بالاشتراك معها فقبلوا

وفي فبراير 1742 يوم تتويج شارل السابع إمبراطوراً ودخلت جيوش ماريا ميونخ عاصمة فرنسا. ولتتفرغ ماربا لأعدائها تصالحت مع فردريك وتنازلت له من سيلزيا. قبل فردريك الصلح وترك فرنسا وحيدة وقال عبارته المعروفة (ما اسعد أولئك الذين يستطيعون

ص: 15

تحقيق آمالهم ثم ينظرون في هدوء وابتسام إلى أولئك الذين أوقعوا أنفسهم بين شقى الرحى)

وقد دامت الحرب أكثر من سبع سنين وفي 1748 انتهت بصلح إكس لا شابل به وأعيدت الحالة إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وأخذ فرربك سيلزيا واعترف هو والدول بماري إمبراطورة وبزوجها فرنسيس إمبراطور للنمسا

حرب السنين السبع 1756 - 1763

كان صلح أكس لا شابل هدنة بين فردريك وماري. ذكر مبعوث إنجليزي أن ماري إذا رأت أحد رعاياها السيلزيين نسيت أنها ملكة وأجهشت بالبكاء، ولهذا عملت جاهدة على استرداد سيلزيا. لكنها قبل أن تبدأ الحرب عمدت إلى اتخاذ وسائل النصر فتحالفت مع فرنسا رغم الخصومات السابقة بينهما والروسيا والسويد وسكسكونيا وكلهم طامع في تقسيم أملاك فردريك، وأعدت جيشها. ولم يجد فردريك حليفاً أمامه سوى إنجلترا

انقسمت أوربا إلى معسكرين: الأول البروتستانية وهي إنجلترا وبروسيا في ناحية، والدول الكاثوليكية في ناحية أخرى

ووقعت الحرب 1756 وتقدم أعداء فردريك من نمساويين وفرنسيين وروسيين وغيرهم يهاجمون املاكه، واحتلت ماريا سيلزيا أعلنت أن حقوقها قد ردت إليها موقف فردريك حرجاً للغاية

لكنه مع هذا لم يتزعزع وتذرع بالثبات والحزم وعمد إلى مباغتة أعدائه فهزم الفرنسيين هزيمة منكرة في موقعه روسباخ 1857 ثم هزم النمساوين فذعرت السويد وذهلت سكسونيا وتوقف الروس بعد أن أوقع بهم فردريك الهزيمة

وأما إنجلترا فكان هناك ما يشغلها، فقد قامت تحارب فرنسا فيما وراء البحار وتستولي على مستعمراتها في أمريكا والهند، واقتصرت مساعدتها لفردريك على استخدام فرقة مرتزقة من الأمان شغلت الفرنسيين عن التمكن من مساعدة أعدائه. وفي 1761 بقبول الصلح ولكنه رفض وظل يكره إنجلترا مدى حياته

وقد ساعد الحظ فردريك فماتت قيصرا روسيا 1762 بطرس الثالث وكان من المعجبين بفردريك، فعقد معه صلحاً. عندئذ تفرغ فردريك للنمسا فطردها من سيلزيا واضطر ماري

ص: 16

إلى عقد الصلح

وفي عام 1763 صلح باريس وبه أخذت إنجلترا من فرنسا مستعمراتها في أمريكا والهند، وصلح هيوبرتسبرج وبه أخذ فردريك سيلزيا من النمسا مقابل اعترافه بأن يكون ابن ماريا تريزا إمبراطوراً بعد أبيه، أو بعبارة أخرى وارثاً للعرش الإمبراطوري

مصلح:

لكن فردريك لم يكن قائداً حربياً فحسب، ولكنه كان مصلحاً كبيراً: في فترات السلم كان شديد العناية بالإصلاح. فعنى بالزراعة والتجارة والصناعة عناية كبيرة، وكان قصره مجمع العلماء ومنتدى الفلاسفة والشعراء، وكان فلتير من الأدباء الذين أقاموا حيناً في بلاطه، كما كان فردريك نفسه شغوفاً بالقراءة والكتابة وخاصة ما يتعلق بالتاريخ والسياسية، وقد كتب 24 مجلداً في هذه المسائل وكلها باللغة الفرنسية

أبو الفتوح عطيفة

المدرس الأول للعلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية

ص: 17

‌فلسفة الإيمان

للأستاذ حامد بدر

بعض الناس يأتي الإثم فتنهاه تارة، وتزجره أخرى، فلا يزداد إلا مواظبة على ما هو فيه؛ كأن المعاصي هي الدماء التي تبث في كيانه الحياة!

وهذا لا يعترف بالخطب والمواعظ والمحاضرات التي تدعو إلى الفضيلة، وتحض على التقوى، ولا يؤثر حالاً على تلك الحال

قال الواعظ المتعبد للعاصي المسرف في الذنوب:

- أنت اليوم في الدنيا، فما لك لا تعمل فيها من الصالحات ما ينفعك بعد الممات؟

فأجاب العاصي:

- إن اللذة الحاضرة لا تتاح كل يوم، والغد المجهول ليس في يدك ولا في يدي. فدعني أفعل ما يطيب لي، وآخذ من حاضري ما أتيح اليوم، وبعد اليوم قد لا يتاح

قال الواعظ

- ليس من الصواب أن تضيع الباقي من أجل الفاني. . .

قال العاصي:

- بل من الخطأ أن تضيع ما في يدك، وانتظر ما لا تملك

قال الواعظ:

- كيف تيأس من الغد وقد وعد الله المؤمنين خيراً، وأعد للكافرين عذاباً!

قال العاصي:

- ومن أين عرفت المؤمنين وغير المؤمنين، وحكمت بأن من أباح لنفسه متاع الدنيا ليس بمؤمن؟

قال الواعظ:

- عرفت هؤلاء وهؤلاء بأعمالهم، وحكمت بأن من تشغله الدنيا لا يعمل للآخرة ولا يستحق نعيمها

قال العاصي:

- كلا يا صاح. إن الإيمان والكفران من الأسرار التي استقرت في أعماق القلوب، والعمل

ص: 18

الظاهر ليس وحده كفيلا بالثواب أو العقاب

قال الواعظ:

- إن لنا أن نأخذ بالظاهر، وليس علينا أن نتنبأ بما خفي

قال العاصي:

- إن كنت تأخذ بالظواهر، فكم للظواهر الكاذبة من ضحايا، وإن الخفي على الناس لا يخفى على الله، فما لنا لا نترك الأمر كله لله؟

قال الواعظ:

- علينا أن نطيع ما أمر الله به، ونتجنب ما نهى عنه

قال العاصي:

- إن المذنب الذي لا يستكثر ذنوبه على رحمة الله خير من العابد الذي يظن أنه بعبادته استحق جنة الله، واستأثر برحمته سبحانه. وإن الذي يطمع في رحمة الله برغم كثرة ذنوبه لأكثر إيماناً ممن يزعم أنه دفع ثمن الجنة عملاً صالحاً!

قال الواعظ:

- إن لم يكن العمل الحسن هو الطريق المؤدي إلى الجنة، فهل نصل إليها من طريق السيئات؟

وهنا رأيتني مدفوعاً إلى الكلام، فقاطعت الواعظ مستأذناً وقبل أن أدخل في موضوع لا حديث قال الواعظ:

- ألا توافقني؟

قلت:

- ليس في كل ما تقول

قال:

- إن كان لك اعتراض فهاته

قلت:

- لي رأي وسط، فإن رضيتماني حكماً غير متحيز لأحدكم كان ذلك ما أردت. . .

قال:

ص: 19

- هات رأيك

قلت:

- لا شك في أن الإيمان سر من الأسرار المستقرة في القلوب، ولكن آثره الطيب يظهر في الخارج ظهوراً جلياً، فإن العمل بمقتضى الإيمان غير العمل بمقتضى الكفران، والسير في طريق الطاعة غير السير في طريق العصيان. . .

ومن الذنوب ما يغفر ومنها ما لا يغفر، وأقربها من المغفرة أبعدها عن الإصرار والصالحات الظاهرية المشوبة بالرياء لا تنفع عند الله ولا عند الناس، بل لا يصح أن يسمي صالحاً ما ليس خالصاً، فإن الرياء إذا اختلط بعمل حبط، وذهبت الحكمة من أجلها شرع، ولنضرب لذلك مثل الذي يعطى فقيراً ثوباً مكتوباً عليه تلك العبارة: صدقة من فلان إلى فلان!

فإذا كان المقصود من الثوب هو الستر فكيف يجمع ذلك الذي زعم أنه محسن بين الستر والفضيحة فيكسو العاري بثوب، ويجرده في الوقت ذاته بمنه وأذاه؟!

الإيمان في القلب، ومن السهل استشفافه من آثاره الطيبة الدالة عليه فمن آمن عمل بمقتضى إيمانه، وسبقت نيته الطيبة عمله الطيب، فأنى بالخير لأنه خير وكفى، لا ابتغاء الظهور بمظهر الورع والصلاح

وليس اجتناب المعاصي دليلاً على اليأس من رحمة الله، كما أن رحمته سبحانه ليست وقفاً على الطائعين وحدهم، بل وإنما تشمل العصاة التوابين الذين يرجعون إلى ربهم وإلى أنفسهم نادمين، ولم يؤيدوا العصيان بالإصرار

حامد بدر

ص: 20

‌رسالة المربي

(ظهور المدرسة، الطريقة النفسية والمنطقية، التقاليد)

للأستاذ كمال السيد درويش

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

لقد عرف الإنسان الطريقة النفسية أولاً وعمل بها ثم أنتقل إلى العمل بالطريقة المنطقية. والواقع أنه منذ أن نشأت المدرسة كمعهد علمي متخصص في تربية النشء، بدأ سلطان الطريقة المنطقية وأخذ يزداد حتى أصبحت في النهاية شبحاً مخيفاً جاثماً على صدور الأطفال الأبرياء. وقد استطاعت هذه الطريقة فرض ديكتاتوريتها على التعليم ولا تزال حتى اليوم. لذلك يمكن القول أن العلة الأساسية في فساد نظم التربية حالياً في جميع ميادينها المختلفة، سواء في المدرسة أو الأسرة أو المجتمع نفسه، إن هي إلا في العمل بتلك الطريقة المنطقية. وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يدعو إلى التمسك بها والخضوع لغيرها؟ الواقع أن السبب الحقيقي الذي دعا إلى الاعتماد عليها هو ما تمتاز به من سرعة وسهولة. ولقد جرب المربي في حياته واستخلص واستنتج ثم رتب خلاصه تجاربه خلال حياته في شكل نتائج وقوانين ونصائح وأخلاق وحكم وأمثال. فما اسهل تلقين ذلك كله للناشئين وحثهم على العمل بها، سواء أرادوا أم لم يريدوا، قبلوا أم رفضوا، فهموا أم لم يفهموا. إنما المهم أن يحفظوا بعقولهم الناشئة هذه الحكم القيمة والمعلومات النادرة والمثال السائرة. وكيف لا تكون قيمة نادرة وقد بلنا كل مرتخص وغال في سبيل الحصول عليها؟ لذلك يجب على هؤلاء الناشئين أن ينصاعوا صاغرين وإلا فهم شياطين خاسرة لم تكتب لهم الهداية ولم يقدروا لهم التوفيق. وإذا ضرب أحدهم بتقاليدنا ونصائحنا عرض الحائط. إذا نأى عنها واعرض بجانبه سلقناه بالسنة حداد واعتبرناه خارجاً على التقاليد، تقاليد الآباء والأجداد. ومارقاً كافراً ملحداً يستحق اللعنة ومختلف ألوان العذاب

