الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 948
- بتاريخ: 03 - 09 - 1951
نماذج فنية من الأدب والنقد
قليلا ما اكتب عما يصدر من كتب الأدب. لأن كثيرا من هذه الكتب لا يرضيني. وليس ما يرضيني من الكتاب الأدبي شيئا وراء الإمكان أو فوق الطاقة. إنما هو الفن ولا شيء غير الفن. والفن الكتابي على ما أرى أسلوب من الجمال المصنوع المطبوع. عنصره الأول فكره قويه أصيلة. وعنصره الأخر صورة صادقة جميلة. فإذا فقد أحد هذين العنصرين أو فسد كان الأسلوب أسلوب عالم تجد فيه الروح ولا تجد الصورة. أو أسلوب مثال تجد فيه الصورة ولا تجد الروح. والعالم أو المثال رجل آخر غير الكاتب أو الشاعر: العالم همه توضيح الغامض في الموضوع. والمثال همه تحقيق الشبه في الشكل. أما الكاتب أو الشاعر فهو خالق مصور: يبدع الجسم على أجمل هيئة. ويبعث فيها الروح على أكمل حالة. ثم يهب لمخلوقه خصائص الحي فينمو ويتحرك ويعمل. ولكن نموه يكون في خيالك. وحركته تكون في نفسك. وعمله يكون في ذهنك. فيفيد ويقنع بأثر العقل في المعنى. ويعجب ويتمتع بأثر الذوق في اللفظ
ذلك جوهر ما يرضيني من العمل الأدبي في أي موضوع أنشأه صاحبه. وهذا الجوهر هو ما أتفقده الحين بعد الحين في نتاج العصر فأجده زائفا في أكثره صحيحا في أقله. وهذا الأقل إنما أجده فيما ينتج الخواص من شيوخ الأدب الذاهبين! أما الشباب وا أسفاه فإنهم ينتجون الأندر من هذا الأقل. والذين ينتجونه منهم نفر ميزهم الاستعداد ومحصهم الاجتهاد فشاخوا في الأدب على طراءةالسن وضآلة الناتج. وإن من أعيان هذا النفر صديقنا الأستاذ أنور المعداوي. وكتابه الذي عنونت باسمه هذه الكلمة ينطق عليه بالحق. وينهض إلي بالدليل.
تخرج الأستاذ المعداوي في كلية الآداب من جامعة فؤاد فكان شذوذا من القاعدة التي تزعم ان التضلع من علوم اللغة، والتبسط في فنون الأدب، وقف على خريجي الأزهر ودار العلوم.
ولعل هذا الشذوذ نفسه هو القاعدة السليمة التي تقول إن الكتابة ملكة يؤتيها الله من اصطفى من عباده في أي سن ومن أي جنس ومن أي معهد
أسلوب المعداوي كما تراه في كتابه من الأساليب التي جاء فيها التأليف بين المعنى واللفظ جاريا على سنن الفن الصحيح. فالتفكير قوي عصبي حار، والتعبير دقيق أنيق مهذب.
وليس ما في أسلوب المعداوي من العصبية والنارية آتيا من شبابه؛ فإن الشباب هو المتقد يخبو، والحس النير يظلم، إذا لم يكن من ورائهما نار الطموح ونور النبوغ. إنما هي شعلة الفن في روح الفنان، تضيء وتدفيء، وتصهر وتطهر. وقد تلدغ وتحرق أحيانا في نفس أنور، ولكن الزمن وحده كفيل بتهدئة الثائر وتفتير الحار، فيذهب الإحراق ويبقى الإشراق، وينجلي الدخان ويخلص الضوء!
المنصورة
أحمد حسن الزيات
الملك الشهيد
عبد الله بن الحسين
للأستاذ أحمد رمزي بك
- 20 -
ليزد بنو الحسن الشراف تواضعا
…
هيهات تكتم في الظلام مشاعل
فلقد علوت فما تبالي، بعدما
…
عرفوا، أيحمد أم يذم القائل
(المتنبي)
كان الجو السياسي قاتماً، يشبه الجو الذي يمر بنا الآن، وكانت إيطاليا تستعد لغزو الحبشه، ولاهم لساسة الغرب سوى حصر النزاع في دائرة ضيقه، كما يفعلون الآن في كوريا، وأخذت بريطانيا الأهبة لنفسها حتى لا تفاجأ، فبعثت برجالها يجوبون الشرق الأوسط والبلاد العربية، فكان جورج لويد المندوب السامي السابق بمصرفي طليعتهم، إذ جاء إلى فلسطين ونزل ضيفاً على المندوب السامي لفلسطين، في ذلك القصر الذي شيد على طراز صليبي، والذي كان يذكرني دائماً بأنني داخل حصن يسكنه عميد الأسبتار أو قائد الداوية، وهما منظمتان للفرسان الصليبين التقينا بأفرادهما في كثير من المعارك التاريخية، وعرفت سيوف السلف كيف تلين قناتهم، وترسل الأسرى من أبطالهم هدايا إلى ملوك الهند وبقية آسيا. ما دخلت هذا القصر حتى غمرتني الذكريات وشعرت بشيء من العطف على اليهود، فقلت إن هذا البناء يدعوني أن أقول لهؤلاء الخصوم يوماً (لقد جمع الشقاء بيننا). . ولكن الأيام لم تسمح لي أن أنطق بذلك، لقد خلع هؤلاء الظلم والشقاء، ويقيناً نحن نجر ثياب الخزي والشقاء
وفي مساء يوم السبت 11 يناير سنة 1936، أقام المندوب السامي السير آرثر وكوهوب حفلة عشاء ساهرة بقصره احتفاء بمقدم اللورد لويد، وكان على راس المائدة المرحوم الملك عبد الله ابن الحسين، طيب الله ثراه، وعلى يمينه اللورد، وجاء ترتيب مقعدي على يمين المندوب السامي السابق، الذي كان يهز مصر هزاً في يوم من الأيام.
وحضر دعوة العشاء سماحة مفتي فلسطين الأكبر الحاج أمين الحسيني، وراغب بك
النشاشيبي، وروحي بك عبد الهادي، وأمين بك عبد الهادي، ورؤساء بلديات حيفا ويافا ونابلس وغزه والرمله، وجاء مع الملك مستشاره فؤاد باشا الخطيب، كما حضرها شكري بك التاجي ويعقوب أفندي فراج وإحسان هاشم، أما الجانب البريطاني فمثله الأميرالاي جارفس حاكم سيناء، وجلوب باشا، والمندوب السامي في عمان كيرك برايد وعقيلته، والمستر ريتشمورد والمستر فيرنس مدير المطبوعات ثم المستر موري من كبار موظفي حكومة فلسطين وعقيلته.
وكنت قد طفت أنحاء الدار برفقة المستر فيرنس، أحادثه عن عوائد الأسكوتلنديين وطرائفهم وأنواع القبائل، وشعار البطون والأقسام، لأني رأيت المندوب السامي حريصاً على إظهار قوميته بشكل واضح، ولا أخفي أنني أعجب بصراحة القوم واندفاعهم السريع نحو الغضب ونحو الرضا.
ولما دخلنا حجرة الطعام وعرفت مجلسي مع اللورد، لم أكن مرتاحاً لتلك الجيره، فقد كنت أعرف كيف كان اللورد يتعالى على المصريين، فما هو موقفه مع ممثل مصر، والكل يعرف ما نحن فيه؟ فلم أشأ أن أبدأ حديثاً معه، وإنما جعلت كلامي مع جاري الأيمن المستر ريتشموند مدير الآثار، واستعنت ببعض معلوماتي الأولية في التاريخ لكي أجعل الحديث متواصلاً وبلا انقطاع. وبعد دقائق تحرك اللورد العظيم فوجه إلي بعض الأسئلة: أين تعلمت الإنجليزية؟ وهل أقمت بإنجلترا؟ كم مده لك بالقدس؟ ولما علم أنني كنت قبل مجيئي الى فلسطين بمفوضية مصر بأنقرة أخذ يسأل عن رجالها واحداً واحداً، وعن نهضتها وسياستها الخارجية وعلاقاتها بالسوفيت وإيطاليا وفرنسا، وعن جيشهاواستعدادها وما تنوي عمله إذا ما هوجمت من قبل موسوليني. ولما كنت أجيب أسئلته بطريقه منطقية وصريحة كما أعلمته من المبدأ أن ما أعرفه من الإنجليزية هو من صناعة مدارسنا المصرية وأنني لم أكن خريج أي معهد بريطاني، اعتدل كثيراً في مناقشته وبدأ يرحب بالإجابة على أسئلتي التي وجهتها إليه عن حقيقة مهمته في الشرق ولماذا يترك واجباته السياسية وأعماله المالية ليقوم برحلته الطويلة: وكما كنت صريحاً معه، كان هو من جانبه صريحاً معي. . ونعلم جميعاً ما تمخضت عنه رحلة اللورد من إنشاء المعاهد والمجالس البريطانية، لزيادة الروابط الثقافية بين بلاده وبقية بلدان الشرق.
لم يكن يدور بخلدي ساعتئذ أنني أستعد لأداء امتحان للترجمة بين الملك عبد الله بن الحسين واللورد لويد، إذ بعد دقائق دار حديث سياسي بين الرجلين العظيمين عن شؤون الشرق والبلاد العربية، وكان الملك يتتبع بنظراته كل كلمه أنطق بها وكان اللورد بما يعرفه من العربية يتتبع كل تعريب ونقل لآرائه.
ولا أخفي على القارئ أنني خرجت من الحديث وأنا أؤمن بوطنية الملك عبد الله بن الحسين، وعبقريته السياسية ووسائله في إقناع محدثه واجتذابه لصفه لقد وفق الملك الراحل بكلماته من أن يجعل اللورد الإنجليزي يعطف على قضية شرق الأردن، ويثق بمقدرة الملك العربي ولباقته وإخلاصه لمبادئه.
ولقد كان عبد الله بن الحسين مدافعاً عن حق العرب في فلسطين وشرق الأردن وفي سوريا ولبنان وفي العراق: كان يقول بأن الأمم العربية لها مطالب يجب على بريطانيا أن تجيبهم إليها إذ لهم حقوق ومواثيق ووعود. . . وأنه يجب أن تضع بريطانيا قبل أن تستعد للحرب عسكرياً، إجابة هذه المطالب في المقدمة، وأن صداقة العرب في أي نزاع أثمن لها من صداقة الغير، وأفيد لها عند الجد من تعبئة الجنود وزيادة القوة العسكرية في بلادهم.
قال إن العرب بطبعهم لا يميلون إلى إيطاليا بعد الدور الذي لعبته في طرابلس، وبعد أن نكلت جيوشها بالمجاهدين وبعمر المختار، وأنهم يطمئنون الى صداقة بريطانيا إذا أوفت بعهودها ومكنتهم من وحدهم وحريتهم واستقلالهم.
وكانت بريطانيا تخشى دعاية الطليان وآثارها، فقال إن أخطاء بريطانيا هي التي ستمكن لهذه الدعاية أن تتغلغل في أفكار العرب وتسمم نفسية الشباب نحو بريطانيا، وأن كل تردد أو موقف سلبي سيزيد هذه الدعاية ويقويها.
ولما سأله عن شرق الأردن قال إنه يتمتع باستقرار لا يتمتع به غيره من البلاد. . وأشار إلى سوريا التي كانت تجتاحها الأزمات ويقوم فيها ممثلو فرنسا بالتجربة وراء الأخرى.
وكان الملك يعلم بنية بريطانيا في زيادة قوات الطيران وفي زيادة قوات الحدود بشرق الأردن. . وهي القوه التي كانت تتحمل مصاريفها الحكومة وحكومة فلسطين، فقال بصراحة: إن الاعتماد على صداقة العرب أجدى من هذه الزيادة، ولكن الحصول على ثقة العرب يتطلب في المقام الأول منح العدالة لهم في فلسطين وصد تيار الهجرة إقناع سكان
فلسطين بأن الانتداب ليس معناه خدمة الصهيونية فحسب، بل الدفاع عن كيان العرب والمحافظة على حقوقهم وتأمين مستقبلهم. . .
لقد دهشت من منطق عبد الله بن الحسين، إذ ما كنت أتصور فيه تلك الجرأة في التعبير عن آرائه، أما اللورد الذي كانت إرادته هي كل شيء في مصر، وكانت عباراته قويه لدرجه أن وافقه اللورد عليها بل وأظهر عطفه على مطالب العرب وقال إن بلاده لم تسلم لفرنسا إلا باحتلال الساحل، إن سوريا كان مفهوماً ومتفقاً عليه أن تكون مستقلة لا ولاية ولا مستعمره تحتلها فرنسا وتفعل بها ما تشاء. وقال إن الانتداب يجب أن يتجه لحماية العرب من توغل اليهود في فلسطين، وكان اللورد بادي الانفعال لا يقدر على إخفاء مشاعره نحو العرب مندفعاً مع الملك في حديثه حينما وجد على المائدة طبقاً من الزنجبيل المسكر فأخذ يقدم ما فيه للملك ولي ويتناول منه قطعه وراء قطعه حتى اكتشف في النهاية سؤالاً نقلنا من كل هذا. . . إذ قال ما رأي الأمير في الملك عبد العزيز بن السعود؟ فالتفت إلي الملك وقال اسأله ما رأيه هو فيه؟ أريد أن أسمع حكمه أولاً. فتردد اللورد قليلاً ثم قال إني أعرف الحجاز تماماً وأعرف قبائله ورجال البادية في ربوعه إذ عشت هناك طول مدة الحرب الماضية، وقد قرأت كثيراً عن الملك عبد العزيز بن السعود وقدرت مواهبه ولكن الصورة التي انطبعت في مخيلتي عن جلالته، زالت حينما لقيته لأول مرة في الطائف وكان ذلك في سنة 1925.
كنت أنتظر من رجل البادية الذي أسس ملكه بسيفه، وأستنقذ الرياض وجمع حوله الأخوان وربط بين أجزاء الجزيرة فكون منها وحده في القرن العشرين، رجلاً آخر. ولعل رؤيتي له في وقت كان يستعد فيه ويستجم بعد طول الجهاد والكفاح، أظهرته لي على غير حقيقته.
ولعلنا نحن معاشر الإنجليز نخطيً في الحكم لأول وهله، فنحن نراه رجلاً للبادية لا يستوعب ضرورات المدنية الحديثة وينفر من كل جديد، ولا نشك في أن فتح الحجاز كان عبئاً عليه، وإن هذه البلاد الفقيرة ستتحمل زيادة على فقرها استغلال السعوديين لمرافقها.
وكان الملك لبقاً في إجابته إذ قال إنه متفق تماماً على رأي اللورد في أن أهل الحجاز ما انفكوا يشكون في الإدارة السعودية وأنهم يأتون إلى عمان وينقلون أخبار الفاقة هناك.
