الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 950
- بتاريخ: 17 - 09 - 1951
بين الجد والهزل!
للدكتور مختار الوكيل
حينما كنت في فرنسا مطلع هذا الصيف، دار حديث ودي بيني وبين رجل من أوسع الناس ثقافة - ولم يكن إنجليزيا ولم يكن فرنسياُ - ولكنه من أولئك الذين يعطفون على مصر عطفاُ حقيقياُ لطول أقامته في ربوعها، ويرجوا مخلصاُ لها النجاح في كفاحها ضد الاستعمار والطغيان. ذكر لي هذا الرجل الكبير خلال حديثه إن مصر - فيما يبدوا للعالم الخارجي على الأقل - غير جادة - مع الآسف - في طلب الاستقلال الكامل وتحقيق الجلاء والوحدة مع السودان
وضرب لي مثلاُ، أو أمثلة على عدم هذه (الجدية)، بما هو مشاهد وملحوظ من تعاون العمال المصريين مع القوات البريطانية في منطقة القنال تعاوناُ يذيع البريطانيون عنه في آفاق الدنيا انه تعاون اخوي قلبي صادق، وإقبال أولئك الشبان المصريين على العمل مع الإنجليز المحتلين إقبالاُ منقطع النظير. ونوه محدثاُ بما هو ملموس من تهافت التجار المصريين على إرسال سلعهم - وفي مقدمتها المواد الغذائية التي يحتاج إليها الأهلون احتياجاُ شديداُ - إلى منطقة القنال، لأن ربحهم من ذلك المورد التجاري عظيم. وفضلاُ عن ذلك فان الإنجليز المحتلين يعتدون في كل يوم تقريباُ على المواطنين المصريين من عمال معسكراتهم، ومن أهل المنطقة المرزوءة بهم، بل ومن أهل القاهرة والإسكندرية والعواصم الأخرى، حينما تطأها أقدام جنود الاحتلال في نزهة أو رياضة، ومع ذلك فلا تحرك مصر ساكناُ، وإن فعلت ففي نغمة الصديق العاتب والمحب المبقي على حبيبه المتجنى!
واستطرد محدثي المحيط بأحوالنا جميعاُ يقول: لقد شبعت حكوماتكم من مفاوضة الإنجليز في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية، وذهبت إحداها إلى مجلس الأمن بعد انقطاع المفاوضة وعادت بقرار من ذلك المجلس باستئناف المفاوضة فتنفس ساستكم السعداء وكأني بهم قد فرحوا بهذا الحل الموفق السعيد!
وأطرق محدثاُ قليلاُ ثم استأنف حديثه قائلاُ.
لو إنكم فعلتم يا أمة الفراعين والعرب، بعض ما فعله اليهود الذين تسمونهم شذاذ الآفاق وتطلقون على دولتهم لقب (المزعومة)، عندما جلدوا الإنجليز جهاراُ ونهاراُ وحبسوهم في
فلسطين حتى اقضوا مضاجعهم وجعلوا مقامهم في الأرض كريهاُ بغيضاُ ممقوتاُ. . . أو لو إنكم تصرفتم مثل تصرف الثائرين في ايرلندا، على ذلك النحو الفدائي المتطرف، المنظم غاية التنظيم، أو لو إنكم، حتى، جربتم خطة غاندي في (المقاومة السلبية) والمقاطعة المنتظمة المحكمة، لكل ما هو صناعة بريطانية، إذن لوصلتم إلى أهدافكم المحبوبة بسهولة ويسر
وطال تفكيري في قول ذلك الناصح الأوربي الصديق، حتى رجعت إلى الوطن أخيراُ ورأيت كيف لا نزال نتردد في إلغاء معاهدة 1936 حتى بعد ذلك التعنت الصارخ والجهر الصريح الواضح من جانب المسئولين البريطانيين بعدم الوفاء بحقوقنا الأساسية: في الجلاء والوحدة. ورأيت كيف يتقرب بعض الكبراء في أحاديثهم الصحفية إلى الإنجليز ويعرضون خدماتهم عند الاقتضاء متحدين بذلك إجماع البلاد حكومة وشعبا، ومعلنين عن نفسية منهارة رخيصة، وتفكير معاد للوطنية مسموم بغيض. . . ثم رأيت كيف يتهافت الشباب المصري على العمل مع القوات البريطانية في منطقة القنال، وكيف يؤثر التجار المصريون بيع الحاصلات المصرية الصميمة إلى زبانية الاحتلال، ويحرمون منها مواطنيهم، وذلك لقاء ربح هين يسير!