تلك هي أول مساوئ الطريقة المنطقية. هي أنها تخلق تقاليد معينة لها حرمتها وقدسيتها ولا يمكن المساس بها. وهنا يحق لنا أن تساءل، وما هو الضرر في تقديس التقاليد؟ وفي الخضوع لها؟ ولم لا يكون في التقديس والطاعة ما يرغب فيه؟! يجرنا ذلك إلى سؤال

ص: 21

آخر: ولكن ما هي التقاليد؟! نحن نعني بالتقاليد تلك التعاليم التي كانت لدى الإنسان الأول، والتي لازمت المجتمعات الإنسانية منذ أن ظهرت على سطح الأرض، والتي لا تزال تحيا وتعيش حتى اليوم سواء في المجتمع البدائي أو المجتمع الذي وصل إلى أرقى درجات الحضارة والتقدم. هي تعاليم يفرضها المجتمع فرضاً على أفراده الناشئين وعلى هؤلاء نقبلها في خضوع واستسلام دون مناقشة أو كلام إلا لأنها تقاليد واجبة التقديس. إطاعة الكبير وتوقيره وإطعام الغريب وإيواؤه من بين الأمثلة العديدة على التقاليد السائدة في مجتمعنا الإنساني بوجه عام. ولقد اتسع سلطان التقاليد فأصبحت ولها في كل ميدان سلطان. . وأي سلطان؟! هي في القرية غيرها في المدينة وهي في مدينة غيرها في الأخرى، وتجدها تظهر في الملبس وفي العادات وفي الأخلاق وبين جميع الأمم تجدها، وفي مختلف الطبقات تشاهدها. لذلك لا نعجب داخل جدران المدرسة بطبيعة الحال. بل يمكن القول أن عملية التربية بعد أن سارت على الطريقة المنطقية قد أصبحت هي نفسها تقليداً متبعاً. وهنا يحق لنا أن نتساءل. وما السر في وجود التقاليد؟! الواقع أن أي تقليد لم ينشأ إلا نتيجة عملية مارسها الإنسان على الطريقة النفسية الطبيعية. شاهد الإنسان غيره وقد اصبح كبيراً مسناً في حاجة إلى احترام الناس ومعونته وتصور حاله اصبح مثله! عند ذلك أيقن أن احترام الكبير فيه احترام للجميع ووقاية من التحقير على يد الصغير. لذلك تمسك الإنسان بهذه الفكرة، فكرة احترام الصغير الكبير وجعلها تقليدا إحاطة - وهو يلقنها للصغار الذين لا يعلمون عن سر حكمتها شيئاً - بهالة من التقديس وذلك حتى يضمن بقاءها والعمل بها. وهكذا غدت تقليدا يحافظ عليه أفراد المجتمع. ولذلك يمكن القول أن من الممكن أن ترد كل تقليد ظهر في أي مجتمع من المجتمعات إلى ظروف خاصة دعت أولاً إلى وجوده وأدت ثانياً إلى بقائه كأن تكون له أهمية حيوية بالنسبة لحياة المجتمع التي نشأ فيه. إن الكرم عند البدوي في البيداء هو تقليد حيوي ضروري تمليه البيئة الصحراوية. ولقد نمت التقاليد بنمو المجتمع الإنساني وتحضره

ولكن لم نوافق على أن تصبح التقاليد نفسها أهدافاً تربوية ما دامت التقاليد في حد ذاتها خلاصة الخبرة السابقة للمجتمع الإنساني مصوغة في قالب التقاليد لتسهيل المحافظة عليها وفرض الطاعة لها؟!

ص: 22

الواقع أن التقاليد إذا كانت تحتوي على خير كثير فإنها تحمل في طوياها من الشر إضعاف ما تحمله من الخير. ولكن من اين جاء ذلك الشر الذي ترمى به التقاليد؟! الواقع أن الضرر الناجم عن التقاليد يرجع إلى طريقة تعليمها. . إلى فرضها على الناس مجردة عن الخبرة الجدية التي توضح السر في قيامها والغرض من وجودها والظروف نشأت فيها، إلى فرضها منطقيا على الأفراد الجدد، في المجتمع، هؤلاء الذين لا يدركون من أمرهم ولا من أمر مجتمعهم شيئاً. كن كريماً. هذا صوت المجتمع يأمره فعليه أن يطيع. هو تقليد جرى عليه العرف والناس. ولكنه في هذا الشهر قليل الدخل مختل الميزانية فهل يخرج على التقاليد؟ كلا. . ليتكرم. . وإذا لم يجد المال فليستدن نفقات الكرم وليتورط إلى أعماق أذنيه في الديون. . . ولن يهمه شي. . لن يهمه إفلاس يهدده ولا إملاق يدمره ما دام قد أرضى صوت التقاليد. . . وهكذا يصبح الإنسان عبدا ذليلا خاضعا لسلطان التقاليد

إن ضرر التقاليد يأتي من التقيد التام بحذافيرها. . . من تقدسيها والتمسك بها والخضوع التام لها. ولكن أي ضرر في ذلك؟ ولم لا نتمسك بها ونخضع لها ما دامت كما ذكرنا الخلاصة النهائية لمجهود الأجداد؟ ولا بد من وجود سبب رئيسي يؤدي إلى هذا الخضوع ولك الاستمساك. إن هذا صحيح ولكن التقاليد تحتوي إلى جانب ذلك الخير على شر كثير، ولكن كيف جاءها ذلك الشر؟ إن تفسير ذلك من البساطة بمكان لقد جبل الإنسان على المباهاة بعلمه ومداراة جهله ونظر في الحياة فما استطاع معرفة أسبابه من غوامض شؤونها ومظاهرها، بادرة إلى ذكره، وما لم يستطع عليه أن يكشف عمله جهله، وتظاهر كعادته بالعلم والمعرفة وأخذ يخترع له من الأسباب والعلل ما يوهم بأنه بكل شيء عليم. كان المرض ظاهرة غامضة بالنسبة للإنسان الأول. ولا تزال ظاهرة المرض غامضة لدى الكثير من المجتمعات البدائية. هم يجهلون أسبابه كما كان الإنسان الأول. ليعللوه إذن بمختلف العلل والأسباب بدلاً من الاعتراف الصريح بالجهل التام. هو لعنة من الله ونقمة

فإذا كان المريض صالحاً طيباً لا يستحق اللعنة كان المرض في هذه الحالة امتحاناً واختباراً. وهكذا تسير التقاليد على هذا المنوال. وفي هذا يكمن الخطر. ذلك أن التقاليد - بتفسيرها الخاطئ لكل ما هو مجهول غامض - تقفل باب التفكير أمام المفكرين، بل تحول بينهم وبين العمل لمعرفة العلل الحقيقية والأسباب المجهولة للظواهر الغامضة. أن حقيقة

ص: 23

المرض بطبيعة الحال ليست في كونه نقمة أو نعمة، بل في تلك الجراثيم الحية التي أكتشف العلم الحديث بعض أحوالها ولا يزال يجاهد في سبيل اكتشاف ما خفي عليه من أمورها. ألم يكن هذا التفكير العلمي أول خطوات التقدم العملي في سبيل التخلص من شبح الكثير من الأمراض؟

حقاً أن التقاليد بقدسيتها وديكتاتوريتها وجمودها وادعاءها سلاح قتال بل سم زعاف لو تناولته لتربية لأوردها موارد الهلاك. قد تنفع التقاليد في مبدأ ظهورها، ولكن مضى الزمن وتغير الظروف سرعان ما يظهر عيوبها وخطرها. إن التقاليد أبدا تأبى إلى أن تقف حجر عثرة في سبيل كل تفكير حر منتج مبتكر. التقاليد هي الحاجز المنيع أمام رقي المجتمع وتقدمه. هي العقبة الكؤود. هي السلاسل والأغلال. . . هي القيود الحديدية. . . كم من عقول حجتها التقاليد فتحجرت، وآمنت بالتقاليد فما فكرت. ان المجتمع الخامد الهادئ. . النائم ليل نهار، الساكن سكون العدم والراقد رقود الموت، هو المجتمع الذي يخضع خضوع العبد الذليل لتقاليده. حقا كلما ازدادت قوة التقاليد انحط الشعب وضعف، وكلما ضعف سلطانها أو زال تقريبا ازداد تقدم الشعب ورقيه. إن نظرة واحدة إلى الصين تقابلها نظرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد هذه الحقيقة أعظم تأييد

لقد قيدت التقاليد التربية حين قيدت الحرية، حرية العقل الإنساني في التفكير الحر المستقل ، ، حين قدمت تفسيراتها الخاطئة الخيالية التي لا تتمشى مع العقل ثم طالبت الإنسان باعتناقها والإيمان بها والدفاع عنها - وأغفل العقل إذا اعترض والتفكير إذا قاوم - أليست تقاليد الأباء والأجداد؟!

حقاً لقد لعبت التقاليد دورها التربوي الخطير خلال التاريخ، فهي التي سيطرت داخل المدرسة عن طريق الطريقة المنطقية، تلك الطريقة التي وطدت نفوذها وسلطانها حتى اصبح من المعتاد مثلا أن يطالب التلميذ بحفظ هذا وترك ذاك دون أن يعلم السر في ضرورة حفظ هذا أو ترك ذاك

لم يقبل العقل الإنساني الخضوع لدكتاتورية التقاليد، فكان أن ثار وتذمر واندفع يحطم تلك العبادة. إلى يتجلى ذلك في مختلف الحركات الكبرى والثورات الفكرية التي قام بها كبار الفلاسفة والمفكرين خلال العصور؟! نعم يتضح ذلك جلياً في كثير من المواقف. في موقف

