الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 946
- بتاريخ: 20 - 08 - 1951
تغير.
. .
أخذت مصر في عهدها الأخير تغير ما بنفسها ليغير الله ما بها كما قال عز قوله في كتابه الخالد. . . وأصدق الأدلة على هذا التغيير ما نراه من القلق على كل وجه، وما نسمعه من السخط على كل لسان، وما نقرأه من المعارضة في كل صحيفة
وليس ما نراه من القلق على كل وجه، وما نسمعه من السخط على كل لسان، وما نقرأه من المعارضة في كل صحيفة وليس ما نراه وما نسمعه ونقرأه من كل أولئك صادرا عن تقليد كما كان يصدر، ولا واردا عن تحريض كما كان يرد. إنما هو أنفه المستذل حين يحس، وغضبه المستغل حين يعي. والقطيع من البقر أو من الغنم إنما يظل قطيعا ما دام لا يعرف إلا العشب يخضمه والماء يجرعه والراعي يطيعه. فإذ ما أدرك يوما أن راعيه يأكل لحمه ويشرب لبنه ويستغل جهده، وليس من فضل عليه إلا أن يرأسه حيلة أضيق من قواه، وفي يده هراوة أضعف من قرونه، لم يعد قطيعا وإنما يصبح أمة
يعلن الناس اليوم ما كانوا يتأثمون أن يسروه، ويفعلون اليوم ما كانوا يحذرون أن يقولوه؛ ويدركون اليوم أنهم أصحاب الثروة وأرباب البلد ومصدر السلطان، فما في خزائن الدولة من الأموال ملك لهم، ومن في دواوين الحكومة من الرجال أجراء عندهم، وأن الكبراء الذين يلهمون ولا ينتجون، ويأخذون ولا يطيعون، ويقولون ولا يفعلون، ويحكمون ولا يعدلون، إنما هم الكبائر التي توجب العقوبة، والدلائل التي تعلن الكارثة، تصديقا لقول الله تعالى:(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)
لو كانت الصحافة وحدها هي التي تنتقد وتعارض وتشتكي وتحتج لقلنا: جماعة من المثقفين المرهفين رأوا المنكر فنددوا به، وأبصر الخطر فنبهوا إليه، ولكن الواقع أن قراء الصحف وسامعيها من كل طبقة ومن كل حزب قد رأوا فيما تنشر من اعتراض أو امتعاض تعبيرا دقيقا يضطرب في رءوسهم من فكر، وتصوير صادقا لما يعصف في نفوسهم من ثورة. فلما أراد من أراد أن يخفت من صوت الصحافة بالكمائم، ويضيق من خطوها باللجم انفجر في وجهه الرأي العام من ذات نفسه ومن جميع نواحيه، يدافع عن المنبر الحر الذي تتنزل عليه كلمته وتتجلى في أرادته
ولو كان الذين انفجروا في طريق (التشريعات الصحفية) من المعارضين للحكم القائم، لقلنا
نزوة من نزوات المعارضة، وشهوة من شهوات المنافسة، ولكن الأمر الذي تعجب له وتعجب به أن الذين خاضوا وقادوا معركة الرأي الحر في محنة الصحافة كانوا من شباب الوفد وكهوله! وذلك يؤيد ويؤكد ما قلنا من أن مصر بأسرها تغير ما بنفسها، وسيغير الله ولا ريب ما بها فتساس سياسة وطن لا سياسة إقطاع، وتقاد قيادة أمة لا قيادة قطيع!
المنصورة
أحمد حسن الزيات
السرقين والسماد في الزراعة قديما
لم يكن علم الفلاحة ومعاناة الأرض من العلوم التي انصرفت إليها في
الشرق أنظار العلماء والمؤلفين، فلن يقم في الأقطار الزراعية كالشام
ومصر والعراق والأندلس من انقطع إلى الدرس والبحث في علم
الفلاحة وعنى بإذاعة تجارية وأسراره إلا فيما ندر وقل. ومن راجع
كتابي الفهرست وكشف الظنون - وهما كل ما وصل إلينا من أسماء
الكتب والفنون - لا يكاد يجد فيهما إلا بضعة مؤلفات تدل على قلة
عناية القوم بتدوين تجارب الزراعة. ومن أشهر المصنفات فيها:
- كتاب الفلاحة النبطية لابن وحشية. وفي دار الكتب المصرية الجزء الأول منه رقم 39 في 35 ورقة، كتب في 22 رجب سنة 995
- كتاب الفلاحة اليونانية لقسطا أو قسطوس بن لوقا الرومي، طبع في المطبعة الوهبية بمصر سنة 1293 للهجرة
- كتاب الفلاحة للروم لعلي بن محمد بن سعد، ذكره ابن النديم
- كتاب الفلاحة لابن العوام الإشبيلي. طبع في مجريط (مدريد) سنة 1802 وفي مصر
- كتاب الدر الملتقط، من علم فلاحتي الروم والنبط، تأليف محمد بن أبي بكر بن أبي طالب الأنصاري الصوفي الدمشقي المعروف بشيخ حطين رقم 21 في مكتبة الدار المصرية، فيه لغاية الباب التاسع والعشرين 64 ورقة
- كتاب بغية الفلاحين في الأشجار المثمرة والرياحين تصنيف السلطان الملك الأفضل العباس ابن الملك المجاهد علي ابن الملك المؤيد داود بن الملك المظفر يوسف بن الملك المنصور عمر بن علي بن رسول. ناقص من آخره قليلا. ذكر أنه نقله واستخرجه من مطالعة الكتب المدونة في الفلاحات، وسمي منها الكتاب الموسوم بالإشارة في العمارة تصنيف والده، وكتاب ملح الملاحة في معرفة الفلاحة لجده الملك الأشرف. وفي دار الكتب المصرية نسخة من بغية الفلاحين رقم 155، في 164 ورقة فيه إلى الباب السادس عشر وفي خاتمته فوائد زراعية يمنية. ويظهر أن المؤلف توفي سنة 778 للهجرة
- كتاب الفلاحة المنتجة لطيبغا الجركلمشي منه نسخة حسنة في دار الكتب المصرية رقم 219 في 118 ورقة، وفي خزانة باريس نسختان منه رقم 2807 و2808
- كتاب الفلاحة لأبي عبد اله محمد الحسين رقم 4746 في خزانة باريس
- كتاب مفتاح الراحة في علم الفلاحة رقم 237 في مكتبة الدار المصرية وأوراقه189، وأكثر منقول من كتاب الفلاحة النبطية لابن وحشية
- كتاب جامع فرائد الملاحة في جوامع فوائد الفلاحة لرضى الدين الغزي رقم 134 في دار الكتب المصرية، 117 ورقة وفيه فوائد كثيرة
- الفن الرابع في النبات والزراعة والفلاحة في تسعة أبواب من كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر لجمال الدين محمد بن إبراهيم بن يحيى الوراق المعروف بالوطواط. ومنه ثلاث نسخ في دار الكتب المصرية، إحداها مصورة في ثلاث مجلدات رقم 359. وهو ينقل عن ابن بصال في كتاب الفلاحة الرومية، وعن كتاب النبات لأبي الخير الأندلسي، قال: وهو غريب جدا لم أجد من ورآه. وينقل أحيانا عن كتاب ابن الوحشية وكتاب الفلاحة المصرية
- علم الملاحة في علم الفلاحة للشيخ عبد الغني النابلسي، طبع في مطبعة نهج الصواب بدمشق سنة 1299، اختصره من كتاب الغزي المتوفى سنة 935 السابق الذكر
- عمدة الصناعة في علم الزراعة لعبد القادر الخلاصي من القرن الثاني عشر
وقد طالعنا كل ما وجدناه من هذه المؤلفات في دار الكتب المصرية فوجدناه كتاب ابن العوام أجودها وأتمها وأجدرها بالمراجعة والاعتبار. وقد استوفى فيه كل ما كان مألوفا في زمانه من علاج الأرضين وزراعة البقول والحبوب وغراس الأشجار وتربية الحيوانات والدواجن، وروى كل ما يتعلق بهذه الأبواب علما وعملا، فهو خير ما يعتمد عليه في ها الدرس وفيه فوائد وفرائد توضع عليها اليد وتعد ذخراً للزراع والأكار
ومعلوم أن الأسمدة التي هدت إليها الكيمياء ونبهت على خصائصها وفضائلها في إنعاش الأتربة وتعويض ما تفقده من المواد والقوى في تغذية النباتات وتثمير الأشجار ولم تكن معروفة في أوربا قبل القرنين الأخيرين، فكان الأكرة ورجال الفلاحة لا يعرفون إلا السرقين لإصلاح الأرضين وإزكاء الزروع ولذلك قال الخاركي
لا أغرس الغرس إلا في مسرقنة
…
والغرس أجود ما يأتي بسرقين
وقد فرقت كتب اللغة بين السرقين والسماد، فالسرقين هو الزبل والروث وحده وأما السماد فهو السرقين مخلوطا برمل وتراب. وجاء الدمال بمعناه وبمعنى السرقين: يقال دمل الأرض أصلحها أو سرقتها. ومن مزاعمهم في التقاليد المروية عن محمد بن علي بن عبد الله أن (أول من دمل الأرض أي ألقي فيها السماد داود عم). وحكي الأصبهاني أن أول من جمع السماد بالبصرة وباعه هو عيسى بن سليمان بن علي العباسي من بيت الخلافة حينما كان أمير البصرة (وكانت له محابس يحبس فيها البياح ويبيعه فقال فيه أبو الشمقمق:
إذا رزق العباد فإن عيسى
…
له رزق من (أعجاز) العباد
فلما تزوج عيسى فاطمة بنت عمرو بن حفص قال محمد بن عيينة في ذلك:
أفاطم قد تزوجت عيسى فأبشري
…
لديه بذل عاجل غير آجل
فإنك قد زوجت من غير خيرة
…
فتى من بني العباس ليس بعاقل
فإن قلت من رهط النبي فإنه
…
وإن كان حر الأصل عبد الشمائل
رأيت أبا العباس يسمو بنفسه
…
إلى بيع بياحاته والمباقل
ولم ترد لفظة البياح في المعجمات ولا في تكملة دوزي. وإنما جاء البياحة شبكة الحوت، وبعد طويل والبحث والتنقير وفقنا للعثور على الحديث الأتي في كتاب البخلاء لجاحظ قال:
(حدثني إبراهيم بن عبد العزيز قال: تغذيت مع راشد الأعور فأتونا بجام فيه بياح سبخي الذي يقال له الدارج، فجعلت آخذ الواحدة فأقطع رأسها ثم أعزله، ثم أشقها باثنين من قبل بطنها فآخذ شوكة الصلب والأضلاع فأعزلها، وأرمي باقي بطنها وبطرف الذنب والجناح، ثم أجمعها في لقمة واحدة وآكلها) ولا شك أن هذا الوصف هو وصف سمك كان بالبصرة تجمع رذالته ونفايته وما يرمي به من شوكة وأضلاعه وأطرافه وتحفظ في محبس لها حتى يغلب عليها العفن، فتباع على البساتين كالسماد. ومن ثم تكون البياحات في حكاية الأصبهاني المواقع التي يحبس فيها البياح والسماد. وهذا أقرب ما يبدو لنا في تفسير هذه الكلمة الغريبة
وقد فاتنا لا محالة كثير من اختبارات الأكرة وأرباب الضياع والبساتين وفنون علاجهم
للأرض وتنميتهم للبقول والأزهار والأثمار. وتكفي مطالعة كتاب ابن العوام الآنف الذكر لمعرفة ما كان لبعض مصطلحاتهم وطرائقهم من الشأن والقيمة. ومن بعض الأدلة عليها تنبههم إلى ما في الدماء والأبوال من القوة والدواء لإصلاح الأرض لما فيها كما هو معلوم اليوم من الأزوت والنترات، فأشاروا بهما لطب النباتات والمغروسات. قال ابن العوام:(وقد يعالج بعض أدواء النباتات بدماء وأبوال لأن للدماء قوى عجيبة في إنعاش بعض الشجر والنبات). ولكن فأنه أن ينبه على وجوب تجفيف الدم قبل استعماله
راجعنا مقالاتهم في أنواع السرقين والمفاضلة بين ذرق الحمام وأرواث الخيل والبغال والحمير، وأحثاء البقر والجواميس وأبعار الغنم والضأن والماعز، فإذا أفضل الأزبال عندهم ذرق الحمام، واختلفوا في ما يتلوه في الجودة فقدم بعضهم زبل الحمير على روث الخيل ثم زبل الغنم ثم زبل البقر. ونقلوا عن قسطوس أحد علماء الفلاحة، وهو قسطا بن لوقا، أنه قال:(أحسن زبل الطير ذرق الحمام فبحرارته يميت الأعشاب، ثم زبل الحمير ثم زبل الغنم ثم زبل البقر، وأنفع الآزبال العامة للنبات زبل الخيل والبراذين). وهذا الرأي هو الشائع اليوم في تفضيل روث الخيل للمزروعات عامة.
