المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 945 - بتاريخ: 13 - 08 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٤٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 945

- بتاريخ: 13 - 08 - 1951

ص: -1

‌1 - في دنيا الشعر:

أنفاس محترقة

للأستاذ سيد قطب

في الجو رائحة تفوح، رائحة شعر، إنها (أنفاس محترقة) للشاعر محمود أبو الوفا، ذلك الشاعر الذي لم نعرفه في حين، لأننا كنا في غفلة عن إدراك حقيقة الشعر في ذلك الحين! كنا نتلمس مخنوقا في ركام (الفكرة) المعتلة الجامدة، أو متقززاً في اللفتة الذهنية البراقة! وكنا نتلمسه في قلب الرواية، لأن ببغاوات كثيرة قالت لنا: إن الشعر لا يكون إلا في هذا القلب. نقلا عن الإغريق والرومان والمحدثين في أوربا! وكنا نتلمسه في وسوسة العبارة، وفي اصطناع الصورة، وفي فرنجة المشاهد، وفي صقل الإيقاعات كما لو كانت ملفوفة في أوراق (السلوفان!)

ودع عنك شعر (الصالونات) وشعر الحفلات، وشعر المناسبات. وشعر الغناء الذي يفرغه بعضهم على الناس. . . فهذه ألوان ليست في حساب النقد، ولا اعتبار لها في هذا المجال! فأما الشعر، الشعر كما هو مجرداً من القوالب والأشكال، طليقاً من ثقلة الفكر ولمعة الذهن، واصطناع المشاهد والموضوعات. . الشعر كما هو طليقاً رفافا طلاقة العطر والشذى فهو ما لم نحفل به كثيراً

ولقد كتبت قبل سنوات أربع تحت عنوان: (آن للشعر أن يكون غناء) في فصل من فصول كتاب: (النقد الأدبي: أصوله ومناهجج) أصور حقيقة الشعر وطبيعته في هذه الفقرات: (. . . إنه الغناء، الغناء المطلق بما في النفس من مشاعر وأحاسيس وانفعالات، حين ترتفع هذه المشاعر والأحاسيس عن الحياة العادية، وحين تصل هذه الانفعالات إلى درجة التوهج والإشراق، أو الرقرقة والانسياب على نحو من الأنحاء)

(ولسائل أن يسأل: أو تنفى الفكر من عالم الشعر أيضا؟ ولست أتردد في الإجابة. إن هذا الفكر لا يجوز أن يدخل هذا العالم إلا مقنعا غي سافر، ملفعا بالمشاعر والتصورات والظلال، ذائبا في وهج الحس والانفعال، أو موشي بالسبحات والسرحات!. . ليس له أن يلج هذا عالم ساكنا باردا مجردا! (ولحسن الحظ أن الإنسانية لا تزال تحمل هذه الشعلة المقدسة، ولا يزال ضميرها يزخر بالمشاعر والخواطر، ولا تزال تهتدي بالغريزة والإلهام

ص: 1

بجانب الذهن البارد الجاف. وهناك لحظات تنفض عنها ذلك السكون البارد والوعي المتقيد؛ وتنطلق رفافة مشرقة، أو دافقة متوهجة، أو ساربة تائهة، أو نشوانة حالمة. . وفي كل اللحظات الفنية الفائقة لا تجد إلا التعبير الشعري، يتسق بإيقاعه القوي، وصوره، وظلاله، مع هذه الحظات الملاء الوضاء)

في هذا العالم الذي وصفت سماته نلتقي بالشاعر محمود أبو الوفا صاحب الأنفاس المحترقة. نلتقي به شاعرا كله شاعر يخلص من اصطناع القوالب، واصطناع الأفكار، واصطناع الأحاسيس، واصطناع التعبير، ويلقانا بروحه كما خلقه الله. يلقانا بلا تكلف ولا تجمع ولا غشاء. يلقانا كما تلقانا الزهرة لتفرغ لدينا عبيرها وعطرها وتمضي! ويحدثنا أبو الوفا عن نفسه وحبه وآلامه ونجواه. . . أو يحدثنا عن الإنسانية والوطن والشعب. . . فهذا هو أبو الوفا الشاعر الغنائي المرفرف، عذب الروح حتى وهو يتجرع صاب الحياة، سمح الخليفة حتى وهو يحرق الأنفاس

استمع إليه يغني (في انتظار الصباح)

جدد لي الأقداح

يا ساقي الراح

على أرى في الراح

أطياف أفراحي

في مزهري ألحان

أخشى أغنيها

أخشى على الأوتار

من حولها ما فيها

يا مزهر الأقدار غن

بها غني

واشرح على الأطيار

ما غاب من فني

لكل يوم شراب

لابد من كأسه

وكل معنى العذاب

في لون إحساسه

من ذا يرد الصواب

للدهر في ناسه

للغاب يا ابن الغاب

اهرب فداك اللواح

تبا لضعف التراب

أغرى عليه الرياح

لولاي في ذا الإهاب

ما هيض مني الجناح

لا تسألوا يا شهود

عن حكمة الأقدار

ص: 2

وأين نحن العبيد

مما وراء الستار

ومن تخطى الحدود

يلقى به في النار

(النار ذات الوقود)

يا رب يا ستار!

ربان بحر الوجود

أدرى بموج البحار

فاستسلموا للوعود

وامضوا مع التيار

هات اسقني يا صاح

كأس الهوى الفضاح

سكران لكن فؤادي

مما يعانيه صاح

يا ليل هل من مداو

يا ليل، يشفي جراحي؟

لم يجد فيك اصطباري

وليس يجدي نواحي

يا هل ترى لي صياح

أم ليس لي من صباح

إنه مطلق غناء. لا تربط بينه قافية واحدة، ولا تربط بينه فكرة جامدة. إنما تربط بينه تلك النغمة المنسابة. نغمة الروح الحزين. العابث. المتطلع. الأليف. الوديع. روح الفراشة البضاء والعصفور والراقص المزقزق الصداح!

ومن هذا اللون والجو قصيدته: من الأعماق:

يا ليل هل ترثي لواجد؟

يا ليل أنت علي شاهد

أشكو الوسائد للمرا

قد، والمراقد للوسائد

وجد أقض مضاجعي

هيهات ينجو منه واجد

بيني وبين هواي أب

عاد نضل بها المراصد

(عيسى) أخوك (محمد)

وكلا كما: تبان وشائد

ما للنصارى في كنا

ئس والحنائف في مساجد!

ما للرواشد ما لهم

لا يصهرون مع الرواشد!

أو ليس آدم واحدا

أوليس دين الله واحد

لم لا يكون الحب وه

والأصل رائد كل رائد

من فك بين عرى القلو

ب وشد من العقائد؟

ومن الذي خلى القوا

رح لعبة بيد الولائد؟

ص: 3

رفقا بأفئدة تحر

ق في المجامر للمعابد

رفقا على الأنف الشكي

م من الشكائم والمقاود

أصبحت من خوف القيو

د أخاف وسوسة القلائد

جعلوا قواعد للحيا

ة هل الحياة لها قواعد؟

يا قلب ويحك فاتئد

يكفي الذي بك من مواجد

من ذا تناغى في دجىالل

يل البهيم ومن تناشد؟

لغة البلابل أين تذه

هب بين هدهدة الهداهد؟!

. . . الخ

فهنا كذلك تفوح رائحة الأسى والعتاب مضمخة بشذى الود والحب. . الحب الذي يلقى به الشاعر الحياة، وهي تفزعه وتروعه، فيغدو فيها كالطائر الحذر المفزع، لا يتم نهله من ري، ولا يأمن لروح من ظل، إلا وهو يتلفت ذات اليميم وذات الشمال

أصبحت من خوف القيو

د أخاف وسوسة القلائد

وهي لمسة فنية بارعة متحركة لحالة نفسية فريدة في بضع كلمات ويبلغ الشاعر قمته في هذا المعنى أو قريب منه، وهو يرسم في قصيدة (ضحايا) تلك الصورة العجيبة، النادرة في شعر الإنسانية كلها، وهو يقول:

أحب أضحك للدنيا فيمنعني

أن عاقبتي على بعض ابتساماتي

هاج الجواد فعضته شكيمته

شلت أنامل صناع الشكيمات

ويبلغ الفن ذروته هنا في توافق الحركة الشعورية للشاعر والحركة الحسية المتخيلة للجواد. وتأخذ الحركة الشعورية في البروز والتجسم بتواكب الحركة الحسية ونبضها، حتى تنتهي بذلك الدعاء الكظيم:(شلت أنامل الشكيمات) فتبلغ ذروتها النفسية والفنية جميعا، وتترك في النفس إيقاعها الشاجي وصداها الحزين

والآن فلنصحب الشاعر في جولة أخرى. (على شاطئ النيل):

الكأس قبلك مرت في فم نجس

وكيف تشرب منها بالفم الطاهر

يا نيل إن لم تطهرها فمعذرة

إن عف عنها، وإلا عافك، الشاعر

ولا أزيدك لم الشاطئين وما

عليهما اليوم من خاف ومن ظاهر

ص: 4

عليهما الأمر يجري حسب ما سمحت

به الرياح ولا ناه ولا زاجر

أقسمت يا نيل - لو تدري - لما التطمت

فيك الشواطئ إلا بالدم الفائر

يا ليت شعري لمن تلك الكروم على الش

طين تسبي القلب والناظر

في سندس من حقول الروض أبسطة

بالدر قد فصلت واللؤلؤ العاطر

كأنها لوحة من عبقر رفعت

في باب عبقر يستهدي بها الزائر

ما أجمل الأفق يبدو في شروقهما

وفي غروبها غب السما الماطر

سرادق الظل في أفواف ظلهما

كأنه أفق فجر غائم سافر

كأنه سحب من فوق مجمرة

قد بات يشملها في كهفه ساحر

قل لي: أللشعب منها غير منظرها

وسقيها أويد الحصاد والباذر؟

إن لم تدر بين أيدينا معاضرها

فما أردت ولا دارت رحى عاصر

قم حطم الكأس أو فاملك مواردها

أو فانس حقك إن الحق للقادر!

هنا تلتقي مواجع الشاعر بمواجع الشعب المحروم، وتلتقي آلامه بآلام الجماهير الكادحة؛ فترتفع نغمة الألم، وتشتد حرارة النفثة، وتتحول شواظا وضراما. ولكن الشاعر يظل يلقاك بروحه الشاعرة، وفنه الأصيل. سواء كان ذلك في تصوراته الشعرية ورؤاه، أم في الزاوية التي يطل منها على المشاهد والمرائي. فلا يسف ولا يجف، ولا يتحول فنه إلى خطابه جوفاء، وليس فيها سوى الجعجعة والضجيج!

وهكذا يثبت أبو الوفا أن الفنان الأصيل يملك أن يغمس ريشته في جراح الإنسانية، ومواجع الكادحين والمحرومين، ثم يبقى مع ذلك فنانا يحس بطريقته الخاصة، ويرسم بيده لا بيد العوام والأمين وهي ظاهرة أحب أن أبرزها هنا، لأن هنالك خلطا في هذه الأيام بين وظيفة الفنان ووظيفة خطيب الجماهير! في الإحساس بالآلام العامة. وفي طريقة التعبير عن هذه الآلام، تختنق في غمرتها روح التقدير الفني الصحيح

وبعد فليست (أنفاس محترقة) كلها من هذا الطراز الفني بطبيعة الحال، ففيها الأنفاس المشتملة والأنفاس الخابية، وفيها المقطوعات التي يصيبها الإعياء سواء في النبض أو في التعبير، وفيها المقطوعات التي يصعب أن تعدها من الشعر أصلا، ولكنني أحب أن أقرر بعد هذا كله أن شعر أبو الوفا (ظاهرة فنية) لها مظاهر قوتها الخاصة، ومظاهر ضعفها

ص: 5

الخاصة. ظاهرة فنية مستقلة تستحق الدراسة في تاريخ الشعر العربي كله ظاهرة نية لم تدرس بعد حق دراستها لأن النقد الفني لم يكن من اليقظة بحيث يلتفت إلى الظواهر الفنية التي تولد بين الحين والحين

سيد قطب

ص: 6

‌2 - مشكلة يهود اليمن النازحين إلى إسرائيل

للأستاذ عمر حليق

تقول النشرة الرسمية للمؤتمر اليهودي العالمي (ومركزه نيويورك) إن الدافع الرئيسي لهجرة يهود اليمن إلى فلسطين هو الاضطهاد الذي لحق بهم بعد حرب فلسطين، والمجاعة التي لحقت باليمن عامة ويهودها خاصة. أضف إلى لك النزعة الدينية القومية التي حفظها اليهود على مر الأجيال وهي (إن نسيتك يا أورشليم فلتشل يداي). هذا نوع من التضليل والدعاية المغرضة التي تشوب تصريحات أولي الأمر في اليهودية العالمية فقد استعرضنا في مستهل هذا البحث ما سجلته دائرة الأبحاث الشرقية في جامعة اليهود العبرية بالقدس وآراء مبعوثي الهيئات اليهودية إلى اليمن من حسن المعاملة التي لقيتها الطائفة اليهودية في اليمن قديما وحديثا. واضطهاد اليهود بدعة تتفنن القيادة اليهودية من أجلها شنت حملة غزو الأراضي المقدسة في فلسطين

والقول بأن في اليمن مجاعة ينفيه أن ما يعرف عن البلاد اليمنية من انتشار الرخاء فيها، فالبلاد اليمنية مزيج من الجبال الشماء والسهول الخصبة تتوف فيها المياه وتنتشر فيها الزراعة من أقدم العصور. وليس في سجل المعلومات عن اليمن أنها أصيبت بمجاعات

أما النزعة الدينية التي دفعت يهود اليمن إلى النزوح لإسرائيل فهي حقيقة لا تنكر. ولكن الذي أذكى نار الحماس اليهودي لغزو فلسطين هو ما أثارته الحركة الصهيونية العالمية في نفوس الجاليات اليهودية في الشرق والغرب من نار القومية اليهودية العنيفة

وليس أدل على لون الخداع والغش الذي يشوب أعمال الحركة الصهيونية من أن هجرة يهود اليمن إلى فلسطين لم تتحقق على هذا النحو من السرعة والإتقان إلا لأنهها كانت وليدة تدابير يرجع عهدها إلى سنين مضت قبل أن تدخل الدول العربية في حرب مع اليهود وقبل أن تولد الدولة اليهودية

وتشجيع الحركة الصهيونية ليهود اليمن على الهجرة غلى إسرائيل هو جزء من الخطوة التي ترمي غلى حشد أكبر عدد ممكن من يهو العالم في (أرض الميعاد) ليزدادوا قوة وعددا ويحققوا برامج بني إسرائيل في إقامة دولتهم في الحدود التي دونتها التوراة: (من ضفاف النيل إلى ضفاف دجلة والفرات. وم طرسوس إلى صحراء الجزيرة العربية) والمهم حين