ص: 24

إخناتون خلال التاريخ القديم، وفي قيام الكثيرين من كبار المصلحين في الدين المسيحي وفي الإسلام. . في مارتن لوثر وفي جمال الدين. ولكن بالرغم من قيام الكثير من هذه الحركات لهدم أصنام التقاليد إنها غدت بدورها وقد حلت محل التقاليد وتجلى ذلك في التعاليم الدينية بوجه خاص، ولا سيما حين قام المتأخر ون من رجال الدين أخذوا خلاصة التعاليم والحكم وقاموا بترتيبها وتنسيقها، تاركين الظروف التي دعت إليها، أو بعبارة أصح قاموا يدرسون الدين ويعلمونه على الطريقة المنطقية تاركين الطريقة النفسية الطبيعية في تعليمه، وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت تعاليم الدين مسيحية كانت أو إسلامية، وقد اندمجت في التقاليد واختلطت بها اختلاطاً تاماً ولم يتورع رجال الدين عن التمسك يحرفيتها، ووقفوا حراساً على قدسيتها. وعن طريق هذا السياج المقدس من التقاليد الدينية، استطاعوا إقامة تلك الدكتاتورية الدينية التي كانت أشد وأقسى من دكتاتورية التقاليد الاجتماعية العادية. وقد امتازت العصور الوسطى بتلك الدكتاتورية الدينية المتحكمة. وبقدر شدة الضغط الذي عاناه المجتمع لك الحين، بقدر ما تولد الانفجار قوياً شديداً. ذلك الانفجار الذي يتمثل في انطلاق التفكير الحر الذي أتجه أو ما أتجه إلى نسف تلك الأغلال والقيود. قام مارتن لوثر يحتج، وانفصل أنصاره عن الكنيسة الكاثوليكية فتلاه اليسوعيون بحركة إصلاح ولذلك كانوا أقرب إلى رضاء المجتمع. حدث هذا في المجتمع المسيحي بينما اشتدت ظاهرة التصوف في المجتمع الإسلامي، وكانت حركة التصوف كحركة مارتن لوثر ترمي إلى التحرر من سيطرة التقاليد الدينية بنبذها وعم التقيد بها، كذلك وجدت في المجتمع الإسلامي وكانت إصلاحية لم تلجأ إلى نبذ التقاليد الدينية دفعة واحدة بل إلى تنقيتها وتثبيت الصالح منها، وقد قامت هذه الحركات على يد كبار المصلحين من السنيين كابن تيميه وغيره الذين قاموا بدور شبيه إلى حد كبير بذلك الدور الذي قاموا به اليسوعيون. لقد كانت هذه الحركات في كل من المجتمعين المسيحي والإسلامي، ترمي إلى التحرر من سيطرة التقاليد العمياء، لا عن طريق نبذها واحتقرها وإنكارها، بل عن طريق فهما وبث الروح فيها، أو بعبارة أصح عن طريق تعلمها وتعليمها بفهم الظروف أو الدواعي التي أدت إليها، أي بالسير وفق الطريقة الطبيعية النفسية. وهكذا ظل المجتمع الإنساني خاضعاً لسلطان التقاليد، يتخلص من احتلالها البغيض حيناً ليقع في أحابيلها ثانياً، سواء باسم الدين أو باسم السياسية.

ص: 25

ويوضح ذلك التخبط بجلاء تاريخ الجزء الأخير من العصور الوسطى حتى مطلع العصور الحديثة، ذلك الجزء الذي يمثل بحق تأرجح المجتمع بين دكتاتورية التقاليد وبين رد الفعل الذي يحدث عادة متى تحرر المجتمع من كل شيء ونبذ كل قيد. . . متى تذوق الحرية المطلقة

حقاً أن النهضة الأوربية ثم جهود جاك جاك روسو ثم جهود أعلام التربية في العصر الحديث ما هي إلا بعض مراحل الكفاح ضد التقاليد، ما هي إلا حركات ترمي إلى التخلص من قيودها، وإحلال الحرية وتوطيد دعائمها محلها

ويتضح من ذلك العهد السريع إن رسالة المربي يجب أن تتجه إلى العمل بالطريقة النفسية ونبذ الطريقة المنطقية، أو بعبارة اصح في القضاء على دكتاتورية التقاليد وإقامة قوائم الحرية

وهنا يحق لنا أن نتساءل عن معنى الحرية. . . تلك الحرية يجب على المربي إن يجعل من المحافظة عليها بعض أهداف رسالته الكبرى في الحياة؟!

ذلك هو موضوع المقال القادم بأذن الله

كمال السيد درويس

ليسانيسه الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي

مدرس بالرمل الثانوية

ص: 26

‌3 - رحلة إلى ديار الروم

للسيد مصطفى البكري الصديقي

للأستاذ سامح الخالدي

شرح ترجمان الأسواق لمؤلفه المحبوي:

(وجاءني المحب المفرد جناية السيد محمد، وتذاكرنا معه في (شرح ترجمان الأشواق) لمؤلفه المحيوي، فقال المذكور إني الحظ فيه من قصيدتين: الأولى (بابي الغصون المائسات عاطفا) والثانية (مرضى من مريضة الأجفان) ولا أظن أن أحداً يمكنه أن يحذو على نسقها للطف مباني وظرف معاني. فحرك جمادى بذكرى هذه المعاني

وفي صبيحة يوم الحادي والعشرين من جمادى الأولى، فتح الأحد، بقصيدة اقتفيت فيها أثر العارف الأوحد، سيدي محي الدين بن العربي المفرد، التي ذكرتها في ترجمان أشواقها الذي يتوقد، ومطلعها:

بأبي الغصون المائسات عاطفا

العاطفات على الخدود سالفا

وهي قصيدة حارقة المعاني، خارقة المباني، صحيحة الأفاظ، مريضة الألحاظ، تقتل العاشق وتحبى الناشق، تخطف الألباب رشاقتها، وتسكر الحجاب لطافتها، معارضها به عارض، ولو بلغ رقة ابن الفارض، هذا والقصد التشرف بالاقتفاء، والتعرف باتباع أهل الوفاء وإني لمعترف بالقصور، عن ارتقاء هذه القصور، مغترف من بحر البحور، ودر النحور، مقر أن قصيدته الثريا وقصيدتي الثرا، متبرك بنفسه الذي في عالم الأنوار سرى، ومطلعها:

قال الشيخ لا فض فوه:

بأبي وامي من جلبن متلفا

وجلين كأسا قد أعان التالفا

وفي عشية ليلة الثالثة والعشرين من جمادى الثاني، جاد الحق على عبده الحاني، بقصيدة اقتفيت بها أثر العالم الرباني، سيدي محي الدين محمد بن علي العربي الداني، في قصيدته التي أودعها ترجمانه الحاوي، ومطلعها:

مرضى من مريضة الأجفان

عللا ني بذكرها عللا ني

ص: 27

ومطلع قصيدتي التي لقصيدته لا تداوي، هو:

ألقياني يا صاحباي القياني

جب حب في الكاعبات القيان

واتركاني في خلوة حلوة النيل

كنيل إذا فاض أو سيحان

وكتبت كتاباً في سادس الشهر المرقوم إلى صديقنا فخر النجار حسن آغا مير صدرته:

تحايا كالفرائد والعقود

تفوق شذا على نشر الورود

(ونعلم المحب الحسن الودود لأهل الودود، أنا اجتمعنا بالأخ المحمود السمات والولد المسعود، لدى الوزير المشير المعمود، وكان حدثنا جنابة عن بعض إشراف لكم يسود، ويعود على من قام به بنفحات الجود، وذكرنا الجناب الأخ الوفي الوعود، إسماعيل أغا ولدكم عبد الله جلبي الموقفين للوقوف مع الحدود من جهة الورد المورود، فوعد الولد والأخ المعدود، في عداد جناب المشهود لأهل الشهود، وبإرسال نسخة منه لضياع نسختنا عن يد حسود لا يسود، فالمرجو المساعدة في إرسالها دون إهمال ولكم الثواب في اليوم المورود بحول المعبود. والسلام عليكم وعلى من لديكم ما لاح من الصباح عمود، وقد طلب ولده الحاج عبد الله الإجازة في السند فكتبت له ذلك:

نشر الشيخ لطريقته الحلونية في الآستانة:

(وكان ممن اصطحب معنا ونحن في اسكدار ذات الشروق، المحب الفالح الشيخ أحمد الملقب بذوق، الجزائري بن الشيخ عبد اللطيف منح رعاية الحقوق، ثم نم به فرط الحب الزائد البروق، حتى بالطريق المسلوك المطروق

وأخبرت أن ليلة أخذه حال المبايعة التي مددها يحوق، اخذ جماعة من الروحانيين أهل اللحوق، وكان تقدم الجماعة منهم أخذ يفوق، في نابلس المحروسة وغيرها من الأماكن المقدسة التي للقرب تسوق، وعدهم يتوف على الألوف ما بهم عقوق، وفيهم من طائفة (الحناينية) سرب مسوق، وكبارهم أربعة سباق ما بهم مسبوق، أحدهم أحمد الطام، وابن باها، وعلى الذراري، وقدابو، وغيرهم تحت حكمهم مسبوق، فلما سمع هذه القصيدة الأخ المذكور المأسور المطلوق، قال غنها ليست في طوق البشر المخلوق، وإنما هذه كرامة أكرمت بها لسريانها في القلوب مسرى الدم في العروق، وكذلك المحب الصدوق، السيد محمد العاشق المعشوق، ومدح وقال يدرك أنها من الفتح اللدني كل من يشم الرائح

ص: 28

والمطاعم يذوق

سليمان باشا العظم يعتب على الشيخ البكري فيعتذر الشيخ له:

(وفي يوم ثمانية وعشرين من جمادى المكور، ورد على كتاب من الصهر المشكور، ذكر فيه أن جناب الوزير الكبير الوقور، (سليمان باشا العظم والى دمشق والشام) عتب على الفقير من عدم كتابة سطور، في رق حب منشور، فكتبت لجنابه كتابا يفور يحب كأسه يدور، وصورته:

ما زلت أستخدم النسائم

تسعى لإغلاء أعلى الدعائم

تكريمات لا تحملها أجمال الطروس، وتسليمات لا تعادلها أحمال عطر عروس، يعطر الكون رياها، ويشرق من لامع محياها، كنت أرسلت للصديق الأمجد الذكي، جناب محمد جلبي بن مكي، كتابا، ووكلته بإبلاغ سلام تام جمع لبابا، ثم ورد علي من جناب الصهر المحترم، العالم العامل الأفخم، كتاب لذ وطاب، وأنبأ عن عتاب من الجناب، والحال أن الإحجام، مراعاة للمقام، الخطير العطير المطير، بغزير ماء العمير، ولما تحقق الفقير ان الجناب الكبير يقبل مكاتبة الحقير، بدارت لها مشمراً أي تشمير، فالمرجو من الأخلاق الكريمة المسامحة فيما وقع من تقصير

وأرسلت للأخ الحسن الحاج بن مقلد كتابان في هذا التاريخ جواباً عن كتاب في الحب يشهد، كما كتبت لولد الصلبة ثمرة قلبي، كتاباً جواباً جواباً عن كتاب نفي كربي)

(وممن صحبني محب مريش، الأخ الحاج مصطفي بن الحاج خليل الشهير بابن كشيش، ومعناه بالعربية القسيس وكان يقول لولاه، نسبنا إلى الخسيس، البغدادي وطناً ومسكناً، وكنت اجتمعت به في الرحلة العراقية وبيده مقاطعة الدجيل، وهي مواصلة لمن كان ذا قوة في المال والخيل والحيل، ولما رآني وعرفني لا زمني إلى أن اندرج في سمط أهل الطريق، يوم الوداع الذي اذاع كامن الحريق، والمذكور له فرط سخا، لأنه ابن رخاء واعتقاد وانقياد، ي أهل الله الأمجاد