وقال اللورد: إن الذي يهمنا هو استيعاب الأمن والنظام وإيجاد حكومات تشعر بأهمية ذلك.
ومادامت الحدود محفوظة ولا تقوم ثورات في شمال الحجاز. وقد صفيت مشكلة الجوف نهائياً فلا أعتقد بوجود خطر من هذه الناحية. . كما أن الحرب إذا قامت في أي وقت في أوربا أو أفريقيا فأغلب الظن أن هذه الجزيرة العربية سوف لا تتأثر بقيام نزاع مسلح بين زعماء العرب.
كانت حوادث الاعتداء على حدود الأردن الصحراوية لا تزال ماثله، وكذلك حركة ابن رفادة في شمال الحجاز، وما دار بين ابن سعود وفيصل الدويش، ولكن أنظار اللورد كانت تحوم حول العراق وما قد تحدث فيه من الحوادث بعد وفاة فيصل الأول وتحت قيادة غازي الأول، كانت عيناه تتجهان يميناً شمالاً حينما ذكر العلاقة بين الملك عبد العزيز وقبائل الدولة في الشام
كل هذا لم يثن الملك عبد الله بن الحسين عن أن يذكر الحجاز، وأن الهاشميين أبناؤه وسدنته وأنه الأرض المقدسة التي يتجه لها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها: وأن توليه عرش الأردن لا يمنعه من تتبع أخبار الحجاز وآماله ومستقبله، لأن لديه بشرق الأردن عدداً من الحجازيين قد لجأوا إليه فهم يذكرونه عند كل لقاء بأن عليه أن يعمل شيئاً لهم، وأختتم كلامه بأنه لا يقدر أن يرد واحداً منهم لو جاء إليه، وأنه ليسعد أن يعطي كل ما يملك لهم وأن يقتسموا ملبسة ومأكله معه.
وكان كلامه مؤثراً في تلك اللحظة وكنت أجد متعه في نقله والتعبير عن آراءه. . لقد خرج عبد الله بن الحسين عن الملك والأمارة وأصبح إنساناً يتحدث بعاطفته وقلبه وشعوره، ولم يقف عند هذا الحد إلا بعد أن قام المندوب وشرب نخب ملك الإنجليز، والأمير الأردني واللورد بكوبه ماء احتراما للحاضرين، ودخل أفراد من فرقة القرب بكامل ملابسهم الحمراء يحيون الحاضرين بعزف بعض المقطوعات الاسكتلندية: وانصرفنا جميعاً الى الردهة الكبرى. . . حيث يسودها ذلك الجو الصليبي الذي يشعرني بأني وسط غمرات الحروب الصليبية وجنود الإفرنج وأعلامهم ورنوكهم وأسلحتهم.
أحمد رمزي
النسيان في نظر التحليل النفسي
للآنسة فائزة علي كامل
- 2 -
وقنا مع فرويد في المقال السابق على تفسير جديد للنسيان بناء على دراسته لبعض الأفعال التي تحدث في حياتنا اليومية كنسيان اسم شخص أو موضع شيء. . . الخ، وسنعرض هذه المرة لعملية النسيان في المجال المرضى. فهنا نجد أن فرويد قد نسب إلى هذه العملية أهمية بالغة إذ تبين إنها العلة لبعض الأمراض النفسية كالهستيريا. فما الذي أدى به إلى هذه النتيجة!
فيما قبل فرويد كانت توجد بديهية طبية هي (فكر تفكيرا تشريحيا) فكانت فكرة المرض مرتبطة بفكرة الإصابة. فمعنى أن نفكر تشريحيا هو أن ننظر إلى الإنسان من ناحية بناء جسمه ونتناسى الناحية الوظيفية للأعضاء. فنعتقد بوجود (أشياء) لا (أفعال). ولكن اتضحت مضار الأخذ بهذا الرأي إذ كان له أسوأ النتائج من الناحية العلاجية إذ ساد الأيمان بأن ما هدم أو فقد فلا أمل في برئه. فكان الأطباء يقفون مكتوفي الأيدي أمام مرض (الأفازيا) أي اختلال الوظائف اللغوبية) بناء على ذلك الأساس.
ثم عدل عن هذه البديهية وأخذ ببديهية أخرى هي (فكر تفكيراً فسيولوجيا) أي يجب ان نراعي الأفعال فلا نهمل ما تقوم به الأعضاء من وظائف. ولكن جاء فرويد وأظهر ان التفكير الفسيولوجي لا يكفي أيضاً، ويجب ان نفكر تفكيرا سيكلوجيا، ففي كثير من الحالات التي ترددت عليه وجد أن العلة مشكله سيكلوجيه. هذا بالإضافة إلى أبحاث (بروير التي ساعدته الى حد كبير على الوصول إلى ما وصل إليه خاصاً بالهستيريا.
فقد حدث أن جاءت (لبروير) فيما بين سنة 1880 وسنة 1881 فتاة تدعى تعاني حاله هستيرية. كانت في العشرين من عمرها، على جانب من الذكاء، طيبة القلب، تبالغ في مرحها وتفرط في حزنها. كانت تعيش في عالم من أحلام اليقظة إذ لم تشأ الظروف أن تجعلها تقع في شراك إحدى تجارب حب الشباب. وكانت أعراضها الهستيرية تنحصر في شلل الذراع الأيمن بصفة خاصة. وبعد أربعة شهور من ظهور هذه الأعراض توفى والدها فأصابها (التجوال النومي عقب ذلك
عد (بروير) فترة حضانة المرض من بداية مرض والدها إذ كانت متعلقة به تعلقاً شديداً وتمضي كل وقتها في القيام بتمريضه. فبعد وفاته ازدادت حالتها سوءاً فاشتدت هلوستها التي كانت تدور حول الأفاعي ووصلت الى حد مرعب شنيع. وصارت تراودها فكرة الانتحار من حين لآخر وتصيبها غيبوبات في ميعاد واحد كل يوم. كذلك فقدت معرفتها للغتها الأصلية وهي الألمانية، وأصبحت لا تستطيع إلا تكلم اللغة الإنجليزية وأخيراً تكلمت الفرنسية والإيطالية.
ابتدأ (بروير) في تطبيق طريقته العلاجية مع هذه الفتاة فلاحظ إنها تعود الى حالتها الذهنية العادية عندما يساعدها أثناء التنويم المغناطيسي على تذكر الموقف والأشياء المرتبطة به مع إفساح المجال للانفعالات التي قد يثيرها هذا التذكر. فهذا التنظيف الروحي أدى الى اختفاء كثير من الأعراض، وكانت هي نفسها تسمي هذه الطريقة أو وقد كان ذلك تشجعاً (لبروير) على الاستمرار إذ كانت تصرح له المريضة بأن يدعها تتحدث لأنها تجد في ذلك شفاء.
ومن حديثها استطاع (بروير) الوصول إلى كيفية تكون العرض الخاص بشلل ذراعها. ففي ذات ليله كانت المريضة تجلس إلى جوار سرير والدها المريض واضعه ذراعها اليمنى على ظهر الكرسي. وفي حلم يقظة رأت أفعى سوداء تخرج من الحائط وتسعى للدغ والدها وهنا حاولت أن تبعدها ولكنها لم تستطيع. إذ شعرت بشلل في ذراعها الأيمن الذي كانمنملا) بحكم وضعه. وفي هذه اللحظة حاولت أن تصلي ولكنها وجدت أنها لا تعرف شيئاً من الألمانية ولم تجد في ذهنها إلا دعاء الإنجليزية فرددته.
وحدث أثناء العلاج أن ظهر عرض جديد. فكانت المريضة تأخذ كوب الماء في يدها ولكن ما كاد يلمس شفتيها حتى تدفعه بعيدا كما لو كانت تعاني مرض الهيدروفوبيا الخوف المرضي من الماء) فكانت لا تستطيع الشرب على الرغم من شدة الحر في تلك الأيام، وكانت تلجأ إلى أكل الفواكه مثل البطيخ لتخفيف من شدة عطشها. استمر الحال كذلك لمدة ستة أسابيع وفي ذات تحدثت أثناء نومها المغناطيسي عن مربيتها الإنجليزية التي كانت تكرها. ثم ذكرت حادثه مؤداها أن هذه المربية سمحت لكلب ذات مره أن يشرب من كوب كانت تشرب منه المريضة فتضايقت أشد المضايقة ولكنها اضطرت الى قمع اشمئزازها
تأدبا. بعد أن سردت هذه الواقعة وعبرت تعبيراً قوياً عما سبب غضبها وأثار اشمئزازها طلبت كوبا من الماء وشربته، وأفاقت من غيبوبة التنويم المغناطيسي وكوب الماء على شفتيها. ومنذ هذه الجلسة زال خوفها من الماء وبالمثل اختفت كل أعراضها الهستيرية والقليل الذي بقي كان عضوي المنشأ.
انتهى (بروير) من هذه الحالة إلى نتيجتين: الأولى، وهي خاصة بالناحية العلية، ومجملها أن بعض الأعراض المرضية سببها ذكريات لا يستطيع الشخص استحضارها إراديا. . أي أنها على أنها ذكريات لا شعورية. الثانية، وتتعلق بالطريقة العلاجية، وهي تبين أن مجرد استكمال الذكرى المؤلمة المنسية في الشعور مع التصريف الانفعالي يؤديان إلى الشفاء. وقد قام التحليل النفسي على هاتين النتيجتين اللتين توصل إليهما (بروير) إذ اتخذ منهما (فرويد) بداية في أبحاثه في (العصاب العظيم) وهو الهستيريا. ففي عام 1895 ظهر لهما هما الاثنان بعنوان (دراسات في الهستيريا).
في هذا الكتاب أتى (فرويد) بآراء جديده على جانب من العمق فأظهر أن الهستيريا مرض نفسي يمتاز بضيق في ميدان الشعور. وكان (جانيه) يرجع ذلك الضيق إلى أسباب عضويه. . أما (فرويد) فإن كان لم يستبعد تلك الأسباب كليه إلا إنه أعلن أنها لا تعد تعليلا كافيا. ففي نظر (فريد) أن فشل بعض التصورات في شق طريقها الى الشعور إنما يرجع إلى استبعادها نتيجة لانعكاس دفاعي، فهذه التحولات محملة بشحنه مؤلمة لتعارضها مع الميول الرئيسية الموجودة في الشعور. ولذلك فإنها تكبت ومن ثم فالهستيريا تقوم على الكبت. وهذه أول إضافة فرويد إلى آراء (بابنسكي) و (جانيه).
لقد اتفق (فرويد) مع (جانيه) على أن علة الاضطراب الهستيري هي التأثير اللاشعوري، ولكن فيما عدا ذلك فإنه يوجد تباين شديد بين آرائهما. فالنسبة لجانيه يمكن أن يشبه النشاط النفسي بقاطرة إذا توقفت فذلك يرجع أما إلى كسر أو التواء في بعض أجزائها. وهذا يمثل التوتر. وإما إلى حاجة القاطرة الى ماء أو فحم، وهذا يمثل الاضطراب الديناميكية النفسية أو العصبية التي يمكن إصلاحها. أما فرويد فينظر الى الامر نظرة أخرى. . فهو يمثل النشاط النفسي بقاطرتين إذا سارتا في اتجاهين متقابلين في طريق واحد فإنهما سيتصادمان ولن يستطيعا التقدم، وهذا يمثل نوعا جديدا من الاضطراب لم يقل به أحد قبل (فرويد)
وهو الكف فهذا الاضطراب لا يرجع إلى التوتر ولا الى نقص عصبي أو نفسي وإنما يرجع إلى اضطرابات ديناميكية متقابلة. فآراء فرويد مركزة حول فكرة إيجابية هي الصراع بينما آراء (جانيه) تدور حول فكرة سالبة هي النقص
وثمت فكرة اخرى فسرها (فرويد) وهي الاعراض الجسمية الهستيرية كانحباس الصوت او الرجفة او الشلل. وقد اطلق عليها اسم (الهستيريا التحولية) فهذه ليست الا الطاقة المؤثرة المكبوتة المتجمعة في اللاشعور. ولكن كيف يمكن لهذه الطاقة ان تتحول الى اعراض جسمية؟ يجيب (فرويد) بان العرض الهستيري مثله كمثل الحلم. فهو يدل على رغبة مكبوتة يجب الا تظل كذلك لانها ما دامت هي مدفونة في اللاشعور فانها لنتكف عن التعبيرعن نفسها بواسطة اعراض شديدة الاختلاف انه لا يكفي استبعاد الاعراض لان مثل ذلك كمثل من يقطع الاعشاب السطحية ويبقى على الجذور. فالمصابون بالاعراض الهستيرية لم ينتهوا بعد من الموقف المؤلم او الصدمة التي لحقت بهم، انهم يظلون متعلقين بالموقف الماضي ويصبحون غرباء عن الحاضر والمستقبل. ثم يختفي ذلك الموقف في طيات النسيان ويصبح لا شعوريا ويحل محله الاعراض الهستيرية التي ما هي الا الصراع فيصور، مختلفة. ولا يحدث ذلك من صدمة واحدة وانما بعد معاناة عدة صدمات. وهو يعني بالصدمة كا ما يجلب استثارة في الحياة النفسية تبلغ حدا من العنف بحيث يصبح قمعها او التسامي بها امرا مستحيلا بواسطة الطرق العادية. فتلك هي العلة الحقيقية لنشوء المتاعب الهستيرية.
وقد اشار (فرويد) الى نقطة هامة وهي ان كل عرض هستيري يكشف بوجه عام عن مجموعة من التأثيرات حدثت في حياة المريض فيما مضى ويؤكد انه نسبها تماما. وقد ترجع هذه التأثيرات الى السنين الاولى من الحياة. . ولذلك فان (فرويد) ينظر الى حياة الفرد كتيار متصل تترابط فيه الميول والرغبات. وهو يعتقد ان خلق الشخص يتكون قبل نهاية الخمس سنوات الاولى من العمر، ونحن اذا انكرنا ذلك فانما نعلن جهلنا بالعمليات العقلية لمرحلة الطفولة ومالها من تأثير لا شعوري. كذلك قد يرجع ذلك الانكار الى نسيانها لهذه الفترة من الحياة، ذلك النيسان الذي يحتاج الى تفسير لانه ليس عملية فسيولوجية طبيعية في نظر (فرويد).