ورأيت بعد ذلك كله كيف نواجه الموقف الضنك العصيب، بالخطب المجلجلة الطنانة الخاوية، وبالتهيج الشعبي الرخيص الذي ملت منه البلاد وسئمته، بالهتاف المدوي تعلو به الحناجر، وبالصفيق الموسيقي الرائع، وبحمل القادة المتزعمين والمتطلعين إلى التزعم على الأعناق، وبالتفكير في الاتجاه - هذه المرة وبعد كل تجاربنا المريرة المحزنة - إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدلاً من مجلس الأمن نفسه، وبإعلان الشباب المصري المرجو في يومالصدام الحقيقي والعمل الصحيح بدء الصيام حتى تلغى المعاهدة، وهذا - مع عظم إجلالي واحترامي للفكرة السامية في حد ذاتها - أسلوب في الكفاح عفي عليه الزمان، واصبح لا يقدم ولا يؤخر ولن يزيد المعتدين إلا غلوا وإغراقا في العدوان. وهبنا جمعياً صمنا عن الطعام حتى يخرج المحتلون من الديار فهل ثمة عاقل ينتظر من الإنجليز العطف علينا والإبقاء على حياتنا بتقرير الجلاء حينذاك؟ احسب أن فرحة الإنجليز سوف يكون عظيمة إذا فني الشعب المصري كله عن آخره واستقر لهم الأمر في هذه البلاد
استقرارا أبديا! إلا إن هذا الأسلوب أسلوب رجعي لا يليق بالروح الإيجابية التي تشمل الكون كله في هذه الأيام
فهلا فكرنا في الاقتداء بمن كنا لهم في الماضي القريب خير قدوة! أجل، هلا اقتدينا حكومة وشعبا بما صنعته ايرلندا والهند ة إيران، أو حتى إسرائيل التي ظهرت في جنوبنا شوكة مدمية، لا تكف عن وخزنا وإيلامنا لحظة من ليل أو نهار؟!
هلا عمدنا إلى بعض الجد فيحترمنا العالم في الخارج، فالعالم في الخارج لا يحترم سوى الجادين، ويسقط من حسابه المتهافتين والهازلين
دكتور مختار الوكيل
لطافة الحس
للكاتبة الفاضلة (الزهرة)
سألتها وقد جاءت من الدنيا الجديدة في سباحتها الصحفية الأولى، إلى أرض الفراعنة الغر الميامين عن أول ما لفت نظرها؟ فقالت في صراحة القلب وذكاءه، يحن يخاطب قلبا يستمد حياته من دقة الحس ورقة الشعور: شيئان استرعيا اهتمامي يا صديقتي فور أن ضمني واديكم الخصب: الشيخوخة التي تعاجل الشباب عندكم عامة؟ والفتيات خاصة؟، ثم الافتقار إلى شي من لطافة الحس، والدقة في الرقة رغم الحلاوة التي أروى النيل بها شمائلكم، والسماحة التي أدرها لغرائزكم والصفاء الذي أجراه في طبعكم، واللطف الذي مزج به أرواحكم، والاعتدال الذي سوغه لأمزجتكم
فابتسمت في حسرة يخالجها الأسف، ولا يحدوها إلا امتعاض من أن تتلقى النبأ الصحيح على حقه، وتستمع للمقال الصريح على صدقه. . ورويت قليلا وكررت بذاكرتي إلى القرون التي خلت، ولا أدي لماذا رفعت وجهي إلى صاحبي وعاجلتها بذكر نتف من عبقرية (أحمد بن أبي دؤاد) العربي الأيادي، وقلت لها أن أبا العيناء (وهو أبو عبد الله محمد بن القاسم) الضرير، صفية وخدينة (وكان من ظرفاء العالم) كثير ما كان يقول عنه:(ما خرجت من عنده يوما قط فقال يا غلام: خذ بيده، بل قال: يا غلام اخرج معه! وكنت انتقد هذه الكلمة عليه، فلا يخل بها ولا اسمعها من غيره). قات تأميلها كلمة ما يعرف في ألفاظ الناس أرق منها دلالة على يقظة القلب ولطافة الحس. لعل غيره من الناس لو أراد أن يوجه أمثال أبي العيناء إلى طريق الخروج لناله مس من الأذى أليم ورهق من الضرر جسيم)