وهنالك سرقين آخر أشادوا بجودته، وأجمعوا على إيثاره والمغالاة فيه وهو ما نستميح القارئ أجمل العذر في التعريض به، وقد سبق الإيماء إليه في بيت الشمقمق ويسمونه الروث الآدمي وزبل الناس. ومن غريب ما عرف به أيضا ولم نره إلا مرة واحدة اسم (قوسان) نقلة ابن الأخوة في كلامه على حسبة الفاخرانيين والقصارين فقال:(يشرط عليهم ألا يقدروا على الكوز بقوسان وهو روث الآدمي ولا بشيء من الأزبال فإنه نجس، بل الحلفاء والقيشة وهي قشر الأرز وما أشبه). ومن أشهر أسمائه أيضا الغائط والنجو والعذرة. وإنما الغائط المكان المطمئن. وكانوا إذا أرادوا الخلاء انحدروا إلى الغيطان أي بطون الأرض تسترا وانتباذا. وكثر ورود الغائط في كلامهم فانتقل أسمه إلى الحدث نفسه واشتقوا منه الفعل تغوط، كما انتقل اسم الحش وهو في الأصل البستان إلى بيت الخلاء لأنهم اعتادوا أن يتبرزوا في البساتين. وأما النجو فهو الارتفاع من الأرض وكان الرجل إذا خرج لقضاء الحاجة يتستر بنجوة فقالوا من ذلك ذهب ينجو كما قالوا ذهب يتغوط إذا ذهب إلى الغائط لك الأمر. وأما العذرة فهي فناء الدار وكانوا إذا قضوا حاجتهم ألفوها في
الأفنية اسم المحل على الحال
وفي أخبارهم عنها السماد الآدمي من النكات والمضحكات وهجن العادات والحكيات الغريبة ما يدخل في أوصاف الحضارة وتاريخ الفلاحة، ولذلك لم نتوقف عن رواية بعضها بعد أطراح مالا يجمل ذكره واستبدال ما يقبح التصريح به من ألفاظه المبتذلة الفاحشة
وقد عده ابن العوام بعد ذرق الحمام في الجودة والامتحان الأرض والمنابت كلها. ووصف أيضا كيف يعمل به قبل الاستعمال له فقال: (ينبغي أن يجفف من رطوبته الأولى حتى يكمل جفافه ويسود ثم يجعل في الحفائر ويرش عليه الماء العذب ثانية ويحرك تحريكا كثيرا ويختلط ويجفف حتى يجف جفافا جيدا ثم يخلط به رماد)
وكان لأصحاب البساتين طلب عليه شديد وتنازع متواصل (فلا يعافون تسميد بقولهم قبل نجومها وتفتق بزورها ولا بعد انتشار ورقها وظهور موضع اللب منها، حتى ربما ذروا عليها السماد ذرا ثم يرسل عليها الماء حتى يشرب موضع اللب قوى العذرة. بل من لهم بالعذرة وعلى أنهم ما يصيبوها إلا مغشوشة مفسدة، وكذلك صنيعهم في الريحان، فأما النخل فلوا استطاعوا أن يطلوا بها الأجذاع طليا لفعلوا)
ومما يدل على الاعتقاد الشائع في أثر هذا السماد البشري نكتة رواها البلاذري عن معاوية بن مروان وكان محمقا قال: (مر بحقل وقد سمع أهل الشام يقولون لا يفلح حقل لا يرى (عجز) صاحبه فنزل وأحدث) ومن أهزل الأبيات التي قيلت في هذا المعنى ما رواه أبو الفرج الأصبهاني قال:
(اجتمع جعيفران الموسوس ومحمد بن بشير في بستان فنظر إلى محمد بن بشير وقد انفرد ناحية ثم قال عن شيء عظيم خرج منه فقال جعيفران:
قد قلت لابن بشير
…
لما رمى من عجانه
في الأرض تل سماد
…
علا على كثبانه
طوبى لصاحب أرض
…
(خلوت) في بستانه
وكانت البصرة فيما قيل أشهر أسواق السرقين، وأميرها كما سبق كان من يتجر به (وللحوش فيها أثمان وافرة فيما زعموا تجار يجمعونها. فإذا كثرت عليها أصحاب البساتين ووقفهم تحت الريح لتحمل نتنها فإنه كما كانت أنتن كان ثمنها أكثر، ثم ينادى عليها فيتزايد
الناس فيها. وقد قص هذه القصة صريع الدلاء المصري. . ولذلك ذم الشعراء البصرة وأهلها فقال محمد بن حازم الباهلي (في هجاء البصري):
يعتق (نجوه) كيما يغالي
…
به عند المبايعة التجار
ومن النوادر المروية عن البصرة (دخل فتى من أهل مدينة البصرة فلما انصرف قال له أصحابه: كيف رأيت البصرة؟ قال: خير بلاد الله للجائع والغريب والمفلس. أما الجائع فيأكل خبز الأرز والصحناة فلا ينفق في شهر إلا درهمين. وأما الغريب فيتزوج بشق درهم. وأما المحتاج فلا عليه غائلة ما بقيت له عجزه، (يحدث ويبيع)
وأشبهت أصبهان البصرة في نفاق الحشوش فيها (فإن قيمتها عندهم وافرة) قال ياقوت: حدثني بعض التجار قال: رأيت بأصبهان رجلا من التناء يطعم قوما ويشرط عليهم أن يتبرزوا في خربة له قال: ولقد اجتزت به مرة وهو يخاصم رجلا وهو يقول: كيف تستجير أن تأكل طعامي وتفعل كذا عند غيري - ولا يكني - ولبعض الشعراء في ذم أصبهان وأهلها أبيات قال فيها أن ليس للناظر في أرجاء اصبهان من نزهة تحي القلوب غير أوقار العذرة ومن أقبح ما وصف به أيضا أهل أصبهان قول أبي القاسم البغدادي: (يحملون (نجوهم) على رؤوسهم وعلى ظهور دوابهم إلى بساتينهم فينجسون به الأنهار ويربون به الثمار ويأكلونها. أي لعمري هو (نجوهم) منهم بدا وإليهم يعود وهم أحق به. بلدة حشوشها في المسابل وطرقها كالمزابل. لا يوجد ذو كرم ولا نائل)
وعيبت مدينة توزر في إفريقية (بأن أهلها يبيعون ما يتحصل في مراحيضهم من رجيع الناس يفخلون به بقولهم وبساتينهم ولكنهم لا يرغبون فيه إلا إذا كان جافا فيحملهم ذلك على عدم الاستنجاء في مراحيضهم، ويخرج أحدهم من بيته حتى يأتي القناة فيستنجي من مائها وربما اتخذ أحدهم المراحيض على قارعة الطريق للواردين عليها ليأخذ ما يتحصل من ذلك ويبيعه) ولذلك قال الجاحظ: (من أكرم سمادهم الأبعار كلها والأخثاء. إذا جفت، وما بين الثلط جافا والخثاء وبين العذرة جافة ويابسة فرق)
وأقبح ما هنالك ما كان يجري في قابس (فإن أكثر دورهم لا مذاهب فيها وإنما يتبرزون في الأفنية فلا يكاد أحدهم يفرغ من قضاء حاجته إلا وقد وقف عليه من يبتدر أخذ ما خرج منه لطعمة البساتين، وربما اجتمع على ذلك النفر فيتشاجرون فيه فيخص به من أراد منهم،
وكذلك نساؤهم لا يرين في ذلك حرجا عليهن إذا سترت إحداهن وجهها ولم يعلم من هي)
وأشد ما الطلب على السماد في بغداد حتى بعث الطمع بعض أصحاب الرباع على احتكار ما كان يلقى على الكساحة والمزابل، قال بعضهم: نزلنا دارا بالكراء لكندي فكان في شرطه على السكان أن يكون له روث الدابة وبعر الشاة ونشوار العلوفة) ولابن السميسر في بلنسية وهي من أهم مغارس النارنج والبرتقال في إسبانية تطيف بها منهما حدائق وبساتين ملء البصر:
بلنسية بلدة جنة
…
وفيها عيوب متى تختبر
فخارجها زهر كله
…
وداخلها برك من قذر
ومن الغريب جدا أن يتنازع الناس إلى هذا الحد القبيح أوقار الأقذار! فهل كان سرقين الحيوانات دون الكفاية؟ ولعل أقرب ما يعلل به هذا الطلب الشديد أن ألبعار والأخثاء كانت تجفف وتدخر للوقود ولا سيما في البلاد التي قلت فيها الأحراج والغياض وتعددت الحمامات كما أشار إليه صاحب كتاب البخلاء حيث قال: (أما الفرث والبعر فحطب إذا جفف عجيب) ولا شك أن مثل هذه العادة كانت في الشرق معروفة شائعة منذ القدم، ولا تزال متبعة في القرى والجبال إلى اليوم وقد ألمح أليها الشعراء قال الهذلي:
وليلة يصطلى بالفرث جازرها
…
يختص بالنقرى المثرين داعيها
وللأخطل في إحدى نقائضه
صفر اللحي من وقود الأدخنات إذا
…
رد الرفاد وكيف الحالب القرر
يقول هم صفر اللحى من الدخان، والأدخنات السرقين، والرفاد قدح ضخم، والقرر جمع قرة وهي البرد
وفيما عدا الوقود للاصطلاء كان السرقين تحمى به الحمامات وأتانين الملال صانع خبز الملة وتنانير الخبز. ومن مآثر طاهر بن الحسين أنه رأى يوما في قصره ببغداد (دخانا مرتفعا كريه الرائحة فتأذى فسأل عنه فقيل له إن الجيران يخبزون بالبعر والسرجين فقال: إن من اللؤم أن يقيم بمكان بتكلف الجيران شراء الخبز ومعاناته. . . اقصدوا الدور واكسروا التنانير واحصوا جميع من بها من رجل وامرأة وصبي وأجروا على كل واحد منهم خبزة وجميع ما يحتاج إليه. . . فسميت أيامه (الكفاية) وعزم أحد الخلفاء العباسيين
على الشرب يوما واستنكف من رؤية الرجيع واستنشاقه بين أزهار البستان، فزينت له أنفته أن يستعيض عنه بما لا يخطر في أذهان الملوك وهو ما رواه التنوخي قال:
(أراد المقتدر الشرب على نرجس في بستان في صحن دار من صغار صحونه فقال بعض من يلي أمر البستان: سبيل هذا النرجس أن يسمد قبل شرب الخليفة عليه بأيام فيحسن ويقوى، فقال هو: ويلك يستعمل (الرجيع) في شيء بحضرتي وأريد أن أشمه قال: بهذا جرت العادة في كل ما يراد تقويته من المزروع، فقال: وما العلة؟ قال: لآن السماد يحميه ويعينه على النبات والخروج، قال: فنحن نحميه بغير السماد. وتقدم فسحق من المسك بمقدار ما احتاج إليه البستان من السماد وسمد به وجلس يشرب عليه يومه وليلته واصطبح من غده عليه، فلما قام أمر بنهبه فانتهب البستانيون والخدم ذلك المسك كله من أصول النرجس واقتلعوه مع طينه حتى خلصوا المسك فصار البستان قاعا صفصفا، وخرج من المال شيء عظيم كثير في ثمن ذلك المسك)
باريس
السربون
شاكر محمود
رسالة المربي
الحرية. . . المعنى الحقيقي لها. . . صلتها بالتربية. . .
تحديد رسالة المربي
للأستاذ كمال السيد درويش
(تابع)
لقد اختلف الناس حول تفسير الحرية منذ القدم وسوف يظلون على اختلافهم هذا. وهل ينعم المجتمع الإنساني حتى الآن بالحرية كما يجب أن يكون؟
إن أول معنى للحرية هو الذي فهمه الإنسان الأول حين كان يسعى في الغابات: حرية مطلقة غير مقيدة اللهم إلا بقيود البيئة التي يعيش فيها
ثم تطور معنى الحرية ينمو المجتمع الإنساني وظهور التقاليد تلك التي استبدت بحرية الإنسان وأخذت تسلبه إياها رويدا رويدا حتى شعر في النهاية بسلطانها الديكتاتوري فقام يثور ضد عبودية التقاليد. . . قام يستعيد حريته الأولى. . . حريته المطلقة عرف الإنسان الحرية بمعناها المطلق وما كاد يبتعد عنها حتى عاد إليها. وهذه هي الحرية التي نادى بها جان جاك روسو: (لقد ولد الإنسان حرا. .)
ولكن الحرية المطلقة كانت نكبة على الإنسان فنفر منها وهجرها. وكيف لا يفر منها وقد وجدها تقتل نفسها بنفسها فتستحيل بذلك إلى الديكتاتورية بعينها. ألست حرا في أن أفعل ما أشاء؟ وغيري أليس بدوره حرا؟ سأستعبده بحريتي المطلقة، وسيستعبدني بدوره وهكذا يصبح كل منا عبدا للآخر
جرب الإنسان الحرية المطلقة كما جرب الديكتاتورية فوجد أنهما اسمان لمسمى واحد، ذلك هو العبودية. وواجهته المشكلة فماذا فعل لحلها؟ لقد لجأ إلى الحل الوسط: يجب ألا يتمتع بالحرية هكذا مطلقة من كل القيود كما يجب ألا يعيش بدونها. الحرية المقيدة هي علاج حيرة الإنسان
وخرج الإنسان من المشكلة ليجد مشكلة أخرى اشد تعقيدا، حقا يجب تقييد الحرية ولكن إلى أي حد يجب تقييدها؟!
ما اكثر القوانين التي وضعت لتقييد الحرية فإذا بها تلتف حول عنقها لتخنقها وتزهق روحها؟! ما الفائدة إذا كنا سنصيح مرددين: إيه أيتها الحرية، كم من الجرائم ترتكب باسمك؟! لا بد من تحديد المدى الذي يجب أن نذهب إليه في تقييد الحرية حتى لا تنقلب إلى ديكتاتورية وعبودية. ولكي نحدد المدى سنسير مع الطريقة النفسية فنسأل أنفسنا أولا:
ما هو الغرض من تقييد الحرية؟! أليس الغرض هو الكف من ضرر إطلاقها للمحافظة عليها؟ لتكن قيود الحرية هي تلك القيود التي تؤدي حقا إلى تقدمها ونموها لا إلى تأخرها وضمورها وهنا تتضح الصلة الوثيقة بين التربية وبين المعنى الحقيقي للحرية التربية قيد ووسيلة. هي قيد نقيد به حرية المتعلم كوسيلة من وسائل المحافظة على نمو هذه الحرية وازدهارها. وهذا مقياس يمكن أن نقيس به نجاح التربية في الوقت الحالي. أهي قيد يزيد في حرية الإنسان وفي مدى تمتعه بالحياة؟ أم هي عبء ثقيل حرم الإنسان حريته ولا يزال يسلبه إياها كبيرا؟