بقول (فرويد) ان سبب نسياننا لمرحلة الطفولة الكبت الذي يقوم بدور كبير في مرحلة التعليم المبكرة. فالاطفال يأتون وهذا العالم وهم مزدون بميول ورغبات بريئة تتناسب وسنهم، ولكن هذه الرغبات وتلك الميول لا تتفق وعقلية الكبار الذين يعملون بكل ما في وسعهم لفطم الطفل عنها وتوجيه ذهنه الى ميول اخرى. وهذا ما يسمى (بالتسامي). ومن هنا يضطر الطفل الى قمع ميوله البدائية ودفنها في اللاشعور. ولكن هذه الميول والرغبات المكبوتة لا تفقد شيئا من ديناميكيتها مدى الحياة، فاذا لم تكف طرق التسامي للتخفيف من الطاقة التي تحتوي عليها فان النفس تعمل على تصريف تلك الطاقة بشتى الطرق ولو ادى ذلك الى ظهور اعراضمرضية. فالاعراض العصابية تمثل في صورة مثيرة تحقيق الرغبات المكبوتة.
ان للنسيان اهمية بالغة في الحياة النفسية، ولذلك يقول (فرويد) ان ما يجب عمله ازاء فكرة ينقصها معنى او عمل ليس له هدف هو ان نعثر على الموقف الماضي الذي تحققت فيه الفكرة ووصل العمل الى هدف. (وكان (جانيه) يستخدم التنويم المغناطيسي ليصل الى ذلك الموقف الماضي ثم يهاجم الافكار بعد ظهورها بوسائل مختلفة كالايحاء او ايجاد عناصر منافسة لها او تحل محلها. ولكن تبين (بروير) و (فرويد) انه لا يمكن استعمال التنويم المغناطيسي في جميع الحالات واكتشفا ان اكمال الذكرى المؤلمة باعادة الجزء المنسي منها الى الشعور مع التصريف الانفعالي. . فيهما الكفاية للشفاء وزوال الاعراض. لهذا لم ياخذا بالابحاء المباشر لمحاربة الاعراض ولم يوافقا على استبدال افكار بافكار. لقد حصرا العلاج التحليلي في حل العادات المرضية وذلك باستذكار الحوادث التي نبعث منها. فيجب ملء كل الثغرات التي في ذاكرة المرضى، أي يجب استبعاد (الامنيزيا) وجعل كل ما هو لا شعوري شعوري.
اما سر زوال الاعراض بمجرد استحضار الذكريات المنسية فيرجع الى ان التحليل النفسي يحول العرض الى صورته الاصلية. هذا من جهة. ومن جهة اخرى نلاحظ ان التداعي الحر يسمح للمريض باسترجاع الذكريات المؤلمة على دفعات. فما لوحظ ان الذكرى المكدرة لا تسترجع اولا وانما تأتي الافكار التي ترتبط بهذه الذكرة. . ومنها يتدرج الى الذكرى المؤلمة حقا. وهكذا فان المريض لا يواجه ما ينغصه مرة واحدة. . بل يأخذه
جرعة فجرعة، يضاف الى ذلك ان وجود المحلل يشجع المريض ويقوي انيته، فكل اضطراب نفسي له علله مهما كان غموضه في الظاهر، وعمل المحلل الكشف عن هذه العلل. . ولا يستطيع القيام بذلك الا من هيىء ليقابل بهدوء كل محتويات الذهن اللاشعورية. . وكان لديه خبرة بطريقة حل الصراع.
البقية في العدد القادمفائزة علي كامل
الواقعية الفنية
للاستاذ عبد الوهاب محمود
عاشت المدرسة الابتدائية في عالم من خيال تتقاذفها صور الكآبة والحنين واليأس، ويشق الاغتراب الروحي طريقه الى نفوس كتابها، فلجوا بدورهم في دنيا من ضباب، وسلكوا في اساليبهم مسلكا تشيع منه الاحزان والمشاعر النفسية المضطربة. ولعل (هوجر) خير من يمثل هذا المذهب الفني الادبي.
وكرد فعل لهذه المدرسة التي غالت في الخيال برزت المدرسة الواقعية في ميدان الادب، وسرعان ما سارت في هذا الميدان واتجه اليها كثير من الادباء اتجاها فنيا صادقا يتمشى مع روح الواقعية الحقة بينما سلك اخرون سبيلا ملتوية، لا تمت الى الواقعية الفنية بصلة. ومن اثارها ذلك الانتاج الغزير الذي (تقذفه) الينا الصحف والمجلات، وبخاصة تلك الصحف التي تبغي الكسب المادي. وكثر انصار هذه الواقعية الحمقاء التي تتجسم بنقل الواقع (فوتوغرافيا) جافا جامدا كما تتمثل بتلك اللغة الهزيلة حتى ذهب بعضهم الى الالتجاء للغة العامية، الا ان حقيقة هذا المذهب الادبي غير ما يرى هذا الفريق؛ فالفنان كما يقول توفيق الحكيم ليس بمحرر تقارير، وانما هو محرر عواطف. وليست الامانة المطلوبة منه نقل الاحداث دون المشاعر والعواطف، فالواقعية كما يرى جبهاميل ليست بالواقعية الفوتوغرافية التي لا يخرج عملها عن عمل الة التصوير التي (كلفت) بالتقاط الواقع بحركة الية عمياء جافة. ولعل الذي دفعني الى كتابة هذه العجالة تلك المسالك السود، وغدا ادبهم لا يعدو تلك (اللقمة) التي تتربع على مائدة الطعام، او تلك الصور التي يشيع فيها التشاؤم والرعب من الحياة.
الواقعية الفنية لا تبعدنا عن حياتنا ـ كما يظن ـ بل هي الواقع المحس قد داعبته انامل الفنان، وقد يرسم الفنان ـ الشاعر او القصاث ـ صورا ماثلة في الواقع، واقعة حقا، وقد لا تكون كذلك كما لا يلزمنا ان تكون تلك الصورة المنقولة صورة سامية حسنة جميلة، بل كل ما يطلبه الفن نقل الصورة نقلا فنيا، وكل ما يطلبه الواقع نقلها بامانة. واذاصهرنا مطاليب الفن ومطاليب الواقع ـ في بوتقة واحدة ـ ظهر لنا (الادب الواقعي الفني) الذي هو نفسه الادب المصور المؤثر.
ويحضرني الان راى للاستاذ المعداوي نشره في تعقيباته في عدد الرسالة الفائت اذ قال: الواقعية ضربان، واقعية اولى ويكون فيها نموذج الشخصية موجودا (بالفعل) في الحياة، والواقعية الثانية، ويكون فيها نموذج الشخصية موجودا (بالامكان). ولم يقف الاستاذ المعداوي عند هذا الحد، انما ذهب الى تعريف الواقعية الاولى فقال (هي نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الاحياء، كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه العين وتألفه النفس) ولو وقف الاستاذ عند قوله: (انها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الاحياء) لهان الخطب وما جعل ذلك النقل مقيدا (بما تلمسه العين وتألفه النفس) كما انه لو احترس الاستاذ في قوله وقال: (انها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الاحياء كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه عين الفنان وتألفه نفسه) بدلا من اطلاق (العين والنفس) التي تدعو الى جعل الفن ضربا من ضروب العبث، كما يجعل ـ هذا الاطلاق نفسه ـ الفنان والرجل العادي في كفة متساوية من حيث الاحساس، اقول لو قال الاستاذ (عين الفنان ونفسه) لسهل الامر ومادعانا الى الولوج في دهاليز الظلمة والجهل، وهو يقصد الايضاح والاعلام. ورأى الاستاذ المعداوي ايضا يبعث الينا من جديد تلك الصفعة التي وجهها افلاطون لفن الشعر، كما يعيد الينا صدى العبارة اليونانية التي تقول:(ان الفن تقليد للطبيعة) والتي استغلها افلاطون نفسه للطعن في الشعر، وبودنا لو استطاع الاستاذ انور المعداوي ان يجيب على هذه الاسئلة التي (تقلق) بالى في تعريفه الذي ذكرته، واول ما يتلقانا من الاسئلة هذا السؤال، اذا كانت الواقعية نقلا مباشرا لصور الحياة التي تلمسها العين وتألفها النفس، فما فائدة هذا النقل اذن؟ وما فائدة تلك الصورة (المقلدة) للواقع ما دمنا نستطيع النظر الى الاصل نفسه؟ بل، ما فائدة الفن اذا كان نقلا مباشرا لما تألفه النفس وتلمسه العين؟. . .
يقول افلاطون: ان عناية الرجل العاقل تنصب في الوصول الى الحقيقة، لذا كانت عنايتنا بالاشياء، لانها ممثلة للحقيقة. وتكتسب هذه الاشياء حقيقتها من الافكار التي تمثلها. فالمصور يقلد الاشياء، والاشياء بدورها تمثل الافكار، والافكار هي الحقيقة، فيكون اتصال الفنان المصور بالحقيقة اتصالا بعيدا عنها بثلاثة مراتب. ولما كان الشاعر يقلد اعمال الناس وظواهر الامور فعمله هذا بعيد عن الحقيقة بمرتبتين، فالفن اذن ـ على هذا الرأى ـ ضرب من العبث ما دام يبعدنا عن الحقيقة، والرجل العاقل لا ينشد ذلك. ولو كان الفن
ـ الادب ـ تقليدا للطبيعة حقا، او هو نقل مباشر لها، لتقبلنا رأى افلاطون وسكتنا، ولتقبلنا رأى الاستاذ المعداوي وصمتنا، ولكن الفن ليس تقليدا للطبيعة فقط، كما انه ليس نقلا مباشرا فقط. انما يتدخل الخيال وتلج المهارة الفنية في ذلك الميدان لترفعه عن حضيض التقليد الاعمى الى قمة الخلق والابداع، وتقليد ما يتصوره الخيال، فيكون عمل الخيال ـ هنا ـ لا يعدو مجرد تقطير الاحداث الواقعية باستبعاد جميع نواحيها السخيفة. ولكن هذا وحده ـ كما يقول لاسل ابركرمبي ـ كاف لان يجعل الشعر (الادب) الناتج عن هذا شيئا مخالفا لتلك الصورة المنسوخة التي توهمها افلاطون نفسه، وجعلها سببا للطعن في الشعر، ونضيف نحن ايضا ان تقطير الاحداث الواقعية بواسطة الخيال كفيل لان يكون لنا شيئا مخالفا لتلك الصورة التي ننقلها نقلا مباشرا عن الواقع والتي يراها الاستاذ المعداوي مادة للواقعيين.
ولو سلمنا ان الفن تقليد للطبيعة او نقل مباشر لصور الحياة او ان الفن مرآة للواقع؛ كنا بذلك قد ابتعدنا عن الحقيقة بمرتبتين او ثلاثة ـ كما يقول افلاطون ـ انما الفن دفعه من النور تكشف لا عن مظاهر الحياة التي تألفها النفس وتلمسها العين؛ ولكن عن خفايا تلك المظاهر؛ عما وراء المظاهر، فظواهر الامور كثيرا ما تخفي شيئا (دسما) للفن، فالحزن في صورته الظاهرة تقطيب الوجه وتقارب الحاجبين مثلا، ولكن هل هذا هو كل الحزن الذي نشعر به؟؟. . . كلا. . . باستطاعة أي انسان ان يقطب وجهه ويقرب حاجبيه، ولكن هل يشعر هذا (الممثل) شعور ذلك المفجوع المكلوم؟!. . . على هذا، فهل من الانصاف ان ننصف الظاهر (الآلى) ونعرض عن تلك (الحرقة الاليمة) التي هي في الحق مشاعرنا التي تنتابها.
والادب كما يقول (كرمبي) توصيل يحدث بين المؤلف والقارىء، يعرض المؤلف ادبه بوصف مشاعره واحساساته وتبيان اثرها في نفسه، وهذه الاصداء النفسية هي التي تمثل (الذاتية) الاس الاكبر للرومانتيكية الابتدائية، ولكن الادب ليس كل ذلك، انما يراد للتوصيل ان يلج المؤلف ساحة اخرى هي (الموضوعية) وبذلك يرضي قارئة حتى يتقبل ذلك الادب، وحتى يتم ذلك التوصيل. والموضوعية كما نعلم ـ تخاصرالواقعية ـ وبذا تكون لنا في الادب جانبان هما الموضوعية والذاتية (ولكن كل منهما على حده لا يعبر عن
الحقيقة) لذا نرى ان على الاديب الواقعي الفنان ان يلتزم هذين الجانبين في ادبه ولا يهمل (الذاتية) في نقل الواقع فيجىء نقله محايدا (ان صح وجود النقل المحايد في الادب. . ذلك لان الادراك نفسه غير محايد كما تقول نظرية الكاتب الفرنسي الوجودي سارتر).
فالواقعية الفنية تتمثل بالجانب الذاتي والموضوعي، كما تتمثل بالعناية بوساطة الادب (اللغة) وعنايتها بالغة تتم عن طريق معرفة المفردات وما توحيه كل لفظة من صور ومعان، وما تحدثه من جرس.
ومن ادب الواقعية الفنية قصة (الام) للكاتب الروسي مكسيم غوركي و (قصة انا كارنينا) للفيلسوف الروسي (ليوتولستوى) وقصة (تس سليلة ربرفيل) للشاعر القاص توماس هاردى، وتحفة غلوبير الخالدة (مدام بوفارى)، كما نجد الواقعية العنيفة تتجلى في كتاب (الايام) للدكتور طه حسين، وكتاب (عصفور من الشرق) للاستاذ توفيق الحكيم. ومن قرأ القصص لا يستطيع انكار الخصائص الفنية التي ذكرناها عن الادب الواقعي الفني.
ولعل قصيدة هوسمان الشاعر الانجليزي (الى السوق اول مرة) خير مثال للواقعية التي ذهبنا اليها، فلذا راينا ان نعرضها لزيادة الايضاح:
ـ يوم انشأت اذهب الى السوق، اوائل عهدى بالاسواق كانت الدراهم في الكيس جد قليلة
وكم طال بي النظر وكم طال بي الوقوف!
على اشياء في السوق لا تنال
ـ تغير الزمن اليوم، فلو اردت الشراء لاشتريت هنا الدراهم في الكيس، وهناك اشياء الامس في السوق ولكن يا ترى ذلك الفتى المحروم؟
ـ طالما شكا قلب الانسان لان (اثنين واثنين اربعة)
لا هي ثلاثة كما نودها حينا ولا هي خمسة كما نودها بعد حين واحسبه سيشكو الى اخر الزمان.
هذه صورة من الواقع، ولكن هل هي نقل مباشر لصور.
* *
الحياة. . مما تلمسه العين وتألفه النفس؟ هل هذه الصورة التي نقلها هوسمان هي صورة الواقع المحس فقط؟. الم يضف هوسمان شعوره وعواطفه واماله التي سرعان ما تتبدل
وتتغير؟. . .
لقد صور لنا هوسمان الواقع المحس ونقل الينا احاسيسه ومشاعره نقلا فنيا من الصعب ـ بل من الصعب جدا ـ ان ننكر ذلك الواقع الفني الذي نقله هوسمان.