ص: 7

نستعرض هذه الناحية في قضية يهود اليمن أن نسجل أن عملية قد تمت بنجاح. فقد نقل اليهود الجزء الأكبر من أموالهم (ما خف حملة وغلا ثمنه) ويقول كاتب يهودي زار عدن أثناء اليهود فيها لركوب الطائرات التي نقلتهم إلى إسرائيل - يقول هذا الكاتب (في مجلة كونتري عدد يوليو 1951) إن القوافل اليهودية التي اجتازت حدود اليمن إلى عدن لم تلق أذى أو صعوبة. فلا الحكومة اليمنية وضعت في وجه هذه القوافل العراقيل، ولا قبائل البادية عارضوها، وكل ما فعله المشرفون على هذه القبائل اليهودية أن رشوا بعض المشاغبين مع رؤساء القبائل على حدود اليمن - عدن، فسهل هؤلاء لهم المرور أضف إلى ذلك المساعدة الأوربية التي وفرها حاكم عدن البريطاني أعوانه لحماية هذه القوافل اليهودية في ظل ما له هناك من سلطة ونفوذ

وكانت حين تصل قافلة من هذه القوافل إلى حدود عدن يتلقاها جماعة من يهود أمريكا وبريطانيا كان حاكم عدن البريطاني قد سمح لهم بتنظيم عمليات المعونة والإسعاف والراحة من عناء السفر. ولم تكن هذه القوافل لتنتظر كثيرا قبل أن تجلس في مقاعد وثيرة وفي طائرات ضخمة حديثة من نوع القلاع الطائرة التي وفرتها السلطات الأمريكية الرسمية (للجنة التوزيع الأمريكية اليهودية المشتركة) التي قامت بنقل يهود اليمن إلى (أرض الميعاد). والمشرفون على هذه اللجنة يهود أمريكانيون كان في استطاعتهم التنقل في عدن والسودان والصومال وإرتريا لأنهم من رعايا أمريكا ومن حاملي جوازات سفرها. وقد كلفت عملية نقل يهود اليمن حوالي (65) مليون دولار وهي جزء من التبرعات التي يقدمها يهود أمريكا للحركة الصهيونية - تبرعات مخصومة من ضريبة الدخل الحكومية المفروضة على الرعايا الأمريكان وفي مثل هذه الظروف المواتية نزح يهود ايمن إلى إسرائيل ودفعوا إلى مراكز التجمع لليهود القادمين حديثاً إلى إسرائيل وتكاثر عددهم حتى بلغ عشرات الألوف، ومن هنا نشأت المشكلة (اليمنية) في إسرائيل

أسباب المشكلة:

رأينا من مقدمة هذا البحث أن يهود اليمن كانوا قبل رحيلهم عنها في بحبوحة من العيش والرخاء الاقتصادي، وانهم كانوا ملاكا للأراضي الزراعية وتجارا وصناعا وصيارفة. وبالرغم من أنهم نقلوا معظم أموالهم (الخفيفة الحل الغالية الثمن) معهم إلى إسرائيل لم

ص: 8

تسمح لهم الحكومة اليهودية بالتعامل التجاري أو بامتلاك الأراضي والاشتغال بالزراعة أو التجارة على نحو ما كانوا يقومون به في اليمن

والواقع أن الحركة الصهيونية لم تخدع العالم فقط بل خدعت اليهود أنفسهم. . ومشكلة يهود اليمن مثال لذلك

فقد كانت الدعاية الصهيونية في الجاليات اليهودية في اليمن تزين لهم (أرض المعاد التي تدر لبنا وعسلا) والتي تقام فيها شعائر المذهب اليهودي بدقة تامة. ولقد رأينا أن إذكاء الحماس الديني بين يهود اليمن من أهم الدوافع التي مكنت للحركة الصهيونية وأعوانها في محمية عدن من تشجيع يهود اليمن على الرحيل إلى إسرائيل. وعندما استقرت هذه الألوف من اليهود اليمنيين في (أرض الميعاد) تبخرت أموالهم حين كشفت لهم القيادة الصهيونية عن رغبتها الحقيقية في نقلهم إلى إسرائيل - وهذه الرغبة تتوخى جعل يهود اليمن مصدرا للعمل الرخيص في المصانع والمزارع اليهودية في إسرائيل، إذ أن العامل اليهودي المهاجر من أوربا يصر على أن ينالوا أجرا مرتفعا، الأمر الذي لا يشجع سياسة التصنيع والإنتاج التي تبتغي الدولة اليهودية جعلها أساسا لحياتها الاقتصادية وسياستها التوسعية في الشرق العربي

وغضب يهود اليمن حين اكتشفوا ذلك وسقط في أيديهم لأن أولي الأمر في الدولة اليهودية أصروا على التقييد من حريتهم في التجارة والزراعة والصناعة. ولم تكتف بذلك بل أصرت حكومة تل أبيب - وهي حكومة إلحادية النزعة - على أن يطلق يهود اليمن عاداتهم الدينية، ومنعوا من تربية أولادهم تربية وأرغموا على البقاء في معسكرات اللاجئين وحيل بينهم وبين الدخول في ميدان التجارية والزراعية

ثم جاء دور السياسية الحزبية فزاد المشكلة تعقدا. فليس يهود اليمن وحدهم هم الذين غررت بهم الحركة الصهيونية على هذا النحو، بل إنهم ويهود العراق وشملي إفريقيا وإيران سواء في هذه الخدعة التي تحاول أن تقيد حريتهم في مزاولة التجارة والحرف الناجحة - التي أتقنوها على حساب عرب اليمن والعراق وشملي إفريقيا - لتجعل منهم ذخيرة من الأيدي العاملة الرخيصة النفقات لتسد حاجة المصانع والمزارع التي تديرها الحكومة اليهودية أو الشركات الكبرى التي تمولها رءوس أموال يهود أمريكا وبريطانيا

ص: 9

ومصر وجنوبي أفريقيا. أو ليست الحركة الصهيونية مغامرة اقتصادية سترت بلون من (الروحانية) والقومية اليهودية العتيدة لتحقيق السيطرة على صميم الشرق الأوسط في ملتقى القارات الثلاث؟

قلنا إن السياسية الحزبية في إسرائيل تدخلت في مشكلة يهود اليمن ويهود العراق وشمالي إفريقيا فزادتها نقدا. فلقد كان لأفراد هذه الجاليات ضلع كبير في أعمال الإرهاب والتجسس الذي ساد فلسطين قبيل المأساة. . . وكان من السهل على يهود البلدان العربية المقيمين في فلسطين أن يتسربوا إلى صميم القطاعات العربية لأعمال الإرهاب والغدر. وقد سهل لهم ذلك تمكنهم من العربية ولون بشرتهم وملامحهم الشرقية، والمكر والمواربة التي اشتهر بها يهود الشرق بصورة خاصة. وقد ساء أن تعاملهم الحكومة اليهودية الحالية هذه المعاملة بعد أن أبلوا في سبيل الصهيونية بلاء حسنا. فأخذوا في تنظيم جموعهم والسعي لإزالة هذه القيود التي فرضتها عليهم الحكومة اليهودية واشتدت غطرستهم، وقوى نفوذهم بعد التكتل، وأخذت الأحزاب في سعيها لاستمالة أصواتهم في الانتخابات تشمل الضغينة والحقد فيهم ضد الحكومة القائمة

ويستفاد من الأنباء التي تسربت من نطاق الصهيونية الحديدي في إسرائيل أن يهود اليمن والعراق وشمالي إفريقيا قد ثاروا مرتين خلال هذا العام. . . وفي كل مرة كانوا يحتلون المنازل ودور الحكومة وأماكن الاستراحة الشعبية إعرابا عن استيائهم. وفي إحدى هذه الثورات رجموا البوليس وأصيبوا بعد قتلي وجرحي. ولم يكتفوا بذلك بل إنهم حملوا شيكاتهم إلى معاقل الصهيونية في أمريكا وبريطانيا، ولكن سعيهم ذهب سدى. فصهيونيو أمريكا وبريطانيا من أشد اليهود تفهما لحقيقة أهداف إسرائيل لأن في كيانها منفعة اقتصادية كبرى. . ولن يسعى صهاينة أمريكا وبريطانيا في عرقلة برامج التوسع الاقتصادي اليهودي رأفة بيهود اليمن، والعراق، وإيران، وشمالي إفريقيا أو ليسوا هؤلاء أقرب عناصر الصهيونية إلى العرب لونا وتكوينا؟ وحكماء صهيون الذين خدعوا طوال هذه الأجيال أمكر من أن يتركوا يهود اليمن يفلتون من قبضتهم ترى هل يذكر هؤلاء اليهود الذين وقعوا في أحضان العرب واصبحوا في بحبوحة العيش وحسن الجوار ما قاله المثل العربي (على نفسها جنت براقش.)

ص: 10

عمر حليق

نيويورك

للكلام صلة

ص: 11

‌3 - الصلات الشخصية بالعباقرة

للأستاذ محمد خليفة التونسي

ومهما يكن من شيء فإنه يحق لنا بعد ما قدمنا (الرسالة العدد941) أن نتعبر العقائد سواء أكانت دينية أم سياسية أم فنية أم غير ذلك قيما وخصائص فردية وإن تكن ظواهر اجتماعية، فالدين، مثلا - ووظيفته الهداية والإصلاح - قد يعجز عن إصلاح المفسد وإرشاد الغوي، بل قد يزيدهما فسادا وغواية لأن الدين - ومثله كل عقيدة نوعها - ليس من الإنسان في البيئة التي حولها، أو أنه جانب من صورة هذه النفس، فإسلام النبي محمد صورة نفسه وإسلام عمر صورة نفسه وكذلك إسلام أبي بكر وعلي وخالد ومعاوية ويزيد وأب ذر والحجاج، وكذلك إسلام كل منتسب إلى الإسلام سواء أكان صالحا أم طالحا، كريما أم بخيلا، شجاعا أم جبانا، على اختلاف النفوس في الطبائع والأخلاق والأمزجة والمسالك في مختلف البيئات

فالإسلام مثلا دين واحد من حيث هو نظام معقول، أي من حيث يراه العقل، ولكن صورته التي يمثلها لنا محمد عليه السلام تختلف قليلا أو كثيراً عن الصورة التي يمثلها لنا كل واحد من أصحابه وأتباعه والمنتسبين إليه إلى اليوم، وإن كانوا جميعا مسلمين يسلمون بالمبادئ العامة التي جاء بها الإسلام، وما اختلفت صور إسلام هؤلاء جميعا كل عن الأخريات كما تبدو لكل متأمل إلا لاختلاف طبائعهم وأخلاقهم وأذواقهم وسائر ملكاتهم الخلقية والشعرية والفكرية

كل عقيدة من العقائد، وكل دين من الأديان طبعا - إنما هو نظام واحد من ناحية تعقله ليس غير، ولكنه من ناحية الإحساس والعمل به صور مختلفة متعددة بمقدار المنتمين إليه، وما من سبب لهذا الاختلاف والتعدد إلا اختلاف كل إنسان قليلا أو كثيرا عن الآخرين من حيث الطبائع والأخلاق والأذواق وما إليها اكثر من اختلافهم في الفهوم، وإن كان لاختلافها حظ في اختلاف الصور العقيدية، غير انه حظ ضئيل وقد يكون غير واقع، بل قد تكون العقول متأثرة لا مؤثرة ومسوقة لا سائقة خضوعا للأمزجة والبائع، فلا ترى العقول إلا ما تريها هذه، ولا تعقل إلا كما تشاء لها مما تقدر عليه وتريده وتؤخر ضرب الأمثلة الكثيرة لذلك، وحسبنا هنا مثلا النظر إلى عقيدة القدر لم يكن أحد يؤمن بهذه العقيدة ويتوكل على

ص: 12

الله بكل ما في طاقته من توكل اشد من إيمان النبي محمد عليه السلام، ولكننا لا نجد أمراً من الأمور صغيرها وكبيرها عزم عليه قبل البعثة وبعدها إلا دبره فحزم تدبيره وأحكامه وهيأ له وسائله الدنيوية المألوفة كأشد المفكرين للقدر، وما ترك فجوة في خطة إلا حاول سدها بما بين يديه ومن بين يديه كان ليس لهذه الفجوة سداد إلا عمله وعمل من حوله. وما انتوى أمرا إلا أخطر لبصيرته كل احتمالاته، واستعد بكل أهبة في طاقته من الأهب المادية والمعنوية أشد واكثر مما يستعد لمثلها من لا يؤمنون بقوة غيبية

بينما الإيمان بهذه العقيدة عند الضعفاء الفارغين يدفعهم ويسوغ لهم أن يحملوا القدر أو المجتمع أو نحو ذلك كل مسئولياتهم وسخافتهم ورذائلهم، كأنما حاولوا وبذلوا كل ما وسعهم من حول وحيلة في سبيل أهدافهم، فحال القدر أو المجتمع أو نحو ذلك بينهم وبين ما إليه يهدفون

ولا يقتصر المر في ذلك على العقائد، بل هو عام في كل ما يخضع للإرادة والعواطف والأمزجة كالفنون

فالناس جميعا يؤمنون كل الإيمان بان الموت غاية كل إنسان مهما جل أو هان: وكذلك كان المتنبي وأبو العلاء المعري يعرفان، ويريان الناس وهم يتنازعون أعراض الدنيا ويقتتلون عليها. لا اختلاف على الشاعرين الحكيمين فيما يريان ويعقلان، ولكن هذا ينتهي مما يرى إلى نتيجة تناقض كل المناقضة النتيجة التي ينتهي إليها صاحبه

أبو العلاء المعري يرى ذلك فيزهد وييأس ويعدو الناس إلى الزهد واليأس. يقول:

(تجربة الدنيا وأفعالها

حثت أخا الزهد على زهده)

وله؟ يجيب:

(لو عرف الإنسان مقداره

لم يفخر المولي على عبده

أمس الذي مر على قربه

يعجز أهل الأرض عن رده

أضحى الذي أجل في سنه

مثل الذي عوجل في مهده

ولا يبالي الميت في قبره

بذمه شيع أم حمده

والواحد المفرد في حتفه

كالحاشد المكثر من حشده

وحالة الباكي لآبائه

كحالة الباكي على ولده)

ص: 13

ونحو ذلك، مما بين أن أسباب الزهد في الحياة عنده بل السخرية والتهكم بها إلى أن الفناء مصير كل خير وشرن، وحسن وقبيح

(زحل أشرف الكواكب طرا

من لقاء الردى على ميعاد

ولنار المريخ من حدثان الد

هر مطف وإن علت في اتقاد

واللبيب اللبيب من ليس يغتر

يكون مصيره للفساد)

وكذلك

(سيسأل قوم من قريش ومكة

كما قال قوم من جديس ومن طسم)