وتمر العوام، وأذكر قريبي الذي جاءني مساء اليوم وكان مضطربا متألما، ولهذا القريب مسطحات أنيقة من المساكن والعمائر التي أقامها للإيجار، وأنشأ لمؤاجريه في مؤخرتها أفنية فسيحة جميلة يستخدمها لمنافع الخاصة، وكان أحدهما مرجع ما لمحته عليه من الانزعاج والتأثر، قبل أن وافاني بأربع ساعات. وتفصيل الأمر أن كان قد وجه عزيمته على قضاء ساعتين في تنظيم مجموعة من الطرف الفنية التي يعتز بها. وما إن شرع في استعراضها، حتى دق جرس التليفون، وإذا بصوت قاصف يناديه من الناحية الأخرى
قائل: (إني على أثر قيامي بتعليق قطعة من الملابس على حبل الغسيل الذي مددته لنا في فنائك المعجب. . قد. أف. . فأنا الآن أوشك أن أقل من الغضب، وأتمزع من الحنق عليك وأريد أن أندمك على تصميماتك المعمارية المؤذية، وأطالبك بالعطل والأضرار -)
ولم يستطع الرجل الدهش أن يهتدي إلى الداعي الذي يصل بين غسيل السيدة الشاكية وبين ثورتها الحاضرة عليه، ولكنها تابعت كلامها قائلة:(أحسست في هذا الصباح تعبا بعد الحفلة التي أقمتها في بيتي عشية أمس، فرأيت أن أخرج إلى فنائك العجيب وأقوم بغسل قطع من الثياب، وخرجت في ردائي الفضفاض الحريري، وخفي الرقيقين المصنوعين من فاخر الديباج، وإني لأحس لآن الرطوبة تقرس رجلي، وأتأفف من أوضارها التي أصابت ذيل ردائي الثمين الجديد، وكل هذه المصائب جرها على هذا الفناء الوبيل الذي أقمته لساكني عمائرك. . وعليك أن تسارع اليوم إلى اتخاذ ما يلزم لإصلاح الشأن وإلا -.)
ثم صفعت بعنف سماعة التلفون. وتنهد قريبي بعد أن فرغ من سرد قصته وقال: (لقد أصبح الناس في هذا الزمن زهقين رهقين، سريعين إلى الحد وإيذاء الشعور بالمسافة والوعيد، ولم يخطر لهم ببال أن يقدروا ما يبذله لهم الآخرون من العناية والرعاية). قلت: (ومع ذلك فلا تزال دنيانا العتيقة، تحتفظ ببقية صالحة من ذوي العواطف الرقيقة ولأخلاق الراقية ولذوق السليم والصدر الرحيب والذهن المرهف. فقد تلقيت في هذا الصباح خطابا من صديقة عزيزة، تقيم في بعض بلاد الأدغال الذاهبة في أحضان العزلة والانفراد. وإني لأجد في خطابها مصاديق جلية، تدل على أن الفؤاد الشهم الحي اليقظ، لايزال ينبض في جوانح بني الإنسان. فصاحبة هذا الخطب سيدة شابة حسناء، نزحت مع زوجها وصغيرها إلى تلك الربوع البدائية البكر، فاستأمنت إلى سكانها العتاة المتوعرين المحربين وخبرت أهواءهم، وسبرت احوالهم وعاشت معهم، وتعاونت مع زوجها الطبيب (البيكترليوجي) على إنشاء مستشفى صغير لهم وزارهما منذ شهور رحالة عالمي، وقال لصديقتي:(إنك في حاجة إلى بقرة حلوب هنا). وبعد أن عاد إلى موطنه بعث إليهما حوالة مالية قيمة لشراء البقر الحلوب، ولاقتناء ثور أصيل. وختمت الصديقة خطابها بقول أن هذا الرحالة العظيم ممن يسرون إلى صدق العهد في ضياء الرشد. فقد تعهد كل حاجة من حاجتنا ببصيرة نافذة وتفكر دقيق وبسط علينا جناح حدبة)
هذا وقد أتيح لي التشرف بلقاء ذلك الرحال الخير في أوائل شتاء عامنا الحاضر، وإذا كنت أتحدث إليه، تلفت من فمه حكمة عالمية، هذا نصها:
(ليكن لنا إيمان وثيق بالله، ولنذكر أننا أفاد أسرة كبيرة واحدة، فلننظر دائماً إلى السماء) إن هذا الرجل يرفع بصره إلى العلاء، ويجتلي صفحة السماء على الولاء، وينظر بمجامع عينة إلى نقطة الدائرة حيث ينتهي كل موجود، وهو لذلك بمرأى دائم من الله جل جلاله، وإنه ليلقاه هناك ويعاينه وهو لذلك بمرأى دائم من الله جل جلاله، وإنه ليلقاه هناك ويعاينه وهو تعالى بالمكان الذي لا تراه الطوارف. يراه لأنه يرفع إليه بصره ويصوبه بعيدا عن ذاته فلا يراها. ولا عجب أن إنساناً ما لن يستطيع أن يرمق ببصره اتجاهين مضادين في وقت واحد. . أمفهومه فكرتي؟ أقصد أن أقول إننا بمقدار تنحينا عن ذواتنا نستطيع أن نجاور الله عز وجل ونقوي على الاتجاه نحوه والتوجه إليه بالبصر والبصيرة ونكون بمنتزح عن الأثرة وعبادة اللذات، ونتسامى إلى ذروة الكمال الأخلاقي الممكن، ونصل إلى الله وليس وراء الله مرسى ولا مرقى. ومعلوم أن النظرة المرتقية إلى الفوق الأعلى وهي التي تجعل الناس ذوي نفوس حساسة، وبصيرة نافذة، ينظر إلى حاجات الغير من وراء ستر رقيق، وتستنيطون خلجات القلوب، كما يستخرج الكشاف الدؤوب ودائع الغيوب، تسافر صلاتهم وهم دانون لم يبرحوا. ويفاجئون بالنوال الواسع والغوث السابغ، ويعفون بالنجدة على منية المتمني وهنا أسأل لماذا لا نرتفع بأفكارنا إلى الله، ولم لا نروض ذواتنا على ذلك منذ الساعة؟ إننا إن فعلنا ندرع بحياتنا اغتباطنا؟ ونستأنف لمزاولتها نشاطا عجيبا مبدعا، ونجعل وجودها ألطف من نسيم الشمال على أديم الظلال.
الزهرة
الولايات المتحدة الأمريكية
سياستنا الخارجية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
- 2 -
هذا هو عنوان رسالة وجهها الرئيس ترومان إلى الشعب الأمريكي محاولاُ أن يشرح سياسة الولايات المتحدة الخارجية والأسس التي بنيت عليها
ومن الخير لنا نحن الشرقيين أن نعرف هذه السياسة وان نحاول الوقوف على كنهها. ذلك أن العالم الآن اصبح وحدة متماسكة الأجزاء ولن تستطيع أمة أن تعيش بمعزل عن العالم. كذلك أرى من واجبنا نحن الشرقيين أن نقف العالم على حقيقة آمالنا وأمانينا، وأمريكا أمة لها تأثير كبير في السياسة الدولية وهي ما تزال إلى الآن انظف الأمم التي تحرك العالم، فواجب علينا أن نناقش سياستها الخارجية وان نواجهها بحقيقة آمالنا وأمانينا وهي مطالب عادلة: وإننا نريد أن نعيش أحراراُ في بلادنا لانبغى إثماُ ولا عدوانا، ولكننا لن نتوانى عن الوقوف في وجه من يهدد أمنا وسلامنا وحريتنا واستقلالنا
ولست ازعم إنني سأنقل إلى القارئ ترجمة كاملة لهذه الرسالة القيمة، ولكني سأحاول فقط تبيان الخطوط الرئيسية التي تهدف إليها السياسة الخارجية الأمريكية
أسسها:
يقول الرئيس ترومان في رسالته (لم يعد هناك فارق حقيقي بين شؤوننا الداخلية والخارجية، فإن كل شئ نعمله: من جباية الضرائب وإنفاقها، والطريقة التي نفض بها الخلافات الداخلية والخارجية، وما تكتبه جرائدنا، وما تذيعه محطات إذاعتنا، كل هذه لا تؤثر في سلامتنا الداخلية فقط، ولكنها ذات تأثير كبير خارج الولايات المتحدة. ومن هذه الأمور جميعاُ تتكون الشخصية الأمريكية والخلق الأمريكي، وعليها تتوقف كرامة الولايات المتحدة وشرفها، ومنها جميعاُ تنشأ سياستنا الخارجية إن السياسة ما هي إلا تعبير إرادة الأمة ورغبات الشعب، أو بعبارة أخرى أن سياستنا توضح حقيقة أنفسنا وحقيقة احتياجاتنا)
وقد تغيرت سياسة الولايات المتحدة الخارجية منذ قيامها سنة1776 ولكن التراث الأمريكي
ظل قائماُ طوال هذه الحقبة من التاريخ
نحن أمة مستقلة ونريد الاحتفاظ باستقلالنا
نحن قوم نقدس الحرية الفردية ونريد أن نحتفظ بها
نحن شعب مسالم ونريد أن نتخلص من الحروب ومن التهديد بها
نحن قوم مستوى معيشتهم عالية ونريد زيادة رفاهية شعبنا
نحن شعب صديق وليس لنا أعداء تقليديون
هذه أمور نتفق عليها جميعاُ، ومهمة الحكومة القيام بتحقيق هذه الأهداف. ولكن طريق تحقيق ذلك لم يكن سهلاُ ميسراُ في كثير من الحالات، فقد واجهت الولايات المتحدة كثيراُ من الصعوبات الداخلية والخارجية: داخلياُ لأن بعض الأمريكان لم يؤمنوا بالديمقراطية التي تؤمن بها أغلبية الشعب الأمريكي؛ وخارجياُ لأن بعض الأمم تحاول أن تقيم سيادتها العالمية وسيطرتها التجارية على الأسواق العالمية بطرق الحرب
وللقضاء على هذه العوامل أمريكا إلى امتشاق الحسام ثلاث مرات في القرن العشرين لإعادة السلام العالمي، كما أن أمريكا قد قامت ببعض المشروعات السلمية مثل إنشاء هيئة الأمم المتحدة ومشروع مارشال وبرنامج النقطة الرابعة، وذلك بقصد حفظ السلام العالمي وبقصد القضاء على الصعوبات التي تهدده
ماهيتها:
إن المصالح لرئيسية لأمريكا لا تتغير ولكن السياسة التي تكفل تحقيق هذه المصالح قد تتغير من عام لآخر
في1933 كان في أمريكا اثنا عشر مليون من المتعطلين فكان هم الأمريكان القضاء على هذه البطالة وإصلاح الاقتصاد الأمريكي
في 1945 كان اثنا عشر مليونا من الأمريكان يقاتلون في جبهات مختلفة لأن دول المحور كانت تهدد سلام العالم فوجب القضاء عليها وإعادة السلام إلى العالم
في 1950 واجهت أمريكا مشكلة أخرى. لقد حاولت روسيا نشر مبادئها بالتهديد وبالقوة، فمنذ 1945 ضمت روسيا سبع مليون كيلو متر مربع ونصف، وأكثر من خمسمائة مليون نسمة تحت سيادتها، وحاولت أن تبصط سلطانها على آسيا وبدأ صراع بين الدولتين.
وعمدت أمريكا إلى مقاومة روسيا فحاولت إنشاء (مراكز قوة) لتواجه الخطر الروسي وعمدت إلى تحسين حالة غرب أوربا كما ينجلي في مشروع التعمير الأوربي وبرنامج المساعدة الحربية
وقد عقد مؤتمر صحفي في فبراير 1950 وتحدث وزير الخارجية الأمريكية إلى الصحفيين قائلا (يجب إن نذكر أن الطريق إلى السلام شاق وطويل، ولكن يجب ألا نتردد في العمل للوصول إلى تحقيق هذا الهدف ويجب ألا نيأس من الوصول إليه)
وقد قضت الحرب العالمية الثانية على سياسة العزلة الأمريكية قضاءاً نهائياُ لأن أمريكا لن تستطيع العيش بمعزل عن العالم.
إن فيضاناُ في الصين أو مجاعة في الهند أو اغتيالا في البوسنة قد يؤدي إلى اضطراب عالمي تتأثر به أمريكا حتماُ ومن هنا جاء تفكير الأمريكان في إنشاء هيئة عالمية يستطيع الناس أن يعيشوا في كنفها في أمن وسلام يظلهم القانون وتحميهم راية العدالة
ما معنى إنشاء هيئة عالمية؟
معناها أولاُ أن تتعاون الدول جميعاُ في حل مشاكلها وفي الدفاع عن حريتها واستقلالها وكان للولايات المتحدة اليد الأولى في إنشاء هيئة الأمم المتحدة
ومعناه ثانياً إصلاح ما أفسدته الحرب، وقد كان ذلك هدف مشروع مارشال وغيره من مشروعات التعمير
ومعناه ثالثاُ إعادة الأمم الخارجية على القانون إلى حظيرة القانون، ومن هنا احتلت أمريكا ألمانيا واليابان وعمدت إلى إدخالها في دائرة الأمم الديمقراطية.
ومعناه رابعاُ مساعدة الأمم الأقل تقدماُ، ومعاونتها على النهوض، وتحسين مستوى معيشتها، وهذا هو هدف برنامج النقطة الرابعة ومعناه خامساُ إقامة نظام تجاري بحيث تستطيع الدول المشتركة في الهيئة أن تساهم في حياة العالم الاقتصادية مساهمة مفيدة.
هذا هو مشروع الهيئة العالمية ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بمدى نجاحه، فربما يؤدي هذا إلى إنشاء هيئة عالمية للأشراف على السلاح، أو إلى إقامة حكومة عالمية. ومهما يكن الأمر فإن على الأمريكان أن يقفوا كثيراُ من نشاطهم ومواردهم على دفاع عن حرية العالم.
وينتهي الكتاب أو الرسالة بما يأتي: إن الأمة الأمريكية بدأت حياتها بإعلان استقلالها،
وجاء في هذا الإعلان: إن الناس خلقوا أحرارا متساوين، وأن خالقهم قد وهبهم حقوقنا لا يمكن تحويلها أو النزول عنها، وهي الحياة والحرية والعمل على تحقيق السعادة. ولتحقيق هذه الأهداف أقيمت الحكومات وهي تستند في قيامها إلى موافقة ورضى المحكومين.
وأن سياسة الولايات المتحدة الخارجية اليوم إنما هي إعلان وإقامة التعاون بين الأمم والشعوب على أساس احترام حرياتها. إننا نعرف كما أنبأنا الرئيس ولسن منذ أربعة وثلاثين عاماُ (إننا نساهم سواء أردنا أو لم نرد في حياة العالم. إن مصالح الأمم هي مصالحنا أيضاُ نحن شركاء الآخرين وما يؤثر على سكان أوربا أو آسيا يؤثر علينا حتماُ)
أيها الأمريكان:
إن كنتم تؤمنون بهيئة الأمم المتحدة وبمجلس الأمن فقد كفرنا بهما معاٌ كما كفرنا بعصبة الأمم من قبل. لماذا؟ لأن هذه الهيئات لا تؤدي الغرض المقصود منها. إنها تخدم مصالح الدول الكبرى فقط. وإلا فخبرونا ماذا فعلت هيئة الأمم في قضية فلسطين وفي مشروع التقسيم وفي كارثة اللاجئين، وفي مشكلة مصر والسودان والجلاء؟
إن الألفاظ البراقة والكلمات اللامعة لا تقنع صاحب الحق المظلوم ولا ترضيه، وإن هذا السراب الخادع لن يسكته
أيها الأمريكان
لقد دخلتم أخيرا في شؤون الشرق الأوسط فاحذروا أن تلوثكم السياسة البريطانية. واعلموا أن أمم الشرق تطالب بحقوقها المشروعة في الحرية والاستقلال وفي استغلال موارد بلادها، فإن عاونتموها صادقين كان لكم منا شكر عظيم
أما ان وقفتم في وجوهنا فاعلموا أن دولة الباطل ساعة وأن دولة الحق إلى قيام الساعة، أن صاحب الحق لابد أن يصل إليه مهما طال به الزمن وشق عليه الجهاد
أبو الفتوح عطيفة
الوجودية
(فقل للذين يرفعونها فوق طاقتها دون علم، ما ضر لو صبرتم
حتى تدركوا ما تكتبون وتفهموا ما تقولون!. .)
للأستاذ شاكر السكري
نشرت مجلة الرسالة الغراء بعددها 942و943 كلمة للأستاذ علي متولي صلاح أهداها إلى صديقه في الوجودية (الدكتور محمد القصاص) الذي قال عنه في كلمته الأخيرة بأنه (المبشر بالوجودية في مصر). وقبل أن أناقش الأستاذ متولي أود أن ألفت نظره إلى كلمتي (فلسفة الوجودية) المنشورة في العدد 910 لسنة 1950 من الرسالة الغراء، ليقدر بعدئذ قيمة الذين وضعوا المذهب الوجودي ويضعونه الآن على مائدة التشريح ليخرجوا منه تلك العلل الدفينة والروائح النتنة قبل أن يعتبر خير ما يجب أن يكون للشرقيين من علاج ليتخلصوا بفضله من التحلل والميوعة والوغادة، في الوقت الذي يقوم المذهب الوجودي بذاته فوق تلك المعايب التي اعتبرها علاجا للشرق والشرقيين!
وليدرك قبل غيره ممن تزعموا الوجودية في الشرق أن الميوعة والوغادة والانحلال التي يهتم بها الشرقيين ليست إلا الصفات الظاهرة التي تمتاز بها الوجودية نفسها!
وقبل أن نضرب للأستاذ الناقد الأمثال ونضع نصب عينه الأرقام التي من شأنها أن تقرب وجهة نظره الخاطئة إلى وجهة نظر الواقع والحقيقة، حيث إذ ما ذهب إليه في رفعه المذهب الوجودي لا يمكن أن يكون خير ما يجب أن تقتوم عليه أخلاق الشرق ونظمه، وقبل أن اخذ بتلابيب الأستاذ الناقد لينظر الحقائق العلمية القائمة على الأسس الصحيحة: لأن النقد الذي تفضل به حضرته كان يعوز المنطق وتنقصه الدراسات العامة والخاصة التي ترتكز عليها مختلف المذاهب الفلسفية والمادية
والغريب في أمر الأستاذ متولي أنه ضرب لنا خير مثل لعفاف الوجودية، تلك الأسطورة اليونانية القديمة التي اعتبرها خير شاهد يبرر ذمة هذا المذهب الفاجر! والأغرب من ذلك كله الخط الذي جاء به أثناء مقارنته بين الغاية عند اليونان، والغاية عند (سارتر) في روايته (الذباب أو الندم) لا أدري ماذا يقصد بذلك. هل أن نقده ونقاشه جاء على غرار
فكرة الأسطورة، أم أنها جاءت على غرار الأسس الفلسفية التي تقوم عليها الفلسفة الوجودية؟
لا أدري أن كان الأستاذ متولي درس فلسفة المذهب الوجودي وغايتها أم لا. . . والواقع يؤيد عدم تعمقه في الأسس الجوهرية لهذه الفلسفة
ولايمكن ان تعتبر باية حال رواية (الذباب أو الندم) كأساس يقوم عليه المذهب الوجودي، وليس بمقدور سارتر نفسه أن يعتبر الوجودية متمثلة في روايته هذه!
كنت أرجو أن يدور نقاش الأستاذ متولي في اللب لا في القشور كان يجب أن يبحث عن (الحرية الفردية) وخطوتها في المذهب الوجودي، كان يجب أن يثبت لنا الوجودية في أسسها لا في حكاياتها. . .
وبهذه المناسبة أود أن أسرد للأستاذ متولي وللقراء سذاجة الفرد الوجودي، وبلاهة الفلسفة الوجودية!
أن فلسفة الوجودية التي تريد أن يرددها الفرد بلسان الوجودية السارترية هي:
(قل لي ماذا تفعل، أقل لك من أنت)
ولنفرض جدلا بأنني أريد أن أسخر من هذا المذهب الوجودي أو هذا الدين الجديد كما سماه سابقاً (أنيس منصور) أحد زعماء الوجودية في مصر أيضا، فهل بإمكان الوجودية أن تقول لي من أنا؟
إن الفلسفة الوجودية قامت منذ اللحظة الأولى ضد فكرة (المذهب) والمذهبية، وأول من وجدت لديه البذرة المتنافرة المتناثرة للفلسفة الوجودية هو الفيلسوف الدنماركي (كير كجورد) كما أن هذه الفلسفة جاءت ضد فلسفة (هيجل) التي تتصور العالم (كلا واحد). ولأصل في الوجودية إثبات وجود الفرد ضد الفكرة الجماعية، أو إنها كرد فعل لعاطفة مكبوتة تعطف على الفرد وتدفع إليه الحرية الفردية لتمكنه من القيام بتمثيل الحياة الحيوانية كما تمثلها باقي الحيوانات الدارجة سواء بسواء!