العراق. بصرة
محمود عبد الوهاب
دفاع عن الوجودية
مهداة للاستاذ علي متولي صلاح
للسيد نهاد التكرلى
ما كادت الوجودية تنتشر في فرنسا في اعقاب الحرب العالمية الثانية حتى انهالت عليها الانتقادات والاتهامات من كل حدب وصوب. وقد صار النقاد على مختلف نزعاتهم، من شيوعيين الى مسيحيين، يكيلون لها التهم جزافا. فاتهموا جان بول سارتر ـ مؤسس هذه الفلسفة في فرنسا ـ بانه استوحى فيلسوفا المانيا نازيا هو مارتن هيدجر، ومن ثم فلابد ان تكون فلسفته ذات نزعة فاشية. ونسبوا اليه نشره باسم الوجودية نزعة ركونية للقلق تجعل الانحلال والفساد يدب الى الشبيبة وتصرفها عن العمل. لان سارتر كما يقولون يثير الشباب لاستغلال نوع خاص من اليأس واتهموا سارتر بانه يدافع عن مذاهب عدمية (والبرهان على ذلك غي نظر احد النقاد هو ان عنوان كتاب سارتر الفلسفي هو (الوجود والعدم)!) في مثل هذه السنوات التي يجب فيها اعادة بناء كل شيء من جديد، والعمل لتكريس الجهود لربح الحرب وربح السلام. ثم اتهموه اخيرا بان الوجودي لا يطيب له الا الانهماك في الاقذاع واظهار شرور الناس وضعتهم اكثر من ابرازه الجانب المضيء من مشاعرهم وعواطفهم الجميلة.
وقد حاول سارتر الرد على بعض هذه الاتهامات التي تبدو مستوحاة بباعث من سوء النية والجهل. خاصة وان اصحابها كما يبدو جليا لم يقراوا أي كتاب من الكتب التي يتحدثون عنها، والظاهر انهم قد اختاروا الوجودية هافا يسددون اليه سهام نقدهم لانهم اولا بحاجة الى شخص او مبدأ يتحمل خطايا الاخرين، ولانهم ثانيا وجدوا ان الوجودية مذهب مجرد لاتعرفه ال فئة ضئيلة من الناس؛ ولن يحاول احد التحقق مما يقولون. ومن بين الردود التي فند فيهاسارتر مزاعم هؤلاء النقاد مقال نشره في جريدة الا كسيون الفرنسية بتاريخ 29 ديسمبر عام 1944 نحاول تلخيصه لقراء الرسالة في هذا المقال، ومحاضرة عنوانها (الوجودية نزعة انسانية) القاها سارتر في نادي (منتنان) وقد لخصناها لقراء مجلة الاديب البيروتية في العام المنصرم.
يقول سارتر عن النقد الخارجي الذي وجه اليه: ان هيدجر كان فيلسوفا قبل ان يكون نازيا
بوقت طويل. وبمكن تفسير اتفاقه مع الهتلربة بالخوف وربما بالوصولية، او بالانقياد والخضوع وهو الامر الاكثر يقينا. وهذا على كل حال امر ممقوت لا يحبذه احد ابدا غير انه كاف وحده للطعن في استدلال النقاد. فهم يقولون:(ان هيدجر عضو في الحزب الاشتراكي الوطني واذن فلا بد ان تكون فلسفته نازية). بينما الحقيقة على خلاف ذلك، اذ ان هيدجر لا خلق له وهذا هو كل شيء. فهل هناك من يجرؤ على الاستنتاج من هذا بان فلسفته تبرير لجبنه؟ اليس المعروف بان هنالك كثيرا من الاشخاص لم يرتقوا الى مستوى مؤلفاتهم؟ هل يجب ان نبين (العقد الاجتماعي) لان روسو كان يضع اطفاله في ملجأ اللقطاء؟ ثم ما اهمية هيدجر؟ اذا اكتشف سارتر فكرته الخاصة فيفكرة فيلسوف اخر او اذاطلب الى هذا الفيلسوف اصطلاحات فنية وطرقا كفيلة بابلاغه الى مشاكل جديدة كان ذلك دليلا على انه يعتنق جميع نظرياته؟ لقد اقتبس ماركس من هيجل منطقه الجدلي فهل يقول احد بان كتاب (رأس المال) مؤلف بروسى؟
ولنأت الان الى الوجودية فنرى هل حاول هؤلاء النقاد تعريفها على الاقل الى قرائهم؟ انهم يحاولوا هذه المحاولة لانهم يعلمونبان ذلك يورطهم في جدال فلسفي ليكلفهم مجهودا كبيرا لا يتناسب وهذه الهجمات المبتذلة التي يشنونها على الفلسفة. ومع ذلك فان هذا التعريف بسيط الى درجة كبيرة. يقول سارتر: من المقرر ـ لو استعملنا عبارات فلسفية ـ ان لكل شيء ماهية ووجودا. والماهية معناها مجموع ثابت من الخصائص؛ بينما الوجود يعني نوعا من الحضور الفعلي في العالم. والشيء الذي يعتقد به كثير من الناس هو ان الماهية تأتي اولا ثم الوجود، فالبسلة الخضراء مثلا تنبت وتستدير طبقالفكرة البسلة، والمخلل مخلل لانه يساهم في ماهية المخلل، وهذه الفكرة تنبع في الاصل من فكرة دينية. وفي الواقع ان الذي يريد ان يبنى بيتا لابد ان يعرف بالضبط اى نوع من الاشياء سيبدعه. فهنا ايضا نجد ان الماهية تسبق الوجود وهذه الفكرة موجودة لدى كل الذين يعتقدون بالله وبانه خلق الانسان، اذ لابد ان يكون قد قام بهذا العمل وفقا للفكرة او المفهوم الذي كان لديه عن الانسان. غير ان بعض المفكرين قد قالوا بالالحاد مع محافظتهم على هذا الرأى التقليدي، وهو (ان الشيء لا يوجد ابدا الا وفقا لماهيته).
وكان جيل القرن الثامن عشر باجمعه يفكر بان هنالك ماهية مشتركة بين جميع البشر
تدعى (الطبيعة البشرية). غير ان الوجودية قد جاءت اخيرا فقلبت الوضع لانها قالت بان الوجود لدى الانسان ـ ولدى الانسان فقط ـ سابق على الماهية. وهذا يعني بكل بساطة ان الانسان (يوجد) اولا ثم يكون بالتالي هذا الشخص او ذاك. وبكلمة واحدة ان الانسان يجب ان يخلق ماهيته الخاصة بنفسه. فهو عندما يرمي بنفسه في العالم ويتألم ويناضل فيه انما يعرف نفسه شيئا فشيئا. . ومجال هذا الانسان قبل ان يموت. . ولا ماهي الانسانية قبل ان تزول من على وجه الارض.
والان وبعد ما تقدم: هل الوجودية فاشية ام محافظة ام شيوعية او ديمقراطية؟ من الواضح ان هذا السؤال سخيف لا معنى له. . اذ الوجودية وهي على هذه الدرجة من العمومية ليست سوى طريقة معينة لمواجهة المسائل الانسانية. . رافضة اعطاء الانسان اية طبيعة ثابتة على الدوام. لقد كانت الوجودية سابقا تقترن بالمعتقد الديني كما نجدها لدى كير كجورد. . والوجودية الفرنسية التي يمثلها سارتر تميل اليوم الى الاخذ بالالحاد. . غير ان هذا ليس ضروريا بصورة مطلقة. وسارتر يقول ان كل ما يمكن ذكره في هذا الصدد هو انها لا تبتعد كثيرا عن التصور الذي تصوره مارس للانسان. الا يرتضي ماركس في الواقع هذا الشعار الذي اتخذه سارتر شعارا للانسان: ان يعمل وبعمله يصنع نفسه ولا يكون شيئا سوى ما صنعه من نفسه؟
والان نقول: اذا كانت الوجودية تعرف الانسان بواسطة فعله فمن البديهي انها ليست فلسفة للركونية؛ اذ الانسان في الواقع لا يمكن الا ان يفعل، فافكاره تصاميم والتزامات، وعواطفه مشروعات. انه لا شيء سوى حياته وما حياته الا وحدة سلوكه. اما (القلق) الذي تعلن عنه وجودية سارتر والذي قال عنه النقاد بانه يأكل الانسان ويشله عن العمل، فانه ـ بالرغم من سمو هذه الكلمة ـ يدل على حقيقة يومية في غاية البساطة. يقول سارتر اننا (لا نكون) بل (نصنع انفسنا) ونحن عندما نصنع انفسنا نتحمل مسؤولية الجنس البشري بأجمعه. واننا عند اقدامنا على الفعل لا نجد ازاءنا قيما او اخلاقا منحت لنا بصورة قبلية. . بل علينا في كل حالة ان نقرر ونبت في امرنا بصورة منفردة دون ان تكون لدينا نقطة ارتكاز او هاد يهدينا سواء السبيل، مع كوننا نفعل من (اجل الجميع). فكيف يمكن بعد هذا الا نشعر بالقلق عندما يتحتم علينا الفعل؟ ان كل فعل من افعالنا يمس معنى العالم
ومكان الانسان في الكون، ونحن نؤسس بواسطة كل فعل من افعالنا ـ حتى لو لم نرد ذلك ـ سلما من القيم الشاملة. فكيف يمكن الا يأخذنا الخوف ازاء هذه المسؤولية الكلية؟
لقد قال بونج في عبارة بديعة للغاية ان (الانسان مستقبل الانسان) وسارتر معجب بهذا القول. وهو يقول بان هذا المستقبل لم يصنع بعد ولم يبت في امره. اننا نحن الذين سنصنعه، وان كل واحدة من حركاتنا تساهم في رسمه، ويجب ان يكون المرء على شىء كبير من النفاق لكي لا يشعر بالقلق ازاء هذه الرسالة الهائلة الملقاة على عاتق كل واحد منا. ولا شك ان النقاد قد خلطوا عمدا بين القلق والنورستانيا لكي يدحضوا سارتر بصورة اكثر يقينا، فجعلوا من هذا الجزع الرجولي الذي يتحدث عنه الوجودي خوفا باثولوجيا موهوما. ولذلك يقول سارتر ان القلق لا يمكن ان يكون عائقا للفعل لان نفسه شرط للفعل. وهو جزء لا يتجزأ من معنى هذه المسؤولية الساحقة: مسؤولية الكل امام الكل التي تسبب عذاب الانسان وعظمته في نفس الوقت.
انا اليأس الذي يقولون عنه بأنه يسود الحياة في نظر الانسان ويصرفه عن العمل فيجب ان نفهم معناه ونتعمق مدلوله. يقول سارتر: من الجلى ان الانسان يخطىء اذ (يأمل) في امر من الامور، وهذا القول لا يعنى سوى ان الامل اسوأ قيد للفعل. هل كان يجب على الفرنسيين ان يأملوا في انتهاء الحرب من تلقاء نفسها؟ او ان يمد النازيون لهم ايديهم؟ او هل لنا ان نأمل في ان يتخلى اصحاب الامتيازات في المجتمع الرأسمالى عن امتيازاتهم عن طيب خاطر؟ يقول سارتر اننا لو كنا نأمل في كل هذا فلن يبقى علينا الا ان ننتظر مكتوفي الايدي. ان الانسان لا يمكنه ان يريد الا اذا ادرك اولا بانه لا يستطيع ان يعتمد الا على نفسه، وبانه وحيد متروك على هذه الارض وسط مسؤولياته الانهائية من دون سند او مساعدة. لا غاية له سوى الغاية التي سيعطيها لنفسه. ولا مصير له سوى المصير الذي سيبتدعه لنفسه. هذا اليقين وهذه المعرفة الغريزية التي لدى الانسان عن موقفه في العالم هو ما يدعوه سارتر باليأس. فهو ليس ضلالا خياليا جميلا، بل وعلى جاف واضح بالحالة الانسانية. وكما ان القلق لا يتميز عن معنى المسؤوليات فان اليأس يتحد مع الارادة في وحدة لا انفصام لها. ومع هذا النوع من اليأس يبدأ التفاؤل الحقيقي: تفاؤل الانسان الذي لا ينتظر شيئاً ويعلم بانه لا يملك أي حق ولم يترتب عليه أي واجب. تفاؤل الانسان الذي
يبتهج بالاعتماد على نفسه وحدها وبالعمل وحيدا لخير الجميع.
وبعد فهل تلام الوجودية على انها تؤكد الحرية الانسانية؟ يقول سارتر مخاطبا النقاد: انكم جميعا بحاجة الى هذه الحرية، وما اراكم الا واضعين النقاب عليها مراءاة ونفاقا لانكم تعودون اليها بدون انقطاع رغما عنكم. يقوم احد الناس بعمل شرير فتفسرونه باسبابه وبموقفه الاجتماعي ومصالحه الخاصة وتسخطون عليه فجأة وتؤاخذونه على مسلكه بمرارة. بينما يوجد على العكس اناس اخرون تعجبون بهم وتتخذون افعالهم نماذج تسيرون بموجبها. فماذا يعنى كل هذا؟ هل يعني سوى انكم لا تساوون بين الاشرار وبين دودة الكرم. . ولا بين الطيبين وبين الحيوانات المفيدة؟ انكم تلومونهم او تمدحونهم لانهم كان بوسعهم ان يفعلوا غير ما فعلوه وبذلك تفترضون فيهم الحرية من غير ان تشعروا.
يقول سارتر ان نضال الطبقات حقيقة واقعة لاشك فيها؛ وانه يساهم فيها بصورة تامة. لكن كيف يمكن وضع هذه الواقعة على مستوى غير مستوى الحرية؟ اننا نرى ان الشيوعيين يتهمون سارتر واقرانه ويقولون لهم انكم بافيون الحرية هذه تمنعون الانسان من ان يكسر عنه قيوده. غير ان هذا الكلام يدل على سوء فهم تام للحرية التي ينادى بها سارتر ـ فهو عندما يقول بان العامل العاطل حر لا يعنى بانه يستطيع ان يفعل كل ما يروق له وان يتحول في لمح البصر الى بورجوازي غني مسالم. انه حر لانه يستطيع دائما ان يختار قبول نصيبه باستسلام او ان يتمرد على هذا النصيب. حقا انه قد لا يتوصل الى تجنب الشقاء غير انه يستطيع ان يختار من صميم هذا الشقاء الملتصق به النضال ضد جميع انواع الشقاء، باسمه وباسم الاخرين جميعا. . انه يستطيع ان يختار نفسه كانسان يرفض ان يكون الشقاء نصيب البشر.