فكل عمل يقوم به الإنسان جهد ضائع يتلوه جهد ضائع لا يستحق الأسف

(تعب كلها الحياة فما أع

جب إلا من راغب في زدياد

أسف غير نافع واجتهاد

لا يؤدى إلى غناء واجتهاد)

إلى مئات الأبيات في هذا المعنى ونحوه والأسباب واحدة والنتيجة واحدة

والمتنبي يرى ما يرى، ومن السباب التي يستنتج منها المعري وجوب الزهد ويستنتج هو وجوب الإقبال على الحياة والانغماس في معاركها على قدر الطاقة. فيقول:

(وإذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم)

ولماذا؟

(فطعم الموت في أمر حقير

كطعم الموت في أمر عظيم)

ويقول:

(صحب الناس قبلنا ذا الزمانا

وعناهم من شأنه ما عانا

وتولوا الناس قبلنا كلهم من

هـ، وإن سر بعضهم أحيانا

ربما تحسن الصنيع ليالي

هـ ولكن تكدر الإحسان)

وليس الإنسان ضحية شرور القدر وحده، بل ضحية شرور أخيه الإنسان أيضاً، واتخاذه من كل وسيلة للخير وسيلة للشر

(وكأنا لم يرض فينا بريب الد

هر حتى أعانه من أعانا

كلما اثبت الزمان قناة

ركب المرء في القناة سنانا)

وهل المغنم الذي يجتنيه الإنسان من وراء كل ذلك يستحقه هذا العناء؟ ولا، والمتنبي لنا

ص: 14

ذلك

(ومراد النفوس أصغر من أن

نتعادى فيه وان نتفانى)

وإذن أفتزهد في هذا الصغار أيها الحكيم؟ ذلك ما ينكره المتنبي اشد الإنكار، ويحرمه كل التحريم، ويعتده كفرا:

(غير أن الفتى يلاقي المنايا

كالحات ولا يلاقي الهوانا

ولو أن الحياة تبقى الحي

لعددنا أضلنا الشجعانا

وإذا لم يكن من الموت بد=فمن العجز أن تكون جبانا)

وماذا من العذابات التي نلقاها من مخاوف الموت ووقعه؟

لا داعي للتردد حيالها فهذه أوهام:

(كل ما لم يكن من الصعب في الأن

فس سهل فيها إذا هو كانا)

أو كما قال في موضع آخر:

(فما الخوف إلا ما تخوفه الفتى

ولا الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا)

أو كقوله في غيره:

(والأسنى قبل فرقة الروح عجز

والأسى لا يكون بعد الفراق)

ويكرر المتنبي ذكر الأسباب نفسها في عشرات المواضع من ديوانه، وينتهي إلى هذه النتيجة نفسها كقوله:

لو فكر العاشق في منتهى

حسن الذي يسبيه لم يسبه

يموت راعي الضأن في جهله

موتة جالينوس في طبه

وربما زاد على عمره

وزاد في الأمن على سربه

وغاية المفرط في سلمه

كغاية المفرط في حربه)

وما نتيجة ذلك أيها المتنبي؟

فلا قضى حاجته طالب

فؤاده يخفق من رعبه.

وإذا فليست الغيرة في الحياة بما نرى وما نريد أو لا نريد، ولكن الغيرة بالدوافع والأمزجة فهي التي تحدد المذهب والإحساس والنظر، والمعري والمتنبي كلاهما صادقان فيما يحسان وما يقولان، وكل منهما في كل ما يقول وفي لمزاجه، وفي لمذهبه ودوافعه في الحياة، فلا

ص: 15

تناقض بينهما في منطق العواطف، وإن تناقضا في النظر العقلي المجرد، وإذا كان المنطق العقلي المجرد لا يحتمل أكثر من نتيجة واحدة ومذهب واحد إذا تحدث الأسباب؛ فإن منطق العواطف يتسع لملايين الملاين من النتائج والمذاهب المتناقضة بقدر عدد النفوس العاطفة، ومنطق العواطف أصدق من كل هذا التناقض من كل منطق عقلي مجرد ولو كان أحكم الحكماء

والناس جميعاً في ذلك على نحو المعري والمتنبي كما يظهر من دراسة أحوالهم في كل زمان ومكان.

فيقول طرفة بن العبد على نحو قريب من نحو المتنبي لمن لامه في المغامرة بنفسه في الحرب والإسراف في اللذات

(ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

وإن اشهد اللذات هل أنت مخلدي

إذا كنت لا تستطيع دفع منيتي

فدعني أبادرها بما ملكت يدي)

كما يقول أبو العتاهية على نحو قريب من نحو المعري:

(لدوا للموت وابنوا للخراب

فكلكمو يصير إلى ذهاب)

أو قوله:

(أيلهو ويلعب من نفسه

تموت ومنزله يخرب)

أو قوله:

(بين عيني كل حي

علم الموت يلوح

كلنا في غفلة والم

وت يغدو ويروح

نح على نفسك يا مس

كين إن كنت تنوح

لنموتن وإن عم

رت ما عمر نوح)

أو كقوله:

(ألم تر ريب الدهر في كل ساعة

له عارض فيه المنية تلمع

أيا باني الدنيا لغيرك تبتني

ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع

أرى المرء وثابا على كل فرصة

وللموت يوما - لا محالة مصرع)

وحب النفس مثل آخر لما يتصل بالطبائع والأخلاق والعواطف، فهل يتأدى بنا جميعا إلى

ص: 16

مذهب واحد؟ لا، بل يذهب بالناس مذهبين كل منهما يناقض الأخر كل المناقضة، والأمر فيه كالأمر في القدر، وموقف الإنسان من الحياة، ويلخص لنا المتنبي هذين المذهبين من وراء حب النفس تلخيصا حكيما، ويمهد له، ويعقب عليه، فيقول:

(أرى كلنا ينبغي الحياة لنفسه

حريصا عليها مستهاما بها صبا

فحب الجبان النفس أورده البقا

وحب الشجاع أورده الحربا

ويختلف الرزقان، والفعل واحد

إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنيا)

وأذكر أني قرأت قصة أوربي لا يحضرني الآن أسمه ولا اسم قصته. . تدور حول قسيس رأى امرأة تزل أحيانا، ففكر أن يهديها، وارتحل إلى إيطاليا في أمر وفكر في هدية يهديها إليها بعد عودته، فلم يجد امرأة ميتة، ففرح بها إيمانا منه بأن رؤيتها الجمجمة تذكرها بالموت فترتدع عن غيها، ولكن ما إن سلم إليها الهدية الثمينة حتى رآها تغرق في الفساد وتزداد ضلالا وغواية، وعجب من ذلك إذ رأى من مسلكها عكس ما كان يرجو، فلما سألها عن ذلك أعلمته أن رؤيتها الهدية قبلها تفارقها دون أن تنغمس فيها. . ذلك أنها فكرت فانتهت إلى أنه ما دام مصيرها كمصير هذه الجمجمة فأحر بها إلا تحرم نفسها إرضاء شهوة من الشهوات، وهذه دون شك نتيجة لا تزيد غرابة عن النتيجة التي كان ينتظرها القسيس الأريب وهي تعففها عن الشهوات. نتيجتان ليست إحداهما بأرجح من الأخرى. . ولا أدنى إلى العاطفة والعقل، لأن العبرة في أعمال الإنسان بدوافع حياته وطبيعته ومزاجه وحاجاته وشهواته، لا بعقله ولا بمذهبه الديني والسياسي ولا بما يسره أو يسوءه، فما دينه ولا وطنيته ولا عواطفه ولا أقواله وأعماله وآراؤه إلا صورة نفسه، وكلها معلومات وكلها حتى دينه إنما منزلتها بمنزلة الإناء الصافي من الشراب لا يتلون إلا بلونه، ولا ينضح إلا به

محمد خليفة التونسي

ص: 17

‌خواطر في كتاب الله

آداب السلوك

للأستاذ محمد عبد الله السمان

إن للمجتمع تقاليده، وللسلوك آدابه، ولهذه التقاليد والآداب احترامها، ولا يحاول الشذوذ عنها إلا أولئك الذين نكبوا بقصور في عقولهم، وسقم في ألبابهم، وعتو في تفكيرهم

وتربية القرآن النفس على مراعاة المجتمع وآداب لسلوك فيه تقديرا وإكبارا له - ولا جدال في أن العجب لآخذ منك مأخذه حين ترى القرآن يلم بهذه الآداب دون أن يغادر منها صغيرة ولا كبيرة، محاولا صقل النفس بالذوق السليم وطبعها بالطابع المحمود

فالجالسون يجب عليهم أن يتفسحوا في المجالس ليجلس القادمون، وينهضوا وقوفا إذا لم يكن هناك أماكن لجلوسهم، لأن الذوق السليم والمروءة تقتضيان هذا وتحتمانه عليهم:

(يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فأفسحوا يفسح الله لكم، وإذا قيل انشزوا فانشزوا، يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات. . .) والزائرون يجب عليهم الاستئذان قبل الدخول، والتسليم إذا أذن لهم - كما يجب عليهم المبادرة بالرجوع من حيث أتوا إذا لم يجدوا أحدا، أو وجدوا ولكن لم يؤذن لهم، وذلك أصون لكرامتهم وعورهم، واكرم لشرفهم ومروءتهم:

(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون - فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا، هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم)

والخدم والأطفال يجب أن يكون لاختلاطهم بالنساء والفتيات حد داخل البيوت، وإن كانت المصلحة تقتضيه، فأوقات النهوض من الفراش، والإواء إليه أوقات دقيقة قد تكون كل من المرأة والفتاة فيها بحالة لا يحسن رؤيتها عليها:

(يا أيا الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانهم والذين لم يبلغوا الحلم منك ثلاث مرات: من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم، ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن، طوافون عليكم بعضكم على بعض، كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم)

ص: 18

ويعيب القرآن سلوك الذين يتهاونون في مروءتهم، ويتحايلون في أن يدعوا إلى الموائد، فتراهم يتربصون بالأطعمة، فإذا ما تم نضجها تعللوا بالزيارة وغيرها، وسهموا في تناولها. وليتهم يقفون عند هذا الحد، ولكنهم يأبون إلا أن يقاسموا أهل البيت أوقاتهم مستبدين بها، غير مبالين بأن في هذا إيذاء لهم وإهانة لأنفسهم:(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا طعمتم فانتشروا، ولا مستأنسين لحديث. إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم، والله لا يستحي من الحق. . .) وليس من أدب السلوك ولا من حسن التصرف أن يأتي الإنسان البيت من ظهره، فإن في هذا قلبا للأوضاع ولا أن ينادي أهل المنزل من وراء الحجرات، فان فيه إحراجا لشعورهم واستخفافاً بأقدارهم:(وأتوا البيوت من أبوابها - إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم.)

ومن الفظاظة التي يمجها الذوق السليم أن لا يحترم المرء من يكبره مقاما أو سنا وعلماً، فيرفع صوته فوق صوته، ويناديه مناداة فيها كثير من التهاون، كما ينادي إنسانا عاديا:(يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم - لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا. .) ومن الفوضى أن تهاون الإنسان في آداب الاجتماعات، ومن أهم آداب الاجتماعات الاستئذان من الرئيس، والشذوذ عن الإجماع، وانتهاز غفلة الرئيس للهرب من القاعة متسلالا، ولا سيما في الاجتماعات المهمة التي تتعلق بشؤون الأمة وحياتها:(إنما المؤمنون الذين آمنوا باله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامعه لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم - قد يعلم الله الذين يتسللون منك لواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)

وللحديث آداب يجب أن تقدر، والاستهانة بها مما يجعل المستهين مستهيناً في نظر الناس. وليس من آدابه في شيء أن يأخذ بعض الجالسين من المجلس، فيتحدثوا سرا بما شاءوا أن يتحدثوا، فتدب الفوضى في الحديث، كما يدب القلق في نفوس الكثير:

ص: 19

(إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا، وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون)

وما أهون أولئك الذين لا يؤمنون بآداب السلوك في الشارع، فإذا سار أحدهم أمال خده تكبرا، وإذا مشى اختال في خطواته عجبا، ولم يقصد في مشيته ولم يغضض من صوته:

(إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا - ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا، إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)

وما أعجب أولئك الذين لم يحفلوا بآداب الأخوة الإنسانية وخيل إليهم أنهم فوق الناس وأسمى منهم، وهان عليهم أن يسخروا من البعض. ويعيبوه ويستخفوا به حتي في مناداته، فتراهم ينادونه بالألقاب التي تسيء إلى نفسه وإنسانيته:

(يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. .)

والأخوة الإنسانية تفرض على الإنسان تحية أخيه عند لقائه كما تفرض على الآخر رد التحية بخير منها، أو على الأقل بمثلها. . وذلك ضمان لبقاء الرابطة متينة قوية:

(وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها، إن الله كان على كل شيء حسيبا)

للحديث صلة

محمد عبد الله السمان

القاهرة

ص: 20

‌مع شوقي الخالد:

مسرحية مصرع كليوباترا

للأستاذ حسين كامل عزمي

مقدمة:

المشهور أن المسرحية فن غريب على الأدب العربي والنقد الأدبي الحديث منوط به البحث عن سبب هذه الظاهرة، بخاصة إذا عرفنا أن الأدب المسرحي في أصيل الآداب العالمية، ففي أدب اليونان القدماء نجد المسرحية مكتملة العناصر إلى حد كبير حتى أن أسس المسرحية التي وضعها أرسطو في بحثه في الفن، كانت - ولا تزال - من عمد الفن المسرحي. .

وتاريخ الفن المسرحي الحديث في مصر لا يزال في حاجة إلى تأريخ مدون. . . ولعل أقرب تاريخ لهذه الحركة الحديثة هو مقدمة مسرحية (أوديب) لتوفيق الحكيم. . ومنها نعلم أن المسرحية الحديثة قد بدأت معتمدة كل الاعتماد على الآثار الفنية للمسرحين: الفرنسي والإنجليزي. . . وخاصة آثار القطبين: موليير وشكسبير. .

وإن كان المصريون وقد شاركوا فيها متاخرين، فإن مشاركتهم تلك كانت تأثرية لا فنية، كما اعترف الأستاذ الحكيم في مقدمته السالفة الذكر

بيد أننا نستطيع أن نلمح حركة تسعى نحو التقدم بفضل جهود ركني المسرح المصري الحديث من الفنانين الأدباء، ونعني بهما شوقي في مسرحياته الشعرية، وتوفيق الحكيم في مسرحياته النثرية. . . ملاحظين أن فن الحكيم في المسرحية أثبت قدما، فمواطن الإجادة عنده نراها متميزة جلية، في حيوية الشخصيات وفاعلية الحوادث، ونبض الجو بالحياة، والقوة التأثيرية الكامنة في الحوار. .