هذا الطفل الناشئ! لماذا نعلمه؟ أليس غرضنا من ذلك أن نجعله أقدر على فهم مجتمعه والاندماج فيه والتمتع بأكبر قسط من الحرية في الحياة؟ ألسنا نزوده بخبرة من سبقه من الناس لينتفع بها في التغلب على ما يصادفه من عقبات، وكلما تمكن من ذلك اتسع مجال الحرية أمامه لينعم بالحياة؟ إن التربية قيد ضروري لحرية الإنسان وهي بذلك جزء لا يتجزأ منها وعلى العكس من ذلك لو زودنا الطفل بتعليم جاف جامد ليست له أية قيمة علمية في الحياة لن يستفيد منه قط ولن يستخدمه في تذليل ما سيصادفه من مشاكل وعقبات - وما أكثرها - في الحياة. لم يعطه ذلك التعليم أية حرية في الحياة. وهكذا يصبح في نظره مجرد قيد لا اكثر ولا اقل. . مجرد عبء يضاف إلى أعبائه فيثقلها، ومشكلة تضاف إلى مشاكله فتعقدها، ويكون مثل المتعلم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا
يتضح من ذلك أن رسالة المربي يجب أن تكون في العمل بالطريقة السيكولوجية (النفسية) لا المنطقية وفي التخلص من ديكتاتورية التقاليد وفي توطيد دعائم الحرية. . الحرية المقيدة لا المطلقة،. . والحرية المقيدة بأي نوع من أنواع القيود؟! بالقيود التي تزيد في الحرية نفسها
هذا هو الأساس الفلسفي لرسالة المربي في الحياة سواء أكان مدرسا أم غير مدرس. وتلك
هي الخلاصة التي استخلصتها الإنسانية خلال العصور، وبعد أن جربت مختلف الاتجاهات فلم تنته إلا إليها، والتي تتمثل في كتابات كبار فلاسفة التربية في الوقت الحالي
ولكن. . كيف يمكن إخراج هذا الأساس الفلسفي إلى خير الوجود العملي؟! سوف يكون ذلك موضوع المقال القادم بإذن الله
كمال السيد دروبش
ليسانيسية الآداب بأمتياز - دبلوم معهد التربية العالي
مدرس بالرمل الثانوية
3 - ألمانيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
0يأيها الذين أمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب
أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله في
بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم أن كنتم تعلمون) صدق الله
العظيم
مطالب:
لمصر في عصرنا الحاضر قضيتان أو إن شئت قضية واحدة ذات شقين: الجلاء والوحدة، فمصر لم تعد تحمل استمرار احتلال إنجلترا لأراضيها منها. ومهما تقدم بريطانيا من حجج فلن يستطيع المصريون أن يؤمنوا بغير الجلاء حلا. وهم على حق، فان احتلال دولة - مهما كانت صديقة - لأراضي دولة أخرى أو جزء منها يعتبر عدوانا عليها واعتداء على استقلالها وأمر لا يقبله عقل سليم أو يرضاه وطني مخلص
وكذلك لا تستطيع مصر أن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى وحدة الوادي تتحطم أمام عينها، وهي وحدة أقامتها العوامل الجغرافية والتاريخية واللغوية والدينية. إن مصر لا تطلب سيادة على السودان وإنما تريد أن تعيد وحدة وادي النيل التي أقامها محمد علي الكبير منذ سنة 1820 وإنشاء دولة قوية موحدة من مصر والسودان، للسودان فيها ما للمصري من حقوق وعليه من واجبات
وبريطانيا ما تزال حجر عثرة في سبيل تحقيق الأمنيتين، بل
إن وزيرها موريسون يعلن في خطابه بتاريخ 307 1951أن
على شعوب الشرق الوسط أن تخفف من غلوائها الوطنية وان
تقبل الأمر الواقع. ويزيد أن إسرائيل أقيمت لكي تبقي ولا
يمكن إلقاؤها وإلقاء أهلها في البحر، وأن بريطانيا حريصة
على بقائها. ونحن نسائل الوزير البريطاني: كيف جاز أن
تلقوا بالعرب الآمنين من أهالي فلسطين خارج بلادهم
وأوطانهم في بداية جدباء، وارض قفر لا زرع فيها ولا ماء؟
أيها الوزير: أنت لا ترضى أن تلقي بإسرائيل وأهلها في البحر، فأمامك العرب العزل المشردون فألق بهم في البحر إن لم يعجبك إلقاؤهم في البادية
أيها الوزير: لقد أثمتم في حق بريطانيا وفي حق التاريخ، فجرائمكم في الشرق الأوسط ستظل وصمة عار في جبينكم، وعليكم إن أردتم أن تكفروا عن ذنوبكم أن تردوا الحقوق إلى أهلها. فليرجع عرب فلسطين إلى أوطانهم، ولتعط مصر حقوقها كاملة غير منقوصة فإن ذلك هو الطريق إلى الاستقرار في الشرق الأوسط. لقد صبرنا على عدوانكم سنين طوالا ولم يبق في قوس الصبر منزع. إن كل مصري يهتف من أعماق قله في وجوهكم أن (اخرجوا من بلادنا)
وإني في هذا الحديث أقدم لمواطني قصة قيام ألمانيا الحديثة عسى أن تتخذ منها مثلا والله ولي التوفيق
اصطلاح جغرافي:
كانت ألمانيا مقسمة إلى عدة ولايات ودول وكانت مملكة بروسيا أعلاها شأنا، وكانت السيادة على العالم الألماني للنمسا فلم تكن هناك دولة إذن تجمع شتات الألمان عنهم العدوان، وقد ذاق الألمان على يد نابليون الكثير من صنوف العذاب وألوان الهوان. ومع هذا فإن مؤتمر فينا 1815 أهمل مطالب الألمان القومية وبقيت ألمانيا مقسمة وتسودها النمسا حتى 1863 وتمت وحدتها على يد داهيتها بسمارك
بسمارك:
يقول أحد المؤرخين (إن القرن التاسع عشر يقتسمه رجلان: نابليون في النصف الأول
وبسمارك في النصف الثاني: ويطلق المؤرخون على الفترة من 1870 - 1890 اسم (عصر بسمارك) لأن بسمارك كان قطب السياسية الدولية لدفتها في تلك الفترة
ولد بسمارك سنة 1815وتعلم في جامعتي جوتنجن وبرلين، ثم التحق بخدمة الحكومة ولكنه استقال، وظل كذلك حتى انتخب عضوا في برلمان برلين سنة 1848 ثم عين مندوبا بروسيا في الديت الألماني. وبعد تعين سفيرا لبروسيا في بطر سبرج ثم في باريس. وهناك اتصل بساسة الدولتين وعرفهم عن قرب عاد بسمارك إلى برلين وتولى الوزارة. كان أسمى أمانيه إنشاء اتحاد يشمل جميع الولايات الألمانية تحت رياسة بروسيا، ولهذا عمد إلى تقوية الجيش، لكن البرلمان عارض فقال بسمارك عبارته المشهورة (إن المسألة الألمانية لا تحل بمناقشات برلمانية ولكن تحل بالدم والحديد) ولم يعبأ بمعارضة البرلمان وكون لبروسيا جيشا قويا كان عدتها في تكوين وحدتها
كان بسمارك يعلم أن وحدة ألمانيا لن تتم إلا بقيام حربين: حرب مع النمسا، وأخرى مع فرنسا. وهنا تتجلى عبقرية بسمارك الدبلوماسية، فقد قرر أنه في حالة قيام الحرب يجب عليه أن يحارب دولة واحدة فقط، ولذلك كان يعمد إلى عزل هذه الدولة حتى لا تجد لنفسها نصيرا أو حليفا، وبذلك سرعان ما تنهزم أمام قواته المدربة
الحرب مع النمسا:
كان ملك الدانمارك يحكم ولايتين ألمانيتين: شلزديج وهولشتين. وفي عام 1864 اتفق بسمارك مع النمسا على انتزاع الولايتين من يد الدانمارك، وسارت جيوشها فأخذت بروسيا شلزويج وأخذت النمسا هولشتين
بعد هذا عمد إلى عزل النمسا دوليا. . جامل الروسيا أثناء إقامته فيها وأثناء الثورة البولندية إذ وقف في وجه الثوار يمنع عنهم العتاد والأسلحة ويمنعهم من الفرار من بولندا فحفظت روسيا هذا الجميل
وأما فرنسا فقد قابل إمبراطورها نابليون الثالث في بيارتز وهناك اتفق معه على أن يقف على الحياد وفي مقابل ذلك يأخذ بلجيكا أو بعض ولايات الرين الألمانية
وأما إيطاليا فقد انضمت إلى صفة لأن النمسا كانت تحتل البندقية فتعهدت بالدخول في الحرب مع بروسيا لتأخذ البندقية أعد بسمارك قواته، وعزل النمسا دوليا واصبح الطريق
إلى الوحدة أمامه معبدا، فاتهم النمسا بأنها تسيء الحكم في ولاية هولشتين وسير فاحتلها. أعلنت النمسا الحرب وسرعان ما سحقت قوات بروسيا قواتها في معركة سادرا 2 يولية سنة 1866 وهنا نرى لونا آخر من عبقرية بسمارك: لقد أصبح الطريق إلى فينا مفتوحا أمام القوات البروسية، ولكن بسمارك أمرها بالوقوف وبدأ مفاوضات الصلح معها فعقدت معاهدة براغ 1866وبها اعترفت النمسا بتكوين اتحاد بزعامة بروسيا من الولايات الألمانية الشمالية
لماذا لم يتقدم بسمارك ويحتل فينا؟ إنه كان يطمع في صداقة النمسا وكان يؤمن بأن الحرب مع فرنسا آتية لا ريب فيها، ولذلك رأى عدم إذلال النمسا حتى لا تنضم في النزاع المقبل إلى فرنسا
الحرب مع فرنسا:
كانت سياسية فرنسا تقوم على أساس منع قيام دولة ألمانية موحدة، ولك ثار الشعب الفرنسي على إمبراطورة عقب سادرا واعتبر الكتاب الفرنسيون أن فرنسا هي التي هزمت في سادرا لا النمسا واتهم الإمبراطور بالتقصير
كان بسمارك يستعد للمعركة، فأعد الجيش، ومد الطرق الحديدية إلى الحدود الفرنسية، وعمد إلى عزل فرنسا دوليا: فروسيا صديقته وإيطاليا كذلك إذا بر بوعده لها وأعطاها البندقية. وأما النمسا فكانت لا ترى نفسها في حالة تدفعها إلى الدخول في حرب جديدة
بقيت إنجلترا وهذه لا تهتم إلا بالبلجيك، وسياستها تعمل داما على منع وقوع بلجيكا في يد دولة معادية سواء كانت فرنسا أو ألمانيا. طالب نابليون الثالث بمكافأته حتى يغطي مركزه في فرنسا، ولكن بسمارك رفض إعطاءه أراضي ألمانية أو بلجيكية، ونشر مكتبات نابليون فأثار الشعور الأماني ضده وأثار الإنجليز وهكذا بقيت فرنسا وحيدة بعد هذا عمد بسمارك إلى إثارتها واتخذ من مسألة النزاع حول العرش الإسباني في إشعال الحرب. واندفعت فرنسا فسقطت في الهوة التي حفرها بسمارك. وقامت الحرب وسرعان ما هزمت الجيوش الفرنسية في كل مكان وسقطت إمبراطورية نابليون الثالث غير مأسوف عليها. وتقدم الألمان واحتلوا باريس وتوج الملك ولهلم إمبراطوراً لألمانيا في قصر فرساي في 18 يناير سنة 1871وهكذا تم الاتحاد الألماني بقوة الدم والحديد ومنذ قيام ألمانيا الحديثة أصبحت
إحدى الدول الكبرى التي تتحكم في مصير العالم، وقد ظل وزيرها بسمارك يسيطر على السياسية الدولية ويدير دفتها حتى عزله الإمبراطور ولهلم الثاني، ومما لا شك فيه أن بسمارك يعتبر أستاذ الساسة الألمان وأبرعهم، فقد كان يرسم خطة المعركة قبل خوضها ويحيطها بالعوامل التي تكفل له النصر. وعلى نهجه حاول هتلر أن يسير، ولكن التوفيق جانبه في النهاية، بينما لازم التوفيق بسمارك طوال حياته
للكلام بقية
أبو الفتوح عطيفة
المدرس الأول للعلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية
2 - شاعر مجهول
للأستاذ حسني كنعان
شاع في سوريا أن قوة كثيفة قادمة من الأناضول التركي يتقدمها كبار القادة والصدر الأعظم قد أعدها السلطان للقضاء على جيش إبراهيم باشا والقضاء على حركته التحريرية قبل أن يستشري شرها ويستفحل أمرها. وما كادت تتخطى هذه القوة حلب وتصل إلى منبج حتى تلقتها أيدي الصقور المصرية، فأسرت القادة ثم أسرت الصدر الأعظم نفسه، فتمزق ذلك الجيش الذي أطلقوا عليه جيش الخلاص والإنقاذ، ففر منه عائدا إلى تركيا، وأسر من أسر من أفراده، فكانت هذه النكسة للأتراك بمثابة فضيحة كبرى طمعت الدول الأجنبية بهم، وجعلتهم يطلقون على الدولة العثمانية الرجل المريض، فأزمعوا تقسيمها مذ رأوا أن عاملا من ولاتها استطاع أن يغلبها على أمرها ويضطرها إلى الاستعانة بهم. وكان من أمر الأجانب المستعمرين الطامعين ما كان من التدخل في شؤون الدولة العثمانية، وتغير وجه التاريخ، ولولا ذلك التدخل لرفرف العلم المصري فوق سراي يلديز مقر سلاطين آل عثمان ولتحررت البلاد العربية جميعها، فاستدعى محمد علي ولده إبراهيم إلى القاهرة ليتداولا في الأمر، وكان معه شاعرنا الجندي الذي سبقه اسمه إلى مصر وذاع خبره فيها، لأن قصائده في مدح الباشا القائد ووصف معاركه قد تنقلها الأيدي وتداولتها الأسماع، فلقى هناك من حفاوة شعراء ذلك العصر وأدبائهم ما جعله مغتبطا مسرورا بهذه الزيارة، فمدح أميرها بما جعله مرموقا في أعين أمرائها وزعمائها. ومما قاله في مدح محمد علي الكبير من قصيدة جاء فيها
سرت والنور يغشاها سحيرا
…
وعرف المسك يصحبها مليا
وسرت متابعا بللثم منها
…
وماطيء نصلها الرطب الزكيا
إلى أن أجلستني فوق عرش
…
لدى قصر حوى روضا بهيا
ذكرت لها الأفاضل فاستهلت
…
بمن لأبي الحسين غدا سميا
إماما عارفا برا تقيا
…
خفاجيا كريما أريحيا
إذا ما قال أما بعد يبدي
…
لنا إيضاحه المعنى الخفيا
به مذ شرفت ضمياط قدرا
…