فهل سارتر خائن اجتماعي لانه يستدعي احيانا هذه الحقائق الاولية؟ يقول سارتر لقد كان ماركس اذن خائنا اجتماعيا لانه قال: (اننا نريد تغيير العالم)، فعبر بهذه الجملة البسيطة على ان الانسان سيد مصيره. سيكون هؤلاء النقاد جميعا اذن خونة اجتماعيين لان هذا هو ما يفكرون به في الواقع عندما يخرجون من حدود المذهب المادي الذي ان كان قد قدم خدمات لا يمكن نكرانها فانه قد شاخ ولم يعد يصلح لهذا العصر. اما اذا كانوا ينكرون هذه الحقيقة الاولية فسيكون الانسان لديهم شيئا مثل باقي الاشياء تماما. سيكون قليلا من
الفوسفور والكاربون والكبريت وعندئذ لن يكون من الضروري الاحتفاء به او الاهتمام بامره.
بعقوبة ـ العراق نهاد التكرلى
لبيد يعدد سنى حياته
للاستاذ عبد القادر رشيد الناصري
هذا شاعر جاهلي من الذين يتصف شعرهم بالفخامة والقوة والبداوة، وقلة الحشو وقوة اللفظ، ولد في الجاهلية وعاش حتى ادرك الاسلام فأسلم كما يقول:
الحمد لله اذ لم يأتنى اجلى
…
حتى اكتسيت من الاسلام سربالا
اما اسمه فلبيد بن ربيعة من بنى عامر بن صعصعة وهي قبيلة مضرية، واما ترجمته فميسورة لكل اديب، كتب عنه صاحب الجمهرة، والشعر والشعراء، والمزهر، لذلك سنضرب عنها صفحا. ولكن الذي يهمنى هو الوقوف عند شعره الجزل الذي عدد فيه سنى حياته. اذ لا اظن في العربية تطرق الى هذه الناحية عداه.
وقد عمر هذا الشاعر طويلا حتى ان الروايات اختلفت في تاريخ وفاته، فقد قال بعضهم انه عاش 140 عاما وقال بعضهم انه عمر حتى سنة 41 هـ ومات في زمن خلافة معاوية بن ابي سفيان وعمره انذاك 175حتى انه سئم الحياة فقال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
…
وسؤال هذا الناس كيف لبيد
وكيف لا يتطرق السأم الى نفس رجل طال عمره الى ما بعد المائة بنصف قرن سبقه زهير بن ابي سلمى فقال يصف سأمه وهو في الثمانين:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
…
ثمانين حولا لا ابالك يسأم
ولبيد هذا ذكره شوقي في رائيته الرائعة عن ابي الهول:
وشكوى لبيد لطول الحياة
…
ولو لم لتشكي القصر
وهي قصيدة تعد من عيون الشعر العربي ومن مختارات ابي على بل من افخم ما نظمه في حياته
ولبيد هذا اشار الى منزلته ومكانته في الشعر الامام الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يزرى
…
لكنت اليوم اشعر من لبيد
كما نوه باسمه ابو تمام استاذ الشعر حين قال من قصيدة يمدح ابا عبد الله احمد بن ابي دؤاد
ظنوا فكان بكاى حولا بعدهم
…
ثم ارعويت وذاك حكم لبيد
ان كان مسعود سقى اطلالهم
…
سيل الشؤون فلست من مسعود
ومطلع هذه القصيدة:
ارايت أي سوالف وخدود
…
عنت لنا بين اللوى فزرود
قلنا ان الرواة اختلفوا في المدة التي عاشها هذا الشاعر وهذا لا يهم ما دام نفسه قد سجل عمره فقد قال وهو في العشرين:
كأني وقد جاوزت عشرين حجة
…
خلعت بها عن منكبي ردائيا
واذا علمنا انه في الايام الاخيرة أي بعد اسلامه انقطع عن النظم وانه اقام بالكوفة حتى مات، وعندما وصلت به السن الى العام العاشر بعد المئة قال:
اليس في مائة قد عاشها رجل
…
وفي تكامل عشر بعدها عمر
علمنا صحة ما ذهب اليه بعض الرواة من انه اكمل قرنا ونصف القرن، وهي حياة طويلة بالنسبة لغيره من المعمرين في الجاهلية والاسلام.
فقد قال وسنه انذاك 77 مخاطبا نفسه:
باتت تشكي الى الموت مجهشة
…
وقد حملتك سبعا سبعينا
فان تزيدي ثلاثا تبلغى املا
…
وفي الثلاث وفاء للثمانينا
شعر جميل بالرغم من وجود اشباع في لفظة تزيدي من صدر البيت الثاني كما يقول العروضيون.
ثم درجت به السنون حتى اشرف على قمة الثمانين فهتف من اعماق قلبه:
ان الثمانين ـ وبلغتها ـ قد احوجت الى ترجمان
يا لله من روعة لفظة وبلغتها، ويالسحر هذا الحشو الرائع!
بالشاعر الارض حتى اشرفت به على التسعين فصاح صيحة المنهوك الحائر:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة
…
خلعت بها عنى عذار لجامي
رمتنى بنات الدهر من حيث لا ادري
…
فكيف بمن يرمي وليس برامي
فلو اني ارمى بنبل رأيتها
…
ولكنني ارمي بغير سهام
الا يرى القارىء هذه الصورة التي وصفها لبيد (رجل اعزل من السلاح يرمي بنبل لا يراها ولكن يحس بوقعها) الا يشعر بالالم؟ الا يستحق الرثاء!! الم تكن هذه السنوات
الطوال التي مرت عليه باعبائها واثقالها سهاما قاتلة ولكن غير منظورة!.
اتعجب بعد هذا منه اذا ما ضاق ذرعا بالحياة. . فهتف بذلك الشعر الجزل الحزين؟
وراح الزمن يسير واذا بالشاعر يلتف الى وراء فيرى انه قطع سنوات طويلة حافلة بالعجائب، واذا به كما قلت يصل الى العاشرة بعد المائة فيقول:
اليس في مائة قد عاشها رجل
…
وفي تكامل عشر بعدها عمر
وهو عمر طويل حقا ولكن ما يقول اذاجاوزها؟ اسمه وقد مضت عليه عشرون بعد المئة كما يقول الرواة ـ ولكنه انذاك لا يسجل ـ السنين كما سجلها من قبل يصرخ صرخة: العزاء
ولئن كبرت لقد عمرت كأننى
…
غصن تفيؤه الرياح رطيب
وكذلك حقا من يعمر يفله
…
كر الزمان عليه والتغليب
مرط القذاذ غليس فيه مصنع
…
لا الريش ينفعه ولا التعقيب
ويريد بهذا ان الذي يقطع تلك الفجوة الطويلة من الحياة يصبح كالطائر الذي نتف شعره من جراء كر الزمان عليه وكثرة ما مر عليه من عواصف الحياة، فكيف يستطيع بعد ذلك الطيران؟!
ويقول الرواة او شعره على الاصح انه عندما احس بالموت يدنو منه، وان حياته ستختم. . نظر الى اولاده وهم حوله يبكون فقال:
تمنى ابنتاي ان يعيش ابوهما
…
وهل انا الا من ربيعة او مضر
وفي ابنى (نزار) اسوة ان جزعتما
وان تسألاهم تخبرا فيهم الخبر
فقوما فقولا بالذى قد علمتما
…
ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا خليله
…
اضاع ولا خان الصديق ولا غدر
الى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
نعم هو من ربيعة ومن مضر، وكيف ينكر الموت وهو الرجل المؤمن الذي يقول عنه الرواة ان رسول الله (ص) قال فيه (اصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد) ويعني قوله:
الا كل شيء ما خلا الله باطل
…
وكل نعيم لا محالة زائل
وهو نفسه يقول في شيخوخته:
ان تقوى ربنا خير نفل
…
وباذن الله ريثى والعجل
احمد الله ولا ند له
…
بيديه الخير ماشاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى
…
ناعم البال ومن شاء اضل
والذي يقول:
وما المرء الا كالشهاب وضوئه
…
يحور رمادا بعدما هو ساطع
وما المال والاهلون الا ودائع
…
ولا بد يوما ان ترد الودائع
وما الناس الا عاملان: فعامل
…
يتبر ما يبنى، واخر راقع
والقائل يصف الموت ايضا:
وكل اناس سوف تدخل بيتهم
…
دويهية تصفر منها الانامل
فهل بعجيب اذن لا يطلب من بنتيه ان لا تعجبا من موته؟
اسمعه وقد سئل عن رأى الناس فقال:
المرء يدعو للسلام وطول عيش قد يضره
= كم شامت بي ان هلكت وقائل لله دره
ولكن ما يهم الميت الذي ينفض الحى ترابه من راحته ان يقول فيه ما يقول؟ اليس الموت غاية الحياة؟ او ليس الناس اثنين اما قادح او مادح.
وبعد هذه كلمة قصيرة ذكرنا فيها طرفا من شعر لبيد الذي سجل فيه سنى حياته، ولبيد هذا من الشعراء البارزين في الجاهلية فقد جاء في الصفحة 297 من الجزء الثاني من المزهر (وسئل لبيد من اشعر الناس؟ فقال: الملك الضليل ثم الشاب القتيل (طرقة) ثم الشيخ ابو عقيل ويعنى نفسه) وهو صاحب المعلقة الشهيرة:
عفت الديار محلها فمقامها
…
بمنى تأيد غولها فرجامها
وجلا السيول عن الطلول كأنها
…
زير تجد متونها اتلامها
فرقفت اسالها وكيف سؤالنا
…
صما خوالد ما يبين كلامها
ومنا هذا الفخر الرائع يذكرنا بفخرا بن كلثوم. وغير مستغرب من لبيد ان يفخر وهو
الشاعر الشريف ذو المجد الاثيل والحسب العريق، ومن الذين لم يكتسبوا بالشعر وهو الذي قال عنه صاحب الجمهرة (كان لبيد جودا شريفا في الاسلام والجاهلية) والتي قالت عنه عائشة رضى الله عنها: رحم الله لبيدا ما اشعره فيقوله:
ذهب الذين يعاش في اكنافهم
…
وبقيت في خلف كجلد الاجراب
لا ينفعون ولا يرجى خيرهم
…
ويعاب قائلهم وان لم يشعب
فهذا شأن شاعر شريف الا يحق ان يفخر فيقول من ـ المعلقة ـ
من معشر سنت لهم اباؤهم
…
ولكل قوم سنة وامامها
فبنوا لنا رفيعا سمكه
…
فما اليه كهلها وغلامها
فاقنع بما قسم المليك فانما
…
قسم الخلائق بيننا علامها
واذا الامانة قسمت في معشر
…
اوفى باعظم حظنا قسامها
قهم السعاة اذا العشيرة افظعت
…
وهمو فوارسها وهم حكامها
وهمو ربيع للمجاور فيهمو
…
والمرملات اذا تطاول عامها
هذا ما عن لى ذكره ولا اريد ان اختم البحث دون ان اشير الى بيتيه الخالدين:
اهمرك ما تدري الضوراب بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
سلوهن ان كذبتموني متى الفتى
يذود المنايا او متى الغيب واقع
ولنا رجعة ان شاء الله الى هذا الشاعر حيث نأخذ شعره وحياته واخباره بالتفصيل.
بغدادعبد القادر رشيد الناصري
رحلة الى الحجاز
للشيخ مصطفى البكري الصديقي
للاستاذ سامح الخالدي
ومن باب السلام لقد دخلنا
…
واهدينا السلام من السلام
وقمنا عند شباك نزيه
…
ودمعى في اشتباك وانسجام الخ
وتذكرت في هذا المقام قول الامام سيدي احمد بن الرفاعي قدس الله سره:
في حالة البعد روحى كنت ارسلها
تقبل الارض عنى وهي نائبتى
وهذه دولة الاشباح قد حضرت
فامدد يمينك كي تحظى بها شفتى
(ثم صليت تحية المسجد لدى المنبر، وتذكرت قصيدة من نفائس القصائد نقلتها من مجموع جامع، وكان رآها شيخنا الشيخ محمد بن ابراهيم الدكدكجى، فاخبرني ان جناب شيخنا الغنى بربه، سمع في زيارته منشدا لها على سدة الحرم النبوي والمسجد، فاجرت المدامع كالسحب الهوامع، فطلبها ليثبتها في رحلته الكبرى، فلم يجب الطلب، والقصيدة هي:
يا عين هذا السيد الاكبر
…
وهذه الروضة والمنبر
فشاهدى في حرم المصطفي
…
من نوره الساطع ما يبهر
(وعطفنا بعد هينة على زيارة بقيع الفرقد، وصرنا بعد الزيارة والطواف على من حل فيه من اهل الاشارة، نتردد على الحرم المنير، وكانت ليلة دخولنا المدينة الثلاثاء واقمنا الاربعاء والخميس، وذلك الخامس والعشرون من ذي القعدة، ولم يتيسر لى المبيت في حرم الثبيت الا ليلة الحبور، ولذا سميت بالخميس، وبعد ان صليت العشا جلست في الروضة الجنانية، مواجها للحجرة الشريفة الامانية، وختمت كتاب الادلائل، وصليت ما تيسر، تقدمت الى ما بين الاسطوانتين، مستقبلا للوجه الازهر، ولم اتقدم الى الشباك، واستأذنت في عرض (ورد السحر) على اسماعه الكريمة، فأتمته وانا بين يديه واقع، وكنت اذ ذاك وحدى، وتقدمت يسيرا لقبالة وجه جدنا الاعلى الصاحب في الغار، فعرضته عليه، وواجهت وجه سيدى عمر بن الخطاب وكررته على اسماعه، ثم
اتيت باب جبريل، واعدته، ثم بيت الزهراء اتيت، وبالباب صاغرا وقفت وقرأته راجيا بشفاعة السيدة الفاخرة فاطمة، وفي الحديث الذي رواه الديلمي عن ابي هريرة عن المختار:(انما سميت فاطمة، لان الله فطمها ومحبيها عن النار) وجعلت هذه التلاوة الجامعة، وقبيل الاتمام اذن المؤذن الفجر، فاسرعت وشرعت فيه مغتنما للاجر، وقد ذكرت في اوائل شرح هذا الورد المسمى بالضيا الشمسي على الفتح القدسي بعض ما وقع لنا ولاخواننا في التلاوة وغيرها ما يبشر نفوس الملازمين عليه بحسن سيرها. . وعدنا للخيام، والعين عن هذا السير نيام، وكررنا العود لاحمد الخلق احمد، وهو كما قيل للمحمود احمد.