كذلك نلاحظ أنه - أي الحكيم - لا يعتمد اعتمادا كليا على التراث التاريخي في مسرحياته، كما فعل شوقي. . .

1 -

طبيعة الحوادث:

الفصل الأول - المنظر الأول: يبدأ بنشيد شعبي، المقصود منه شيئان: أولهما التمهيد

ص: 21

للحديث عن الحركة الوطنية (بين حابي وديون وزينون)، وثانيهما التلميح إلى وفاء شرميون للملكة. . . وإذن فقد وفق في الإفادة من هذه الحادثة، وبعد ذلك تظهر هيلانة. فيمهد شوقي في كلمة لامحة من حابي، لعاطفة الحب التي استغلها في توضيح جانب عاطفي من الملكة، وجانب الوفاء من هيلانة للملكة. . ثم همس زينون لنفسه وتجاذبه أطراف الحديث مع حابي، والتمهيد من هذا للإيحاء القوي، الذي أراد شوقي أن يبسطه على الجمهور، فهو كما سنرى يحاول أن يضع في شخصية الملكة شيئا يشبه المغناطيسية الجنسية، ابرز تعلق زينون - وهو شيخ - بها. . . ثم افتتان حبرا الساحر بفتنتها، حين تغني بجمالها وتغزل. . بدلا من أن يرجم لها بالغيب. . ناهيك عما صوره من وله أنطونيو بها. . . مما لا مزيد عليه، ثم عطف أونبيس بعد ما أبدى بغضه، وشدة إخلاص وصيفاتها، وشاعرها، ومضحكها. . . حتى لقد كان شوقي أن يخلق لنا دراما أخرى في طيات الدراما الأصلية ليحقق هذا الغرض - غرض وصف إخلاص خدمها لها - ونقصد به، أي بالدراما الأخرى، انتحار هيلانة، رغم وجود عاطفة بينها وبين حابي. . ولكنه استدرك استدراكا - ليته ما استدركه - فلقد تخبط فيه بعد أن حله بمعجزة. . .! (معجزة حقة النجاة التي أعطاها أوبيس لحابي حتى تنجو هيلانة بعد ذلك. .) ويكفي هذا المنظر لنعلم إلى أي حد كان شوقي حريصا على أن تكون الحادثة التي يردها مؤدية إلى أهدافها التي يرمي إليها، فطبيعة الحوادث كانت منتقاة خاصا، في شيء كثير من الاصطناع والتعمل، الأمر الذي يبعد المسرحية عن الجو الواقعي الطبيعي إلى حد كبير. .

زد على هذا الخطأ الذي ارتكبه في اعتماده على المعجزة كما قدمنا

ب - طبيعة الحوار:

يتميز الحوار في مسرحية كليوباترا بقوة في واقعيته وطبيعة تكوينه حينا، ويضعف في واقعيته وطبيعته حينا آخر. . ومرد هذه الذبذبة بين القوة والضعف شيء واحد، وهو تمكن شوقي من ناصية النظم. . .

إذ أنه عندما يستهويه معنى من المعاني يخرج عن طبيعة الحوار، إذ يغربه ذلك بالاسترسال، فيطيل إطالة غريبة شاذة عن الواقعية في فاعلية الحوار، وحركته الجدلية الطبيعية، وتجاوبه المألوف. . خذ مثلا حوار أوروس وانطونيوس ابتداء من ص 58، فإن

ص: 22

مشاركة أوروس في الحوار لا تتعدى خمسة أبيات على حين أربت أبيات انطونيوس على السبع صفحات. . . لا لشيء إلا لأن شوقي يريد أن يفرغ جعبته من الألفاظ الحربية المستمدة من الثقافة العربية الصرفة، غير بال بخرقه لقواعد المنطق السليم فيما يكون بين المتحاورين. . . على حين أنه - كما قدمنا - كان يمتلك ناصية الحوار حتى ليصل به إلى قوته الواقعية بنفس الملكة - ملكة النظم. . .

فنراه مثلا يدير دفة الحوار في سرعة، وتجاوب، وتفاعل. . . فلا تزيد العبارة عن لفظة، ويكتمل المعنى في كل ذلك، ومثلنا على ذلك الشواهد التالية:

يا ابنتي ودي هلما زيناني للمنية

غسلاني طيباني بالأفاويه الزكية

ألبساني حلة تعجب أنطونيو سنية

من ثياب كنت فيها أتلقاه صبية

ناولاني التاج تاج الشمس في ملك البرية

وانثرا بين يدي عرشي. . الرياحين البهية

. . . إنما نرى أن شوقي قد ركز شاعريته على الفصل الرابع فهو قد كان يعلم - وهو الشاعر المقتدر الأريب - مبلغ تأثير خواتيم الأحاسيس في النفوس

لقد كان يعلم أنه - لا بريق الفظ ولا رنين الجرس، ولا تصوير عظمة الملك. . . بأدوات كافية لإثارة العطف على البطلة. . وإنما يحدث هذا التأثير تصوير جوانب الضعف الإنساني

ج - لمحات نفسية:

ج - الفنان الذي يقدم للمسرح إنتاجه مطالب من الوجهة النفسية بشيئين:

أولهما: الفهم العميق للحركات النفسية لأبطال مسرحيته، وثانيهما التنبه لمواد التأثير في نفوس النظارة، الذين يتلقون هذه المسرحية بما يتفق والغرض الذي يرمي إليه من إثارة نفوسهم. . . وبمعنى آخر، فيما يتصل بموضوعنا. نريد أن نقول إن شوقي مطالب - إلى جانب فهمه لشخصيات أبطاله - بأن يوجه أدوات التعبير وجهة تأثيرية قوية، على من يطمع في رضائهم عن أبطاله، بما يحقق هدفه. . . وهدف شوقي في هذه المسرحية، فيما

ص: 23

يبدو، هو تبرئة ساسة كليوباترا. . فكيف تأتى له ذلك. .؟

لقد اهتم اهتماما واضحا جليا بمس الجوانب الأنسانية من شخصية البطلة. . جعل لها بريقا. . ثم أطفأه. . وإن (المصائب المنزلية، والحوادث الاجتماعية لا تدهشنا حقيقة كما تدهشنا مصائب الملوك، ومخاطر الأبطال، وحوادث القصور. . ولكنها تؤثر فينا كل التأثير، لاتصالها بنا، واقترابها منا. .) كما يقول أستاذنا المتمكن الزيات بك في بحثه الفريد عن الرواية المسرحية في التاريخ والفن

لقد بث شوقي في تضاعيف شخصية البطلة كل ما يمكن بثه من خصائص الأنثى الجذابة المحبوبة العاطفية، ثم بالغ في لمس حياتها الحزينة، التي تستثير العطف والرثاء. . . فقد بدأ الفصل الرابع، واستلهم أسلوب المفاجأة العاطفي (الرومانس) وأجرى على لسان كليوباترا صرخة المرأة التي سلبت حبيبها، وتفردت بالألم. . ثم أجرى حديثا بينها وبين وصيفتها، ليس فيه شيء مما يكون بين السيد والمسود، فتركها إنسانة مجردة من كل شيء إلا من إنسانيتها. . . ثم صور أسى العظيم المهزوم حين تسمع كليوباترا دبيب حارس الأعداء فتقول إنه (معربد الخطو من نشوة النصر لا تسع الأرض رجليه من كبر) حتى إذا حادثها الحارس صانعته في غي كبر الملك، ثم تلتفت إلى وصيفتها قائلة:

يا شرميون تعلمي الدنيا ويا

هيلانة اختبري الزمان القاسي

إن التي حرست بأبطال الوغى

باتت تصانع سفلة الحراس

حتى إذا ما جاء حابي صالحته مصالحة الإنسان للإنسان، لا مصالحة الملك لفرد من الرعية، تقول:

وفيت لي حابي ولم تكن تفي

ثم تتلطف مع خادمتها فتقول للوصيفتين:

يا خادمي، بل ابنتي، تلطفا

في البحث حتى تاتيا بإياس

وتقول:

يا ويح صحبي بعد طول سرورهم

قعدوا إلى أحزانهم يبكون

وتقول:

أنشو. . يعز على إنك ساهم

يبدو عليك الهم والتفكير

ص: 24

البقية في العدد القادم

حسين كامل عزمي

السويس

ص: 25

‌4 - رحلة إلى ديار الروم

السيد مصطفى البكري الصديقي

للأستاذ سامح الخالدي

الشيخ بستسكري محلا في المركب، وشروعه في السفر إلى مصر بحرا:

(وبت ليلة الجمعة في (قاسم باشا) لدى صيدقنا الحاج محمد اليالقجي، لدعوة سابقة لجل حضور زواج ابنته، ثم بت ليلة السبت لديه أيضا لخلوصي في مودته، واستكرينا محلا في المركب المسافر لديه، وكانت هاتان الليلتان باجتماعنا بالوالد السيد محمد عقود اللبثين واخبر في الليلة الأولى أن بعض الناس دخل في بغاز الأندلس لمدائن لا تحصى، وعاين فيها غرائب لا تستقصى، وحدث بما لم يسمع وفي الكتب لم يودع، وان رسالة العرائس، وشرح الصلوات البشيشة المسمى بالروضات العريشة نقلت منها الطائفة الحناينية نسخا كثيرة وكذلك الابتهالية التي مطلعها (يا رب بالذات العلية)

(وفي الليلة الثانية كانت المذاكرة في الكنز المطلسم والاسم الأعظم، وكنت أسمعته الكتابة التي كتبتها في الجزء الثاني، من (شرح الورد السحري) الرباني على الاسم الكريم فقال لم يبق في هذه السطر القليلة، ما يحتاج لذكره إلا ذكرته بعبارة قصيرة غير طويلة، وأسمعته في ذلك المجلس النبوية المسماة (بجريدة المآرب، وخريدة كل شارب) فقال لم أر فيها رأيت صلوات أجمع منها فإنك ذكرت فيها الآل والأصحاب، والخلفاء الأنجاب، والمجتهدين الأقطاب، والختم وأعوانه الأنساب

وبت عنده قبل هذه الجمعة ليلتين، طيبتين، وحدث فيهما من أخبار الخليفتين، الممهد والمهدي الأنورين والأفخرين. وفي ليلة الاثنين دعانا مصطفى بن كشيش للعشاء عنده صحبة الوالد، ثم ودعنا الداعي بعد المبايعة)

(وسرنا معه (أي الداعي الحاج مصطفى بن كشيش) وبعض المحبين إلى البحر وبتنا في المركب بعد الودع بليلة متسعة وجاءنا في الصباح الأخ الملتاح الشيخ ذروق، والحاج مصطفى المشوق، والأخ الشيخ عبد الوهاب التميمي الخليلي، وغيرهم من أحباب، وجاءني تابع ابن العم الملا محمد بالمقامة الشامية والمغربية السامية، وطلب الاندراج في سلك أهل المعراج، فأجبته لطلبته، وأسعفته برغبته)

ص: 26

الشروع في السفرة البحرية - من الأستانة إلى الإسكندرية:

(وسرنا قبيل الظهر من (بشك طاش) إلى (قوم لي) والعقل من الفراق طاش، وبتنا في أكنافة وقد حفنا الله بالطاقة، ووجهنا دفة الانكسار إلى ناحية (بغاز حصار) وأقمنا الثلاثاء والأربعاء، وفي الإقامة نرجو السلامة لما الفؤاد وعا، ورحلنا عند يوم الخميس متوجهين إلى مسامته جزيرة (ساقز) ولم نقف عندها حتى أتينا (أستن كوي) وقاربنا حداها وأقمنا لدى (قره باغ) ثلاثة أيام، وسرنا في اليوم الرابع من خلف (رودس) بسلام، ودخلنا الإباحة ونحن في بسط وراحة، ودارك المولى بالعناية ومن بفضله بالرعاية، فطوى شقة المشقة الطويلة وجاد بإمداد مآثر جميلة. وكان صديقنا المجد السعيد الشيخ خليل أفندي أبو سعيد، مفتى الديار المقدسة حالا، أصلح الله منا ومنه مآلا وحالا، ممن نزل في المركب المذكور، طالبا المنزل المعمور، وصحبته الشاب النجيب الحميم السيد إبراهيم نجل المرحوم الشيخ موسى الفتياني منح التداني)

(وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين من شهر رجب وصلنا الإسكندرية المحروسة ذات الوهب ولما وصلناها وحللنا فناها جاءنا أرباب المكس (الجمرك) والنكس، الذين قرب زوالهم دون لبث ومكث، لأنهم أهل وعقد ونكث، وفتشوا الأثواب ورموا البعض على التراب، فتغير الفؤاد، من فعل هؤلاء الأوغاد معنا ومع جملة العباد، ورجونا الولي الجواد بدفع هذه الأنكاد، عن أمة الهدى والرشاد، وتقريب زمن الإسعاد، بظهور نورد ممهد البلاد والأغوار والأنجاد، بجاه سيدنا محمد سند الأفراد وآله وصحبه الأجواد)

وصف الرحالة الأندلسي أبن جبير (لجمرك الإسكندرية) قبل

الشيخ البكري بخمسمائة وسبعين سنة!