كساها المجد ثوبا سندسيا
أعار الزي أحنف بن قيس
…
وفاق يحسن سيرته الثريا
يمر على البلاد كنيل مصر
…
فيروى أهلها حيا فحيا
نعم أم الزمان غدت عقيما
…
إذا عن مثله فاقصر أخيا
لنحو علاك بنت الفكر وافت
…
وغيرك لم نجد خلا وفيا
فهب تقصير شعري لاعترافي
…
أيا من فاق في الفضل الرضيا
فإني فيك قد شرفت نظمي
…
وجئت أروم منحا أخرويا
وصل مسلما دوما على من
…
على بالجسم مرتبة الثريا
وآل ما البديعة في خباها
…
بدت شمسا وماست سمهريا
فكان لهذه القصيدة تأثيرها الحسن لدى الأمير المصري الكبير وكان لها وقعها وصداها
مكث الجندي مدة في القاهرة يتمتع بعطف الأسرة العلوية ويرتع في خبراتها ومباراتها، ينظم فيها القصائد ويضع القدود والموشحات، وكان طوال إقامته في مصر كعبة قصاد أهل الفن، أخذ عنه أرباب الفن كثيرا من الموشحات والمواويل والقدود والأدوار والقصائد، فلحنوا هناك. وكانت لهم بمثابة مادة فنية جديدة أكبوا على تلحينها والتغني بها مدة من الزمن أفاضت على القطر لونا جديدا من ألوان الغناء، فيها المتعة واللذة والمعاني المبتكرة الأخاذة، ولا تزال موشحاته وقدوده تستعمل في المغنى القديم حتى الآن دون أن تعرف أنها من نظمه ووضعه، منها موشح
يا غزالي كيف عنى أبعدوك (من نغمة الإصبعان)
ومنها موشح تيمتني (من نغمة البياتي) ومنها موشح أهوى الغزال الربربي باهي الجمال من نغمة الحجاز التي نشرت في الرسالة سابقا. ومن الموشحات المشهورة التي لم تنشر هنا بعد قوله من نغمة البياتي - نواه
يا صاح الصبر وهي مني
…
وشقيق الروح نأي عني
بالحسن يفوق على الند
…
إن ماس بأثواب الند
وحسام لواحظه الهندي
…
قد جرد من غمد الجفن
شمس بأطالسها حلت
…
ولبند ذوائبها حلت
وبشهد مباسمها حلت
…
للكأس فما بنت الدن
بلطافة معناها رقت
…
ولمد محاسنها رقت
ولفرط نحولي مذ رقت
…
لطفا أحسنت بها ظني
زارت والعنبر يصحبها
…
وسحاب النور يحجبها
وإذا ما لاح منقبها
…
أبصرت الشمس على الغصن
ما أحلى حين أشاهدها
…
وبما ترضاه أناشدها
واجلي للقلب مشاهدها
…
من راجي الغفلة والظن
وهناك موشحات في الديوان أرى من الفائدة الإتيان على ذكرها في هذه الكلمة تتمة للفائدة: منها موشح من نغمة الرصد: مطلعه
الحب في صدق النية
…
خير الصفات المرضية
قد لذ صافي المشرب
…
في حالة الباز الأشهب
وصار لي نعم المذهب
…
هجر السوي بالكلية
طابت ليالي الأفراح=وراق خمر الأقداح
وقد زكا للأرواح
…
نشر الرياض الإنسية
سلطان أهل التحقيق
…
بعد الإمام الصديق
ما حي ظلام التعويق
…
راقي مقام القطبية
مالي إذا عز الناصر
…
إلا حمى عبد القادر
راعي الحمى الزاخر
…
سر المعاني القدسية
إن كنت معنا فاتبعنا
…
واصبر على البلوى معنا
وإن تسل عن ذي المعنى
…
هذا طريق الصوفية
صلاة مولاي الباري
…
على النبي المختار
والآل عد الأمطار
…
أزكى صلاة مرضية
هذا لون من ألوان الموشحات الصوفية المتداولة لدينا حتى الآن في حلقات الأذكار، وأردته على صوفية شاعرنا وهوايته في المذهب. ولقد كان أهل زمانه يضعونه في مصاف الأقطاب أهل الكشف أصحاب الكرامات. وقيل إنه زار حلب في سنة من السنين وكانت سنة ما حلة مجدبة ما بضت السماء بقطرة مطر واحدة، فخرج الحلبيون إلى العراء
يستسقون ويستغيثون وكان هذا الجندي في طلعيتهم، فنظم في الحال موشحه المشهور الذي نشرته الرسالة سابقا ومطلعة
يا ذا العطا يا ذا السخا يا ذا الوفا
…
إسق العطاش تكرما فالعقل طاش من الظما
إلى آخر الأبيات، ويذكر الطاعنون في السن في بلادنا الشامية نقلا عن آبائهم وأجدادهم، أن مواكب المستغيثين ما كاد يصل إلى المدينة راجعا من العراء حتى جادت السماء بغيث مدرار لم تحصل عليه التربة الحلبية منذ عشرات السنين، وبهذا أنقذ الموسم. . . وكانت سنتئذ تعد من السنين المخصبة الممرعة لديهم. ولهذا لا يزال الحلبيون حتى الآن يفزعون إلى العراء كلما ضنت عليهم السحب بالأمطار، ينشدون هذه الموشحات إذ يعتقدون فيها الخير والبركة. . . ولكن الخير والبركة بعيدتان عن أهل هذا العصر الذي طغى عليهم فيه الكفر والإلحاد. . . فلم تعد تفيدهم في ضن مواسمهم وشحها لا توسلات إسق العطاش ولا بل الفراش. . . فديوان شاعرنا قد حوى الكثير من أمثال هذه الموشحات التي يضيق المقام عن سردها. أما في الأشعار الغزلية فلقد فاضت ريحة الشاعر المطبوع بالشيء الكثير، ومن أغرب ما رأيته فيها قوله من قصيدة له مشهورة مطلعها
هزوا القدود فأخجلوا سمر القنا
…
وتقلدوا عوض السويف الأعينا
وتبادروا للعاشقين فكلهم
…
طلب النجاة لنفسه إلا أنا
لا خير في جفن إذا لم يكتحل
…
أرقا ولا جسد تجافاه الضنا
لما انثنى من سندس
…
قالت غصون البان: ما أبقى لنا؟
وبثغره وبخده وعذاره
…
معنى العذيب وبارق والمنحنى
أقسى علي من الحديد فؤاده
…
ومن الحرير نراه خدا لينا
قلبه القاسي ورقة خصره
…
هلا نقلت إلى هنا من ها هنا
شبهته بالبدر قال ظلمتني
…
يا عاشقي بالله ظلما بينا
من أين للبدر الأتم ذوائبا
…
أو مقلة أو ورد خد يجتني
البدر ينقص والكمال لطلعتي
…
فلذاك قد أصبحت منه أحسنا
لو أن رقة خصره في قلبه
…
ما كان جار على المحب ولا جنى
هذا نوع من أنواع أشعاره في الغزل وهي كثيرة ولا يحصى لها عد، أقل ما يقال فيها أنها
وإن كانت قديمة لا تتمشى مع رغبات أبناء العصر الحاضر، إلا أنها في ثناياها حشاشة شاعر تكاد تذوب ورقة وتقطر حلاوة وفنا
يتبع
حسني كنعان
دمشق
مع شوقي الخالد:
مسرحية مصرع كليوباترا
تتمة ما نشر في العدد الماضي
للأستاذ حسين كامل عزمي
ثم يضرب شوقي ضربته النفسية الرائعة، المؤثرة، البليغة. في إسداله ستائر الموت على الجو الأخير، بنشيد الموت. . حتى إذا ما انتهى الموت، وضمن الشاعر تهيئة الجو النفسي للجمهور، يدخل القائد بالمعاهدة المهينة. فيضمن الشاعر بذلك سخط الجمهور على الدخيل، ثم يجري على لسان القائد تلميحا، كالسهم الموجع، يمس الأنثى المسكينة (كما صورها شوقي) فيضمن أيضا ثورة الجمهور، متضمنة عطفا انفعاليا غير واع على البطلة. . . ثم يأتي تصوير الانتحار. . . الملكة متخاذلة، ضعيفة، مسكينة، تصانع الحراس، وتتلقى تجريح القائد، وتتعاطف مع الخدم، و. . وتذوي في نشيد الموت. . . ثم تناجي زنبقة في الآتية. . . ولكم أحسن شوقي تصوير كليوباترا الأنثى في هذا الموقف. . . فها هي ذي منحنية على زنبقة في أصيص، تعاطف مع الطبيعة الصامتة شاعرة، متصوفة - ما أبعدها عن كليوباترا التاريخ الخاطئة - اسمها تقول:
زنبقة في الآنية
…
ضحية الأنانية
جنت عليها غربة ال
…
أسر الأكف الجانية
وبدلت من سعة الرب
…
وة ضيق الباطيه
يسقونها من جرة
…
بعد العيون الجارية
يا جارتا شأنك لا
…
يشبه إلا شانيه
لم يبق من ملكي العر
…
يض غير دار خاويه
وكلنا ذابلة
…
عما قليل ذاويه
زال النعيم وفرغ
…
نا من حياة فانية
وبعد. . فكليوباترا أم لا تقوى على مراجعة طفليها وحدها فتستند إلى شرميون قائلة:
أدخلي بي ياشرميون على طفلي
…
أودعهم الوداع الرهيبا
فعساهم إذا تحجب صدري
…
وجدوا صدرك الحفي الرحيبا
ثم تبارك - خاطئة التاريخ - الحب الطاهر بكلام ككلام المتصوفين، تقول:
ولدي اهجروا القصور فإني
…
قد وجدت النعيم فيها غريبا
ثم تمنحها ضيعة للحب. .
وشوقي بعد كل هذا حريص على أن يترك ساحة كليوباترا نقية. . فهو يبارك هذا الحب أيضا، ولا يجني على هيلانة فتقع تبعة موتها على كليوباترا، فيخترع معجزة (حلقة النجاة) ضاربا بالواقعية عرض الحائط، في سبيل الوصول إلى الغرض الأول والأخير. . . ثم لا يترك كليوباترا إلى راكعة أمام تمثال إيزيس نائبة، مستغفرة، مسترحمة، ملقية تبعة خطاياه على الحياة. . في فلسفة واهية الأساس، وغن كانت متساندة، بعد أن هيأ لها شوقي ذلك الجو الذي أسلفنا تحليله. . .
ولحظة الانتحار - وإن مرقت كالبرق - إلا أنها أضاءت بالأمل الذي يريد أن يتشبث بالشباب، فيمنعه شيء في النفس. . كما تجلى ذلك في قولها:
الملكة: عجل فديتك
أنطونيو: لا. . لا نريد من ثمن
الملكة: كرائم المال
أنطونيو: ما للمال مقدار
الملكة: إلى الأفاعي؟
أنوبيس: لا إلى المحراب
الملكة: رأيكما في المكث والذهاب
زينون: أتعلم يا غلام على عشقا
حابني: دع الإنكار قد برح الخفاء
زينون: ومن أنبأك
حابي: أنت
زينون: وكيف؟
حابي: تهذي. . . فتفضحك الوساوس والهذاء
الملكة: ماذا وراء الجندي؟
الحارس: رسالة من عبد هل تأذنين؟
الملكة: أد
د - شعر المسرحية:
في هذه المسرحية قصائد خالدات يسجلها تاريخ الأدب للأجيال المتعاقبة باحترام صادق عميق، وهو مؤمن بشاعرية شوقي. . . فلو سأل سائل ما هو الشعر لقرأنا له:(يا طيب وادي العدم)، ولقرأنا له (أنا أنطونيو وأنطونيوا أنا)، ولقرأنا له:(زنبقة في الآنية)، ولقرأنا. (نام مركو ولم أنم). . ثم سكتنا. . . وهو - أي السائل - لا بد شاعر بما سأل عنه. . . فهذا الشعر ليس في حاجة إلى الإقناع بأنه شعر، إنه مناجاة عاطفية ذاتية إنسانية، مناجاة آتية من بعيد - كالأمواج المنسابة في ريث - تأخذ طريقها إلى نفسك وفي رفق، وصمت وعمق. . فتصغي إليها بكل حواسك، وكأنك تصغي إلى حبيب وأنت نشوان غائب فيه. . أراد شوقي أن يناجينا مناجاة العدم، فأتى بنشيد الموت. . وقد تمثله حقا، فاستطاع أن يمثله لنا، وأن يجذبنا إليه، وأن يجعلنا معه. . .
ذلك الموت الحالم المريح الذي قدمه لمزمعة الانتحار كليوباترا. . . ذلك الوادي الطيب، حيث الهروب مما لا نطيق، حيث العزلة، حيث تلاقي كليوباترا حبيبها، وتكون له خالصة ويكون لها كذلك. .
ما أجمل هذا الوادي، وما احبه للنفس اليائسة الراغبة في الانتحار. . . إن وادي شوقي هذا هو وادي العدم حقا. إنه واد (لم تمش فيه قدم) مجدب خال. إنه الموت. . . وحلق مع شوقي وارتفع بخيالك واسبح مع الشراع الفضي الذي يسري (كالحلم في الغمض)، وهو ثابت متحرك، لأنه حلم (يجري ولا يجري). . . واسمع الأحزان الموت المريح، لهذا النداء الحزين:
يا موت مل بالشراع
…
واحمل جريح الحياة
وانظر مع شوقي لهذا الفلك وإلمحه من بعيد، وهو يخترق اليم (تحسبه نجما. . .) وتأمل سلبية هذا الزور، فهو ليس به ملامح، وهو:
من نفسي يجري
…
لم يجره مجداف
وهو يجري ولا يجري. . إنها أمور محيرة. . إنه الموت، لا بلاغة يجول فيها العلماء. . . وهنا يخجل التحليل والتشريح. . . إنها أنفاس شاعر قد بثها في كل شطر. . أما النغم في هذه القصائد فهو يبدو في اللفظ والوزن والتركيب، وفي أبعد من هذا نفس الشاعر التي امتلأت بما يقول أما هذا النغم فهو همس صادق حزين، مستريح وأوى لحزنه. . حسبك أن تنصت لهذا الشعر، فتحسب أنه أغان تهمس بها نفسك أنت وهي كلمة قصيرة عن هذا الشعر الرفيع في هذه المسرحية. . . وإذا بحثنا عن عثرات فنية في شعر شوقي في هذه المسرحية فلن نجد ما يهبط بشاعريته. . .
فما يقوله دائما له مدلول ليس فيه فضول. .
فهو يتهالك على الشعر لينظم، بل عنده ما يقوله، بل ما يجب أن يقوله. . .
وإذا أردنا أن نلتمس شعراً ضعيفا فلنلتمسه في أبيات متبادلة بين أشخاص المسرحية. . . وذلك لطبيعة الشعر المسرحي. . . وللشاعر عذر في ذلك إلى حد ما، فهو لا يستطيع أن ينقل إلينا الكلام العادي الذي يجري على ألسنتنا ولا يستطيع أن يمثل لناحياتنا اليومية إلا بمثل هذا النظم. . .
والذي نلاحظه بجلاء أن شوقيا أسير لجلجلة الشعر العربي القديم، وذلك واضح جدا في كثير من قصائده الطوال في هذه المسرحية، مثل:
(وداعا كليوباترا إلى يوم نلتقي. . .)، (اليوم أقصر باطلي وضلالي. .)، (هلمي منقذي هلمي. .)، (أمانا إله الحرب ما أنت صانع. .)، (روما حنانك واغفري لفتاك. .)