(ولما دخلت ليلة العروبة بت في الحرم ايضا، راج كما عودت فيضا، وبعد صلاة العشا، غلب وارد النوم، ثم كريت في الصباح، على زيارة اهل البقيع الصباح، وبعد صلاة الجمعة عزمنا على السير فودعنا حجرة من اودعنا القلوب لديه، ولو استقصينا ما ورد في فضل المدينة ومسجدها وروضة البقيع ورقعته، ومساجدها الرفيعة، ومعابدها المنيعة، وجبالها المرغوبة، واوديتها المحبوبة، لا تسع المجال والوارد، في هذه المصادر والموارد، وقد افصح بعض افصاح، الحافظ ابو عبد الله محمد النجار صاحب (الزواهر والجواهر الثمينة، في كتابه (النزهة الثمينة في اخبار المدينة)
وكم رمت مدحا في الجناب المحمدى
= فما طاوعتنى من مهابته يدى
وكريت بالمداح في الذات اقتدى
= لعلى ان انجو بذلك في غد
ورحم الله احمد بن محمد من اهل غرناطة، حيث يقول:
اروم امتداح المصطفى فيردنى
= قصورى عن ادراك تلك المناقب
ولو ان كل العالمين تألفوا
= على مدحه لم يبلغوا بعض واجب
فأمسكت عنه هيبة وتواضعا
= وخوفا واعظاما لارفع جانب
ورب سكوت كان فيه بلاغة
= ورب كلام فيه عتب لعاتب
(وكنت وانا في المخفة، المثقلة بغفلاتى، فهى غير مخفة، اتسلى ببعض كتابات في مدح سيد الاكوان).
وبعد ان ودعنا اماكن نورها نابغ، وصلنا منزل (رابغ) واحرمت بالحج، وسبقنا الحج المصري الى بدر، وابتدرنا المسير بعدهم بيسير أي بدر، واهديت شهدائنا الفواتح، وسرنا الى وادى فاطمة، ولم نشعر الاوقد اشرق النور، وقد اتينا البيت العتيق نزور. وكان نهار يوم الاربعاء، والمبيت (بمزدلفة) ليلة الخميس. ولما اتينا (منى) رمينا الجمرة الاولى، ثم ذبحنا وقربنا وحلقنا الشعور، واجتمعنا ثاني يوم عند رمى الجمرة الثانية بالصديق الاوحد السيد محمد بن السيد احمد الثافلاتى (مفتى الحنفية بالقدس) فلما رايته طرت به فرحا، وسرت به الى الخيمة منشرحا، واقام هينة وسار، ولم ابلغ من الجمعية به الاوطار. وبعد ما رمينا الجمرة الثالثة، سرنا بعيون فياضة، وادينا واجب طواف الافاضة، واجتمعنا ثاني يوم القدوم بالسيد المذكور المعلوم، في الحرم تجاه البيت، وعرضت عليه قصيدتين كتبتهما في ذلك المجلس في كتابين وارسلتهما لبيت المقدس، ليقف عليهما ارباب اقتراب نفيس، فانحظ بهما، وسالته ان يرفقنى الى القاهرة لانشق عرف مآثره الفاخرة، فابدى اعذارا فلم تقبل ذلك منه نفسي، لانها قاسته عليها كما قسته بابناء جنسي، واذا الامر بخلاف هذا المفهوم، لما تحققت وشاهدت في بلاد الروم.
(وكنت اجلس في المقام الحنفي واتملى بانوار البيت الشريف الوفي، وكنت اتردد على الحرم اوقات الصلاة، متى سمعت المؤذن حيعل ولعل حجازا بادرت مجيبا، اذ نغمة اهل تلك الاماكن نغمة مترقبة تحرك من الحب السواكن، وما احلى همهمة الزمزى اذ يدمدم بتلك الزمزمة، وكان اول من وضعها من جدودها وبقيت في الذرية).
(وقد بت ليلة في خلوة قريبة من الحرم، فايقظنى رفيقي برفق وقال: قم فان الباب فتح للامير الشامي الكبير، فبادرت للطهارة لالحق الدخول، فقفل الباب، فبكت النفس عليه لا
على حومل والدخول، ثم سليتها ومنيتها ليذهب الحزن عنها، بان بعض الحجر من غير شك منها، فدخلته والتزمت البيت التزاما، ووقفت تحت الميزاب اجرى الدموع انسجاما.
(وقد اردت العمرة؛ فمنعتنى من الذنوب الغمرة، وتوجهت مع صويحب لي لزيارة سيد سمي جعفرا، فرايت صدرا رحيبا ودرا مصيبا، ولم اجتمع بالشيخ محمد عقيلة، الدرة العقيلة، لان الاجتماع العيني الجسمي، تابع للتعارف الغيمي العلمي الاسمي، والسيد جعفر المذكور، له قدم صدق مذكور مشكور. وقد بشر بحصول الالطاف وحباني بعد ان حيانى بعد عطفه، ودعا دعاء يملا الاناء، وودعته منصرفا، وبفضله معترفا ومنه مغترفا).
(وفي ثاني يوم ودعنا البيت الشريف المحمود، ونزلنا مع رفاقنا الكرام (في الشيخ محمود) ولما طفت طواف الوداع، طفت الدموع ولها على الخدود اندفاع. وقلت:
طفت الدموع على الخدود سراعا
…
لما فتحت من الوداع شراعا الخ
(ولما مللت تلك الديار المبرقة التي شموسها مشرقة، وطوسها حارقة للنفوس وللحجب خارقة، بادرت الى الزيارة الجامعة لكل بارقة، اللامعة اضواؤها بكل طارقة، وعند الوصول الى الوصول المأمول في السابقة والاحقة، جرت خيول سيول دموع دافقة.
ولما سكن القلب انشد:
سكن الفؤاد فعش هنيا يا جسد
…
هذا النعيم هو المقيم الى الابد الخ
وفي ثاني يوم، عمت في بحر الزيازة البقيعية أي عوم؛ وبت في الليلة الثالثة من القدوم في الحرم.
الامير يعمل مولدا وبفرق الدنانير:
وكان الامير (أي امير الحاج رجب باشا) عمل مولدا بين العشائين، وبت في الخدم دنانير الكرم.
وكان يتردد على احيانا صديقنا الواعي، سيما عند الطواف
بالبيت الجميل المساعي، الشيخ محمد البقاعي، حباه الله
البواعث والدواعي؛ فقلت في سرى ولم يشعر بما فيه زرى،
مخاطبا السيد الاعظم ذى الكوكب الدرى، يا سيدي ان كان
لمحمد في اخذ الطريق خيره بها لا يدري، فسقه الام وحرك
سره واثلج للعطاء صدري، فرايته قام من مجلسه وامنى،
وجلس بين يدي وصافحنى، وطلب تخذ العهد، ولم يكن لد
بذلك من عهد، فامرته ان يجدد الطهارة وياتى قبالة الشباك
الرفيع، ويستغفر مئة مرة ويصلى ويسلم كمثلها على خير
شفيع، ثم يستأذن فيما اليه قصد، وينظر ما الذي يرد على قلبه
بعد ما للوارد رصد، فعاد واسره وجهة تبرق وقال وقد انشرح
صدري، فاجبته ولم اطرق وبات عندى، واكات في ليلة عيدى
قندى، ولم اقم من منامى، الا قبيل الفجر لقلق طفح به جامى،
ومذتذكرت الفراق الذي يتحصن منه بالف راق، طار لي
وطاش عقلي واندهش الفؤاد، الجامع من وديان الحب على
الف وادواذهب التذكار للبعد السرور والحبور والفرحا،
ورايت ثقله على قلب الشفوف ينوف الف رحى، واستوحشت
لنزل قرب الفنا به، ما يعجز عن حصره وعده الف نابة،
وقلت وقد عضنا البعاد بنابه، ليت ما حل بنابه:
يا سادة قلب المشوق اراعوا
…
بوداعهم والسر منه اذاعوا الخ
(وقد نص الخواص ومنهم الخواص ان خلع القبول، لا تخلع على الحاج الا عند الرسول، ليزداد منه السرور، فيقول السعى المشكور ولا بد للزائر من اكرام، وهذه الخلعة نهاية
الانعام. وفضل الزيارة، احاديثه انجم سيارة، وفي بعضها:(ومن لم يزرني. . وفي اخرى بزر قبرى فقد جفاني) فحق على وان كنت المتواني ان اسعى على اجفاني.
وذكر بعض اهل الكشف الرباني، ان المجاورة في المدينة لا يقدر عليها الا الاقوياء من كل دانى، لفرط ظهور النور المحمدى، في ذلك المقام الاوحدى، وما احق بيت ابي الطيب، ان ينشد عند فراق ابي الطيب:
يا من يعز علينا ان نفارقهم
…
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
وقوله:
لولا مفارقة الاخيار ما وجدت
…
لها المنايا الى ارواحنا سبلا
وقصيدة السباق في ميدان السباق، سيدي محمد البكري، ومطلعها:
يا رائحا نحو الحجاز ميمما
…
يطوي الفلا بنجائب ونياق
ليلة الخيام:
وفي الليلة الرابعة بت في الخيام، وكانت تلك الليلة ليلة الختام، فايقطت سحرا ابن عمى، وجئت للحرم، مودعا فزال غمى، وقرات ورد السحر كما فعلت في المرة الاولى، وتقدمت بعده لمواجهة الشيخين راج ان امنح سولا. ودعوت بما اجراه قلم التقدير، على لسان الفقير وقبل اتمام المرة الثانية صاح صائح الفجر، بعدما لاح لائح الاجر، فركعناه جماعة ثم سرنا بعد ساعة للبقيع، وقد هالنا الوداع الفظيع، ثم عدنا للخيمة المظلة، ولم نطف غلة الفراق المطلة.
هد الخيام:
ثم لما هدت الخيام، وعزم الحج على المسير، جون قيام اسرعت لتوديع المقام، واطلت الاقامة حتى كاد ان تفوتنى الرفاق الكرام، وتذكرت قول شيخنا المقدام الشيخ عبد الغنى (النابلسي):
يا بني الهدى اليك اعتذاري
…
انني من هواك في الارض سائح
لم يطب غير طيبة لفؤادى
…
انا منها اشم طيب الروائح
كيف تبرى جراحتى في بلاد
…
لحيبيى ثرائها المسك فائح
اجتماع برجل مصري صالح:
وكنت اجتمعت في الروضة الشريفة اللماعة، يوم العروبة ونحن منتظرون صلاة الجمعة الجماعة، برجل مصري عليه هيئة العز، وهيبة الصحا اهل العز، فسالنى عن الاسم والبلد والاهل والوطن والمولد فاجبته وسالته عن مدة الاقامة في جوار صاحب العمامة، والغمامة فاخبر انها عد جيب فهى هي، وصيب الحب يبتدي فلا ينتهى. فغبطته وسالته ان لا ينساني. وكنا صلينا الجمعة ونحن متوجهون للحرم المكى والخطيب في الكرتين واحد. وكنت اسمع خطيبنا يقول (يا سعد زوار الرسول) اذ يقول خطيبهم مظهرا بقوله استلذاذا قال نبيكم هذا، فلم اسمع هذه المقالة من الخطيب ثم رجعت مفكرا عن السبب فاذا هو مصيب، فان الحاضر وان اشير اليه بهذا لا نرى حسنا قولنا في حضرة سلطاننا قال ملكنا هذا وربما لو سمعناه من غيرنا نقول هذا هذا، ونحمل حال من قال، على مقام الادلال.
(ولما جرى في وادى العقيق عقيق الدمع العقيق، وخلفت جباله خلفي جعلت النوم خلفي ولم نزل نحنى الكف، بدمع قانى عن وكفع ما انكف، الى ان وصلنا (العلا)، وخاف الحاج من عدم وجدان الجردة الغلا، وامسينا نضرب حيرة لا خديعة للاسداس، وقد وفد علينا جيش الوسواس، فبذا نحن في وهم والتباس، وقد التقى البطان والحقب معا من الباس، اذ سمعنا صوت كاس، فتباشر الناس، وهاجموا وماجوا واخذوا بايمانهم اكواب ايناس، ولما تحققوا بقدوم اكياس تقتبس منهم نبراس اخبار نفاس عن اهل واوطان فتراجع احساس واجتمع كل ناس بناس، وزالت الوحشة ووقع البسط بلا قسطاس، وجئنا قلعة (تبوك) وثوب الصفا محبوك.
في محطة المست، سقوط الامطار، واضطراب الناس:
وما برحنا نقطع السباسب والقفار بدون اسا، حتى وصلنا لمحطة (الحسا) فلما سرينا منها سح السحاب، واضطرب الناس أي اضطراب، وحصل نقص في الجمال لموجب الفسخمن الاوحال، وسقط كثير احمال؛ وكان يوما عبوسا، لكن كفانا مولانا منه بوسا وحفت بنا الطاف مددها وافى بسبب ذكر اللطيف والحفيظ والكافى. ودخلنا الشام في صحة وانعام، في السابع والعشرين من محرم. الحرام عام (1131 هـ) احسن الله منها الختام.