لعل من الطريف أن نأتي هنا على ذكر ما قاله ابن جبير الرحالة الأندلسي، على جمرك الإسكندرية، فنرى أن الحال لم تتغير كثيرا في معاملة الوافدين على ثغر الإسكندرية، مع اختلاف العهدين:

قال أبن جبير في رحلته طبعة 1326. ص - 7 (شهر ذي الحجة من السنة المكورة (578 هـ 1182 م) أوله يوم الأحد ثاني يوم نزولنا بالإسكندرية، فمن أول ما شاهدنا فيها

ص: 27

يوم نزولنا أن طلع أمناء إلى المركب من قبل السلطان بها، لتقييد جميع ما جلب فيه، فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين واحدا واحدا وكتبت أسماؤهم وصفاتهم وأسماء بلادهم وسئل كل واحد عما لديه من سلع أو ناص ليؤدي زكاة ذلك كله دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو لم يحل، وكان أكثرهم متشخصين لأداء الفريضة لم يستصحبوا سوى زاد لطريقهم فلزموا أداء زكاة ذلك دون أن يسال هل حال عليه حول أم لا، واستنزل أحمد بن حسان منا، ليسأل عن أنباء المغرب وسلع المركب، فطيف به مرقبا على السلطان أولا ثم على القاضي ثم على أهل الديون، ثم على جماعة من حاشية السلطان، وفي كل، يستفهم ثم يقيد قوله: فخلى سبيله، وأمر المسلمون بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم وعلى ساحل البحر أعوان يتوكلون بهم ويحمل جميع ما أنزلوه إلى الديون فاستدعوا واحدا واحدا وأحضر ما لكل واحد من الأسباب، والديوان قد غص بالزحام، فوقع التفتيش لجميع الأسباب ما دق منها وما جل، واختلط بعضهم ببعض وأدخلت الأيدي إلى أوساطهم بحثا عما عسى أن يكون فيها ثم استحلفوا بعد ذلك، هل عندهم غير م وجدوا لهم لا؟ وفي أثناء ذلك هب كثير من أسباب الناس لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام، ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم، نسأل الله أن يعظم الآجر بلك، وهذه لا محالة من الأمور الملبس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين، ولو علم بذلك على ما يؤثر عنه من العدل وإيثار الرفق لأراك ذلك، وكفى الله المؤمنين تلك الخطة الشاقة واستردوا الزكاة على أجمل الوجوه، وما لقينا ببلاد هذا الرجل، ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الأحدوثة التي هي من نتائج عمال الدواوين). انتهى ابن جبير

الشيخ البكري يزور الإسكندرية

ولنرجع الآن إلى الشيخ البكري فإنه بعد أن قاسى على أيدي أرباب المكس في الإسكندرية ما قاسى يقول:

(واجتمعنا بالصالح الفالح الذي على الفضائل حاوي، الشيخ مصطفى الشعراوي، خطيب سيدي عبد الله المغاوري فأنزلنا داراً قريبة من داره، فقر بها قراري، وكان رفيقنا السيد إبراهيم الفتياني هو المعرف والدليل للمنزل الثاني)

(وفي يوم الثلاثاء ضحوة النهار توجهت إلى زيارة رجالها الأخيار، فأول من زرته منهم

ص: 28

رضى اله تعالى عنهم، جناب سيدي عبد الله المغاوري، ثم زرت الموازيني ونزلت لدى سيدي محمد شرف الأبو صيري وصليت ركعتين، وزدت بعده جناب سيدي الإمام أبا العباس أحمد بن عمر الأنصاري، خليفة الأستاذ الملاذ الولي، سيدي أبي الحسن على الشاذلي، وزرت ضريحا لصيق ضريحه الطيب المهاب، يقال إن فيه من له إليه انتساب، ثم توجهت على الأقدام لزيارة سيدي ياقوت العرشي، ثم زرت سيدي مكين الدين الأسمر الأزهر، والأنور الأبدر الأقمر، وغيرهم من سادات أعيان

(وفي صحوة يوم الأربعاء توجهت لزيارة رجال العتيقة فرأيت آثار سورها مهدمة، كادت تكون منعدمة، ونرجو لها العمار وتشعشع الأنوار في تلك الديار، فإن آية ليل محاسنها محيت بها والدمار، حتى كأنها لم تكن في سالف الإعصار، وذهبنا إلى جامع العطارين، وزرنا المصحف العثماني، وزرنا الشيخ عبد الرزاق الوفائي، والشيخ علي البدوي والشيخ مفرح وأبو غزالة، والشيخ جابر والشيخ يعقوب والشيخ صفوان والشيخ العجمي، والصوري والفتياني؟ وجامع العطارين الثاني، وغيرهم من أرباب تداني وأصحاب تهاني)

في مدينة رشيد:

(وفي يوم الخميس توجهنا صحبة أصحابنا من كل رئيس نحو (رشيد) التي ساكنها رشيد، وصلينا الظهر لدى الجبانة، وزرنا الشاطئ رفيع المكانة، وقطعنا المعدية ليلا بعد اللتيا واللتي، وسلمنا على تلك المعاهد وبتنا مع مفتينا السابق، الذي للمحامد يسابق، في الوكالة وبعد صلاة الصبح توجهنا نحو (رشيد) مستمدين من أهلها السادة أهل المكانة والجلالة، في (وكالة الباشا) وفي الطبقة العالية مع رفاقنا أهل المراتب الغالية، وحصل بعض مطر، منع من زيارة ساداتها أرباب المقام الأعظم، ثم أنا في ظهر يوم الاثنين المبارك توجهنا صحبتهم في معاش في المسير نتشارك، ونزلنا إلى زيارة الشيخ محمد أبي العباس الباني مرتبة التداني على أساس، وصليت لديه الظهر جامعاً للعصر مقلداً للأمام ابن إدريس رفيع القدر منيع النصر، ثم أهديت بقية رجالها الفواتح كالمحلاوي وأبو الريش والعرابي وسكان كوم الأفراح ولما سامتنا الشيخ أبا منصورة قرأنا له الفاتحة، وما زلنا إلى الساعة الرابعة من الليل باللبان نسير، إلى أن وصلنا بمعونة الكبير إلى مساواة (محلة الأمير) ولم ننم إلا اليسير، خوفاً من طروق سراق، لهم باع فيه الغير فاق، واخبرنا أنهم ربما هجموا على

ص: 29

المعاش والتجأنا إليه في رد كيدهم في نحورهم، وجدنا في الصباح أقاح برد حادق، يرد الغرزان من الغلمان إلى مرتبة البوادق، وكنت وضعت في البحر المالح ورداً يناسب استعماله فيه وللحلو صالح، ووسمته (بالجوهرة الثمينة. . فيما يقول راكب السفينة)

(ومررنا ضحوة النهار على سيدي محمد الهلابي ودفينه والشيخ يوسف المغربي، وسيدي علي الخزرحي، وسيدي عبد الوهاب أبي مخلوف والشيخ عامر والبهيسي، فقرأنا لكل منهم الفاتحة وهاج عند الظهر ريح في وجهنا شديد، فربطنا لما لم نستطع المشي الذي ملقه نسميها للقر مفيد، وعند الغروب سرنا لما سكن ذاك الهوا الهبوب، ومازالوا يجرون اللبان، إلى أن عمود نصف الليل بان، وربطنا عند صليبة، ورجال لنا بالبر مجيبة، وبعد بزوغ الشمس، وكان الهم أبعد منه أمس، قرأنا الفاتحة لفرد هذه النواحي، القطب الذي الأمداد ناحي، سيدي إبراهيم الدسوقي، ورجينا منه الشفاعة بحل قيودي وثوقي ونشر قلوعي، ووقد شموعي، وما زلنا بالقلوع نسير، والحق يهون كل عسير، إلى أن وصلنا بلدة الشيخ حسن الولي، الحسن، فهاج ريح، وماج البحر الفسيح، ولم يمكنا الذهاب لتراكم السحاب، وطبق الجو بزائد النو، وسحت المطار مصحوبة بألطاف الستار ولما أذن مؤذن الصباح رحيل محيمل الفلاح، سرنا إلى أن سامتنا (دسوق) ذات اللمع والبروق، والطلوع والشروق، ثم لما مررنا على (مرفض) التي يحق لها أن ترقص طرباً بحلول أبي المجد فيها قدس الله سره، فقرأنا له الفاتحة، وعندما جئنا محلة أبي علي زرنا على البعد كل من حل بها من ولي، وهي على ما قيل ثلث الطريق، فقلنا عسى أن يسعف المولى بالريح المريح من التعويق، وقرأنا بالخصوص الفاتحة لابن الشرمي، ومازلنا نسير بمعونة السميع البصير، وكلما جزنا على قبة علم كبير، قرأنا له الفاتحة، وجونا كامل البشير، فقلت:

ألا يا ظاهرين بقطر مصر

أغيثوني وزيحوا غيم حصري

(ثم إنا ربطنا لدى الشط، ووارد الأكابر شط، وسرنا غب الغروب، ليلا مع معاشات كثيرة لها للمسير هبوب، إلى أن وصلنا قرية (شابور) وبتنا بها في سرور فيها هلال شعبان المبارك

للكلام بقية

سامح الخالدي

ص: 30

‌رسالة الشعر

من ذكريات باريس:

الخطو الناعم. .

(حسنا إسبانية التقى بها الشاعر في باريس فكانت وحي هذا

اللحن)

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

حينما تخطرين ينداح ظل

عبقري الرؤى ويشرق فجر

وإذا أنت والطريق ابتهال

قدسي وخطوط الحلو شعر

تتندي الظلال أنى تمرين

ويخضل في الربى الفيح زهر

وإذا بالطريق بمتد والنو

ر على جانبيه عرس وبشر

خطوك الحلو يا عروس قصيدي

هينمات الفراش فوق الورود

أو خفوق النسيم في الأفق المخض

ل بالنور في الربيع الوليد

أو رفيف الجناح رف على الر

وض يحي بزوغ فجر جديد

حيثما تخطرين ينطلق اللحن رخيم الإيقاع حلو النشيد

خطوك الناعم الرشيق انثيال الطي

ب من برعم تفتق عطرا

حيثما سرت فالدروب ارتعاشات

غناء يموج في الأفق سحرا

خطوات كأنها خطرات الحلم

إن راود النواظر فجرا

يرقص الصخر تحتها ويذوب الصم

ت فيها، وتنطوي الأرض طرا

لا حدود، ولا دقائق إن سر

ت وليس الوجود إلا صدانا

عدم مطلق متى لفنا الح

ب نسخنا من الحياة الزمانا

ما الوجود الجميل لولا هوانا

غير نار تنفست عن أسانا

أنذوق الهوى ونبقى ظماء=ونعب الهوى ونخشى فنانا

أتعدين بالثواني لقاء

من حياة تعد بالساعات

ص: 32

اتركي للمشيب تلك الضلالا

ت ولا تحسبي حسابا لآت

أبدع العقل ما ترين لينجو

من لهيب الفراغ والأوقات

ملأ الحب كوننا فنسينا

كل شيء سوى جمال الحياة

نحن في فجر عمرنا كنسي

م الفجر غضا وكالسنا إشراقا

كلحون الربيع غنى بها الطي

ر والكعطر في الفضاء انطلاقا

فتعالي نبث في الأفق

الساجي أغاريد حبنا أشواقا

حسبنا في الوجود أنا عشقنا

وأخذنا من الهوى ميثاقا

عبد القادر رشيد الناصري

بغداد

ص: 33

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

الشوق إلى المتاعب:

ما زلت أذكر مسرحية (حورية من المريخ) التي قدمتها من نحو شهرين فرقة المسرح المصري الحديث، تلك المسرحية التي تقوم فكرتها على أن الإنسان يضيق بما جرى على هذه الأرض وما يحدث له من متاعب في حياته ويود لو خلص منها، فإذا أتيح له الخلاص مما يقلقه ويشقيه، إلى حياة ناعمة صافية لا يجد فيها من يشغب عليه ويعاكسه، ضاق بها وشقي بهذه (السعادة) التي تحرمه ما جبل عليه حب الشغب والميل إلى خلط الصفو بالكدر

شاهدنا في المسرحية الزوج الذي يتبرم بزوجته لما تأتيه من تصرفات حمقاء وما يعانيه من شقاق بينهما الدائم، ثم يرى فيما يرى النائم حوريات من المريخ. . ولا بد أن تعجب من منافسة المريخ للجنة! ولا أحب أن أدعك في هذا العجب فأسر لك السبب قبل أن نمضي في الحديث:

عرضت المسرحية - وكان اسمها (حورية من الجنة) - على الرقيب بوزارة الداخلية ليجيز تمثيلها، فاستأني حتى طالت لحيته. . ولبس عمامة كبيرة. . . ثم أفتى - نجانا الله من فقهه. آمين - بأن الحورية لا يجوز أن تهب من الجنة إلى المسرح لا حرج أن تهبط من المريخ، وإن لم توجد في المريخ حوريات فيجوز أن تنتقل من الجنة أولا إلى المريخ، ثم تسافر منهو إلى مسرح حديقة الأزبكية الصيفي. . فلم يسع الأستاذ زكي طليمات إلا أن يرضخ و (يخرج) الحورية من المريخ كما يستخرج الشراب من الفسيخ. .

رأى ذلك الزوج ثلاث حوريات يرقصن ويغنين، فأحب إحداهن وأحبته، ورضيت أن تعيش معه على سطح الأرض زوجة وفية مخلصة، وجرت الأمور بينهما كما تجري في. . . المريخ! فلا مخالفة ولا شقاق، بل طاعة عمياء وصفو خالص، ولكن يظهر أن في الإنسان غريزة لم يكشفها علماء النفس بعد، هي غريزة المشاغبة التي تدفعه إلى الهرب من الاستقرار والراحة والدعة ليطلب المتاعب و (المناكفات) فاشتاق الرجل إلى زوجته الأولى وإلى مشاغباتها اللذيذة الممتعة، حتى قيض له ما أراد، واستيقظ من النوم ليجد زوجته الأرضية عائدة من السينما. . ذكرت تلك المسرحية الممتعة وحوادثها الشائقة، وأنا

ص: 34

في هذا الصيف الهادئ النائي الذي يكاد يشبه المريخ في الخلو من الحوريات. . . والذي لجأت إليه من نحو شهر هربا من متاعب القاهرة وحرها وزحامها وخلوها من البطيخ (الشلين بلاك) وقد أخذت هذا المصيف الفطري لأكون بعيدا عن زحمة المدن ومثيرات الأعصاب فيها، وآثرت أن أخلد إلى السكون والراحة التامة، ورجوت صديقي الشاعر، وهو يصطاف قريبا مني أن يجنبني سماع ما يقرض.

وتم لي ذلك وشملني السكون وتلقاني البحر، يدعوني إليه أحيانا فيبل ما جف من أعصابي، ثم لا يلبث أن يضجر مني فيقذفني إلى رمال الشاطئ فأرتمي عليها وأشكو إليها ضعفي وجراح نفسي. .

ثم وجدتني أهرع إلى صديقي الشاعر لأسمع منه، وآخذ مع الرفاق في حديث الأدب والفن، بل أجرهم إليه وأحملهم عليه وأنظر حولي فلا أبصر إلا الماء والرمل والسماء، وأشواقا إلى القاهرة والى الاضطراب في أنحائها والاختلاف إلى ما جريت على الاختلاف أليه فيها، بل إلى صخبها وضجيجها وترامها كان البحر يقول لي: هنا الروح والدعة، فتعالي إلي ودع الدنيا وألق مشاغلها على الشاطئ واغسل همومك بين أحضاني ثم صوت أسمع من أمواجه الصاخبة المتحاربة دائما: أن هلم إلى معترك الحياة وعد إلى معامعها، فالسكون موت والحركة حياة وما أزل مصغيا إليه، أستمع ولا أقتنع، انتظارا لعاقبة التي أقتدر بها على تمام الاقتناع.

