المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 949 - بتاريخ: 10 - 09 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٤٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 949

- بتاريخ: 10 - 09 - 1951

ص: -1

‌الكتلة الإسلامية

في الميزان الدولي

للأستاذ سيد قطب

هذه الكتلة المتصلة الحدود من شواطئ الأطلنطي إلى شواطئ الباسيفيكي؛ والتي تضم مراكش وتونس والجزائر وليبيا، ومملكة وادي النيل وسوريا ولبنان والعراق والأردن والمملكة العربية واليمن، وتركيا وإيران وأفغانستان وباكستان وإندونيسيا.

هذه الكتلة التي يربى عددها على مائتين وخمسين مليونا من السكان؛ والتي تملك أغنى منابع البترول والمواد الخامة؛ والتي تتحكم بمواقعها الاستراتيجية في مواصلات العالم.

هذه الكتلة تملك أن يكون لها وزن، حتى ولو كانت مجردة من السلاح؛ وتملك أن تجعل كل كتلة من الكتلتين المتنازعتين تفكر مرتين قبل الإقدام على حرب، تجتاح فيها هذه المناطق الشاسعة، التي تقوم حاجزا بين الكتلتين لا تلتقيان إلا باجتياحه.

هذه الكتلة تملك هذا كله إذا وصلت درجة اليقظة فيها إلى الحد الذي تقف به في وجه الدعايات المزيفة التي يقوم بها دعاة كل من الكتلتين فيها. . . إذا هي عرفت كيف تجبر حكامها والمستغلين فيها على انتهاج سياسة قومية خالصة. . . إذا هي نظمت اقتصادياتها وإمكانياتها وخلصتها من الاستعمار الاقتصادي الذي يمكن له فيها حكامها أو أصحاب رؤوس الأموال المستغلين الذين لا يهمهم وطن ولا قومية ولا دين.

وأنا أكتب هذا للشعوب لا للحكومات: أكتبه للجماهير لا للمستغلين، وأنا مؤمن بالشعوب والجماهير في تلك الرقعة العريضة من الأرض، وأياما كانت عوامل الضعف والفرقة، وعوامل الضغط والكبت، فإن واجب الدعاة ألا يفقدوا إيمانهم بالشعوب، فالشعوب تملك متى تريد تملك أن تسبب المتاعب للأقوياء ولحلفائهم من أهل البلاد. تملك أن تكلف هؤلاء وهؤلاء عنتا دائما لا يأمنون معه الاندفاع، ولا يحمون ظهورهم معه من الاضطراب والانتقاض.

ولقد آن للشعوب أن تضع حدا لذلك العبث الآثم الذي يزاوله حكامهما والمستغلون فيها، وأن تقرر مصائرها بأيديها، وتقطع كل يد تعبث بهذه المصائر لغاية خاصة لا تعنى هذه الشعوب. . لقد ضاعت فلسطين على مذبح المنافسات بين عدة بيوت حاكمة، لا لأن قوى

ص: 1

الأمة العربية - أيا كانت ضعيفة - عجزت عن الوقوف أمام حفنة من اليهود، مهما جاءتهم النجدة من الكتلة الشيوعية، والكتلة الرأسمالية. ولو كان في مجموعة الشعب العربي من الحيوية إذ ذاك ما تحطم به أطماع الطامعين، وتضرب على أيديهم العابثة، ما وقعت الكارثة.

إنني أهتف بالجماهير في تلك الكتلة المترامية الأطراف أن تفتح أعينها فلا تسمح مرة أخرى بتمثيل المأساة، ولا تستجيب للمستنفعين فيها، حين يريدون أن يقودوها كالذبيحة لتقف مع هذه الكتلة أو تلك، بينما هي تملك أن تسبب الربطة والاضطراب للكتلة التي تدوس أرضها، وتدوس كرامتها؛ وبذلك تملك أن يتمتع العالم بفترة سلام أخرى، تنشأ من تردد كل من الكتلتين في أن تكون البادئة، وأن تكسب بذلك عداء الكتلة الثالثة.

وليس هذه الدعوة التي ادعوها هنا مستحيل. وما يراها مستحيلة إلا الذين يختانون أنفسهم، ويحتقرون ذواتهم، وييئسون من الشعوب التي تملك كل شئ حين تريد. . . إنني يائس من الزعماء، يائس منالحكومات، يائس من مئات أو ألوف خدعتهم الدعاية الرأسمالية أو الداعية الشيوعية - ولكنني لست بائسا من الشعوب - على ما يجثم عليها من جهل ومن ضغط اقتصادي، ومن قنوط في بعض الأحيان. إن هذا كله إلا غاشية سطحية تزول. وستقف هذه الشعوب على قدميها يوما، وستحطم كل من يعترض طريقها من المستعمرين والمستغلين. . . ونحن في الطريق.

غير أنه يبقى سؤال عام: على أي أساس تقوم هذه الكتلة الثالثة؟ وما هي مقوماتها الأصلية؟

إن أول ما يخطر على البال أن تقوم هذه الكتلة على أساس من وحدتها الجغرافية والاقتصادية، وعلى أساس من مصلحتها المشتركة في اتقاء الحرب الثالثة التي ستدمرها تدميراً.

ولكن هنالك أساسا آخر أشمل وأوفى؛ يتضمن هذه المقومات السابقة، ويزيد عليها عنصر آخر له أثر العميق في النفس البشرية، ذلك هو الفكرة المشتركة عن الحياة، تلك التي تنبع منها كل مقومات الحياة الأخرى.

لقد قال (ماك أرثر) قائد الحلمة الرأسمالية السابق في كورية: إن الحرب في كورية حرب

ص: 2

مذهبية؛ وهو يعني أنها حرب بين فكرتين: فكرة الشيوعية وفكرة الرأسمالية. وهذا يقتضي أن تقوم الكتلة الثالثة حين تقوم على أساس فكرة مستقلة عن الشيوعية وعن الرأسمالية جميعا، كي تستطيع أن تمسك بيدها الميزان، وأن يكون لها هدف مستقل عن هؤلاء وهؤلاء، وفكرة ثالثة تدعو إليها الفريقين، ولا تضيع هي في غمار إحدى الكتلتين.

ودعاة الشيوعية كدعاة الرأسمالية، يحاولون أن يقنعونا بشدة: أن ليس في هذا الكون إلا فكرتان ونظامان، وأنه لا يمكن تصور فكرة ثالثة ونظام ثالث. فألا تكن شيوعيا فأنت رأسمالي، وإلا تكن رأسماليا فأنت شيوعي، وهو تفكير متحجر مضحك، تفكير الذين لا يرون بعيونهم ولا يسمعون بآذانهم إنما يتلقون ما يقوله لهم هؤلاء أو هؤلاء تلقى الحاكي أو الببغاء، ونحن لسنا بملزمين أن نستحيل جميعا آلات ولا ببغاوات!

إننا نعلم - الآن على الأقل بعد ما صدرت عدة مؤلفات حديثة تكشف لنا عن النظام الاجتماعي الإسلامي، وتشرح لنا فكرة الإسلام الأصيلة عن الحياة - أن هذا النظام ليس هو النظام الرأسمالي كما تعرفه الكتلة الغربية، وليس هو النظام الشيوعي كما تعرفه الكتلة الشرقية؛ إنما هو نظام اجتماعي مستقل، يقوم على أساس فكرة عن الحياة مستقلة. وقد تتشابه بعض جزئياته أحيانا مع النظام الرأسمالي، كما تتشابه بعض جزئياته أحيانا مع النظام الشيوعي، ولكنه ليس أحدهما بكل تأكيد فهو نظام آخر ذو مقومات أخرى. ميزته أنه يحقق مزايا النظامين ويتقي عيوبهما في الوقت ذاته.

ولكنني أكتفي بالإشارة إلى مسألة واحدة تثبت كيف يجمع النظام الإسلامي بين مزايا الرأسمالية والشيوعية، وكيف يتقي عيوبهما جميعا. . . تلك هي مسألة الملكية الفردية.

إن الرأسمالية لتطلق حق الملكية الفردية، وتدع رؤوس الأموال تتضخم، فلا تتدخل حين تتدخل إلا بفرض الضرائب على الأرباح، بنسب عالية كما اضطرت إلى ذلك أخيرا. . وميزة هذا النظام أنه لا يقاوم الحوافر البشرية الطبيعية للتملك، ولا يضعف الرغبة في العمل إلى أقصى حد وبذل الطاقة إلى أقصى حد، ما دام الفرد يحس أن جهده له وعاقبه إليه. وعيبه أنه يدع الرغبة الجامحة في الكسب تطغى على المصالح الجماعية وتدوس على حقوق المنتجين الحقيقيين وهم العمال، كما تدفع بالدولة إلى الحرب لضمان الأسواق للتصريف، وضمان الخامات بسعر رخيص. . . إلى آخر عيوب الرأسمالية التي تشنع بها

ص: 3

الشيوعية.

وإن الشيوعية لتصادر حق الملكية الفردية، وتضع كل الموارد ومرافق العلم في يد الدولة. . وميزة هذا النظام أنه يمنع كل عيوب الرأسمالية التي أسلفنا. ولكن عيبه أنه يقاوم الحوافز البشرية الطبيعية؛ ولا يحفز الفرد إلى بذلك أقصى طاقة ما دام الحد الأعلى لما يحصل عليه هو مجرد كفاية. . وقد اضطر ستالين أن يخرج على قاعدة رئيسية من قواعد الماركسية فيبيح التفاوت بين الأفراد بحسب تفاوت الكفايات، ويبيح نوعا من الملكية الفردية الشخصية، وبدأت الشيوعية بذلك تكذب نفسها في هذا وهي في أيامها الأولى! - كما أن عيب هذا النظام هو مقاومته لحرية الفرد في العمل، وحريته في الاعتقاد، وحريته في السلوك. وهي حريات قد يصبر جيل أو جيلان أو عدة أجيال على فقدها، لأنهم في معركة مع النظم الأخر، ولكن البشرية بطبيعتها لا تصبر على فقدان هذه الحريات طويلا، وإذا ماتت فيها رغبة الحرية فقد مسخت فطرتها مسخا؛ وخسرت كيانها الإنساني في سبيل لقمة الخبز كالماشية والحيوان!

فأما الإسلام فيبيح الملكية الفردية، محققا كل المزايا التي تحققها هذه الإباحة. وفي ذات الوقت يحرم وسائل الكسب التي تضخم رؤوس الأموال على حساب الطبقات العاملة أو على حساب المجتمع كله. فهو يحرم الربا، والاحتكار، ويقضي بتأميم المرافق العامة التي يشترك في الانتفاع بها الناس جميعا؛ ويجعل للعمال حقهم في نصف الربح الناتج من العمل (استنادا إلى تصرف النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر). . ثم هو يأخذ - اثنين ونصفا فيالمائة من رأس المال - لا من الأرباح - كل عام في صورة زكاة. . ثم - وهذا هو الأهم - يبيح للدولة الممثلة للجماعة أن تأخذ من رؤوس الأموال - لا من أرباحها وحدها - ما تستلزمه الحاجة بلا قيد ولا شرط تحقيقا لمبدأ (المصالح المرسلة) أي التي لم يرد فيها نص، ولمبدأ (سد الذرائع) أي اتقاء النتائج السيئة المحتملة - وهما مبدآن مقرران في الإسلام. وإلى المبدأ الأول يستند الإمام مالك في منح الحاكم حق الأخذ من أموال الأغنياء بقدر حاجة الجند إذا لم يسكن في بيت المال الكفاية. . ومثل حاجة الجند للدفاع سائر الحاجات الاجتماعية التي تبرز على توالي الأزمان.

وبذلك يتقي الإسلام كل عيوب الملكية الفردية ويبقي مزاياها جميعا ويحقق كما قلت مزايا

ص: 4

النظامين: الرأسمالي والشيوعي ويتقي عيوبهما جميعا.

وهو بهذا نظام مستقل، تشبهه الرأسمالية أحيانا وتشبهه الشيوعية أحيانا، ولكنه ليس واحد منها بكل تأكيد، ونحن لا نكذب عقولنا، ولا نكذب حقائق النظام الإسلامي الواضحة لنقول مع دعاة الشيوعية: إن الإسلام رأسمالي، أو أنه لا يمكن أن يكون نظام ما إلا نظاما رأسماليا، أو نظاما شيوعيا، ولا ثالث لهما في الواقع ولا في التفكير، كما يقولون في تحجر، ثم ينتظرون منا أن نسلم لهما بما يقولون!

هنالك إذن فكرة ثالثة لنظام اجتماعي ثالث، يمكن أن تقوم على أساسها الكتلة الثالثة، فتكون لها كل مقومات الكتلة المستقلة، وليست هي بحاجة إذن إلى الاندماج أو الفناء في إحدى الكتلتين، أو في إحدى الفكرتين.

هذه الفكرة الثالثة ليست مجرد عقيدة دينية - كما يريد بعضهم أن يتصور - إنما هي نظام اجتماعي كامل يقوم على هذه العقيدة؛ بل نظام إنساني شامل يحدد العلاقات بين الأفراد والجماعات، وبين الشعوب والحكام، وبين الدولة والدول في المجتمع الدولي، والمحيط الإنساني. . وهذه مزيتها الكبرى. ميزتها أن توحد بين عقيدة الفرد ونظام المجتمع، وشكل الدولة، وعلاقات البشرية. فإذا نفذ الفرد عقيدته، فهو في الوقت ذاته يؤدي واجبه - بهذا التنفيذ - كفرد في جماعة، وفرد في دولة، وفرد في إنسانية. بلا تعارض بين نشاطه في هذه المجالات جميعا.

والنظام الذي يقوم على أساس عقيدة، ويستمد منها وجوده وحدوده، هو نظام أقوى وأعمق وأقدر على المقاومة، لأنه يستمد قوته من داخل النفس ومن أعماق الضمير، ومن سلطان لا يعلوه في النفس سلطان.

سيد قطب

ص: 5

‌النسيان في نظر التحليل النفسي

للآنسة فائزة علي كامل

- تتمة -

عرضنا نظرية (فرويد) الخاصة بالنسيان في المقالين السابقين وهي كما شاهدنا مملوءة بالآراء التي لا يستطيع أحد أن ينكر ما تمتاز به من الجدة والعمق. فقد طبعت النسيان بطابع ديناميكي وأقامته على أسس نفسية لم تخطر ببال أحد من قبل، ولكن هذا لا يمنع من أن تكون موضع نقد، فالدراسة الدقيقة لها تبين أنها تثير مشكلات كثيرة اعترف بها أنصار فرويد أنفسهم.

لقد كان فرويد متطرفا في قوله: كل تلك الأفعال البسيطة التي تأتيها كفلتات اللسان وأخطاء السمع ونسيان الأسماء. الخ تقوم على الصراع النفسي والكبت. إنه بذلك جعل علتها هي علة الأمراض النفسية. فإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن يتساءل الفرد: كيف يمكن أن تكون العلة واحدة وتؤدى إلى حالة مرضية مرة ولا تؤدى إلى ذلك مرة أخرى؟! واجه (رولاند دالبيز) هذه المشكلة، ووجد انه لا بد من تعديل نظرية فرويد فقال إن تلك الأفعال تحتل المستويات السطحية من البناء النفسي. . . فقالت تعرف الإثارة المكبوتة وهي شاعرة بنضالها ضدها. بعبارة أدق تستطيع أن تقول إن هذه المؤثرات التي تكون الصراع موجودة في مستوى (ما قبل الشعور) وهي في حالة (قمع)(رفض إيرادي شعوري) اكثر منها في حالة (كبت)(كيف لا شعوري أتوماتيكي).