في كل هذه القصائد يحمل شوقي روح الشعر العربي القديم ولا يمنع هذا من أنه يصف الحال ويعبر أحسن التعبير. . وتتجلى هذه الروح حينما ينفرد شوقي بنفسه ويطلق لها العنان على ألسنة أبطاله، وكأنه يثأر من قيود الحوار
وخلاصة رأينا في شوقي هي أننا - كما يقول أستاذنا الجليل الزيات بك (قد علمناه بالدرس، وعرفناه بالصحبة، فما أنخذل يوما في تحليقه وإسفافه عن مواقف العبقرية. . . ولئن كان في شعر شبابه مأسور الفكر، محصور الخيال، محدود النظر، لا يعبر إلا عن رأي القصر، ولا يصور إلا بألوان البيئة، لقد كانت هذه الحقبة الرسمية غيبة للشاعر عن نفسه، وذهولا منه عن وجوده، وقديما كانت صلات الشعراء بالملوك والخلفاء عاهة الشعر
وآفة العبقرية، فلما أعتقته الحرب من رق الوظيفة، وأطلقته إنجلترا بالنفي إلى الأندلس، تيقظ فيه الرسول الشاعر والحكيم المصلح. . فحلق بخياله في كل جو، وسطع بعقله في كل أفق، وشدا بالإسلام والعروبة شدوا ردده كل لسان واهتز له كل قلب. . ثم زاد في القيثارة العربية الأوتار الناقصة. . . فاضاف الشعر القصصي، والشعر التمثيلي، إلى شعرنا الغنائي، فكان بذلك وحده: الشاعر الكامل)
السويس
حسين كامل عزمي
عبد الرحمن بن الأشعث
للأستاذ حمدي الحسيني
لم يكن في العراق رجل أبغض إلى الحجاج من عبد ارحمن ابن الأشعث لخيلائه وزهوه وطموحه وعلو همته. ولم يكن في العراق رجل أبغض إلى أين الأشعث من الحجاج لقوته وحزمه ويقظة عينه وقلبه. كان الحجاج يقول: (والله ما رأيت ابن الأشعث قط إلا أردت قتله. وقد رآه ذات يوم يختال في مشيته مزهوا فقال لبعض أصحابه: انظر إلى مشيته والله لهممت أن أضرب عنقه. فنقلت هذه القولة إلى ابن الشعث فقال: وأنا كما زعم الحجاج إن لم أحاول أن أزيله عن سلطانه فأجهد الجهد إذا طال بي وبه بقاء. ولكن كره الحجاج لابن الشعث هذا الكره ومجدته عليه كل هذه الموجدة لم تمنع الحجاج من انتدابه للأمر الخطير، وتوجيهه إياه للتغلب على الصعوبة العظيمة والخطب الجسيم
نقض روتبيل ملك الترك شروط الصلح بينه وبين المسلمين فساء ذلك الحجاج وكربه فامر عامله علي سجستان أن يغزو روتبيل فيستبيح أرضه ويهدم قلاعه ويقتل مقاتلته ويس ذريته فصدع بالأمر وغزا فتظاهر الترك أمام الغزاة بالهزيمة وما كاد المسلمون يوغلون في البلاد حتى أطبق عليهم أهلها إطباقه محكمة، فذعر المسلمون ذعرا شديداً واضطروا أن يطلبوا الصلح من رتبيل ولكن أي صلح؟ طلبوا من رتبيل أن يصلاحهم على أن يدفعوا له مبلغا عظيما من المال لقاء أن يفتتح لهم طريقا للانسحاب فانسحب المسلمون وهم في أسو حال. وصل خبر الهزيمة إلى الحجاج فقام له وقعد وبرق ورعد، فكتب إلى عبد الملك يقول إن جند أمير المؤمنين الذين بسجستان أصيبوا فلم ينج منهم إلا القليل. وقد اجترأ العدو بالذي أصابه على أهل الإسلام فدخلوا بلادهم وغلبوا على حصونهم وقصورهم. وقد أردت أن أوجه إليهم جهدا كثيفا من أهل المصرين فأحببت أن أستطلع رأي أمير المؤمنين في ذلك فإذا رأى لي بعثة ذلك الجند أمضيته، وإن لم ير ذلك فإن أمير المؤمنين أولى بجنده مع إني أتخوف إن لم يأت روتبيل ومن معه من المشركين جند كثيف عاجلا أن يستولوا على ذلك القطر كله. فأجابه عبد الملك: أتاني كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان وأولئك قوم كتب اللع عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وعلى الله ثوابهم. وأما ما أردت أن يأتيك فيه رأي من توجيه الجنود وإمضائها إلى ذلك القطر إلى أصيب فيه
المسلمون أو كفها فإن رأيي في ذلك أن تمضي رأيك راشداً موفقاً
ما كاد يصل أمر الخليفة إلى الحجاج بالتعبئة العسكرية حتى عبأ أربعين ألفا من أهل الكوفة والبصرة، أعطاهم أعطياتهم كاملة وسلحهم بأحسن السلاح وحملهم على أروع الخيول وأخذ يستعرضهم استعراضا عسكريا فلا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، ولكن من لهذا الجيش (جيش الطواويس) كما كان يسميه الحجاج يقوده فيؤدب به أولئك المشركين الغادرين ويسترجع بلادا إسلامية تكاد تطير من حظيرة الإسلام؟ ليس لهذا الأمر العظيم غير عبد الرحمن بن الأشعث. فولاه الحجاج على قيادة هذا الجيش العظيم برغم نصيحة إسماعيل بن الأشعث له بعدم تولية عبد الرحمن إذ قال للحجاج: لا تبعثه فإني أخاف خلافه والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطاناً
طار عبد الرحمن إلى سجستان فما كادت قدمه تطأ أرضها حتى جمع الناس فصعد المنبر ثم قال: أيها الناس إن الأمير الحجاج ولاني وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم. فإياكم أن يختلف منك رجل فيحل بنفسه العقوبة. اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس. فعسكر الناس كلهم في معسكرهم فبلغ ذلك روتبيل فكتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه من مصاب المسلمين ويخبره بأنه كان لذلك كارها الصلح عليه ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج. ولكن عبد الرحمن عرف أن روتبيل يخادعه فلم يعبأ بقوله وسار بجيشه الجرار حتى دخل بلاد المشركين فانكمش المشركون أمامه انكماش هزيمة، وأخذوا يحلون له بلادهم بلدا بلدا وحصونهم حصناً. . حصناً، فأخذ عبد الرحمن كلما حوى بلدا بعث إليه عاملا وبعث معه أعوانا، ووضع البرد بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على المرتفعات والشعاب، ووضع المخافر المسلحة في كل مكان مخوف. حتى إذا حاز من أرض المشركين قسطاً عظيما وملأ يديه من الغنائم والأموال وقف الزحف وقال: نكتفي بما أصبناه هذا العام من بلادهم حتى نجيبها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، ثم تحتل في العام المقبل ما ووراءها، ثم لم نزل تنتقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذر أريهم وممتع حصونهم ثم لا تزال بلادهم حتى يهلكهم الله
كتب عبد ارحمن بن الأشعث إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو وبخطته العسكرية التي وضعها للاستيلاء التدريجي على بقية البلاد المغزوة فأجابه الحجاج: إن
كتابك أتاني وفهمت ما ذكرت فيه وكتابك كتاب امرئ يحب الهدنة ويستريح إلى الموادعة. قد صانع عدوا قليلا ذليلا قد أصابوا من المسلمين جندا كان بلاؤهم حسنا وغناؤهم في الإسلام عظيما. لعمرك إنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لتحي النفس عمن أصيب من المسلمين
إني لم أعد رأيك الذي زعمت أنك رأيته رأي مكيدة ولكني رأيت أنه لم يحملك عليه إلا ضعفك والثياث رأيك فامض لما أمرتك به الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم وقتل مقاتلهم وسلب ذراريهم ثم أردفه كتابا آخر قال فيه: مر من قبلك من المسلمين فليحرثوا ويقيموا فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم أردفه كتابا ثالثاً قال فيه: امض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم وإلا فإن إسحاق بن محمد أخاك أمير الناس فخله وما وليته. بمثل هذه اللهجة القاسية المذلة يخاطب الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث الحاقد الطموح القابض على زمام أكبر جيش مؤلف من أهل البصرة والكوفة الحاقدين على الحجاج وبني أمية. في حين أن ابن الشعث قد عمل عملا حربيا صحيحا أنتج طيبة وارتأى رأيا عسكريا فيه الشيء الكثير من الحكمة والحزم، فكان على الحجاج إما أن يقره على رأيه ويناقشه مناقشة تقوم على حفظ الكرامة وعدم إثارة كوامن الحقد في نفسه. ولننظر الآن الأثر الذي أحدثته كتب الحجاج لابن الأشعث
جمع ابن الأشعث الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إني لكم ناصح ولصلاحكم محب ولكم في كل ما يحيط بكم نفعه ناظر، وقد كان من رأي فيما بينكم وبين عدوكم رأي استشرت فيه ذوي أحلامكم وأولي التجربة في الحرب منكم فرفضوه لكم رأيا، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحا، وقد كتب إلى أميركم الحجاج فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو وهي البلاد التي هللت إخوانكم فيها بالمس وإنما رجل منك أمضي إذا مضيتم وأبي إذا أبيتم وماك ينتهي ابن الشعث من خطابه حتى هب الجيش محتجا على الحجاج ثم أفضى الأمر إلى خلع الحجاج وإعلان العصيان له والخروج عليه، وهذا ما أراده ابن الأشعث الطموح المزاحم للحجاج على إمرة العراق. خلع جيش العراق الحجاج وبايع ابن الأشعث فهب عبد الرحمن يقود الجيش إلى العراق ليحتله ويتربع على كرسي الحكم فيه. وكان ابن الأشعث يضمر أكثر من هذا فقد
كان يضمر خلع عبد الملك وانتزاع الخلافة منه. وصل خبر انتفاض إلى الحجاج فأبلغه الحجاج في الحال إلى عبد الملك فكان وقع الخبر على الحجاج وعبد الملك عظيما جدا لأنهما كانا يقدران لابن الشعث قدره ويعرفان مبلغ حقد أهل العراق على الحجاج والأمويين كل المعرفة، ولكنهما استعدا لمقاومة ابن الأشعث بجيوش هل العراق فتولى الحجاج القيادة بنفسه وسار بجيشه يستقبل ابن الأشعث في طريق للأهواز فوقعت بين الفريقين معركة دامية انهزم فيها الحجاج فاستولى ابن الأشعث على البصرة فبايعه أهل البصرة جميعهم على حرب الحجاج وخلع عبد الملك، ولكن الحجاج لم يضعف أمام هذه الصدمة فاستعد لمعركة أخرى وقعت بينه وبين أبن الأشعث في الزاوية التي دارت فيها الدائرة على الحجاج أيضاً فاستجابت مدن العراق لابن الأشعث بعد هذا النصر فتزجه إلى الكوفة فخرج إليه أهلها يستقبلونه استقبال المنقذ لهم من براثن الحجاج فأصبح الحجاج ولا أثر لسلطانه على البصرة والكوفة، فاتصل الخبر بعبد الملك ففزع له وتوقع أسوأ العواقب فبعث بأخيه وابنه إلى أهل العراق الثائرين يعرض عليهم شروطا للصلح تقوم على عزل الحجاج عن العراق وتولية ابن الأشعث مكانه فرفض الثوار شروط الصلح رفضا باتا، فأخذ الحجاج يقاتل الثوار برغم ما تركته محاولة عبد الملك الصلح مع الثوار في نفسه من الألم
جرت بين الفريقين حروب كثيرة ومعارك حامية الوطيس في دير الجماجم بالقرب من الكوفة كانت نتيجتها انهزام جيش ابن الأشعث ففر ابن الشعث إلى بلاد روتبيل فدخلها لاجئا وعاد الحجاج إلى ما كان له سلطان في العراق وكان من أمر ابن الأشعث أن قبض عليه روتبيل وقتله وقبض على أهل بيته أرسلهم مع رأس عبد الرحمن إلى الحجاج كسبا لمرضاته
حمدي الحسيني
5 - رحلة إلى ديار الروم
للسيد مصطفى البكري الصديقي
للأستاذ سامح الخالدي
في الطريق إلى القاهرة:
وبعد الشمس قطعنا الصخور وبان بان الجفا والشرور، ولم نزل نقطع بحيرة بحيرة، وقرية قرية ما بها طيرة، إلى أن وصلنا بإسعاف اللطيف الخبير، إلى محل بإمداد مطير، كاد لولا المعونة والتبشير، تحصيل الانقلاب في الطيار الكبير، ورجفت القلوب واتسع رنق الخطوب، وكان الليل دهم وزاد ولم ننم إلا اليسر، لغلبة وارد، وهم مبير، وخرجنا في الصباح المنير للبر المبر بأهله، وانتظرنا المعاش، ولحقناه في قياسه، بانتعاش، وطاب معنا الريح المريح، إلى أن وصلنا إلى (مونسة) وبتنا بها ليلة مؤنسة، وزرنا من حولها من سادات وأعيان، ثم إنا خرجنا إلى البر نروح النفس بمشاهدة ملك البر وأردنا أن نسير على ظهور الحمير، نحو (بولاق) لعظم اشتياقه فرأينا المركوب لا يركب، فعدنا إلى المراكب ثم سرنا إلى أن سامتنا (وردان) الساحبة بعمارها على غير ذيل الخيرات وزرنا رجالها السبعة الفائقين على النجوم السيارة والميزان. ثم خرجنا إلى (بحر التضامي) وحزت بزوته بر مرامي، ثم وقبل أن وصلنا (مجر الخمسين) قرأنا الفاتحة لسيدي إبراهيم ساكن الجميز ومن حوله من سادات له على الغير ميز، ولما وصلنا المجر، خرجنا ثانيا إلى البر، وسرنا وقد طاب المسير، إلى القاهرة ذات الوجه المنير، وبهجوم الليل واختلاف الميل حولت المعاشات إلى ناحية البر، ولذا لهم حسن المقام والمقر، وبتنا فيه والبسط يصافينا نتسامر مع الإخوان، ما يكون وما كان، وعلت أصوات الملاحين، بالنغمات المصرية والتلاحين، وغنى ممسك الدفة مواليا في المديح النبوي له حقه فاستعدناه وكتبناه وهو:
خذني معك يا دليل الركب يا منصور
…
أزور قبر التهامي فج منه النور
قال الدليل يا صبي تقدر تدوس الدور
…
فقلت عيان زي يجبر المكسور
وثنى فقال:
لما قرص صاحب الشيبة كتم ما باح
…
نايم حبيبو على فخذه وهو مرتاح
نزلت دموعو فقال لو ليش تبكي ارتاح
…
قال لو قرصني الحنش في العقب يا مصباح
قال النبي للحنش لم صبت صديقي
…
ذا مؤنسي في ظلام الليل ورفيقي
نطق الحنش للنبي بلسان تحقيق
…
قال لو أتيت الزيارة رام تعويقي
(ثم إنا لما أشرقت الغزالة، على وجه أخت الخالة، سرنا باللبان إلى ان أتينا بطن البقرة، فاستعذنا بالله من هوله متوسلين بسورة البقرة
في بولاق، وفود الإخوان والمجاورين في الأزهر:
(ولم ندخل بولاق إلا بعيد العشا، وعلينا ضوء القمر مد وغشى، وما استقر بنا المقام غب الوصول للمقر المكين، حتى ورد علينا إخوان من المجاورين منهم الشيخ أحمد الأشبولي الرزين، وإسماعيل أفندي وغيرهما من محبين وسرنا معهم (لتكية الأعجام) وبتنا آمنين بخط مكين، وفي الصباح وفد الأخ المداوي الشبخ محمد الحفناوي، ومعه أحباب لهم لحبل الود وانتساب، ودخلنا ونحن في سرور المدينة، وزرنا الجناب العالي مقام السيد السند الأوحد الحسين، ونزلنا (وكالة محسن الجديدة) وبتنا بها ليلة الأربعاء ثم بتنا ليلة الخميس ببسط وافر وذهبنا يحنها الديماس، مع إخوان لهم طيب أنفاس، ورد فيه علينا أحباب أجله، من كل واله ومدله، وفيه أخذ الطريق واندرج في سلك أهل هذا الذيق، الشيخ أحمد المقدم والسيد نجم الدين الخيري الأقدم، والسيد حسين العسلي القدسي، والشيخ محمد المغربي محتسين الكأس الأنسي، ثم أخذ احمد الشبر أوي. ثم إنا بتنا ليلة الجمعة ذات الإشراف واللمعة، وكاد أن يمتعنا السحاب، من الخروج إلى صلاة الجمعة، مجمع الأحباب، ثم إنا صلينا في جامع قريب من المحل، يعرف (بالجامع الجمالي) وفي عشية يوم السبت المعطار أخذ الأخ الشيخ محمد الزهار، وغيره من الأخيار، وفي يوم الأحد أخذ الشيخ أحمد العروسي، ثم حضر الأخ الشيخ محمد الحفناوي، وسرنا معه إلى زيارة السيدة نفيسة ذات الكأس المداوي ومعنا جماعة لكل خير جماعة ممن أخذ الطريق، وغيرهم ومن محب هذا الفريق، ولما خرجنا من باب النصر دخل وارد السرور والقلب وحل ذلك القصر، وما زلنا كلما مررنا على مرقد ولي صلى، نبسط كف الطلب ونترجى فيض العلي، إلى أن حاذينا (قلعة الجبل) وحكمنا أنها تقرب من القدس النافية الخبل، وما زلنا نتفرج ونتدرج ونقرأ الفواتح إلى أن وصلنا دوح روضة حضرة السيدة النفيسة، الدينة نفسية، وكنت امتدحت