سامي الخالدي
ليلة حمراء
للاستاذ ابراهيم محمد نجا
قضيتها ليلة حمراء عاصفة
…
قضيت فيها لباناتى واوطارى
دخلت مخدعها الوردى فاشتعلت
…
في القلب نيران اشواقى وافكارى
رايتها في رداء الليل فاتنة
…
سيان في جسمها المكسو والعارى
ترف من حولها الازهار نادية
…
تضم احلام قلب واله وار
وبرقص النور اطيافا معطرة
…
كانها قبلات الكوكب الساري
لما راتنى وفي عيني امنية
…
للصمت يكشفها، والمدمع الجاري
رنت الى بطرف عابث غزل
…
معربد ذي احاديث واخبار
واومأت لي بنهد لابنى ابدا
…
يعنو كطفل، ويستعلى كجبار
كانه رغبة حمراء والهة
…
تجسدت، فتوارت خلف استار
لكنها حينما اوشكت الثمها
…
وكدت اقطف منها بعض اثمار
تمنعت والغوانى شانها عجب
…
في الحب ما بين ايسار واعسار
تقول: حسبك ما ابصرت من ثمرى
…
فاذهب ودعنى؛ فقد هتكت استارى
فقلت: رحماك انى معرم كلف
…
دامى الفؤاد، غريب، نضو اسفار
لم تشد في دوحة الايام اطياري
…
ولم ترف على الافنان ازهارى
قضيت عمرى اغنى للجمال سدى
…
حتى تحطم في كفى مزمارى
وكلما خلت انى قد ظفرت به
…
ولى وادبر عنى اى ادبار
عشرون عاما مضت صحراء قاحلة
…
لا تبصر العين فيها طيف انهار
ماتت على رملها الاحلام وانبعثت
…
كتائب الياس تسرى كالردى السارى
فلا الربيع جميل في مسارحها
…
ولا الشتاء لذيذ الدفء في الغار
ولا الصباح غناء الطير رنحها
…
مر النسيم على غناء معطار
ولا المساء رجوع الطير تدفعها
…
ذكرى ليالى الهوى في جوف اوكار
قد عشت فيها غريب الروح يقلقنى
…
دهرى بكأس من الحرمان موار
واليوم جئتك روحا صيغ من لهب
…
لا يستقر، وجسما صيغ من نار
وجئت بابك ضيفا يبتغى نزلا
…
له. . . فاين حقوق الضيف والجار؟
* * *
يا هند لوعنى دهرى وحيرنى
…
واننى اليوم ابغى الاخذ بالثار
رضيت بالياس زادا ليس ينفعنى
…
والياس زاد محب غير مختار
يا هند انى لظمان الحشا قلق
…
وانت يا هند. . انت الجدول الجارى
يا هند انت كتاب الحسن سطره
…
رب الوجود. . وانى وحدى القارى
انا الهزار حياتى كلها نغم
…
موله وقمته كف اقدار
انا المحب حياتى كلها شغف
…
يسرى بجسمى كنار او كيتار
انا الغريب حياتى كلها قلق
…
كاننى زورق في كف اعصار
تهتز كاسى بدمع الياس مترعة
…
ما ضر لو ملئت من خمر عصار؟
انى فتى عشق الاحلام ساحرة
…
فليس يتركها الا بمقدار
ارعى نجوم الليالى وهى ساهرة
…
وما نجوم الليالى غير سمارى
* * *
اشكو اليها عشياتى التي ذهبت
…
سدى فتملا بالاحلام اسحارى
وهبت للحسن ايامى واعمارى
…
فضيع الحسن ايامى واعمارى
وعشت للحب لا ابغى به بدلا
…
فالحب اغنيتى، والحب قيثارى
كان قلبي اذا ما الحب عانقه
…
فراشة تتغنى بين انوار
لا اشتهى غير قلب صيغ من شغف
…
يحنو على، ويمحو طيق اكدارى
وليس في الكاس من خمر الحياة سوى
…
بقية احتسى منها بمقدار
غدا سامضى، فلا الانوار راقصة
…
حولى تعانقها انغام اوتارى
غدا ستبكى الليالى وهي قاتلتى
…
ويسال الدهر عنى وهو حفارى
غدا تقولين: كم اشجى باغنية
…
ارق في السمع من انغام اطيار
واليوم لم يبق من هذا الغناء سوى
…
نوح الحمائم في افنان اشجار
غدا يوروننى والدمع يغلبهم
…
حاشاك الا تكونى بين زوارى
يا هند حسبى انى عشت منفردا
…
كما يعيش سجين بين اسوار
وليس في الحب او تدرين من حرج
…
يا اخت روحى ولا في الوصل من عار
فنولينى الذي ابغيه من زمنى
…
ولا تخافى حديث العائب الزارى
للناس فلسفة حمقاء جاهلة
…
ولست ابصر فيهم غير ثرثار
فاذعنت، ثم لانت، ثم ما فتئت
…
حتى انالت جناها كف ستار
فرحت املا عينى من مفاتنها
…
والمس الجسم منها لمس اوتار
اهيىء الشعلة الحمراء في جسدى
…
ويستمد فؤادى وحى اشعارى
حتى انثنيت وفي صدرى معربدة
…
هوجاء تهدر فيه اى تهدار
اضمها ضمة المشتاق روعه
…
قرب الفراق، وبعد الاهل والدار
الصدر للصدر يشكو حر لهفته
…
والثغر للثغر يشكو حرقة النار
حتى ارتمت في فراش الحب شاكية
…
كزهرة الروض تشكو مس اعصار
فبان من جسمها ما كان مستترا
…
ولا تسلنى. . . فتلك اليوم اسرارى
ابراهيم محمد نجا
الادب والفن في اسبوع
للاستاذ عباس خضر
ما قولكم في (فتوى كولا)؟
قال الرواى. . . وجاء الشيخ محمد عبده من الشام الى مصر لابسا (ككولا) فهبت عليه عاصفة الازهريين وافتوا بان ارتداء هذا الملبس الذي يسمى (الككولا) حرام! ونشبت يوم ذاك معركة حامية دارت رحاها حول (الككولا) وحكم لبسها في الشرع: اهو حلال ام حرام. .
روى لنا الرواى ذلك الذي حدث في مصر منذ عشرات السنين، بمناسبة الفتوى التي اصدارها بعض كبار العلماء في شان (البيبسى كولا) مفتيا بانها من طيبات ما احل الله. . .
ولعل الذي ربط بين الحادثين، فجعل هذا يذكر بذاك ان كلا من موضع الفتوى فيهما ينتهى بلفظ (كولا)، وان كان هناك فروق بينهما، فـ (الككولا) قيل انها حرام وان صارت فيما بعد حلالا ولبسها الازهريون عامة ولبسوا اكثر منها. . . و (البيبسي كولا) هاهى ذي يقال انها حلال ولم تنته المعركة بعد، ولسنا ندري عم تتمخض؟
ولكن متحدثا اخر في المجلس يكاد ينبه الى امر اخر يربط بين الحادثتين، فيقول: اقد فرغ علماؤنا الاعلام من كل ما يرجى منهم في الامور الخطيرة بهذا البلد الحافل بالسيئات فلم يبق امامهم الا (البيبسى كولا)، ولم يكن يبقى امامهم الا لبس (الككولا)؟ الا يدل ذلك على انهم لا يتصدرون الا في (الهايفة)!
ثم لننظر في الفتوى التي اصدرها فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف (عضو هيئة كبار العلماء ومفتى الديار المصرية سابقا) مبينا فيها حكم الشرع في شرب (البيبسى) قائلا بانه حلال، وقد نشرت صورة فضيلته مع الفتوى في مختلف الصحف.
لا اريد ان اتعرض للفتوى في ذاتها، فهى تافهة، اذ كل ما فيها من فقه ان ثلاثة من الشتغلين بالتحليل الطبي قالوا انها خالية من المواد الكحولية والمواد المخدرة ومادة (البيبسين) المستخرجة من معدة الخنزير، فهي اذن حلال. وكل مسلم يعرف انه متى ثبت ذلك فلا بد ان تكون حلالا!
انما اريد ان اشير الى ملابسات في تلك الفتوى لاصل الى امر معروف بالبداهة. . وصبرا ايها القارىء الكريم، فيظهر ان بعض البدهيات يحتاج الى تبين وتدليل! وتلك الملابسات هي:
1ـ نشرت الفتوى في عدد من الصحف ومعها صورة فضيلة الشيخ الاعلانات
2ـ نشر قبلها اعلان يتضمن نفس التحليلات الي قال فضيلة الشيخ في التمهيد للفتوى انها وردت اليه
3ـ قال فضيلة الشيخ في اول فتواه: (تلقيت كثيرا من الرسائل يستفتينى اصحابها عن شراء البيبسى كولا. . الخ) فلماذا قصر الاستفتاء والافتاء على (البيبسى) ولم يشملا (الكوكا) و (الزمبا) مع ان الشبهة في الثلاثة واحدة؟
4ـ كتب تحت العنوان في وصف فضيلة الشيخ (عضو هيئة كبار العلماء) ولابد ان شركة (البيبسى كولا) لا تعلم ان كلمة (هيئة) قد استبدل بها (جماعة) من زمان
5ـ جاء في الفتوى ان تلك الشراب (مستحضرات نباتية بحتة) وهي عبارة اعلانية معروفة، وقد تكرم فضيلته بزيارتها على ما جاء في تحليلات المختصين فمم عرف ان (البيبسى كولا) مستحضرات نباتية بحتة وفضيلته ليس محللا كيميائيا وانما هو (محلل شرعي) فقط. .؟
من ذلك كله نعلم ـ وان كان هذا العلم بدهيا كما قدمت ـ ان الفتوى نشرت على انها اعلان من شركة (البيبسى كولا) دفعت الشركة ثمنه للصحف بطبيعة الحال لان اصحابها ليسوا ممن يبتغون الثواب عند الله بعمل المعروف للشركات. . ولا ادري شيئا من ذلك بالنسبة الى فضيلة الشيخ مخلوف، ولهذااوجه الى فضيلته والى غيره من اهل العلم الاستفتاء التى بهذا النص:
ما قولكم دام فضلكم فيمن يكتب فتوى دينية لتنشر اعلانا عن شىء؟
واوجه الاستفتاء بهذا النص، فلا شان لنا بمن ياخذ ثمن الفتوى.
ولمن يفتينا الاجر والثواب من الله تعالى، فسنعلم ان كان ذلك غير جائز شرعا انه كذلك، وان كان جائزا اضفناه الى بابه في الفقه باعتباره من المستحدثات العصرية البحتة. . .
الداء والدواء:
كانت وزارة الشؤون الاجتماعية خصصت في ميزانيتها خمسة الاف جنيه لمكافأة احسن ثلاثة افلام في العالم، فلما عرضت هذه الميزانية على مجلس الشيوخ قرر حذف هذا المبلغ منها، ذاهبا الى ان الارشاد الاجتماعي عن طريق الشينما في صورتها الحالية غير مجداطلاقا.
وهذا صحيح لا شك فيه، بل الأمر على العكس، فالسينما كما هي الآن وسيله للإفساد الاجتماعي. . فكيف يقر البرلمان هذا الإفساد ويوافق على ان تكافئه الدولة؟
وليس بغائب عني ان وزارة الشؤون الاجتماعية إنما تريد استجابة الداعين الى هذه المكافأة بقصد ترقية الأفلام، أي أنها تثيب الإنتاج القيم وتشجعه.
ولكن مجلس الشيوخ نظر من زاوية الواقع السيئ ولعله لم يجد أمامه طريقة مرسومة تضمن صرف المكافآت المطلوبة إلى أفلام تتوافر بها صفات وعناصر معينة، من لون آخر غير هذا المتفشي.
والواقع السيىء أو الداء المتفشي، هو اللجوء الى اجتذاب الجماهير إلى الوسائل المثيرة للغرائز: من رقص خليع وأوضاع فاضحة، وغناء مريض، وكلمات نابية، وكل ما عدا ذلك إنما هو في خدمة هذه الوسائل وإظهارها، فالقصة والحوار والأغنيات وغير ذلك، تتجه إلى هذا ((الرقيق الفني))
ومفهوم طبعا ان اهداف الفن الحقيقية بعيدة عن تلك المقاصد
ولكن ما العمل؟
أقول أولا: إن نفوس الناس تشتمل على ناحيتين: أحدهما غريزية حيوانية، والأخرى إنسانية رفيعة، والناس يستجيبون لإثارة الناحيتين. فصناعة السينما عندنا الآن تثير الناحية الأولى وعندنا أشياء اخرى غير السينما تسلك هذا السبيل لجلب ((الزبائن)) منها بعض الصحف والمجلات، وكلها تعتمد على هذه الوسائل لستر الفقر الفني والموضوعي وانعدام الشعور بتبعة ((الرسالات))
وهذا العمل يطغى على كل عمل موضوعي يرضي الإنسانية الرفيعة ويراد منه إحياؤها في نفوس الناس
والدولة من واجبها تنضيم الحياة الإنسانية في أغراضها البعيدة، كما تنظمها في مظاهرها
القريبة، فهي تمنع وسائل الكسب الحرام كالسرقة والغش والاحتيال وما إليها، لتمنع الإضرار بالناس وتحمل الأفراد على سلوك الطريق المستقيم في كسب العيش، فواجبها كذلك أن تضرب على أيدي العابثين بالفنون والمنحرفين في قيادة الرأي العام، وتمنع عبثهم وانحرافهم من إفساد المجتمع، وتمكن بذلك لذوي الشعور بالتبعات القادرين على الإنتاج الموضوعي الذي ينفع الناس ويغذي الناحية الرفيعة في نفوسهم.
وليس سبيل ذلك إعانات تقرر، لا ندري كيف ستوجه، وليس سبيله ان تتدخل في الإنتاج من حيث الإرشاد والتوجيه، كما نسمع من يقول بذلك أحيانا، فقد دلت التجربة على جهل الموظفين الذين يتولون ذلك.
إنما السبيل ان تمنع الحكومة وسائل الإغراء المفسدة، وهذا هو كل شيء في نظري. . فإن ذلك المنع يقطع الطريق على أولئك العابثين الفارغين، لأن انتاجهم سيخلو مما يغري الناس ولا يبقى فيه فن صحيح ولا موضوع قيم، فيضطر الجاهل منهم إلى أن يبحث له عن مرتزق آخر أو يعود إلى مرتزقه الأول قبل ان يصطنع وسائل الاتصال بالجمهور! والقادر على العمل المجدي لا يجد له إلا العمل المجدي ولو كان ربحه قليلا. وعندما يظهر الميدان ينزل إليه الشرفاء المنقبضون.
ذلك هو كل المطلوب من الحكومة لترقية الفنون في هذا البلد، على ان تكون جادة وحازمة فيه، فتشرع له وتسن القوانين الرادعة، ولا يقتصر الأمر على التصريحات التي تلقى إلى الصحف على أثر كتابات وشكايات، والتي لاتزيد دائما على ان تكون حبرا على ورق
يقرأ وهو نائم:
هو الأديب حلمي إبراهيم محمد الساوي، يقول في رسالته إلي:((لقد بلغ بي حب الأستاذ صاحب العزة الزيات بك الى حد أني أقرأ له في المنام كما أقرأ له في اليقظة، فقد سمعني احد الأصدقاء وكان يبيت معي ـ أقرأ مقال (الإسلام دين القوة) ومقال (ثوروا على الفقر قبل ان يثور) ومقال (أدب المجنون) ومقال (تحية أبطال الفلوجة) فدهش وأخذه العجب. . . وانتظر حتى انتهيت من القراءة فأيقظني وقص علي، فقلت إنني يا صديقي عاشق من عشاق الأدب فلا غرابة في ذلك، وأنشدت الأبيات الآتية تحية للزيات الأمير
وبلى ذلك قصيدة عصماء في مدح صاحب ((الرسالة)) لا نستطيع نشرها عملا بما جرى
عليه أستاذنا من الامتناع عن نشر ما يمدح به في الرسالة، وما زلت اذكر موقفه من الشاعر الراوية المرحوم أحمد الزين، إذ أنشأ الشاعر الراحل قصيدة في تحية الأستاذ الزيات بك والإشادة بأدبه لمناسبة ظهور أحد مؤلفاته، وكان الأستاذ الزين من المشغوفين بكتابة الزيات، وكان يترنم بفقراتها كما يترنم بالشعر الجيد على طريقته التي يعرفها أصدقاؤه. ومما يذكر بذلك أن الزين كان إذا أراد أن ينظم شعرا مهد للدخول في جو الشعر بترنمه ببعض الأبيات التي يستعذبها وبعد ذلك لا يشعر بما حوله حتى يفرغ مما يقول. وأذكر أيضا أن كنا في لجنة التأليف والترجمة والنشر في إحدى الندوات التي كانت تنعقد بها في أمسيات أيام الخميس، فرغب أحدهم إلى الأستاذ الزين أن ينشد مترنما على طريقته تلك، فأبى لأنه لم يكن يفعل ألا إذا انبعث من تلقاء نفسه في خلوته أو مع بعض خاصته. فأراد الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف بك أن يداعبه فقال: إن صوت الأستاذ الزين أجمل من صوت أم كلثوم! فغضب الزين من هذا التشبيه، ولم تنبسط نفسه حتى ترضاه الأستاذ خلاف.