كذلك أوضح (إرنست جونز) أنه ستنتج نتيجتان بناء على آراء فرويد: الأولى أنه لن يكون ثمة وجود للحالة العقلية العادية بمعنى أن كل فرد يصدر عنه ما يدل على نقصان في الوظيفة العقلية يتجلى في مادة مفصولة مكبوتة: وهذه العملية هي واحدة سواء لدى الأفراد الأقوياء أو المرضى بأمراض نفسية. وإذا أنعمنا النظر وجدنا أن تلك المادة المكبوتة هي نفسها التي ينتج منها العصاب. الثانية: أنه لا يوجد كما يجب حد فاصل بين الصحة العقلية والحالة المرضية. وسيكون التمييز بين هاتين الحالتين قائما على أساس اجتماعي، فإذا أدى الصراع إلى تعطيل القدرة الاجتماعية فإن الحالة تكون عصابا، أما إذا لم يحدث هذا فتكون بازاء شذوذ أو خلق شخصي. . . الخ.

ص: 6

في الواقع أن تفسير فرويد للنسيان في المجال العادي لا يمكن قبوله بسهولة. فمثلا يذكر (بير أنه نسى مرة مظلته بعد أن ألقى محاضرة في بلدة ما، ولم يجد أي تفسير شخصي لذلك النسيان كأن يقال تبعا لفرويد إنه كان مكرها على إلقاء هذه المحاضرة. . الخ إن السبب الوحيد هو عدم الانتباه. ويعترف (بير) بأنه أن كان حقا هذا التفسير لا يوضح لنا العلة في نسيان المظلة وعدم نسيان أي شئ آخر إلا أنه لا يمكن إنكار أن هذه العمليات الذهنية من عدم انتباه وتشتت الفكر. . الخ تساعد على النسيان كما تشجع الظلمة والوحدة اللص على السرقة.

وبالمثل يفند (دوجاس أقوال فرويد فيتذكر أن (نيوتن) نسى لزمن معين اكتشافه الخاص بحساب التفاضل، وكان (لينيه ينسى أحيانا أنه المؤلف أثناء انهماكه في قراءة مؤلفاته فكان يصيح قائلا:(ما أجمل هذا. .! ليتني أستطيع كتابة شئ مثله. .! ويقول (بسكال) إننا لو أجرينا له امتحانا فجأة دون سابق إنذار في محتوى مؤلفاته فإنه ربما يفشل في الإجابة. فلو أخذنا برأي (فرويد) فإن مثل هذا النسيان سيرد إلى عقدة مهنية ولكنه واضح أنه تفسير غير مقنع. فهنا كما يقول (دوجاس) يجب الرجوع إلى طبيعة الأشياء، فالنفس تستبعد منتجاتها الناضجة أو الأفكار والمشاعر التي لا تجد فيها ما يثير اهتمامها. إنها تنساها ولا تبالي بها، فهي تحاول التحرر من الأفكار كما تتحرر من الأهواء، ويقول (جتيه) إنه لا يكترث بالمؤلف الذي انتهى، فهو لا يشغله بعد ذلك لأنه ستوق إلى شئ جديد. فالمؤلف يصطنع حالة عقلية معينة لكل مؤلف من مؤلفاته. فطبيعي أن يترك هذه الحالة بانتهاء موجبها. ومثله كمثل الذي يتقمص شخصيات مختلفة تبعا للأدوار التي يقوم بها. فما لا شك فيه أن هذا النسيان أمر طبيعي. أما النسيان الذي يكون فيه فقدان دون تعويض، فتختفي الأفكار اختفاء تاما وتعرض وحدة الذات للخطر، ويحطم الاتزان العقلي. . ويكون هذا بداية لاضطراب نفسي. . فهنا هو النسيان المرضي.

في الواقع إن تطرف (فرويد) يرجع إلى أنه يقيم آراءه على حتمية صارمة. فما يحدث في النفس ليس بظواهر سابقة عليها وأخرى لاحقة بها. إنه لا يوجد محل للصدفة في المجال الجسمي؛ وكذلك يجب أن يكون الحال في الميدان العقلي. لهذا لا يقتنع فرويد برد بعض الأفعال إلى العادة؛ ولا يعترف بعلل عدم الانتباه والسهو وما شابه ذلك. ولكننا شاهدنا ما

ص: 7

يثيره هذا المبدأ من اعتراضات وما يؤدي إليه من مآخذ.

وهكذا إننا لا نستطيع أن نتغاضى عن أنه يوجد نسيان يعد تبسيطا للشعور أو تقليلا من محتويات الذات، وهو نسيان عادي مفيد لأنه يصون النفس ويحميها من تعدد التأثيرات ويقيها شر التشتت فيجعلها تحافظ على وحدتها. فليس كل نسيان اسم أو كلمة يرجع إلى الكبت، وليست كل فلتة لسان ناتجة عن صراع نفسي دفين إن النسيان والتذكر وجهان لوظيفة عقلية واحدة، فالنسيان هو الذي يسمح بالانتقال من حالة ذهنية إلى أخرى. فإن أنفسنا تتبلور في أنظمة مختلفة من الأفكار والتصورات فينتج النسيان عند استبدال نظام بآخر. فإذا اختفت ذكرى معنية فإنما تختفي باعبتارها مجموعة من الأفكار ليس لها ضرورة. . ومن ثم انسحبت من الطريق لتفسح المجال لذكرى أخرى. إن الفكر العادي الكامل هو الذي لا ينسى شيئا يجب أن يحتفظ به، ولا يحتفظ بشيء يجب أن ينساه.

فائزة علي كامل

ص: 8

‌في شعر عائشة التيمورية

1840 -

1902

للأستاذ محمد سيد كيلاني

جمعت عائشة التيمورية شعرها في ديوان سمته (ملية الطراز) به 1396 بيتاً، منها 554 بيتاً في باب الغزل، والباقي في أغراض مختلفة.

وقبل أن نخوض في غزل عائشة نريد أن نسأل أنفسنا سؤالاً وهو: هل يحق للمرأة أن تقول شعراً في الغزل؟ وإذا حق لها ذلك ففيمن تتغزل؟ أتتغزل في امرأة مثلها؟ أم تتغزل في رجل؟ الواقع أننا إذا نظرنا إلى ما وصل إلينا من آثار شاعرات العرب لا نجد لهن بيتاً واحدا في الغزل. فمما لا شك فيه أن عائشة انفردت دون سائر الشاعرات العربيات بما نظمته في هذا الباب وقد تكون سلكت بذلك مسلكا وعراً، وجاءت أمرا إذا.

إن طبيعة المرأة لا تسمح لها بقول الشعر الغزلي. وذلك لأنها إذا تغزلت بامرأة مثلها كان هذا شذوذا منها، وهي لن تجرؤ على التغزل بالرجل، ونظرة المرأة إلى الرجل تختلف عن نظرة الرجل إلى المرأة، فإذا تغزلت المرأة في الرجل اختلف غزلها اختلافا كليا عن غزل الرجل فيها.

والآن نستعرض بعض أمثلة من شعر عائشة في الغزل لنرى من أي نوع هو، ومدى ما فيه من صدق الشعور، قالت:

أفديه حين نحيل الخصر منه بدا

يهتز من خوف ردف خص بالثقل

بكر الكميت إذا دارت بحضرته

من وجنتيه غدت حمراء في خجل

لو قابل البدر نشواناً بغرته

لصار طالع بدر الأفق في زحل

وقالت:

أفديه لما صحا من سكره سحرا

وللطلى أثر في خده باقي

وقام يخطر والأرداف تقعده

وخصره يشتكي سقما لمشتاق

وقال لي بلسان السكر خذ بيدي

فعذت من لحظة الماضي بخلاقي

وقالت:

الصب بالأعتاب أصبح يرتجي

عطفاً ولكن المنال بعيد

ص: 9

أنسيت صدقي في حروب عواذلي

وجميعهم شاكي السلاح شديد

قصدوا بوادي بالسلو وادروا

أن اصطباري في هواك أكيد

ولقد أذعت هواك بين عواذلي

وسهامهم تدمى الحشا وتبيد

فأنت ترى أن عائشة تذكر الحواجب والوجنات والخصر النحيل والأرداف المكتنزة والخدود والألحاظ، وتحدثنا عن وقوفها أمام أعتاب الحبيب وما كابدته من عناء وألم في سبيل الحب، وما لقيته من عذل العذال وكيد الوشاة والحساد، وغير ذلك مما يجري على ألسنة الرجال، ويتغنى به الشعراء عادة في قصائدهم الغزلية، فكأنها - والحالة هذه - تقمصت شخصية الرجل، وخلعت عنها أنوثتها.

نصف شعر عائشة في الغزل. فإذا قيل إنها كانت تروض القول كدأب الشعراء في ذلك العصر، فلم اختارت باب الغزل بالذات لتتخذه ميدانا للتمرن على القول؟ ولم أتت بهذا القول الماجن الذي يكاد يكون مكشوفا؟ إن كثرة تغزل المرأة بواحدة من جنسها، يخلق عندها شذوذا، ويبتعد بها عن طبيعة الأنوثة ابتعادا كبيرا. وحبذا لو أنها لم تطرق هذا الباب. والظاهر أن عائشة لم تكن مكتملة الأنوثة، ولذلك أخفقت في حياتها الزوجية إخفاقا تاما. وهجرها زوجها، ثم إنها لم تذكر هذا الزوج ولا في بيت واحد من شعرها.

ولقد أرادت عائشة أن ترفع لواء النهضة النسوية في مصر وحاولت أن تخلف حولها جوا أدبيا، لذلك صنعت هذا الغزل وكانت فيه متكلفة، ونشرته في حياتها، وهذه جرأة عجيبة وبخاصة في العصر الذي عاشت فيه، ولو أنك طلبت من فتاة تعيش في هذه الأيام أن تقول مثل هذا الغزل، لوجدت منها إعراضا تاما.

وكان بعض أدباء عصرها قد نظم قصيدة جاء فيها:

ماذا تقول إذا اجتمعنا في غد

وأقول للرحمن هذا قاتلي

فأجابته قائلة:

إن كان موتك من قسى حواجب

كالنون أو من سحر جفن ذابل

أو غرة مثل النهار وطرة

كالليل أو من جور قد عادل

أو من لحاظ تسحر الألباب إذ

تروى لنا سلب النهى عن بابل

فهي التي فعلت ولم أشعر بما

فعلت فكيف تلومني يا سائلي

ص: 10

أنا ما قتلت وإنما أنا آلة

في القتل فاطلب إن ترد من قاتل

ومتى أريد قصاص سيف أو قنا

هل من سميع مثل ذا أو قائل

والله قد خلق الجميل ولم يقل

هيموا بلين قده المتمايل

ما قال ربك قط يا عبدي اطل

نظر الملاح ويا جميلة واصلي

فعلام تطلب بالدعاء وتدعى

زورا وتطمع في محال باطل

لبث الشعراء أجيالا طوالا يشكون من سهام العيون وسحر الألحاظ ويبكون لهجر الحبيب وامتناعه عنهم، ويتألمون لقسوته وإعراضه، ويطلبون وصاله ويتمنون قربه، فلم تنهض للرد عليهم امرأة واحدة. وفي الحق أن هذا الجواب طريف ومفحم في نفس الوقت. طريف لأنه لم يسبق له مثيل في الشعر العربي. ومفحم لقوة حجته ووضوح بينته. فأنت ترى مقدمة منطقية تنتهي إلى نتيجة لا يسعك معها إلا التسليم. أما المقدمة فهي أن المرأة آلة وليست فاعلة للقتل، والنتيجة التي تصل إليها أن الآلة لا تسأل وإنما يسأل القاتل. ثم انتقلت بعد تلك الحجة المنطقية إلى حجة دينية لا تقل إفحاما وهي:

ما قال ربك قط يا عبدي أطل

نظر الملاح ويا جميلة واصلي

ومن هنا تبطل دعوى من يطلب بدمائه المسفوكة لأن دعواه أقيمت على غير أساس كما تقول عائشة.

ولو أن الشعراء من قديم الزمن سمعوا هذا الرأي واقتنعوا به لأراحونا من بكائهم ونحيبهم على هجران الحبيب. . وأعفونا من الشكوى من بعده وصده، ولفقد الشعر العربي جزءا كبيرا من ثروته.

ولقد أضحكني قولها:

وإذا رأيت الحب من ألم الجوى

هد القوى بشدائد البأساء

عاطيه سلفات الحديد تكرما

من قلبك الجافي بكل رضاه

فاستخدام سلفات الحديد هنا مما يضحك. وهذه دعابة لطيفة.

وكانت الشاعرة قد أصيبت برمد شديد لازمها شهورا. وقد عانت منه مشقة كبيرة. فنظمت في ذلك عدة قصائد وصفت فيها ما فعله الرمد بها وما جره عليها من البلاء. وهذه القصائد جديدة في موضوعها. والظاهر أن عائشة وجدت مجالا جديدا للقول، فانتهزت فرصة

ص: 11

أصابتها بهذا المرض، وأنشأت في ذلك جملة قصائد. وكان من المحتمل أن تصور لنا حالتها النفسية في هذا الشعر، وتنقل لنا إحساسها الداخلي الذي سيطر عليها آنئذ. ولكنا - مع الأسف الشديد - نقرأ هذه القصائد فنجد أن هم الشاعرة هو التلاعب بالألفاظ والتعابير. وهذا مما لا يفعله الحزين الذي برح به الألم، وأضناه السقم. قالت:

طفا ماء الجفون وما دنت بي

سفين الشوق من جودي الوصال

وقد أصبحت في بحر عميق

من الظلماء مجهود الملال

ضللت بليل أسقامي طريقي

إليكم سادتي فانعوا ضلالي

فوا أسفا على إنسان عيني

غدا في سجن سقم واعتقال

حجبت بسجنه عن كل خل

وصرت مخاطبا صور الخيال

أإنسان العيون فدتك روحي

يهون لعود نورك كل غالي

أترضى البعد عن عيني أليف

أضر بعزمه ضيق المجال

وأنت تحاول أن تتلمس شعوراً ولو تافها في هذه القصيدة فيعجزك ذلك. وكذلك كل ما نظمته في هذا الموضوع. إلا أنك ستلاحظ أنها اتخذت من قصائدها الرمديات ميدانا للغزل. فشخصت إنسان عينها وشرعت تتغزل فيه وتتألم لبعاده، وتتمنى قربه. ومثال ذلك قولها

وقالوا مات، قل موتوا بغيظ

فجعل القصد حيا قد أتاني

وجدد بالوصال حياة روحي

أعوذه بآيات المثاني

فدعني يا خلي والخل تخلو

ونكحل بالثنا جفن الأماني

لمرآة الجمال ووجه بدر

دعاني يوسف الثاني دعاني

حبيبي بالذي أعطاك نورا

تقود به كما ترضي عناني

فهذه الأبيات تكشف عن نفسية خاصة. فالشاعرة قد استحضرت في ذهنها صورة يوسف الصديق وقد امتنع عن امرأة العزيز حين همت به وغلقت الأبواب وقالت هيت لك فقال معاذ الله. فشبت نفسها بامرأة العزيز وإنسان عينها بيوسف. ثم تخيلت أنها نهضت وغلقت الأبواب وراودت يوسف عن نفسه وهمت به فلم يمتنع عليها ولم يقل معاذ الله، وهذا الغزل مهما كان من أمره - تظهر فيه الأنوثة. وهو بذلك يختلف عن غزلها المتقدم الذي ذكرت

ص: 12

فيه الأرداف والأعجاز، والمدى تقمصت فيه شخصية الرجل ونظرت إلى المرأة بمنظاره وفكرت فيها بفكره.