جنابها لأشواق رسيسة، واثبته في (الحلة النصرية في الرحلة المصرية)
(وعطفنا على زيارات كثيرة، وأحباب أقدارها كبيرة، وعجبنا على حانة أرباب الصدق والتصديق، من أسلافنا بني الصديق، وجلسنا عندهم حصة يسيرة، لتمسي بهم الأمور العسيرة يسيرة وزرت في هذه الكرة لا منيرة العم المرحوم أحمد أفندي
استمرار الشيخ في نشر طريقته في مصر
(ثم اكرينا على زيارة الأعلام ومنهم أشهب بن عبد العزيز العامري المصري، وسيدي عبد الرحمن بن القاسم ومنهم إصبع ابن الفرج، وأبو جعفر احمد بن محمد بن سلمة الأزدي المصري الطحاوي، ومنهم أبو بكر أحمد الدقاق، وإسماعيل المزني والشيخ شاهين والشيوحي وغيرهم، ومنهم سيدي عمر بن الفارض، وزرنا الجلال المحلين وكان يوم مولده الذي ما مر من عيش به يحلى، وزرنا الجلال السيوطي، وسيدي إبراهيم الجعبري، وابن رفاعة من فيضه فيض بني رفاعة، وعدنا للأماكن
(وكان الشيخ يوسف الحفني (أخو الشيخ الأمجد الشيخ محمد) جاءني بقصيدة فريدة وعدته بإثباتها في هذه المرحلة، وجعلت جائزتها الإجازة بما أجازني به كل رحلة، ومطلعها:
(سرائر سر السر بالحال تعرب
…
وداعي التجلي بالمدائح يطنب)
وأما الإجازة التي جعلتها الجائرة المفيدة الخ فصورتها:
(لربى حمدي ماله أتقرب
…
وشكري ما منه أخاف وأرهب الخ)
(ثم اخذ طريق الخيار الشيخ علي شقيق محمد الزهار، والشيخ موسى والد العروس، وإسماعيل افندي، والسيد حسن نجل السيد محمد الفشفشي، وتقدم الشيخ حسن اليمني وطلب الإجازة لفاضل نبيل اسمه الشيخ إسماعيل بن غنيم فأجزناه ثم التحق بالطريق (وفي يوم الاثنين دعانا محب زين، يدعى أحمد افندي، فقصدناه زيارة سيدنا مولانا الحسين)
(وبعد تمام الزيارة، ودعته وأودعت قلبي لديه، فتلقانا جناب العارف بربه الشيخ أحمد المعلوي، وأخبر أنه كان مقصده الاجتماع، ثم بعد السلام والمصافحة، قرأنا الفاتحة، ودعا بدعوات الأطياب، فسررت بدعائه ورأيت عليه أبهة الصالحين، أهل القرب الفالحين، وحمدت على هذا للقارب العالمين
(وتطلبت الاجتماع، جناب الشيخ محمد العياشي فعرض له بعض الحواشي، بالجمعية
بالفقير، فقال المحبة في عدم الظهور سيما في هذا الزمان الغادر الواشي، وحصل الاجتماع في الباطن فقبلنا هذا الاجتماع المورث انتعاشي
(وفي يوم الثلاثاء دعانا لداره المحب المتين الحجاج علي بن المرحوم الحجاج فخر الدين، وفي ليلة الأربعاء دعانا العالم العلامة الشيخ عبد الرؤوف البشيشي، وهما الشيخ محمد والشيخ علي
في الجامع الأزهر:
(وزرنا الجامع الأزهر، وصعدنا الرواق الشامي الأبهر، ودعونا للساعي في عمارته بنيل العمار في دنياه وآخرته
وذهبنا بعد أكل ضيافتهما الحمام صديقنا الحمام الحاج محمد المحب الأوحد، وزارني في محل قراري، جناب الشيخ عبد الله الشبراوي وطلب الإجازة والدعاء لولده الشيخ عامر، وأخبرت أن صديقنا الأقدم ذي المقام الإحاطي، الشيخ أحمد الإسقاطي، شرف المحل يوم توجهنا فلم يقسم نصيب بالاجتماع لسوء الحظ
(وقد ورد علينا جمعهن المجاورين، وأخذ كل منهم الطريق لفرط حب متين، وغيرهم من أحباب ربما يبلغ عدهم الأسنى عدا الاسماء، أو ينوف عدها ويزيد
الطريق البري إلى القدس صحبة الوزير المثير عثمان باشا
(وكنا أكرينا مع الحجاج خليل العريشي صحبة الوزير المشير عثمان باشا فحصل التيسير، وتوجهنا بعد ظهر الخميس، الرابع عشر من شعبان المبارك التأسيس، وودعنا الإخوان منهم داخل البلد ومنهم خارجها لفرط حب المصان، وبتنا لدى (بركة جامع العرب) منفردين. ولما صاح النفير من طرف الوزير، تأهبنا للمسير، وسرنا غب صلاة الصبح بيسير إلى (الخانكة) بوجد منير، وبتنا فيها، ثم إنا سرنا إلى (بلببس) فقلت:
ثم سرنا إلى فنا ببليس
…
نتهادى فخرا كامرئ قيس
وتلاقيت بالصديق الأنيس
…
ذا خليل مفتي حمى التقديس
ثم زرنا (النوادي) خير نفيس
…
وبها بت مثل نوم عروس
وتأخر بعض الخدم عن أمر يلزم، فقلت نجاك الله من شره ولا نحاك من بره، وأغرقك في طمطمام فضله، وأعرفك من خزام وصلة دون فصله
ورحلنا بهمة للقرين
…
أترجى إسلام شر قرين
وإلى صالحية قد سرينا
…
وأقمنا يوما لراحة عين
وقرأنا للحاجري قبل نأتي
…
لحانها فاتحات أبواب زين
نخيل الصالحية
(وفي الصالحية من النخيل، ما يحيل العقل البخيل أن يضاهيه، مثيل لكن به نحيل، عند ذوي الأعراق، أنه يقارب كثرة سواد العراق، وفيها طائفة الصوالحة، التي نفوسهم للتأديب غير صالحة، وأخرى تدعى القصاصة، المؤرقة للمارة الفضاضة الغصاصة، والعجب من حكام، ما لها في معرفة التدبير أحكام، ولا سعى ووعى في تأمين البلاد، وتسكين متحرك غض الشر المياد، ولا عدل في الأمور، بل عدل عنه إلى جور يمور، ونرجوا من المنان الغفور الحنان الشكور، أن يسهل حزن هذه الصخور، بمحو أهل الضلال والفجور، وأن ينظم شمل العدل في الأحكام الموفور، على يد المؤيد المظفر المنصور من السلام، المعيد لوطنه الإسلام، سفاح الأموال ودماء أهل الانحلال، من ربقة الذين بانتحال
من القناطر إلى بئر العبد:
(ومنها توجهنا بوجه ناضر لنحو القناطر
وبحب الحبيب وجداً نخاطر
…
ونخوض المياه أزعج خاطر
وتوسلت في سبأ ثم فاطر
…
أن نجوز الربا بشيم العواطر
ثم جئنا بئر الدويدار نسعى
…
باجتهاد وللأوامر ندعى
وأتينا قطية وقطين؟
…
ونزلنا الأولى بجد لمرعى
ثم قطعنا تلالا رملية، لا تخرج في الأشكال الرملية، وأنينا (بير العبد) الآبق بفرط ملوحته، عن منزل حلاوته وعذوبته، إذا الأصل في المياه الجارية ذلك، فمن تغرب عن وطنه فهو طريق الإباقة سالك
(ولما وصلنا المحطة، وقلنا لدى بابها حطة، بكت عيون السحاب، من غير انسكاب
من البريقات إلى خان يونس:
(ومنها سرنا إلى (البريقات) عندما لاحت البريقات، وفاحت أطياب الأويقات من غير ميعاد
وميقات، حتى أتينا بعد ما سرينا (لعريش) والجناح منا بالوجد مريش، ثم (الدعقة) الوحشة الرقعة والدعقة ومنها إلى (خان يونس) للوارد يونس وقلت فيه لشرب صافية. . . مواليا
لما أتينا لخان عمره يونس
…
بالأنس فزنا لأنو للغريب يونس
عوذته ببرآة هود مع يونس
…
من شر قوم لئام ما بهم مونس
في غزة:
(ولما بلغ خبر قدومنا صديقنا الرئيس، محمد بن المرحوم الريس محمد الهليس، ووالده صديق محمود، ورفيق ودود، فتلقانا ولديه أنزل وفي إكرام أجزل، وكذلك صديقنا الحاج محمد مكي ذو الود الزكي المسكي، وأولاده وأولاد ولده الذي محمد جلبي، وأرسل الأخ الممنوح انصياعا الشيخ إبراهيم بن صفر أغا بعد اجتماعه بنا هدية توجب ثبوت ما بنا وأصحابها ببيتين. (يقول له فيهما إنه لو كان لا يهديه إلى أن يرى شيئا على قدره، لكان واجب أن يهديه سدرة المنتهى بأثوابها الخضر)
(وصليت الجمعة في جامعها القديم الجامع، فرايته يحتاج لعمارة، كالبلدة التي برها للمبرات جامع، وبحرها بالمسرات هامع، وهواها العدي لعرفها الندي لامع لكل حسن به القلب طامع، وماؤها العذب السلسال، يشفي العليل ويطغي الغليل من محب غير سال
نحو الرملة والى القدس
وفي ليلة السبت الأول من شهر رمضان المعظم توجهنا نحو الرملة والرئيس معنا، وبتنا في فتوح ما به سدود لدى (قرية) سدود وزرنا سيدي سلمان الفارسي والمتبولي، وعند الوصول إلى الرملة بتنا لدى مفتيها الخيري (السيد محمد) وفي ثالث يوم من شهر الصوم يوم الاثنين أتينا الديار المقدسة فرحين بملاقاة قرة العين، ودخلناها قريب الغروب بقلب طروب. فلما دخلنا الباب أخبرت أن ابنتي علما متمرضة عن ألم برجلها، وبعد السلام عليها والتملي بمحاسن لديها، قالت لي:(يا أبتي قد تعوقت علي) فقلت (يا بنية الأمر في هذا ليس إلي) ثم عزتني في الشيخ نور الدين وقالت: (تسلم أنت يا أبتي فيه) فقلت: (وأنت تسلمي بجاه مصطفية) وما زال مرضها الجزئي يزيد ويمتد إلى ليلة الأحد، التاسعة من شهر رمضان وفي سحرها تهنان بالأحزان سلمتها في يد جدها العتيق، وترجمتها في
كراسة لما سقتني من الشراب الهمي كأسه، وسميتها (الغيوب الملجمة والغيوث المسجمة، في ترجمة ابنتي المنفية قدرا سما، الشريفة الصديقة البكرية علما) وذكرت رحلتها عنا في (الكمامة النرجسية في المقامة الأنسية القدسية). وكنت لما ورد هذا الوارد على أشغل القلب وأشعل اللب، وحرك ساكن ما لدى فلم أتم هذه ارحلة إذ ذاك بل أخرته إلى هذا الشهر الشوالي.
(وكان أرسل الأخ الأمجد محمد الحفني المفرد لنا كتابا مصدرا بقصيدة صحبة الأخ الشيخ محمد المغربي، فنهب القفل وضاع الكتاب الفريد، ولكنه أنشدني ابياتا منها تصيد. فأجبته حالا وكان ذلك ضحوة الأحد التاسع عشر من ذي القعدة سنة (1148 هـ)
(ولما كنا في المنازل الكنانية وعد الأخ الشيخ محمد بزيارة الأماكن المقدسة، قدم علينا في منتصف جمادي الثاني وصحب معه جملا من الهدايا منها المواهب لأخيه الذاتي، فرأيت فيها ما ذكرته
(وكنت أرسلت له القصيدة السابقة من غير كتاب، فلما توجه صديقنا السيد الكردي، صحبته بكتاب إلى الأخ محمد الحفني قلت له فيه: (إن الشيخ محمد المغربي كان ورد علينا شكيا من نفسهن وكان أضاع بعض أمتعته نهبا، وأخذ خرجه الحاوي على القصيدة، وأنشدنا بعض أبيات، وقد حذونا أثركم وأرسلناها لكم، ونهدي أخاكم الكرم السلام، وجميع من لديكم من إخوان
(وأرسلت لجناب وزير الشام سليمان باشا (العظم) إلى معان، كتابا في أواخر شوال، وصدرته بأبيات حسان وقد جاءني كتابه، بعد السلام والدعوات، بالحج المبرور (أنه لما ورد العبد الديار الرومية رأى هموم أهل نامية، والقلوب وجلة سامية، من السفر العجمي حامية، متوافرة الأشجان، وغب حصول الصلح المطلوب على الوجه المرغوب، صدر الإذن بالتوجه للقدس بعد الاستخارة، وعانيا في البحر المالح تيسيراً واقما في الكنانة، وعنا إلى القدس)
(وبعد عودة جنابه من الحج وأداء نسك العج والبج، أرسلت كتابا مهنئا بالسلامة، وحصول الكرامة، في منتصف صفر المبارك. كما أرسلت لمحبنا الأمجد محمد جلبي بن مكي المفرد، كتابا أهنئه بعوده للحمى، كما أرسلت للصهر الجميل الشيخ إسماعيل النبيل كتابا،
وآخر سبق اضريت عن ذكره فقد من سبق)
الزيارة العليلية السنوية:
(ولما توجهت إلى الزيارة العليلية (مقام سيدي علي بن علي العمري) في أوائل صفر المبارك، وجرى على اللسان مدح سيدي (يامين) وكذلك من بجواره صاحب الإفاقة (سيدي سراقة) (ولما حللت نابلس المحروسة نزلت في (الدرويشية) على جاري العادة جرى على الخاطر أول موشح لشيخنا الشيخ عبد الغني (النابلسي):
(دع جمال الوجه يظهر
…
لا تطغى يا حبيبي
كل شيء عقد جوهر
…
حلية الحبس المهيب
فقلت مرتجلا:
أيها الصب المخبر
…
نسبا بنت العريب
غب بها في الحب وأسكر
…
كاتم السر الغريب
(وأرسل مفتى السادة الحنفية داخل رملة فلسطين السيد محمد الخيري، كتابا مصدراً بقصيدة مطلعها:
أشمس أفق بدت في دورة الحمل
…
أم ومض برق صيب الحمل
وكتبت جوابا عنها ليلة وصولها قصيدة على وزنها:
سربي لسربي عسى اسقي من العلل
…
وانعم بشربي ليشفي القلب من علل الخ
وأتبعها (أي المفتي) بديباجة إذا قامت في نفس يعقوب السر حاجة فقضاها، وفاز بمقتضاها، وكان أرسل مع والده الكبير، ولده الوسط والصغير، وأمرهما بالانتساب، وبعده طلب الوسط بهاء الدين (الخيري) وصية على ظهر كتاب الأوراد فكتبت له:
(وقبل أيام ورد كتاب من المحب الأخ الحنفي، يقول فيه: إنا عزمنا على التوجه لحرم أمنكم صحبة الأخوين المتوجهين إليكم فعاقت الأقدار عن اللحوق بهما من الطريقين، وإن شاء الله نلحق بهما في منتصف ربيع الأول
(وكان قدومه منتصف جمادي الثاني (سنة 1149 هـ) وأقام لدينا مصحوبا بالظفر والتهاني إلى شوال المبارك وتوجه لوطنه (وتحركت بعده منا الهمة إلى الحجة الموعود بها الفؤاد، عقبة بثلاثة اشهر حيث الإذن وقع، والشوق زاد، وشرعت في الرحلة لتلك البلاد
سحر يوم الاثنين الثلاث من صفر المبارك الوصف والعين، وفي هذا التاريخ شرعنا في الرحلة الثالثة المصرية والحجازية. والشامية ذات الإمدادات النصرية الإنجازية. والحمد لله
(تمت الرحلة)
سامح الخالدي
رسالة الشعر
1 -
حبيبتي السمراء
للشاب محمد مفتاح الفيتوري
حبيبتي سمراء
…
سمراء مثل الكروم
ناعمة كالضياء
…
حالمة كالنسيم
خمرية كالماء
…
نقية كالغيوم
في مقليتها السماء
…
في وجنتيها النجوم
في شفتيها الهناء
…
بين يديها النعيم
حبيبتي السمراء
أجمل حور السماء
أحب لون الخفر
…
في صوتها الملهم
وكبرياء النظر
…
وكبرياء الفم
وثغرها المختصر
…
ونهدها البرعمي
وخصلات الشعر
…
تموج أو ترتمي
كالسنبل المنتثر
…
في نسق محكم
على جبين نضر
…
توج بالأنجم
مثل جبين القمر
مغتسلا بالمطر
يا آهات الصباح
…
ويا عذارى الجنان
اقطفن زهر الأقاح
…
وللفل والسوسان
ومرن غيد الرياح
…
يفرشن هفي افتنان
على المروج الفساح
…
والهضاب والوديان
هيا طيور الصباح
…
فظللي المهرجان
غني وهزي البطاح
…
فغننا آتيان
لنا الغرام وشاح
لنا الربيع جناح
2 -
غموض
كم رحت أنظر للسماء محدقا
…
متشوق الرؤيا صباح مساء
أرنو إلى الفجر الجميل كساحر
…
حملت يداه ريشة عذراء
فمضى يخط على الفضاء رسومه
…
ويوزع الألوان والأضواء
وإلى الظهيرة وهي حلم مفزع
…
يتألف الأصوات والأحياء
والشمس في كف الهجير توجهت
…
كأسا. . . وشعت ماسة زرقاء
وإلى الأصيل وقد تدلى كرمة
…
أغصانها تتسلق الأرجاء
وكأنه فوق الروابي معطف
…
نسجته كف تنثر الإغراء
وإلى المياه وقد تدفق جدولا
…
أزرق أمواها وشف نقاء
عريت بشاطئه النجوم وفصلت
…
من مائه أزياءها الملساء
كم كنت أنظر للسماء وفي دمي
…
حلم يضج تمردا وإباء
فاليوم أنظر للتراب منكسا
…
رأسي على حصبائه استحياء
محمد مفتاح الفيتوري
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مقال لا ينسى للأستاذ الزيات:
هو مقال ذعر في (الرسالة) منذ أثني عشر عاما فكان له في النفوس وقع، وفي الآذان دوي، وفي القلوب مكان
. . . وأشهد ما ذكرتني به هذه المناسبة التي أرويها هنا ودفعتني إلى الكتابة، لأنني أذكره منذ أن قرأته وقبل أن أعرف صاحبه وبعد أن عرفته وربطت الأقدار بيننا برباط من الود العميق. ولست وحدي الذي أذكره فيما أظنن ولكن يذكره معي الكثيرون ممن لا يسمحون ليد الزمن أن تطمس ما يؤثرون لغيرهم من قيم ويحفظون من كلمات!