ابن حمديس

تلقيت من الصديق الكريم الذي لم أتشرف بلقائه بعد، الأستاذ الشاعر عبد القادر رشيد الناصري، رسالة مطولة ناقش فيها رأياً للأستاذ عباس محمود العقاد في (ابن حمديس) الشاعر الصقلي، والرسالة هي كما بلى بعد شيء من الاختصار وحذف التحيات التي يستحق الأخ أحسن منها: أنا لا أنكر أن الأستاذ العقاد ذهن جبار متوقد، بل هو أكثر أدباء الشرق ثقافة، فهو أديب وشاعر وخطيب وسياسي وناقد ومترجم، وإن كان شعره لا يبلغ منزلة نثره، ولكني قرأت له قبل أيام رأيا استغربت أن يصدر من رجل مثله له مكانته في عالم النقد، وهذا الرأي منشور في الصفحة (93) من كتابه (خلاصة اليومة) ولم أكن قد اطلعت قبل الآن، يقول عن ابن حمديس: شاعر صدرت عنه الشهرة بعد أن أقبلت عليه،

ص: 35

وطواه الخمول بعد أن طبق ذكره الآفاق، ولكن هذا الشاعر المجهول قد زاد بديوانه على ثروة اللغة العربية خيرة أضاعها التفريط، وأودع من المعاني ما لم يضمنها إياها شاعر عربي آخر. ولقد كان ينبغي أن لا نذكر المتنبي وابن أبي حفصة وابن هانئ وغير هؤلاء من محترفي الشعر - كان ينبغي أن لا نذكرهم مرة إلا ذكرنا ابن حمديس مرارا، هذا الذي لا يذكره قراء العربية إلا كما يذكرون شعراء الغرب والصين، ولولا (ابن) قبل حمديس لما درى أكثرنا إن كان اسم رجل أو اسم مكان، ثم يسترسل العقاد حتى يقول:

وما ألطف قوله

تطيب أفواهن الحديث

بحمر الشفاه وبيض الثغور

كما مر بالورد والأقحوان

نسيم مشوب بريا العبير

ألا يترشف من بيتيه هذين رضاب الحسان، وتتنسم ريح الورد والأقحوان؟

وما أغزر دموع هذين البيتين:

ويا ريح إما مريت الحيا

ورويت منه الربوع الظماء

فسوقي إلى جهام السحاب

لأملأهن من الدمع ماء

وهل قال (شلي) في قصيدته (القنبرة) أحدث من هذا

أصبا هبت بريحان الصبا

أو شمال أسكرتني بالشمول

حيث غنتني شوادي روضة

مطربات بخفيف وثقيل

في أعاريض قصار خفيت

دقة في الوزن عن فهم الخليل

ولحون حار فيها معبد

وله علم بموسيقى الهديل

والدجى يرنو إلى صاحبه

بعيون من نجوم الجو حول

وأين بيتنا صبري وشوقي في تنزيه صاحبتيهما عن هذا

البيت:

لا تنكري أنك حورية

روائح الجنة نمت عليك

وإلى هنا يختتم الأستاذ العقاد كلمته عن هذا الشاعر، ونراه يوازن بين ابن حمديس وباقي الشعراء فيجعله في مصاف المتنبي والبحتري وابن هانئ! في أي ميزان من موازين النقد يوضع ابن حمديس مع المتنبي والبحتري؟ ويقول العقاد إن ابن حمديس أودع اللغة العربية

ص: 36

من المعاني ما لم يضمنها غياها شاعر آخر! إذن أين مكان ابن الرومي وأبي تمام وأبي نواس وبشار بن برد وابن المعتز؟ وما هي الثروة التي أضافها ابن حمديس وشعره لا يتعدى التقليد لشعراء بني العباس وبني أمية؟ وكيف يتهم الأستاذ العقاد أدباء العربية بجهل ابن حمديس؟! أما قوله عن بيتي ابن حمديس (تطيب أفواهن. . . الخ) فأحيله إلى الأستاذ العقاد وأقول إنني لم أترشف منه رضاب الحسان، ولا أتنسم ريح الورد، وعندي أن أبيات بشار في وصف أحاديث الحسان خير بكثير من هذين البيتين، وكذلك أبيات الرومي وبعض ما قال عم بن أبي ربيعة، ولا شك أن الأستاذ مطلع أكثر من غيره على ما ذكرت

والعقاد بعد هذا أكثر أدباء العرب فهما للأدب الإنجليزي فكيف يقول إن أبيات حمديس اللامية من قصيدة (شلي) في وصف القبرة؟ وهذه القصيدة لا تعد فذة في الأدب الإنجليزي فقط بل في الأدب العالمي والغنائي، ومن شاء فليرجع إلى نصها الإنجليزي أو ليقرأها مترجمة إلى العربية وخير ترجمة لها ترجمة المرحوم علي محمود طه وهي منشورة بكاملها في كتابه (أرواح شاردة) فهل توافقني أيها الصديق على أن قصيدة ابن حمديس التي ذكرها العقاد لا تقاس بقبرة شلي إلا كما يقاس الصدف بالدر؟ ويقارن الأستاذ العقاد بيت ابن حمديس:

لا تنكري أنك حورية

روائح الجنة نمت عليك

ببيتي صبري ووقي، ويقصد بيت صبري (إسماعيل صبري باشا):

أنت روحانية لا تدعي

أن هذا الحسن من طين وماء

وبيت شوقي:

صوني جمالك عنا إننا بشر

من التراب وهذا الحسن روحاني

أما أنا فأقول إن بيت شوقي أحسن الأبيات وأحلفها وأقواها ديباجة وأملؤها للنفس. ولولا (روائح الجنة) التي اقتبسها من أبي العتاهية لما بقي للبيت أي جمال. واترك لك يا صاحب الدب والفن في أسبوع المقارنة بين الأبيات الثلاثة فها الشاعر الذي أعجب به العقاد لو درسه الأدباء دراسة استقصاء وبحث لعلموا أن الأستاذ العقاد لم ينصف المتنبي وابن هانئ عندما قرنه بهما. هذا هو رأيي. وأقول أكثر من ذلك إنه لولا بعض القطع التي تحفل بالصور الشعرية في شعر ابن حمديس لما استحق الذكر، فهل أقرأ رأيك في هذا الذي كره

ص: 37

الأستاذ العقاد قريبا؟ ودم لأخيك:

عبد القادر رشيد الناصري

بغداد

أجل يا صديقي. سأدل بما أراه لا فيما قال به أديبنا الكبير فحسب، بل كذلك فيما ارتأيته أنت، وسأخالفك في بعضه، وقد خالفتك من قبل في بيت للدكتور إبراهيم ناجي، وأكبر الظن أنك أوسعت صدرك لتلك المخالفة، واكبر الظن أيضا - كما يعبر عميدنا الدكتور طه حسين باشا - أنك موسع صدرك للمرة الثانية في هذه المخالفة الجديدة أصدر العقاد كتاب (خلاصة اليومية) من نحو ثلاثين سنة، ولعله أول كتاب ظهر له. وقد درس بعد ذلك ابن الرومي وأبن أبي ربيعة وابن برد وغيرهم من شعراء العربية دراسة دقيقة مستقصية ولا بد أن قد تبين له من تلك الدراسات أن ما أودعه ابن حمديس اللغة العربية من المعاني لا يعد شيئا بجانب ما ضمنه إياها شاعر كابن الرومي مثلا

وقد كان ابن حمديس مجهولا لاحقا في ذلك القوت، وقد التفت إليه الأدباء بعد ذلكن وإن كانت هذه التفاتات يسيرة، واذكر أننا سمعنا محضرة قيمة عن هـ الشاعر الرقيق من الأستاذ السباعي بيومي بك، ألقاها سنة 1943 في ناد بالخرطوم، وكنت هناك في ذلك الوقت وديوان ابن حمديس غير متداول في مصر، ولم أر له غير نسخة واحدة بدار الكتب المصرية، طبعها ونشرها أحد المستشرقين. ولابن حمديس بيت سائر معجب هو:

أواه إن نظرت وإن هي أعرضت

وقع السهام ونزعهن أليم

وهذا يدل على أن الشاعر اصبح معروفا، وإن لم ينل بعد حقه من التعريف به ودراسته ونشر شعره

وأنا أوافقك يا صديقي على أن ابن حمديس لا يبلغ شأو من ذكرت من الشعراء، عدا ابن هانئ الأندلسي على رغم ما يقولونه من أنه (متنبي الغرب) ولا أتحرج من المصارحة بأني لا أجد مصداق كل ما يقولون في شعراء الغرب العربي وفي أشعارهم. ولا أرى العربية ظفرت في عصورها المختلفة بأمتع وأبدع من شعراء بغداد في عهد العباس، وليقل من ياء في جمال الطبيعة وتأثير البيئة الطبيعية ما يقول

ص: 38

ولكني مع ذلك لا أرى ابن حمديس في المكان الذي نزلت به إليه، وأراك قد حملت على أبياته حملة غير منصفة. وقد قرأت وصف بشار وابن الرومي لأحاديث الحسان في أبيات جميلة لست أذكر نصها، وليس لدى من الكتب في مصيفي النائي ما أرجع إليه من أجلها، ولكن هذا لا يغض من جمال بيتي ابن حمديس. أما ابن ربيعة فلست أعلم عنه إلا حكايته لأحاديث النساء، وهي شيء آخر وصف أحاديثهن. ويشبه معنى حمديس للمرحوم مصطفى صادق الرفاعي هو:

إذا سألوها لجلجت فكأنما

غرا اللفظ - لما مر من فمها - سكر

وتصوير الرافعي للفظ المترنح بديع

ولست أدري يا أخي لماذا لا يعجبك قول حمديس:

لا تنكري أنك حورية

روائح الجنة نمت عليك

وكيف تفضل عليه بيت شوقي؟ حقا إن بيت أمير الشعراء أقوى ديباجة، ولكن انظر أليه وهو يأمرها أن تبتعد عنه وهو أمر لا يستساغ مهما كانت الأسباب. وخاطر شوقي ذهني جاف لا ينديه ماء الشعور. أما (روائح الجنة) فهي تدل على ما وراءها من حسن مرهف. وإنك لتظلم الشاعر إذ تسلبه فضل هذا التعبير لأن أبا العتاهية سبقه إلى الكلمة في قوله:

إن الشباب حجة التصابي

روائح الجنة في الشباب

فإن استعمال كل منهما (روائح الجنة) غير استعمال الآخر

وليس هناك أية صلة بين المعنيين.

والحمد لله على أن أهملت بيت صبري في المقارنة بين الأبيات الثلاثة. . . وإني لعلى يقين أن التي يصفها لم تدع حسنها من ماء وطين. . حتى يقف موقف المفند لدعواها! وقد استحسن مؤلف (خلاصة اليومية) مخاطبة ابن حمديس للريح لتسوق إليه السحب الخالية من المطر ليملأها من دمعة لأنها تدل على غزارة دمعه. . وهي مبالغة ليس وراءها شيء إلا إذا كانت العبرة بالكمية!

أما المقارنة بين أبيات حمديس اللامية وبين قصيدة شلي في القبرة، فليس لدي الآن في المصيف ما ارجع إليه من أجل هذه القصيدة، وقد أجد في أمرها ما يدعو إلى تناولها بعد العودة إلى القاهرة إن شاء الله.

ص: 39

عباس خضر

مصيف بلطين

ص: 40

‌الكتب

الإسلام المفترى عليه

تأليف الأستاذ محمد الغرالي

للأستاذ محمد رجب البيومي

الإسلام في حاجة ماسة غلى الدفاع عنه، فقد نسجت حوله المفتريات من أعدائه، وأظهره المغرضون في صورة لا تتفق مع إنصافه ورحمته، بينما نشط أصحاب المذاهب الإلحادية في ترويحها وإظهارها في معرض براق أخاذ، فاتجهت إليها الأنظار ووقف الإسلام صامتا لا يجد من يفصح عن مبادئه ومثله، حتى قيض الله له أقلاما تنصره، وتعلن كلمته، وفي طليعتها قلم الأستاذ محمد الغزالي الذي يحارب به جوار الأستاذ قطب في معركة الحق والإصلاح!

وكتاب (الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين: حلقة من تلك السلسلة التي يوالي الأستاذ الغزالي إصدارها منذ سنوات دفاعا عن دينه وعقيدته، ولكل كتاب ناجح فكرة تدور عليها صفحاتخ، وتنطق بها أبوابه، وقد جاءت فكرة هذا الكتاب واضحة صريحة تعلن عن نفسها في كل سطر من سطوره، فالمؤلف ينظر غلى المذاهب الاقتصادية المعاصرة نظرة دراسة، ثم يقرنها بالمذهب الإسلامي نطق به القرآن وطبقه الرسول وصحابته، وقد انتهى من ذلك إلى أن الإسلام ينظر إلى الرأسمالية والشيوعية معا نظرة عداء واحتقار، فهو لا يعترف بقوانينها المتداولة، بل يقيم مذهبه العادل على أساس من الإخاء والمساواة

وقد ناقش الأستاذ الغزالي الرأسمالية مناقشة منصفة تستمد عناصرها من الواقع الملموس، كما اقتحم على الشيوعية معاقلها معقلا معقلا، وقد أسهب في مناقشة الأولى إسهابا يتطلبه الوضع الحاضر للمجتمع الإسلامي، ويعلل ذلك بأنها تقيم بين ظهرانينا داخل الحدود فهي أولى بالمحاربة من الشيوعية التي لم تقتحم بعد علينا السبيل، وذلك لم يحل دون منازلتها هي الثانية والتجهيز عليها بسيف الإسلام

ومحاربة الرأسمالية الحاضرة تتطلب إيمانا صادقا، وعقلا راجحا، والمؤلف بحمد الله منهما

ص: 41

على أتم نصي، وقد سلك في نزاله الطريق المنطقي الذي يستعصم بالحجة والبرهان، ويمهد للنتائج بمقدمات مقبولة، فهو أولا يفصح عن معنى الرأسمالية وبين جنايتها على الشرق الإسلامي في شتى حواضره، وقد أحال إليها ما يفشو لدى السواد الأعظم من تأخر وانحطاط، وما يقع على الكواهل الكادحة من عنت وإرهاق، وكانت في نظره المنبع الأول الذي تفجرت منه روافد الجهل والفقر والمرض، ولم يفته بعد أن أوضح اعتداءها المادي الصارخ، أن يلفت النظر إلى أضرارها المعنوية العريقة، وقد اختار لها أبو بارزة في كتابه فتحدث عن الشلل العقلي الذي يطمس إفهام المعوزين فيدورون وراء سادتهم كالآلة في الصنع، ولا يناقشونهم الرأي أو يقاسمونهم الربح، كما يهبط بنفوسهم إلى مستوى العبيد، فهم كما قال المؤلف يهدءون ويتحركون مرضاة لأشخاص يعملون لهم ويعيشون في دائرتهم، وتكون أصواتهم النيابية لهم في النهاية دون كفاءة واستحقاق

وقد عجب الأستاذ الغزالي بقاء هذا الوضع الظالم قروناً متوالية وتساءل عن أسلحة الرأسمالية التي مهدت لها البقاء في هذا الجو النهم الفاجع، وكم كان اليماً أن يكون الدين المستغل المشوه أفتك أسلحتها في هذا المضمار، فالدعوة إلى الزهد الصوفي، وتحوير النصوص الصريحة، وذم الدنيا في بعض الأحاديث النبوية، كل أولئك كان مادة وافرة للمحترفين من رجال الدين، فطفقوا يخدمن الرأسمالية عن قصد وغير قصد بما وه محاسن الإسلام وجلب عليه النوائب من كل باب!! وهو في هذه المعركة بريء شهيد وقد أردف المؤلف تشخيصه الصادق لعلاج ناجع يستمد أصوله من الدين الحنيف، وقد عرض نماذج مختلفة من نصوص القرآن وآحاديث الرسول، ومواقف الصحابة والخلفاء الراشدين، لتكون دعامة ثابتة في إقامة مجتمع نظيف يدين بالإخاء والمساواة، وكانت أعمال محمد وعلي وأبي بكر وعمر وأبي ذر عمادا يرتكز عليه الإصلاح المنشود، هذا إلى الواعد الأصولية المقررة في الفقه الإسلامي، كسد الذرائع، ورفع الضرر ومنع الحرج وتقييد المباحات، وكان موفقا كل التوفيق في قوله (واستنباط الحكم ما من أحكام الإسلام، ليس سبيله أن نعثر على نص من النصوص، فنطير به ونبني عليه القصور، كلا! فلابد أن نرجع إلى جميع النصوص الواردة في موضوعه، وأن نفهم روح الإسلام العامة التي يصدر عنها قوانينه، ثم لنا بعدئذ أن نقارن وأن نرجح عند تعارض الأدلة ما ينقدح في

ص: 42

آذاننا ترجيحه (وهو بذلك يسد السبيل على من يعثرون على نص غير متواتر، أو أثر منسوخ ثم يبنون عليه من الفتاوي الزائفة ما يشوه محاسن الإسلام ويهوى به من القمة إلى الحضيض.