وعائشة أول شاعرة تقول هذا الغزل الأنثوي المكشوف. وهي بذلك قد خرجت على العرف والمألوف. ولكنها كشاعرة لا يضرها هذا ولا ينقص من قيمتها ولا يحط من قدرها. وأي شاعر موهوب حافظ على العرف ووقف عند التقاليد؟!

وقد كررت في قصائدها الرمديات كثرا من الصور والمعاني والتراكيب. . ومثال ذلك قولها

طفا ماء الجفون وما دنت بي

سفين الشوق من جودي الوصال

وقولها:

سفينة العين قد فازت من الغرق

وأشرقت تزدهي من ساحل الحدق

فليس أمامها غير صورة سفينة. فتارة تقول (سفينة الشوق) وتارة أخرى تقول (سفينة العين).

ولعائشة التيمورية رثاء جيد. ولا عجب في ذلك فالمرأة بطبيعتها تجيد البكاء وتحسن العويل وبخاصة إذا أصيبت بفقد بنتها أو أبنها أو والدها أو أمها، ومن أحسن مراثيها وأشهرها قصيدتها التي رثت بها بنتها (توحيدة) ومطلعها:

إن سال من غرب العيون بحور

فالدهر باغ والزمان غدور

ولكن يجب أن نلاحظ أن الأبيات الأولى من القصيدة فيها تكلف، وأن الشعور الداخلي فها لا يكاد يرى وأن الجزء المؤثر من هذه القصيدة يبدأ من قولها:

طافت بشهر الصوم كاسات الردى

سحرا وأكواب الدموع تدور

بعد أن ذكرت المرض وما فعله ببنتها وتحدثت عن الطبيب الذي جاء وبشر بالشفاء، أدارت حوارا على لسان بنتها فانطقها بأبيات إذا قرأها الإنسان تحدرت منه العبرات. وهذه هو الشيء الذي أسبغ على تلك القصيدة روعة، وأكسبها قوة وضمن لها الخلود. انظر إلى قولها.

أماه قد عز اللقاء وفي غد

سترين نعشي كالعروس يسير

وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي

هو منزلي وله الجموع تصير

ص: 13

قولي لرب اللحد رفقا بابنتي

جاءت عروسا ساقها التقدير

وتجلدي بازاء لحدي برهة

فتراك روح راعها المقدور

عودي إلى ربع خلا ومآثر

قد خلفت عني لها تأثير

صوني جهاز العرس تذكارا فلي

قد كان منه إلى الزفاف سرور

جرت مصائب فرقتي لك بعد ذا

لبس السواد ونفذ المسطور

للكلام بقية

محمد سيد كيلاني

ص: 14

‌الولايات المتحدة الأمريكية

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

- 1 -

(لم تتفق السماء والأرض على تهيئة مكان لكني الإنسان خير من هذا المكان).

جون سميث؛ مؤسس مستعمرة فرجينا 1607

(إننا لنؤمن ببداهة هذه الحقائق: وهي أن الناس جميعا خلقوا سواسية وأن خالفهم وهبهم حقوقا معينة لا تقبل التحويل منها الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة)

وثيقة إعلان الاستقلال. يولية 1776

ثالثة دول ثلاث تتحكم في السياسة الدولية في عصرنا الحاضر. . ومصير الحضارة القائمة ومستقبل العالم أمانة في أعناقها. . وعلى هذه الدول الثلاث وهي بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة تقع تبعة ما يصيب الإنسانية والإنسان من خير أو ضر.

وهي أرض الحرية. . وكانت عند كشفها وما تزال ملجأ المعذبين والمضطهدين من أهل أروبا، وقد حرص الشعب الأمريكي أشد الحرص على توكيد حريته، وعلى تحقيق سعادته، وأعلن ذلك في صراحة تامة في وثيقة إعلان استقلاله 1776.

وهي دولة فتية وأمة غنية تمتاز بعظم ثروتها الزراعية والمعدنية والصناعية، وتشغل مساحة واسعة تمتد من المحيط الأطلسي شرقا إلى المحيط الهادي غربا، وتزيد مساحتها على عشرة أمثال مساحة القطر المصري، وهي أكبر من أستراليا وأصغر قليلا من أوربا. . وأما عدد سكانها فيزيد على 120 ملين نسمة منهم نحو 12 مليونا من الزنوج يسكنون في الولايات الجنوبية.

وتتكون هذه الدولة من عدة ولايات، كان عددها في أول الأمر وعند إعلان الاستقلال ثلاث عشرة ولاية، ويبلغ عددها الآن ثمانيا وأربعين ولاية، وقد اتحدت هذه الولايات مع بعضها اتحادا فد رائيا وكونت جمهورية الولايات المتحدة وتحتفظ كل ولاية إلى الآن باستقلالها، فلكل منها حكومتها وبرلمانها وقوانينها وتشترك الولايات جميعا في الحكومة المركزية التي تشرف على المسائل العامة التي تهم الولايات جميعا، مثل الدفاع والسياسة الخارجية

ص: 15

والتجارة الخارجية، وسنتناول هذا الموضوع بالتفصيل فيما بعد.

ويتحدث الناس عن هذه الدولة فيقولن (أمريكا) ولكن هذه التسمية ليست صحيحة، فإن الولايات المتحدة ليست إلا ثالثة دول ثلاث تحتل القارة الأمريكية الشمالية. أما الدولتان الأخريان فهما كندا والمكسيك. ولكن الولايات المتحدة أعظم الدول الثلاث شأنا وأقواها أثرا. . ومن هنا أطلق عليها (أمريكا) وهو من باب إطلاق اسم الكل على الجزء لما لهذا الجزء من أثر وخطر.

عالم جديد:

ظل سكان الدنيا القديمة يجهلون أن هناك أرضا واسعة لم تكتشف بعد حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. وكان كشف القارة الأمريكية مفاجئا: ذلك أن البرتغاليين عملوا كل جهودهم للوصول إلى الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح. أثار هذا النجاح ثائرة إسبانيا، فأرادت أن تصل إلى الهند أيضا. هنا تقدم كرستوف كولمبس وهو بحار إيطالي يعرض على ملك إسبانيا وملكتها القيام بتحقيق الفكرة عن طريق السير غربا فوافقاه، وزوده الملك فرديناند والملكة ايزابلا بحاجته من الرجال والمؤن والسفن وبدأ كولمبس رحلته في أغسطس سنة 1492 واجتاز المحيط الأطلنطي أو (بحر الظلمات) كما كان يسمى. وطالت رحلته وثار عليه بحارته، ولكنه استمهلهم فأمهلوه، ووصل كولمبس إلى جزائر الهند الغربية وقد اعتقد خطأ أنه وصل إلى جزائر الهند الشرقية والهند. ولم يعرف كولمبس أنه قد وصل إلى قارة جديدة هي أمريكا.

وأما الرجل الذي أثبت أن كولمبس لم يصل إلى جزائر الهند الشرقية وإنما وصل إلى قارة جديدة كانت مجهولة، فهو أمريجو فسبوتش وإليه تنسب قارة أمريكا. وأما كولمبس فإن اسمه لم يطلق إلى على جمهورية كولومبيا بأمريكا الجنوبية وعلى ولاية كولومبيا البريطانية بكندا في أمريكا الشمالية.

وبعد كشف القارة هرع إليها كثير من المهاجرين من أهل أروبا من إسبانيا والبرتغال وإنجلترا وفرنسا وهولندا، وأصبحت هذه القارة مقصد المضطهدين والمعذبين من أهل أروبا والطامعين في الإثراء وجمع المال، وكثرت بها المستعمرات.

على أن السكان الجدد لم يلبثوا بعد أن استقروا أن نزعوا إلى الاستقلال، وقد كانت

ص: 16

الولايات المتحدة أسبق هذه المستعمرات جميعا إلى الاستقلال إذ حققت استقلالها في 1776 واعترفت به الدول 1883.

عالم أفضل

ظلت الولايات الأمريكية تنتهج سياسة العزلة فإن شعبها قد آثر أن يحتفظ بحريته وأن يبتعد عن مشاكل العالم القديم المعقدة، ولكنها في خلال الحرب العالمية الأولى وجدت أن اضطراب العالم القديم سيؤدي حتما إلى اضطراب شؤونها الاقتصادية ويشل حركتها التجارية والصناعية، ولذلك اضطرت أن تخرج على مبدأ الحياد الأمريكي وأن تساهم في إعادة السلام إلى العالم القديم، ودخلت الحرب في جانب الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وحلفاءهما) وانتهى الأمر بانتصار الحلفاء وخذلان ألمانيا.

ولما قامت الحرب العالمية الثانية 1939 وقفت الولايات المتحدة الأمريكية بجانب إنجلترا وروسيا للقضاء على الخطر الألماني. . وفعلا وفقت هذه الدول وحلفاءها في القضاء على هتلر. وتحتل قوات إنجلترا وروسيا والولايات المتحدة وفرنسا الأراضي الألمانية منذ 1945 حتى الآن.

ولا يستطيع أحد أن ينكر فضل الولايات المتحدة الأمريكية على إنجلترا. . فبرجالها وعتادها كسبت إنجلترا الحربين العالميتين. الأولى والثانية.

وليس يعنينا نحن الشرقيين مدى ما قدمته وتقدمه الولايات المتحدة الأمريكية من مساعدات لإنجلترا أو لغيرها. . وإنما يعنينا أن نعرف حقيقة شعورها بالنسبة لنا ومدى استعدادها لخدمة قضايانا وهي قضايا الحق والعدل والحرية، وكذلك يجب أن نعرف الشعب الأمريكي بمشاكلنا وقضايانا حتى يتخذ لنفسه سياسة تقوم على الحق والعدل. ذلك أن الشعب الأمريكي يؤمن بالحرية أشد الإيمان ولا يرضى بها بديلا، وتاريخ أمريكا ينطق بهذا.

وقد وصف ترومان رئيس جمهورية الولايات المتحدة عند توقيعه ميثاق هيئة الأمم المتحدة في 25 يونيه 1945 مركز أمريكا في العالم الحديث بأنها (بناء متين يمكننا أن نقيم عليه عالما أفضل). وبدأت أمريكا تشترك في توجيه السياسة الدولية اشتراكا تهدف به إلى سيادة الديمقراطية ومقاومة الطغيان والدكتاتورية والقضاء على أشد أعداء الإنسان: الجوع والشقاء واليأس.

ص: 17

لكن أمريكا تنكبت الطريق ولم يصادفها التوفيق في حل أول مشكلة نشأت في الشرق الأوسط عقب انتهاء الحرب 1945 وهي مشكلة فلسطين وقيام إسرائيل؛ ذلك أن قيام إسرائيل وطرد العرب من أوطانهم وديارهم جريمة لا تنكر وإثم عظيم. . ولا نستطيع نحن الشرقيين أن نبرئ أمريكا من أنها لم تساعد إنجلترا والصهيونيين فيما ارتكبوه من إثم وجريمة وخزي وعار.

وأنا أحب أن أثبت هنا أن العطف الأمريكي على اللاجئين يقابل بالشكر من ناحية العرب والشرقيين. . ولكني أرى أن أمريكا قد لوثت تاريخها بوقوفها في جانب الإنجليز والصهيونيين في مأساة فلسطين.

أيها الأمريكان:

أنتم قوم تقدسون الحرية وتحترمون إرادة الشعوب وقد أعلن رئيسكم ترومان في 20يناير 1949 في بيانه إلى الكونجرس أن (السياسة الاستعمارية القديمة التي مؤداها الاستغلال من أجل الربح فقط ليس لها محل في سياستنا. وكل ما نبغيه هو التعامل الديمقراطي العادل. . . وبمساعدة الأعضاء الأقل حظا على مساعدة أنفسهم يمكن فقد أن تحيا الأسرة الإنسانية حياة لائقة راضية. . تلك الحياة التي هي من حق كل الناس، والديمقراطية وحدها هي التي تستطيع أن تمد شعوب العالم بالقوة والحيوية التي تحركهم إلى العمل المنتصر لا ضد الطغاة من البشر وحدهم. بل أيضا ضد أعدائهم الأقدمين: الجوع والشقاء واليأس؟!

أيها الأمريكان:

نحن قوم نطالب بالحرية وانتم قوم تقدسون الحرية. فأحذروا أن يجركم الثعبان البريطاني إلى مالا نحب وما لا ترضون فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.

أبو الفتوح عطيفة

ص: 18

‌3 - رسالة المربي

الطريقة العملية - مميزاتها - الطريقة العلمية - عملية النمو

للأستاذ كمال السيد درويش

لجأ رجال التربية إلى الطريقة الطبيعية السيكولوجية يبحثون خلالها عن الطريقة العملية التي يمكن اقتباسها لإدخالها في المدرسة الحالية.

لقد زودت الطبيعة الإنسان بغرائزه ففرضت عليه أن يتعلم سواء أراد أم لم يرد. . . أفلا تكون قد زودته في نفس الوقت بالطريقة العملية التي نحن بصدد البحث عنها وعن مميزاتها؟ قد نجدها لدى الإنسان حين يستجيب لغرائزه. ولكن الإنسان الحالي المتحضر يتحكم في تسيير سلوكه مراعيا في ذلك تقاليد المجتمع الحالي فلا يسمح لغرائزه بالظهور في شكلها الطبيعي إلا بمقدار ما اصطلح المجتمع على السماح به.

ولذلك يجب علينا أن لا نبحث عن الطريقة الطبيعية للتعلم لدى هذا الإنسان المتحضر المتكلف؛ والذي يظهر غير ما يبطن ويعمل غير ما يشتهي. وإنما يجب علينا أن نبحث عنها لدى الإنسان البدائي الذي يعيش على الفطرة أو لدى الطفل الناشئ الذي يطلق على سجيته ولا يعبأ بمن حوله من الناس. ولو نظرنا إلى الطريقة الطبيعية التي يتعلم بها الإنسان البدائي أو الطفل الناشئ لوجدنا أنها طريقة عادية جدا؛ طريقة طبيعية تتمشى مع الطريقة السيكولوجية. يتعلم الطفل في منزله كل شئ، يتعلم الكلام ويتعلم المشي ولكن كيف؟! لم يطلب إليه والده أن يتهيأ ليأخذ دروسا في الكلام أو في كيفية الأكل وهلم جرا كما تفعل مدارسنا الحالية؛ ولكنه اقتبس ذلك كله دون أن تشعر الأسرة بكيفية تعلمه. هو يتعلم عن طريق غير مباشر، عن طريق حياته في الأسرة وعن طريق تفاعله معها. هو في حاجة إلى أمه دائما لأنت لديها الثدي مصدر غذائه. فإذا ابتعدت عنه أمه لتقضي عملا ما، شعر بحاجته الماسة إلى ندائها. قد يلجأ إلى البكاء ولكن البكاء قد يؤدي إلى مجيء الأخ أو الأخت أو الوالد فهل يجد بغيته عندهم؟! كلا. هو يريد أمه بالذات دون غيرها. وعلى ذلك فهو مضطر إلى ندائها. وهكذا ينطق كلمة (ماما) أو هكذا يتعلم الطفل كيف يتكلم. مشكلة تثور في وجهه؛ مشكلة حيوية بالنسبة له تضطره إلى التفكير في حلها والتغلب عليها. ويشعر الطفل أثناء ذلك بقيمة ما يتعلمه فلا عجب إذا رأينا سلوكه خلال ذلك سلوكا

ص: 19

تلقائيا. فهو ينطق بمحض رغبته ويتعلم بمحض إرادته، ثم سرعان ما نجده يستعمل ذلك العلم - الذي كان غرضا في أول الأمر - وسيلة لتحقيق أغراض حيوية أخرى ترتبط به. فكلمة ماما سرعان ما تجر معها غيرها من الكلمات (عاوز ماما) وهكذا.