أما المناسبة التي دفعتني إلى الكتابة وأثارت القلم بين يدي وبعثت التاريخ من مرقده، فهي سطور كتبها الأستاذ مصطفى أمين بك في كتابه الجديد الذي أصدرته (أخبار اليوم) وأعني به (عمالقة وأقزام). . سطور أشار فيها إشارة عابرة إلى ذلك المقال وهو في معرض الحديث عن الزعيم العظيم محمد محمود، وهناك حيث مر مسرعا وكان يجب أن يطيل الوقوف، وقال موجزا وكان يجب أن يطنب ويفيض:
(وفي سنة 1929 قمت بحملة في مجلة آخر ساعة ضد نادي الفروسية، وضد الكبراء الذين يتعالون على الشعب. . . وذات يوم استدعاني رفعة علي ماهر باشا وكان رئيسا للديوان الملكي، وقال لي إن هذه الحملة قد تؤدي إلى إسقاط وزارة محمود، وذلك لأن محمود رفض تقديمي إلى محكمة الجنايات!
وذهبت إلى محمد محمود وقلت له: إنني مستعد أن أقف الحملة مؤقتا وقصصت عليه حديثي مع علي ماهر. فقال رئيس الوزراء: إنه يشرفني أن تستقيل الوزارة بسبب الدفاع عن حرية رجل يدافع عن شعور المصريين! وقال لي: لقد طلبوا إلى محاكمتك فقلت لهم: أنا الذي أمليت عليه هذه المقالات، فإذا كان الدفاع عن شعور المصريين جريمة فأنا المجرم الأول!
وحدث بعد هذا أن كتب الأستاذ أحمد حسن الزيات مقالا في (الرسالة) في موضوع الطبقات وهاجم فيه بعض الكبراء. . فذهب أحد الكبراء إلى محمد محمود وطلب إليه
تعطيل مجلة الرسالة، وتصادف أني كنت أزور محمد محمود فاخبرني بما حدث، وطلب منا أن نذكره في اليوم الثاني بالموضوع في مكتبه برياسة مجلس الوزراء!
وقبل أن يذكره أحد بالموضوع. . كتب بخطه الأمر التالي: (يجب أن تشترك وزارة المعارف في مجلة الرسالة، وأن تعطي إعلانات حكومية أسوة بباقي المجلات)!
وسلم الأمر إلى سكرتيره وهو يقول لي: هذا هو العقاب الذي أنزلته بمجلة الرسالة. .)!
هذه هي الإشارة العابرة التي وردت في كلمة الأستاذ مصطفى أمين عن مقال الأستاذ الزيات. إنها تعطيك فكرة ضخمة عن كبرياء محمد محمود وعراقة مصريته وأصالة قوميته، وبقى أن أحدثك أنا عن موقف الأستاذ صحاب الرسالة حديثا يحدد مكانة في نفسك ويقدم شخصه إلى حكمك وحكم الناس. ولقد دفعني إلى هذا الحديث أن الأستاذ مصطفى أمين بك قد مر بهذا الموقف مسرعا كما قلت لك وكان يجب أن يطيل الوقوف، وتعرض له موجزا وكان يجب أن يطنب ويفيض! لقد نسى الأستاذ مصطفى أمين بك أن مقال الأستاذ صاحب الرسالة كان يدور حول الموضوع نفسه الذي دارت حوله حملة (آخر ساعة) ضد نادي الفروسية وضد الكبراء الذين يتعالون على الشعب ونسى مرة أخرى أن يقول لقرائه إن الزعيم المصري العظيم محمد محمود قد وقف من الأستاذ الزيات نفس الموقف الجليل النبيل، حين طلب إليه أن يقدمه إلى القضاء فرفض هذا الطلب في إصرار وإباء. . . ونسى مرة ثالثة أن يقص على قرائه قصة مادي الفروسية التي ألهبت شعور الزيات وأثارت قلمه وأخرجت إلى الناس أعظم مقال كتب في تاريخ الكرامة المصرية!!
لقد حدث أن ذهب المغفور له محمد محمود باشا يوما إلى نادي الفروسية وهو رئيس للوزراء عام 1939، فوقعت عيناه على لوحة على الباب الخارجي تحمل إلى الزبائن هذه الكلمات:(منوع دخول الفلاحين). . . وثار الزعيم العظيم وهتف وهو يدق الباب بقدمه ويفتح على مصراعيه: (إن حكومة جلالة الملك لا يمكن أن تسمح بإعادة الطبقات. نحن هنا في بلد ديمقراطي، وكل المصريين سواء، وجلالة الملك يضرب كل يوم أعظم الأمثال في ديمقراطيته ومصريته. أنا فلاح وابن فلاح، وأفخر بأن أكون كذلك. . والفلاح هو عماد هذه البلاد وفخرها، وإذا كان بين أعضاء (نادي الفروسية من لا يعجبه هذا الكلام فليرحل عن بلاد الفلاحين)!
نطق محمد محمود بهذه الكلمات فألهب شعور الزيات كما قلت لك وأثار قلمه فأخرج إلى الناس أعظم مقال كتب في تاريخ الكرامة المصرية. . زولا تظن أنني أجامل الزيات بهذه العبارة الأخيرة أو أغلو في وصف أثر من آثاره، ولكنها كلمة حق من قلم لا يعرف المجاملة ولا يطيق الغلو ولا يفرق في النقد بين الصديق وغير الصديق! وإذا بقى في نفسك شيء من الشك فقرأ معي هذا المقال الذي إليك من الصفحة الحادية والستين من المجلد الثاني من كتاب (وحي الرسالة)، وهناك حيث يبرز لك الزيات على حقيقته من وراء السطور والكلمات:
(جلست كعادتي في عصر كل سبت أفكر في موضوعي الأسبوعي للرسالة، فتردد على خاطري المكدود معان شتى من وحي الساعة وحديث الناس وحواز القلوب، كمأساة حلحول في فلسطينن وصلة الجديد بالقديم في الأدب، فكنت أذودها بالفتور والإهمال، لأن معنى من المعاني القوية كان قد استبد بذهني منذ الصباح، فهو يرواده ويعاوده ويلح عليه حتى لم يكن من الكتابة فيه بد. ذلك هو بيان رئيس نادي الفروسية الذي بعث به إلى الأهرام) وطلب إليها أن تنشره في عدد اليوم. والذي استفزني من هذا البيان لهجته المنتفخة في الرد على رئيس الوزراء، والدفاع الظنين عن نظام الطبقات، والتفسير المجازف لكلمتي الفلاح والديمقراطية، والتلميح المحتزل إلى السامية والطورانية، فإن هذه مسائل دقيقة ما كان له أن يعرض لها بهذا الاستكبار في بيان دفاعي فيه عن التنصل أو الاعتذار! لست والحمد لله من طبقة أولئك المنادين إلى هذه (الكلبات) التي تتضاءل فيها الديمقراطية بين أرستقراطية الدم أو المال أو المنصب، فلا أزعم أني سمعت الأشداق الملوية تأمر، ورأيت الأنوف الوارمة تمتعض، ولكني قرأت كما قرأ الناس ثورة رئيس الشيوخ وزارة رئيس الحكومة، فعلمت والأسى يحز في الصدر أن لعض الذي جعلناهم عظماء وكبراء لا يزالون على عقلية ذلك التركي الفقير الذي كان يقرع الأبواب مستجديا، فإذا أجابه المجيب الفزع قال له في عنف وصلف وأنفة:(هات صدقة لسيدك محمد أغا).
ولا أدري ما الذي سوغ لهم أن يعتقدوا أن الله خلقهم من المسك للملك، وخلقنا من الطين للطين، وجعلهم للثروة والسيادة، وجعلنا للخدمة والعبادة؟ إن كانوا مسلمين فلإسلام قد محا الفروق بين الطبقات إلا البر والتقوى، فالعرب والعجم سواء، وقريش وباهلة أكفاء. وإن
كانوا وطنيين فالوطن لا يعرف التفاضل بين أبنائه إلا بأثرهم في تقويته وترقيته وخدمته، فالفلاحون على درجته العليا، لنهم عماد ثروته وعدة دفاعه وقوة سلطانه، والكبراء على درجته السفلى، لأنهم فيه معنى السرف الذي يفقر، والترف الذي يوهن، والبطالة التي تميت! وبين هاتين الدرجتين تتفاوت مواقف الوزراء والزعماء على حسب ما لكل منهم عليه من فضل
لا يا سيدي الأمير! ليس نظام الطبقات هو القائم في مصر وأوربا كما تقول، فإن جعلك نفسك ونظراءك طبقة متميزة واقعة. إن مصر كلها من أعلى شلالها إلى أسفل دالها طبقة واحدة، فيها الغني والفقير، والمالك والجير، والصحيح والمريض، والعالم والجاهل، فهل تجعل كل حال من هذه الحالات طبقة؟ وهل تستطيع أن تعين لي الفرق بين طبقتك المرفوعة وطبقتنا الموضوعة إذا كان الدستور الذي تخضع له الطبقتان يستطيع أن يجعل ابن الخادم الذي ينظف لك الحذاء جليسك ورئيسك؟ لقد كان امتياز طبقتك أنك تمسك الكرباج ونحن نمسك الفأس، وتأكل الذهب ونحن نأكل التراب، وتعبد الشيطان ونحن نعبد الله، وتتكلم اللغة الأجنبية ونحن نتكلم العربية. فلما قيض الله لمصر العظيمة فؤادا العظيم فتزوج منا وحكم بنى وسعى لنا ونشأ على خلائقه المصرية المحض شبله المرموق (فاروق)، شعرنا بأن العرش يستقر على كواهلنا، والعلم يخفق على معاقلنا، والسلام الوطني يتردد في شعورنا، والحكومة تقوم بأمرنا، والنيل يجري بخيرنا، ورأينا حين أخذكم - رضوان الله عليه - بأدب الإسلام والشرق الذي بأطراف الغربة، وقبعتم في زويا العزلة، وكنتم من مصر وثروتها مكان البالوعة تطفح بعرق الفلاح ودمه لتصب في منافع البلدان الغربية!
لا يا سيدي الأمير! ليس المصريون في الجنسية والوطنية بمنزلة سواء، فإن منهم من تمصر بالقانون لا بالأصالة، وتوطن للمنفعة لا للعاطفة. وكيف يستوي في الميزان من يقف على مصر يده وقلبه وكسبه، ودمه لا يعرفها إلا معرفة الغرماء، ولا يعيش إلا شهور الشتاء، ولا يعنيه من أمرها إلا أجرة العامل وسوق القطن! كذلك من خالص الحق قولك:(إن حق الشخص في الانتساب إلى أمة إنما يناله بما يؤديه إلى وطنه من الخدمات سواء أكان ذلك بنفسه أم بأفراد أسرته من آبائه وأعمامه وأجداده وأجداد أجداده) فإن أموال أبيك
لك، ولكن أمجاده له. والوطني الصميم هو الذي يرفع ما بنى أبوه، ويتمم ما بدأ جده. ولا ينفع المرء عند الوطن أن أباه وطني وهو خائن، ولا عند الله أن أباه مسلم وهو ملحد!
أيها الكبراء والعظماء! في لكم في سيدكم الفاروق أسوة حسنة. فخذوا أخذه الجميل في سيرته ومصريته وشعبيته ودينه، فإن ذلك يكفل لكم رضا الشعب في الدنيا ورضا الله في الآخرة)! هذا هو المقال الذي ظهر في (الرسالة) منذ أثني عشر عاما فكان له في النفوس وقع الآذان دوي وفي القلوب مكان. . واليوم حين تدعوني المناسبة إلى إثباته، اشعر شعورا عميقا بأن من حق الزيات علي أن أخفض قلمي تحية لمصريته، وكرامته. وأقسم أن هذا الشعور ليس مرجعه إلى أنه صديق وإنما مرجعه إلى أنه (مصري). . . وأعظم بكل مصري ولو كان خصما من الخصوم!!
إلى الشاعرة فدوى طوقان:
إذا قلت لك إنك من هذه الفئة القليلة التي تملأ نفسي اطمئنانا على حاضر الشعر العربي وتذهب بأكثر ما فيها من قلق على مستقبله، فانظري إلى هذا القول على أنه تقرير لحق وتصوير لواقع، ولا تنطوي إليه على أنه مجاملة لآنسة شاعرة وقصيدة مهداة. . . لقد تفضلت فأهديت إلى قصيدتك المحلقة في العدد (944) من الرسالة، وأنا إذا أتقبلها شاكرا فإنما أغترف الشكر من منابع تقديري لشعرك. وما أكثر دواوين الشعر التي يهديها إلي شعراء (كبار) فلا يسمعون مني كلمة شكر، لأن الشكر عندي أساسه التقدير، ولأن التقدير عندي مبعثه الإثارة النفسية التي يلهب بها الشعور كل فن جميل!
إن قصيدتك لتذكرني بأنني مقصر في حقك وحق شعرك لأن للفن الجميل حقوقا على النقد يجب أن يؤديها بإخلاص ويرعاها بأمانة. ولست أدري كيف شغلت عن حقوق فنك وأنا حريص على حقوق الناس. . . مهما يكن من شيء فإن بوسع الغد المرتقب أن يستدرك ما غفل عنه الأمس الغابر واليوم المشهود. وأشهد أن شعرك جدير بأن يحتل من تاريخ الدب مكانا ملحوظا وسطورا مشرقة. وأشهد مرة أخرى أن هذه الكلمات خالصة لوجه الحق وحده دون سواه، وليس مرجعها إلى مجاملة الآنسة الشاعرة وقصيدتها المهداة! تذكرني قصيدتك بهذا كله ثم تعود فتعصف بالوجدان وهي تقدم إلي قصة (لاجئة في العيد)، لاجئة رسمت ريشة الشعر قصة بؤسها على لوحة الشعور، شعور فدوى الإنسانة وفدوى الفنانة. . .
فدوى التي تقول في هذه الأبيات وتزفرني هذه الأنات:
أختاه هذا العيد عيد المترفين الهانئين
عيد الألى بقصورهم وبروحهم متنعمين
عيد الألى لا العار حركهم ولا ذل المصير
فكأنهم جثث هناك بلا حياة أو شعور
أختاه لا تبكي، فهذا العيد عيد الميتين!
أجل يا فدوى إنه عيدهم، عيد هؤلاء الذين عنيتهم بهذه الكلمات يوم أن تحدثت منذ شهور عن مأساة اللاجئين، وأطلقت هذه الزفرة المحترفة على صفحات الرسالة: (قلت مرة إنني كفرت بالضمير الإنساني، كفرت به حين كفر هو بكل وشيجة من وشائج الإنسانية وكل خليقة من خلائق الأحياء، حين تكون تلك الوشائج مجموعة من المشاعر والأحاسيس، مشاعر الدم الواحد واللغة الواحدة والتقاليد الواحدة، وأحاسيس الأخوة والعروبة والجوار!