وقد دار في هن المؤلف ما ستقابل به آراؤه الصريحة لدى المغرين من افتيات وإجحاف، وأيقن أنها ستنسب إلى الشيوعية الحمراء كما جرت العادة في الشرق المستضعف، فكر على الشيوعية الإلحادية، ونازلها بسلاح المنطق والدين، وهو في كتابه يندد بتعصب الشيوعية لآرائها تعصبا لا يستمع معه إلى الحجة الصادقة، والدفاع البريء، كما ينقم منها هجومها الآثم على ما قدسه الدين من مثل وأفكار، بل هجومها الآثم على ما قدسه الدين من مثل وأفكار، بل هجومها على الدين نفسه وما يشيع في مباحاته من روحانية وإيمان. وقد فضح الرأسماليين فضيحة قاصمة حين أعلن أنهم يفرون من الشيوعية فرارا سريعا لا لإلحادها العنيف - كما يفر المؤمنون الصادقون - بل خشية منها على أموالهم المحتكرة، وأوضاعهم المغلة (ولو كانت الشيوعية هدما للآداب والأعراض لتقبلها هؤلاء، بل لوجدوا فيها متنفسهم العميق، أما وهي هدم لما ملك ويقتني، فيجب أن تحارب باسم الدين!! فإن حدث أن ناقشهم الدين الحساب، وسألهم كيف ملكتم؟ وأين حق الله وحق الناس فيما أخذتم؟ فالويل كذلك للدين والعاملين عليه! إنهم إذن شر من الشيوعيين مكانا وأسوأ قليلا) وفي الكتاب - فوق هذا - آراء صريحة لأعلام الشريعة الإسلامية كابن حزم وأبي حامد الغزالي ومحي الدين النووي وغيرهم من أئمة السلف تبين رأي الشريعة في الاشتراكية الإسلامية، والإرث الشرعي، ومدى الملكية الفردية، وللقارئ أن يوازنها بما تورط فيه الشيخ محمد حسنين مخلوف من آراء يقابلها المخلصون بالحسرة ولأشفاق!! وقد أماط الأستاذ الغزالي عنها اللثام، كما قطع السبيل على كل محاولة يراد بها الشعوب باسم الدين، وتستخيرها لمطامع الاستعباد!!

لقد فهم الأستاذ محمد الغزالي الفقه الإسلامي، وأدرك أصوله ومنازعه إدراكا يمده الذكاء الناقد والنقد البصير، كما ألم بمشكلات عصره، وعلل مجتمعه، وأخذ يستلهم السماء في إصلاح الأرض، ويضمد بالوحي الإلهي والهدى النبوي جراح الأمة الناغرة، فكثر قراؤه، وتشعب إنتاجه وتعددت طبعات مؤلفاته، كما ترجم بعضها إلى لغة يهتم قراؤها بالإسلام

ص: 43

والمسلمين، وفي هذا دليل على أن الحق لن يعدم أنصاره في كل مكان، بل يزحف إلى غايته النبيلة ساخراً بما يعترضه من الحواجز والسدود

محمد رجب البيومي

الكفر الجديد

ص: 44

‌البريد الأدبي

1 -

الشعر لأبي تمام:

جاء في الصفحة الثالثة من ديوان البحتري المطبوع في مصر سنة1911 م بتصحيح عبد الرحمن البرقوقي أن البيتين التاليين

يخفي الزجاجة لونها فكأنها

في الكف قائمة بغير إناء

ولها نسيم كالرياض تنفست

في أوجه الأرواح والأنداء

إنهما للبحتري من قصيدته التي يمدح بها أبا سعيد محمد بن يوسف التي مطلعها

زعم الغراب منبئ الأنباء

أن الأحبة آذنوا بتناء

والذي أجزم على صحته أن البيتين الأنفي الذكر لأبي تمام وهما من قصيدته الخمرية ذات المطلع الرائع

قدك اتئب أربيت في الغلواء

كم تعذلون وانتمو سمرائي

التي يتخلص منها إلى مدح يحيى بن ثابت كما هو المعروف في كتب الأدب وفي جميع طبعات ديوانه، وأنها أقرب إلى نفس أبي تمام من البحتري

2 -

خطأ شائع:

أصدرت سلسلة اقرأ كتابها الأخير وهو ملامح من المجتمع العربي للأستاذ الشاعر محمد الغني حسن، وهو كتاب جدير بالإعجاب والاقتناء لما حوى من طرائف وأخبار لا يتاح جميعها إلا لبحاثة مطلع، إلا أنني وجدت الأستاذ المؤلف استعمل كلمة (الشحاذة) بمعنى (الاستجداء) في اكثر من موضع كما جاء في الصفحة (12)(ما عرف مجتمعنا على مختلف العصور صورة الشحاذة وحرف الاستجداء والسؤال) و (كان للشحاذين منذ القرن الأول الإسلامي وسائلهم في اجتلاب شفقة المحسنين). . وهكذا في أكثر من موضع عند صدد الكلام عن (المجتمع العربي وطبقاته وأغنياء وفقراء) من ص12 إلى 17 - والي أعلمه أن هذه اللفظة غير عربية ولا تعطي هذا المعنى الذي يرديه الكاتب البارع، ولو استعمل بدلا عنها لفظة، استجدى أو سأل، أو استعطى أو غيرها لكان أبلغ في مقاله، فقد جاء في لسان العرب ص27 الجزء الخامس مادة (شحذ) ما يلي: الشحذ: التحديد، وشحذ السكين والسيف ونحوهما يشحذ شحذا أحده بالمسن وغيره مما يخرج حده فهو شحيذ

ص: 45

ومشحوذ كقولهم: (يشحذ لحيته بناب أعصل) والمشحذ المسن. وفي الحديث. (هلمي واشحذيها) ورجل شحوذ حديد نزق، وشحذ الجوع معدته: ضرمها وقواها على الطعام وأحدها، وشحذه بعينه أحدهما إليه ورماه بها. وكذلك ذرقته وحدجته وشحذته أي سقته سوقا. قال أبو نخيلة:

قلت لإبليس وهامان خذا

سوقا بني الجعراء سوقا مشحذا

واكنفاهم من كذا ومن كذا

تكنف الريح الجهام الرذذا

ومر يشحذهم أي يطردهم وفلان مشحوذ عليه أي مغضوب عليه، ورجل شحذان سواق قال الأخطل:

خيال لأروى والرباب ومن يكن

له عند أروى والرباب تبول

يبث وهو مشحوذ عليه ولا يرى

إلى بيضتي وكر الأنوف سبيل

أي مغضوب عليه، وقال ابن شميل لامشحاذ الأرض المستوية فيها حصى. وقال غيره الأكمة القزواء التي ليست بضرسة الحجارة. وقال أبو زيد شحت السماء تشحذ شحذا، وحليت حليا وهي فوق البغشة)

3 -

زحاف:

في قصيدة الأستاذ عبد الرحيم عثمان صاروا (أول موعد) المنشورة في العدد (940) من الرسالة الزاهرة بيت زاحف

واها لأزهاري التي

قطفتهن لتفرحي

والقصيدة ذات القوافي العديدة وهي من مجزوء الكامل إلا البيت المذكور لا يستقيم وزن عجزه (قطفتهن لتفرحي) إلا بزيادة حرف كالواو أو الفاء.

4 -

الشعر لعباس بن مرداس:

نسب الأستاذ الجليل محمد عطية الإبراشي في الصفحة 117من كتابه (القيم الشخصية) الطبعة الخامسة الأبيات التالية إلى كثرة عزة في صدد الكلام عن (التواضع وعدم التصنع)

ترى الرجل النحيف فتزدريه

وفي أثوابه أسد هصور

بغاث الطير أطوالها رقابا

ولم تطل البزاة ولا الصقور

ص: 46

الخ والصواب أنها لعباس بن مرداس

5 -

استعمال خاطئ وشعر غير مستقيم:

(في العدد 991) من جريدة الهاتف البغدادية قصيدة لأديب مصطفى جمال الدين بعنوان (في ضفاف الفرات) جاء منها

وسقى الجداول من نمير شرابه

كأسا - يطوف بها الحباب - شمولا

ولا تأتي الشمول صفة للكأس، لأن الشمول اسم من أسماء الخمر. . ولا يقال كأس بل كأس دهاق وروية وغيرها من الصفات وفي العدد نفسه قصيدة أخرى للأديب بشير حسن القطان بعنوان (أوهام) منها الأبيات وهي موشحة مختلفة الأوزان

وعلى الحفيف، وعويل إعصار الخريف

ولا يستقيم وزن هذا البيت إلا برفع واو العطف على هذه الصورة

وعلى الحفيف، عويل إعصار الخريف

وهذا البيت:

فأجابني صوت بعيد

أن المطامع لن تعود

ولا يستقيم وزنه إلا بتسكين كلمة (بعيد) وتسكين تعود بعد لن خطأ نحوي فظيع. ولست ادري كيف غربت هذه الأخطاء عن بال الأستاذ جعفر الخليلي صاحب الهاتف الأغر؟!

6 -

الشعر لأبي نواس:

في الصفحة 99 إلى 103 من كتاب سحر البلاغة للمرحوم السيد محمد توفيق البكري الذي جمعه السيد عثمان شاكر من كتبه، صهاريج اللؤلؤ وفحول البلاغة، وأراجيز العرب. . أن جميع المختارات في تلك الصفحات هي من شعر ابن هانئ الأندلسي وأكرها خمرية والصواب أنها للحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس، وخصوصاً وجميع هذه المختارات في الخمر كقصائده المنورة في هذا الكتاب

أيها اللائمان باللوم لوما

لا أذوق المدام إلا شميما

أو قوله:

كأن بقايا ما عفا من حبابها

تفاريق شيب في سواد عذار

ص: 47

الخ. ولا إخال هذه النسبة إلى ابن هانئ الأندلسي إلا من تصرف الجامع لا المرحوم البكري نفسه

عبد القادر رشيد الناصري

بغداد - أمانة العاصمة

شوقية أخرى لم تنشر:

قرأت في العدد 939 من الرسالة مقالا تحت هذا العنوان للأستاذ عبد القادر رشيد النصاري. . جاء فيه، في قصيدة شوقي رحمه الله:

العبقرية غير مالكة

إذا مشى غيره لصا وجنانا

وقد علق على كلمة (غير) بقوله: أظنها محرفة

وعندي أن كلمتي: غير مالكه، محرفتان معا. عن: عين مالكه. أي ذات رسالة إلهية. . أو غير مألكه. . أي خير رسالة إلهية. . . أي في هذا الفن. . وذلك لأن المألكة: الرسالة. وأراد بها هنا الرسالة الإلهية. . ويؤيد فهم معنى الشطر الأخير. . فالمعنى أنه مطبوع على الفن لم يقلده غيره، ولم يسط على فن سواه. . ولذلك قال مؤيد هذا المعنى:

لا تسأل الله فنا كل آونة

واسأله في فترات الدهر فنانا

محمد أحمد رضوان

للقاهرة

كلما:

. . (كلما كان جمهور الفنان عددا كلما كان لرسالته في الحياة قيمة). . هذه العبارة وردت في مقال (أدبنا القومي) للأستاذ حسين عزمي بالعدد (942) ولا أرى فيها محلا لتكرير كلما، وإليك ما كتبه العلامة ابن هشام في (مغنى اللبيب) متصلا بهذه الملاحظة:

(كل في نحو. . كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا. . منصوبة على الظرفية باتفاق، وناصبها الفعل الذي هو جواب في المعنى مثل (قالوا) في الآية، وجاءتها الظرفية من جهة (ما) فإنها محتملة لوجهين، أحدهما أن تكون حرفا مصدريا والجملة بعده صلة له فلا محل

ص: 48

لها، والأصل كل (رزق). . والثاني أن تكون اسما نكرة بمعنى وقت. . ثم أورد قوله تعالى:(كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها)، (كلما أضاء لهم مشوا فيه)، (وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه)، (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم). . وعلى ضوء هذا كله يتعين أن يكون الصواب في عبارة الأستاذ الكبير:(كلما كان جمهور الفنان عديدا كان لرسالته في الحياة قيمة) بحذف (كلما) الثانية، وتحياتي إليه

محمد محمد الابشبهي

ص: 49

‌القصص

الفانية!.

للأستاذ كمال رستم

(مهداة إلى سعادة الأستاذ محمد كامل البهنساوي بك صاحب

الأقاصيص المأثورة)

. . يحيط الطبيب في حياته العملية أكثر من أي إنسان آخر بالطبيعة البشرية، فهو يلم بأحاسيس مريضة وانفعلاته. . ويراه وهو يتجرد من الثياب في حالة أشبه بحالة الرجل البدائي. . لا زيف في الشعور. . ولا ادعاء. . ولا دهاء. وهو يلاحظ مرضاه كيف يتصرفون عند الشدائد وعند أستهدفهم للموت. . ويرقب سلوكهم إبان المرض. وفي أعقاب الشفاء. وهو في ذلك كله يقابله الكثير من القصص المثيرة. . ولا جرم أن أشد ما يحز في نفسه أن يقف عاجزا مكتوف اليدين من إنقاذ روح بها أو مطمئنة ألم. وليس من يدرك مشاعر الطبيب في مثل هذه الظروف القاسية إلا المشتغلون بهذه المهنة. ولعل من أكبر المشاهد التي أثرت في نفسي الأيام الأخيرة، مشهد الدموع التي رايتها تلتمع في عيني إحدى مريضاتي وهي تقول لي:

- إذن!