هذه هي الطريقة العملية للتعلم داخل الأسرة وهي نفسها الطريقة الموجودة لدى الإنسان البدائي ولدى الطبقات التي ما زالت حتى اليوم تعيش على الفطرة. يصبح الابن فيشاهد والده متوجها إلى الحقل فيسأل: لماذا؟ ويذهب مع والده فيراه وهو يزرعه. ينظر إليه أولا ثم سرعان ما يشترك شيئا فشيئا، في حراسة المواشي وإطعامها أو في السير خلف المحراث، وهكذا يشترك اشتراكا عمليا في الزراعة فيتعلمها لأن عليها تتوقف حياته وحياة أسرته. لقد امتص واشتق جميع ما يلزمه من معلومات حتى أصبح في النهاية فلاحا أصيلا مع أنه لم يتلق أي درس في أصول الزراعة.

هذه هي الطريقة الطبيعية العملية السيكولوجية التي يمكن أن نلاحظ عليها الميزات الآتية:

1 -

إن المتعلم يبدأ فيها كنتيجة لاعتراض مشكلة ما سبيل التعلم، وإن مدى استجابته لها يتوقف على مدى حيويتها بالنسبة إليه.

2 -

إن نزوع المتعلم إلى حل مشكلة نزوع تلقائي نابع من ذات نفسه وغير مفروض عليه من الخارج.

3 -

إن ظاهرة التغير - لا الجمود - هي التي تلازم سلوك المتعلم، وإن المعلم هو الذي يسيطر على تغيير سلوكه حتى يصل إلى تحقيق هدفه النهائي.

4 -

حيوية المادة التعليمية وثبوتها وعدم قابليتها للنسيان وكيف يمكن أن تنسى وقد أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياة الإنسان.

5 -

إن المتعلم يتعلم فيها عن طريق غير مباشر بمعنى أن التعليم ليس هدفا في حد ذاته، وإنما هو فرض يتحول إلى وسيلة ترمى إلى تحقيق هدف جديد. . يغدو بدوره وسيلة أخرى تفتح أمام الإنسان آفاقا جديدة وهكذا تظل المعلومات مستعملة باستمرار فتظل لذلك دائما أبدا خبرة حية نابضة في القلوب والأذهان.

6 -

إن ظاهرة النمو والاستمرار في التعلم صفة أساسية في الشخص الذي يتعلم بهذه الطريقة؛ لن ينقطع تعلمه ما دام يحيا ويعيش وسيظل يطلب العلم من المهد إلى اللحد.

ص: 20

7 -

إن الناحية العملية تغلب على هذه الطريقة. فالطفل داخل الأسرة كالإنسان البدائي في الغابة وكالفلاح في الحقل يعتمد على الناحية العملية في تعلمه إلى حد كبير.

لقد تعلم الطفل النطق لينادي أمه وقد استجابت لندائه فانحلت المشكلة. . ولكن ماذا يفعل إذا ناداها فلم تلب النداء؟! هذه مشكلة جديدة تستدعي منه التفكير والعمل على حلها. قد يحاول الذهاب إليها بنفسه سعيا على أربع. . ولكن المشي أفضل لأنه أسرع فليتعلمه هو الآخر. وهو في كل هذه الأحوال يتعلم بطريقة عملية؛ يقع حينا ويسير حينا آخر. إن الطريقة الطبيعية ذات مظهر عملي يتجلى بوضوح في ممارسة المتعلم بنفسه لما يتعلمه.

8 -

إن هذه الطريقة تتمشى مع الطريقة السيكولوجية بمعنى أنها تستند إلى غرائز الإنسان. فنداء الطفل لأمه مصدره حافز غريزي هو البحث عن الطعام.

9 -

إن هناك تماثلا وتشابها بين هذه الطريقة وبين الطريقة العلمية الحديثة؛ تلك التي وصل إليها علماء العلوم التجريبية مثل علماء الطبيعة أو الكيمياء، والتي تعتبر في الحقيقة سر ازدهار وتقدمهذه العلوم بل وسيطرتها على توجيه دفة الحضارة الإنسانية في العالم بأسره. تلك الطريقة التي لا تؤمن إلا بالتجارب لأنها سبيل التأكد من صحة الفروض. ولو نظرنا إلى موقف الطفل أثناء تعلمه لوجدناه يشبه في طريقة تعلمه إلى حد كبير جدا عالم الطبيعة أو الكيمياء أثناء تجاربه داخل معمله. ينادي الطفل أمه فتستجيب إليه أحيانا ولكنها أحيانا لا تستجيب. عند ذلك يجرب طريقة أخرى غير النداء. . . يلجأ إلى الحبو ولكن الحبو بطئ. عند ذلك يلجأ إلى المشي. . وهكذا يستمر في تعلمه؛ يجرب هذه الطريقة ثم يتركها إلى غيرها وهكذا. وهو في أثناء تجريبه يحذف الخطأ فلا يتقيد به ويحتفظ بالصواب ويستمسك ما دام يحقق أغراضه في الحياة. وكذلك شأن العالم في معمله بين الغازات والمساحيق وبين الأواني والمخابير. يختبر خواص الأكسجين مثل فيعرف أنه يساعد على الاحتراق. قد يجرب اكتشاف صفات أخرى فإذا لم يجد احتفظ بهذه الصفة المتميزة. ولكن لا يقف عند تحقيق غرضه واكتشافه. . بل يتخذ من هذا الاكتشاف وسيلة إلى تحقيق أغراض أخرى وقد نجح فعلا في استخدام الأكسجين في عمليات اللحام وفي صهر المعادن. وما لنا نذهب بعيدا وقد كان تحطيم الذرة غرضا يتجه إليه العلماء فأصبح الآن وسيلة إلى استخدامها في التدمير كما تبذل الجهود الآن لاستخدامها كوسيلة من وسائل

ص: 21

البناء والتعمير.

ألا يحق لنا بعد توضيح هذا التماثل والتشابه بين الطريقتين الطبيعية والعلمية أن نقول إن الطريقة التي يتعلم بها الطفل أو الإنسان البدائي هي طريقة علمية أيضا؟!

لقد وضحنا مميزات الطريقة الطبيعية التي يتعلم بها الطفل داخل الأسرة، ولكننا لم نوضح بعد موقف ولي الأمر في الأسرة من الطفل خلال تعليمه، وكيف يكون؟ فإن ذلك بالنسبة لنا كمربين من الأهمية بمكان حتى نستنتج حدود رسالة المربي كما يجب أن تكون.

أما موقف الأم من ابنها فهو تمهيد السبيل أمامه حتى يستطيع السير فيها. تسدد محاولاته بإرشاده وتصحيح كلامه. تصحيح خطواته هو، وإرشاده إلى مواضع الخطأ في كلامه هو. هي لا تفرض عليه كلاما معينا أو السير وفق خطوات مرسومة. تصحح كلماته وجمله حتى تساعده على التعبير عما يجول بذهنه هو من رغبات وآراء قد تبدو مضحكة بالنسبة لنا ولكنها حيوية بالنسبة إليه. وتقف الأم نفس الموقف من طفلها حين يتعلم المش تحوطه بعنايتها وتقيه ما قد يتعرض له من أخطار. تترك له الحرية في المشي ولكن بعيدا عن أماكن السقوط. تأخذ أولا بيديه ثم بإحدى يديه، ثم تتركه ولكن وهي أقرب ما تكون إليه حتى إذا اختل توازنه استند إلى صدرها الحنون.

موقف الأم، هو موقف الممهد المعبد المذلل للعقبات، لا موقف المتحكم المسيطر المتربص للزلات.

هذا هو الموقف الذي يجب أن يقفه المربي ممن يتعلم على يديه. وقد شبه بعض العلماء تعهد المربي لتلميذه وهو يتعلم، كتعهد الزارع لنباته حين ينمو، وشبهوا نمو التعليم في هذه الحالة بنمو النبات. تنو الشجرة منذ أن كانت بذرة في باطن الأرض إلى أن تذبل وتموت. كذلك يجب أن يشبه التعليم النبات في نموه؛ فيستمر من المهد إلى اللحد، والنمو في النبات نمو تلقائي. تنمو الشجرة من تلقاء نفسها وبنفسها، ولا يستطيع الزارع إصدار الأوامر إليها بالنمو سريعا أو بطيئا، وكذلك يجب أن يكون نمو المتعلم تلقائيا أيضا.

ولا يترك النبات مع ذلك هكذا دون عناية؛ بل إن الزارع يحوطه بعنايته دائما ويلازمه خلال أطوار نموه، وهكذا يجب أن لا نترك المتعلم نفسه.

والنمو في النبات عملية مشتركة بين الزارع وبين النبات. . وكذلك يجب أن يكون التعليم

ص: 22

عملية نمو متواصل مشترك بين المعلم والمتعلم.

ويشبه موقف الزارع من النبات الموقف الذي يجدر بالمربي أن. . يقفه فالزارع لا يترك نباته حرا ينمو كما يشاء، وإلا اعوج عوده، وما استقام له ظل قط. كما أنه لا يتركه بمفرده ليقاوم آفات الزراعة من ديدان وحشرات، وإلا كان معنى ذلك أنه يتركه ليموت. وكذلك لا يجدر بالمربي أن يترك تلميذه هكذا حرا يفعل ما يشاء، ولكن ليس معنى ذلك أيضا أن يقيد حريته ليتحكم فيه ويستعبده، وهل يتحكم الزارع في النبات فيطلب من بذور الجرجير أن تنتج تفاحا، أو يأمر القمح بالنمو سريعا حتى يحصده بعد شهر، بينما هو يحتاج إلى شهور؟! كلا ولكنه يرعى نباته ويقف منه في نموه موقف المدافع عنه ضد كل ما يعوق سير هذا النمو المتصل. يلتقط الديدان ويحرقها، ويجلب السماد، ويمنح نباته الماء ولكن بمقدار، وفي ميعاده بالذات. وكذلك المربي سواء كان ولي أمر أم غيره، يجب ألا يصدر الأوامر إلى ابنه بأن يصبح طبيبا أو مهندسا، وألا يجبره على تعلم ما لا يريد، وأن لا يحرمه من تعلم ما يريد. وإنما يجب على المربي أن يقدم للمتعلم ما يطلبه بنفسه من زاد علمي، وأن يزيل من طريقه العقبات حتى يستمر في تعلمه وإشباع ميوله ورغباته. . وهذا يضطر المربي إلى التفكير فما يجب تقديمه للمتعلم، فيعمل هو الآخر ويشترك. . وتيسر عملية التعلم سيرها الطبيعي: نمو مشترك وعمل متواصل من جانب المتعلم والمعلم، وكما أن النمو هو دليل الحياة في النبات. فهو كذلك دليل على حياة المتعلم أيضا.

للكلام صلة

كمال السيد درويش

ليانسيه الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي مدرس

بالرمل الثانوية

ص: 23

‌رحلة إلى الحجاز

للشيخ مصطفى البكري الصديقي

للأستاذ سامح الخالدي

- 2 -

بين رحلة الشيخ الأولى إلى الحجاز سنة (1130هـ) والثانية (1145هـ) خمسة عشر عاما. وفي هذه الرحلة وصف أدق للطريق من الأولى، وقد رافقه فيها كل من الشيخ جرار، كبير جبل نابلس، والشيخ حسن بن مقلد الجيوسي شيخ بني صعب، وكلاهما من شيوخ الحزب القيسي في جبال نابلس.

وقد اجتمع الشيخ بعبد الله باشا، وذلك بواسطة محمد ابن مكي الغزي، وكان الأخير في معية الباشا، ومن أتباع الشيخ، وعبد الله باشا أحد ولاة الشام، وقد كان واليا لها سنة (1143هـ) أي قبل سليمان باشا العظم.

ويتعرض الشيخ إلى ذكر أذية الأعراب للحج، ويصف لنا زيارته للمدينة، ومكة، وينزل في مكة في بيت الشريف يحيى ابن بركات ويمدحه ويثني عليه، ولا يترك الشيخ هذه الفرصة تمر، فينشر طريقته في الحجاز، ومن بين الذين أخذوا عليه العهد مدرسان في الحرم الملكي.

ثم يصف لنا طريق رجوع الحج، وما قاساه في طريقه، ويذكر الجردة، وقلعة هدية التي عمرها سليمان باشا العظيم، وقلعة (جفيمان) التي عمرها الوزير عبد الله باشا.

ولنترك الشيخ البكري يقص علينا الآن رحلته الثانية إلى الحجاز فيقول:

(وبعد فيقول العبد الفقير للمولى الغني، مصطفى سبط الحين الصديقي، لما شاء الحق التوجه إلى بيت الله وزيارة رسول الله وقد هيأ الله للمسير لوازمه وسهل أسبابا وتوجهت الهمة، غب عزمة، للمنازل الرفيعة، وذلك بعد تكرار سنة استخارة وتحرر استشارة، وكان المسير إلى المقام الخطير، يوم السبت خامس شوال في ثاني ساعة منه، حان الارتحال، عن الأهل والأولاد والعيال، عام خمس وأربعين ومائة وألف (1145هـ - 1732م) وكنا ودعنا خلانا وأصحابا، وجيرانا وأحبابا، وإخوانا وأنسابا، ولم ينزعج الفؤاد، إلا لوداع

ص: 24

ثمرات أكباد من الأولاد، لم تدر من عجمة إعرابا، فطفت المدامع على الخدود بروقها لوامع، مرسلات كالهوامع، القوامع التي لا تقر انسكابا، ولم نخرج من الدار حتى ودعتها كالحرم الجامع للأنوار، بركعتين، وفيض العين كالعين، أضحى منسابا وذكرت بعض ما ورد في الخبر لمن أراد السفر للسفر هلاله الأبدر لا يقدر حسابا. وفيه من قاله رزق خير ذلك المخرج وصرف عنه شره، وهو بسم الله واعتصمت بالله، وتوكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

في وداع الشيخ البكري:

(وممن خرج للوداع شيخنا الأوحد، بيضة البلد، جانب الشيخ محمد الخليلي المفرد، ومعه جمع يحمد، رفع الله منهم ومنه جنابا، وقد ألهم في تلك المواقف دعوات يعجب منها صاحب المقاصد والمواقف، ألاقت دواة المدامع وأجرت انسحاب الواقف، إذ جبرت في الميادين جوابا، وتذكرت هنا قول قرنيا السيد نصري نجل السيد أحمد الحصري الحسيني، حين ودع شيخه من إقامة خليفة بعده فأحسن ذهابا وإيابا، الشيخ عيسى الكناني منحهما ديانى صوابا وحباهما آدابا (السم من ألسن الأفاعي؛ أيسر من قبلة الوداع).