(وممن صحبني لديه، لإقباله عليه ونظره إليه، الشيخ صالح الحافظ وولده ولما توجه ولد المذكور، الشيخ عبد القادر لدار السلام بمعنونة الغفور، كتبت كتاباً بما تقدم من سطور، للأخ الأمجد السيد أحمد القادري المفرد

ص: 29

الشيخ يستخير الله في السفر:

(وكان الخاطر تحرك إلى السير في المركب المصري فاستخرت الله في السير لتلك الممالك فوقعت الإشارة في قرب الإذن بهذه الزيارة ثم رأيت أول شهر رجب أن رجلاً تسمى بهذا الاسم المجرب، اعتنقته ونمت مع على الفراش، والقلب من السرور في خفة الفراش، فأخبرني المحب الأمجد، السيد محمد الأوحد، أنه رأى فيما يراه النائم أن الحقير، قد حوط بيديه على عمود من نور كبير، فأخبرته بما رأيت وقلت له أظن أن هذا المحاط، حقيقة شهر رجب الرفيع الاغتباط، فقال نعم رأيتك حوطت عليها إلا بمقدار أربعة أصابع صغار، فقلت إن كثيراً من حقائق الأشهر المباركة، يقع لي معهم هذه الوصلة والمشاركة، وقال لي، أبشرك الآن مطلق، فأين ما أردت توجه فإنك موفق

السيد محمد خليل البكري يعارض في سفر الشيخ في الشتاء:

وفي ليلة الخميس، الثاني من رجب الأنيس، توجهت إلى دار ابن العم، محمد خليل أفندي الأكرم، وبت لديه وعرضت أمر لسفر عليه، فلم يطلب له التوجه في الشتا، ولكن لا يرد الأمر إذا الله أتى

للكلام بقية

سامح الخالدي

ص: 30

‌رسالة الشعر

مع لاجئة في العيد

للآنسة الفاضلة فدوى طوقان

أختاه، هذا العيد رف سناه في روح الوجود

وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيد

وأراك ما بين الخيام قبعت تمثالا شقيا

متهالكا، يطو وراء هموده ألما عتيا

يرنو إلى آلا شيء. مرحا مع الأفق البعيد

أختاه، مالك إن نظرت إلى جموع العابرين

ولمحت أسراب الصبايا من بنات المترفين. .

من كل راقصة الخطى كادت بنشوتها تطير

العيد يضحك في محياها، ويلتمع السرور

أطرقت واجمة كأنك صورة الألم الدفين

أختاه، أي الذكريات طغت عليك بفيضها

وتدفعت صوراً تثيرك في تلاحق نبضها

حتى طفا منها سحاب مظلم في مقلتيك

يهمى دموعا اومضت وترجرجت في وجنتيك

يا للدموع البض! ماذا خلف رعشة ومضها؟

أترى ذكرت مباهج الأعياد في (يافا) الجميلة!

أهفت بقلبك ذكريات العيد أيام الطفولة!

إذ أنت كالحسون تنطلقين في زهو غرير

والعقدة الحمراء قد رفت على الرأس الصغير

والشعر منسدل على الكتفين محلول الجديلة!

إذ أنت تنطلقين بين ملاعب البلد الحبيب

تتراكضين معا للدات بموكب فح طروب

ص: 31

طوراً إلى أرجاحة نصبت هناك، على الرمال

طوراً إلى ظل المغارس، في كنوز البرتقال. .

والعيد يملأ جوكن بروحه المرح اللعوب

واليوم، ماذا اليوم غير الذكريات ونارها

واليوم، ماذا غير قصة بؤسكن وعارها

لا الدار دار، لا ولا كالأمس! هذا العيد عيد

هل يعرف الأعياد أو أفراحها روح طريد

هل تقبله الحياة على جحيم قفارها

أختاه، ها العيد عيد المترفين الهانئين

عيد الآلي بقصورهم - وبروحهم متنعمين!

عيد الآلي، لا العار حركهم، ولا ذل المصير

فكأنهم جثث هناك. . بلا حياة أو شعور

أختاه لا تبكي، فهذا العيد عيد الميتين!!

فدوى طوفان

ص: 32

‌صوفية

نشوتي!

للأستاذ محمود رمزي نطيم

نشوتي حين أراك

لا تقدر يا حبيبي

سكر روحي في هواك

ليس بالشيء العجيب

أنت يا مسعد قلبي

يا حبيبي

أنت يا شغلة فكري

أنت يا روح وجودي

أنت يا ملك أمري

بين سري وشهودي

أنت يا حبة قلبي

يا حبيبي

لحظة منك حياتي

ودوائي وشفائي

أصبحت ذاتك ذاتي

وانتفى وهم شقائي

واستراح اليوم قلبي

يا حبيبي

برهة للصفو حانت

ورأت عيناي حبي

رؤية المحبوب كانت

رحمة من عند ربي

هكذا يشعر قلبي

يا حبيبي

غاب من أقصاك عني

فليمت لا عاد حيا

أنا لا أطلب من دنياي إلا أنت شيا

تلك أنشودة قلبي

يا حبيبي

لست أدري يا حبيبي

قبل هذا أين كنا!

كل ظني إننا في غير دنيانا التقينا

ص: 33

ربما يذكر قلبي

يا حبيبي

إن في الروح صفاء

عكر الجسم صفاه

إن في الناس وفاء

طمع الناس طواه

عالم يوجع قلبي

يا حبيبي

نحن لولا طمع الدنيا لكنا سعداء. .

إنما الأجسام للأرواح سجن وبلاء

جسدي مزق قلبي

يا حبيبي

ها أنا من شرفة الرو

ح أرى مصرع جسمي

ها أنا يمحى مع الأشباح في العالم رسمي

لم يعد يخفق قلبي

يا حبيبي

محمود رمزي نظيم

ص: 34

‌رسالة النقد

في عالم النقد

السلسلة والغفران

مسرحية جديدة للأستاذ علي أحمد باكثير

في عنق النقد للأستاذ علي أحمد باكثير، دين كبير فقد أنفق الأستاذ شبابه وهو لا يفتأ يضيف إلى المكتبة العربية ثروة هي أشد ما تكون افتقاراُ إليها بقصصه ومسرحياته التي يخرجها تباعاً والنقد لا يكاد يتابعها! ولقد قاربت مؤلفاته - فيما أعلم - العشرين، وما احسب النقد أولاها عشرين كلمة منه!

إن النقد مقصر جداً في ذات الأستاذ علي أحمد باكثير، وفي ذات الفن الذي ينهض به صابراً جلداً محتملاً أشد صنوف التضحية والجهد والحرمان، وإني لمحاول أن أسد قليلاً من هذه الثغرة السحيقة، بتناول مسرحيته الجديدة التي ظفرت بجائزة وزارة المعارف - وإن كان ذلك ليس مما يسمو بها - والتي سماها السلسلة والغفران)

وإذا أردنا أن نلخص هذه المسرحية في كلمات فإنه يمكن أن نقول: -

إن عبد التواب بن صالح المقدادي اعتدى على (غيداء) زوجة صديقة الحميم (قاسم المغربي) في أثناء غيابه عنها، فلما حملت منه وأراد إخراج ثمرة الإثم من أحشائها، ماتت عند إجهاضها، وعاش (عبد التواب) حياته بعد لك نادماً، وصار كاسفاً حزيناً، وركبه هم مقيم مقعد لما أتى من منكر شديد

وسارت الأيام، وتزوج عبد التواب من الفتاة الصغيرة كوثر ابنة (إسماعيل المرزوقي)، ثم حدث أن اضطر إلى الغياب عنها في تجارة له مع الشام مع صديقه وشريكه قاسم المغربي وتركها في بيته وليس بها أثر من حمل، ثم عاد فلم يجدها في بيته وإنما وجدها في بيت أبيها مريضة ملازمة فراشها، ثم عرف أنها ليست مريضة وإنما هي حبلى!. وعرف أن الذي أحبلها إنما هو مستور شقيق (غيداء) ضحيته من قبل!

ولكن عبد التواب يتستر على زوجته كوثر ويعود بها منزله، ثم تضع كوثر حملها، وتأتي بغلام سموه أسامة يصطنعه عبد التواب على عينه، وينشئه في ظله وبيته، ويتخذه قرة

ص: 35

عين له!

وتسير الأيام ويتزوج هذا المعتدي الجديد مستور من فوز شقيقة قاسم المغربي وتضطره الحياة هو الآخر إلى الغياب عنها حيث يستدعي إلى ميدان القتال في حلب، فيمضي إليه مخلفاً عروسه الشابة ولما يمض على زواجها غير أسبوعين ثم يعود هو الآخر كذلك فيجدها حبلى! فما هو إلا أن يمسك بالسكين ويهوي بها على عنقها فيذبحها ذبح الشاة!

تقع هذه الحوادث تباعاً يلاحق بعضها بعضاً، وفي صور متماثلة، وعبد التواب هناك غارق في ندمه واستغفاره وضراعته إلى الله أن يعفو عما جن، حتى كلت قواه، وضعفتن منته، وأحس قرب نهايته، فدعا إليه بأم (غيداء) واعترف لها بجريمته، ثم دعا إليه كذلك بزوجها قاسم المغربي واعترف له كما اعترف لهان وطلب منهما العفو والمغفرة، وألح عليهما في ذلك كثيراً حتى غفرا له وسامحاه، فغفر الله له وسامحه، وانقطعت السلسلة التي كانت متصلة الحلقات بقدرة أحكم الحاكمين، ولولا ذلك لظلت السلسلة متصلة تتناول واحداً من الناس بعد واحد إلى نهاية لا يعلمها إلا علام الغيوب!. .

. . . هذا ملخص المسرحية ولبابها، وهو - كما ترى - بسيط سهل قريب المأخذ، يوشك أن يكون حكاية كتلك الحكايات التي نسمعها في بيوتنا من الآباء والأجداد والعقدة في هذه المسرحية ذات غور ضحل تكاد أن تلمس بيدك، أو قل أنه لا عقدة فيها على الاطلاق. . . ولكن الأستاذ علي أحمد كثير - وهو المؤلف المقتدر والمسرحي البارع - استطاع أن ينفخ في هذه الحوادث البسيطة، وأن ينفث فيها، فحواره ولا شك قوي نابض، وأشخاصه أحياء يتكلمون، وليسوا كلاماً ما يجري على أفواه أشخاص هم أقرب إلى التماثيل المنصوبة كما يفعل الكثير من مؤلفينا الأفاضل، وبهذا استطاع الأستاذ أن يجعل من الحبة - كما يقولون قبة!

وقد بنى الأستاذ مسرحيته على نظرية (كما تدين تدان) ونص على ذلك صراحة، فجعل الجاني في كل مرة مجنياً عليه في المرة التالية، وهكذا انكسرت السلسلة بفضل استغفار (عبد التواب)!

ووجه الرأي عندي أن نظرية (كما تدين تدان) ليست من واقع الحياة في شيء، فليس كل معتد عليه غدا، فقد يسلم المعتدي من كل سوء، وقد يقضي حياته في جرائم متصلة دون أن

ص: 36

يناله أذى أو قصاص! ولكنها نوع من المثالية التي يبغي الأستاذ أن تكون قوام الحياة وهيهات أن تكون!

على أن الناس لو آمنوا بنظرية (كما تدين تدان) أشربتها نفوسهم حقداً وصدقاً، لكان قعودهم عن إيتان الجرائم إنما هو عن يقين منهم بأنها ستحيق بهم عليهم، لا عن إيمان بأن الجريمة في ذاتها شر يجب على الإنسان ذي الخلق القويم أن ينأى بجانبه، ويكف عن ارتكابه، سواء أدى إلى الإضرار بصاحبه أو انتهى إلى إسعاده، فإن السعادة الناجمة عن ارتكاب الجريمة - في نظري ذي الخلق القويم - إنما هي سعادة وحشية ينبغي الترفع عنها واحتقارها. والأستاذ المؤلف يعلم أن الكثير من الجرائم يؤدي إلى سعادة مرتكبيها، وهو يعلم أيضاً أن مصائب قوم عند قوم فوائد!

. . . هذا شيء: وهناك شيء آخر كنت أود أن أقف به طويلاً مع الأستاذ علي أحمد باكثير ومع المؤلفين عام، ولكن هذه الكلمة لا تتسع له ولا تفي به، وسأتناوله فيما أكتب من فصول في انقد، ولكنني أشير هنا إشارة عاجلة. .

ذلك أن المؤلف الذي يخلق في مسرحية من مسرحياته مثلاً، شخصية رجل مجرم، يرتكب في المسرحية جريمة تضطرب لها النفوس وتغضب وتثور، ثم ينزل المؤلف بهذا المجرم ما يستحق من قصاص في نفس المسرحية فأنه بذلك لا يكون قد فعل شيئاً!! إن المؤلف الذي يفعل ذلك يكون قد قام بدور المؤلف والقارئ معا، ولعله يجهل أن للقارئ دوراً هاماً في مؤلفه!! أي أثر يستبقيه المؤلف إلي يفعل ذلك في نفس القارئ وقد أرضاه بهذا القصاص إلي أنزله المجرم فهدأ به ثورته ومحابه وغضبه؟ وجعله يخرج من مشاهدة المسرحية أو من قراءتها سعيداً مسروراً مستريح البال ناسياً كل ما كان؟

يجب أن يفهم المؤلف أن القارئ ليس طرفا في الموضوع فحسب، بل أنه الطرف الأهم الأعم، إن القارئ هو الحياة ومن واجب الكاتب أن يجعل الحياة - أي القراء - تحارب الجريمة وتضطهدها وتعاقبها وتمحقها رويداً رويداً، وبهذا وحده تتطهر الحياة من الشرور والآثام، وبهذا وحده تتطور الحياة وتتقدم، أما أن يجمع الكاتب بين وظيفة الكاتب والقارئ معاً، فلا يترك القارئ إلا بعد أن يجرده من كل عاطفة ومن كل انفعال، فلا سخط ولا إعجاب ولا ثورة ولا غضب ولا شيء من أمثال هذه العواطف،. . . فإن هذا الكتاب لم

ص: 37

يزد على أنه كان يزجى فراغ القارئ كما يلعب معه الطاولة أو الكوتشينة!. . .

. . . أريد من الكتاب أن يشفي القارئ مما تتركه القراءة بنفسه من غيظ وثورة وموجدة على الجناة والآثمين، فلا يحل القضايا التي يعرض لها حلاً تهدأ له نفس القارئ وتنسى ما قرأت أو شاهدت، بل أريده على أن يحفر في نفسه أثراً عميقاً، وأن يهيج فيه جرحاً لا يندمل إلا أن تتطهر الحياة وتسلم من الأدران والموبقات. . .

فلو أن الأستاذ علي أحمد باكثير - مثلاً - جعل (عبد التواب) معتدياً على عرض (غيداء) أو جعل (مستور) معتدياً على عرض (كوثر) ثم لم يجعل من كل منها معتدى عليه بعد ذلك، بل أبرز أثر اعتدائه على المجتمع وعلى أشخاص المعتدى عليهم - وهم كثيرون غير غيداء وكوثر كالأزواج والآباء والأمهات - والتمس الوسائل الكثيرة لتهييج الناس عليهم، وإثارة حفيظتهم نحوهم، ومطاردتهم أينما وجدوا، ثم تركهم على هذا النحو، لكان أدعى إلى أن تمتلئ قلوب الناس حقداً وكراهية لكل معتد على الأعراض، وتظل ذاكرتهم تختزن ما فعل (عبد التواب) و (مستور)، أما أن يحاول المؤلف أن يؤكد للقارئ أن المقادير ستفعل بالجاني مثل ما فعل، وستتولى هي أن تجعل المعتدي معتدى عليه لا مناص له من ذلك ولا منجاة، فقد أراح القارئ وسره وأفرحه، وأخلاه من كل مسئولية عن مفاسد هذه الحياة!!

وأريد - بعد هذا - أن أقف مع الصديق المؤلف وقفات قصيرة أناقش معه فيها بعض الأمور: -

1 -

فكيف استطاع (عبد الوهاب) - وهو إنسان من لحم ودم وبه غرائز لا سمو الملائكة الأبرار - أقول: كيف استطاع (عبد الوهاب) هذا أن يسمو هذا السمو كله؟ ويتجرد هذا التجرد كله من غرائز البشر؟ فيتسر - أولاً - على زوجته التي حملت من غيره، ويأخذها في رفق وهوادة، أو على الأصح في جمود وبلادة إلى منزله فيها حملها. ثم - ثانيا - يتخذ من وليدها ابنا له، ويقيمه معه في منزله، وما إن يدخل لا منزل كل مرة حتى يحمل بين ذراعيه، ويقبله من وجنتيه، ويقول له: أنت خير من هؤلاء جميعهم أي من أهل البيت جميعاً وفيهم ابنته من صلبه!! ما جعل (أم مستور) لا تملك تفسيراً لهذا إلا بقولها (لعل أهلها سحروه. . لعلهم عملوا سحراً فارتضى هذه الدياثة وسكت عليها)!! ثم - ثالثاً -

ص: 38

يجعل من هذا الولد وريثا شرعياً له مستجيباً في ذلك لتلك الفتوى الفجة المبسترة التي أفتاه بها القاضي (بكار)؟؟

قد يفسر الأستاذ المؤلف موقف عبد التواب هذا بأنه يكفر عن سيئته التي ارتكب، وبأنه يشعر في قرارة نفسه بأنه سبب هذه الجنيات جميعها التي تمخضت عنها جنايته الأولى، وأنا لا أنكر على الأستاذ المؤلف أن لهذا بعض الثر في موقف عبد التواب ولكني أنكر أن يكون الثر نشازاً بعيداً كهذا عن طبيعة الإنسانية التي من أشد غرائزها وأقواها الغيرة على العرض، والحقد على ثمرة زلة المرأة والنفور الشديد منه، وإذا كان الإنسان - الإنسان أيا كان - يضيق بولد المرأة من زوجها السابق وهو حلال، فكيف به مع ولدها من فجورها وهو حرام؟

الحق أن الأستاذ علي أحمد باكثير قد وضع عبد التواب في موضع لا يتفق لإنسان كائناً من كان هذا الإنسان أن يقفه، وجعله في درجة لا تكون إلا للملائكة الأبرار، ومسرحية الأستاذ المؤلف لا تعالج أمور الملائكة وإنما تعالج أمور البشر من أمثالنا الذين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق!

2 -

ومن الظواهر التي يلمسها القارئ في الرواية ظاهرة أحب أن يتجنبها الأستاذ الصديق ما وسعه جهده، وهي ظاهرة (الترشيح). . فهو يرشح لكل حادثة من الحوادث المقبلة بما ينئ عنها ويكشف عن سيرها قبل أن تقع! فالقارئ يحس منذ الفصل الأول بان السلسلة قد ابتدأت! ويشعر بأنها ستدور على واحد إثر واحد! فأم مستور في الفصل الأول تدعو الله فتقول اللهم يا شديد الانتقام انتقم لي منهم فرداً فرداً، (اللهم لا تمت أحدهم حتى تنكبه في زوجته بمثل ما نكب ابنتي (غيداء!) وتقول بعد ذلك لعبد التواب. . (انتظر! الله هو سينتقم منك وسيكون انتقامه عظيماً) وهذا في الحقيقة تصريح لا ترشيح! ومثله أن تقول أم مستور عن ولدها (مستور) - وهي تعلم أنه المعتدي على عفاف (كوثر) - (إنه سيفترق عن عروسه ولم يمض على زواجها غير أسبوعين! كان الله أراد ان ينتقم لكوثر منه!) فمن أين لها العلم بما ستجري به الأقدار فيما بعد؟ ولست أحصي هذه الظاهرة عدا في هذه المسرحية فهي كثيرة منتشرة في أرجائها، وإنك لتجدها في الأمور الصغيرة والحوادث البسيطة، وفي رأيي أنه يجب على المؤلف المسرحي أن ينأى عن الترشيح تماماً فلا يكون

ص: 39

بمسرحيته أثر منه فإنه يضعف وقع الحوادث في نفس القارئ أو المشاهد، ويقلل من أثرها عنده، ويجعلها كالعادة المكررة، ويخليها من الجدة التي تخلب لب المشاهد أو القارئ وتجذب انتباهه

3 -

وفي المسرحية بعض أخطاء لغوية قد لا يؤاخذ عليها المؤلفون المسرحيون، ولكن من كان مثل الأستاذ باكثير حفياً بلغته، قادراً على سلامتها، فإنه يكون منا موضع المؤاخذة! ولست كذلك محصيها ولكني مشير إلى بعضها، فلا يقول - مثلاً - (ص61)(لشد ما كانتا تتلهفان على أنبائك وتترقبان يوم قدومك) واستعمال الفعل (تلهف) بهذا المعنى خطأ مشهور وصواب استعماله للحزن والتحسر، تقول (لهف على الشيء وتلهف عليه) أي حزن وتحسر. وهو يقول (ص90) على لسان (آسية) حيث تقبل على صياح (أسامة) فتسأله (مالك تبكي يا حبيبي؟ هل أحد ضربك؟) والأولى أن تقول (هل ضربك أحد؟) فإن الاستفهام هنا عن سبب البكاء أي عن. ويقول (ص96) على (آسية) مخاطبة (كوثر) عندما استنكرت مجيء (ميمونة) في وقت الطعام. . (هل نسيت أن أهلك لا يؤخرون الغداء مثلنا إلى قرب العصر) واستعمال كلمة (الغداء) في معنى طعام الظهر خطأ مشهور كذلك فإن (الغداء) طعام الغدة التي تكون في الصباح، وعلى هذا المعنى جرى قول الله عز وجل (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)، وهناك بعض الهنات الهينات الأخرى نتجاوز عنها لأننا لم نبلغ الحضر وإنما ابتغينا المثال!

وبعد: فلا يذهبن أحد إلى هذه المآخذ اليسيرة التي أخذناها على صديقنا تغض منه، أو تنال من مكانتهن أو تزحزحه عن مركزه في الصف الأول بين مؤلفينا

فلا والله ما هو عندنا إلا في الصابرين المجاهدين من المؤلفين، وما هو في رأينا إلا من أولى العزم نرقب منهم الخير الكثير

وما كلامنا هذا إلا تحية لجهوده الكثيرة المشكورة، وتنويه بأثره من آثاره الضخمة ما تحسبها تحتاج إلى تنويه

علي متولي صلاح

ص: 40

‌الكتب

البداية والنهاية

قصة للأستاذ نجيب محفوظ

للأستاذ ثروت أباظه

هي الوثبة الأخيرة التي وصل غليها قلم القصاص الكبير الأستاذ نجيب محفوظ صورة صادقة حية جياشة بالحياة عن الفترة التي تمر بها مصر اليوم. . . أخذ نجيب فيها أشخاصه من الطبقة المتوسطة فهي عائلة كان عائلها موظفاً يعيش بالنسبة إلى الحي الذي يقطن به عيشة رضية لا يقلقها المال كل القلق

وتقوم الرواية بعد موت هذا العائل فأسرته بعده في حيرة كبيرة لا يدرون كيف يواجهون الحياة ولا مال لديهم ولا سند لهم وإفرادهم كثر والحال ضنك. كبير العائلة (حسن) شاب لم ينل من التعليم إلا حظ المقل الذي لا يغنى، وأخواه الصغيران طالبان ما زالا في تعليمهما الثانوي، وأخته بنية ليس لها في الدنيا عن قبحها إلا قول أبيها رحمه الله إنها خفيفة الظل. . ولا يبقى بعد ذلك إلا الأم وهي كل شيء. . سيدة حازمة قوية أدركت الموقف وواجهته فلم تنظر إلى ابنها الأكبر إلا نظرة الإشفاق عليه والخزي من نفسها أنها لم تستطع أن تقوم على تربيته قياماً صالحاً، ولكنها لا تفوت هذه النظرة المشفقة الآسفة دون أن تفيد منها عبرة صالحة تنفعها وهي تخطو بوالديها الآخرين إلى طريق الحياة، وهكذا نجد الأم لا تترك شيئاَ دون أن تفيد من. فابتنها تجيد الحياكة وكانت تقوم بها ترويحاً عن النفس فلتقم بها حرفة تكسب منا المال، وولداها يأنفان أن يملأ بطونهما من طعام الغداء في المدرسة فهي تحتم عليهما أن يكتظا من طعام المدرسة فالعشاء قد ألغى نم البيت. وهكذا أخذت تدبر الأمور في تصميم قاطع واثقة أن جلدها لن يتخلى عنها

وسار الأولاد كل في طريقه الملتوي أو السوي. فحسن لا يريد أن يحصل على عمل إلا إذا كان موافقا لمزاجه. . . ومزاجه أرعن عربيد فهو يطوف بالأعمال الهزيلة الواحد بعد الآخ، وتتطوف به البطالة فيلذها حتى ينتهي به المطاف إلى حامي مقهى (بدرب طياب) في أقذر وباءات القاهرة، ولا يكتفي بهذا الكسب بل هو يعمل في تجارة مخدرات ضيقة

ص: 41

الحدود

وأكبر الوالدين يحصل على التوجيهية فتجتمع العائلة لتنظر في أمره ولكنه كان شبيها بأمه وقتياً في نظرته فهو يخبرهم أنه انتوى التوظف ليوفر لهم بعض العيش وأما الولد الآخر وكان يصغره بعام فقد احب جارته. وقد أخرجها الأستاذ نجيب صورة رائعة لفتاة عفيفة من الطبقة المتوسطة، متمسكة كل التمسك بما تسمعه أمها من حكم ومواعظ وأمثال، حتى أن حبيبها لم يستطع أن يصل معها إلا على وعد بالزواج. . ولكنه كان يخشى أمه فهو يخاطب أباها وهو صديق المرحوم أبيه الصدوق. يخاطبه لا ليخطب إليه ابنته ولكن ليرجوه هو أن يخطبه من أمه. . . وتتم الخطوبة وأنف الأم راغم فهي لا تريد أن تخسر صديق المرحوم الذي لا زال منذ مات العائل يواصل الأولاد ويرعى مصالحهم. . .

يخطب الأصغر الفتاة ويسير في تعليمه قدما حتى يصل يدخل الكلية الحربية

وأما الأخت خفيفة الظل فهي ما تزال تخيط الملابس حتى يأتي يوم يغازلها فيه ابن البقال ويعدها بالزواج ثم ينجز الوعد فعلاً قبل أن يسمح بذلك المأذون - ويتركها ليتزوج من أخرى ادعى أن أباه أرغمه على الزواج بها فتثور في وجهه، ولكن ماذا يفيد. . . وتذهب إلى العروس لتخيط لها ملابس الفرح ولكن الغيظ يمنع عنها هذا الرزق فهي تثور بالعروس أيضاً وترمي خطيها أمامها بكل ما تكره خطيبة أن تسمع عن خطيبها ولكنها أبداً لا تبوح بما كان. . . وتمر فترة وهي هادئة أن أحداً لم يكتشف ما اصبح ينقصها فهو لا يكتشف إلا بالزواج وقد يئست منه. . يئست من زيجة مشروعة واحدة فعدلت عنها إلى زيجات متعددة غير مشروعة لا يعنيها إلا أن يكون زوجها فحسب. . ويعنيها أيضاً ألا يعلم عن هذه الزيجات إلا أطرافها الآخرون دون غيرهم. . . ولا بأس بها إن قبلت بعض المال ما دامت ستقوم بالمر وما دامت أصبحت وهي لا تستطيع عن هذا بعداً

والولد الأكبر تاجر مخدرات فهو يستطيع أن يبرر عائلته من حين إلى حين ولا يهم أن تعلم من ابنها شيئاً عن عمله أو هي في الحق تخشى أن تعلم عن عمله شيئاً. والأستاذ نجيب كما سبق أن قلت يحب أن يرسم شخصياته كما خلقهم الله. . . فالشرير مهما بلغ به الشر فيه للخير نصيب مهما قل. وهكذا كان حسن شريراً ولكنه كان باراً بأهله حتى أنه ليعطي أكبر الصغيرين من المال ما يستطيع به أن يسافر إلى مقر عمله وينفق حتى

ص: 42

يصرف له مرتبه، وهو أخاه الأصغر بالقسط الأول من نفقات الكلية الحربية. . . وحين يصبح أخوه ضابطا يأتي إليه ليسأله أن يسير في طريق أكثر استقامة ويبتعد عن الشر الذي يرزح تحته. . . ولكنه يفهمه أن هذا الشر هو الذي صيره ضابطاً، وأن ما يعتقده هو خيراً، ولا فرق بين الاعتقادين وإنما الفارق بين البيئتين، فهو حيث هو محترم موقر، وهو لن يذهب إلى أخيه ولن يحتاجه، وهكذا ينصرف الضابط بعد أن يئس من إصلاح أخيه

وصاحب التوجيهية موظف بطنطا يهم بأن يتزوج من ابنة رئيسه ولكن الأم تدركه فيعدل دون أن تواجهه بالكلمة الصريحة. . فقد كان يحسبه أن تشير لكي يفهم وينفذ

والضابط بعد أن يتخرج ينظر هو إليه فيروعه ما يحيط به من وسط وبيئة ويحقد في نفسه وتثور النار. . فهو ساخط على أخيه ساخط على ماضيه ساخط على حاضره ساخط حتى على عروسه بعد أن تبين له أنه لم يكن يحبها هي وإنما كان يحب أن يقبلها وقد اغتصب منها القبلة فهو لا يريدها، وهو طامح غلى التغيير فهو ينتقل إلى مصر الجديدة، وهو يتلخص من خطيبته بعد خطبة دامت ثلاث سنوات، وهو يتقدم إلى ابنة موظف كبير كان يعطف على أبيه وعليهم من بعدهن ولكن طلبه يرفض فيزداد سخطه

وكم كان نجيب رائعا حين لمس ذلك الحب الذي يكنه أكبر الصغيرين لخطيبة أخيه. . . حب يترقرق دون أن يتبلور. . . يهم بأن يصل من القلب إلى العقل، ولكن عقل الفتى قوي جبار يحبس هذه الهمسة ويكتمها حتى يفسخ أخوه الخطبة فيتقدم هو لخطبة الفتاة، وهو أمام عائلته يصلح خطأ أخيه، وهو يحاول أن يقنع نفسه بذلك أيضاً ولكن الهمسة قد أصبحت صرخة وليكن ما يكون

أما الأخت فإنها تظل تنتقل من رجل إلى رجل حتى يضبطها بوليس الآداب وتحتمي بأخيها الضابط فتكون الطامة. . . لقد كان ثائراً على ماضيها أن كانت تعمل خياطة، ولقد ضاع ماضيها هذا ابنة الموظف الكبير من يده. أفلا يكفيها هذا الأبد أيضاً أن تكون هكذا. . . يحاول أن ينتقم، ولكن أخته كانت مطمئنة لمصيرها هادئة إلى نهايتها. . . إنها لم تكلمه أن ينتقم. . . إنها ستنتحر. . إنها انتحرت

وكأنما أراد نجيب أن يقول لهذا الضابط المتعجرف وأن يقول لأمثاله الذين أكثرت من وجودهم الأجواء العاصفة بنا في هذه الأيام أراد أن يقول (إن كنت لا تصدق أن هناك شرا

ص: 43

من ماضيك وحاضرك فأنظر. . . هذا بعض ما خفي فبعض الإيمان أيها البادئ الصغير)

هذه هي القصة في جملتها محبوكة الأطراف ذات شخصيات رائعة الرسم بريشة فنانة جريئة هي ريشة نجيب. . وليس في القصة من ناحية قوة الشخصيات وروعة الحوار وصدقه. . ليس في كل هذا جديد بالنسبة لما دعونا نجيب

فالحوار إلي يدور بين حسن ورفيقته، وبين الفتاة وأزواجها الذين عرضهم علينا نجيب، والحوار بين الحسن وصديقه الغني وفي غيرها من المواقف. حوار من صميم الحياة بحيث أتساءل كيف تسنى لنجيب محفوظ هذا الصدق. . أتساءل وأحب أن يجيب الأستاذ نجيب عن هذا التساؤل

ليس في القصة من هذه النواحي جديد لأن نجيباً في قصصه السابقة كان قد بلغ القمة التي لا يمكن أن يبلغ إلى أكثر منها. . . ولكن الرائع الجديد أن نجيبا قد تعمق إلى النفس ومزق عنها الأستار في جرأة لم يسبق نفسه إليها، فهذه الخواطر المتناثرة الثائرة بنفوس شخصياته شيء جديد في القصة المصرية. وهذا الكره الثائر بنفس العانس لكل عروس وغير هذا من التحليل العميق، كل ذلك جديد

نجيب. . لقد كتبت عن قصصك السابقة معجباً بها، وأكتب عن قصتك هذه معجباً به، ولن أغلف هذا المدح أو أدور به بل سأظل أقوله صريحاً قوياً لا أخففه بمحاولة انتقاد. . ، إني لأكبر أمام نفسي حين أعجب بهذه القصص وقد قلت يوما إنك ستصبح في القمة الشاهقة التي يعتليها كبار كتاب القصة المصرية. . . واليوم أقول إنك قد اعتليتها. . . أقولها مرتاحاً لما أقول. . . مهنئك بما ارتقيت، مهنئا القصة المصرية بل. راجياً أن يديم الله عليك التوفيق ويديم على قصصك إشراقة الإيمان

ثروت أباظة

ص: 44

‌بين المسموع والمقروء

للدكتور أحمد زكي بك

للأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد

هذا الكتاب القيم مرآة تعكس كثيراً من الظواهر الاجتماعية والخلقية والنفسية لبيئتنا الراهنة. وما يتراءى في مجالنا الاجتماعي والنفسي بقلم الأديب ذي السليقة الفنية، ومنطق العالم صاحب النزعة العلمية، نشعر بالروح العلمية في ذلك الحرص على استخلاص النتائج الاجتماعية والخلقية والنفسية التي تتضمنها الصور. فالفن الذي تضفيه الذاتية الوجدانية لا يستأثر بالمجال بل تساهم فيه روح الموضوعية العلمية في استخلاص الأهداف والكشف عن الدلالات الفلسفية والعلمية. تستطيع أن تستجلي هذه الألوان في كل ما عالجه هذا الكتاب من جوانب، ففي عرضه لظاهرة كظاهرة انتحار في موضوع - ليته درى - يكشف لك عن المشاكل الاجتماعية والنفسية التي يعرض لها المنتحر اسرته، والعقد النفسية التي تهد كيانهم الروحي، وتحطم وجودهم الاجتماعي. فأي مرارة صبها ذلك الرجل المنتحر في كأس حياة زوجته وأولاده، ليته درى؟ أنه ورث أولاده فيما ورث الكفر بالحياة والريبة في أمر أنفسهم. وجنى على زوجته فضاعف أساها وسلبها حتى برد عزاء المعزين. وحال بينها وبي السلوان - فالمرأة المرزوءة في زوجها على الطبيعة، تلقى من الناس فلا تخشى شيئاً. والناس لا يخشون أن يطيلوا لها في الرثاء ويسهبوا، أما المرزوءة في زوجها انتحاراً فتلقى الناس فتخشاهم وتخشى سؤالهم والإكثار، وهم من جانبهم يخشون الحرج فتكون تعزيتهم اقتضاباً وكثيراً ما يكون كلامهم صمتاً. . . وجلست المرزوءة تستعيد ذلك الشريط الذي يحمل ألوان ماضيهم فلا تجد بعد الذي حدث صفاء، ولا تجد لها طعماً. وتلك النكات، وتلك الضحكات، ومظاهر الحب والعطف والفرح في العيش معا لما ستر، والحزن معا لما ساء، كلها ربطت بين الزوج والزوجة روابط لم يعبأ بها الزوج عندما أراد أن يقطعها. . وتسأل الله في أحلامها: لو اتصلت الخيوط والتحمت الشرايين! فيقول الله: ليس على هذه الأرض وصل بعد فصل، ولا التحام بعد قطع. . . ويوقع أولاده في أزمات نفسية عنيفة مستعصية. فإذا تحدث صديقات البنت عن آبائهن فتسكت فلا تطارح الصديقات المتدفقات حديثاً بحديث. ويتحدث أصدقاء الولد عن آبائهم فيسمع الولد

ص: 45

ولا ينطق. تتسع أذنه للألم. وينعقد لسانه عن إفصاح. وفي الإفصاح التنفس من ضيق. وفي الحديث استشفاء من ألم. . . ثم يأخذ في تحليل العوامل النفسية التي قذفت بالمنتحر إلى هوة الانتحار فيقول: قد نشأ هذا الزوج على الفقر. وكان فقراً مدقعاً. في البيت، وعل المائدة، وعند النوم. وظل يمضغ الحياة المسرة سنوات لأنه لم يجد ما يتبلغ به سواها - ثم لانت الحياة وهادنته صروفها فاستعادوا هدوءه فلما تجهم له وجههاً وثارت أعاصيرها وعاد إلى الزوج خوفه القديم. خوف الفقر وخوف الحياة. لم يلبث أن انهارت أعصابه واختل توازنه وخر صريعاً. . .

ويترك زوجته تجتر هذه الخواطر السود!! كيف ساغ عنده أن في وفاء حاجة الجسم غناء عن حاجة النفس. . . وهو لو عاش لكافحنا سوياً كان لنا في الكفاح على الإخلاص لذة فلمن تقول هذا واأسفاه!! والأذن التي تريد أن تسمعها ملؤها التراب. أنه الألم الدائم واليأس الذي رجاء فيه. . .

أرايت أن هناك جانباً من الجوانب لم يطرق في هذه الظاهرة؟ ورأى يمكن أن يستخلص وأغفل؟ وفلسفة اجتماعية أو أخلاقية أتيحت لها الفرصة ولم تقرر؟ بل لقد صور بنضرة بيانه، وحيوية أسلوبه، وغزارة هذه الظاهرة وعلى هذا الأسلوب الفني العلمي تقوم صورة ما قصه الدكتور علينا في هذا الكتاب، فهي نماذج ممتعة للذوق. بفنها وللعقل بسلامة منطقها. وموقظه للوعي الاجتماعي بما تتناوله من مشاكلنا الاجتماعية، فهو كتاب يرشحه لمصاف الأدب الحي اكثر من سبب

محمد عبد الحليم أبو زيد

دبلوم في التربية وعلم النفس ومدرس اللغة العربية بالمدارس

الأميرية

ص: 46

‌ابن الفارض والحب الإلهي

للأستاذ محمد خفاجي

رسالة جامعية علمية، ألفها الدكتور مصطفى محمد حلمي، ونال بها درجة الدكتوراه في الفلسفة من كلية الآداب عام 1940، ونشرتها لجنة التأليف في 326 صفحة. . وقد أعجبت البيئات الفلسفية والعلمية بهذا البحث القيم، ولقى تقديراً خاصاً في الأوساط الجامعية وبين المستشرقين وهو يعد بمثابة فتح جديد في ميدان بحوث الفلسفة الإسلامية والتصوف

والمؤلف رجل جامعي كرس حياته للبحث والدراسة، ويشغلا لآن منصب أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب بجامعة فؤاد

والرسالة حديث عميق عن ابن الفارض الصوفي المصري (576 - 632 هـ)، وسيرته، وحياته الصوفية، وآثاره وحبه الالهي، والمنازع الفلسفية لها الحب، وما مر به من أطوار، إلى غير ذلك من شتى البحوث العلمية الدقيقة عن إمام شعراء الصوفيين، وسلطان العاشقين في الله، وتصحيح معارفنا عنه، والرد على المستشرقين فيما أثاروه من شبه حول صوفيته وحياته

والكتاب فوق روحه العلمي القوي مكتوب بذوق المؤمن وأدب المتصوف. ويلمس فيه القارئ نفحات روحية صادقة بأسلوب بارع، استمدها المؤلف من روحية شاعرنا الصوفي

محمد خفاجي

ص: 47

‌البريد الأدبي

تحية باريس لمعالي الأستاذ العميد:

إلى العميد وارث (العميد)

أزجي تحياتي مع النشيد

هواتف في الشدو والتغريد

وإن لبسن حلة القصيد

حرائر من صنعة التقليد

كأنهن من بنات البيد

لم تنتظم من زهر نضيد

ولم تصغ من لؤلؤ فريد

وإنما من قلبي الودود

ومن دم يجري مع الوريد

النعمة الخضراء طوق جيدي

لقد ملكتم بعدها وجودي

إلى العميد وارث العميد

أزجي تحياتي مع النشيد

باريس حيت فيك يوم العيد

واستقبلت في الشرق صنو (جيد)

المرسل البيان في الوجود

أجمل من موشية البرود

من تالد في رقة الجديد

وطارف في روعة التليد

والباعث الفصحى على التجديد

كشأنها في زمن (الرشيد)

فخورة بعهدها المجيد

عزيزة بملكها العتيد

موهوبة كدولة الحديد

مقصودة كالمنهل المورود

وللبيان دولة في الجود

تزحم في السلطان ملك الصيد

أقلامها خوافق البنود

وكتبها بواسل الجنود

أنعم بها رسالة العميد

وإنها رسالة الخلود

من (طارق) تجري إلى (بيرود)

ومن ربا (الفسطاط) للنجود

علي شرف الدين

باريس

دكتور من جامعة باريس

ملاحظة أم غفلة:

ص: 48

قرأت في العد (941) الرسالة، كلمة بعنوان (ملاحظة على مقال) خلاصتها أني أخطأت الطريق حين نشرت مقالي (سؤال الناس) في الرسالة، لأني وجهت (نصائحي الغالية!) إلى المتسولين المحترفين، وهؤلاء - بالطبع - لا يقرءون الرسالة، ولا يسمعون إلا نداء معداتهم

وكنت أحب للكاتب الفاضل أن يتعمق في فهم المقال وأن يقراه متبصراً، وأن يوسع أفق نظرته في الناس، ولو فعل ذلك لأدرك أن هذا مقال لم يوجه إلى المتسولين المحترفين. وإنما وجه إلى أصناف من الناس، كلهم ممن يحتمل أن يقرئوا الرسالة وغير الرسالة

فجمهور المسلمين الذين يعطفون على هؤلاء المتسولين من المخاطبين بها المقال، وذلك في الفقرات التي أغفل عنها الكاتب فظن أنها وجه إلى السؤال، فعندما أقول (إن العلاج الوحيد هو أن يفهم الناس دينهم على حقيقته) ثم أردفه بالحديث عن الإعطاء، وأن المعطى يجب أن يتلمس صاحب الحاجة، لم أكن اقصد الآخذين، وإنما كنت أقصد المعطين، وأظن أنه لا يحق لنا أن نجرد قراء الرسالة من فضيلة الإعطاء!

وعندما قلت (وهناك جماعة يعيشون على كسب غيرهم، وهم - في نظري - لا يختلفون عن هؤلاء السؤال في شيء) كنت أقصد إلى أصناف من اناس، منهم (مشايخ الطرق) وفي هؤلاء المثقفون، بل والعلماء، بل والمدرسون في الأزهر الشريف، ولعل الكاتب لا يخالفني في ان بعض هؤلاء يجوز أن يقرأ - ولو مصادفة - مجلة كالرسالة

ولو كان الكاتب الآن بجانبي لهمست في أذنه بحقائق مرة، وذكرت له كيف يعيش بعض المثقفين، ولكني أكتفي - دائماً. . في هذه الأمور بالتلميح وإني لأعرف أشخاصاً بأعيانهم يقرئون مجلة الرسالة باستمرار، وهم ممن يعتمدون على غيرهم - وهم قادرون - في تحصيل القوت

ثم ليعلم الكاتب أن مثل هذه المقالات الاجتماعية لا توجه - فقط - إلى المعنى بها، وإنما توجه إلى رجال الحكم ورجال الإصلاح الاجتماعي. وليس بضروري فيما أظن - أن تكتب عيادة الإهداء في أول المقال، على وزير الشؤون الاجتماعية، حين نقصد أن نوجهه إليه

أما قول صاحب الملاحظة (إن المعد الخاوية لا تفهم إلا منطق الطعام) فدليل واضح على

ص: 49

أنه غفل الغفلة الكبرى عن روح المقال، فأنا لما قصد الحديث عن أصحاب المعدات الخاوية، وإنما قصدت إلى أولئك الذين يسألون وهم تجار لا سؤال

وأخيراً اوجه نصيحة غالية أيضاً إلى الكاتب عبد الفتاح الجزار صاحب الملاحظة، أن يفهم أولاً ثم ينقد ثانياً، ولعلها تنفعه فلا يدعونا إلى أن نمسك نصائحنا

علي العماري

1 -

نسبة شعر

جاء في الصفحة (42) كتاب (الشعر العربي في بلاطات الملوك) في صدد البحث عن سعر النابغة أن الأستاذ نسيم نصر مؤلف الكتاب نسب البيات التالية إلى النابغة وهي:

المرء يأمل يعيش وطول قد يضره

تفنى بشاشته ويبقى بع طوال العيش مرة

وتخونه الأيام حتى لا يرى شيئا يسره

كم شامت بي إن هلكت وقال لله دره

وكذلك نسبتها للذبياني صاحب كتاب (الشعراء الجاهليون) الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي اعتماداً على بعض كتب الأدب. والأصوب نسبتها إلى لبيد بن ربيعة حيث نشرها جامع ديوانه مع شعره، وقد طبع هذا الديوان سنة 1905 في أوربا، كما أن البيت الأول كما ذكره صاحب كتاب (الشعر العربي في بلاطات الملوك) ناقص الوزن وصوابه:

المرء يأمل يعيش وطول قد يضره

وهي بشعر لبيد انسب من شعر النابغة. لأن لبيدا من المعمرين الذين سئموا طوال الحياة. كما يقو ل

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وسؤال هذا الناس كيف لبيد

2 -

تصحيح لابد منه:

في العدد 937 من مجلة الرسالة الغراء قصيدة لصديقنا الأستاذ الشاعر محمود فتحي المحروق بعنوان (في لجة الصمت) وجدت فيها بعض الهنات وأحببت أن أشير إليها مع العلم بان قصيدة الشاعر المحروق تستحق الإعجاب. وها أنا أدرج تلك الأخطاء

ص: 50

قال الشاعر:

أنا - يا صمت - لو علمت فؤادا

سادرا في اللجاج ضيع لحنا

وصوابه: أنا فؤاد سادر، لأن (فؤاد) خبر أنا و (سادر) صفة لفؤاد وقال:

ليس في الحياة أي أمال. . فوا خيبة المنى والرغاب

وفي هذا البيت خطأ أولهما في الوزن وأقصد صدر البيت ليس في الحياة أي آما

وثانيهما في فقه اللغة واقصد كلمة (الرغاب) فقد أوردها الشاعر مرادفة لكلمة منى وهي جمع وهذا الجمع خطأ فقد جاء في لسان العرب ما يلي:

إن رغبة بمعنى الأمنية والمطلوب جمعها رغائب ورغبات، أما رغاب فجمع للفظة رغيب ورغيب بمعنى واسع، ومنه حوض رغيب ومال رغيب. قال الرصافي وهو حجة في فقه اللغة وضبط المفردات بالرغم من أنه لا يصل غلى أفق المرحوم شوقي بك في الإبداع الفني:

ألا إن بطنا واحدا أنتج الورى

كثيرون في أفعالهم لرغيب

ووزن هذا البيت هو الخفيف والشاعر الشاب محروق معذور إن جعله زاحفا فقد كان المرحوم جميل صدقي الزهاوي كثير الوقوع في هذا الزحاف الشأن

عبد القادر رشيد الناصري

بغداد - أمانة العاصمة

أول من أمس (لا أمسى الأول)

(حلف الأستاذ عبد الحميد بك علي عطية. . . أمس الأول

اليمين القانونية الخ) هذه عبارة وردت بجريدة الأهرام بتاريخ

11751 وقلما تخلو من مثلها صحيفة يومية أو أسبوعية.

وهي مع شيوعها وانتشارها تخالف ما نقل عن العرب وورد

في كلامهم؛ فقد جاء في (فصيح ثعلب) باب حروف منفردة:

ص: 51

(وتقول ما رأيته منذ أول من أمس. فإن أردت يومين قبل ذلك

قلت ما رأيته منذ أول من أول من أمس)

وجاء في (اللسان) مادة (وأل). (وتقول ما رأيته منذ أمس فإن لم تره يوماً قبل أمس قلت ما رأيته منذ أول من أمس الخ)

فيكون الصواب إذن أن يقال (حلف الأستاذ. . . أول من أمس اليمين القانونية)

أحمد مختار عمر

محنة التواضع

أرأيت كيف تحال الفضائل في الزمن المعوج إلى محن تكاد أن تقارب الرذائل!

أرأيت المجتمع الذي أشكلت عليه الأمور، فجعل بين الأضداد مشاكله!

أرايت التنافي بين الصفات جعل المرء محيراً بين أصالة الخلق وتكلف التخلق!

هذا هو منطق الحياة الأخرس، لكن الناس استنطقوه فكان ذا (نشاز) وشذوذ!

إن التواضع طريق المحبة، ومنهج الألفة، ومشرق الأنس. لكن الناس فهموم فهماً ملتوياً، فألحقوه بالسذاجة، والمطاولة وعدم الاعتبار وضياع الشخصية، والمساواة في الأقدار!

نرى الرجل الفاضل يتبسط في الحديث مع الحاهل السوقي، فيلوى الناقص رقبة ذليله جلس فوقها رأس خغيض فارغ!

ونرى ذا القدر المحاط بالمهابة قد أزال الفوارق لينزل إلى المجتمع، فيجد من كان يتهيبه قد توعده، ومن يباعده داناه وطلب المساواة!

ونرى الكبير يأنس إلى الصغير بدعة طبعه، وصفاء سريرته ولطف معاملته، فنجد الشيطان قد أفرخ في روع غرور القميء انه معه على تساو، وتدفعه وقاحة الجرأة إلى مساجلته ومطاولته!

فليس عجباً - بعد هذا التصوير - أن نسمي التواضع محنة؛ لأنه يجلب إلى صاحبه عنت القحة، وحطة السليقة، ورداءة التربية!

يجب ألا يكون الحصيف (على نياته) حتى لا يطمع فيه الذليل، ويبيح حرمه الرذل الفدم!

ص: 52

الحياة سهلة، لكن ذوي الطبائع المعقدة جعلوها ذات تعقيد! والتواضع بين النظراء تسامح، لكنه مع الأخساء خسة!

نرى أن نحيا في نور المثالية. . . لكنها اليوم ليس لها مثال!

أحمد عبد اللطيف بدر

بور سعيد

ص: 53

‌القصص

الفخ

لوليام سارويان

ترجمة الأديب حسين أحمد أمين

نصب الفخ على النحو التالي:

في قطعة الأرض الممتدة من الشارع (م) إلى شارع (ل) المجاور لمنزل كازاكيان حفر الصبية حفرة كبيرة طولها ست أقدام وعرضها ثلاث وعمقها ثلاث. وذلك بعد أن أوى الجيرات جميعهم إلى منزلهم للنوم. . لكي يقع فيها أبكار بوبكورن وهو أول من يقطع هذه القطعة من الأرض في الصباح الباكر، ولكي لا يشك ذلك الرجل في المر غطوا الحفرة بالورق والأقذار حتى بدت لا تبعث شكاً ولا ربية

وفي الساعة الخامسة والنصف من صباح اليوم التالي أجتمع الصبية خلف منزل كازاكيان ليشاهدوا أبكار بوبكورن وهو يقع في فخ

هؤلاء الصبية هم أرسن وآرداش وكيشميش وباريكوميان وهيج وجورج وأولاد ميلسكونيان وولدا شيمشاميان ويدعيان فاسي وجاز

وفاسي وجاز هما مدبرا المؤامرة. . فقد طارت دجاجتان من منزلهما إلى منزل أبكار بوبكورن فاخذهما أبكار وأنكر رؤيتهما. . لذلك صمما على الانتقام منه

ولم تكن بقية الصبية تعلم شيئاً عن مسألة الدجاجتين ولكنها مع ذلك رحبت بفكرة نصب الفخ لأبكار بوبكورن لكي تشاهده واقعاً فيه

وفي الساعة السادسة إلا الثلث ظهرت امرأة ضثيلة الجسم متجهة في سرعة نحو الحفرة في الأرض الفضاء. . وكان هذا على خلاف ما قدره الصبية؛ لذلك علا وجوههم الوجوم وعقل الذهول ألسنتهم

وأخيراً تكلم كيشميشن موجهاً الكلام إلى فاس شيمشاميان: (أحسب أنها والدتك)

أجاب فاسي: (لا. . إن والدتي بالبيت تصنع الخبز)

قال كيشميشن لجاز أخي فاسي: (أليست هذه أمك يا جاز؟)

ص: 54

أجاب جاز: (بلى. . أنها أمي. . ماذا تصنع هنا في مثل هذه الساعة؟)

وتمتم بقية الصبية بعضهم لبعض: (إنها أم فاسي وجاز)

وهمس هيج: (ألن يمنعها أحد كي لا تسقط في الحفرة؟)

قال فاسي: (لا أستطيع. . إنها ستقتلني إن علمت ما صنعته)

وقال جورج: (بل يجب أن يمنعها واحد منكم. . أتسقط أمامكما في الحفرة وأنتما نتظران أليها؟. لقد حفرناها لأبكار بوبكورن لا لأمكما.)

وقال بوبكورن: (جاز. . يجب أن تسرع فتمنع والدتك من السقوط) أجاب فاسي: (لقد فات الوقت)

وحبس الصبية أنفاسهم كي يلاحظوا مسز شيمشاميان وهي تقع في الحفرة التي أعدوها لأبكار بوبكورن. . ورأوا قدمها تميل بجسمها كله ثم تسقط في الحفرة

وسمعوا صرخة.

لقد كان الفخ محكماً لا يبعث شكاً ولا ريبة. .

وجرى الصبية بأقصى سرعتهم دون توقف. جروا دون وجهة حتى عجزت أرجلهم عن التقدم فوقفوا يفكرون فيما يفكرون فيما يحدث

واتفق الجميع على إخفاء الأمر وأقسموا ألا يتحدث واحد منهم في أمر الحفرة إلى أحد

وهكذا انتهى الأمر

وكانت إصابة مسز شيمشاميان غير خطيرة غير أنها رقدت أسبوعاً في فراشها

وبقيت الحفرة كما هي عدة سنوات دون أن يفكر أحد في ردمها. . وأخيراً ملأها مستر كازاكيان من طمى حديقته. .

وأما أبكار بوبكورن فكان يمر عليها كل صباح في طريقه إلى عمله فكان يقفز من فوقها ثم يتابع السير. .

حسين أحمد أمين

ص: 55