هذه الدموع التي طفرت من عينها وتحدرت في خطين دقيقين على وجنتيها، لا زلت أجتلها مثلما اجتليتها لحظة هطولها! ولا زلت أذكر كيف غيضت بمنديل يدها الصغير هذه الدموع. . وكيف تحاملت على نفسها واقفة أمامي. كأنما ذكرت فجأة أنه لا يجدر بها أن تتخلى عن شجاعتها وأن تتهم بالخور والجبن! أسمها نادية. . عذراء في التاسعة عشرة. . فتاتة بما يعني مدلول اللفظ. ومع أنها وقت أن جاءتني كانت مريضة. . لا بل. . كانت ماضية إلى الموت ذاته. . لم تتخل عن وجهها سمات الفتنة الآسرة! وكانت قصتها قد بدأت قبل أن تحضر إلي بوقت طويل!. كانت مريضة بالسرطان! والسرطان متى أفلت زمامه من أيدينا فإن أية قوة. . . وأية حكمة لا تفيد في دفعه أو كبح جماحه. والحد العلمي لها المرض الخطير أنه مجموعة من الخلايا تنمو في الجسم على حساب التركيبات المحيطة.

ص: 50

وخارجة عن تحكم الجسم. . فالجسم الإنساني يتكون من مجموعة من الخلايا تنجم عن انقسام خلية ثم انقسام أجزائها. . ثم انقسام هذه الأجزاء. . وهكذا إلى أن يتم نمو الإنسان. فإذا تصورنا أنه ليس من قوة تحكم هذا النمو. . فإننا نحصل في النهاية على مجموعة من الخلايا لا شكل لها. وإذا افترضنا أن إحدى الخلايا ابتعدت لسبب ما عن اتصالها العصبي وهي لا تزال حية وفي موضع يمكنها أن تحصل فيه على غذائها من السائل الدموي، فالذي يحدث هو أنها تأخذ في النمو والانقسام وتكبر في الحجم وتغير على جاراتها من الخلايا العادية. وهذا ما نسميه (بالتضخم البغيض) أو (التضخم القاتل). . هذا هو السرطان الذي يحطم الخلايا العادية المجاورة وينتشر خلال الأوعية الليمفاوية وينطلق في مسرى الدم غلى سائر الجسم!.

يدرك الطبيب أن دملا صغيرا هو تضخم بغيض بسبب أعراض معينة فيقول لنفسه: فلأبتره قبل أن يشق علي أن أعالجه. . وقبل أن يبتدئ في مكان لا يمكنني فيه أن أبتره من إتلاف عضو حيوي. . أبتره سريعا قبل أن يغدوا حرا وينتشر في سائر الجسم. . إلى الرئتين. . أو إلى العمود الفقري. . أو عظام الساق. . أو الصدر. . أو الكبد أو أي مكان آخر حيث لا يمكنني أن أزيله تماما دون أن اقتل المريض! هذا هو السبب الذي من أجله ننصح الناس دائما بان يستشيروا طبيبهم حالما يرون دملا غريب الشكل!. وها هو السبب الذي من أجله نتألم تقول لنا السيدة إن لديها تضخما منذ ستة اشهر ولكنها لم تشأ أن تخبر بأمره أحدا. . ستة أشهر أضاعت خلالها على نفسها فرصة العلاج السريع لأنها أبت أن تكاشف أحدا بمرضها!.

كانت هذه هي الحالة التي جاءتني عليها نادية وكانت مخطوبة إلى ابن خالتها. . وراحت تنتظر معه اليوم الذي يربطهما فيه الرباط المقدس. . ولكن هذا اليوم السعيد الذي تتحقق فيه المنى لم يحدث أن أقبل أبدا! العاطفة المشبوبة. . واللهفة والحنان. . كل أولئك لم أعرفه في غير هذين الخطيبين! كان يحب أحدهما الآخر حبا يتضاءل أمامه كل حب رأيته أو سمعت به. . وكان الوفاء الذي يستخف بالتضحية. . وتهون عليه الصعاب هو ذلك الوفاء الذي يعشعش في صدري هذين العاشقين الصغيرين!. رأيت ذلك عن قرب ولمسته في الوقت القصير الذي قضياه في عيادتي!. أبدا لم أسمع في حياتي أرق من ذلك الصوت

ص: 51

الذي كان يخاطب به الخطيب خطيبته. . ولا تلك اللهفة التي كانت تبين في صوته وهو يقول لي: - أريد أن أطمئن يا سيدي

كانت قولته هذه التي انبجس منها الشعور الحلو دافقا جياشا. . هي كل ما قاله لي. . وزايل الغرفة وتلبث خارجها ينتظر الكلمة التي تنفرج عنها شفتاي. تلبث ينتظر حكمي بالحياة أو الموت على فتاته. . وكان في الغرفة أن قصت علي قصتها عندما ظهر التضخم في صدرها حسبته بادئ الأمر دملا. . ولم يجد العلاج الذي استطبت به. . وراح ما حدسته دملا يكب. . ويكبر وغاضت الابتسامة من وجهها. وبدأ التفكير العميق يستغرقها والهواجس تستبد بها!. لاحظ الفتى أن فتاته غدت موزعة النفس مشتركة الذهن! وأخته حيرة مضنية وراح يلحف في سؤالها عن السر في سهومها المطرق. وكان جوابها عن كل الأسئلة التي ألقاها عليها هو قولها:

- ليس بي شيء! أية صدمة أصابته. . وأي حزن كاد يطيح بصوابه عندما أطلعته آخر الأمر على ما استسر طويلا في صدرها من الوساوس!

وبدا له أن يعرضها على طبيب. . وأشار الطبيب بأن يجري لها سريعا جراحة استئصال التضخم وأجريت الجراحة: واختفى المرض. . وتوارت آثاره البغيضة وكان من الممكن أن تعود الابتسامة إلى مكانها من شفتي الخطيبين وأن يمضيا في مشروع زواجهما الذي عطله المرض! ولكنهما كانا في خوف متصل من أوبته! كانت تمر بهما الساعات الطوال وهما مستغرقان في إطراقة الصمت وينتبهان إلى نفسيهما فيجد كل منهما أنه أمام صاحبه. . وتجري على شفاههما ابتسامة حزينة. . كانا يدركان أن ماردا جبارا يهدد سعادتهما!.

. . ودرجت الأيام. . ولم يظهر أثر ما لعودة المرض وقال الحبيب لحبيبته وفي قلبه ابتسامة كبيرة: - سنتزوج! أجابته وهي لا تتمالك نفسها من السعادة قائلة: - نعم سنتزوج.!

وطافا بصالات الأثاث. . واقتنيا أثاث غرفات أربع. وحددا يوم الزفاف. . وجرى كل شيء على ما يشتهيان عندما أحست الفتاة فجأة بتغييرات في مساحة الجراحة، بدأت تظهر فيها بثور شائهة راحت تكبر على الأيام. . كل يوم كانت تطالعها بوجه أكثر باعة ودمامة من اليوم السابق! لقد آب المرض الكريه. . ولكنها لم تستطع أن تنبئ فتاها بأويته. . إنه

ص: 52

كان قد غدا مرة أخرى سعيدا بخدودا. . وزايلت وجهه سمات الحيرة والقلق! ولأنها كانت أجمعت أمرها على أن تنفرد دونه بالألم فقد أطبقت على السر الرهيب صدرها! وراحت تتحامل على نفسها لتحتفظ بمرحها وروحها العذبة. وكتمت السر طويلا حتى ضمر جسدها، وبانت عليها نهكة المرض. . ولكن الفتى لم يكن بحاجة لمن ينبئه بالحقيقة السافرة. . وقال لها: - ينبغي أن تعرضي نفسك على الطبيب مرة أخرى وتهالكت على المقعد في إعياء وهي تمسك براحتها صدرها قائلة: - لم تعرض فتاة معافية نفسها على طبيب؟ قال لها: - ولكنك لست معافية يا حبيبتي! ومضى بها إلى الطبيب ورأى الطبيب بنظرة واحدة أن المرض قد عاد. ففي خلال أسابيع التستر والتكتم الطويلة تقدم تقدما حثيثا وأصبح لا غناء في أية جراحة ولا جداء في أي علاج! أينبئهما بالحقيقة؟ ما الخير في ذلك؟. . ليس من شيء يمكن أن يوقف تقدم المرض. إن إنباءها بالحقيقة معناه أن يغرقها وفتاها في ظلمات اليأس القاتل. .! لقد كانت أيامها معدودة. . فلم لا يجعل حياتها فيما يستطيع خالية من الشقاء والتعاسة. .؟ وفي حال من التأثر بهذه الروح الإنسانية الغالية قال لها وهو يربت على كتفها في جذل مصطنع:

- لا محل إطلاقا لأوهامك وهواجسك فأنت معافاة سليمة.

- كثيراً ما يقسو الناس في أحكامهم على الطبيب إذا جاءت النتائج على عكس ما قال لهم. . البعض يتهمه بالغفلة. . والبعض الآخر بالشره. . وليس فيهم من يدرك الموقف الدقيق الذي تفرضه عليه بعض أمراضهم!. ولا من يدرك أنه بشر مثلهم. . وإن أقسى ما يشعر به هو أن يعجز عن أن يعيد الابتسامة إلى مكانها من شفاه مرضاه التعساء.!

وحدثت المريضة نفسها قائلة بعد أن غادرت عيادة الطبيب: - لشد ما خدعت نفسي. . وخدعتني أوهامي. . ولشد ما أنا آسفة على القلق الذي استسلمت له وتركته يأخذ بخناقي!. ولا شك أن الفتى قال لنفسه بعد أيام من زيارتهما للطبيب:

- لقد أكد الطبيب أن صحتها على ما يرام وأكدت لي نفسها أنها في عافية. . ففيم إذن ضعف فتاتي وسقامها؟.

ومرة أخرى أقلقه الشك فأجمع أمره على أن يستشير طبيبا آخر. . وكنت أنا الطبيب الأخير الذي استشاره!. .

ص: 53

كانت النظرة التي تمليتها من المريضة كافية لأن أعلم أن برئها محال. واشكلت على وجوه الرأي ولم أدر هل أصارحها بالحقيقة أم أكتمها عنها وأطمئنها كما طمأنها طبيبها من قبلي، وأدع الأقدار وحدها تقول كلمتها وهي فصل الخطاب!. . ولكنني كنت استمعت منها إلى قصتها. وعرفت ظروف حياتها وكنت إلى ذلك أعرف أن فتاها ينتظر في صبر أرعن الكلمة التي ستنفرج من بين شفتي. . فأية قسوة أن أقول أمامه لفتاته:

- لا أمل في شفائك يا ابنتي

من يتصور أن أصدم فتاة في حياتها. . وفتى في أمله في الحياة؟ ورأيتني أميل إلى أن أكتم عنها الحقيقة فقد رأيت من الرحمة ألا أطفئ جذوة الأمل الأخيرة في حياة هذين العاشقين.! وما كدت انتهي إلى هذا القرار حتى انساب إلى صوتها الواهن وهو يقول:

- أرجو أن تنبئني بالحقيقة يا سيدي - إنني أعلم دقة مركزك. . ولكن يجب أن أعلم مهما كانت قاسية. .! وشئت أن أتكلم. . ولكن الكلمات ماتت على شفتي وأطرقت أفكر بينما تابعت هي حديثها قائلة:

- يريد خطيبي أن يعلم الحقيقة. . ولك ينبغي ألا تخبره بها إن كانت قاسية فهي حرية بأن تطيح برشاده وتشقيه. . ولكنني أستحلفك بشرف المهنة أن تنبئني بها!.

- وهكذا رأيتني في موقف يتحتم علي فيه أن أتكلم!. وصعدت إليها بصري لأول مرة منذ تكلمت فرأيت العزم والتصميم في وجهها فقلت:

- ما دامت تلك هي إرادتك. . فانه يحزنني أن أقول لك أن الزمام قد أفلت من أيدينا ومع أن وجهها كان قاسيا إلا أن الدموع طفرت فجأة وتحدرت على وجنتيها في خطين دقيقين!. أدركت في لحظة واحدة أنها امرأة فانية. . وأنها بعد وقت طويل أو قصير سترحل عن الدنيا وعن فتاها وعن ذويها. . وعن كل ما وعزيز لديها وحبيب. .! قالت في صوت يزخر بالانفعال:

- أما يوجد. . أي علاج؟

- يؤسفني أن أقول لا!

- أما ينتظر أن أعيش ستة أشهر أخرى؟

- يؤسفني أن أقول. . . لا. . أيضا!

ص: 54

قلتها وفي قلبي كآبة كبيرة. . . ورأيتها تخرج منديلا من حقيبة يدها راحت تكفكف به الدمع المنحدر من عينيها! وفي لحظة واحدة تبدلت الفتاة الفانية التي كانت أمامي واستحالت إلى فتاة جديدة. . في عينيها توكيد وعزم وقالت.

- ينبغي ألا يعرف!

وتقدمتني إلى الباب وفتحته في هدوء وقد جرت على شفتيها ابتسامة كنت وحدي أدرك كنهها وما تنطوي عليه من اليأس القاتل. . وانتفض الفتى واقفا عندما فتح الباب. . الابتسامة الوضيئة! الابتسامة المريرة. . الابتسامة الشجاعة كانت هي كلمة الأمان التي قالتها له فتاته وإن لم تتكلم.!

ولكنه تقدم مني ملهوفا كأنه يتهم عينيه وقال:

- أهي بعافية يا سيدي؟

وابتسمت له ونياط قلبي تقطع وقلت:

- أنت ترى بعينيك يا ولدي أنها بعافية. . وعلى ما يرام! وشد على يدي في حرارة وقوة وقال في شغف:

- شكراً لك يا سيدي. . شكراً لك.!

وما كادا يغادران العيادة حتى أطللت عليهما من النافذة وفي عيني دمعتان كبيرتان! كانت الفتاة تمضي في الطريق إلى جانب فتاها وهي متأبطة ذراعه في جذل كاذب!. . أية سعادة وهمية تلك التي كانت تعشعش في صدر الفتى.! وأي شقاء كان في صدر الفانية؟

تدبرت هذه المفارقة الفذة وأنا واقف إلى النافذة أتبعهما بصري عندما قفز إلى رأسي هذا السؤال:

لم سألتني عن المدة التي يمكن أن تعيشها؟ أتراها تزعم أن تنعم فتاها بالزواج بها ما تبقى من حياتها وهي قصيرة.! أم تراها تريد أن تتعجل أيامها الباقيات؟. أبدا لم يخل ذهني لحظة واحدة من التفكير في نادية فقد كنت أعلم أنها غادرت عيادتي لتموت. . .

كمال رستم

ص: 55