(وحين عزمت على السير إلى معالم الميراث والمير، أحببت أن أضع رحلة تجمع ما يحصل منه خير، وأن أسميها (الحلة الرضوانية الإنجازية الدانية، في الرحلة الإحسانية الحجازية الثانية).

(وبعد أن ودعنا أولى الوجوه النيرة، وسرنا إلى قرية (ألبيرة) بمقلة دامية غير قريرة، واحشا بوحشة الفراق كسيرة ولدي أرجائها الندية، ودع صديقنا ابن هندية.

ومنها أتينا (الحلزون) بهون، وعاد الرفاق مصاحبين العون والصون، وارتحت هنية عند بير زيت ودعيت إلى المبيت فأبيت، ولما صليت استدعيت كاسات قهوة سودا وكان الفراق سقاني الحمرا، راجيا بشرب ابنة اليمن يمنا يطفي من الزفرات جمرا، وجلسنا في قرية (عارورة) جلسة خطيب مشهورة، وأتينا (المزارع) والقلب من الندم قارع، وبتنا وقد تخلف زارع الجميل، الجاني بتأخره فلم يجن ثمرة الإكرام من الجميل، مع ادعائه الحب الرابي كالحب المرابي وأنه في فنائنا المحلي لدى القرع بحلاوة القرع تربى، فكانت الليلة ليلة محب سليم، أو ضرير وقع في غدير، وخيم، سماءها ناقية من الصفا، أنقى من الراحة في

ص: 25

حان الوفا، وأسريت وقلت:

قد علونا متن الخيول صباحا

كي نرى في السرى وجوها صباحا

فتلقى من أهل (سلفيت) ناس

لست ناس لهم عقودا صحاحا

وهذا الأخ ماله في الصداقة أخ، وقد ترجمته في (أردان حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان) وفي الرحلة القدسية الأولى والثانية، أسكنه الله جنة قطوفها دانية، وتلقانا أهل (مردا) من لم نجد لدعوتهم مردا، وبتنا في (جماعين) فجاءنا الأخ المساعد والمعين، الحاج حسن مقلد (الجيوسي) ونزلنا معه إلى نابلس.

في نابلس ومنها إلى كور فجينيين:

(وذلك نهار الاثنين ورحلنا يوم الخمس من (الدرويشية) إلى قرية كور غور بأمور فرشية، وكنا حصلنا في نابلس بسطا بساطه مهدور، والإخوان يناجون الودود في الأسحار بكبد مقصور، وقد حمى الثغر منهم بالوداع وهو مبرور.

(وبتنا ليلة الجمعة في (كور) ونصبنا الخيام يومها المشكور، وسرنا يوم السبت غب وداع مذكور، إلى حوض السيلة والدمع زاد الفراق سيلة، وكنا نزلنا (رامين) لسلاح الافتضاح رامين، وفي (الحوض) ودعنا إخوان الصفا وسرنا إلى (برقين) وفيها ورد الأخ الأمجد الشيخ أحمد الموقت ناو على الحج، وعمدنا (جينين) واجتمعنا بالمجذوب ذي الفنون، الشيخ أحمد قبون، وكان قد صحبنا الشيخ خاطر، فبشر بما يسر الخاطر

من الجالوت إلى جسر المجامع إلى الطيبة فهما فأريد:

(وارتحلنا إلى (الجالوت) المباح غيره لا كنهر طالوت، وكنا اجتمعنا بكبير جبل نابلس الشيخ جرار، عازما على التوجه إلى الحجاز وتلك الدار، ولم يصحبنا إلا طالب الاغتنام، المدعو في الآكام غنام، وسلامه القيصني قاصدا بالخدمة الاستخدام، وجزنا جسر المجامع، وحزنا البسط الجامع، واسترحنا لدى (الصما) والأذن عن الفحشاء صما وقلت:

عدت أذني عن الفحشاء صما

سويعة إذ مررت بأرض صما

وطاب الوقت لما أن حللنا

بطبية وأفنى والحق غما

ومن (الطيبة) نحونا (أريد) والوجه يرغى ويزيد.

ص: 26

في المزيديب مع الحج:

(ومنها في الصباح، عمدنا المزيديب للاصطباح، ولما قبيل الظهر إليه وصلنا، وعلى الهموم والأكدار صلنا، رأيت حجا موفورا، وجمعا موقورا، وأول من تلقانا، وأكرم بالتأهيل مثوانا، صديقنا المعجون المعروك في أواني السلوك إلى ملك الملوك الشيخ يوسف المملوك، المنظوم المحبوك، في سلك أهل اليقين لا الشكوك، وهذا الذي صدق فيه، قول النبيه بملء فيه:

وإذا العناية ساعدت عبد الشرا

نفذت على ساداته أحكامه

وأنزلنا في خيامه، وقابلنا بإكرامه، وجاءنا بعد أن استقر بنا المقام في فسيح الخيام، الصديق الرفيق والخطيب الإمام، الشيخ نور الله الجامعي وولده الأخ في الله الشيخ عبد الحق المراعي، فسلما سلاما التزام، واشتياق ينبئ عن أوام، ورأيت في مزاج ولده كثير فتور، فقلنا يزول بمعونة الغفور النور

اجتماع الشيخ البكري بالوزير عبد الله باشا:

(واجتمعنا بواسطة الصديق الأمجد، محمد أفندي مكي المفرد، بالوزير عبد الله باشا، منحه الله انبساطا وانتعاشا.

(وجاءني محب أهل الصلاح، الشيخ محمد صلاح، وهو ممن يسلم للطائفة العلية الملية الأقداح، لما له لائح الحق الصراع لاح، سيما الأكبر فقدألقى لدى شطه المراسي وأرمى السلاح، ومعه الباب من الفتح الملكي المملوء الأقداح، بالكلام على الأسماء الإلهية المجلوة الألواح، وطلب أن يسمعه الفقير في كل نزل حضره أو أكثر تغنى عن الراح، ولم يزل إلى أن ختمه في العود الجليل فارتاح.

في الطريق إلى المدينة المنورة:

وتوجهنا نقطع المراحل الحجازيه، المسماة في الحلة الحقيقية لا المجازية في الرحلة الحجازية، إلى أن وصلنا (العلا) بحول طول من جلا وعلا. وبتنا ثاني ليلة على نية الإقامة، وكانت للأخ الشيخ عبد الحق كرامة، فانه انتقل ثلث الليل الأول، إلى جور الكريم الرحيم الأول، وصبر والده وصبر مجاد، ودفناه قرب الجبل في تلك المهاد. رحمة الّله.

ص: 27

(وقد غبطه على هذا الاندراج، لما في الحديث الشريف الذي يرفعه جابر، (من مات في طريق مكة لم يعرضه الّله يوم القيامه، ولم يحاسبه) وقد ذكرت هذا الأخ في الرحلة الثانية القدسية، لأخذه الطريق واندراجه في النسبة الأنسية،

(ثم سرنا قاصدين مدينة الرسول، دار الحصول، ومنزل السول، قبلة الإسلام، ودار الأعيان وارض الهجرة، ومبوء الحلال والحرام، حرم الأمان المفتوحة بالقران، التي رمضانها وجمعتها خير من ألف رمضان وجمعة فيما سواها من البلدان، والتي لا يدخلها رعب المسيحالدجال ولا الطاعون، ومن كاد أهلها انماع كما ينماع الملح في الماء، فليحذر الكائد المفتون، المؤذي جيران قرة العيون، فان الأمين المأمون لا يتخلى عنهم ولا يكون. نسأل الّله أن يلهم ولاة الأمور إلى السعي في إكرامهم كما يكرمون، والتوجه إلى ما فيه راحتهم وأمنهم من كل ضرر من حرب أو غيرهم يكون.

للرحلة بقية

سامح الخالدي

ص: 28

‌رسالة الشعر

إلي هناء. . .

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

(هناء): يا ملاحن الأطيار

وفرحة النسيم بالأزهار

وبسمة الخميلة المعطار

وضحكة الأمواج للدراري

ورقصة الغصون في الأسحار

ورنة الأقداح والأوتار

ويا صدى ترنيمة الهزار

ويا ربيع الحب في آذار

لو لاك ما جن هوى قيثاري

وفاح عطر الحب في أشعاري

(هناء): يا بهجة عين الرائي

يا كوثر الجوانح الظلماء

يا نفحة الزنبقة العذراء

يا عبق الطيوب والأشذاء

يا قمرا أشرق في سمائي

أقسمت بالحاجر الشهلاء

وبابتسام الشفة اللمياء

وبائتلاف الليلة القمراء

لو لاك ما طربت للغناء

ولا تنسمت شذى الأنداء

(هناء): يا إشراقة الجمال

ويا مثالا صيغ من جلال

يا بسمة الأوطار والآمال

رفت على ثغر المنى حيالي

أهواك يا أنشودة الليالي

رددها في مسمع الأجيال

شاعرك المفتون بالخيال

فالوتر النشوان بالوصال

لما يزل يقتات بالمحال

ويستثير الشك بالسؤال

(هناء): يا ترتيلة الحنان

ويا شعاع القمر النشوان

ويا شذى البنفسج الغيسان

ويا أماني العاشق الولهان

ويا مثال الطهر في الحسان

فداء عينيك الذي أعاني

هواك يا نعمائي قد أضواني

وألهب الأشواق في جناني

ص: 29

وفجر الدموع من بياني

فمشت كالمفجوع بالأماني

(هناء): ما أنت سوى هناءي

يا نجمة زهراء في سمائي

ونسمة مرت على رمضائي

وواحة تحلم في صحرائي

وفرحة تهزأ من بكائي

حبك ينبوع من الرجاء

يفيض بالآلاء والنعماء

يا أملي في غمرة الأرزاء

خذي بكفي في دجى الشقاء

ونضرى عودي باللقاء

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

مشهد من مآسي الحياة بين اللاجئين

للآنسة سميرة أبو غزالة

مشت في وجوم الأباء الطريد

كطيف (حبيب) لحلم قريب

وشاح الشقاء على جسمها

وفوق المحيا وشاح المغيب

تجر خطاها وئيدا وئيدا

فيسمع للمشي لحن كئيب

وفي ذلة تستجير المجير

وتبدي يداها إلى من يجيب

وفي صدرها أنة الفاقدات

وقصة ذاك النعيم السليب

نظرت إليها وفي لهفة

تراءى لعيني خيال حبيب

معاذ الإله فأين الثراء

أيحرق في هبوات اللهيب؟

أحقا سليمى تراءيت لي

أم للعقل في غمرات الشيب

أحقا أراها وفي البؤس تحيا

وفي مثل هذا الصراع المهيب

وفي رجفة الحزن تابعتها

لأكشف ذاك القناع الرهيب

دخلت بصحن به نسوة

من (اللد) كل شريد طريد

فتلك تئن وأخرى تنوح

وطفل يموت وكهل قعيد

ص: 30

وفي آخر البهو باب ينادي

تعالى ترى ما يفل الحديد

فأسرعت في خطوات السكارى

وبؤس الحياة بقلبي يزيد

أدق بكفي باب المآسي

وأقرعه في ذهول الشريد

وطال انتظاري فلا من مجيب

ولا من برد ولا من يريد

فألقيت جسمي على الباب فورا

وقاومته في صراع شديد

إذا كومة من حجار تزول

ويكشف ذاك الستار الجديد

هنا مشهد من مآسي الحياة

هنا مصرع للجهاد الشهيد

هنا جسم سلمى هنا روحها

لبت أن تعيش معاش العبيد

سليمى تعانى أقسى الرزايا

تشد إلى الصدر طفلا رضيع

وقد أسلمت روحه للإله

ومالت عليه بشكل مريع

وفي وجنتيها اصفرار المنايا

وفي ناظريها الإباء الفجيع

وفي الجسم من طعنات المآسي

بقايا حطام النعيم الصربع

سليمى دوا بؤس تلك الحياة

أتلقين هذا الجحود السريع

لقد كنت نورا ومجدا ونبلا

وقد كنت للحق ركنا منيع

فيا موطني حاد عنك الوفاء

وزاد البلاء وزاد الفجيع

ويا موطني داهمتك الليالي

كوحش هصور لحمل وديع

توالت عليك رعاة المآسي

ومالت إليك ذئاب القطيع

سميرة أبو غزالة

ص: 31

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

(الريفبيرا) المصرية:

ما زالت أذكر ما كتبته إلى صديقي الأستاذ سيد قطب حين كان بأمريكا، في رسالة خاصة، إذ قال ما معناه: إن بلادنا أحفل بلاد الدنيا بالخير والقوة والجمال. وكل ما في الأمر أن الطبيعة والإنسان فيهما مهملان. وكنت أجادله في رسائلنا الخاصة التي نشرت طرفا منها في هذا الباب من (الرسالة)، ساخطا على ما أراه في البلاد من قبح واضطراب، وكان يجيبني بالمشاركة في هذا السخط، ولكنه يردني إلى تلك الحقيقة التي زاد إيمانه بها سفره إلى هنالك. .

ذكرت ذلك وأنا على هذا الشاطئ الذي أبدعت صنعه يد الله وقصرت بجانبه يد الإنسان. . هنا شاطئ البحر الأبيض المتوسط يمتد على الساحل المصري بجوار بلطيم نحو ثلاثين كيلومترا، حيث يتآخى الرمل والماء، ويتعاونان على تهيئة مصيف لعله يصلح أن يكون أجمل مصيف في العالم.

الرمل منبسط ممهد على طول الشاطئ تقف الكثبان على حراسته من بعيد، ويفد إليه الموج رفيقا فيثب على أديمه الداني يداعبه، كما يثب الكلب الودود على صاحبه يلاعبه، ويرتد عنه تاركا صفحة بيضاء مسواة كأرضية رخامية أبدعها يد صناع. وكأن البحر يريد أن يعلم الإنسان كيف يجمل هذه البقعة، ولكن الإنسان يأبى أن يتعلم!

وكثيرا ما يطيب للبحر هنا أن يغفو، فتراه كسلان مخدرا، كأنه (مسطول!) مما يلقى إليه من (حشيش) الشآم. .! فأنفاسه خافته، وحركته بطيئة وانية، وصوته ضحكة مجرجرة منغمة. . لست أدرى أهي مثل ضحك سائر الحشاشين لا سبب لها ولا باعث إلا مجرد الرغبة في الضحك. . أم هي ضحكة استهزاء وسخرية من هذا الجندي الواحد الذي تزعم الحكومة أنه يحرس سبعة كيلومترات على الشاطئ من أن ترسو عنده إحدى سفن التهريب بالليل أو بالنهار! واستيقظ البحر مرة عندما لمح ذلك الجندي إحدى تلك السفن تقترب في الظلام من الشاطئ، فأطلق عليها بندقيته المتواضعة، فأجابته السفينة بمدفع متكبر أرداه. . استيقظ البحر فعلا صوته، لا أدري هل زمجر غاضبا من المهاجمين بالسموم والنار، أو

ص: 32

قهقه ساخرا من قلة الحراس ووهن الحراسة.

وأدع للشعراء مرأى شروق الشمس ومشهد غروبها، عساهم يصوغون من منظر الغروب قرصا ذهبيا فيودعونه المساء في الغرب، ثم يرتقبون بزوغه على الماء من الشرق وهو يحمل على السحب بأشعته النافذة حتى يدميها. . فتبدو زرقتها مختلطة بالدم في لون بهيج!

أدع ذلك وما إليه لإخواننا الشعراء يهيمون فيه، لأعرج على هذه الأعشاش القائمة الآهلة برواد البحر ومنتجعي السكون وطلاب الجمام في هذا المكان. وهنا نرى مدى التقصير في حق ذلك الجمال! بل مدى الغفلة عن الانتفاع بطبيعة ساحلنا الذي يفتح لنا ذراعيه فنعرض عنه وننأى.

أول ما يتجشمه القاصد إلى المصيف عناء السفر ووعورة الطريق، فإن القادم من القاهرة عن طريق المواصلات العامة، يكاد ينفق يومه كله حتى يبلغ المصيف. تتعاوره وسائل النقل الحديثة والمتوسطة والقديمة، فإذا تسامحنا واعتبرنا هذه القطر التي تستعملها السكة الحديدية من الوسائل الحديثة. . فبعدها شيء يسمونه (قطار الدلتا) وهو يسابق السلحفاة في البطء. . فيسبقها بكثرة العطب! وهذا من الوسائل المتوسطة لأنه هو الذي قيل فيه عند اختراع القاطرة: إنه يزعج الدجاج فلا يجعلها تبيض!

أما الوسيلة الثالثة فهي الحمير. . وما أكثر الحمير هنا! ذلك كله والمسافة كلها لا تزيد على 180 كيلومتر، أي أنها أقل مما بين القاهرة والإسكندرية.

ونسمع أن مصلحة السياحة قررت صرف ثلاثة آلاف جنيه لإصلاح هذا المصيف، وهي جعجعة لا نرى لها طحنا. . وحسبك أن تعلم أن ماء الشرب يجلب إلى المصطافين من أبار بعيدة ويباع لهم بثمن يساوي اللتر فيه خمسة مليمات! فهل رأيت مثل ذلك فيبلاد للنيل فيها غدوات وروحات. . .؟

وتصور الساحل الثاني لهذا البحر في (الريفييرا) الفرنسية و (الريفيرا) الإيطالية وغيرهما - تصور ما يغمر ذلك الساحل من أضواء وأنوار، ثم انظر إلى (الريفييرا) المصرية ترها متلفعة برداء من الظلام ذي ثقوب تطل منه المصابيح ذات (الشريط نمرة 10) وسيقولون إن المصيف أنير في هذا العام بالكهرباء، وهي دعوى لا دليل عليها إلا الأسلاك الممتدة التي تنوء بعبء التيار، فتقطعه ولا توصله، فلا تغني عن تلك المصابيح شيئا، وهناك دليل

ص: 33

آخر على تلك الدعوى هو ما دفعه المصطافون من النقود لقاء عدم الاستهلاك!

والمرافق الأخرى ليست بأحسن حالا. فرسائل البريد والبرق لا موزع لها، إنما تبلغ مستقرها عند الشباك حتى يأتي من يسأل عنها! والخبز أحيانا نتفقده فلا نجده، وقد أقيم له مخبز لا بقى عجينه من الرمل. . وهذه آخر مرحلة تطور إليها خلط الرغيف منذ الحرب الماضية!

والعجيب أن يكون مصيف بلطيم على هذه الحال البدائية، وعمره أربعون سنة. فقد ظل هذا الزمن لا يلتفت إليه أولو الأمر وفي الوزارات لجان لتحسين المصايف وتشجيع الاصطياف وعندنا سياسة مرسومة للسياحة أهم أغراضها جلب السائحين إلى البلاد لتستفيد منهم استفادة اقتصادية. . وفي رأيي أن الشاطئ المصري، في مواقفه المختلفة لو وجهت إليه العناية أصبح كعبة القصاد من خارج البلاد، فضلا عن أهلها الذين يرحلون عنها ليبذروا المال ويغدقوه على الأجانب.

مقامة الرغيف:

ومن طريف ما وقع هنا، أن ضاق أحد الزملاء، وهو الأستاذ عبد الله حبيب، برداءة الخبز. وبجوارنا أستاذ فاضل من بلقاس هو الأستاذ عبد القادر الشايب المدرس الأول للغة العربية بمدرسة بلقاس الثانوية، وقد رتب أمره - لخبرته بالمصيف - على أن يخبز له في منزله ببلقاس ويرسل الخبز إليه في (عشته). . فما عرف الأستاذ عبد الله حبيب بهذا حتى تذكر (أبا زيد السروجي) فاستعان بطريقته، وكتب إلى الأستاذ الشايب ما يلي:

(كتابي إلى السيدالجليل، نضر الله عشه، وأكثر (عيشه) وأدام على الأيام هشه وبشه. فقد جئت إلى هذا المصيف، فحيرتي منه أمر الرغيف، فهو تارة كالحندويل! وتارة كعيش بردويل (أسم بلد). الرمل في خلاياه شائع، وعجينه صائص مائع، والأمعاء - أجارك الله من هذا وذاك - لا تقوى على هضمه، والأسنان لا تقدر على قضمه وقد تفضل السيد ببعض (عيشه) فهرعنا إلى عشه، وما زلنا به نستجير، وهو نعم المجير، ثم صدنا الحياء عن ورده، فعدلنا عن قصده. ودلنا جيران السوء على عجوز في أقصى المصيف. قالوا إنها تحسن صنع الرغيف، فأحضرنا لها الدقيق، فظهر أنه من السويق، وخلطته - لا بارك الله فيها - بالرمل والتراب، فجاء كعيش الغراب، وقد عافته نفسي، بعد أن أذهب أنسى،

ص: 34

وآذى حسي. وأنت أيها السيد عن ضيوف إقليمك مسئول، فلا بد من إرسال شحنة صغيرة. لتكون تصبيرة، ولا بد من أن تدلنا على أمثل طريق، أيها الرفيق، فإذا لم تدركنا بالمشورة، فسنوالي طلب التصبيرة، وأمرك لله من قبل ومن بعد، وسلام الله عليك ورحمته)

الثقافة المصرية في السودان:

تعمل الآن وزارة المعارف على الإعداد لموسم المحاضرات الثقافية التي يلقيها بعض الأساتذة المصريين في الأندية السودانية وهو موسم جرت الوزارة على تنظيمه منذ سنة 1944، وقد نشر أن معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف سيفتتح الموسم القادم بالخرطوم في نوفمبر القادم. ولا شك أن معاليه لو استطاع أن يفرغ من شواغله الكثيرة ويسافر إلى السودان ويفتتح الموسم فعلا، فإن ذلك يكون ظفرا عظيما لإخواننا في الجنوب، ويكون منهجه فيما يحاضر به هناك مثالا للأساتذة الذين اعتادت الوزارة أن توفدهم إلى هناك.

وهذا الكلام يحتاج إلى شئ من البسط.

جرت وزارة المعارف على أن تختار أولئك المحاضرين من موظفيها كمفتشي التعليم، وأحيانا تضم إليهم بعض الموظفين في مكتب معالي الوزير، وهؤلاء لهم خصائص معينة فيما يعدون من محاضرات، هي خصائص مدرسية مكررة لا ابتكار بها ولا يتميز فيها جهد بارز، وأذكر أن بعض الصحف السودانية وصفت هذه المحاضرات بأنها معلومات تدرس في المدارس الثانوية وليس في هذا الوصف مجانبة للحقيقة، فإن المحاضرين من المدرسين الذين قضوا سنين كثيرة مشغولين بما في مناهج المدارس لا يكادون يخرجون عنه. . وبعضهم من مؤلفي الكتب المدرسية المعروفة في مدارس السودان كما هي معروفة في مصر. ولا شك أن إخواننا السودانيين الذين يقرءون الإنتاج المصري الحر، ويطالعون ما فيه من روائع، ثم يسمعون تلك المحاضرات التقليدية (الرسمية) - معذورون إذا هم صدموا بالفارق بين هذه وتلك، كما أنهم محقون إذا وصفوا الأشياء بصفاتها.

وهناك نوع من أولئك المحاضرين، يحب أن يدل على (تجديده) أو على (عمقه) أو على (وطنيته) فيشوب الموضوعات الثقافية بإشارات سياسية، تفسد الثقافة، وتفسد السياسة، أما إفسادها الثقافة فتأتي من ناحية التكلف الذي يحرف الأمور عن مواضعها والذي يفسد كل

ص: 35

شئ، وأما الجانب السياسي فنحن لا نجني من هذه الإشارات إلا ما نجنيه في مصر من المهاترات الحزبية، ويجب أن يعلم هؤلاء الأساتذة أنهم مبعوثون إلى إخواننا الجنوبيين جميعا على اختلاف أحزابهم وطوائفهم، وأن مهمتهم الثقافية الخالصة هي التي تخدم الوحدة، أما ما يبغونه من الظهور بمظهر البطولة فإن عاد إليهم بشيء من (الوجاهة) في نظر السطحين، فإنه يجر إلى جانب ذلك كثيرا من الحزازات ويغرس النفور في النفوس.

وليت وزارة المعارف تخرج عن تلك (الرسمية) المقفرة فتختار بعض الأدباء المعروفين بآثارهم القلمية الناضجة ليشاركوا في موسم المحاضرات المصرية بالسودان فتتيح لأهله أن يروا الوجوه التي يقرؤون لأصحابها، ويصلوا ما يقرؤون بما يسمعون، ولعل في هؤلاء من يطلع بما يفتقدونه في أولئك.

توصيات اللجنة الثقافية:

تجتمع بالإسكندرية الجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، وقد بدأت اجتماعاتها يوم 20 أغسطس الماضي، ولا تزال توالي هذه الاجتماعات حتى كتابة هذا. وقد فرغت من النظر في بعض الموضوعات المعروضة عليها، فقررت توصياتها فيها.

نظرت في موضوع ترجمة الكتب العالمية التي تهم العالم العربي فأوصت الإدارة الثقافية باتباع الوسائل التي تراها كفيلة بعدم تكرار الجهود في الحكومات العربية وبين المترجمين الأحرار في الترجمة العربية.

ونظرت في تشجيع التأليف، فرأت أن تخصص الجامعة العربية جائزتين لهذا الغرض تمنحان سنويا، على أن تؤلف لجنة خاصة لوضع شروط هذا المنح، وقد رؤى أن تخصص الجائزة الأولى لأحسن كتاب عربي علمي أو أدبي يخدم فكرة تتصل بتحقيق غايات الجامعة العربية وأهدافها العامة، وأن تخصص الجائزة الثانية لتكليف مؤلف عربي أو أكثر وضع كتاب يستكمل وجها من اوجه النقص في مجال التأليف العربي المتصل بدراسة حياة العرب وفكرهم وحضارتهم، وترى اللجنة أن في حياة العرب وتراثهم القديم ونهضتهم الحديثة كثيرا ما يستحق التسجيل بالوسائل العصرية كالسينما، ولذلك توصي بأن تعني الدول العربية بتصوير أفلام تعليمية وتعريفية عن حياة كل منها لتعريف العرب بعضهم ببعض، وتعريف العالم الخارجي بالحياة العربية ونهضتها في العهد الحديث.

ص: 36

ونظرت اللجنة في موضوع نشر الثقافة بين الكبار، فسجلت بالتقدير ما أصابته تجربة تثقيف الكبار في مصر من نجاح، وأوصت سائر الدول العربية بتعميمها، على أن تتبع في ذلك المبادئ الآتية:

1 -

أن يبدأ تثقيف الكبار بعد المرحلة الإجبارية من التعليم وحيث تنتهي فترة التعليم الأساسي.

2 -

يعهد إلى المختصين في وضع كتب في الحد الأدنى لما يلزم المواطن العربي الصالح لتعريفه حقوقه وواجباته الأساسية. ووضع كتب لمعالجة مشاكل الحياة اليومية كالصحة والاجتماع والتدبير المنزلي وبعض الحرف البسيطة للرجال والنساء.

3 -

تعد أشرطة سينمائية للتثقيف والإرشاد.

4 -

إعداد دراسات ثقافية في دورات معينة لخريجي المدارس الثانوية الذين حالت ظروف الحياة دون إكمال تحصيلهم. .

عباس خصر

ص: 37

‌رسالة النقد

نقد

معجم شمس العلوم

طبعة أوربا صفحاتها 346 طبع في بريل بليدن 1370هـ (1951) طبعة اليمن صفحاتها 491 (مطبعة الحلبي بالقاهرة 1370)

للأستاذ أحمد عبد الغفور عطار

عندما قرأت منذ عشرة شهور في مجلة الرسالة نبأ اعتزام حكومة اليمن نشر معجم (شمس العلوم) تأليف نشوان بن سعيد الحميري كتبت كلمة أحيي فيها حكومة اليمن ومن انتدب لتحقيقه والإشراف على طبعه وقلت:

(إنني أرجو من حكومة اليمن التي تتولى طبع المعجم وإخراجه أن تعنى به عناية لا مزيد عليها، لأن حياة الكتاب طبعه طبعا أنيقاً، مصححا تصحيحا دقيقا، ونشره نشرا علميا صحيحا، ولا بد لطبع هذا المعجم النفيس من لجنة تشرف عليه لجنة فاحصة محققة تتولى تحقيقه وتصحيحه وتجنيبه التصحيف والتحريف والخطأ، وتعلق عليه، وتسهل مراجعته لكل من يريد الكشف عن كلمة من الكلمات).

واقترحت تكوين هذه اللجنة، وأن يكون بينها عالمان جليلان هما الأستاذان عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر.

وكانت كلمتي بالرسالة تحية لليمن وتقديرا لجهوده العلمية ويقظته الجديدة ومشاركة مصر جهودها الضخمة في ميدان العلم والفكر.

والآن وقد انتهى طبع الجزء الأول من (شمس العلوم) ووصل إلى بعض القراء واطلعت عليه فإن من اللازم على أن أقف القارئ على حقيقة عمل إخواننا اليمنيين وما بذلوا من جهد في سبيل إخراج هذا المعجم.

ومن عجيب المصادفات أن تصدر من (شمس العلوم) طبعتان في سنة واحدة. أحدهما في أوربا والثانية بالقاهرة، ولكن شتان ما هما، وصدرت طبعة أوربا شهر رجب 1370 وطبعة اليمن منذ شهر.

ص: 38

أما طبعة اليمنيين فرديئة إلى حد بعيد من الناحية العلمية وإن كان الورق صقيلا والطباعة حسنة جميلة تشهد لدار الحلبي بالجودة والإتقان والتقدم. وأما طبعة أوربا فممتازة رائعة: الورق أبيض صقيل من الورق الغالي المترف، والطباعة متقنة. وتفضل طبعة أوربا طبعة اليمن في كل شئ، في خلوها من الخطأ والدقة في التصحيح، والعناية بالنشر والتحقيق والمراجعة التي لا مزيد عليها، ووصف الكتاب وطريقة مؤلفة ونقده.

وقد قام بنشر (شمس العلوم) في أوربا المستشرق السويدي العلامة زترستين وصدر منه الجزء الأول منذ شهور، وطبع بمطبعة بريل بليدن، وهو يحوي أربعة حروف: أ، ب، ت، ث، وعدد صفحاته 275 صفحة، وكلاهما باللغة الألمانية، درس فيه (زترستين) هذا المعجم الرحب الفضفاض دراسة دقيقة.

والحق أن طبعة أوربا صحيحة دقيقة متقنة، وقد قرأت منها صفحات كثيرة فألفيتها صحيحة دقيقة لا خطأ فيها مما يدل على العناية البالغة والخدمة التامة والجهود العظيمة التي بذلها هذا المستشرق المخلص في عمله.

أما الجزء الأول الذي أخرجته حكومة اليمن، ووقف على تصحيحه القاضي عبد الله بن عبد الكريم الجرافي اليمني مندوب وزارة المعارف اليمنية فلا يوثق به، ويجب أن يهمل، لأن كل صفحة منه لا تخلو من خطأ يسئ إلى اللغة والفكر، وأنصح الحكومة اليمنية أن تتلف هذا الجزء وتعيد طبعه من جديد إذا كانت حريصة على نشره، وتكل تحقيقه إلى محققين يوثق بعلمهم وتحقيقهم وفهمهم للنصوص العربية واللغة والشعر من أمثال الأستاذ الجليل عبد السلام هارون.

إنني آسف جد الآسف على هذه الخسارة التي تكبدتها حكومة اليمن، وكنت أود أن يبذل من الجهود في نشر (شمس العلوم) ما يكون كفاء ما بذل من المال، فحكومة اليمن - جزاها الله خيرا - أنفقت بسخاء، لطبع هذا المعجم، ولكن لم ينشر علميا، ولهذا كان الكتاب مزدحما بالخطأ الفاحش المعيب.

ويحوي بالجزء الأول من طبعة اليمن ستة حروف: أ، ب، ت، ث، ج، ح، وعدد صفحاته 491 من القطع الكبيرة.

ولأبين فسادها هذه الطبعة من الناحية العلمية أقدم للقارئ (عينات من الأغلاط التي تعد

ص: 39

كبائر في اللغة وقواعد العربية، وتقيم الدليل على أن من نشره لم يفهم النصوص فهما مستقيما، وأنه كان ضعيفا في اللغة، وغير عارف بالعروض والشعر، حتى الآيات القرآنية أصابها التشويه والغلط.

جاء في الصفحة الأولى من (شمس العلوم) وتحمل رقم 3: (واجتهدوا في حداسة ما وضعوه، وضبط ما حفظوا وصنفوا من ذلك وجمعوه)

والصواب: (حراسة) لا (حداسة) و (حفظوه) بدل (حفظوا) كما في نسخة مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمة الله الحسيني بالمدينة المنورة.

وجاء في الصفحة نفسها: (جعل تصنيفه حارسا للنقط) وفي نسخة المدينة المنورة: (حارسا النقط)

وفيها أيضا: (وكشفوا عنه ما ستر من الحجب) وفي نسخة المدينة: (يستر) بدل (ستر).

وفي الصفحة الثانية وتحمل رقم 4: (حملني ذلك على تصنيف، يأمن كاتبه وقارئه من التصحيف، يحرس كل كلمة بنقطها، ويجعلها مع جنسها وشكلها، ويردها إلى أصلها).

وبهذا السطر أربع غلطات، أولاها: ضم عين الفعل من يأمن وإذا قبلنا صنع الناشر الشيخ الجرافي فإنه يعد من المستدركين على واضعي قواعد العربية، لأنه أوجد بابا جديدا للمجرد الثلاثي وهو فعل يفعل، وبهذا يكون عدد أبواب الفعل الثلاثي المجرد سبعة بدل ستة، وهذا ما لم يقل به أحد.

إن أمن يأمن من الباب الثالث قطعا وكان الواجب أن يكون (يأمن) يأمن.

وثلاث الغلطات الأخر جعله المصدر المسبوق بالباء فعلا مضارعا، فأصبحت هذه المصادر المسبوقة بالباء: يحرس، ويجعلها، وبردها، أفعالا عند الشيخ الجرافي، مع أن السياق يضطرب بذلك.

وصواب الجملة كلها هكذا: (حملني ذلك على تصنيف، يأمن كاتبه وقارئه من التصحيف، بحرس كل كلمة بنقطها وشكلها، ويجعلها مع جنسها وشكلها، ويردها إلى أصلها)

وكذلك جاء في نسخة المدينة المنورة.

وفي الصفحة نفسها: (والأمثلة حارسة للحركات والشكل، ورادة كل كلمة من بنائها إلى الأصل) وفي نسخة المدينة: (حارسة الحركات)

ص: 40

وفيها أيضا: (ويدرك الطالب فيه ملتمسه سريعا، بلا كد فطنة غريزية، ولا أتعاب خاطر ولا روية) وفي طبعة أوربا ومخطوطة عارف حكمة اله بالمدينة: (بلا كد مطية غريزية).

وطبعة اليمن تصحف (مطية) وتجعلها: (فطنة) وتسئ إلى المؤلف الذي سمى معجمه (الأمان من التصحيف).

ولو أراد المؤلف رحمه الله النسبة إلى (غريزة) لما قال: (غريزي) بل لسار على القاعدة وقال: (مطية غرزية) ولكن الشيخ الجرافي يخطئ فهم النصوص فينسب إلى المؤلف قصد (المطية الغريزية) لأنه قال بعدها: (ولا أتعاب خاطر ولا روية) وإنما قصد أن يقول: - وهو معنى ما يريده - إن هذا المعجم سهل مستوعب، ولهذا يدرك الطالب فيه ما يريده سريعا دون أن يتعب أو يضني، ولا يتكلف شيخا يقرأ عليه، ولا مفيدا يحتاج إليه؛ كما أنه لا يحمله مؤونة السفر فيكد راحلته التي لا تجهد ولا تعيا).

وطلبة العلم في زمن المؤلف كانوا يكدون الرواحل (الغريزية) في سبيل العلم، وما يزالون في بعض بلاد العرب كذلك حتى الآن.

وصواب الجملة: (بلا كيد مطية غريرية) والغرير كما جاء في صفحة 335 من الجزء السادس من السان العرب: (فحل من الإبل) وقال اللسان في الصفحة نفسها: (الإبل الغريرية منسوبة إليه).

ومن هنا يظهر لنا أن المؤلف أراد: (بلا كد مطية غريرية) لا (فطنة غريرية) كما جاء في طبعة الشيخ الجرافي وتصحيحه الخاطئ.

وفي صفحة 5 من طبعة الجرافي: (إنه أقبع آثارهم، واقتفى منارهم، وآخذ ما اختار من علمهم) والصواب: اتبع لا (أقبع) وأخذ بدل (آخذ).

وفي صفحة 7: (فعرض عليهم الصلاة الخ) وصحتها: (نفرض)

وفي صفحة 11: (وشمألعلى وزن فأعل) والصواب: فعأل

وفي صفحة 13: (وفي مثل قحطبة وطلحبة قال:

رحم الله أعظما دفنوها

بسجستان طلحة الطلحات

والصواب: طلحة. لا (طلحبة) كما ذكر الشيخ الجرافي، والدليل البيت الذي استشهد به المؤلف.

ص: 41

وفي صفحة 13 أيضاً: (ضيفن وعشن وخلبن الخ) والصواب: (عيشن) لأن المؤلف كان يتحدث عن زيادة النون في مثل ضيفن.

وجاء في صفحة15: (قال أحمد بن يزيد المبرد) والصواب محمد

في صفحة 16: (ديار وضياع. والأصل: ديوار وصواع) والصواب: صيواع.

وفي صفحة 19: (فم، وفمويمها) والصواب: فتح الفاء في كليهما. ولا ضرورة (لتشكيل) فم، والشيخ الجرافي يدع (تشكيل) الكلمات التي يفرض تشكيلها، ويشكل الكلمات التي لا يخطئ في نطقها الأطفال.

وفي صفحة 23: (قراءة أبي عمرو الكسائي) وصوابها: قراءة أبي عمرو والكسائي. لأن أبا عمرو ليس الكسائي

وفي صفحة 30: (والتصغير فويه) مريدا تصغير فم والصحيح: فويه

وفي صفحة 37: (مفصل الإل) وصوابها: الأل. لأن المؤلف يفتتح هذا الباب بقوله: (فعل بفتح الفاء وسكون العين ويذكر من الكلمات ما كان على وزن فعل.

وفي صفحة 43: لقد جئت شيئا إده وإدا) والصواب: (إدة) جاء في لسان العرب ص37 ج: (الإد والإدة العجب).

وفي صفحة 47 أيضا: (وجمع الإدة. أدد) وأدد هنا تقرأ بفتح الهمزة وضمها، وهذا لم يرد في اللغة، وإنما الوارد: إدد - على وزن عنب - كما جاء في 37ج4 من لسان العرب (وجمع الإدة إدد)

وفي صفحة 48 يقال: (أززت الشئ أزا) صوابها: أززت (بتخفيف الزاي) لأنه ثلاثي ومصدره (أز) يدل على ذلك، أما أزز (بتشديد الزاي) فلم يسمع إلا من الشيخ الجرافي

جاء في صفحة 171 من الجزء السابع من السان العرب: (أززت الشئ أؤزه أزا، ولم يذكر غيره.

وفي صفحة 50: (أثث أعالي النحلة أثاثة إذا التفت) والصواب: (أثث) لأن الفعل ثلاثي وهو (أث)

وفي صفحة 50 أيضا:

(فأثث أعاليه وأدت أصوله

ومال بقنوان من البسر أحمرا)

ص: 42

والصواب: (فأثت) وبذلك يستقيم وزن البيت

وفي صفحة 55: (وعبد الله بن أباض الذي تنسب إليه الأباضية من الخوارج. وهو من تميم من بني مرة)

وفي صفحة 211: (هم ولد تميم بن مر بن أد الخ)

والصحيح ما جاء في صفحة 211: (مر) لا ما جاء في صفحة 55: (مرة) و (أباض) صوابها: (إباض) و (الأباضية) صوبها: (الإباضية).

وفي صفحة 56: (أبلت الوحش تأبل: لغة في تأبل) والقارئ غير المتمكن في اللغة لا يستطيع معرفة اللغة الثانية في تأبل، ولعل الشيخ الجرافي نفسه لا يعرفها، ولذا تركها بدون ضبط، وكان الواجب عليه أن يضبطها هكذا: أبلت الوحش تأبل لغة في تأبل. جاء في ص6 ج13: (وأبلت الإبل والوحش تأبل وتأبل)

البقية في العدد القادم

أحمد عبد الغفور عطار

-

ص: 43

‌البريد الأدبي

1 -

استعمال خاطئ:

نشرت جريدة المثال الموصلية الغراء في عددها (16) من السنة الأولى قصيدة للشاعر بشير حسن القطان بعنوان (أطياف) جاء فيها البيت التالي:

و (غنوة) العذراء في

حضر الصباح الباكر

وأراد الأديب القطان (غنوة) بمعنى أغنية وهو خطأ شائع لأن (غنوة) من الغنى بمعنى الاكتفاء والسيار كما في جميع المعاجم العربية ولم يرد بمغنى الغناء أي النشيد ولو قال (ونغمة العذراء) لاستقام الوزن، وقد وقع في هذا الخطأ نفسه صديقنا الأستاذ الشاعر كمال نشأت صاحب ديوان (رياح وشموع) إذ أورد هذه اللفظة نفسها في قوله من قصيدته (رياح وشموع) إذ أورد هذه اللفظة نفسها في قوله من قصيدته (نسمة الفجر) ص26 من الديوان

يا زفرة الفجر الوليد

وغنوة الروض النضير

دوري ودوري غنوة

جمعت ترانيم الدهور

2 -

من عيوب القافية:

وجاء في العدد نفسه من الجريدة الموصلية (المثال) أبيات للأستاذ عبد المجيد لطفي رفعها لصاحب الجريدة الصديق الأستاذ عبد الباسط يونس منها:

أخي (باسط) لا عيد

لمن يشعر بالنكبة

ومن يعصره الهم

ومن تخنقه العبرة

والأبيات من قافية واحدة وفي البيت الثاني عيب فظيع من عيوب القافية يسمى (الإجازة) وهو الجمع بين رويين مختلفين في المخرج لأن الروى في أبيات لطفي الباء لا الهاء.

3 -

في كتاب (هارون الرشيد):

جاء في الصحيفة (43) من كتاب الدكتور أحمد أمين بك (هارون الرشيد) الذي أصدرته دار الهلال ما يلي:

(ويصف لنا بشار الأعمى كأسا عليها صورة كسرى بقلنسوته، ورسم حد للخمر الصرف ورسم حد آخر للماء الممزوج به)

ص: 44

ويقصد بالوصف الأبيات التالية:

قرارتها كسرى وفي جنباتها

مهى تدريها بالقسى الفوارس

فللخمر ما زرت عليه جيوبها

وللماء ما دارت عليها القلانس

والشعر هذا لأبي نواس وليس لبشار. وأبياته هذه من الشهرة بحيث يتغنى بها تلامذة المدارس

4 -

وذكر الدكتور أحمد أمين بك ص59 أبياتا إلى أبي نواس

مطلعها.

إنني أبصرت شخصا

قد بدا منه صدود

جاء فيها البيت التالي

عندها صاح حبيبي

يا معلم، لا أعود

والبيت على الصورة التي رواها الدكتور أحمد أمين بك غير صحيح، لأن وزنه لا يستقيم إلا بسكون ميم معلم وسكون يا معلم لا يجوز لأن الاسم منادى معرفة وحركته الرفع، أما إذا رفعها فالوزن لا يستقيم.

5 -

وروى الدكتور أحمد أمين في الكتاب نفسه ص84 أبياتا

إلى أبان اللاحقي قالها على لسان الخليفة هارون الرشيد عند

وفاة جاريته (هيلانه) مطلعها

بت ضجيع الحزن ما أغفى

لحادث جل عن الوصف

ثم هذا البيت

أنت أهل الترب من فوقها

مواريا تحت الثرى أنفي

وقد حاولت أن أفهم معناه فلم أستطع، ورجعت إلى بعض المصادر التي تحوي شعر أبان اللاحقي فلم أعثر على هذه الأبيات

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 45

6 -

مقالاتي عن الشعر العراقي

تفضل الأستاذ عفيفي الحسيني فكتب في العدد 941 من الرسالة الزاهرة يذكرني بالوعد الذي وعدت به القراء الكرام حول كتابة سلسلة مقالات احلل بها أعلام الشعر العراقي المعاصر، وأحب أن أقول للأستاذ إنني لم أنس وعدي، ولكنني كتبت إلى بعض من أعتقد انهم من الشعراء الذي يستحقون التحدث عن نتاجهم الشعري ليكون بحثي تاما، وإنشاء الله وسأوافي الرسالة في الأسابيع القادمة بأول فصل من هذه الدراسة التي ستكون في المستقبل كتابا يصور الشعر الحديث في العراق أجمل تصوير. كما أرجو أن أكون عند ظن الأستاذ الحسيني الكريم وإخوانه الذين كتبوا لي طالبين منى إبقاء هذا الوعد. وأن تكون هذه الكلمة فاتحة لذلك العمل الأدبي الذي أتشرف أن أقوم به خدمة لبلدي الذي حرمني حتى نعمة العلم والدرس.

بغداد - أمانة العاصمة

عبد القادر رشيد الناصري

الجريدة لا السياسية:

في أول أغسطس سنة 1951 نشر صاحب العزة محمد عمران عبد الكريم بك في المصري (حينما أنشأ جماعة من الأعيان جريدة السياسة لتدافع عنهم وعن مبادئهم في ذلك الوقت 1906) ومحمد مختار يونس يقول تصحيحا لهذا إن الذي أنشئ هو (الجريدة) لا السياسة، الأمة بزعامة محمد سليمان باشا وبرياسة تحرير أستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا.

محمد مختار يونس

1 -

حبيبتي السمراء

جاء في قصيدة (حبيبتي السمراء) للفيتوري:

حبيبتي سمراء. . . مثل الكروم، ناعمة كالضياء، خمرية كالماء.