نعود بعد ذلك الاستطراد أو تلك (الدردشة) إلى موقف الأستاذ الزيات من قصيدة الزين، فقد أبى نشرها في الرسالة على الرغم من إلحاح الزين ومحاجته بأن ذلك من حقه، لأن الرسالة ملك أدبي عام. . وأظن أن تلك القصيدة نشرت في ((الثقافة))
رحم الله الزين، وعذرا لأديبنا ((الساوى))
تاريخ العرب قبل الإسلام
تأليف الدكتور جواد علي
للأستاذ حمد الجاسر
هذه باكورة من بواكير ثمار ((المجمع العلمي العراقي)). وخير بواكير الثمار ما سد فاقة، وجاد في إبان الحاجة إليه. ولقد كانت ((المكتبة العربية)) مفتقرة إلى كتاب شامل مفصل لتاريخ الأمة العربية، في الأحقاب التي تقدمت عهد ((الرسالة)) يجلو غامض تاريخها السياسي، والاقتصادي والاجتماعي، لأن مؤرخي هذه الأمة قد عنوا بتاريخها من ذلك العهد، وما حوله وما بعده، وتركوا الهوة السحيقة التي سبقته مجهولة المعالم، خافية الصوى، وعرة المسالك، إذا رام سالك التوغل في بيدائها وجدها كمفازة أبي الطيب:
يتلونالخريتمنخوفالتوى فيها كما تتلون الحرباء
غير أن حضرة الأستاذ العلامة الدكتور ((جواد علي)) أمين سر ((المجمع العراقي)) جاز تلك المهامة جوزة الرائد، وعاد منها عودة الفائز، فأتحف الباحثين من أبناء العروبة وغيرهم، المتطلعين إلى من يجلو لهم من خبرها اليقين، المتعطشين إلى الارتواء من مورد معرفة احوالها في تلك الغعهود القديمة، بكتاب قيم هو ((تاريخ العرب قبل الإسلام)) الذي قام ((المجمع العراقي)) بطبع الجزء الأول منه في مطبعة التفيض ببغداد سنة 1370 - 1951، فبلغ 417 صفحة، سوى الرسوم الأثرية والمصورات الجغرافية التي نافت على العشرين.
يتحدث حضرة المؤلف الفاضل في كتابه قائلا: (هذا كتاب في تاريخ العرب قبل الإسلام جمعت فيه قدر طاقتي كل ما استطعت أن اجمعه من تاريخ أهل الجاهلية، شرعت فيه سنة 1936 أيام دراستي للهجات العربية الجنوبية، وتاريخ العرب قبل الإسلام على المستشرق ((شتروتمن)) في جامعة ((هامبرك)) بألمانية، وانتهيت منه على هذه الصورة في سنة 1950، ولا أقصد أنني انتهيت من تاريخ الجاهلية، فان هذا الموضوع في رأيي بحر لا ساحل له، وأنا ما برحت واقفا عند طرفه. . وصنيعي هذا هو صنيع رجل طالب للبحث. . وهذا مما سوغ تسرعي في إخراج هذه الأوراق وإن كنت لا أبرىء نفسي من الأغلاط التي قد تكون فيها، وهي غاية جهدي ومنتهى اجتهادي، والمجتهد ان أصاب فله أجران،
وإن أخطأ فله أجر. . وبعد فالكتاب يتألف من أقسام ثلاثة، تناولت في القسم الأول منه الحالة السياسية للعرب قبل الإسلام_وهو هذا القسم الذي أقدمه، ويقع في أجزاء_وتناولت في القسم الثاني الحالة الدينية، وفي القسم الثالث الحالة الثقافية، وحضارة شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام)
ويحوي هذا الجزء فصولا خمسة، الفصل الأول (من صفحة 6 إلى 85): الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي. يحدد المؤلف في هذا الفصل معنى كلمة ((الجاهلية)) ثم يوضح المصادر التي يستقي منها ذلك التاريخ وهي - عند المؤلف
النقوش والكتابات القديمة
كتب اليهود كالتوراة والتلمود ونحوها
الكتب ((الكلاسيكية)) والسريانية ونحوها
المصادر العربية وهي القرآن الكريم، والتفسير، والحديث، والشعر
وفي الفصل الثاني (86 - 147) شبه جزيرة العرب، حدودها، وتكوينها الطبيعي، ومعادنها ونباتاتها وحيواناتها وأقسامها، ويتحدث المؤلف في الفصل الثالث (148 - 219) عن صلات العرب بالساميين، فيعرف الساميين، ويحدد موطنهم ويتكلم عن موجاتهم ولغتهم وعقليتهم، ثم يعود إلى تحديد كلمة ((العرب)) ويتبع ذلك بالكلام على الأقلام واللغات العربية. ثم يسهب المؤلف في الفصل الرابع (220 - 374) في الحديث عن طبقات العرب وأنسابهم، فيتحدث عن العرب البائدة، وعن القحطانيين ثم عن العرب المستعربة، ثم ينتقل إلى الكلام عن ((الدراسات الأنتروبولوجية)) ثم يتكلم عن الأنساب، فالقحطانية والعدنانية)) ثم يشير في اثناء الكلام على دراسة أسماء القبائل إلى بعض الآراء المتعلقة بهذا الموضوع ((كالطوتمية)) والأمومة ثم يلمع إلى شيء من الحياة الاجتماعية، ويختم الفصل بالكلام على طبقات القبائل. ويختم هذا الجزء بالفصل الخامس (375 - 411) تاريخ شبه جزيرة العرب، متحدثا عن الآثار، وعن الدولة المعينية، ولا يتجاوز حديثه ذلك.
هذه أهم مواضيع الجزء وهي مواضيع أوفى المؤلف جلها حقه بحثا وتفصيلا، وإيضاحا، ندر وجوده في كتاب غير هذا. ولقد حاول بعض المؤرخين المتأخرين كجرجي زيدان في كتابه ((تاريخ العرب قبل الإسلام)) أن يقوم بمثل هذا العمل إلا ان قدم كتابه، ووفرة ما
عثر عليه من آثار بعده، وما قام به كثير من المستشرقين من الكتابة والتحقيق والتنقيب للوصول إلى حقائق أوفى وأصح في هذا الباب، وما امتاز به حضرة الدكتور الفاضل ((جواد علي)) من سعة اطلاع على آثار أولئك المستشرقين مع دراسة تلك الآثار على أساتذة تخصصوا في دراستها، كل ذلك من الأمور التي تحمل على القول بأن هذا المؤلف جاء فريدا في بابه. وليس معنى هذا انه بلغ الغاية، وحقق القصد في جميع النواحي، فجهد الفرد مهما بلغ من القوة ينوء عن الإضطلاع بمثل هذا العمل العظيم: كتابة تاريخ واف كامل للعرب في عهودعم القديمة التي لا تزال خافية المعالم، مجهولة المسالك. وقد أوضح المؤلف ذلك حينما قال:(وإني اعتقد أن الوقت قد حان لقيام العرب أنفسهم بالبحث عن تاريخهم القديم، وقد اصبح لديهم نفر من المتخصصين، لايريدون من حكوماتهم إلا مؤازرتهم ومعاضدتهم، في إعداد وسائل النشر والبحث، والسفر إلى مواطن الآثار، للكشف عن آثار الأجداد، وهو واجب قومي إنساني معا. ومن العار ان يوسم هذا الشعب بالجهالة والبداوة، وأن يقال عنه إنه شعب ساذج بسيط ظهرت الحضارة عنده في أواخر العصر الأموي، وأوائل العصر العباسي، مع أن له تاريخا حافلا قديما، وأن تتفضل أوربا وأمريكا عليه بإرسال بعثتها إلى شبه الجزيرة للكشف عن كنوز الأجداد، ويكون لها منة في أعناقنا وفي استطاعتنا القيام بهذا العمل القومي الخطير. . وما أحوجنا إلى يوم نسمع فيه أصوات المتخصصين من العرب ترتفع لتحكم في تاريخ شبه جزيرتنا حكما علميا منطقيا يفهم التاريخ خيرا من فهم الغرباء له)
وبعد: فلنقف من تقديم هذا الكتاب لحضرات القراء، عند هذا
الحد، مزجين لحضرة مؤلفه الأستاذ الفاضل الشكر الطيب،
على ما أسداه لأمته من يد، وما قدمه للبتحثين في تاريخها من
معونة، راجين ان نتبع هذه الكلمة بأخرى، نشير فيها إلى
بعض ملاحظات ن وليس في الإشارة إليها غضاضة على
المؤلف الكريم، ذي الصدر الرحب وليس في ذكرها ما يقلل
من أهمية هذا المؤلف القيم المفيدالقاهرة
حمد الجاسر
البريد الأدبي
بين طه حسين وعبد الرحيم محمود
في شهر مارس الماضي اشتدت العلة بالأستاذ عبد الرحيم محمود ولازم الفراش رغم انفه وهو الذي كان لا يطيق الجلوس ساعة كاملة في مكان واحد ولا يدركه المرض إلا وهو سائر في الطريق أو جالس بين أصدقائه يلعب الشطرنج أو غارق بين الأسفار القديمة يحقق لفضا لغويا ويغادره المرض أو يلازمه من غير أن يعيره اهتماما أو يمنحه أنة أو شكور إلى أن تكاثرت عليه العلل وقهرته فاستسلم لها ولكن بقدر فكان إذا غربت الشمس يأخذه الحنين إلى أصدقائه فيخرج متوكئا على كتفي إلى أن نجد سيارة حتى لا يحرم نفسه لذة الجلوس بينهم والنظر إليهم حين يلعبون الشطرنج وساعتئذ ينسى أدواءه وكأنه طلقها ثلاثا ولكنه إذا رجع إلى منزله بعد منتصف الليل وجدها تحت فراشه فيستسلم لها مرة أخرى.
وقد إضطرته قسوة المرض إلى الإكتفاء من قراءة الصحف بعناوينها اللهم إلا إذا جاءته أوراق من مطبعة المعارف من أحد كتب معالي الدكتور طه حسين باشا فإن جسمه ينشط وينسى المرض حتى يأتي عليها.
وكلن حريصا على إخفاء مرضه عن صديقه الدكتور طه لئلا تنقطع عنه هذه الأوراق أو يكون سببا في إيلامه وإزعاجه، ولكن حين رأينا اشتداد العلة عليه اتصلنا في صباح يوم 8 من ابريل بمنزل معاليه على غير علم منه وأخبرناه بحالته فكان أول عمل له في هذا اليوم الاتصال بالمستشفيات والأطباء، وفي الساعة الثالثة مساء فوجئنا بهيئة مكتب معالي الوزير تقتحم منزل الأستاذ عبد الرحيم وفي مقدمتهم الأستاذ فريد شحاتة وأركبوه قهرا في سيارة خاصة ذهبت به إلى المستشفى ومكثوا معه إلى ساعة متأخرة من الليل. وفي الليلة التالية حضر معالي الدكتور لزيارته في المستشفى فعانقه وقبله، وقد اغرورقت عيناهما بالدموع وأبى معاليه إلا الجلوس على كرسي خشبي بجوار فراشه، وبعد ان هدأت نفسه أراد أن
يسرى عن نفس صديقه المريض فسأله عن صحته فقال الأستاذ عبد الرحيم: إنني لا اشعر الآن بمرض بل بوافر الصحة وكيف أحس بالمرض ومعالي الدكتور وزير المعارف بجانبي؟ فقال معاليه: لا تقل هذا ولكن قل: إن الشيخ طه حسين يزور صديقه وزميله الشيخ عبد الرحيم.
ثم أخذا يتبادلان بعض الفكاهات الأدبية وكان ختامها وصية الدكتور له بعدم مغادرة المستشفى حتى تكتمل صحته فقال الأستاذ عبد الرحيم: إني لا أخرج من هنا حتى تكون صحتي مثل الحصان، فضحك معاليه وقال: بل أريد ان تكون صحة الحصان مثلك.
ولم تنقطع استفسارات معاليه عنه يوما واحدا حتى سافر إلى أوربا وكان لا يطيق غياب سكرتيره الخاص فريد شحاتة ولا يغفره له إلا إذا كان في زيارة الأستاذ عبد الرحيم ويحاسب هيئة مكتبه إذا قصر أحدهم في زيارته ويسأل كل زائر له في المكتب يكون له بالأستاذ صله عن صحته.
وقد كان عليه رحمة الله - أحب شخصية إلى قلب معاليه لا يمل مجلسه ويستزيده منه، ويخصه بالإقبال عليه مهما عظمت شخصية زائريه.
وقد ذكر لي الأستاذ يوما أنه بعد نجاح الدكتور طه في الدكتوراه حضر إليه في منزله ليقدم له الشكر على معاونته ومجهوده فقال له الأستاذ: إنني لا أريد شكرا بيننا. وبعد أكثر من ثلث قرن ذهب عبد الرحيم إلى منزل معاليه ليشكره على مجهوداته في مصلحه خاصة له فقال معاليه: لقد اتفقنا على ألا شكر بيننا فأين ذلك الشاعر الذي سمع بالوفاء منذ القدم وأتعب نفسه بالبحث عنه بين الناس فلم يجده لأدله على مكانه وموضعه وأشير له إلى معالي الدكتور طه حسين باشا حتى يريح نفسه ويريحنا من قوله:
سمعتقديمابالوفاءو ليتني علمتعلىالأيامأينوجوده
ابراهيم أحمد الوقفي
الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري شاعر رقيق الديباجة فياض القريحة، وناثر مستيقظ الذهن سريع اللفتة، مطواع القلم لا يحب أن يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا غمزها بسنان قلمه، وطعنها بشباة رأيه وهو - في ما يبدو لنا من خلال تعليقاته المتلاحقة على كل شاردة وواردة وتصويباته المتتابعة لكل هينة وبينة - أديب مجتهد مسرف في الإطلاع مدمن
على القراءة شغوف باقتفاء الآثار الأدبية. وهذا - ولاشك - حسنة من الحسنات، إلا أن تدفع بصاحبها إلى التهام القراءة التهاما خاطفا دون مضغها في ريث وتمهل، فذلك هو الجواد الجامح الذي لا تؤمن عثرته، ولا تنتفي كبوته، ولو كان فارسه المجلى الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري.