المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 95 - بتاريخ: 29 - 04 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ٩٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 95

- بتاريخ: 29 - 04 - 1935

ص: -1

‌أعياد الحياة والحرية

تخرج الرسالة اليوم إلى الناس في (شم النسيم)؛ وشم النسيم في مصر عيد اكتمال الربيع، يخرج الناس من دورهم فيه إلى الطبيعة السافرة المجلوة، في العراء الكاسي بأفنان الزهر، وفي الهواء الناسم بأنفاس الرياحين، يشهدون افتضاح سر الحياة في الأرض، وانفتاح باب الجنة على الروض، وانتشار جمال الله في الكون، وافترار الدهر العابس عن بسمات البشر تفيض في العيون والصدور، وتشرق على الحقول والدور، وتهيؤ القرب بين الله والإنسان والطبيعة

لشد ما تفعل بالنفوس مشاهد الحياة وذكرى الحرية! في هذا اليوم

يحتفل المصريون في (شم النسيم) بعودة الروح إلى الدنيا، وهبة

الطبيعة من مرقد الموت؛ وبالأمس كان عيد الفصح المسيحي، احتفل

فيه نصارى الشرق، كما احتفل في مثله من قبله نصارى الغرب،

برجعة الناسوت وقيامة يسوع؛ ومنذ أيام كان عيد الفصح اليهودي،

احتفل فيه بنو إسرائيل بخروجهم من ظلم الفراعين، وعودة الحرية بهم

إلى أرض فلسطين! فلله هذا الفصل الجميل كيف يعود فيه الخلق،

ويرجع معه الشباب، وتحيا به الحرية، ويسبح منه الوجود في فيض

من الشعور القدسي يوقظ في الإنسان أنه حي، وفي الحي أنه حر، وفي

الحر أنه جميل، وفي الجميل أنه صالح، وفي الصالح أنه خليق

بملكوت الله وخلافة الأرض

تباركت يا مبدع الربيع، ومصور الجمال، ومعيد الخلق! هذا النبل يتنفس بالحياة ماؤه فما لأنفسنا تموت؟ وهذا الوادي يتفجر بالخصب ثراه فما لآمالنا تذوي؟ وهذا الربيع يرف بالحسن نسيمه فما لأخلاقنا تسوء وتقبح؟ ألسنا جزءاً من الطبيعة نتجدد كما تتجدد، وندور على قطب الحياة كما تدور، ونجري على سنن الكون كما تجري؟ إذن فلماذا يعود إبريل في كل عام فيرد إلى الشجر حلاه، والى البلبل أغاريده، وإلى العش زياطه، والى الحيوان

ص: 1

نشاطه، وإلى العالم كله بهاءه ورونقه. ونلقاه نحن في كل موعد إبان وروده، فلا نجد عنده وا أسفاه ريشة لجناح، ولا نفحة لأمل، ولا جدة لدارس

هكذا قضى الله أن يكون الربيع مستأنف القوة والفتوة والرجاء لكل حي، ومسترجع الذكر الممصة، والأطياف الحزينة لابن آدم! فهذه الشجرة التي تراها فينانة الأفرع ريا الأماليد طالما ورف ظلها السجسج في هذا الأوان على صبي ناعم وهوى وليد! كانت عشاً لطائرين بسط الشباب لهما في الجناح، وفسح الحب لهما في الجو، فيطيران ما شاء الهوى أن يطيرا، ثم يأويان إليها، ويغردان عليها، حتى تقوض العش ونسل الجناح ويبست الحنجرة! وها هي ذي الشجرة عراها الخريف عشرين مرة، وكساها الربيع عشرين مرة، ولكن ذاوي الشبيبة لن ينضر، وماضي الحبيبة لن يعود!!

وهذا المرج الذي تراه موشي البرود منضور الجنبات، كان في عام من الأعوام مسرحاً لمشهد من مشاهد الصبابة! انتظمت به عقود الحب، وأنثرت فيه حبات القلب، وتبددت عليه خطوات السعادة.

ثم تصوح المرج وعاد فاخضوضر وأزهر، ولكن مضاجع الهوى لن تمهد، وذواهب الخطى لن تؤوب!!

وهذا الجدول الرقراق الذي تسمع هسيسه فوق الحصى وتحت الصفصاف، كان في ربيع من الأربعة مرآة لوجهين حبيبين قرءا سراريهما في صفائه، ومزجا حديثيهما بخرير مائه، ثم جف مجراه وما لبث أن فاض، وانقطع حديثه ثم عاد فاستفاض، ولكن الوجهين لن يعود بينهما لقاء، والحديثين لن يكون لانتهائهما ابتداء!

وهكذا يجد الإنسان وحده في كل منظر من مناظر الأرض، ومظهر من مظاهر الربيع، أثراً بعد عين، ودواراً بعد نشوة، وبلي بعد جدة، وذكرى بعد أمل!!

على أن للربيع يداً على النهضة المصرية لا تكفرها له القلوب ما تجدد على الدهر عيده: تلك هي رجعة الروح فيه إلى حياتنا الاقتصادية، وما هذه الروح الراجعة إلا بنك مصر، بثها الله في نفحات الحلد من أوائل مايو، فنضرت من حياتنا ما ذوى، وأقامت من بنائنا ما هوى، واتحدت بطبيعة الزمن الموزون، وحركة الفلك المنتظم، فهي تتقدم ولا تتأخر، وتجري ولا تتعثر، وتطلب الغاية ولا تحيد

ص: 2

لذلك يعود الربيع كل عام فيفتح للناس هوة الماضي، ويفتح لبنك مصر وحده باب المستقبل، فينمو نمو النبات بركة على بركة، ويتضاعف تضاعف الحياة شركة بعد شركة، ويجذب الوجود المصري معه إلى السبيل التي يأمن فيها الفناء ويخرج منها إلى العافية!

بعد ثمانية أيام يحتفل المصريون بمرور خمسة عشر ربيعاً على مولده؛ وسيكون هذا الاحتفال المرتقب حجة لمصر أو حجة عليها! فإذا أجمعت على أن يكون احتفالها بعيده احتفالاً بنهضتها به وحياتها فيه، دلت الناس على جدارتها بفضله، وعرفانها بجميل أهله، واطرادها مع الكفاية والجد في سبيله، وإلا كان احتفالها بهذا العيد العظيم كاحتفالها اليوم بشم النسيم. تحتفل فيه بالفسيخ والعرق والعهر، ثم لا تعبأ بجمال الطبيعة في جنة ولا نهر!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الانتحار

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

حدث المسيب بن رافع الكوفي قال: بينا أنا يوماً في مسجد الكوفة، ومعي سعيد بن عثمان، ومجاهد، وداود الأزدي، وجماعة - أقبل فتى فجلس قريباً منا، وكان تلقاء وجهي؛ لا أمد نظري إلا انطلق في سمته ووقف عليه؛ وكنا نتحدث، فرأيته يتسمع إلى حديثنا؛ فلما تكلم سعيد، وكان خافت الصوت من علة به، وكنا نسميه الملة الصخابة - رأيت الفتى يتزحف قليلاً قليلا حتى صار بحيث يقع في سماعه حسيس نملتنا

وكان سعيد يقول: اجتزت أنا والشعبي أمس بعمران الخياط، فمازحه الشيخ فقال له: عندنا حب مكسور، تخيطه؟ قال: نعم، إن كان عندك خيط من ريح! فقلت أنا: فاذهب فجئنا بالمغزل الذي يغزل الهواء لنصنع لك الخيط

قال مجاهد: هذا ليس بشيء في تنادر شيخنا وما يتفق له؛ أخبرني إن رجلاً جاءه في مسألة، فدخل عليه البيت وهو جالس مع امرأته؛ فقال الرجل: أيكما الشعبي. . .؟ فأومأ الشيخ إلى امرأته وقال: هذه. . .!

قال المسيب: وضحكنا جميعاً، وأخذ نظري الغلام فإذا هو ناكس حزناً وهماً، وكأنه لا يتسمع إلينا ليسمع، بل ليشغل نفسه عن شيء فيها، فتتوزع خواطره، فيتبدد اجتماعها على همه، بصوت من هنا وصوت من هنا، كما يفعل المحزون في مغالبة الحزن ومدافعته، يشغل عنه بصره وقلبه وسمعه جميعاً، فيكون الحزن فيه وكأنه بعيد منه

فقلت في نفسي: أمر أمات الضحك في هذا الفتى وكسر حدته وشبابه. ثم تحولت إليه وقلت: رأيتك يا بني مقبلاً علينا كالمنصرف عنا؛ فما بالك لم تضحك وقد ضحكنا جميعاً؟

قال: إليك عني يا هذا. فأين مني الضحك وأنا على شفير القبر، وروح التراب مليء عيني في كل ما أرى. وكان حفرتي ابتلعت الدنيا التي أنا فيها لتأخذني فيها، وأنا الساعة ميت حي؛ رجل في الدنيا ورجل في الآخرة!

قلت: فأعلمني ما بك يا بني؛ فلقد احتسبت ولداً لي كان في مثل سنك وشبابك ولم ارزق غيره، فقلبي بعده مريض به، يتوسمه مفرقاً في لداته متوهماً أن وجوههم تجمعه بملامحه؛ فأنا من ذلك أحبهم جميعاً وأطيل النظر إليهم والتأمل في وجوههم، ولست أرى أحداً منهم

ص: 4

إلا كان له ولقلبي حديث! فإن رأيته حزيناً مثلك تقطعت له من إشفاق ورحمة، وطالعني فتاي في مثل همه وحزنه وانكساره؛ فيعود قلبي كالعين التي غشاها الدمع، تحمل أثر الحزن ومعناه وسره، فبثني ما تجد يا بني، فلعل لي سبباً إلى كشف ضرك أو إسعافك بحاجتك؛ ولعلك تكون قد حزنت من أمر قريب المتناول هين المحاولة، لم يجعله عندك كبيراً أنه كبير، ولكن انك أنت صغير

قال الفتى: مهلاً يا عم، فإن ما نزل بنا مما تنقطع عنده الحيلة ولا تقاد فيه الوسائل، ولا علاج منه بالموت يأخذنا ويأخذه

قلت: يا بني، هذه كلمة ما احسب أحداً يقولها إلا من أخذ للقتل بجنايته ولم يعف أهل الدم، فهل جنيت أو جنى أبوك على أحد؟

قال: إن الأمر قريب من قريب، فإني تركت أبي الساعة مجمعاً على إزهاق نفسه، وقد اغلق عليه الدار واستوثق من الباب!

قال المسيب: فكأنما لدغتني حية بهذه الكلمة، وأكبرت أن يكون رجل مسلم يقتل نفسه؛ فتناهضت، ولكن الغلام أمسك بي وقال: إنه لا يزال حياً وسيقتل نفسه متى اظلم الليل وهدأت الرجل

قلت: الحمد لله، إن في النور عقلاً، ولكن ما الذي صار به إلى ما قلت، وكيف تركته لقدره وجئت؟

قال الفتى: إنه قال لي: يا ولدي ليس لك أب بعدي، فإن أردت اللحاق بي فارجع مع الليل لنسلم أنفسنا، وان آثرت الحياة فارجع مع الصبح لتسلمني إلى غاسلي!

قلت: أما من أنت إلا يكون أبوك قد أخرجك عنه لان عينك تمسك يده وترده عما يهم به، حتى إذا خلا وجهه منك ازهق نفسه؟

قال: لم أدعه حتى اقسم أن يحيا إلى الليل، وحتى أقسمت أن ارجع لأموت معه، فإن لم تمسكه يمينه أمسكه انتظاري، وقد فرغت الحياة منا فلم يبق إلا أن نفرغ منها؛ ومن كان فيما كنا فيه ثم انحدر إلى ما انحدرنا إليه، لم ير الناس من نفسه ضعة ولا استكانة؛ وإنما خرجت لأسأل هذا الإمام (الشعبي) وجهاً من الرأي فيمن يقتل نفسه إذا ضاقت عليه الدنيا، ونزلت به النازلات، وتعذر القوت، واشتد الضر، وتدلت به المسكنة إلى حضيضها،

ص: 5

والجئ إلى أحوال دقته دق الرحى لما تدور عليه، ولم يعد له إلا رأي واحد في الدنيا: هو إنه مكذوب مزور على الدنيا.

قلت: يا بني. فإني أراك أديباً؛ فمن أبوك؟

قال: هو فلان التاجر، ظهر ظهور القمر ومحق محاقه، وهو اليوم في احلك الليالي واشدها انطماساً، جهده الفقر، ويا ليته كان الفقر وحده، بل انتهكته العلل، وليتها لم تكن إلا العلل مع الفقر، بل اخذ الموت امرأته فماتت هماً به وبي، ولم يكن له غيري وغيرها، وكان كل من ثلاثتنا يحيا للاثنين الآخرين، فهذا ما كان يجعل كلا منا لا يفرغ إلا امتلأ، ولما ذهبت الأم ذهبت الحقيقة التي كنا نقاتل الأيام عنها؛ وكانت هي وحدها ترينا الحياة بمعناها إن جاءتنا الحياة فارغة من المعنى، وكنا من أجلها نفهم الأيام على إنها مجاهدة البقاء؛ أما الآن فالحياة عندنا قتل الحياة. .!

قلت: يا بني، فإنك والله لحكيم، وإني لأنفس بك على الموت؛ فكيف ردتك حياة أمك عن قتل نفسك ولا تردك حياة أبيك؟

قال: لو بقى أبي حياً لبقيت، ولكن الدهر قد انتزع منه آخر ما كان يملك من أسباب القوة، حين اخذ القلب الشفيق الذي كان يجعله يرتعد إذا فكر في الموت؛ فهو الآن كالذي يحارب عن نفسه تلقاء عدو ليرحمه؛ أن عجز عن عدوه قتل نفسه ليستريح من تنكيل العدو به.

قال المسيب ابن رافع: وأدركت أن الفتى يريد من سؤال الشيخ تحلة يطمئن إليها أن يموت مسلماً إذا قتل نفسه كالمضطر أو المكره؛ فأشفقت أن اكسر نفسه إذا أنا حدثته أو أفتيته؛ وقلت: هذا مريض يحتاج العلاج لا الفتيا؛ وكان أمامنا (الشعبي) حكيما لحناً فطناً سقر بين أمير المؤمنين (عبد الملك) وعاهل الروم، فحسدنا العاهل أن يكون فينا مثله. وقلت: لعل الله يحدث به أمراً. فأخذت بيد الفتى إليه، ومشيت أكلمه وأرفه عن نفسه. وقلت له: أما تدري انك حين فرغت من سرور الحياة فرغت من غرورها أيضاً، وان الزاهد المنقطع في عرعرة الجبل ينظر من صومعته إلى الدنيا - ليس باحكم ولا أبصر ممن ينظر من آلامه إلى الدنيا؟

يا بني، أن الزاهد يحسب أن قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله. وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر

ص: 6

والإحسان وغيرها، إذا كانت فيما انقطع في صحراء أو على راس جبل؛ أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟ وأيم الله أن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعاً، لهو الخالي من الفضائل جميعاً!

يا بني، إن من الناس من يختاره الله فيكونون قمح هذه الإنسانية: ينبتون ويحصدون ويطحنون ويعجنون ويخبزون، ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائلها. وما أدراك أنت وأباك إلا من المختارين كأن في أعراقكما دم نبي يقتل أو يطلب!

قال المسيب: وانتهينا إلى دار الشعبي، فطرقت الباب، وجاء الشيخ ففتح لنا، وسلمنا وسلم، ثم بدرت فقلت: يا أبا عمرو، إن أبا هذا كان من حاله كيت وكيت، فترادفت عليه المصائب وتوالت النكبات وتوارت الأسقام. . . ثم اقتصصت ما قال ابنه حرفاً حرفاً، ثم قلت: وانه الآن موشك أن يزهق نفسه وسيتبعه ابنه هذا؛ وقد (هداه الله إليك) فجاء يسألك: أيموت مسلماً من ألجئ واكره واضطر واستضاق واختل، فتحسى سماً فهلك، أو توجأ بجديدة فقضى، أو ذبح نفسه بنصل فخفت، أو حز في يده بسكين فما رقأ دمه حتى مات، أو اختنق في حبل ففاضت نفسه، أو تردى من شاهق فطاح. . .؟

وأدرك الشيخ معنى قولي: (هداه الله إليك)، ومعنى ما أكثرت من الألفاظ المترادفة على القتل وما استقصيت من وجوهه؛ فعلم إني لم أسأله الفتيا والنص، ولكني سألته الحكمة والسياسة؛ فقال: هذا والله رجل كريم، أخذته الأنفة وعزة النفس، وما أنا الساعة بمعزل عن همه، فنذهب نكلمه والله المستعان

ومشينا ثلاثتنا، فلما شارفنا الدار قال الفتى: إنه لا يفتح لي إذا رآكما، وربما استفز بنفسه فأزهقها، وساتسور الحائط وأتدلى ثم أفتح لكما فتدخلان وأنا عنده

ودخلنا، فإذا رجل كالمريض من غير مرض، خوار مسلوب القوة، انزعج قلبه إلى الموت وما به جرأة، والى الحياة وما به قوة؛ وصغر إليه نفسه إنها أصبحت في معاملة الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد، وثابر عليه داء الحزن فأضناه وتركه روحا تتقعقع في جلدها، فهي تهم في لحظة أن تثب وتندلق

وسلم الشيخ وأقبل بوجهه على الرجل، ثم قال:(بسم الله الرحمن الرحيم، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)

ص: 7

فقطع عليه الرجل وقال كالمحنق: أيها الشيخ، قد صبرنا حتى جاء ما لا صبر عليه؛ وقد خلونا من معاني الكلام كله، فما نقدر عليها إلا لفظة واحدة نملك معناها، هي أن ننتهي!

ومد الشيخ عينه فرأى كوة مسدودة في الجدار، فقال لي: افتح هذه ودع الهواء يتكلم معنا كلامه. فقمت إليها فعالجتها حتى فتحتها، ونفذ منها روح الدنيا، وقال الشيخ للرجل: أصغ إلي، فإذا أنا فرغت من الكلام فشأنك بنفسك: أعلمت أن رجلا من المسلمين قد مرض، فأعضل مرضه فأثبته على سريره ثلاثين سنة لا يتحرك، وطوى فيه الرجل الذي كان حياً ونشر منه الرجل الذي سيكون ميتاً، فبقى لا حياً ولا ميتاً ثلاثين سنة. . . .؟

قال الرجل: وفي الدنيا من يعيش على هذه الحال ثلاثين سنة؟

قال الشيخ: صحح الكلام واسأل: أيصبر على هذه الحال ثلاثين سنة ولا يقول: (جاء ما لا صبر عليه)! وأي شيء لا صبر عليه عند الرجل المؤمن الذي يعلم أن البلاء مال غير أنه لا يوضع في الكيس بل في الجسم؟

أفتدري من كان الصابر ثلاثين سنةً على بلاء الحياة والموت مجتمعين في عظام ممددة على سريرها؟ إنه أمامنا (عمران ابن حصين الخزاعي) الذي أرسله عمر ابن الخطاب يفقه أهل البصرة، وتولى قضائها وكان الحسن البصري يحلف بالله ما قدمها خير لهم من عمران بن حصين. ولقد دخلت عليه أنا وأخوه (العلاء) فرأيناه مثبتاً على سرير الجريد كأنما شد بالحبال وما شد إلا بانتهاك عصبه وذوبان لحمه ووهن عظامه؛ فبكى أخوه، فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحال العظيمة! قال لا تبك؛ فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي. ثم قال: إن هذه الأرض تحمل الجبال فلا يشعر موضع منها بالجبل القائم عليه، إذ كان تماسك الأرض كلها قد جعل لكل موضع منها قوة الجميع، ولولا هذا لدك الجبل موضعه وغار به؛ وكذلك يحمل المؤمن مثل الجبال من البلاء على أعضائه لا ينكسر لها ولا يتهدم؛ إذ كانت قوة روحه قوةً في كل موضع، فالبلاء محمول على همة الروح لا على الجسم، وهذا معنى الخبر:(إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن روحه لتنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل!)

ثم قال: ولكن ذاك هو المؤمن، فمن آمن بالله فكأنما قال له:(امتحني) وكيف تراك إذا كنت بطلاً من الأبطال مع قائد الجيش، أما تفرض عليك شجاعتك أن تقول للقائد: (امتحني وارم

ص: 8

بي حيث شئت!) وإذا رمى بك فرجعت مثخناً بالجراح ونالك البتر والتشويه - أتراها أوصافاً لمصائبك، أم ثناء على شجاعتك؟

ثم قال: إذا لم يكن الإيمان بالله اطمئناناً في النفس على زلازلها وكوارثها - لم يكن إيماناً، بل هو دعوى بالفكر أو باللسان لا يعدوهما، كدعوى الجبان أنه بطل، حتى إذا فجأه الروع أحدث في ثيابه من الخوف. . .! ومن ثم كان قتل المؤمن نفسه لبلاء أو مرض أو غيرهما كفراً بالله وتكذيباً لإيمانه، وكان عمله هذا صورة أخرى من طيش الجبان الذي احدث في ثيابه!

والإيمان الصحيح هو بشاشة الروح، وإعطاء الله الرضى من القلب، ثقة بوعده ورجاة لما عنده، ومن هذين يكون الاطمئنان. وبالبشاشة والرضى والثقة والرجاء، يصبح الإيمان عقلاً ثانياً مع العقل. فإذا ابتلى المؤمن بما يذهب معه الصبر ويطيش له العقل، وصار من أمره في مثل الجنون - برز في هذه الحالة عقله الروحاني وتولى سياسة جسمه حتى يفيق العقل الأول. ويجيء الخوف من عذاب الله ونقمته في الآخرة، فيغمر به خوف النفس من الفقر أو المرض أو غيرهما، فيقتل أقواهما الأضعف، ويخرج الأعز منهما الأذل

فالاطمئنان بالإيمان هو قتل الخوف الدنيوي بالتسليم والرضى، أو تحويله عن معناها بجعل البلاء ثواباً وحسنات، أو تجريده من أوهامه باعتبار الحياة سائرةً بكل ما فيها إلى الموت، وهو بهذا عقل روحاني له شأن عظيم في تصريف الدنيا، يترك النفس راضية مرضية، تقول لمصائبها وهي مطمئنة: نعم، وتقول لشهواتها وهي مطمئنة: لا وما الإنسان في هذا الكون، وما خيره وشره، وما سخطه ورضاه؟ إن كل ذلك إلا كما ترى قبضةً من التراب تتكبر وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها. . . .!

قال الشيخ: وانظر، أما تبتلى الشجرة الخضراء في بعض أوقاتها بمثل ما يبتلى به الإنسان، غير أن لها عقلاً روحانياً مستقراً في داخلها يمسك الحياة عليها ويتربص حالا غير الحال؛ ومهما يكن من أمر ظاهرها وبلائه فالسعادة كلها في داخلها، ولها دائماً ربيع على قدرها حتى في قر الشتاء

فالعقل الروحاني الآتي من الإيمان، لا عمل له إلا أن ينشئ للنفس غريزة متصرفةً في كل غرائزها، تكمل شيئاً وتنقص من شيء، وتوجه إلى ناحية وتصرف عن ناحية؛ وبهذه

ص: 9

الغريزة تسمو الروح فتكون اكبر من مصائبها واكبر من لذاتها جميعاً وتلك الغريزة هي نفسها معنى الرضا بالقدر خيره وشره، وهي تأتي بالتأويل لكل هموم الدنيا، فتضع في النكبات معاني شريفةً تنزع منها شرها وأذاها للنفس، وليست المصيبة شيئاً لولا تأذي النفس بها. وإذا وقع التأويل في معاني النكبات أصبحت تعمل عمل الفضائل، وتغيرت طبيعتها، فيعود الفقر باباً من الزهد، والمرض نوعاً من الجهاد، والخيبة طريقاً من الصبر، والحزن وجهاً من الرجاء، وهلم جراً

والنفس وحدها كنز عظيم، وفيها وحدها الفرح والابتهاج لا في غيرها، وما لذات الدنيا إلا وسائل لإثارة هذا الفرح وهذا الابتهاج، فإن وجدا مع الفقر بطلت عزة المال واصبح حجراً من الحجر، والبلبل يتغرد بحنجرته الصغيرة ما لا تغنى فيه آلات التطريب كلها. وفي النفس حياة ما حولها، فإذا قويت هذه النفس أذلت الدنيا، وإذا عفت أذلتها الدنيا!

قال المسيب: ثم سكت الشيخ قليلاً، وكنت أرى الرجل كأنما يغتسل بكلامه، وقد اشرق وجهه وتنضر وانقلب إلى روحه التي كان منصرفاً عنها، فعادت مصائبه تضغط روحاً لينةً كما تضغط اليد على الماء، وأيقن إن النكبة كلها هي أن ينظر الإنسان إلى الحياة بعين شهواته فينكب أول ما ينكب في صبره ويقينه

ثم قال الشيخ، ولقد رأيت بعيني رأسي معجزة (العقل الروحاني) وكيف يصنع: رأيت عروة ابن الزبير وهو شيخ كبير - عند الوليد بن عبد الملك، وقد وقعت في رجله الأكلة، فأشاروا عليه بقطعها لا تفسد جسده كله، فدعى له من يقطعها، فلما جاء قال له نسقيك الخمر حتى لا تجد لها ألماً. فقال عروة: لا استعين بحرام الله على ما أرجو من عافية! قال: فنسقيك المرقد. فقال عروة: ما احب أن اسلب عضواً من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فاحتسبه

ثم دخل رجال أنكرهم عروة، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يمسكونك، فإن الألم ربما عزب معه الصبر. قال أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي!

قال الشيخ: فانظر أيها الضعيف الذي يريد قتل نفسه كيف صنع عروة، وكيف استقبل البلاء، وكيف صبر، وكيف احتمل. إنه انصرف بحسه إلى النفس فانبسطت روحه عليه، وأخذ يكبر ويهلل ليبقى مع روحه وحدها، وخرج من دنيا ظاهره إلى دنيا باطنه، وغمرت

ص: 10

حواسه وأعصابه بالنور الإلهي من معنى التكبير والتهليل، فقطع القاطع كعبه بالسكين وهو لا يلتفت، حتى إذا بلغ العظم وضع عليها المنشار ونشرها وعروة في التكبير والتهليل. ثم جيء بالزيت مغلياً في مغارف الحديد فحسم به مكان القطع، فغشى على عروة ساعة ثم أفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، ولم يسمع منه في كل هذه الآلام الماحقة أنة ولا آهة، ولم يقل قبلها ولا بعدها ولا بين ذلك:(جاء ما لا صبر عليه؟)

قال المسيب: وارهف بأس الرجل الضعيف وقوى جأشه وانبعثت فيه الروح إلى عمر جديد، ونشأ له اليقين من عقله الروحاني وعرف إن ما لا يمكن أن يدرك، يمكن أن يترك

وجاء هذا العقل الروحاني فمر بالمنشار على اليأس الذي كان في نفسه فقطعه، فما راعنا إلا أن وثب الرجل قائماً يقول: الله اكبر من الدنيا، الله اكبر من الدنيا!

ثم أكب على يد الشيخ وهو يقول: صدقت؛ (إن كل ذلك إلا كما ترى قبضةً من التراب تتكبر، وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها)

ماذا يصنع الإنسان إذا غلط في مسألة من مسائل الدنيا إلا أن يتحرى الصواب ويجتهد في الرجوع إليه ويصبر على ما يناله في ذلك؟ وماذا يصنع الإنسان إذا غلطت فيه مسألة. . . . . . . . .؟

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 11

‌عصر الخفاء في مصر الإسلامية

4 -

الحاكم بأمر الله

للأستاذ محمد عبد الله عنان

والآن ماذا نستطيع أن نقرأ في هذا الثبت الدموي الحافل من خواص الحاكم وصفاته؟ لقد كانت هذه الجرائم المثيرة بلا ريب عنوان اجتراء مروع على الشر، وشغف واضح بالسفك واحتقار بين للحياة البشرية؛ ولكنها لم تكن نزعة دموية فقط، ولم تكن بالأخص دون غاية. كان الإرهاب في نظر الحاكم وسيلة للحكم، وكان القتل المنظم دعامة هذا الإرهاب الشامل؛ فإذا زعيم أو رجل من رجال الدولة وصل إلى مدى خطر من السلطان والنفوذ، فإن القتل انجح وسيلة لسحقه وسحق نفوذه؛ وإذا بدرت من فريق من الناس بادرة تذمر أو تمرد على أمر من الأوامر أو قانون من القوانين، فإن إزهاق عدد منهم يكفل عودهم إلى السكينة والخشوع. وكانت هذه السياسة الدموية تحيط عرش الحاكم بسياج منيع من الرهبة، وتخمد الأطماع المتوثبة في مهدها، وتنذر الزعماء ورجال الدولة بالخضوع المطلق لهذا الفتى الجريء. ولقد كان القتل دائماً وسيلة الطغاة إلى تأييد سلطانهم، وكان الحاكم طاغية قوى النفس والشكيمة. وقد كانت الأهواء والفورات العنيفة التي تجيش بها نفس الحاكم تمد هذه السياسة الدموية بروح من الإسراف والقسوة، ولكنها كانت في نظره قبل كل شيء وسيلة من وسائل الحكم، وكان لها بلا ريب اكبر الأثر في توطيد سلطة الحاكم، وسحق عناصر الخروج والثورة التي تتربص عادة بأمثاله الطغاة المسرفين

هذا ويفسر لنا بعض المؤرخين المسلمين إسراف الحاكم في القتل بأنه كان تقرباً منه (لزحل وطالعه المريخ)، وقد كان الحاكم شغوفاً بالفلك ورصد النجوم كما سنرى، ولكنا لا نستطيع أن نسيغ هذا الرأي من الوجهة التاريخية، فليس في سيرة الحاكم رغم شذوذه، وتباين معتقداته وشغفه بالخفاء، ما يدل على أنه كان يأخذ بمثل هذه الرسوم الوثنية المثيرة

- 6 -

كان شغف الحاكم بالليل من اظهر خواص هذه المرحلة الأولى من حكمه. كان الحاكم يعقد مجالسه ليلاً، ويواصل الركوب كل ليلة، وينفق شطراً كبيراً من الليل في جوب الشوارع

ص: 12

والأزقة (سنة 391هـ)، وكانت القاهرة تبدو في هذه الفترة بالليل، كأنها شعلة مضيئة؛ وتجري جميع المعاملات بالليل، وتختلط حياة الجد بحياة اللهو والقصف، فتسطع الميادين والمنتديات بالوقود والزينات، وتغص بصنوف اللهو والمرح. فلما خرج الناس في ذلك عن الحد، وبالغوا في اللهو والإسراف والزينة، منع الحاكم النساء من الخروج ليلاً لكي تخف عوامل الفتنة والغواية، ثم أمر بمنع الرجال من ارتياد الحوانيت والمقاهي، وعاد الظلام يخيم على القاهرة بالليل؛ وشغف الحاكم بالليل وظلماته من غريب أطواره ونزعاته، حتى لقد لبث مدى حين يؤثر الجلوس في الظلام بيد أنه ينم في نظرنا عن روح فلسفي يزيد في غموض نفسه

ولم يمض عامان أو ثلاثة حتى عمد الحاكم إلى إصدار طائفة من الأوامر والقوانين المدهشة التي لم يسمع بمثلها من قبل في أي مجتمع إسلامي، وكانت هذه المراسيم دينية واجتماعية، وكان مما يزيد في غرابتها وغموض بواعثها إنها كانت تصدر ثم تمحى بعد قليل وتستبدل بعكسها، ثم يعاد صدورها وهكذا. وقد اتخذ المؤرخون المسلمون على كر العصور هذه المراسيم حجة للحكم على الحاكم وعصره بأقسى الأحكام، واكتفوا في تعليلها بنظرية بسيطة، هي أن الحاكم كان ذهناً مضطرباً لا يصدر عن روية أو حكمة، ولم تكن هذه الأوامر والإجراءات الشاذة سوى نزعات مخبول لا يستقيم له منطق أو غاية. ويحسن قبل أن نناقش هذا الرأي أن نستعرض المراسيم أولاً، وان نحاول أن نتفهمها، وان نستقصي بواعثها على ضوء الظروف التي كان يجوزها المجتمع يومئذ

ونبدأ بالمراسيم الاجتماعية. في سنة 395هـ، صدرت أول طائفة من هذه القوانين المدهشة، فمنع الناس من أكل الملوخية والترمس والجرجير والتوكلية والدلينس، وحرم ذبح الأبقار السليمة إلا في أيام الأضحية، وحرم بيع الفقاع وعمله البتة وحرم صيد السمك الذي لا قشر له وكذلك بيعه؛ وحرم دخول الحمام بلا مئزر؛ وحرم على النساء أن يكشفن وجوههن في الطريق، أو خلف الجنائز، وحرم عليهن التزين والتبرج؛ وشدد الحاكم في تنفيذ هذه الأوامر، وعوقب كثيرون من المخالفين بالجلد والتشهير والإعدام. ثم حرم على الناس أن يخرجوا من منازلهم إلى الطرقات بعد الغروب، وان يزاولوا البيع والشراء بالليل، فخلت الطرق من المارة، وأقفرت الشوارع والميادين بالليل، وغدت القاهرة كالمدينة

ص: 13

المحصورة؛ وحرم شرب الخمر من نبيذ وغيره، وكسرت أواني الخمور وأريقت في كل مكان، وأمر بتتبع الكلاب وقتلها أينما وجدت، فطوردت في كل مكان وأعدمت حتى خلت منها كل الطرق والدور؛ وفي هذا العام أيضاً حرم على كل من يركب مع المكاريين أن يدخل راكباً من باب القاهرة، وحرم ذلك على المكاريين أنفسهم، وحظر على التجار والباعة أن يجلسوا على باب الزهومة (من أبواب القصر)، وألا يمشي أحد بحذاء القصر، ثم أعفى المكارية بعد ذلك من الأمر وصدر لهم أمان خاص

وهكذا اضطربت أوضاع الحياة الاجتماعية المصرية، واستمر تطبيق القوانين والأوامر الجديدة على اشده. وفي سنة 398هـ صدرت عدة مراسيم جديدة؛ فمنع الناس من التظاهر بالغناء، ومن ركوب البحر للتفرج، وذلك لمناسبة نقص النيل في هذا العام؛ وشدد في منع بيع الخمور؛ ثم صدر مرسوم بمنع الناس كافة من الخروج قبل الفجر وبعد العشاء، فزادت المعاملات اضطراباً واشتد الأمر على الكافة، وسرى إليهم الخوف والجزع، واشتد الغلاء، وتفاقمت الحال بظهور الوباء، وعصف المرض والموت، وعز القوت والدواء. وفي سنة أربعمائة صدرت أوامر جديدة بالتشديد في حظر الخمور وبيعها؛ ومنع ركوب المراكب في الخليج، وسدت أبواب القاهرة التي تلي الخليج وأبواب الدور والطاقات المطلة عليه وعوقب الكثيرون من اجل إحراز الفقاع والملوخية والسمك الذي لا قشر له ومن اجل بيع النبيذ وإحرازه، وكانت العقوبة تصل في أحيان كثيرة إلى الإعدام. وفي سنة اثنتين وأربعمائة منع النساء من زيارة القبور، فلم ير في الأعياد بالمقابر امرأة واحدة، وحظر الاجتماع على شاطئ النيل للتفرج؛ وحرم لعب الشطرنج وعوقب المخالفون بالجلد؛ وحظر بيع الزبيب واستيراده، واحرق جميع ما كان موجوداً منه، وحظر بيع العنب إلا أربعة أرطال فما دونها حتى لا يستعمل في صنع النبيذ، وحظر عصره واتلف كثير منه واغرق في النيل أو ديس في الطرقات، وسير المأمورون إلى الجيزة، وكانت يومئذ عامرة بحدائق الكروم فأتلفوا كرومها، وصودر ما كان في معاصرها ومخازنها من جرار العسل، وكسرت وأريقت في النيل، وحدث مثل ذلك في سائر الجهات

وفي سنة أربعة وأربعمائة صدر مرسوم بتحريم صناعة التنجيم والكلام فيها، وان ينفى المنجمون من سائر المملكة، فاستغاث المنجمون بالقاضي الأكبر مالك بن سعيد الفارقي،

ص: 14

فعقد لهم التوبة من هذه الصناعة، واعفوا من قرار النفي؛ وحدث مثل ذلك للمغنين والمطربين، فهجروا الغناء واعفوا من المطاردة؛ وشدد في قتل الكلاب مرة أخرى. وفي شعبان من هذه السنة ذهب الحاكم في معاملة النساء إلى ذروة القسوة والشدة، فاصدر مرسومة الشهير بمنعهن من مغادرة دورهن والخروج إلى الطرقات بالليل والنهار، ومنعهن من دخول الحمامات العامة، ومنع الأساكفة من عمل خفافهن، فاختفى النساء من المجتمع المصري، وساده الانقباض والوحشة، وأغلقت المتاجر التي تبيع السلع النسوية، وساد الذعر بين النساء، ولزمن دورهن في روعة وخشوع، وعوقب كثير من المخالفات بالموت؛ واشتد الأمر بنساء الكافة اللائى ليس لهن من يقوم بأمرهن واستغثن بأولي الأمر، فأمر الباعة أن يحملوا السلع والأطعمة وكل ما يباع في الأسواق إلى الدروب، ويبيعوه للنساء في منازلهن، وان يحمل الباعة أداة كالمغرفة لها ساعد طويل يمد إلى المرأة وهي من وراء الباب وفيه ما تشتريه، فتتناوله وتضع مكانه الثمن، ولا يسمح لها مطلقاً أن تبدو من وراء الباب وعانى النساء هذه الشدة زهاء سبعة أعوام حتى وفاة الحاكم بأمر الله، وكان حادثاً منقطع النظير. ولم يحدث قط في أي مجتمع إسلامي، بل لم يحدث في أي عصر من عصور التاريخ أن عانى النساء مثل هذه المحنة القاسية، وسلبن الحرية على هذا النحو الشامل

وكان مما يزيد في صرامة القوانين الاستثنائية، الشدة في تنفيذها، وروعة العقوبات التي سنت لمخالفيها؛ وكان السهر على تطبيقها من أهم واجبات مدبر الدولة أو قائد القواد؛ فنجد مثلاً في السجل الصادر بتعيين (غين) قائداً للقواد ومديراً للشرطة والحسبة، (سنة 402هـ) تنويهاً خاصاً بمراعاة تحريم النبيذ وغيره من الخمور وتتبع ذلك والتشديد فيه، وفي تحريم الفقاع وبيعه، وتحريم أكل الملوخية والسمك الذي لا قشر له، والمنع من الفرجة والملاهي كلها، ومنع النساء من حضور الجنائز، ومنع بيع الزبيب والعنب والعسل الخ، وكانت العقوبات تختلف بين التشهير والجلد، وتصل في أحيان كثيرة إلى الإعدام

هذه خلاصة وافية لما أصدر الحاكم أو أصدر في عهده من المراسيم والأوامر الاجتماعية الاستثنائية، ومعظمها يحمل طابع القسوة والشذوذ؛ ولكن سنرى إنها لم تكن دون غاية، ولم تصدر كما يبدو لأول وهلة، عن نزعة مخبول أو هائم، وان كثيراً منها يحمل بالعكس

ص: 15

طابع الطرافة والحكمة، ويرمي إلى غايات بعيدة قد فطن إليها هذا الذهن الجريء، واتخذ منها مثلاً

- 7 -

نعرض بعد ذلك إلى طائفة أخرى من مراسيم الحاكم بأمر الله هي المراسيم الدينية، وقد كانت كالمراسيم الاجتماعية تحمل في كثير من الأحيان طابع الشدة والتناقض

وبدأ الحاكم بهذه المراسيم الدينية لأول عهده بالحكم أيضاً. ففي سنة 395هـ، اصدر أمره للنصارى واليهود بلبس الغيار وشد الزنار؛ وفي سنة 99 أمر بهدم بعض كنائس القاهرة ونهب ما فيها، ونفذت الأوامر بهدم كنيسة قمامة (القبر المقدس) ببيت المقدس ونهبها، ولكن أكابر الأحبار والنصارى سعوا على ما يظهر حتى عدل عن تنفيذ الهدم؛ وفي العام التالي صدر مرسوم جديد بالتشديد على اليهود والنصارى في لبس الغيار وتقلد الزنار. وفي سنة 402 صدر مرسوم شامل ضد النصارى واليهود، يقضي بأن يلبسوا العمائم السود، وان يعلق النصارى في أعناقهم صلباناً ظاهرة من الخشب طول الواحد منها ذراع في ذراع ووزنه خمسة أرطال، وان يعلق اليهود في أعناقهم قرامي من الخشب زنتها خمسة أرطال أيضاً. وحرم على الفريقين معاً ركوب الخيل، وان يكون ركوبهم الحمير والبغال بسرج من الخشب وسيور سود عاطلة من كل حلية، وألا يستخدموا مسلماً أو يقتنوا عبداً مسلماً أو جارية مسلمة، أو يركبوا حماراً لمكاري مسلم، أو سفينة لملاح مسلم، وأن يحمل النصارى الصلبان، واليهود الأجراس في أعناقهم عند دخول الحمام تمييزاً لهم عن المسلمين؛ ثم أفردت لهم بعد ذلك حمامات خاصة، وعلقت الصلبان على حمامات النصارى، وقرامي الخشب على حمامات اليهود، وطبقت هذه الأوامر والقوانين بمنتهى الصرامة فاشتد الأمر على اليهود والنصارى وساد بينهم الروع والرهبة، وأسلم كثيرا منهم تجنباً لهذه المطاردة ونفى الكثير منهم خارج الديار المصرية، وهدم كثير من الكنائس والأديار والبيع ونهبت، وصدر بعد ذلك أمر جديد بهدم كنيسة قمامة (القبر المقدس). وعانى اليهود والنصارى هذه المحنة أعواماً، وكانت من اشد ما عانوا في ظل الدولة الإسلامية بمصر. ثم خفت وطأة المطاردة عنهم، وأطلقوا من بعض قيودهم، وسمح لهم بتجديد ما درس من الكنائس والبيع، وارتد كثير ممن أسلموا منهم إلى دينه الأول، بيد انهم

ص: 16

لبثوا يعانون آثار المحنة حتى وفاة الحاكم بأمر الله

ولقد كانت هذه المطاردة الصارمة للذميين من أهم ظواهر عصر الحاكم بأمر الله؛ وكانت بلا ريب خطة مقررة، ولم تحمل في مجموعها طابع التناقض، ونستطيع أن نقول إنها كانت انقلاباً جوهرياً في السياسة الفاطمية إزاء اليهود والنصارى. ذلك إن الدولة الفاطمية، كانت منذ قيامها بمصر تؤثر سياسة التسامح الديني، وتذهب في هذا التسامح إلى ابعد مدى، فتصطفي اليهود والنصارى، وتوليهم الثقة والنفوذ، وكان بين وزرائها كثير من اليهود أو النصارى مثل الوزير يعقوب بن كلس وزير المعز، ثم ولده العزيز، فقد كان يهودياً ثم اسلم، وكان اعظم وزراء الدولة الفاطمية؛ وعيسى بن نسطورس النصراني، ومنشا اليهودي، وزيرا العزيز بالله؛ وتولى الحكم ثلاثة من الوزراء النصارى في الفترة الأولى من عصر الحاكم ذاته، هم الرئيس فهد بن إبراهيم، وابن عبدون، وزرعة بن عيسى بن نسطورس،. وكان النصارى واليهود يتمتعون قبل عصر الحاكم بكثير من الحرية والتسامح، ويؤذن لهم ببناء الكنائس والأديار والبيع. ولم يشذ الحاكم عن هذه السياسة لأول عهده، وكان ذلك راجعاً إلى نفوذ الوزراء النصارى، وربما إلى نفوذ أمه النصرانية وأخته ست الملك، وقد كانت تؤثر سياسة أبيها العزيز في الرفق بالذميين؛ ولكن الحاكم انقلب فجأة إلى سياسة المطاردة الدينية، وأبدى في تطبيقها منتهى الغلو والتطرف، بيد إنا سنرى أن هذه السياسة ترجع أيضاً إلى بواعث لها خطرها وقيمتها.

للبحث بقية

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 17

‌كلمات.

. .

للأستاذ محمد روحي فيصل

الشعراء ثلاثة: شاعر موهوب ينفث من صدره معنى الفاظه، ويستخرج من لغته ألفاظ معناه! ينحدر إلى طبعه عند البيان، وينطوي على نفسه لينشرها ويجلو المبهم منها، ويدع العرض العابث، ويفرز المتداخل المتشابك، ثم يسجل الخلجة الجميلة أو الخاطر الأصيل وكأنما يلد من لحمه ودمه جنيناً حياً، يكفله ويحبه ويحرص على أن يكون قوياً نشيطاً صحيحاً، ويأخذه بألوان من التهذيب والرعايا والنضارة حتى يثمر ويؤاتي أكله. ولئن نصب الشاعر في الولادة، وعانى ألم البيان، فلقد يستمتع بمرأى الوليد النضر الجميل يسعى وينطق، ثم يكون له أثره القوي في الوجود، ونصيبه الموفور من الحياة، وفضله العميم على الناس. .!!

وشاعر ميت يتصيد اللفظة الشاردة والكلمة المتأبدة والحرف الناشز من بطون المعاجم، وإنتاج الزملاء، وقديم الشعراء، وكأنما يتصيد الفريسة الدسمة الفارهة السمينة! ويلتزم صنعة البديع وحسن التشبيه ودقة المقابلة ورقة الجناس، وكأنما يلتزم طرائق البيان الخالدة، ويعلن عن ثقافته البالغة وذوقه الصحيح!

وشاعر مفلس لو اجتمع المرثاء، واعتزم التعزية والبكاء، لتصفح المراثي الباكية واحدة واحدة، ومعنى معنى، وبيتاً بيتاً، ثم اختلس هذا، وشوه هذا، وحرف ووجه وزاد. . لقد يقتفى المسكين روائع غيره، ويختبئ وراء نظمه، وينزل عن شخصيته، ويسف بكرامته - حباً للذكر والأحدوثة!

قال التاريخ: (عبثاً ينتج شاعر الصنعة وشاعر السرقة)

الألفاظ! الألفاظ!

أداة المبين، ووكر المعنى، وسر الفن! والشاعر العبقري من عرف كيف يزاوج بينها ثم أحسن التأليف، وأبدع الموسيقى، ونشر الجرس! فإنما الشعر لو تدبرت نغم علوي لطيف يهز الأذن، ويشيع في القلب، ويحيا في النفس، ويخلد في الذاكرة، ويرن في الخيال. كان اللفظ وما يزال الساحر العجيب الذي يلعب بالأهواء والأعصاب كما يلعب المرتاض بكرة القدم، ولعلك تذكر فيما تذكر درامة شكسبير في يوليوس قيصر، وقوة البيان عند انطوان

ص: 18

وبروتس، وسلطان اللفظ على العامة والرومانيين

لشد ما يشبه الفنان الإنسان الأول أو الطفل الناشئ! ينظر إلى الدنيا بعين رغيبة، ويشعر بنفس ظمآنة، ويفكر بعقل طلعة. ولكنه يمتاز منهما - إن صح له الامتياز - بأنه يجمع الأسباب وينظم المنثور، ويلمح التناسب، ويتذوق الجمال! ومهمته الكبرى أما هي على التحقيق الانحدار إلى النفس ينفض غبارها، ويكشف اتساقها، وينير زواياها، ثم يخرجها لغة تهز القلب وتفيد العقل

كذلك العالم في استقرائه يدرك المجهول، ويصل العلة بالمعلول، ثم يضع القاعدة ويعمم القانون، فلو خطا أحد أمامه خطوة أو خطوتين لقدّر القوة، وراز الشدّة، وقاس المسافة، ووزن الكتلة، وانتهى من هذا كله إلى تقييد الحركة وإعلان العمل العالم والفنان كلاهما ينظر إلى أبعد من أنفه، ويسبر غور الأشياء. لقد يشتركان في الذات، ويتداخلان في الموضوع، ثم يختلفان بعد هذا في الآلة والطريق. . .!!

أرأيت إلى الحياة في مضطربها كيف تبدلها اللمحة، وتنقلها الملاوة، وتصبغها العاطفة، وتخضعها الظروف؟ ذلك ما يبعث على خلودها وامتدادها وجدَّتها وجمالها، وذلك ما وكل إلى الفن بتصويره. فالحقيقة الفنية تتصل بالمزاج والزمن والموقف، وهذه كلها أبداً في تطور مستمر عجيب، أما الحقيقة العلمية فثابتة على الدهر والأشخاص، ولئن طرأ عليها تحوير أو هدم فإنما يكون لتقريبها من الصحة والدقة والشمول

الدنيا واحدة عند العالم من حيث الجوهر والنظام. ولكنها دنى كثيرة عند الفنان من حيث الشكل والإحساس

ما عجبت لأحد من أبناء الفن عجبي لهؤلاء الأدباء اللذين يزهون بأنفسهم فلا يكتبون إلا لها، ويعنون بعواطفهم فلا يتحدثون إلا عنها، وهم لو سئلوا ما بال الجمهور يقرأ آثاركم وينشد أشعاركم؟ لقالوا: إنه متطفل يحب أن يسمو بقدره إلى منازل الكتاب والشعراء، فيستشعر الذي يستشعرون، ويطوف حيث يطفون. فالجمهور - مهما دقت نظرته وسمت أهواؤه - طفل لدن ما برح في كل العصور والأقوام يلهو ويعبث!!

أدب هؤلاء الأثرين يغشاه في أغلب الأحيان غموض، وتطل عليه فوضى، ثم لا يصح معه مقياس من المقاييس الأدبية المعروفة، وكيف تستطيع أن تقدره وتحكم له أو عليه ما دمت

ص: 19

لا تفهمه ولا تتذوقه؟ إنما ينبغي للكتاب والشعراء أن يقطفوا من النفس والحياة ما يشترك في فهمه الناس جميعاً، أو الكثرة الغالبة من الناس، أو الطبقة النيرة منهم. ولئن صادف ألاَّ يكون هذا ولا هذا فهو إلى السخف والهذيان أدنى وأقرب. . .

غاية الفن أن يجلو النفوس ويهز الشعور، النفوس بأسرها والشعور على تلونه، شريطة أن تكون نفسنا وشعورنا في البداءة!

الكلمة الواحدة تدخل في رأسين اثنين، فتحمل إلى هذا النشوة والسلام، وتحمل إلى ذاك الفتنة والآلام!

كل امرئ وإن ثار متصل بالمجتمع، مدني بالطبع. وهذه الوشائج القوية المبهمة التي تربطه بالإنسانية تؤثر فيه ويؤثر فيها، قد لا يلمحها أوساط الناس وطغمتهم، وإنما تلمحها طائفة رفيعة خصها الله بسلامة الفكر، وحسن البصر، وقوة التصور، وهبة التصوير

قد يجيش صدر الأديب بالمعاني حتى ما يستطيع أن يحتملها، وقد ينضب حتى كأنه بلقع قفر. فحياته أبداً في نقلة وتناقض واضطراب، ما أشبه بإسفنجة رخوة لدنة تمتلئ حيناً وتفرغ حيناً! فكل ما خرج على لسانه قد تمثله من قبل ووعاه خياله، قاعدته في البيان:(خذْ وأعط)

قال سنت بوف: نصيحتي إلى أدباء الشباب ألاَّ يقلدوا من يعجبون بهم من أعلام البيان ورجال الفن، فذلك يميت نفوسهم ويشوه شخصيتهم، وإنما يتذوقون آثارهم فحسب، ثم يصورون حياتهم الخاصة كما صورها في صدق وغير تكلف، وليكن لهم مثل أعلى يوجه إنتاجهم ويصحح مقاييسهم ويهذب أهواءهم، ولا غضاضة عليهم - وهم ينشئون في لغتهم الصحيحة متأثرين بالمحيط والبيئة يستمدون منهما الوحي والقوة - أن يتساءلون من حين لآخر، وجباههم مرفوعة إلى السماء، وعيونهم شاخصة إلى الأموات الأحياء:(ترى ماذا يقال فينا!)

تستهل الحياة الأدبية عملها في الفرد والأمة بالشعر، وتدرج على الشعور، ثم تستشرف للتفكير، وتنتهي إلى النثر. ويكاد هذا يكون قانوناً لا يقبل استثناء، فلقد تذكو العاطفة فينطلق الكلام شعراً منظوماً، ويخبو الوجدان فينمو العقل ويستفيض النثر! وهنا السر كل السر في مناعة الشعر الصادق الرفيع، وندرة النابغين فيه من المعاصرين

ص: 20

القارئ - هذه قصيدة قديسة قد فرعت من تلاوتها منذ حين. ما أصدقها وما أنور معانيها! إنها الحقيقة بإطارها وإشراقها! لا، إنها قطعة من حياتي! لا لا، إنها مصدر حياتي! ويح نفسي كم أحب أن أعلن هذا الشاعر. . .

المرأة - حذار حين تلقاه أَلاَّ تهمس في مسمعيه ما تريده، وحذار أن يجمد خاطرك ويحتبس لسانك وتنكمش طبيعتك! إنما الشاعر خطيب لسن قد وقف إلى الراديو يرسل معانيه الطلقة كأشعة رفَّافة تنطلق في الفضاء وتتوزع على الأرض، ما يرى جمهوراً صاغياً مشجعاً ولا خيالاً لجمهور، ولكن حياة صامتة هادئة تأخذ السبل وتملأ العيون! أرأيت إلى الحياة الصامتة الهادئة كيف تكون جافة ملولة إذا لم يتخللها الفينة بعد الفينة صراخ النقد أو هتاف الاستحسان! لقد يطل من كوة الفضاء صدى جميل تبرق له أسارير الشاعر، وينطلق بيانه، وتخصب عبقريته، ويسمو إنتاجه، ثم يعلم أن معانيه التي أرسلها شعاعاً قد لامست حياً يسعى، وحسب الفنان هذا من غاية وراحة!!

القارئ - أنا متصل يا عزيزتي اتصالاً وثيقاً بكبار الكتاب وسادة الفن، أما (ع) في الشعراء فقد تلابسينه اليوم واليومين وتجلسين إليه طويلاً، وتتحدثين إليه ما شئت أن تتحدثي، فما يبرح في حضرتك جامداً بكئ اللسان، سخيفاً إذا ارتأى، مضحكا ًإذا أشار، ينشر عليك اضطراباً من رأيه ودمامة من وجهه ووساخة من ملبسه! ولكن ما يكاد يرجع إلى نفسه ويغلق أبواب غرفته، ويستحي شيطان شعره حتى ينقلب مبيناً محدثاً حلواً رائعاً في رأي البصر ورأي البصيرة. لشدّ ما أسكرتني أشعاره وهزتني موسيقاه! فنصيحتي إليك ألا تقربي عظماء الرجال، أو تدخلي بيوتهم وتعيشي في ظلهم، ولكن اعشقيهم إن شئت عن بعد، وكوني معهم على غير اتصال!

المرأة - دع (عيناً) هذا فما أحب أن نتحدث فيمن غبر من الأحياء. إنما الأموات خيوط عريضة قوية تنسج مادة الماضي وتقوّم أحداث التاريخ، وتؤلف وحدة الأمة! هذا ابن أبي ربيعة الكبير كان يدلف إلى الكواعب الحسان في فحمة الليل، وغفوة الناس، وغفلة الحراس، فيقضي لبانته منهن كما شاء الهوى والشباب، ثم يلاقي ناقته في العراء، ويغيب في مطاوي الزمن! ومثله في اجتلاء الجمال جوت وبودلير ولامرتين يسبحون جاهدين في بحر الوجود، لا يستشرفون إلى شاطئ من شطآنه، ولا تريحهم موجة من أمواجه. . .

ص: 21

القارئ - هم يسبحون؟ لا، إنهم أوعية يملؤها الزمان ويختبئ فيها

المرأة - ثق أن الفنان يعطي أكثر مما يأخذ، ويعمل أكثر مما يجب، ويهب أكثر مما يدع

القارئ - ماذا تعنين؟

المرأة - أعني أنك مخطئ حين تجل الفن وتجعله تاجاً جميلاً على رأس الإنسانية، فالفنان كالممثل يصور معالم الحقيقة، ومواضعات الناس، واضطراب الحياة فهو كما ترى (ناقل) لا (مخترع). هو نفس في النفوس، ورجل كالرجال

القارئ - هل دريت إن حفيد الشاعر المشهور (ج) قد مات على أسوأ ما يموت البؤساء من الفقر والوحدة والنكران؟ أنا أرى إلا يعقب الفنان ذرية تعيش من بعده، وتسعى خلف نعشه، وإنما يقوم بعمله الفني أعزب وحيداً في ذاكرة التاريخ

المرأة - أنا لست أرى هذا، فالفنان حلقة في سلسلة الإنسانية ما ينبغي أن يكون آخرها وقاطعها، فلينحدر منه الناس كما انحدر هو من الناس، فأما البؤس فكما يصيب الفنان قد يصيب غيره. .!!

بيروت

محمد روحي فيصل

ص: 22

‌المصادر الإغريقية للفلسفة الإسلامية

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

لا يستطيع باحث أن يفهم الفلسفة الإسلامية فهماً صحيحاً دون أن يدرسها على ضوء الفكر الإغريقي ومتجاته، ولا نبالغ مطلقاً إذا قلنا إنه تعذر علينا أحياناً فهم مسألة لدى (الفارابي) أو (ابن سينا) قبل أن نقرأ مصدرها في كتب (أرسطو) أو (أفلاطون). وعلّ أحسن ما كتب في تاريخ الفلسفة الإسلامية إلى اليوم كان من عمل رجال قارنوا القديم بالحديث، وقرّبوا فلاسفة الإسلام من أساتذتهم الإغريق. على العكس من ذلك يكاد يرجع العيب العام لأكثر ما كتب في هذه الناحية إلى أن مؤلفيه نسوا أو تناسوا الصلة بين الفلسفة العربية والفلسفة الإغريقية؛ فنسبوا إلى أشخاص آراء ونظريات ليست نتيجة بحثهم وتفكيرهم المستقل، ومن التجني على الحقيقة والتاريخ أن يعزي إلى عالم أو فيلسوف، ما لم يأت به ابتداء، وما لم يبتكره ابتكاراً، ومنشأ هذا الإسناد الباطل جهل بالتاريخ وإغفال للعلاقات الثابتة بين المراحل المختلفة للتفكير الإنساني، فرب فكرة بدت مبتكرة في حين أن الأقدمين اهتدوا إليها من فبل وأبرزوها في صورتها الحاضرة، أو في صورة أخرى تبعد عن هذه بعض البعد. ومن الغريب أن هناك طائفة من المؤرخين تنزع إلى اعتبار أبطالهم ومن يكتبون عنهم مصدر كل جديد؛ فهم ينسبون إليهم شخصياً كل ما جاء في كتبهم أو روي عنهم. في هذا، بلا شك، اعتداد كبير بمن يترجمون لهم، ومن يدرسون حياتهم؛ غير أن النزاهة والتحقيق العلمي يأبيانه. قد يبدو طريفاً أن يقال إن نظرية كذا من ابتكار فلان وحده، ولكن أليس أطرف من هذا وأعمق بحثاً أن يبين المؤلفون المقدمات التاريخية التي مهدت لهذه النظرية؟ قضى الناس زمناً يرددون فيه أن (ديكارت) مثلاً اخترع نظرية الشك الفلسفي اختراعاً دون أن يتأثر فيه برأي سابق؛ وها هم أولاء اليوم يعلنون أنه سبق إليها في صور أخرى مصغرة، ويبرهنون على ذلك بطرق دقيقة أخّاذة إزاء هذه الظروف كلها نحاول في هذه الكلمة أن نلقي نظرة عامة على المصادر الإغريقية التي كانت ذات أثر بين في تكوين الفلسفة الإسلامية، وفي تعرف هذه المصادر ما يعيننا على أن نحدد بالدقة ما جاء به العرب، وما سبقهم إليه الأقدمون عرف المسلمون الفلاسفة السابقين لسقراط ونصف السقراطيين - والسفسطائية واللاأدرية والرواقيين والأبييقورين فنظرية (الجوهر

ص: 23

الفرد) التي قال بها (ديموقريط) و (أبييقور) تتصل إلى حد ما بتلك النظرية التي وردت على السنة علماء التوحيد المسلمين. ومذهب الرواقيين المادي اثر تأثيراً غير قابل للإنكار في جماعة المعتزلة، ونخص بالذكر منهم (النظام) الذي اعتنق نظريات ذات أصل رواقي واضح، وان من يقرأ آراءه في (الكمون) لا يشك مطلقاً في أنه تأثر فيها بما جاء به الرواقيون من قبل. وقد أخذ علماء الكلام بوجه عام عن اللاأدرية الإغريقيين كثيراً من أفكارهم، وخاصة ما اتصل منها بنقد (أرسطو) ونظرياته. ونرى في كتب التراجم العربية ملخصات قصيرة عن حياة (تاليس) و (فيثاغورس) و (أبخزاجور) و (أمييدوقل)، وفي كتاب الملل والنحل (للشهرستاني) أحسن أنموذج لهذه الملخصات. بيد أن هذه المعلومات في جملتها ناقصة وغير صحيحة أحياناً؛ ولا يبدو على مفكري الإسلام أنهم كونوا رأياً ناضجاً عن هذه المذاهب الفلسفية المختلفة. (فالشهرستاني) نفسه يخلط مذهب (فيثاغورس) بمذهب (أفلاطون)، ويعزو إلى أصحاب الرواق بعض نظريات مدرسة الإسكندرية. وإذا استثنينا (أفلاطون) و (أرسطو) نجد أن المسلمين لم يعرفوا فلاسفة الإغريق إلا عن طريق غير مباشر، وفي ثنايا كتب (بلوتارك) و (جالينوس) و (بورفيد) التاريخية

لم يترجم العرب حقيقة من كتب الإغريق الفلسفية إلا مؤلفات (أفلاطون) و (أرسطو) وشراح الأخير وتلاميذه. فأما (أفلاطون) فقد ترجمت محاوراته الهامة، وعلى رأسها: الجمهورية والنواميس وطبماوس والسوفيسط وبوليطيقي وفادن ودفاع سقراط ' فباطل إذن ما يقال من أن العالم العربي لم يعرف (أفلاطون) إلا معرفة ناقصة أو خاطئة. والواقع يثبت، على العكس من ذلك، أن (مؤسس الأكاديمية) استطاع بفضل نظرياته ومذهبه الروحي أن ينفذ إلى قلوب المتصوفة والمتكلمين والفلاسفة من علماء الإسلام، وقد بينا في بحث لنا أن (الفارابي) في محاولته التوفيق بين (أفلاطون) و (أرسطو) اعتمد على أربع محاورات هامة من مؤلفات الأول: فادن، بوليطقي، الجمهورية، وطيماوس، كما بينا إنه اصدر عنها واستشهد ببعض ما جاء فيها بشكل لا يدع جالاً للشك في أنه قرأها قراءة روية وتدبر. وفي هذا ما يؤيد فلاسفة الإسلام درسوا (أفلاطون) دراسة مباشرة وفي كتبه التي نقلت إلى العربية غير أن هؤلاء الفلاسفة لم يعنوا (بمؤسس الأكاديمية) عنايتهم (بأستاذ الليسيه) ولم ينل (أفلاطون) لديهم الخطوة التي نالها تلميذه

ص: 24

(أرسطو). وقد أبان (رينان) من قبل مقدار إعجاب فلاسفة الإسلام بالأخير، وإحلالهم إياه محلاً خاصاً وتعلقهم بتعاليمه، واعتبارهم إياه حجة في العلوم النظرية فكان طبيعياً أن يبحث العرب عن مؤلفاته، وأن يترجموها في دقة وأمانة. وقد توفر لهم من ذلك عدد غير قليل في الاقتصاد والأخلاق، والطبيعة، والمنطق، وما وراء الطبيعة

كي يفهم (أرسطو) فهما حقاً ألا يدرس بمعزل عن تلاميذه وشراحه، لهذا اتجه العرب نحو أتباعه الأول وكبار مؤسسي (مدرسة المشائين) فأخذوا عنهم، وترجموا قدراً من كتبهم. وفي مقدمة هؤلاء الأتباع يجدر بنا أن نشير إلى تيوفرست الذي عرف بصلاته الشخصية (بأرسطو) وببعض مؤلفاته المترجمة إلى العربية. وهناك فيلسوف آخر من المشائين نال منزلة ممتازة في العالم العربي لا يفضلها إلا منزلة (أرسطو)، ونعني به الاسكندر الأفروديسي ' وكان (ابن سينا) يسميه (فاضل المتأخرين)، ويعتد بآرائه اعتداداً كبيراً ويروي لنا (يحي ابن عدي) إن شروحه على الميتافزيك والأناليتيك (لأرسطو) عرضت في السوق يوما فتسارع الناس إلى اقتنائها، ودفعوا فيها ثمناً باهظاً. أما شرحه على كتاب النفس فيعد من أقوم مصادر نظرية العقل ' التي لعبت دوراً هاماً في العالم الإسلامي وفي فلسفة القرون الوسطى عامة وإذن يمكننا أن نقول إن العرب عرفوا (مدرسة المشائين) ممثلة في أكبر رجالها ودرسوها مستعينين بأولى المصادر الموثوق بها بين مفكري الإغريق رجل آخر معاصر (للإسكندر الأفروديسي)، وعلم من أعلام الحركة العلمية الإسلامية، لا في الطب فقط بل في الفلسفة وتاريخها، ألا وهو جالينوس فإليه يرجع الفضل، فيما نعتقد، في نشر نظريات الرواقيين واللاأدريين بين العرب. وفي شرحه لمؤلف (أفلاطون) المشهور والمسمى طيماوس ما رفع من شأن هذا الكتاب، وما منحه سمعة عالمية في الفترات الأخيرة من العصور القديمة، وفي القرون الوسطى لدى السريانيين والعرب واللاتينيين ولا يفوتنا أن نشير إلى أن مكاتب (استامبول) تحتفظ بترجمة عربية لهذا الشرح الذي فقد أصله الإغريقي؛ وقد أطلعنا على بعض أجزائها صديقنا المسيو (كرادس) المدرس بمدرسة الدراسات العالية (بالسربون). فعسى أن تنشر هذه الترجمة كي نضم خدمة جديدة إلى خدمات العربية في ربطها بين التاريخ القديم والمتوسط، بل والحديث. و (لجالينوس) أيضاً أثر في العلوم المنطقية، فقد أدخل في منطق

ص: 25

(أرسطو) عناصر جديدة تقبلها العرب وأخذوا بها. وعلى الجملة (فأرسطو) و (جالينوس) هما الباحثان الإغريقيان اللذان سادا الحركة العلمية الإسلامية واقتسماها فيما بينهما: (أرسطو) في الفلسفة، و (جالينوس) في الطب. على أن الثاني قد عدا في غير موضع على ميدان الأول واصبح العرب يسمونه بحق:(الطبيب الفيلسوف!)

لو وقف المسلمون عند (أرسطو) وكتبه وكتب تلاميذه المشائين، لكانت فلسفتهم مخالفة تمام المخالفة لتلك الفلسفة التي خلفوها. غير أنه لا يصح أن ننسى أن بينهم وبين (رئيس الليسيه) مدرسة الإسكندرية التي أثرت فيهم تأثيراً كبيراً. وان أثرها ليتناسب مع قربها الزمني من الثقافة الإسلامية، واعتناقها آراء أشربت بروح دينية؛ فنظرياتها تعد أول خطوة صادقة في سبيل التوفيق بين الفلسفة والدين. هذا إلى أن (أرسطو) نفسه وصل إلى العرب في ثنايا كتب علماء الإسكندرية وفلاسفتها؛ ذلك لأن هؤلاء الفلاسفة شرحوا النظريات الأرسطية في مؤلفات عديدة ترجم أكثرها إلى العربية. ويمكننا أن نذكر بين هؤلاء الشراح بورفير وتيمستيوس وأمونيوس وسمبليسوس وداود الأرمني ' وجان فيلوبون أو يحي النحوي، الذين كانوا أكثر اتصالاً بالمسلمين من تلاميذ (أرسطو) القريبين منه. ويتكلم (الشهرستاني) عن (بورفير) و (تيمستيوس) في لغة مملوءة بالاحترام ملاحظاً أنهما من أدق الشراح لنظريات (أرسطو) وإن كانا يخلطانها ببعض مبادئ الأفلاطونية الحديثة.

وينقل (الفارابي) بعض آراء (أمونيوس) مستشهداً بها في مواضع مختلفة. وقد تمكن (يحيى النحوي)، بفضل نظريته في خلق العالم ومناقشته لمذهب (أرسطو)، أن ينال حظوة علماء التوحيد المسلمين. وإذا تتبعنا شروح كتب (أرسطو) في المنطق التي ترجمت إلى العربية، وجدنا أغلبها من عمل فلاسفة الإسكندرية. وقد ترجمت هذه الشروح في آن واحد مع المتون التي تتصل بها، وأصبحت غير قابلة للفصل عنها. وليس هذا قاصراً على العلوم المنطقية، بل يتعداها إلى الدراسات الأخرى؛ ففي كل ناحية من نواحي البحث النظري لجأ العرب إلى علماء الإسكندرية ليستعينوا بهم على فهم (أرسطو) ومؤلفاته. وإن نظرة قصيرة إلى كتاب تاريخ الحكماء للقفطي ترينا أن هذه المؤلفات وشروحها التي ألفها علماء الإسكندرية كانت تكون في نظر المسلمين كلا مرتبط الأجزاء. وجملة القول أن مدرسة الإسكندرية بحكم موقعها الجغرافي والتاريخي كانت مهيأة لأن تنشر علومها وكتبها

ص: 26

في العالم الإسلامي؛

من هذه العناصر المختلفة التي أشرنا إليها في اختصار تألفت فلسفة الإسلام، فإذا كان مذهب (أرسطو) عمادها القوي، فإن (أفلاطون) و (أفلاطن) قد أقرضاها مواد غير قابلة للأنكار، وقد لوحظ منذ زمن بعيد ما في الفلسفة الإسلامية من مخلفات الأفلاطونية الحديثة، إلا أنه لم يحدد بعد بالدقة المصادر التي أخذت عنها هذه المخلفات. فتارة يبحث عنها في إنياد (أفلاطن)، وأخرى في كتاب الربوبية وكتاب الخير المحض اللذان ينسبان خطأ إلى (أرسطو). فأما (أفلاطن) أو (الشيخ اليوناني) كما يسميه (الشهرستاني) فلم يترجم قط إلى العربية، وما ينقله (الشهرستاني) من آرائه يرجع إلى ما كتبه فلاسفة الإسكندرية الآخرون. وأما كتاب الربوبية وكتاب الخير المحض فقد نقلا من غير شك نظرية (أفلاطن) إلى المسلمين، غير أنه يجب أن نضيف إلى هذين الكتابين بين مؤلفات شراح (أرسطو) من فلاسفة الإسكندرية الذين أشرنا إليهم آنفاً. فإن هؤلاء الشراح لم يقدموا للعرب المذهب الأرسطي في صورته القديمة، بل مختلطاً ببعض النظريات الأفلاطونية والرواقية وأجزاء من الأفلاطونية الحديثة، ويدهشنا أنه لم يتنبه أحد بعد إلى هذه النقطة برغم مالها من أهمية، وإن من يتأمل قليلاً يدرك أن واحداً (كبورفير) أو (كسميليوس) إن شرح (أرسطو)، فإنه لا يستطيع التخلص تماماً من آرائه الشخصية، أو التخلي بتاتاً عن نظريات مدرسته، لذلك لم تنتج الحركة الفلسفية التي قام بها علماء الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي، والتي بينها (رينان) و (رافيسون) بياناً شافياً، مذهباً أرسطياً خالصاً، بل نظرية مشوية بعناصر مختلفة، فقد كان شراح الإسكندرية معنيين بالتوفيق بين (أرسطو)(وأفلاطون) من جانب، وبين الأول وجماعة الرواقيين من جانب آخر، وهذا التوفيق نفسه هو أوضح خاصة من خصائص الفلسفة الإسلامية. ونعتقد أنا إذا أردنا أن ندلي بحكم دقيق على هذه الفلسفة، فلابد أن يكون بين أيدينا شروح فلاسفة الإسكندرية وشروح كبار أتباع (أرسطو) الأول، وما دامت هذه الشروح لم تدرس دراسة وافية فإن آراء وأحكامنا المتعلقة بتاريخ الأفكار الفلسفية في الديار الإسلامية ستبقى ناقصة ومؤقتة.

إبراهيم بيومي مدكور دكتور في الآداب والفلسفة

ص: 27

‌إلى الشاب المسلم المثقف

الإسلام دين القوة

بقلم أحمد بديع المغربي

أستاذ الاجتماعيات بالمدرسة الثانوية بالموصل

طفا على الجزيرة العربية نور سماوي تسرب إلى القلوب المغلقة فاقتحم أقفالها ونفذ إلى الضمائر الميتة فبعث فيها حياتها، وتغلغل في أحشائها فبدد ظلماتها. وصحب هذا النور صوت عربي ينادى بالإسلام تعالى في أرجائها، فجمع أشتاتها وألف بين قلوبها

(هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم أنه عزيز حكيم).

قبائل بدوية متنافرة أعمى الجهل أبصارها، وعشائر رحل متناحرة مزق الغزو وحدتها، وهدد السلب والنهب كيانها؛ نفوس أبية رضعت لبان الحرية منذ طفولتها، وتنشقت هواء البادية المشبع بروح الأنفة والكبرياء والشمم والإباء منذ أن شبت عن أطواقها

هذه القبائل المتنافرة، وتلكم العشائر المتناحرة، ما استطاعت أن تجد من نفسها حولاً ففاضت دموعها خشوعاً وإجلالاً، وخرت للأذقان سجداً، وانصاعت لذلك الصوت الدوي الذي اخترق آذانها الصماء، وانقادت قلوبها الغلف طوعاً لذلك النور السماوي الذي غمرها بالضياء. . .

(إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً، ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا)

(وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق)

فتحولت من الضعف إلى القوة، وانتقلت من التفرقة إلى الوحدة، واستبدلت بالتخاذل ائتلافاً، وبالجهل والوحشية علماً ومدنية، وارتفعت من أسفل دركات الشرك والإلحاد، إلى أعلى درجات التوحيد والإيمان

ثم هبت من باديتها الفسيحة الأرجاء الممتدة الأطراف هبوب العاصف الزعزع، متكاتفة متراصفة، متحدة متضامنة، فعصفت الممالك التي اعترضت سبيلها عصفاً ودكت المعتقدات

ص: 28

الدينية البالية دكاً، وحطمت العروش المستبدة الجائرة تحطيماً! ولم يمض عليها القرن، إلا قليلاً، حتى قيض الله لها أن ترفع راية الإسلام وتنشر ألوية السلام من أقصى البرنات إلى حملايا، ومن بوادي أواسط آسية حتى صحارى أواسط أفريقية؛ وما كنت تسمع صبحاً وظهراً وعصراً مغرباً وعشاء، إلا صوت المؤذن داعياً بقلب عامر بالإيمان: -

الله أكبر!

أشهد أن لا اله إلا الله!

أشهد أن محمداً رسول الله!

فيتقاطر المؤمنون كالموج الزاخر، متدافعين متسابقين، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، إلى بيت الله، بيت الأمة، بيت الديمقراطية الحق؛

فما السر في تهافت العرب والأمم التي دانت للعرب على الإسلام؟!

إنه، وأيم الحق، لسؤال تقف دون تفسيره العقول النيرة حيارى. ولئن حاولنا في رسالتنا إلى الشاب المسلم المثقف أن نجلو هذا السر الغامض ونعلل هذه المعجزة الكبرى فإنما نحاول أن نظهر ناحية واحدة من نواحيها المتشعبة، هي (القوة في الإسلام): -

1 -

القوة في المبدأ

2 -

القوة في الاتحاد

3 -

القوة في الأخلاق

4 -

القوة في الشخصية؛

وهي الناحية التي يفتقر إليها المسلمون في تنظيم شئونهم في هذا العصر، عصر القوة، بل عصر تنازع البقاء وبقاء الأنسب، حتى يتسنى لهم أن يعيدوا مجداً كاد يندثر، بما منيت نفوسهم من خور العزيمة، وضعف الهمة، وتذبذب الاهواء، والميول، وميوعة الأخلاق، وانحلال الشخصية، متوسلين إلى الله عز وجل أن يهدينا وإياهم سواء السبيل

1 -

القوة في المبدأ

تأمل، رعاك الله، في تلك الوفود القرشية العربية التي هرعت إلى أبى طالب بعد أن ضاقت صدورها من سب الرسول صلى الله عليه وسلم آلهتها وآباءها، وبعد أن عيل صبرها من تسفيه أحلامها مهددة متوعدة ليكفه عنها، أو تنازله وإياه حتى يهلك أحد

ص: 29

الفريقين، ثم أرجع البصر فيما جرى بين الرسول الكريم وعمه الجليل حين أنبأ ابن أخيه بما قالت قريش: -

(ابق على نفسك وعلي ولا تحملني من الأمر مالا أطيق)

يتجلى لك بصورة لا يداخلها الريب ما انطوت عليه نفس رسولنا الأعظم وزعيمنا الأكبر من قوة الثبات في المبدأ: -

(والله، يا عماه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه. . . ما تركته!)

وتبصر ما أصاب المسلمين الأولين من الاضطهاد والعذاب، وما تجشموه من المشاق والصعاب، من تعذيب المشركين لهم بحر الرمضاء وبقر بطونهم بالحراب في سبيل الدفاع عن هذا المبدأ، ثم أخل إلى نفسك وانظر ما أنت عليه اليوم وما كانوا عليه أمس!

2 -

القوة في الاتحاد

إذا تدبرت مبدأ الفاشيست علمت أن شعار موسوليني ومشايعيه ذوى القمصان السود: (الفأس وحزمة العصي).

والفأس رمز الدولة، والعصي الأفراد الذين يؤلفونها، والفرد، في نظرهم قوى بجماعته، ضعيف بمفرده؛ مثله في ذلك مثل العصا يسهل كسرها بمفردها، ولكن الصعوبة كل الصعوبة في كسرها إذا ما ضمت إلى أخواتها. والفاشستيه تنحصر فلسفتها في فناء الأفراد في الدولة وانحلال شخصياتهم فيها. ولماذا نذهب بك إلى الفاشستية ولدينا ديننا الإسلامي، دستور الحضارة والإنسانية، ففيه الأمثلة المتعددة على أن حياة الشعوب في تضامن أفرادها واتحادهم. قال الله في كتابه العزيز: -

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبلْ الله جمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا؛ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إذ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعمتِهِ إِخْوَاناً)

- سورة آل عمران.

(وَأطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيُحكُمْ) - سورة الأنفال

(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ اَقْتَتَلُوا فَاَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) سورة الحجرات

(إِنما المؤْمنُونَ إِخْوَةٌ فَاَصلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ) - سورة الحجرات

ص: 30

وقال منقذنا الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم: -

(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)

(لا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا)

لا تختلفوا فإن كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)

(المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)

فليتق الله، عباد الله، الذين يعملون على التفرقة ويسعون إلى التجزئة فإن في ذلك الخسران المبين.

3 -

القوة في الأخلاق

وإنما الأممُ الأخلاق ما بَقِيَت

فإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أخلاقهُمْ ذَهَبُوا

(إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) - سورة النساء

(ولا تمْشِ في الأرْضِ مَرَحاً إنَّكَ لَنْ تخرقَ الأرْضَ ولَنْ تبلغَ الجبالَ طولاً) - سورة الإسراء

(وَلَا تُصَعِّرْ خَدّكَ لِلنَّاسِ ولا تمشِ في الأرْضِ مرحاً، إنّ اللهَ لا يحبُّ كلَّ مُختال فَخورٍ؛ واقصِدْ في مَشْيِكَ واغْضُضْ منْ صوتِكَ؛ إنّ أنكرَ الأصواتِ لصوتُ الحمير) - سورة لقمان

وقال رسولنا الأعظم: -

(بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)

(إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)

يقول الله عز وجل: - (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منها ألقيته في النار)

ألا فليعلم أولئك الضعاف العقول الذين إذا تبوأوا منصباً رفيعاً شمخوا بأنوفهم وصعروا للناس خدودهم، واشتطوا في غرورهم وكبريائهم؛ إنهم مهما ما بلغوا من السلطان والجبروت، لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا الجبال طولاً!

أين انتم يا مساكين من رسول الله وحبيبه صلى الله عليه وسلم، من شهد الله وأثنى على خلقه العظيم!

ص: 31

(هَوّنْ عَلَيْكَ، يَا رَجُل؛ فإنما أنا ابنُ امرأةٍ من قريش كانت تأكل القديدَ في مكة!)

بمثل هذا القول الكريم خاطب نبينا المصطفى ذلك الرجل البائس الذي أصابته رعدة لدن دخوله عليه وبمثل هذا الخلق المتين استعبد الإسلام قلوب الناس!

4 -

القوة في الشخصية - الشجاعة والأقدام

إن التواضع لا يناقض الشجاعة والأقدام، فكما أن القرآن الكريم حث المؤمنين على التواضع، واعتبره من الأسس المتينة التي تقوم عليها الأخلاق القويمة، كذلك أمرهم أن يصمدوا لأعدائهم ويدافعوا عن كرامتهم ويذودوا عن أوطانهم، ويصدوا من تسول له النفس الاعتداء عليهم ما استطاعوا من قوة يرهبون بها خصومهم وأعداءهم، حتى هدد الجبناء الذين يفرون من القتال والجهاد بغضبه ونقمته، كما نستدل من الآيات الكريمة التالية: -

(وقاتلوا في سبيلِ اللهِ الذين يقاتلوكم ولا تعتدُوا إنّ الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثَقِفْتمُوهُمْ وأخْرِجوهم من حيث أخرجوكم) - سورة البقرة

(يا أيها الذين آمنوا إذا لَقِيتم فِئة فاثبتوا) - سورة الأنفال

(وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل. ترهبون به عدو الله وعدوكم) - سورة الأنفال

(يا أيُّها الذين آمنوا إذا لَقِيتم الذين كفروا زحفاً فلا تُوَلّوهُم الأدبارَ. ومن يُولِّهِمْ يَومئذٍ دُبرَه إلاّ مُتحرِّفاً لقتال أو متحيزاً إلى فِئةٍ فقد باءَ بغَضَبٍ من اللهِ وَمأْوَاهُ جهنَمُ وَبِئْسَ المصِير) سورة الأنفال

وجاء في الحديث الشريف عن الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطباً سيدنا علياًُ كرم الله وجهه: -

(يا علي! كن شجاعاً فإن الله يحب الشجاع)

كذلك حرض المصطفى المؤمنين على الاتصاف بصفات الرجولة الكاملة، ولعن الشباب المائع المتخنث، كما لعن تلك الفتيات المتشبهات بالرجال

(لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)

والآن وقد انتهينا من محاولتنا إثبات أن الإسلام دين القوة؛ القوة في المبدأ، والقوة في الاتحاد، والقوة في الأخلاق، والقوة في الشخصية؛ لابد لنا قبل أن نختم رسالتنا أن نلفت

ص: 32

أنظار شبابنا المسلم المثقف إلى الملاحظات التالي:

1 -

كن أيها الشاب المسلم، وكوني أيتها الفتاة المسلمة، مثلاً طيباً في قوة المبدأ. ليضع كل منكما هدفاً واحداً أمام عينيه هو توحيد الأمة الإسلامية، يعمل على تحقيقه بكل ما حباه الله من قوة الشباب غير عابئ بما يعترض سبيله من عقبات كأداء، أو مكترث لما يحاول بعض المغرضين الدساسين من تثبيط همته القعساء

اعمل يا أخي المسلم، اعملي يا أختي المسلمة على نشر مبدأ الاتحاد والوحدة أينما كنتما وحيثما حللتما، وألقما حجراً كل من تسول له النفس أن يثنيكما عن عزمكما

2 -

اقتديا برسولنا الأعظم سيد المرسلين، وزعيمنا الأكبر خير العالمين في تقويم ما اعوج من أخلاقكما، فإن أمتكما العربية أحوج ما تكون في تحقيق ما تصبو إليه من الآمال إلى شباب يمتازون بثبات الجنان، ولبن الجانب، وقوة الإرادة، ومضاء العزيمة

3 -

ليتعصب كل منكما لمبادئه الدينية، وليتمسك بعقائده الإسلامية، وليحافظ على تقاليده العربية، فإن الأمة التي تتسامح في مبادئها، وتتساهل في عقائدها، وتنكر تقاليدها مقضي عليها بالانحلال والاضمحلال.

الموصل - العراق

أحمد بديع المغربي

ص: 33

‌دار وحبيب.

. .!

للأستاذ محمد سعيد العريان

يا دار، ليتني ضللت إليك الطريق. . .! منذ سنوات وسنوات، كنت مغداي ومراحي، وكنت سعادتي وانسي، وكنت دنياي الصغرى، تلتقي عندك أماني الشباب، تستيقظ فيك أحلام الهوى!

فأين يومك من امسك يا دار؟ أما يومك - وا أسفاه - فهذا الذي أرى: كومة من أحجار، إلا جداراً يريد أن ينقض! وأما أمس. . هل تذكريني يا دار. . .؟

أين، أين ألقى اهلك الذين ابتعدت خطاهم على الأيام، وأيان، أيان تعود لياليك التي طواها الزمان؟

هنا. . . منذ سنوات وسنوات. . . أودعت قلبي إلى ملتقى موعود؛ فأين منك الوديعة يا دار؟

ما أظن الأيام على سلطانها بقادرة على أن تهدم ذكراكِ في نفسي!

ومضيت أتخطى الأنقاض وهي تئن من تحتي أنين الواجد، حتى انتهيت إلى الهيكل المستباح!

يا لله! كل شئ حي في هذا المكان، أني لأسمع همس الذكرى يرجع في مسمعي حديث الماضي؛ وإني لأرى أطياف الحب ترف رفيف الحياة؛ وإني لأشم من حولي عبير اللقاء يتخطى بي الزمان والمكان؛ وإني لأراها هي أمامي كأول عهدنا يوم التقينا، فتعارفنا، فأسرت وأسررت النجوى!

مرحباً بك يا فتاة! يا لعينيك الساحرتين! ما لأهدابك تختلج كأنما تغالبين النعاس؛ ومالك صامتة لا تنسين كائناً غريبان في هذا المكان؟ ماذا؛ مالك معرضة منكرة. . .؟

إنني أنا هو فتاتي كعهدك يوم افترقنا على ميعاد. . .

ردي على ليالي، وصلى يومنا بماضينا. . . لقد ابتعدت عني بلا وداع شد ما تسخر الأماني!

وبدأ لي من خلل الدموع شبح شيخ يقترب بين الأنقاض. . . ذاك شيخ يدب على عكازة لوحتها السنون. . . يعلو حجراً ويهبط عن حجر؛ فدنا مني وقد تقلصت شفتاه عن مثل

ص: 34

الابتسامة أي منظر موحش. . .؟

قلت: (من تكون أيها الشيخ ومالي بك عهد؟) قال (أنا. . .؟ ما أشد حماقة الفتيان! أنا الزمان. . .! وإنما لي أن أسألك: ماذا تنشد بين هذه الأنقاض؟)

قلت: (في هذا المكان، أودعت شيئاً عزيزاً على، أنه قلبي؛ أفتدري أيها الشيخ أين ألقاه؟)

هنا في هذا المكان، كان لي أهل وأحبة وكان قلبي لديهم وديعة إن الدار لتشهد؛ فإني لأنشد هنا قلبي وشبابي وحبي. . .!

قال: (ويحك يا مسكين! أتسأل؟ الزمان أن يرد عليك ما فات. . .؟ إنك يا بني تؤمن بالحب فأسأل الحب - إن أجاب - أن يرد عليك ما استودعته. . .! ما الحب يا بني إلا خرافة؛ هل هو إلا ارق يراوح بين جنبيك ودموع تقرح بين جفنيك وانتظار يستلب شبابك من عمرك، وحنين يستغرق يومك من تاريخك وغيرة تسلبك الطمأنينة والقرار وشك ينبت في صدرك الشوك؛ وهل هو من بعد إلا الندم واللهفة والذكرى؟ أفرأيت شيئاً من ذلك يعدل ساعة من ساعات الشباب، أو يرد عليك سعادة من سعادات الماضي. .؟

هيهات يا بني هيهات. . .!)

ومضى الشيخ على وجهه وإن صدره لسراً. . .!

وعدوت في اثر الزمان أجاذبه السر فما بلغت إليه نفسي وغاب في جوف الظلام. ورجعت منكسراً لفان أنهنه أدمعي وأغالب نفسي

وإذا على الطريق شاب يبتسم

قال: (مرحباً بك يا صديقي أراك على حيد الطريق فأين أزمعت السير؟)

قلت: (أتراك تعرفني يا فتى؛ فمن تكون؟)

قال: (أنا. . .؟ ما أعجب أن تنسى! أنا رفيق صباك وأنيس أحلامك؛ أنا الأمل. . .! فما أشد أن ينكرني الشباب!)

قلت: (معذرة إليك يا أملي وإنما صرفني عن ذكرك هذاك الزمان!)

قال: (الزمان. . .؟ ويحك! وأين منك الزمان وما تزال في يديك أيامك؟ ألا إن الشباب ليصنع بيديه أيامه ويخط بيديه تاريخه ويملئ على الزمان مشيئته. . .! ألا إن هذا الشيخ الخرف الذي تسميه الزمان لعاجز أن ينالك ومعك الشباب والأمل!)

ص: 35

قلت: (فأنني افتقد شيئاً هنا. . . في هذا المكان. . . كان لي أهل وأحبة، أودعتهم قلبي إلى ملتقى موعود؛ فهذه الدار خلا كما ترى إلا أنقاضاً ركمها الزمان حجراً على حجر؛ أفتدلني أين أجد أحبابي وقلبي؟)

قال: (لك الله ولأحبابك! أفحسبت انك وحدك الوفي الذاكر؟ إن فتاتك ما تزال هناك تنتظر وان الوديعة الغالية ما تزال في الحرز الأمين!)

قلت: (فما هذه التي تراءت لي هنا ثم تولت معرضة لم تنبس؟)

قال: (ويحك! ألم تفهم مقالة عينيها وأهدابها تختلج؟ إنها تقول: اتبعني يا حبيبي. . .!)

قلت: (أفتراها مستطيعة أن ترد علي أيامي وقد تولى الزمان وحال المكان؟)

قال: (إن الحب لا يعرف الزمان ولا يحده المكان أنه لشيء من غير دنيانا لا يخضع لنواميس هذه الحياة؛ إن العاشق ليذكر على البعاد من يحب فإذا الماضي كله بين يديه وإذا الذي يهواه تحت ذراعه؛ وإنهما لاثنان هنا: هو خيال من يحب واثنان هناك: هي وطيف من تهوى. أفرأيت الزمان والمكان ساعتئذ قد استطاعا أن يحولا دون هذا اللقاء؛ أو رأيت شيئاً غير الحب يجعل الاثنين أربعة في زمان ومكان. . .؟

(ألم تفهم مقالة عينيها وأهدابها بها تختلج إنها تقول: اتبعني يا حبيبي. . .!)

ولمحت زهرة ترف رفيفها في ظل جدار قائم وهي تناجي أختها نجوى الحزين إلى الحزين؛ كانتا وحدهما في هذا المكان رمز الحياة بين رموز الموت من تلك الصخور المجدلة. وإن للأحجار والجماد لحياة كحياة الناس وموتا كالذي ماتوا، إن البيت الآهل لحي بسكانه ما عمروه فإذا احتملوا وهجروه فما هو حينئذ بيتا حيا وإن بقيت له معالمه وأبوابه ومفاتحه وأقفاله وان في التراب يغطي أرضه وجدرانه لمعنى من معاني القبر!

ودنوت استمع إلى نجوى الزهرتين:

قالت إحداهما لجارتها: (ويلي - يا أختاه - من المقام بين تلك الأنقاض الميتة ما أكاد أشعر إنني زهرة ذات روح وعبير لماذا نمتني الأرض وزينتني بألوان الربيع إذا كنت لا أرى العين التي تتملى حسنى معجبة شهوى؛ ولماذا أنا زهرة إذا انقضت حياتي على وتيرتها بين هذه الأنقاض لا يشم عبيري أحد ولا تتناولني يد رفيقة. . .؟)

قالت أختها: (فإنك لتبطرين النعمة! وإنك في مقامك هنا لأسعد من أخوات لك هناك في

ص: 36

الروض؛ ما تكاد تتفتح عنهن الأكمام حتى تتناولهن الأيدي؛ فيوماً في الحرير على الصدر ويوماً في زهرية على المائدة؛ ثم هي بعد مع الزبالة تطؤها النعال. . .!)

قالت: (وهل أنا زهرة إلا أن أكون عطراً يستنثي وجمالاً يشتهي؛ ويوماً على صدر ويوماً في زهرية؟ إلا إن يوماً واحداً هناك يشعرني جمالي - لخير من أيام هنا على هذا الغصن الشائك ما ينفك يخزني كلما مالت به النسمات! ألا إنما السعادة قلب وابتسامة وإنما الحياة أن أكون شيئاً في الحياة!)

وهبت نسمة عاتية فإذا الزهرة ورقات منثورة على التراب. . .!

يا ويلتا! حتى هذه الأشياء تنشد الحب وتستوحش من الوحدة والخراب. . .!

أيتها الزهرة التي انتثرت غضة عبقة لم تنعم بالحب؛ كم من قلوب بشرية كقلبك؛ انتثرت أحلامها بددا على أنقاض اليأس والحرمان قبل أن تستنشي عطر الحب أو تذوق لذة المنى. . .!

عزاءً لك ولي. . .

طنطاً

محمد سعيد العريان

ص: 37

‌قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

وكيل كلية العلوم

بستور

صلة حديثه

وصل الفائت: اثبت بستور إن الذي يحيل السكر إلى كحول في صناعة المشروبات الروحية إنما هو الخمائر. وهي أحياء غاية في الصغر، شكلها كري، تتوالد وتتزايد بالتنبت فالتقسم. واثبت إن عملية التخمر عند ما تفسد فلا تنتج من السكر كحولاً، فإنما يكون ذلك بسبب مكروبات اصغر من الخمائر، شكلها كالعصى، تسطو على محاليل السكر فتذهب بخمائرها، وتقوم بعملية جديدة مفسدة هي تحويل السكر إلى حامض اللبن الزبادي بدلاً من الكحول

وبينا هو في هذا، وبينا هو مستقر بأسرته في (ليل) إذ جاء زوجه يوماً يقول لها:(نحن ذاهبون إلى باريس فقد ولوني في مدرسة النرمال إدارة أبحاثها. وهذه فرصة عظيمة لا بد من انتهازها)

وانتقلوا إلى باريس. ولما جاء بستور مدرسة النرمال لم يجد بها مكاناً يشتغل فيه. وجد قليلاً من معامل للطلبة ووجدها سيئة قذرة. أما الأساتذة فلم يجد لهم شيئاً. وأسوأ من هذا أنه ذهب إلى وزير المعارف يستوضح الحال، فقال له الوزير إن الميزانية ليس بها قرش واحد ينفق على تلك القوارير والأفران والمجاهر التي لا يستطيع الحياة إلا بها. وما رجع حتى اخذ يدور في المكان القديم القذر يبحث في أسافله وأعاليه عن ركن يعمل فيه وهداه البحث أخيراً إلى سلم هداه في مشقة إلى حجرة صغيرة عند سطح البناء كانت ملعباً للفئران فطرد الفئران منها واستولى عليها وصاح: هذا معملي. ولم يلبث أن وجد مالاً لشراء مكرسكوباته وأنابيبه وقواريره - ولكن من أين لا يدري أحد يقيناً. كان لا بد له من

ص: 38

المال فأعتزم أن يجده فكان. لا بد أن تعلم الدنيا خطورة خمائره هذه في الحياة. ولم تلبث الدنيا أن علمت بخطورتها

استيقن من تجاربه السابقة إن تلك العصى الصغيرة تحيل الكسر إلى حامض اللبن وعندئذ قام في نفسه إن الدنيا لا بد بها الألوف من أشباه هذه العصى تجري ألوفاً من أشياء هذه التحويلات وتأتي بأمور أكبر وأخطر من هذه منها الضار ومنها النافع. (إن هذه الخمائر التي أرانيها مجهري في أحواض البنجر السليمة، هي هي التي تخرج من السكر كحولاً. وإنها لخمائر كذلك تلك التي تخرج من الشعير جعة. وإنها لا شك خمائر تلك التي تخرج من عصير العنب خمراً. أنا بالطبع لم أثبت هذا بعد ولكني أعلم أنه صواب سيأتي إثباته). ومسخ نظارته في سرعة وصعد إلى معمله في بشر وخفة. فلا بد له من تجارب ليثبت لنفسه صدق الذي يقول لا بد من تجارب ليثبت للدنيا صدق ما يزعم. فالعالم لم يكن أمن بعد بالذي قاله

وكان ممن عارضه الألماني ليبج شيخ الكيمياء وسيدها وأميرها: (. . . ليبج يقول إن الخمائر لا دخل لها في تحويل السكر إلى كحول. ليبج يدعى أنه لا بد من وجود زلال في السائل وان هذا الزلال ينحل ويتهدم فيهدم السكر معه فيتكسر إلى كحول). واعتزم بستور أن يدحض رأي ليبج وفي ساعة برقت في خاطره بارقة، حيلة ماكرة تجربه بسيطة واضحة تقهر ليبج وكل من يشد أزره من هؤلاء الكيميائيين الذي يسخرون من هذه الخلائق المكرسكوبية الصغيرة ويهزؤون بما تقوم به من عظائم الأمور

(يجب علي أن أزرع هذه الخمائر في محلول من السكر لا زلال فيه. فإذا هي أحالت السكر إلى كحول إذن فعلى ليبج وعلى نظرياته العفاء). وامتلأ عناداً وامتلأ تحديا فقد كادت تنقلب هذه الخصومة العلمية إلى خصومة شخصية. جاءته الفكرة الجميلة للرد على خصيمه ولكن الفرق واسع بين الفكرة تخطر في الرأس وبين الفكرة تنفذ في المعمل فأنى له بطعام خلو من الزلال وهذه الخمائر اللعينة شبت على النعمة واعتادت مذاق كل لذيذ مرئ. أخذ بستور يدور في معمله ثم يدور يبحث عن طعام يطيب لهذه الخمائر وقضى على هذا أسابيع حتى فرغ جهده وضاق صدره. وفي ذات صباح وقع له حادث غير منظور فتح له ما استغلق عليه

ص: 39

كان قد وضع بالمصادفة شيئا من ملح النشادر في مرق الزلال وضع فيه خمائر لتتزايد وتتكاثر. (ما هذا؟ إن ملح النشادر يتناقص من المرق كلما تزايدت تلك الخمائر فيه! ما معنى هذا؟) وأخذ يفكر. (نعم. نعم. إن الخمائر تعيش على النشادر. إنها تعيش من غير زلال!). ورد الباب رداً عنيفاً فاهتز البناء، فلا بد له الآن من الوحدة وقد أراد العمل، كما كان لابد له من الناس إذا أراد المتعة بالإفاضة بنتائجه الباهرة إلى الجماهير المعجبة المتحمسة. وتناول قبابات نظيفة وصب فيها ماء مقطراً نقياً؛ ووزن في دقة مقداراً من السكر النقي، وزلقه إلى الماء، وأضاف إليه ملح النشادر، وكان نشادر الدردي. ثم غاص في القارورة التي تنغشت بالخمائر الصغيرة المتنبتة، وأخرج منها شيئا وضعه في القبابة مع السكر وملح النشادر. ثم وضع القبابة في محضن دافئ ثم تركها

وفي هذه الليلة أخذ يتقلب في مضجعه، يطلب النوم فلا يؤاتيه. وأسر رجياته ومخاوفه إلى مدام بستور، فهدأت من روعه، ولكنها لم تستطع نصحه. نبض قلبها بنبض قلبه، وضاق صدرها بمثل الذي ضاق به صدره، ولكنها لم تقدر على مطارحته العلم وتأميله في النجاح القريب. كانت خير عون لخير زوج

وما كاد الصباح يهم بالشروق حتى كان إلى جانب قارورته، تلك القارورة التي خبأت له من صروف المقادير ما خبأت. لم يدر كيف صعد السلم إليها. لم يدر ما الذي أكله في إفطاره. كل الذي أحس به أنه واقف إلى قارورته قد احتواها هذا المحضن الترب، حتى لكأنما طار في الهواء إلى حيث كانت. فتح القارورة واخذ منها قطرة عكرة، فوضعها بين قطعتين رقيقتين من الزجاج، وضعهما تحت عدسة مجهره، ثم نظر. وعندئذ علم إن الدنيا أسلمت إليه القياد

(هاهي! هاهي! جميلة في تنبتها، جليلة في صغرها وكثرتها. مئات الألوف في احتشاد بديع. وهاهي وحدات من أمات الخمائر الكبيرة التي بذرتها في القارورة بالأمس). وامتلأ صدره فهم بالخروج ليفيض على الخلائق بالذي ملأه، ولكنه رجع فكبح جماح شهوته، فلا بد له من علم شيء آخر خطيراً جداً. واخذ شيئا من سائل القارورة ووضعه في معوجة، وأخذ يقطره على النار ليرى هل أنتجت تلك الخلائق من السكر كحولاً. (ليبج مخطئ في زعمه، فالزلال لا ضرورة له، فتلك الخلائق النامية هي التي تخلق من السكر كحولاً).

ص: 40

وأخذ يرقب قطرات الكحول وهي تسيل من عنق المعوجة. وقضى ماثلا من أسابيع في تكرار تجربته، ثم تكرارها، ليؤكد إن الخمائر لا تني تتكاثر، وأنها لا تني تخرج كحولاً. ونقلها من قبابة إلى قبابة، ومن مرق إلى مرق، فوجدها تتنبت دائماً، وتتزايد دائماً وملا رقاب القبابات دائما برغاء من أكسيد الكربون المتصاعد من التخمر. ووجد الكحول دائما بالقبابات. كان عملاً جد عسير، حدا به إليه زيادة الحرص على صدق نتائجه، وخشية الخدعة فيما يتراءى له أنه الحق

استوثق من خمائره، واصبح أمرها لديه معروفاً مألوفاً، ولكنها لم تزد في عينه على الأيام إلا جدة، ولم تزده الفته إياها إلا إعزازاً لها. كان يرعاها كالأم الرؤوم، يطعمها ويحبها ويعجب بمجهودها الهائل في قلب السكر الكثير إلى كحول. وفوت على نفسه بذلك وجبات الطعام، حتى اعتل مزاجه وفسدت صحته. ذكر أنه جلس إليها ذات مساء في الساعة السابعة - وهي الساعة التي يحرص فيها كل فرنسي محافظ على إجابة دعوة المائدة - وأخذ يتجسس عليها وهي تتقسم فتتزايد، واخذ يحدق فيها، ولزمت عينه المجهر حتى منتصف الساعة العاشرة. وعندئذ، وعندئذ فقط، آمن بأنه رآها تتقسم فعلا، فتتزايد من جراء ذلك. وأجرى تجارب واسعة النطاق، بعيدة الأمد، تجارب امتدت من يونيو إلى سبتمبر، ليرى متى يفرغ صبر هذه الخمائر فتنكص عن تحويل السكر. فلما علم من هذا ما علم صاح يقول:(أعط خمائرك سكراً، تظل تعمل أشهراً ثلاثة أو فوق ذلك عدداً)

وعندئذ انقلب البحاث إلى دعاء. انقلب العالم إلى تاجر بارع يعنى بعرض بضاعته للناس، فيثير إعجابهم ويبعث الحمية فيهم. وذلك في سبيل الدعوة للمكروبات. فالدنيا يجب أن تعلم حقيقة أمرها، والناس يجب أن تنقطع أنفاسهم من الدهشة إذا أتاهم نبؤها - إذا هم أنبئوا أن ملايين الجالونات من خمر فرنسا، وبحار البيرة التي تصنع في ألمانيا، لا يصنعها الرجال كما يحسبون، ولكن جنود مجندة تعمل ليل نهار من المخلوقات لا تبلغ عشرات البلايين منها حجم طفل صغير من بني الإنسان والق عن أبحاثه محاضرات، وألقى في الناس خطابات.

ورمى في وجه ليبج حججاً تدمغ مزاعمه. ولم تلبث دولة العلم على الشاطئ الأيسر لنهر السين في باريس أن تحركت، فشمله أساتذته الأقدمون بالثناء. وأكاديمية العلوم التي

ص: 41

رفضته بالأمس عضواً، جاءت اليوم تمنحه جائزة الفسلجة. وكلود برنارد رب الفسلجة ذاتها، قام يصوغ لها المدائح عقوداً. ودوماس، أستاذه القديم، أستاذه الذي أصعد بمحاضراته الدمع إلى عينيه وهو صبي أبله، قام في جمع عام يطرى بستور بحديث رائع، حديث جدير بإخجال رجلنا. ولكن رجلنا لم يخجل، لأنه أستيقن أن دوماس إنما يقول الحق. كتب بستور إلى أبيه:(وقام دوماس يتمدّح استقصاءاتي واستطراداتي، ثم وجه الخطاب إلي فقال: قد إجازتك الأكاديمية يا سيدي منذ أيام على أبحاث بارعة أخرى. واليوم يصفق لك هذا الحشد اعترافاً بأنك أستاذ في أساتذتنا عظيم مجيد. نطق دوماس بهذه الألفاظ ذاتها يا والدي، وتبع هذا تصفيق كان له دوي بعيد)

وبين هذا التصفيق كان من الطبيعي أن تسمع هسيساً من خصوم لا يرضون عما يقول. خصوم من خلق بستور نفسه. خصوم لم تخلقهم كشوفه الجديدة، وتخطيئه لنظريات قديمة وعقائد عتيقة، ولكن خصوم خلقهم سوء تحديه للناس. كان يكتب فتقرأ بين اسطره إعجاباً بنفسه، وتحقيره لكل من يتلكأ فلا يؤمن بالذي يأتيه تواً. كان يحب حوار الكلم، ويغرم كالديك بالمناقرة لأتفه الأمور. كان يغضب ويدمدم لكل نقد، حتى للتعليقة الساذجة يلفظ بها امرؤ عن اجروميته، أو تنقيطه لكلماته. انظر إلى صورته في هذا العهد. عام 1860 على التقريب - تقرأ في كل شعرة من حاجبه اعتداده بنفسه، وتحفزه للحرب دون يقينه. وطالع أبحاثه الشهيرة في هذا الوقت، تجد فيها الشموس والأباء، حتى في مصطلحاته العلمية وفرمولاته الكيمياوية

أثار بستور الخصومات حوله لتحديه الناس وازدرائه إياهم، ولكن كان من بينهم من خاصموه بسبب اختلاف برئ على تجاربه. كانت تجاربه بديعة مدهشة، ولكنها لم تبلغ دائماً الغاية والكمال. كانت عليها مأخذ وبها ثغرات. مثال ذلك أنه كان يبذر في محلول السكر بعض تلك العصى القصيرة التي تحيله إلى حامض اللبن، فكان أحياناً يشم رائحة كريهة تخرج من القارورة هي رائحة الزبد إذا فسد، ثم ينظر بمجهره فلا يرى للعصى أثراً. ويمتحن السائل فلا يجد به من حامض اللبن الذي أراده شيئاً. فهذه الخيبات التي اعتورت تجاربه كان يتخذ منها خصومه قذائف يحاربونه بها. وكانت تقض مضجعه فلا ينام ليله. ولكن لم يدم ارقه طويلاً. كان بستور غريب الأطوار عجيب المسالك، ولم يكن

ص: 42

بأقلها مسلكه إذا هو خاب. لم يستطع أصلاً أن يعلل لِمَ تحيط تخميراته أحياناً عن الطريق السوي المعروف، إلى طريق معوج غير مألوف، ومع هذا لم يظهر عليه أنه اهتم لهذا أبداً. كان ماكراً ذا حيلة، فإذا انسد في وجهه الطريق لم يحاول فتحه بنطحه، فقد علم أن هذا لا يجديه إلا تحطيم رأسه، فكان يدور حول المشكل دوراناً، ويزوغ من ورائه زوغاناً، فيلويه ويثنيه حتى يصبح له بعد أن كان عليه

لِمَ هذه الرائحة الكريهة رائجة الزبد الفاسد؟ لِمَ لا ينتج حامض اللبن أحياناً؟! وفي ذات صباح حدق في قطرات السائل، فرأى حياً جديداً يعوم حول تلك العصى المتخاذلة المتناقصة. (ما هذه الأحياء؟ إنها أكبر من العصى كثيراً، وهي تعوم كالسمك عوماً، هي إذن حيوانات صغيرة)، وأخذ يلحظها لحظات الكاره لها، الضائق بها، المتبرم منها، فقد عرف بالسليقة أنها دخيلة، إنها زورة الضيف الثقيل لا أهلاً به ولا سهلاً. وكانت تتقاطر كالإبل، ولكنه إبل كريهة المنظر، شوهاء الوجوه. أو هي كالأفعى تنسل انسلالاً. وأحياناً كانت توجد فرادي، وكان يدور الفرد منها دوراناً رشيقاً، أو يتزن على عقبه ثم ينفلت انفلاتاً بديعاً. وكان منها الرعاد والرقص.

مناظر ممتعة حقاً، ولكن ما دخولها إلى ماء السكر بغير دعوة ولا استئذان! وحاول بستور مائة مرة أن يسدّ عليها السبيل كي لا تدخل إلى القوارير. وسلك لذلك سبلاً لا تروق لنا اليوم. وكان كلما ظن أنه قطع دابرها، إذا بها تنط له في القوارير من جديد. وذات يوم خطر له أن هذه الأحياء ذات صلة بالرائحة الكريهة التي كان يجدها ببعض القوارير

وبهذا أثبت؛ في نوع من التحقيق، إن هذه الأحياء صنف جديد من الخمائر تحيل السكر إلى حامض الزبد الفاسد. أقول في نوع من التحقيق، لأنه لم يكن موقناً يقيناً تاماً بخلو قواريره من أنواع أخرى من الأحياء غير التي رآها. وبينما هو في خبلته، ساهم في حيرته، تراءى له أن يخرج النجاح من خيبته، ويطلب الفرج من أزمته. نظر إلى بعض السائل بأحيائه الجديدة فوجد أن أوسط القطرة يتنغش بها، ويعج بحركاتها. ودار بمنظاره قليلاً قليلاً غير قاصد حتى جاء إلى حرف القطرة، فوجد تلك الأحياء فاقدة الحراك كجثث الأموات تصلباً وهموداً. وعاد فنظر في قطرة أخرى، فوجد بها ما وجد بالقطرة الأولى، فصاح:(إن الهواء يقتل تلك الأحياء). وأكد لنفسه أنه كشف كشفاً خطيراً. وبعد قليل أخبر

ص: 43

الأكاديمية أنه وجد خمائر جديدة، خمائر غريبة، تخرج حامض الزبد من السكر، وأنه وجد فوق ذلك أنها تستطيع العيش والحركة واللعب والعمل بدون هواء. بل إن الهواء يقتلها قتلاً. ثم عقب على هذا يقول:(وهذا أول مثل لحي يعيش بلا هواء)

ولسوء طالع بستور لم يكن هذا أول مثل، بل ثالث الأمثال، فإن لوفن هوك كشف هذا قبله بمائتي عام. واسبلنزاني قبله بمائة عام وجد أن الأحياء المكرسكوبية تعيش ولا تتنفس

يترجح عندي أن بستور لم يعلم بهذين المثلين، بل أنا جازم أنه لم يقصد إلى سرقة مجهود غيره، ولكنه في ثورته لكسب مجده، وتحرقه لتكثير كشوفه، تناقص اهتمامه بما جرى قبله وما كان يجري حوله، ومن هذا أنه كشف من جديد أموراً كشفها غيره، كأن كشف أن المكروبات تفسد اللحم، ونسى أن إشفان سبقه إلى ذلك، ونسى أن يؤدي إليه حقاً وجب.

على أنه يحسن بنا ألا نحرج بستور هذا كثيراً، ونعد سيائته في هذا الصدد عداً، ونحاسبه حساب الملائكة الشّداد. ذلك إن خياله، وهو من خيال الشعراء، كان قد بدأ يثبت الوثبة الأولى فيخال إن هذه المكروبات أعداء الإنسانية وقتلة الرجال. ففي مقال هذا كان يتحدث حديث الحالم فيقول: كما أن اللحم يفسد، فكذلك قد تفسد الأجسام، فتعتري الناس الأمراض. وتحدث عما قاساه من اللحم الفاسد وهو يعمل فيه. وتحدث عن كراهته للروائح الكريهة التي ملأت معمله وهو يجري هذه التجارب. (إن تجاربي في التخمر ساقتني بطبيعة الحال إلى هذه الدراسات فتقبلتها على ضرها وخطرها وبرغم الكراهة التي تبعثها في نفسي). ثم حدث الأكاديمية عما سيلقاه في سبيل هذه الأبحاث، وذكر لهم أنه لن يحجم عنها. واقتبس قول لافوازيه:(إن أقذر الأشغال وأكثرها حظاً من كراهة النفوس لتهون على المرء النبيل إذا هو توخاها لخير الإنسانية، وهي لا تزيد الرجل إلا قوة على قطع الصعاب التي يلقاها)

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 44

‌موعد

للأديب حسين شوقي

لماذا تسرع هذه الفتاة في السير؟ لماذا؟ إنها خفيفة الخطى كأنها القبرة، وكأنها عما قليل ستطير عن رصيف الشارع. .! لماذا تسرع في السير؟ لو أنها ذاهبة إلى عملها لكان هناك ما يبرر هذه العجلة، ولكن هذا غير مستطاع لأن الساعة الآن السادسة، والمكتب الذي تعمل فيه قد أغلق أبوابه منذ الساعة الخامسة. . لماذا تسرع الفتاة في السير إذن؟ إنه يكفي أن تلمح في وجهها علائم البشر والاغتباط لتدرك لماذا تسرع في خطاها. . إنها على موعد من حبيبها. .

إنها سعيدة، ولما كانت سعيدة أصبحت تعتقد أن الناس كلهم سعداء مثلها. . . ولكن انظر إلى هذه الطفلة الفقيرة النائمة على طوار الشارع بجانب الحائط، لا يمكن أن تكون سعيدة وهي على هذه الحال من البؤس، أحست نحوها الفتاة بحنو شديد حتى فكرت في تبنيها. . . ربما تبنتها لدى عودتها من الموعد. . ها هو أيضاً كلب لا يمكن أن يكون سعيداً، لأنه مجروح، يتألم من جرحه، فقد قذفه أحد الأطفال الأشقياء بحجر فأدماه، تود الفتاة لو أنها تحمله إلى الصيدلية لتضميد جرحه، ولكنها مع السف متعجلة، فهي على موعد من حبيبها، وقد تأخرت عنه، فالموعد في الساعة السادسة، والساعة الآن ست عشرة. . . مسكين حبيبها لابد أنه قلق من طول الانتظار! إنها ترغب في ركوب سيارة لتدركه بسرعة، ولكنها تخشى أن يرفض سائق السيارة توصيلها، لأن المكان الذي ينتظرها فيه الحبيب قريب جداً، فهو على خطوات منها. . تنتقل الفتاة إلى الطوار الآخر، تخترق الطريق وهو غاض بالحركة دون أن تنتظر إشارة الشرطي المؤذنة بالمرور. . حقاً! إن أمر هذه الفتاة عجيب! ألكونها تحب تظن نفسها معصومة من الأخطار؟ تدخل المقهى حيث ضرب لها حبيبها موعداً. . . . . إنها تحس بدوار خفيف عندما وضعت رجلها على عتبة المكان، إن قلبها أيضاً ليس في حال طبيعية، أنه يخفق بسرعة، إذ هو أشد منها رغبة في ملاقاة الحبيب، ولكن لماذا تجهم وجه الفتاة فجأة؟ لماذا؟ لم تجد حبيبها في المقهى، بحثت عنه في كل ركن ولكن بدون فائدة، إنها تحس خوراً في قواها، لذلك جلست هناك إلى مائدة، ثم أخذت تنظر إلى ساعتها اليدوية التي أشار عقربها إلى السادسة والثلث، ثم نظرت إلى

ص: 45

ساعة المقهى الكبيرة المعلقة في صدر المكان، كأنها لم تقتنع بساعتها، فإذا هي أيضاً السادسة والثلث. . . تنادي الخادم فتسأله: هل ساعة المقهى مضبوطة؟ فيؤكد لها الخادم ذلك. . علامَ هذا القلق؟ علامَ؟ إن الحبيب سوف يحضر. . . لعل طارئاً قد عاقه. . . إنها تطلب فنجاناً من القهوة لتهدئة أعصابها، ولكن تأتي القهوة وأعصابها ما زالت مضطربة. . . تتناول مجلة لتلهى بها نفسها ولكنها تعيدها بعد برهة إلى مكانها، لأنها لا تفهم ما تقرأه، مع أن المجلة ليست علمية صعبة، بل هي تتحدث عن نجوم (هوليود). .

تعود الفتاة إلى إرهاق ساعتها، تنظر إليها مرة، ثم ثانية، ثم ثالثة، ثم تعيد النظر في ساعة المقهى. . ربّ! كيف مر الوقت بهذه السرعة؟ إن العقرب أشرف على السابعة! هل داخل الساعة شيطان يا ترى يعجل الوقت لإغاظة الفتاة؟ يأتي الخادم وقد رآها قلقة، فيسألها: هل تنتظرين أحداً يا سيدتي؟ فتجيبه متلهفة بالإيجاب، ثم تعطيه علامات الحبيب لعله يكون قد رآه، ولكن الخادم آسف لأنه لم يشاهده. .

تتأهب لمغادرة المقهى إذ يئست من الانتظار، تغادر مكانها وهي أشد حزناً من حمامة هجرها أليفها، ولكنها تعود ثانية إلى المقهى فقد نسيت أن تؤدي قيمة ما شربته. . تقف برهة على الباب، إذ عساه يحضر. . ثم تطأطئ رأسها وتنصرف. .

تعود إلى المنزل، ولكنها تسلك هذه المرة طريقاً أخرى غير الطريق الأول، لأنها لم تعد ترغب بعد في تبني الطفلة الفقيرة، ولا في تضميد جرح الكلب. تدخل حجرتها فترتمي على السرير لأنها تحس بتعب شديد كأنها صعدت جبال (الهملايا) مع أنها في الواقع مشت قليلاً. . ليس ما بها من التعب، بل من الحزن، الحزن العميق. . .

تركت باب الحجرة مفتوحاً لتسمع التليفون إذا دق، فهي تأمل أن يعتذر الحبيب إليها. . . يدق التليفون فتسرع إليه، كما يسرع الغريق إلى قارب النجاة. . . . يالخيبة! ليس هو الحبيب الذي يتكلم، بل هو إنسان آخر قد أخطأ الرقم، يدق التليفون من جديد فتهرع إليه الفتاة، فإذا المتكلم سيدة تسأل عن (س) الجزار. . .! ثم يدق التليفون مرة ثالثة، في هذه المرة هو الحبيب الخاطب المتكلم، لأن الفتاة اغتبطت فجأة اغتباطاً عظيماً كأنها ربحت اليانصيب الايرلندي. . . الخاطب يسألها عن سبب تأخرها لأنه ظل ينظرها ساعتين كاملتين في المقهى، وكان أنظاره في المقهى آخر، إذ اخطأ اسم المكان، الفتاة تسرع في

ص: 46

الذهاب إليه، وقد زال عنها تعبها في غمضة عين، إنها تنهب الدرج نهباً أثناء النزول، فتزل قدميها وتسقط سقطة مؤلمة، ولكنها لا تحس ألماً، بل تضحك من أجل هذا ضحكاً متواصلاً. ثم أخذت تفكر مرة أخرى في تبني الطفلة الفقيرة، وفي إسعاف الكلب الجريح!. .

كرمة ابن هاني

حسين شوقي

-

ص: 47

‌20 - محاورات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

قلت - نعم ولكن لم يرو عن هرقليس نفسه أنه نازل اثنين

فقال - ادعني إذن، وسأكون لك أيولاوس حتى تغرب الشمس

قلت - سأدعوك، لا كما يدعو هرقليس أيولاوس، ولكن كما كان يفعل أيولاوس لو كان يدعو هرقليس

قال - لا فرق بين هذا وذاك، ولكن لنأخذ الحذر أولاً لكي نتقي خطراً

قلت - وما ذاك؟

أجاب - خطر أن تتمكن منا كراهة المنطق فذلك من أسوأ ما قد يصيبنا من أحداث، فكما أن ثمة أعداء للإنسانية وهم من يمقتون البشر، كذلك هنالك من يكرهون المنطق وهم من يمقتون المثل، وكلاهما ناشئ من سبب بعينيه، هو الجهل بالعالم، فتجيء كراهة البشر من الغلو في الركون إلى عدم الخبرة، فأنت تثق برجل، وتظنه مخلصاً تمام الإخلاص. وخيراً وأميناً، ثم لا يلبث أن يتكشف لك زائفاً خبيثاً، وهكذا غيره وغيره.

فإذا وقع ذلك الإنسان مرات عدة، وبخاصة من جماعة أصدقائه الذين يظنهم اشد الناس إخلاصاً له، وكثر النزاع بينه وبينهم، فإنه ينتهي آخر الأمر إلى كراهة الناس جميعاً، ويعتقد أن ليس بين الناس على الإطلاق صاحب خير. أحسبك بغير شك قد لاحظت هذا.

قلت - نعم

- أليس ذلك مدعاة للخزي؟ وسببه إن الإنسان في اضطراره إلى معاملة سائر الناس، لا يكون لديه بهم علم، لأنه لو عرفهم لعرف الأمر على حقيقته، وذلك إن ذوي الخير قليلون، وان ذوي الشر قليلون، وان الكثرة الغالبة هي فيما يقع بين هذين

قلت - ماذا تعني؟

أجاب - أعني أنه كما قد نقول عن بالغ الكبر وبالغ الصغر، بأنه ليس أندر من رجل بالغ

ص: 48

الكبر، أو رجل بالغ الصغر، فهذا ينطبق بصفة عامة على الهايات، سواء أكانت ذلك عن الكبير والصغير، أم السريع والبطيء، أم الكدر والصافي، أم الأسود والأبيض، وسواء ضربت أمثلة ناساً أو كلاباً أو أي شيء آخر، فقليلون هم النهايات، أما الكثرة فتتوسط بين النهايات، أو لم تلاحظ هذا فقط؟

قلت - نعم لاحظته

قال - ثم ألست ترى أنه لو كان بين الشرور تنافس، لوجد أن قليلاً جداً منها هو اسبقها في الشر؟

قلت - نعم فذاك ارجح الظن

أجاب: نعم ذاك أرجح الظن، ولست أعني إن مثل الأحاديث في هذا مثل الناس - وأراك ها هنا قد حملتني أن أقول أكثر مما اعتزمت أن أقول، ولكن وجه المقارنة هو أنه إذا ما آمن رجل ساذج، لا يحذق علوم الكلام، بصحة دليل، وخيل إليه فيما أنه باطل، سواء أكان باطلاً حقاً أم لم يكن، ثم تكرر هذا في غيره وغيره، فلا تبقى للرجل عقيدة واحدة، وينتهي المر كما تعلم بكبار المجادلين إلى الظن بأنهم قد باتوا احكم بني الإنسان، لأنهم هم وحدهم الذين أدركوا ما في التدليلات كلها من تزعزع وضعف شامل، لا بل أدركوا ذلك في الأشياء جميعاً، وهي تظل هابطة في مد وجزر لا ينقطعان، كما هي الحال في تيار يوربيوس

قلت: هذا جد صحيح

أجاب: نعم يا فيدون، ولشد ما يبعث على الأسى أيضاً أن يصادف إنسان تدليلاً هنا أو هناك، فيبدو له أول الأمر أنه حق، ثم يتكشف له عن باطل، فبدلاً من أن ينحو باللائمة على نفسه وعلى ما يعوزه من ذكاء، تراه لحنقه آخر الأمر يغتبط شديد الغبطة في إزاحة اللوم عن عاتقة ليلقيه على التدليل بصفة عامة، ويظل بعد ذلك إلى الأبد كارهاَ لاعناَ لكل تدليل، فتفلت منه حقيقة الوجود وعرفانه، لو كان ثمة ما يسمى بالحقيقة أو اليقين أو القدرة على المعرفة إطلاقاً

قلت: نعم، إن ذلك ليبعث على الحزن الشديد

قال: فلنحاول إذن بادئ ذي بدء، أن نسلم في نفوسنا بالفكرة القائلة أنه لا حقيقة ولا عافية

ص: 49

ولا قوة في أي تدليل على الإطلاق، ولنعلن قبل ذلك أن ليس فينا نحن الآن عافية وانه يجب أن نطلق فينا العنصر الإنساني، ونسعى جهدنا في اكتساب العافية - فتكسبها أنت وسائر الناس جميعاً من أجل حياتكم المقبلة كلها، وأما أنا فمن أجل الموت، فلست أحس الساعة إني متخلق الفيلسوف، وما أنا في الرأي إلا مشايع كأفراد السوقة، وليس يعبأ المتشيع، حينما يلج في المخاصمة، بأوجه الصواب من الموضوع، بل يحرص على إقناع سامعيه بأقواله وكفى، وليس بينه وبين في اللحظة الراهنة من فرق إلا هذا ـ بينا هو يحاول إقناع سامعيه بصحة ما يزعم، تراني أحاول إقناع نفسي قبل كل شيء، فإقناع سامعي أمر ثانوي بالنسبة إليّ. ولتنظرن كم عسى أن أفيد بهذا، فلو كان ما أقوله صحيحاً فما اجمل أن أكون مقتنعاً بالحقيقة، وأما إن كان لا شيء بعد الموت، فسأفو على أصدقائي هذا العويل فيما بقي من حياتي من أجل قصير، هذا وسترتفع عني جهالتي، ولهذا فلن يقع مني ضرر. أي سيماس وسبيس، تلك هي الحالة العقلية التي أتناول بها الحوار، وإني اطلب إليكما أن تفكرا في الحقيقة لا في سقراط؛ فإن رأيتما إني أتكلم حقاً فوافقاني وإلا فقاوماني بكل ما وسعكما من جهد، حتى لا أخدعكما جميعاً كما اخدع نفسي، وحتى لا أكون لكما كالنحلة، فادع فيكما حمتي قبل موتي

قال: والآن دعنا نمضي، ولأتأكد منك قبل كل شيء إن ما في ذهني يطابق ما كنت تقوله، فإن كنت مصيباً فيما أتذكر، فقد كان لدى سيماس مخاوف وشكوك أن تكون الروح أسبق إلى الفناء، ما دامت في عبارة عن انسجام، على الرغم من أنها أشد من الجسد ألوهية وصفاء. وقد بدا سيماس من جهة أخرى أنه يسلم بأن الروح أطول من الجسد بقاء، ولكنه قال: عن أحداً لا يستطيع أن يعلم إن كان يمكن للروح بعد أن تكون قد أبلت أجساداً عدة، أن نفني هي نفسها، مخلفة وراءها آخر أجسادها، وأن هذا الموت الذي يجلب الدمار للروح لا للجسد، لأن فعل التخريب لا يفتأ عاملاً في الجسد أبداً. أليست هذه، ياسيماس وسيبيس، هي النقط التي تستوجب منا النظر؟

فوافق كلاهما على إن ذلك تقرير لرأيهما

فمضى سقراط: وهل تنكران ما في الحوار السابق كله من قوة، أم تنكران ما في بعضه فقط؟

ص: 50

فأجابا: بل ما في بعضه فقط

قال: وماذا ارتأيتما في ذلك الجزء من الحوار الذي ذكرنا فيه إن المعرفة عبارة عن تذكر فحسب، واستنتجنا منه إن الروح لا شك كانت موجودة فيما سبق، في مكان آخر، قبل أن تنحصر في الجسد؟ فقال سيبيس أنه قد تأثر بذلك الجزء من الحوار تأثراً عجيباً، وانه لبث فيه راسخ اليقين، ووافقه سمياس، وأضاف أنه عن نفسه لم يكد خياله يجيز أن يجيء يوم يرى فيه حول ذلك رأياً مخالفاً لهذا

فاستأنف سقراط: ولكن يجدر بك، أي صديقي الطيبي، أن ترى رأياً مخالفاً، لأنك إن أصررت على إن الانسجام في إطار الجسد، فلا ريب انك لن تجيز لنفسك القول بأن الانسجام سابق للعناصر التي يتألف منها الانسجام

- كلا يا سقراط فذلك مستحيل

(يتبع)

زكي نجيب محمود

ص: 51

‌في مجمع الرذائل

للأستاذ فخري أبو السعود

عقَدَ الرذائلُ في خلاءٍ مجمعاً

في مهمةٍ نائى المزار يباب

يَنثُرنَ كلّ حديثِ سوءٍ مْجتَوًى

بينَ الدِّنانِ ومُتْرَعِ الأكواب

وتتابعت ثَمَّ الرذائلُ كلها

يَخْطبْنَ في لَسَنٍ وفي إطناب

متفاخراتٍ بالذي رَنَقَنَ من

نعماَء أو قطٍعن من أسباب

وتدفقَ الحسدُ المفَوّه واصفاً

مَسْرَاه في الأكباد والألباب

وتلاهُ ثمتَ الاغتيابُ يَقُصُّ ما

يمشي به من فتنةٍ وتَباب

حتىإذا سكت الجميع وقَرَّ ما

في الحفل من جدل ومن تَصخاب

ارتدَّ حُبُّ النفْسِ ثمتَ قائماً

نضرَ الصبا مُتألقَ الجلباب

متبسماً متمكناً من نفسه

فِعْلَ العريق المجدِ والأحساب

فدعا: ضُيوفي! قد سمعتُ خطابَكم

فتسمعوا أنتم لفَصْلِ خطابي

أنا ربُّ هذا الخَلْقِ دانوا كلهم

لِعُلَايَ قَبْلَ عِبَادَةِ الأرباب

وأنَا قَهَرْتُ عَدُوىَ الإيثارَ إن

ناداهمُ وَلوْا بغير جواب

وإذا دعوتُهُمُ فَرَهْنُ إشاَرَتي

وهُمُ على ما رُمْتهُمْ أَحَزابي

أنا مُفسِدُ الوُدِّ الذي زعموه من

قدَمٍ فكلُّ الود محض كِذاب

إما رأيتُ وثيقَ ود بَينهمْ

أنفَذْتُ سهمي فيه أو نُشابي

فأنَبتَّ أو وَهَنَتْ عُرَاهُ أو اغتدى

زَيفاً مِنَ الأقوال والألقاب

مِن ذاك يحسَبُهُمْ جميعاً مَنْ رأى

وقلوبُهمْ شَتى هَوىً وطِلَاب

ويُرَى الودادُ أَقَلَّ ما احتفلُوا به

منِ طيبِ ذُخْرٍ أو كريمِ رغاب

لم يأخذوا في العيش أو يُعطُوا سوى

ما دوَنوا في دَفتَرٍ وحساَبِ

وأنا المغالي في النفوسِ بِقَدْرها

حتى تُصَغرَ مدحَ كلِّ محابي

وأنا المبررُ للخَطايا عِندَها

فَتَرَى صواباً كلَّ غيرِ صواب

وأنا مشوهُ كل فضلٍ ظاهرٍ

للغير وهو أحقُّ بالإعجاب

وأنا محرضُ من تجاوزَ حقه

وبغَى على القُرَناءِ والأصحاب

ص: 52

وكذاكَ أضرِمُها عوَاناً بينهم

يَصلوْنها حِمَماً وبرحَ عذاب

وإذا أشاء أبُثُّ فيهمْ منكمُ

رسلي وأنشر بينهم أذنابي

امشي بحقدٍ بينهم وضغينةٍ

وأُوَكلُ المغتاب بالمغتاب

ويكون لي الكذبُ المموه برقعاً

ويكون من زَيْفِ النفاق خضابي

وأهيج بالحسد الجوانحَ والحشاَ

فتعجُّ بالأوضارِ والأوصاب

انتم جنودي لا عَدِمْتُ ولَاءكم

أبداً على الأجيال والأحقاب

فأحُسوا الشرابَ لقد رضيتُ بَلَاءكم

لكمُ ثنائي كله وثوابي

فخري أبو السعود

ص: 53

‌أمراض الحضارة

// ليت الذي بجليل الفكر حققها

يشاهد الآن (فقد العز في الحضر)

(جيل الحضارة) هذا فانظرن معي

أللبطولة عند القوم من أثر؟

أم للمودة والإخلاص منزلة

أم للمروَءة والإخلاص من خطر؟

تقدم العلم فانحطت به قيمَ

كانت هي العرف بين الله والبشر

مالوا عن الدين لما شك عالمهم

والشك أدعى لأخذ الأمر بالحذر

فأصبحوا هملاً لا يفقهون لما

في الدين من وازع والعلم من بصر

وأولعوا بسخيف من عوائدهم

عجزاً عن الجد في الإبداع والظفر

ظواهر الأمر تكفيهم وتشغلهم

عن النفوذ وراء السطح والصور

فضيلة لم تُذع ليست لصاحبها

فاحرص على النشر دون الصدق في الخبر

يا من يريد بجهد صامت شرفاً

أقصرْ ودع عنك هذا الوهم واعتذر!

(أجاعل أنت بيقوراً مسلعة

وسيلة لك بين الله والمطر؟)

ويح البرية من علم يضيء لها

جوانب الكون دون النفس والفكر

(. . . .)

ص: 54

‌نعيم الحب

بقلم حلمي اللحام

عضو المجمع الأدبي

هاجَتْ بِيَ الذكْرى شُجُونَ الهوَى

وأضرَمَتْ في الصدر نارَ الْجَوَى

تلفتَ القلبُ إلى أَمِسهِ

لَهْفَانَ مِما جَشمَتْهُ النوَى

أيْنَ عُهودٌ كالرؤَى لذة

وظلُّ عَيش كَرَفِيفِ الْحُلَى

وأيْنَ حُلْمٌ سائغٌ وِرْدُهُ

كَسَلْسلِ الْخُلْدِ إذا ما جَرَى

يا نِعْمَةَ النسْيَانِ جُودِي عَلَى

قلْبٍ رماهُ اليَأسُ حتى ذَوَى

وَهَدْهِدِي بالسحْرِ أحزانَهُ

وَأَرْقِدِى فيه طُيُوفَ الأَذَى

أَواهُ كم يَهفُو إلى رَقْدَةٍ

في ظِلكِ الوَارِفِ هَفْوَ الصبا

إنْ سَاوَرَتْنيِ سِنَةٌ حُلْوَةٌ

نَعْمتُ باللثْمِ وطِيبِ اللقاَ

وإِنْ تَغِبْ أَشْقَ، فياليْتَنيِ

اقضِي حياتي في ظِلال الكَرَى

يا طَيْفَهَا كم زُرْتَنيِ مُنْعِماً

في هَدْأَةِ الليلِ وسَجْوِ الدُجى

وَطِرْتَ بالروحِ إلى عالَمٍ

مُزدَهِرِ الأَرْجاءِ، ضَاحي الذرَى

يُرَفْرِفُ الحُبُّ على أُفْقِهِ

ويَنْعَشُ المحزُونَ فيه الرضاَ

مُضْنَاكِ يا رَيْحانَتيِ يائسٌ

طاحَتْ أغانيهِ وغابَ الصدَى

إِنْ هَاجَهُ الشوْقُ بكَى حَظهُ

وعَادَهُ الماضِي فأَغضى أَسَى

آضتْ منَ الهِجْرَان جَناتُهُ

صَحْرَاَء لا يَضْحَكُ فيها الْجَنَى

فَنَضرِيها تَأتَلِقْ بَهْجَةً

وتكْتَنِفْها نُعْيَمَاتُ الدنا

أنْتِ سَناَ الروْضِ ورَيْحانْهُ

وفتْنَةُ الزهْرِ وعِطْرُ الشذَا

منْكِ اسْتَمَدَّ القلبُ أَلْحَانَهُ

واسْتَلْهَمَ الشعْرَ وذاقَ الهوَى

يَا حُسْنَ ذِكْرَاكِ وَيَا طِيبهَا

قُوتاً لِرُوحي إِنْ عَرَاها الوَنَى

لم يَبْقَ في الكأسِ سِوَى جُرْعَةٍ

والنفْسُ ظَمْأَى! أَفتُرْوِى الصدَى؟

مَنيْتِني بالوَعْدِ، لكِننيِ

مِثْلُ فَرَاشٍ حامَ حَوْلَ السنَا

تَرَكتِني في لوْعَةٍ مُرةٍ

مُستَعبرَ العَينيْنِ، جَمّ الضُى

ص: 55

لا الطيْرُ يُصبِينيَ ترْجِيعُهُ

في السحَرِ الندْيَانِ إِما شَدَا

ولا الأغارِيدُ تَذُودُ الأَسَى

عن مُهجَتي الحَرى وتَنْفى الشجاَ

هذا الصبا المِمرَاحُ أيامُه

رَفافةٌ، حاليَةٌ بالمُنى

والمُجتنَي دانٍ فهيا نَهِمْ

مثلَ طيورِ الفْجرِ بينَ الربا

ونَحْىَ كالزهرِ ألِيفيْ هَوى

في رَوْضةٍ وَشى رُباها الحَيا

ونَقطفِ اللذاتِ مَنضورةً

من قبلِ أنْ يَذْوىَ عُودُ الصبا

عينَاكِ سِرُّ الوَحْيِ في خاطرِي

وثَغْرُكِ المَعْسولُ كأسُ الطلى

فأرْشِفيني نَهلةً عذْبةً

تَغْمُرْ جَنَاني بِسَنىِّ الرؤى

وألهمِيني نَغماً فاتناً

أنْسَ بهِ بَرْحَ الأسَى والبُكا

إذا انتَشَى قلبيَ من حبهِ

فلا صَحاَ منْ سُكرِهِ لَا صَحاَ

الحبُّ رُوحُ اللهِ في خلقهِ

ونَفْخَةُ الوَحىِ، ونورُ الهُدَى

جادتْ قِفارَ الكوْنِ أنداؤُهُ

فبَشتِ الدنيا، وغضَّ الثرَى

لولاهُ ما غردَ في أيكةٍ

طيرٌ ولا غَنى حَمَامُ الضحَى

ولا أراقَ الورِدُ أنفَاسَه

في الجوِّ رَيا مِرُضَابِ الندَى

آمنْتُ بالحبِّ وآلامهِ

كلُّ نعيمٍ ما عداهُ سُدَى

(دمشق)

حلمي اللحام

ص: 56

‌القبلة

بقلم الياس فيصل

أنتِ سِلك مكهرَبٌ بشعاعِ ال

حبِّ ينبث منه همسُ الفؤادِ

فيكِ من نكهةِ الشعور حميا

سحرُها المستطابُ خافٍ وبادِ

أنت معنى، بيانه الفذ يبرى

من جمال المراحِ أفقاً جديدا

أنتِ أنشودةٌ تزفُّ ثنايا

ها رجاَء مذهباً منشودا

وسواء ألممت مسرعةَ ذا

ت نفورٍ أو ذبتِ بين الشفاه

ففتونُ الفتونِ كالنور يغشا

كِ بلونٍ من التمتع زاهي

نزوة الشوق تسكبين عليها

ما يوارى لهيبها المنثورا

والحنين الملحّ في القلب يغدو

حين تهفين لذةَ وحبورا

ليس ينسى النبوغ مالك من فض

ل ولن تغفل العلى عن جميلكْ

كم فتى سجل الخلود اسمه ما

كان لولا جهوده في سبيلكْ

يا خيالا من اللذاذة فيه

قبس الذكرى دائم الإيماض

ليتَ محبوبتي تروى غليلي

مرة من معينكِ الفياضِ

عاصمة الجمهورية الفضية

الياس قنصل

ص: 57

‌القصص

من أساطير الإغريق

يو أو منشأ إيزيس

للأستاذ دريني خشبة

كان لأحد أرباب الأنهار التي تنحدر من شواهق الأولمب ابنة بارعة الجمال فتانة، حلوة كأنها قبلة على فم حبيب، رقيقة كأنها زنبقة على غصن رطيب

وكانت تخطر كما تخطر نسمة معطرة أفلتت من الجنة لتملأ القلوب حباً، ولتشيع في الحب سعادة، ولترف في قيظ الحياة فتروح على المكدورين المحزونين

وكانت هذه الفتاة (يو)، مفتتنة بجمال الطبيعة، مشغوفة بسحرها الأخاذ، تود لو تستطيع فتعيش ملء السهل والجبل، أو تقدر فتنسجم والحياة الدائبة في الغابة، أو تكون روحاً شفافاً يرف في زرقة السماء، ويمتزج بالظلال والأفياء

ولم تكن عاشقة، ولكنها كانت حين تجلس على الصخرة المشرفة على البحر تعبد القمر في هدأة من الليل، يتهيج حب الطبيعة في نفسها، فتبكى وتبكى، ولا يقطع عليها بكاءها إلا خرير الغدران المترقرقة التي تنسرب في الأدغال. . . وكانت عبادة الطبيعة تقطعها عن أترابها من عرائس الماء، وصاحباتها من بنات الغاب، فكن إذا تفقدنها، توزعن في مهاوي الجبل، وتفرقن في منبسط السفح، وتنادين بها ههنا وههنا، حتى يجدنها آخر الأمر مستغرقة بين يدي قمرها المعبود، تناجى البحر المصطخب، وتلكم النجم المضطرب

ونزل زيوس يوماً من ذروة الأولمب التي هي أول مراقي السماء، يرتاد جنات الأرض في مملكة جدته (جي)، وما كاد يوغل في إحدى جنبات الجبل حتى لقي يو، تلك الفتاة الأولمبية الساحرة، واقفة على الصخرة تستمتع جمال الشروق في صبيحة من أوليات الربيع. . . وكانت السماء ما تزال موشاة بسحائب خفيفة من بقايا الشتاء، وأراد، ذكاء تنتشر خللها فتفضض أذيالها، وتذهب أوساطها، وتكسب الأفق رونقاً زاهياً خلاباً

وسحر زيوس، وهو كبير الآلهة، بجمال العروس التي هي من خلقه، وابنة أحد اتباعه وأحس بعطف يغمر قلبه العظيم من أجلها، وشعر كأنه ظمئ إلى هذا الجمال الفتان

ص: 58

المشرق، الذي كف في عينيه جمال زوجاته، وفيهن حيرا وديون ولا تونا.

ووقف الإله المشدوه يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وسمر مكانه، وهو سيد الآله، يعبد عبدته الصغيرة التي أبدعتها يداه. . وهو لا يدري!

وعول على اغتنام الفرصة، وأقسم ليملأن وطابه استمتاعاً لا يضيره ألا يكون بريئاً، ولذاذة ليس به أن تكون نقية خالصة. . . (أنا سيد أرباب الأولمب، وكل ما بين لابتيك أيتها الأرض لي؟، وقد اشتهيت هذه الجميلة الخبيثة فمن الذي يجرؤ أن يحجزها عني أو يمنعها مني!. . . .؟)

ثم بد له ألا يزعجها بالظهور لها في سيماه الحقيقية فينخلع قلبها وتطير نفسها، لأنها ستكون منه تلقاء إله فتحول في لمحة إلى فتى يافع ينهل الشباب في برديهن ويترقرق الصبي في أعطافه، وتشع عيناه صبوة وفتوناً. وتقدم إليها فحياها تحية كلها صفاء وكلها دعة، فحيت بأحسن منها، ولقيته أرضى لقاء. . .

وجلس يحدثها وتحدثه، وكان الإله المحتال يمزج أحاديثه بالسحر، ويزخرف صوته بالموسيقى، ويعسل ابتساماته بالمحبة، ويطلق في نظراته كل ما وسعه من شياطين الهوى، وكان ما ينفك يقترب منها ويقترب، حتى لامس ذراعه ذراعها، فأخذ يدها الصغيرة البضة بين كفيه الحارتين، وطفق يضغط قليلاً قليلاً. . .

وصمتا هنيهة. . . ثم فرغ طور اللسان، وبدأت نوبة العين، وأخذا في رشفات وقبل. . .

وعاد أدراجه إلى الأولمب، ولما يزر من أطراف الأرض غير هذه الناحية الحبيبة التي سعد فيها لحظة بيو، وظل منذ ذلك اليوم يتردد إليها فيلقاها على أنها كأسه الروية التي تبترد بها غلته، وتلقاه على أنه حبيب أسعدتها فينوس به، وما درت قط أنه كبير الآلهة ورب الأرباب. . .

وكان يتحرق إلى لقائها، وكانت تتسلى عنه بقمرها الفضي، فإذا سعدت منه بزورة، اندغمت عبادتها للطبيعة في عبادتها له، وأذهلتها نشوة الحب عن الدنيا وما فيها!

وأحست حيرا ببعض ما يشغله، ولحظت أنه صادف عنها، فأيقنت أن لابد من أمر، وأن في الأمر أنثى، وأن في الأنثى صبابة وغراماً، فبثت العيون ورصدت الرقباء، حتى وقفت من شأنه على كل شئ!

ص: 59

ولشد ما دارت الدنيا لحيرا! لقد ودت أن تقلب جبلاً على رأس يو!! وأقسمت أن تبغتهما إذ يتراشقان كؤوس الهوى دهاقا، لكيلاً يكون لبعلها على خيانته حجة، ولكيلا يكون له من بعدها برهان

وذر قرن الشمس في صبيحة ضاحكة، فذهب زيوس يشفى ما في قلبه من برحٍ عند يو، وكانت حيرا قد أوهمته إنها ستقضى سحابة يومها هذا عند واحدةٍ بعينها من صديقاتها، وزاد ذلك في ابتهاج الآله، وضاعف انشراحه، واعتزم أن يستمتع طيلة يومه هو الآخر لدى يو

وانه لفي لهو النشوة وأبان السكرة وعنفوان المرح، إذا به يلمح حيرا مقبلة!. . .

وكانت ما تزال في أول الأفق، فأيقن أنها مكيدة دبرته لتفجأه مع يو، وإنها قد كشفت من سره ما بالغ في كتمانه.

فتناول إذن صاحبته فنفث فيها نفثة سحرتها في أقل من لمحة بقرة بيضاء ناعمة، ثم شرع يلاطفها ويمسح عنقها. . .

ووصلت حيرا، ولم تنطل عليها حيلة الآله، وما شكت قط إن البقرة الواقفة تبحث بأنفها في الحشيش الأخضر كأنها تنشد الكلأ، إن هي إلا يو. .! عدوتها اللدود!!

فبسمت لزوجها بسمة كلها دل وكلها فتون، وسألته، وهو يحاول منها قبلة، أن يمنحها هذه البقرة الخصبة التي. .:

(لم أر في حياتي أشق منها ولا أجمل. . لقد أحببتها ن وهي من غير ريب، حين تكبر، ستعطينا أجود اللبن وأسلمه، وسيكون لبنها خير غذاء لوادينا الحبيبين ايرس وهيفيستوس ولطفلتنا الجميلة هيب. . .)

وارتبك زيوس، ولم ير بدا من إجابة زوجه إلى ما تريد. . .

ومضت حيرا بالبقرة فرصدت لها أحد اتباعها الأقوياء:

آرجس الهائل، ذا مائة العين التي لا تنام! ناطته بها، وأمرته ألا يغفل عنها. . . (وإلا فالويل لك يا آرجس إذا هربت منك، أو احتال عليك فألهاك عنها. . . إذن يحل عليك غضبي وأسحقك سحقاً. . .)

وظل الحارس الساهر يرعى يو، ويرقب كل حركة من حركاتها، حتى فزعت المسكينة من

ص: 60

سوء منقلبها، وصبت اللعنات على هذا الحبيب الشيطان الذي ردها بعد جمالها إلى ذا الخلق الشائه، وصيرها إلى ذاك المصير المؤلم. لقد كانت تتحين الفرصة لتستطيع أن تفلت من رقابته الثقيلة، ولكن كي؟ إن الخبيث كان إذا أضناه السهد وأعياه السهر، ينام بخمسين عيناً، ويقدح الشرر بخمسين أخرى!! فإذا استيقظت هذه نامت تلك، وهكذا دواليك، حتى تشرق الشمس فتصحو المائة كلها! وكانت تقابل صواحبها عرائس البحر كلما مررن بها، فتود لو تستطيع مخاطبة إحداهن، ولكن. . . هيهات! لقد كانت. . مو. . مو. . تنطلق من فمها الكبير مالته أشداقها، فتنزعج أيما انزعاج!

ومضت أيام. . . وأيام. . .

ثم لقيت أباها مرة، فنظرت إليه وهو ينكرها، ونظرت، ولكنه لم يستطع أن يفسر نظراتها، فذرفت أحر الدموع وأدمى العبرات! وحاولت أن تلفته إلى أنها ابنته، فلم يأبه لها!

وبدا لها أن تخط على ثرى الشاطئ حكايتها، وما كادت تفعل حتى فطن أبوها لما تريد، فلما قرأ ما رقشته في أديم الرمل، أجهش المسكين وسكب دموع الحنان، ثم عانقها عناقا طويلا! ولكنها أسقط في يديه! إذ ماذا يستطيع رب نهر صغير أن يصنع في سحر الإله الأكبر!؟

ولما شهد أرجس ما كان من بكاء البقرة، ثم بكاء رب النهر وعناقه إياها، تأثرا باديا. . ولو لم يفقه من كل ما كان شيئا. ثم ذكر وعيد حيرا، فنطلق بالمسكينة إلى مكان سحيق، وثمة، تخير بقاعاً عاليا أقام ليشرف منه على كل شيء، فلا يخشى على بقرته رهقاً، ولا تستطيع هي مهربا

وذكر زيوس فتاته المسكينة التي كان حبه إياها سبب تعسها وشقائها، وذكر تلك الأويقات الحلوة التي يسرت له فيها أصفى لحظات السعادة، التي لم يتيسر له مثلها في مملكة الأولمب على ما جمعت من صنوف الرفاهة والنعيم، فثارت في قلبه عوامل الرحمة، وتحركت في صميمه تلك الشفقة الآلهية التي اتصف بها في قديم الآباد

وفكر وفكر. . . ثم استدعى من فوره ابنه من زوجته مايا، البطل الطيار المشهور، هرمز، وأمره بالتوجه إلى حيث أرجس فيحتال عليه ويقتله

ومرق هرمز كالسهم إلى حيث الأكمة التي جلس فوقها أرجس، فألفاه يحرس البقرة حراسة

ص: 61

شديدة منكرة، وكانت القمراء تغمر السهل والغاب والجبل، وكان البدر يتنقل في دارات السماء، والرياح تهب سجسجاً، والبلابل تغرد فوق أغصان التفاح فتطرب وتشجي؛ وكأن سنة من النوم خفيفة رقصت في خمسين من عيون أرجس فأطبقت قليلاً، ولكن ما برحت الخمسون الأخرى تنافس الثريا ببريقها؛ وكانت البقرة ملقاة على الثرى المندى من الإعياء، فلما شهدت هرمز لم تحفل به

ولكن ما هذه الموسيقى الحنون!!

ومن العازف في هدأة الليل!

وما للنجوم تضطرب هكذا من الطرب؟

آه. . لقد تحول هرمز الصناع إلى شاب ذي قوة وذي فتوة وذي جمال، وبدأ في شكل راع من رعاة الضأن، وجلس القرفصاء على صخرة مقابلة لآرجس، ثم انبرى يعزف على يراعه المثقب الذي اتخذه من قصب البرية الفسيحة التي اقبل منها، وانبطحت في السفح شاؤه ونعمه. تغط في شبه نوم عميق. . . .

واستيقظت الخمسون الأخرى من عيون الأرجس، ودب النشاط في هيكله الضخم مما سمع من حسن التوقيع وروعة اللحن فانتفض انتفاضة كان بها عند هرمز - الراعي الفتي - فسلم عليه وصافحه وجلس بين يديه كالعنز يسمع ويطرب وينتشي، ثم اخذ معه في حديث طويل عن موسيقاه العذبة وألحانه الرقيقة، ثم استطرد فسأله عن نايه، مم صنعه، أو من ذا الذي وهبه له؟. . .

فقال هرمز: (في إحدى الغابات ذات الأيك البالغ عنان السماء، والدوح المنتشر في الأرجاء، كانت تعيش سيرينكس عروس الماء المرحة، ذات السيقان الناعمة، والجسم الأبيض الخصب الجميل. وكانت تهوى الرياضة وتقبل عليها، وتؤثر منها الجري والوثب والقفز، والتعلق بأطراف الشجر، ثم السباحة. وكانت تجري فتسبق الريح وتعدو فيتعثر الظليم في آثارها، ولا تدرك الصافنات غبارها. وطالما طلبت إليها آلهة الغاب مسابقتها، فكانت تأذن لهم فيجرون قبلها مرحلة، ثم تنطلق فتحلق بهم، وتسبقهم بمراحل!. . .)

وتثاءب هرمز الخبيث وقال: (ومن طريف ما حدث لها، إن بان العظيم، رب الرعاة واله المروج وسيد الغاب، ومعبود الناس في اركاديا، لمحها يوماً تعدو وكأنها زوبعة، فتبعها؛

ص: 62

ولكنها شأته. وأجهدته! مع ما هو معروف عنه من السبق والتفوق في الجري وحاول أن يلحق بها فضاعف سرعته وأطال خطواته ولكن هيهات!. . . والتفتت سيرينكس فرأته يطوي أديم الأرض من خلفها. ففزعت أيما فزع، وهالها منظره الشائه الغريب. . . فسيقانه العنزية الأربعة، وأذناه البهيميه الشاخصة، وجسمه المفتول ذو العظل ووجه الواسع العريض. . . كل ذلك بعث في قلبها الذعر وهاج في نفسها الرعب حتى كادت تذهب شعاعاً.)

وتثاءب هرمز ثانية وثالثة، ثم قال: (. . واعترضها نهر عظيم فصرخت في أخواتها عرائس الماء تستغيث بهن، وتطلب إليهن النجدة، فما أذهل بان عن نفسه إلا أن رأى طائفة من هذه العرائس تبرز من الماء فجأة فتجذب سيرينكس حتى تغيبنها في اليم، ثم ما أذهله أيضاً إلا أن يرى قصبات رقيقة، ذوات أرياش صفيقة، تنمو في الموضع من الماء غيبت فيه سيرينكس!!

ووقف بان مشدوه اللب، ذاهل الفكر، يحملق في النهر الذي طوى منية القلب، وهوية النفس، ثم انثنى فنزع القصبات النامية، وراح يصنع منها نايا حلو النغم رقيق اللحن، حنون الجرس

ولقيته مرة في روضة مونقة، منضورة منسقة، وكان بان يجلس على رابية بها معشوشبة، عازفاً على يراعه، فطربت لموسيقاه طرباً شديداً؛ ودلفت إليه، فرجوته أن يهب الناي لي، فتبسم قائلاً. (إليك يا بني أكرم القنى وأعز الذكريات. . .)

وشهدت عبرات تنطلق من مقلتيه، حاول أن يخفيها عني. . .

وكان هرمز وهو يبقي هذه الأقصوصة التي اخترعها اختراعاً، يحاول أن يمطها مطا، ويزيد في ثناياها حواشي مملة، ويزخرفها بتعليقات لا غناء فيها. وكان يتثاءب ويتثاءب، وكانت الكلمات تساقط من فمه كأنها مشدودة بسلسلة من حديد، حتى تثاءب آرجس هو الآخر، وغلبه نعاس شديد أغلق عيونه كلها. وابتهج هرمز الخبيث لذلك، وجعل يروح على وجه آرجس، حتى انطلق الشخير من أنفه الكبير تجاوب أصداءه الضفادع. . .!

وهنا. . . امتشق هرمز جرازه المرهف وأهوى به على عنقه الطويل، فانفصل الرأس عن البدن، وغادرهما معفرين بالتراب، وعاد أدراجه إلى الأولمب يحمل إلى والده نبأ المعركة.

ص: 63

وحزنت حيرا على خادمها أمض الحزن وأشده، وذهبت بنفسها فحملت رأسه إلى مخدعها في قصر الأولمب الكبير، وطعقت تسمل العيون عيناً عيناً وتركبها في ريش طاووسها الجميل لتظل إلى الأبد رمز حبها له، ووفائها لذكراه. . . ثم آلت لتسلطن على يو - البقرة المسكينة - ذبابة صفراء من ذباب الأبالسة، تقرصها وتجعل من حياتها نكالاً، حتى ضجت المخلوقة التعسة ورفعت أكف الضراعة تستمطر الرحمة من زيونس. . . كبير الآلهة، ورب الأرباب: (يا الهي العظيم الرحيم، يا أبا الآلهة، وابن الآلهة! أتوسل إليك بأبنائك الكرام الرحماء!

أدركني يا أبا جريوس! اغفر لي زلتي حين أحببت هذا الفتى الجميل وأحبني! إن كنت قد صنعت في ما صنعت انتقاماً، فحسبك ما حل بي من عذاب الهون! لن أزل يا الهي إذا غفرت لي ورفعت عني وزر غضبك! اقبل يا رب الأولمب صلاتي واجعلها شفيعي إليك! أنا. . . يو المسكينة. كنت أعبد ابنتك أرتميس ربة القمر، فكنت أنزوى عن العالم، وألبث وحدي بين يدي قمري الحبيب، أصلى لك ولا بنتك المعبودة، في هدأة الليل، وسكون السحر، فما هو إلا أن قطع عل هذا الفتى صلاتي، وهو من خلقك، وجماله الفتان آية من آياتك، فإذا سحرني وأذهلني عن عبادتي، فإني أستأهل كل هذا الذي أنافيه!. . . . يا إلهي اغفر لي، فقد وسع غفرانك كل شئ. . . .!)

ويستجيب الإله لهذه الصلاة الحارة الخالصة، فينطلق إلى حيرا، حيث يجدها مكبة على رأس آرجس تسمل عيونه، فيواسيها ويسيلها، ثم يرجوها أن ترحم يو، وأن تخفف عنها العذاب، وهو لقاء هذا يعطيها كل المواثيق إلا يصل أسبابه بأسبابها مرة أخرى. فترق حيرا، وتتفجر الرحمة لأول عهدها بها، في قلبها، وترسل من يرفع الذبابة عن البقرة ونأذن لزيوس فيعيدها إلى صورتها الأولى. . الصورة القديمة المحبوبة. . .!

ولكنها تشترط عليه أن يرسل من يذهب بها إلى أقصى أطراف الأرض، حتى تطمئن عليه. . . وعلى قلبه المتصابي!. . . من حبها ويأمر زيوس بعض اتباعه فيحتمل يو إلى. . . . . ضفاف النيل!! وتخرج من الصحراء فيلقاها المصريون، فتبهرهم بجمالها الرائع، وحسنها الوضاء، ومفاتنها البارعة، ثم يجتمعون على عبادتها، ويقيمونها مليكة عليهم،

ص: 64

ويسمونها: (إيزيس)

وتمر الأيام. . .

فيتزوجها كبير آلهة مصر، آزوريس، وتلد له ابنه حوريس!

دريني خشبة

ص: 65

‌البريد الأدبي

ملك الصحافة

توفي أخيراً قطب من أقطاب الصحافة هو أدولف اوكس صاحب جريدة (نيويورك تيمس) هي أعظم الصحف الأمريكية، وكانت حياة أوكس كقصة روائية، فقد بدأ الحياة بائع صحف متجول، ثم غدا بعزمه وذكائه ومثابرته اعظم صحفي في العالم الجديد وصاحب اعظم صحيفة فيه. وقد ولد أوكس في سنسناثي من أعمال أوهيو في سنة 1858؛ وبدأ حياته العملية في نوكسفيل يبيع الصحف ويدرس أعمالاً مطبعية وصحفية صغيرة، واستمر يعمل كصبي بائع في الطريق، وصبي في المطبعة حتى سنة 1877 وفي ذلك العام عمل صفافاً في مطبعة صحفية. ثم سمت به همته بسرعة، فاصدر في العام التالي جريدة اسمها (شاثانوجا تيمس) استمرت ملكه طول حياته، وتقدم أوكس بسرعة في الصحافة وتقدمت جريدته حتى غدت صحيفة إقليمية هامة تتمتع بقسط لا بأس به من النفوذ والتقدير. وفي سنة 1896، أثار أوكس دهشة العالم الصحفي بإقدامه على شراء جريدة (نيويورك تيمس) وكانت الصحيفة الكبرى قد توالت عليها الأزمات والصعاب حتى كادت تتوقف عن الصدور؛ واضطر أصحابها إلى عرضها للبيع، فتقدم أوكس لشرائها، ودفع جزءاً فقط من الثمن. وكانت الدوائر الصحفية تتوقع الفشل لأوكس، لأنه لم يعمل من قبل إلا في صحيفة محلية؛ ولكن أوكس أبدى في إحياء صحيفته الكبرى همة وكفايات مدهشة، فلم يمضي سوى قليل حتى عادت الصحيفة إلى سابق قوتها، واختار أوكس لها اللون المحافظ مع اعتدال في اللهجة، ومع التزام الجد والوقار، والرصانة، ومجانبة الصيغ والحملات المثيرة، وكان شعاره الذي يطبع إلى جانب العنوان في كل عدد (كل الأخبار صالحة للنشر)، وهو شعار مازالت تحمله الصحيفة، حتى اليوم، واستطاع أوكس من خلال أعوام قلائل أن يسدد جميع الثمن وأن يستأثر بامتلاك الصحيفة الكبرى. ومازال أوكس يعمل حتى غدت (النيويورك تيمس) أعظم صحيفة في العالم الجديد، سواء في حجمها، أو تحريرها ومادتها، أو تصويرها وطباعتها، وأصدر أوكس لصحيفته ملحقاً أسبوعياً (ملحق الأحد) غدا أعجوبة في الصحافة العالمية، حيث يصدر مصوراً في 180 صفحة كبيرة، وملحقاً به قسم خاص بالنقد الأدبي، والنيويورك تيمس أيضاً من اقدم الصحف الأمريكية؛

ص: 66

فقد بدأ صدورها سنة 1851 في مدينة نيويورك وكادت اكثر من مرة تختفي من الميدان، ولكن أوكس أسبغ عليها حياة جديدة، وهي الآن من أعظم صحف العالم، ولها اكبر مجموعة من المراسلين الخارجيين في سائر العواصم، وقلما تجاريها اية صحيفة كبرى في أنبائها أو موادها. ومع إن انتشارها لا يعدو نصف مليون نسخة في اليوم، فإنها تتمتع بأكبر نفوذ في عالم السياسة والفكر والمال

العلامة المكتشف سفين هيدين

عاد أخيراً من مجاهل الصين الوسطى والغربية الرحالة المكتشف والعلامة الباحث السويدي سفين هيدين إلى ستوكهلم مسقط رأسه، فاحتفلت به الهيئات العلمية احتفالاً شائقاً، وقدمت إليه الحكومة النمساوية على يد سفيرها في ستوكهلم وسام الشرف العلمي والفني، وهو أرفع وسام تمنحه النمسا الجديدة لرجال العلوم والفنون، ولا تمنح منه إلا لممثلي أربع وعشرين دولة فقط؛ وقد عاد سفين هيدين وهو يتحدث إلى الهيئات العلمية والصحف الكبرى عن رحلاته واكتشافاته الجغرافية والعلمية في المناطق والوهاد السحيقة التي تجول فيها مدى أعوام؛ وأذاع سفين هيدين أيضاً عن حوادث التركستان الصينية، وما وقع في عاصمتها كشغر من الثورات والانقلابات معلومات نفيسة، وقد كان هنالك وقت اضطرام المعارك الأهلية في تلك الأنحاء

وقد ولد سفين هيدين في ستوكهلم سنة 1865، ودرس فيها وفي برلين وأوبسالا، وشغف منذ حداثته بالأسفار، وتتلمذ للرحالة الألماني الشهير البارون فون رختهوهن، وقد بدأ رحلاته مذ كان طالباً بالسفر إلى العراق وفارس في سنة 1885، وفي سنة 1890 أرسلته الحكومة السويدية عضواً في السفارة التي أرسلها الملك أوسكار إلى شاه الفرس، وفي سنة 1891، اخترق خراسان والتركستان حتى كشغر، ويبدأ عمله كمكتشف أسيوي في سنة 1893، حيث بدأ في اختراق آسيا الصغرى من أورنبورج إلى بكين، وقد سافر عن طريق لوبنور وهضاب التبت، وأنفق في رحلته أربعة أعوام واكتشف خلال هذه الفترة آكام مستجاستا الثلجية، والجبال الواقعة حول منابع يرقند داريا، واكتشف أطلال مدينة بوذية قديمة في صحراء ثكلا ماكن، وفي سنة 1859 قام برحلته الأسيوية الثانية، وفيها سار في نهر تاريم حتى بحيرة لوبنور، واكتشف حول البحيرة آثار حضارة صينية قديمة، ثم

ص: 67

اخترق التبت وحاول عبثاً أن يدخل مدينة لاسا، وهي مدينة (اللاما) المقدسة، وفي سنة 1926 قام برحلة ثالثة في آسيا، وقام برحلات أخرى في الهند والهملايا، وغيرها، وله مؤلفات كثيرة شائقة منها: رحلة إلى خرسان وتركستان - خلال آسيا - مخاطرات في التبت - نتائج علمية لرحلة في أواسط آسيا - من القطب إلى القطب - مع الجيوش الألمانية في الغرب - بغداد وبابيليون - التبت الجنوبية - حياتي كمكتشف، وغيرها

الرياضة والثقافة

كان من الآثار الاجتماعية التي أحدثتها الحرب انتشار الروح الرياضي بين الشباب بسرعة مدهشة، وكان الروح قبل الحرب محدود المدى، وكان كثير من الآباء يخشون على أبنائهم من أن يحملهم تيار الرياضة فيهملوا دروسهم ومدارسهم، وكان الاعتقاد الغالب هو أن الشباب الذين يشغفون بالرياضة هم أقل ذكاء واجتهاداً من أقرانهم؛ وفي غداة الحرب تطورت هذه الأفكار القديمة واكتسح الروح الرياضي مجتمع الشباب ذكوراً وإناثاً، وغمر شغف الرياضة فصول المدرسة والجامعة، وذاعت النظريات الرياضية الجديدة عندئذ، فقيل إن الجنس الأبيض مدين بتفوقه إلى الحركة والرياضة، وأنه ينشط متى تحرك؛ وأصفى ما تكون العقول عقب الركض أو الكرة أو الصعود أو السباحة أو غيرها من صنوف الرياضة. ولكن ناحية واحدة لم يوفق دعاة المدرسة الجديدة إلى تحقيقها، هي خلق الأدب الرياضي الثقافة الرياضية، فقط لوحظ إن أولئك الذين يشغفون بالرياضة قلما يقرأون، ولا يقرأون حتى كتب الرياضة ذاتها، فعقولهم وأذهانهم دائماً في معزل عن اجتناء متعة القراءة والرياضة العقلية، ولهذا لم يجد الأدب الرياضي سبيله حتى اليوم إلى دور النشر، وما زالت دور النشر تأباه وتعترض عليه، وتحرص ألا تتورط فيه، وهذه أول ظاهرة سيئة تلازم الحركة الرياضية

بيد أن هنالك ظاهرة أهم واخطر، هي اليوم موضع الجدل في فرنسا، وذلك أن الأساتذة والمفكرين قد اخذوا يتوجسون خفية من عواقب هذا التيار الرياضي الجارف، ويقول كثير منهم اليوم إن الانهماك في الألعاب الرياضية إلى هذه الحدود يخشى أن يسفر عن عواقب سيئة في تكوين النشئ، وأن يخرج للأمة شباباً من الذكور والاناث، يتمتعون بأجسام وهيئات حسنة؛ ولكن بعقول وأذهان ضيقة؛ لا يسهل فهمهم ولا يحتمل التفاهم معهم؛

ص: 68

يضيقون ذرعاً بالإيضاح والتروي؛ ويجنحون إلى الإيجاز والتحكم، وهذا ما يلاحظ اليوم على معظم الشباب الرياضي؛ وفي رأي هؤلاء إن الشباب الرياضي إنما هو عنصر منحط من الوجهة العقلية والثقافية؛ وإذا كانت الرياضة تبعث النشاط إلى العقل؛ فإن الانهماك فيها من جهة أخرى يحول دون ثقافة الذهن ومرونته؛ ولاسيما في هذا العصر الذي ضاقت فيه الأوقات؛ وحملت السرعة كل مجتمع؛ ولم تبقى أمام النشئ فرصة للارتواء من تلك المناهل الثقافية التي أتيحت لآبائهم. فهل تكون هذه الدعوة بدء انحلال في الحمى الرياضية التي تغمر المجتمع؟ هذا ما سيبدو لنا في المستقبل القريب

هبة فنية

من أنباء فينا إن أكاديمية الفنون الحية قد تلقت وصية من سيدة كبيرة، توصي فيها إليها بمجموعتها الفنية النفيسة. والسيدة المذكورة هي زوج المستشار السابق البرخت شميت، وكانت من أكابر الهواة، وقد جمعت في حياتها كثيراً من التحف الفنية النادرة، وفيها صورة أصلية من صنع تنتيرتو وهو من أعظم مصوري إيطاليا في القرن السادس عشر، ومنها آنية بديعة من المرمر تقدر بمئات الألوف، وتحف ثمينة أخرى.

الشاعر الفرنسي لوي مارساللو

لم يكن لوي مارساللو الشاعر الفرنسي الذي توفي أخيراً، شاعراً كبيراً فقط، ولكنه كان أيضاً صحفياً ذا أسلوب ساحر، وكان مؤلفاً مسرحياً تنال قطعه المسرحية في الكوميدي فرانسيز اعظم تقدير واستحسان. بيدا أن مارساللو اشتهر كشاعر قبل كل شيء. وقد ظهر له أول ديوان شعري، سنة 1886 وهو في الثانية والعشرين فقط بعنوان (القبلات الضائعة)؛ وهو بريتاني الأصل ولد في بريست سنة 1864، وقدم إلى باريس فتى، وانخرط في سلك جماعة أدبية كان فيها شارل كروس وماري كرسنسكا وجورج لوران؛ ولم يبقى منها حياً إلى اليوم سوى جان اجالبر. وقد ظهر في ديوانه الأول (القبلات الضائعة) مبلغ تأثره بمناظر وطنه الأصلي، وتقاليده وكبريائه الطبيعية. ثم كتب مارساللو بعد ذلك للمسرح فصادف فيه نجاحاً عظيماً. ومن قطعه المشهورة، (الملك المغرم)(شريط بسيشيه) وقد مثلتا مع غيرهما من قطعه في الكوميدي فرانسيز، و (قلبه الصغير) و

ص: 69

(ملاهي باريس) التي كتبها مع جورج كورتلين أمير الفكاهة، و (شخص يعكر الحفلة) وغيرها وقد مثلت في مسارح باريس الكبرى، وكان مارساللو صحفياً ونقاداً بارعاً يعمل في بعض الصحف الباريسية، ولكن النزعة الشعرية كانت تغلب عليه دائماً.

معهد للدراسات السياسية

أنشئ في باريس معهد للدراسات السياسية الخارجية، واشترك في إنشائه جامعة باريس ومدرسة العلوم السياسية، ومكتبة الوثائق الدولية المعاصرة، وجماعة الدراسات الدبلوماسية، وقد زود هذا المعهد بمكتبة سياسية عظيمة تشمل نحو مائة وأربعين ألف مجلد في مختلف المسائل والشؤون الدبلوماسية، والوثائق والمعاهدات والمذكرات السياسية، وسينقسم المعهد إلى أقسام يلتحق بها الأخصائيون في كل ناحية من النواحي التي يعني بها سواءً كانوا من أساتذة الجامعات ام رجال السياسة، ام رجال الأعمال، أو الصحفيين السياسيين. واهم أعماله الثقافية تنحصر في تنظيم محاضرات ودراسات سياسية عالية: وقد افتتح المعهد دورته الحالية بإلقاء محاضرة موضوعها (نهوض العالم العربي وأثره في أفريقية الشمالية) ألقاها الكابتن مونتاني مدير المعهد الفرنسي بدمشق، تحت رياسة الأستاذ شارليتي مدير جامعة باريس، واشترك في مناقشة الموضوع جمع من أعلام الأساتذة والساسة

والظاهر إن غاية هذا المعهد ترمي قبل كل شيء إلى خدمة السياسة الفرنسية وتوجيهها إلى ما يحقق مصالح فرنسا الخارجية والاستعمارية، وذلك بدرسها على ضوء التطورات السياسية الدولية

ص: 70

‌الكتب

المختار من شعر بشار

بقلم محمد فهمي عبد اللطيف

بشار بن برد شاعر مطبوع خلاق، نقل الشعر العربي من جفوة البداوة إلى رقة الحضارة، فنهج به في الأداء منهجاً مطرد القياس، سهل المخرج، وحمله من المعاني كل بديع مخترع، فسمي لذلك أبا المحدثين وشيخهم. ولقد كان فوق ذلك ثرّ القريحة، فياض الشاعرية، واسع المجال، حدث عن نفسه قال: لي اثنا عشر ألف بيت عين، فقيل له هذا ما لم يكن يدعيه أحد سواك!! فقال: لي اثنا عشر ألف قصيدة لعنها الله ولعن قائلها إن لم يكن في كل واحدة منها بيت فرد

ولكن هذه الثروة الشعرية الضخمة ضاعت في أجواء العصور الخالية، وذهبت بين سمع الأرض وبصرها، ولم يصلنا منها إلا نتف قصيرة جاءت في الأغاني وفي غيره من كتب الأدب والتراجم. ولقد اخبر العلامة المرحوم أحمد تيمور باشا منذ سنين بأن نسخة خطية من ديوان بشار موجودة في تونس لدى الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب عضو المجمع العلمي بدمشق وانه شارع في طبعه واخراجه، فتلهفت نفوس الأدباء على تحقيق هذه الأمنية العزيزة، وكتب بعضهم في مجلة المجمع العلمي يستحث همة الأستاذ حسن حسني على الإنجاز، وتقدم السيد بدر الدين العلوي بكلمة قال فيها أنه وجد نسخة عنوانها: المختار من شعر بشار في حيدر آباد بالهند، وهي من اختيار الخالديين أبي بكر وأبي سعيد شاعري سيف الدولة وخازني دار كتبه، وعليها شرح من عمل أبي الطاهر إسماعيل بن احمد بن زيادة من أدباء القرن الرابع، ثم ذكر أنه يستعد لطبع هذا المختار وإخراجه في اقرب نهزة بمساعدة الأستاذ عبد العزيز الميمني المدرس بجامعة عليكرة، ثم ناشد الأستاذ حسني عبد الوهاب أن يعينه وان يخبره عن النسخة الموجودة لديه فلعلها تكون نسخة أخرى من المختار، ولكن الأستاذ حسني ضجع في الأمر ولم يسعف، وبقى الأستاذ بدر الدين عند وعده ومازال حتى أدى الأمانة ووفي دين العربية فدفع بالمختار منذ حين إلى (لجنة التأليف والترجمة والنشر) فجلته للناس في ثوب قشيب، صقيل الورق، جيد الطبع، دقيق التصحيح، مستوفي البيانات والتعاليق، مذيلاً بالفهارس الكاملة، والفوائد المتممة. .

ص: 71

ولقد قرأت الكتاب فرأيته لا يشتمل على مقدار كبير من شعر بشار، ولكن اكثر ما به من القصائد والمقطوعات لا يوجد في غيره من كتب الأدب المعروفة. ويبدو لي أن الكتاب لا يشتمل على كل ما اختاره الخالديان بدليل قول الشارح:(ورأيت بعد نظري في اختيار الخالديين وما اخترته منه. . ص8)، وقوله في النهاية (انتهى اختيارنا فيما وجدناه من المختار من شعر بشار. .)، فكأنه قد اختار بعض ما اختاره الخالديان، بل إن كلمة (وجدناه) تدل على أن ما اختاره الخالديان لم يقع جميعه بالشارح

أما الكتاب من حيث هو فروض أدب حافل، يأتي عليه القارئ بلذة وشغف؟ فقد نهج الشارح في شرحه منهج الاستطراد، يذكر أبيات بشار ثم يشرحها شرحاً لغوياً وافياً إن كان بها من الألفاظ ما يستغلق على القارئ، ثم يذكر ما لها من الأشباه والنظائر لفظاً ومعنى في شعر المتقدمين الذين اخذ منهم بشار، أو المتأخرين الذين اخذوا عن بشار؛ والرجل يطيل كثيراً في سرد الأشباه والنظائر كأنه يباهي بكثرة محفوظة، وقد يذكر ما يتصل بذلك من أخبار الشعراء ونوادرهم مما جعل الكتاب حافلاً ممتعاً، تظن وأنت تقرأ فيه انك تقرأ في (البيان والتبيين) أو في (زهر الآداب) أو في غير ذلك من الكتب التي تشتمل على أمشاج من الأدب، وصنوف من المعارف. .

وقد يكون من الإنصاف أن نذكر بالثناء المجهود الكبير الذي بذله الأديب الناشر في إخراج الكتاب وضبطه وتصحيحه وتعليق الفوائد عليه وتخريج أبياته، كما لا يفوتنا أن ننبه إلى بعض هفوات قد ندت عن خاطره اليقظ، فمن ذلك أنه نظر في قول الشارح:(ولكنه لتراخي الحالب وتضجيعه ص112) فلم يطمئن لكلمة تضجيعه وقال لعلها تضييعه، وكلمة التضجيع اصح وأدق وهي التي أرادها الشارح، فإنه يقال ضجع فلان في الأمر إذا تراخى فيه وأهمله

ومن ذلك أنه قيد كلمة (الحبوة) بالضم في قول الشارح (فما حل حبوته ولا كلمهم حتى قضى سبحته ص193) وإنما هي بالكسر، أما بالضم فمعناها العطاء ولا يصح هذا المعنى في هذا التركيب

ومن ذلك أنه علق على قول عدي بن الرقاع (ص216) فكأنها بين النساء أعارها عينيه أحور من جآذر (عاسم) فقال يروي عاسم وجاسم، وذكر أن عاسماً اسم موضع، قلنا وقد

ص: 72

جاءت الكلمة في الشعر والشعراء بالغين المعجمة، وحقيقتها جاسم بالجيم اسم قرية بالشام قريبة من دمشق وقريبة من موطن الشاعر وقد وردت في قول حسان:

فالمرج مرج الصفرين (فجاسم) فديار سلمى درساً لم تحلل

ومن ذلك أنه أورد قول ابن الرومي (ص235) وما تعتريها آفة بشرية من النوم إلا (إنه تتحير) فأثبت (أنه) بالهاء كما في الأصل، ورأى أن كلمة تتحير تصحيف تتخثر، وهذا تخريج يفسد معنى البيت ويتجه به إلى الهجاء وما أراد ابن الرومي إلا وصف محبوبته بالحسن، وإنما صحة القول (إلا أنه تتحير)

ومن ذلك أنه حسب كلمة الحضر محرفة عن الخفر في قول الشارح: (فهذه القبنة من أهل الكفايا والترفة والحضر ص257)، وعندنا أن كلمة الحضر هي المتعينة في هذا المقام فقد عقب عليها الشارح بما يعينها فقال (وليست ممن يمتهن ويبتذل في رعي الغنم والإبل أي إنها من أهل الحضارة لا من أهل البداوة) وهذا ما يريده بشار في البيت الذي يتولى الشارح تفسيره بهذه الكلمات

على أن هذه هنات طفيفة خفيفة لا تغض من قيمة كتاب قل أن تخرج المطابع مثله دقة في التصحيح والتنقيح، فالشكر الجزيل للأستاذ الناشر على جهده واهتمامه، وللجنة التأليف والترجمة والنشر على عنايتها بإخراج هذا الكتاب الذي لا يستغني عنه أديب. . .

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 73