ص: 46

ولا أرى سمرة للكرم إلا الخضرة الداكنة للأوراق. . ولا أحس نعومة للضياء لأنه مما لا يلمس. ولا أرى كذلك للماء لونا يشبه الخمر أو يقاربه اللهم إلا في زيادة النيل حين يحمل معه فتات الصخور. . وما أظن ذلك إلا جموح خيال من الأستاذ الشاعر. . أما كلمة (سوسان) فلا أعرف إلا السوسن فقط. فلعل القافية هي التي جاءت بهذه الألف. . ولعلها لغة فيها. . والشاعر هو الذي يستطيع أن يفيدنا بذلك - والقاموس لم يذكر سوى سوسن وسوسنة

2 -

غموض:

وفي غموض أرنو إلى الفجر الجميل كساحر

حملت يداه ريشة عذراء

والساحر لا يحمل الريشة، وإنما هو الرسام. ولكن الوزن لا يستقيم به

والشمس. . (شعت ماسة زرقاء. .) ولا تراها حتى العين الرمداء. . زرقاء اللون. . ولو كانت كذلك لما نسخت الظل وطوت الظلام. وكلمة (تدفق) وهي (تدفقت). . وكلمة (ازرق أمواها) بعد (وإلى المياه) لا تستقر ولا تتسق مع ما بعدها.

وهي (وشف نقاء). . وللشاعر تحياتي وتقديري.

كيلاني حسن سند

المجد (المخطوف)

خطف المجد في هذا الزمان، الذي ابتدع الحرب الخاطفة، والقنبلة الذرية!

ولقد غدا يتبع (الركاب)؛ فتبعه الإمعات والأذناب!

ألست تترضى البليغ في جهله حد النبوغ وقد لوح بما نال من تمجيد في دنيا العبيد!

ألست تتكلف التصفيق له حين تتسمع إلى فهاهته وعيه، وبالود منك أن تصفع قفا غروره ليستقيم خده المصعر في وجه الصفيق؟

ألست تعجب من وثباته في المجتمع المخدوع وهو مباه بما ناله من مجد خطفه خطفة القردة والمشعوذين؟

هذا هو الشأن فيما صارت إليه الأمور؛ فإياك والاعتماد على نبوغك، وسعة أفقك، وعزة نفسك، وتحصن كرامتك!

ص: 47

إن الجري وراء الركاب، والتمسح بالأذيال، وإراقة ماء الوجه، وبيع الكرامة في سوق النفاق، هي الأسباب القويمة في انتزاع المجد (المخطوف)!

أما تقويم القدر يحسن التقدير، وإنزال الاعتزاز منزلة التوقير، وإتباع الترفع رفعة النظرة؛ فأوهم تلعب بعقول التائهين في عالم المثالية! رحم الله من يؤثر العيش في غمرة عن أن يكون مجدا باغتماز شعوره!. ليهنأ متورم الأنف؛ فهو ماجد لكن أنفه غير أشم!

وليسعد العبيد بهوان النفس في بعد الصيت الخفيض!

إن حياتنا تأفك الحق، وترد الإنصاف، وتخزي كل ذي عفة وحياء!

غدا المهرج مبتدعا، والراقص في الندى ألمعيا، والأفاق الوصولي أريحيا! حياة مضطربة يضطرب فيها شعور الإنسانية، حتى انقلبت إلى ما نرى من الألاعيب والأعاجيب.

أما أصحاب المجد (المخطوف) فليس يستديم ما خطفوه إلا إذا استدامت خطفة العين أمام الأمجاد الأصيلة!

بور سعيد

أحمد عبد اللطيف بدر

ص: 48

‌القصص

مسرحية في فصل واحد

في مضار التدخين

لأنطون تشيكوف

للأديب حسين أحمد أمين

شخصية الرواية: إيفان أفانوفيتش. . وهو زوج ضعيف تحكمه

زوجته أما هي فمديرة لمدرسة للموسيقى، ومدرسة داخلية

للبنات. .

المنظر: منصة في إحدى الجمعيات. . إيفان قائم يخطب وهو

في معطف قديم. . ينحني للحاضرين. . .

إيفان إيفانوفيتش: سيداتي، سادتي: عرض البعض على زوجتي أن ألقي محاضرة هنا في موضوع خيري مفيد بهم الناس. وما دام من المحتم على أن أحاضر، فإني لا أجد لنفسي حيلة إزاء ذلك. . وأنا - بالطبع - لست بالأستاذ المتفقه، ولا بالحاصل على درجات علمية، غير أني قضيت الثلاثين عاما الأخيرة في دراسة موضوعات علمية بحتة دون توقف ولا انقطاع، ودون مراعاة لقواعد الصحة. . إنني رجل مفكر وأقوم أحيانا بتجارب علمية ليست علمية تماما ولكنها - وأرجو المعذرة - تحمل الطابع العلمي. . وبهذه المناسبة أذكر أني كتبت منذ أيام مقالة طويلة تحت عنوان (في مضار الحشرات!!) وقد أعجبت بناتي بالمقالة كثيرا وخاصة الفقرات الخاصة بالبق. غير أني مزقتها بعد قراءتها. . إن بيتنا يعج بالبق، وحتى البيانو تراه مليئا به. . والمقالة الجيدة لا تغني في مكافحة البق عن مسحوق من الصيدلي.

أما عن موضوعا محاضرة اليوم، فقد اخترته عن المضار التي يسببها التدخين لبني الإنسان. . وأنا نفسي أدخن، ولكن زوجتي أمرتني أن أحاضر اليوم في مضار التدخين. .

ص: 49

فلم يكن لي في ذلك خيار. .

حسنا - لتكن المحاضرة عن التدخين. . وهو موضوع لا أهمية له عندي. . غير أني أرى أن تعيروه أنتم كل الأهمية كي لا يحدث شئ لا نتوقعه. وعلى من يكره الموضوعات العلمية الجافة، ومن لا يعبأ بمثل هذه الأشياء ألا ينصت إلي ومن الخير أن يغادر المكان. . (يعتدل في وقفته).

وإني أطلب بصفة خاصة من المشتغلين بالطب الحاضرين الآن أن يعطوا المحاضرة كل انتباههم حتى يمكنهم أن يحصلوا منها على أفيد المعلومات. . فالطباق - إلى جانب مضاره للمدخنين - يستعمل في الطب. فإذا وضعنا ذبابة - في صندوق به طباق، قد نجدها بعد حين ميتة بسبب اختلال جهازها العصبي. . وبهذه المناسبة أذكر أنني كلما ألقيت محاضرة، أجد نفسي أغمز بعيني اليمنى. . فارجوا ألا تعيروا ذلك أهميته. . إنه مجرد تعب في الأعصاب. . وأنا - بصفة عامة - عصبي جدا. . وقد بدأت عادة الغمز منذ سنة 1889 - في 13 سبتمبر إذا أردتم الدقة. . وهو اليوم الذي وضعت فيه زوجتي ابنتنا الرابعة بربارا. . . ومع ذلك (ينظر في ساعته) فالوقت ضيق، ولا ينبغي الخروج عن الموضوع. . على أنه من اللازم أخبركم أن زوجتي تدير مدرسة للموسيقى ومدرسة داخلية. . . لست أعني مدرسة داخلية تماما. . . ولكنها تشبه المدارس الداخلية.

وزوجتي تحب دائما أن تشكو من الحالة المالية. . مع أن لديها في البنك - مما وفرته - المال الكثير. . . أما أنا فليس عند درهم واحد. . . ولكن لنترك هذا الموضوع فهو لا يهم أحدا. . .

وأنا اعمل في مدرسة زوجتي الداخلية. . فأشرف على التموين والخدم والمصروفات وأجمع الكراسات، وأكافح البق والفئران وأخرج بكلب زوجتي الصغيرة للنزهة. . .

وبالأمس كان على أن أعطي للطاهي خبزا وزبدا كي يعد لنا اليوم بعض الفطائر. . وبالاختصار دخلت زوجتي اليوم في المطبخ بعد أن انتهى الطاهي من إعداد الفطائر وقالت إن ثلاثة من تلاميذها لن يأخذوا نصيبهم منها لأنهم ابتلعوا نباتات سامة. . وعلى ذلك أصبحت لدينا ثلاث فطائر زائدة عن الحاجة. . فماذا كنتم تصنعون بها؟ أمرت زوجتي الطاهي بأن يضعها في المخزن ثم عادت ففكرت برهة وقالت:

ص: 50

- لك أن تأخذها لنفسك أيها الصنم. . إنها دائما تناديني بمثل هذه الأسماء عندما تكون غاضبة. . (أيها الصنم)(أيها الشرير)(أيها الشيطان). وهكذا. . ولعلكم ترون معها أنني أبدو كالشيطان. . إنها دائما غاضبة ثائرة متأففة. . ولكني لا امضغ شتائمها بل أبلعها. . فأنا دائما جوعان. . فبالأمس مثلا لم ترد أن تمنحني عشاء وقالت: (إن من العبث أن أمنحك طعاما ما دمت تجوع بسرعة. .) ومع ذلك (ينظر إلى ساعته) فأراني قد خرجت عن الموضوع. . ولكن لنستمر. . ولو أني أشعر بأنكم تفضلون سماع قصة أو سمفونية أو أغنية. . وعلى ذكر الموسيقى، نسيت أن أخبركم أني أدرس في مدرسة زوجتي الموسيقة، الرياضة والطبيعة والكيمياء والجغرافيا والتاريخ والأدب وأني أعلم التلاميذ الرقص والغناء والرسم بينما تتقاضى زوجتي رسوما إضافية لنفسها عن هذه الدروس. . وعنوان المدرسة هو شارع الكلاب الخمسة رقم 13

وربما كان هذا الرقم المشئوم هو سبب تعاستي. . فبناتي كلهن ولدن في الأيام الثلاثة عشرة من أشهر السنة. . ونوافذ منزلنا عددها 13. ولكن ما الفائدة في ذكر ذلك؟ إن زوجتي بالمنزل تستقبل الضيوف وتدير الأعمال. . وقد سألتني أن أبيع لمن يريد منكم برنامج مدرستها بثلاثة قروش فقط. هل يرغب بعضكم في نسخة؟ (فترة صمت) لا أحد؟ حسنا. . لنجعل ثمنها قرشين. (فترة صمت) يا للضيق! نعم. . إن رقم منزلنا 13. وقد فشلت في كل شئ. لقد تقدم بي العمر وصرت غبيا. إنني أحاضر الآن وقد أبدو وجيه المنظر ولكن بي رغبة جامحة في الصراخ بأعلى صوتي والهرب إلى أقصى المعمورة. ليس هناك من يسمع لشكواي وأنا أريد أن أبكي قد تقولون عندك بناتك. . بناتي! إنني أكلمهن فيضحكن غن زوجتي لديها سبع بنات. . لا. . إني آسف ست فقط. . (بقوة) بل سبعة. الكبرى في السابعة والعشرين والصغرى في السابعة عشرة. أيها السادة (ينظر حوله) إنني يائس لقد أصبحت أحمق. . أصبحت عبثا لا قيمة لي. . ولكن أسعد الآباء. أو على الأصح يجب أن أكون كذلك ولا أجرؤ على القول بأني لست كذلك. . ولكن. آه لو تعلمون. . لقد عشت مع زوجتي ثلاثة وثلاثين عاما وباستطاعتي القول أنها كانت أجمل سنوات حياتي. . لست أقصد أجملها تماما ولكن أتكلم على وجه العموم. . لقد مرت كلحظة سعيدة واحدة. . لعنها الله ولعن من يعيشها. . (يتلفت حوله) أعتقد أنها لم تحضر بعد. .

ص: 51

أني - لذلك - أستطيع أن أقول ما أريد. . إنني خائف. . أخاف نظرتها إلي. . ولكن لنعد إلى الموضوع. . كنت أقول إن بناتي لم يتزوجن بعد. . ربما كان السبب هو خجلهن ولكن السبب الرئيسي هو أن الرجال لم تتح لهم الفرصة لرؤيتهن. . فزوجتي لا تحب إقامة الحفلات ولا تحب دعوة أحد إلى العشاء. . إنها لاذعة عصبية تحب الشجار ولذلك لا يقرب منزلنا أحد. ولكن. . . سأسر لكم أمرا (يميل بجسمه نحو السامعين) باستطاعتكم رؤية بناتي في أيام الأعياد الكبرى في منزل عمتهن نانالي سيميونوفا التي تشكر دائما من الروماتيزم. هناك باستطاعتكم تناول أطيب الأطعمة. فإذا لم تحضر زوجتي هناك كان باستطاعتكم أيضا أن. . (يرفع ذراعه) يجب أن أخبركم أنني أسكر من كأس واحدة. وأني عندما أسكر أكون سعيدا جدا وتعسا جدا بصورة لا أستطيع وصفها لكم. . عندئذ استعيد شبابي ولسبب ما أجد نفسي تريد الفرار. . الفرار إلى أية جهة. . آه لو علمتم كم أريد الفرار (بحماس) أريد أن أهرب مخالفا كل شئ ورائي ودون أن انظر خلفي. . إلى أين؟ أي مكان، ما دمت سأطرح عن كاهلي تلك الحياة التافهة، الحقيرة، التي جعلت مني غبيا تعسا أحمق وما دمت سأطرح عن كاهلي تلك الزوجة الغبية الحقيرة الثائرة العصبية البخيلة التي لم تكف لحظة عن تعذيبي طوال الثلاثة والثلاثين عاما التي عشتها معها. أريد أن أهرب من الموسيقى. . من كشف حساب زوجتي. . من كل تفاهاتها وحماقاتها. أريد أن أهرب ثم اقف في مكان بعيد. في حقل. ساكنا لا أتحرك كالشجرة أو العمود أو الصنم. تحت السماء الواسعة. . وانظر طوال الليل إلى القمر الساطع فوق رأسي. وأنسى. وأنسى. . . آه. . كم أريد ألا أتذكر. . كم أريد أنا أمزق هذا المعطف القديم الذي ألبسه منذ حفلة الزواج (يمزق المعطف) والذي ألبسه دائما عندما ألقى محاضراتي في الموضوعات الخيرية. . خذوه (يدوس بقدمه على المعطف) خذوه إنني كهل مسكين محطم كهذا المعطف الذي رقع ظهره. . (يدير ظهره للحاضرين) لا أريد شيئا. إنني أحسن وأنظف من ذلك. لقد كنت شابا في وقت من الأوقات وكنت أدرس في الجامعة. . كانت لي آمال وأحلام وكنت أعتبر نفسي رجلا. أما الآن فلا أريد شيئا. . لا أريد إلا الراحة. . الراحة. . (ينظر خلفه ثم يلبس معطفه بسرعة) إن زوجتي خلف المنصة تنتظرني (ينظر إلى ساعته) لقد انتهى الوقت. إذا سألتكم فأخبروها أن المحاضر. . الصنم. . أقصد نفسي. . تصرف بوقار. .

ص: 52

أتوسل إليكم أن تخبروها ذلك. (يلتفت حوله ويتنحنح) إنها تنظر إلى. . (يرفع صوته) وبناء على ذلك، وبعد أن شرحت لكم ذلك السم الفظيع الذي يحتويه الدخان أرجو أن يمنع التدخين قطعيا وأتمنى أن تكون لهذه المحاضرة في مضمار التدخين بعض النفع لكم.

انتهت المحاضرة. . (ينحني ويسير في وقار)

(ستار)

حسين أحمد أمين

-

ص: 53