قلت هذا فاعترض بعض الناس، وحجتهم أن الضمير الإنساني لا يزال بخير، في هذه البقاع الطيبة التي عنيتها بكلمات رسبت في نفسي رسوب اليقين. . . هم ينظرون إلى الجزء وأنظر أنا إلى الكل، ويحكمون في ضوء الفرد وأحكم أنا في ضوء المجموع، ويتكلون عن الضمير الإنساني من زاوية ضيقة ينحصر فيها فلان وفلان من عشاق الخير وصناع الجميل، وأتكلم أنا عن الضمير الإنساني في صورته الكاملة الشاملة التي تعني أكبر عدد من أقطار العروبة!
إن الضمير الإنساني في هذه البقاع الطيبة وبهذا المعنى الذي رميت إليه قد مات. . . ولو كان حيا لما سمح لنفسه بأن يطيق منظر الموت البشع وهو يحصد بمنجله الرهيب جموعا من الأحياء شردهم الظلم والطغيان فهاموا على وجوههم في كل فلاة: بطونهم خاوية، وأجسادهم عارية، بينما شبعت الكلاب واكتست الأضرحة واطمأنت إلى المأوى الأمين أخس أنواع الحشرات!
وأتطلع إلى هؤلاء المشردين الذين أضناهم البرد وقتلهم الجوع ولفح شعورهم الهوان، ثم أتذكر أن هناك غيرهم ممن أنعشهم الدفء وضاقت بطونهم بالتخمة وامتلأت نفوسهم بالأمان. . أتطلع إلى هؤلاء وأولئك ثم أخرج من جولة الفكر وفورة الأسى بهذه الحقيقة،
وهي أنني لا أملك لهؤلاء الجياع العراة غير هذا القلم! وماذا يجدي القلم يا رب وهناك من ينتظر الثوب الذي يستر الجسد، واللقمة التي ترد عادية الجوع، والقطرة التي ترطب حرارة الظمأ، والوطن الذي يشعر بكرامة الحي ويعبر عن جمال الحياة؟! وماذا يصنع القلم وهو لا يجد ما يهديه إلى هؤلاء الجياع العراة غير هذه الفروش الفكرية؟ ومن يخاطب وقد مات الضمير الإنساني عند حراس الخزائن وملاك الضياع وسكان القصور؟ إننا لا ندعو إلى الشيوعية ولكننا ندعو إلى الإنسانية، الإنسانية التي تصرخ في وجه هؤلاء جميعا بأن في أموالهم حقا لكل فقير وكل جائع وكل محروم، وتقول لكل واحد منهم في همسة إن لم تكن جازعة فهي ضارعة: تنكر للفتك إذا شئت، ولعروبتك إذا أردت، ولقوميتك إذا أجبت، ولكن. . . ولكن لا تنس أنك إنسان!
إنها قروش فكرية كما قلت، وحسبي حين أجود بها أنني أجود بخلجات النفس وخفقات القلب ودفقات الوجدان. حسبي هذا، وحسب اللاجئين أن يتقبلوا على أنها نفحة من نفحات الألم، فيها من مشاركة الشعور ما يقوم مقام العزاء، حين يضيع كل أمل في الضمير الإنساني ويخيب كل رجاء)!
لحظات مع أندريه جيد:
قارئ من قراء الرسالة يسألني: لماذا لم تكتب (الرسالة) كلمة واحدة عن الكاتب الفرنسي أندريه جيد بعد أن أصبح في ضيافة الخلود؟ لقد كتبت مثلا عن برناردشو مقالين تعرضت في أولهما لشخصيته الأدبية والإنسانية، ثم تحدثت في الثاني عن موقفه من الرأسمالية. . . ترى هل يستحق شو أن تكتب عنه كلمتين ولا يستحق أن تكتب عنه كلمة واحدة؟ وجوابي عن هذا السؤال هو أن مكانة أندريه جيد في نفسي لا تقل عن مكانة برناردشو على التحقيق. . وإذا كنت حتى الآن لم أكتب عنه فليس معنى ذلك أنني صرفت القلم عن الكتابة أو صرفت الذهن عن التفكير فيه. وأزيد على هذا أن أقول للأديب الفاضل صاحب السؤال: لقد كانت لفتة جميلة منك أن تذكرني بهذا الواجب الأدبي الذي تسأل عنه (الرسالة) ويسأل عنه كاتب هذه السطور، وهو واجب لم أغفل عنه وإنما أرجأته إلى حين، وقد يكون هذا الإرجاء إلى الأسبوع المقبل أو الأسبوع الذي يليه!
أنور المعداوي
الكتب
عرض ونقد:
العقل المؤمن
تأليف الأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
للأستاذ بركات
- 1 -
ذلك - أيها القارئون - قبس له وهج ونور، إلى على نفسه الكاتب - أن يقف به لا يريم، في معتنق الدروب، وملتقى السبل. يجمع السارين السكارى على حجة الله، وصيحة الكون، ويود في إخلاص لو تنشق له كل نفس ليواقف أصل الفطرة وروح الطفولة، ومنطق البراءة (إن الإسلام دين الطبيعة، ولو لم يكن دينا موحى به لكهان المذهب العقلي الفلسفي الوحيد الذي يحب اتباعه وحمل العقل عليه لاحترام النفس، والاحتفاء بالحياة العاجلة والاطمئنان إلى المصير السعيد). . وإن طوفة تعطف بالمرء على كل فصل في رفقة الأستاذ عبد المنعم خلاف - لكفيلة باستقرار وجدانه، وهدوء نفسه
لقد سحق القلق قلوبا حتى ذرها رمادا فيالهواء، ومن هنا ضاقت مسارح الإنسانية بين فكي القنوط، وصار الأمل كله قارا على مرتكز بعيد في أغوار المستقبل هو: الإنسان الكامل، وبين يدي ذلك اليأس الكافر هوت قيمة الفرد وصار معبرا وطريقا إلى الغائب المنشود، وكأنه مسمار في باب، أو خيط في ثوب، ولكن العقل المؤمن بسناه النافذ يكشف الغمة، ويطارد تلك الظلمات (تقول بعض الفلسفات إن الحل لهذه المشكلة هو في القول بالامتداد المستمر في الأفراد الآتية من النوع. فالكمال الذي ينشده الأفراد يحلمون به سيتحقق في أنوع. وكان الإنسانية في خيال هؤلاء هي المعنى الواحد في الأفراد. أما أجسام الأفراد فهي أثواب تنضوها الإنسانية في الأجيال المتعاقبة وتلقيها جثثا ميتة على طريقها إلى غايتها. . . ولكن في هذه الفلسفة إهدار تاما للفرد وارتدادا بالإنسانية إلى أفق واطئ جدا هو أفق النبات والبذور، دع عنك أفق الحيوان، ونظرة واحدة إلى إخراج الأفراد من الأرحام بصور متعددة الوجود وشكول مختلفة في العقول والنفوس - وهذا في الإنسان فقط -
تحملك على الجزم والاعتقاد بان القصد في الطبيعة متجه إلى خلق الفرد بالذات، وإحساسه على انفراد بالحياة التي فيه هو، وأنه مخاطب وحده مباشرة من خالق الوجود) وهكذا نصل إلى المنتهى فنجد الفلسفات الداكنة قد دقت بالطارق حتى سادت الأرض وجملة مل يمكن أن يقال عن كتاب (العقل المؤمن) هو أنه استجابة صادقة لقول الخالق الأعظم. . (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) ورحمة الله على أبي اسحق فقد قال.
ولله في كل تحريكة
…
وفي كل تسكينه شاهد
وفي كل شيء له أية
…
تدل على أنه واحد
- 2 -
بقيت كلمة. .
يقرر المؤلف وهو مندفع في غمرة الحماس (أن الإنسانية القديمة أصدق من الحديثة إحساسا، وأحياء شعورا. . حين شغلتها المسألة الدينية في جميع مواقفها، وجعلتها تنشئ شؤونها المادية، ومعها شعورها الديني) وكلما يعلم أن الدين في معتقد الأقدمين غفلة وذل، ولعل الهرم أعظم برهان يقدم دليلا وشاهد إثبات على هوان الرعية وتجبر الرعاة، وتواضع الشعب وسطوة الحاكم، وكان كل ذلك باسم الدين ولخير عندي أن يتمرد (إنشتين) أبو الذرة فيقول:(ما هو الله؟. . سؤال ليس له معنى) من أن توصر أجيال السالفين بالأديان في خدمة الكهنة والمتألهين
وفي مكان آخر بعد الذي مضى يقول (وقد كانت عقول قدمائنا حتى عقول بعض الأنبياء لا تدرك عمل الله سبحانه في التكوين والإحياء وتتوهمه سبحانه خاضعا في عمله للوسائط والأدوات والكيفيات المادية) ولعل الكاتب الكريم لا يخالفني في أن النبي هو الصورة المثلى للأيمان، وهو العبقري شاذ في الطبيعة يستند في تفوقه الإلهامي إلى الوحي، وفي قدرتها الخارقة إلى المعجزة وما يحمله عرض المؤلف من معاني هو كل ما يأتي النبي لهدمه وطرده من عقول أمته. وإذا كان المؤلف قد أتى بطائفة من آيات القرآن المحكمات فرجاؤنا أن يبحث لها عن تفسير غير تفسيره يكن أسلم
وكتاب اليوم هو الأخ الثاني لسفر تقدمه وأحدث ضجة كنا نتبعها بشغف في سنة1946
وكلاهما على يسير صراط واحد نحو أساس روحي للحضارة المادية. . وسيتلوهما ثلاثة ينتظمها المنهاج، والذي أبديت في سالف القول لا ينال من هذا الكتاب القيم وفي اعتقادي إني في صدر ملاق المؤلف رحبة فسيحة للرأي فيها مكان وسلامي عليه
بركات
البريد الأدبي
ملامح من المجتمع العربي!
بهذا العنوان أصدرت دار المعارف كتابا جديدا من سلسلة (اقرأ) للأستاذ محمد عبد الغني حسن المدرس بكلية البوليس الملكية، وقد جال فيه الأستاذ جولات موفقة في صميم المجتمع العربي في جميع عصوره، بل أحسن الاختيار في تبويبه وصياغته وما فيه من حقائق أفصح عنها المؤلف بقوله (فلن أذكر لك في هذه الضمات إلا حقائق قرأتها لك في عشرات من الكتب، وألفت بين موضوعاتها نسبا، فضمت الفرع إلى أصله. وقرنت الشبه إلى مثله، وكنت أقيد لك كل صيد من الحوادث بقيد من الكتابة، حتى إذا اجتمع لي من ذلك - على فترات من الزمن - مادة صالحة لأن أقدمها إليك تشجعت على أن أختارك معي رفيقا في رحلة ممتعة كل المتاع على خلال العصور، فترى معي ألوانا من المجتمع العربي بعد الفتح الإسلامي.)
فلنترك الأستاذ يقص علينا من ملامحه اللطيفة الممتعة حتى نصل إلى ص 108 من كتابه المذكور فنراه قد استشهد ببيت من الشعر في غير موضعه أثناء عرضه لعادة النقوط، تلك العادة المنتشرة بيننا إلى الآن ولها صولة خصوصا في صميم الريف المصري، إذا قال (. . . على أن العروس نفسها كانت تنقط كما يدل عليه قول الشاعر:
هذي عروس الزهر نقطها الندى
بالدر فابتسمت ونادت معبدا. . .)
والقائل لهذا البيت يصف زهرة نبات لا زهرة إنسية، وإذا فليست هناك مناسبة بين عروسنا الآدمية في نقوطها المعروف أن هذا البيت ضمن أبيات للشيخ نصيف اليازجي المتوفى سنة 1871 م في وصف الرياض والزهر: -
هذي عروس الزهر نقطها الندى
…
بالدر فابتسمت ونادت معبدا
لما تفتق سترها عن رأسها
…
عبث الحياء بخدها فتوردا
عبث البنفسج مقلة مكحولة
…
غمز الهزار بها فقام وغردا
ولا ينكر ما يبذله صاحب الملامح النقادة من جهد مشكور يقدره الأدب والأدباء سواء في تأليفه أو نقده
هذا ونشكر الأستاذ أن أتاح لنا فرصة الحديث عن كتابه مع قبول تحياتي وإعجابي
شطا نوف
محمد منصور خضر
دلالة الانفعالات الفكرية القائمة في مصر الآن
ليس من الحكمة أن ينظر بعض من يهمهم أمر هذه الأمة، بين الريبة والشك إلى الانفعالات الفكرية القائمة في مصر الآن فيحيطوها بشيء من الحذر والحيلة والسياسة، ويعملوا على حصرها في داخل الدائرة المرنة ظنا منهم أن هذه الانفعالات مقدمة ثورة أو انقلاب، وما هي في الواقع إلا نتيجة شعور بالحسرة والخيبة والألم، ودليل طموح إلى غايات سامية يرمى في جملتها إلى تحقيق ما يحلو من الآمال ودفع ما يحز الشعور
لقد كانت عنايتنا بالمسائل الحزبية والحركات السياسية داخل بلادنا في ربع القرن الأخير أكثر من عنايتنا بالعلاقات الاجتماعية والحركات الإصلاحية. وهذه هي علة ضعفنا وسقوطنا في ميدان الكفاح وإخفاقنا في إحراز المثل العليا في الحياة
وإن المنطق التاريخي للوطنيات الواعية ليدعونا إلى ترك الخلافات، ونبذ الخصومات وتناسي الحقاد، والتباعد عن الأثرة والأنانية، وبذل أقصى الجهود واصدقها لإقامة المجتمع المصري على أسس قوية متينة من الإيمان بالوطن والعلم بماضيه وحاضره، والعمل الذي يلبي نداء الوطن ويقضي حقوق المواطنين فيه
ويدعونا أيضا ذلك المنطق إلى احترام هذه الانفعالات الفكرية المنبثقة عن تنبع شعور الأمة بثقل وطأة الاستعمار وتزايد إحساسها بما ناله على يديه من ضيم وإجحاف وهوان وشعور الأمة هو كل حياتها القومية والاجتماعية كما انه يدعونا بعد ذلك إلى الانتفاع بهذه الانفعالات واستغلالها استغلالا حكيما للخلاص من مخلفات الماضي البالية، والقضاء على معالم البؤس والشقاء البادية. ولا يمكن ذلك إلا إذا اتحد الزعماء والقادة، وتجمع المفكرون والمصلحون تحت راية توحيد الأهداف ووسائل الإصلاح وتوجيه الرأي العام وجهة الخير والفلاح
سرابيوم
محمد يوسف الغزالي
الشيخ راغب الطباخ الحلبي
توفي في رمضان سنة 1370 عن 78 سنة. كان يحترف التجارة أولا ثم أكب على العلم فتلقاه عن كبار العلماء كالشيخ محمد الزرقا والشيخ بشير الغزي. ثم تخصص في التاريخ والحديث والتراجم. وألف كتابه الثمين (إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء) في سبعة أجزاء، ولبث في جمعه وتدوينه نحو من عشرين سنة
كان يدرس في الكلية الشرعية في حلب علم الحديث والمصطلح والتاريخ الاسلامي، ثم اختير مديرا لها. ومن تلامذته الشيخ مصطفى الزرقا والشيخ محمد الحكيم والدكتور معروف الدواليبي - رئيس مجلة النواب السوري اليوم - وغيرهم
وهو من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، وله في مجلته كثير من المخطوطات في الحديث والفقه والأدب وغيرها. برد الله مضجعه وعوض الأمة الإسلامية عن فقده خير عوض
عبد اللطيف الطباخ