أما مذهب (هيجل) وفلسفته التي تتصور العالم (كلا واحد) هي الفكرة الجماعية التي تحاربها الوجودية بكل قواها لإثبات وجودها. . باعتبار أن سلطان الجماعة والجماهير كان من شأنه أنجعل الفرد لاوجود له، وإنما هو يدخل في الحساب (ضمنا). والحقيقة هي أن
الفرد كجزء وليس (كل) لأن الفرد وحده لا يكون (الكل) إلا إذا اجتمع مع غيره، مثلا: إن المحيط مجموعة بحار وليس البحر الواحد محيط، أو آنتكانسان ولكنك أصبحت (إنسان) لأنك مجموعة أعضاء وليس العضو الواحد هو الذي جعل منك إنسانا
وإذا كان القصد من وراء قيام الفرد على حريته الفردية وتفكيره الخاص وما يذهب إليه في تعريف الوجود، كان معنى ذلك أن البشرية ستعود إلى ما كانت عليه أول نشوئها، أي أنها تعود إلى حالتها الهمجية كما أوجدتها الطبيعة! وبذلك تنعدم القيم والمفاهيم والحقوق لتحل محلها هذه الفوضى (الوجودية!) أليس هذا ما يدعو إليه الفرد وما تقوم عليه الحرية الفردية!؟
أما قولها - (أنا المراجع الوحيدة وأنا المصدر الأول لكل بداية) فهذه مغالطة، لأنه إذا كانت هناك مجموعة أفكار كلية جامعة فليست معناها فكرة واحدة بل مجموعة أفكار
ومن هنا نستنتج: بأن (أنا الإنسان الفرد) ليس إلا مجموعة أفكار كلية وأحكام عامة. وليست بفكرة واحدة وحكم واحد وحرية فردية. أما الرجوع إلى الإنسان نفسه، فهو الإنسان (أنا وليس أنا المصدر لكل بداية) هذا هو الفرق
كما أن الحرية التي تقوم على أساس الفرد لا يعني أنها تعمل بحريات الآخرين (تبدأ حريتك عندما تنتهي حرية غيرك) وبالعكس. أما أن الفلسفة الوجودية أساسها الحرية الفردية فهذا هراء لا يقبله العقل ولا تقوم عليه أتفه الأسس!
إنك موجود في الحياة لوجود غيرك، وليست الحياة وجدت لأنك موجود. إن المذهب الوجودي قائم على أساس الإشباع الجنسيفي للفرد، وتحقيق ما تتطلبه الغريزة الجنسية بأبشع صورها وأقبح ما تصوره من الهدم والتخريب! إن الأمة التي تقوم على غير الأخلاق وضمان الحريات الأخرى لهي زائلة حتماً
إنك وجودي لأنك أناني تحب ذاتك إلى حد الجنون! إنك وجودي لأنك تريد أن ترقص على أشلاء الآخرين لتمثل فوق رفاتهم ما تدعوك إليه غرائزك وعواطفك وتفكيرك الخاص وحريتك الفردية. . .
وإذا كانت الفردية تهدف إلى ذلك فهي فردية مشوهة الخلقة ناقصة التكوين!
أما الوجودية عند الوجوديين قد أخرجت العدم من الوجود، فإن الطبيعة أيضاً هي التي
أخرجت الوجود من العدم!
بغداد
شاكر السكري
على ضفاف الفتاة:
بلد الجمال
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
لم تكد وزارة المعارف - سامحها الله - تدعني أنعم بالقاهرة بعد أن نقلت من عنيبة عاصمة بلاد النوبة المصرية، حتى ألقت بي على ضفاف القناة. . قناة السويس، وبحيرة التمساح في مدينة الإسماعيلية، حيث تقوم الإنجليز صولات وجولات. وكأنما أراد الله سبحانه وتعالى، أو أرادت لي وزارة المعارف، أن ألمس السلطان الإنجليزي المقيت في منطقة قناة السويس، كما لمسته، ورأيته في السودان وما يتصل به، وتقلص السلطان المصري إلى حد يعتبر فيه الإنجليز أن البواخر النيلية التي تنقل الركاب والبضائع من وادي حلفا إلى الشلال وبالعكس - أرض سودانية، أو بمعنى أدق (إنجليزية) تجري في مياه مصرية. وعلى هذا فأية حادثة تقع فيها تختص في نظرها حكومة السودان لا الحكومة المصرية، حتى لو كان ذلك في الشلال نفسه بالقرب من أسوان.!!
ومهما يكن من شيء ففي الإسماعيلية الجميلة - التي لم أكن أعرفها من قبل إلا معرفة عابرة، حين كنت أمر بها بالقطار أو بالسيارة في طريقي إلى بور سعيد التي أمضي بها أكثر مدة الصيف غالبا - في هذه المدينة الجميلة رأيت طرازاُ جديداُ لما يجب أن تكون عليه المدن المصرية في العواصم والأقاليم. . وكنت أسمع من قبل بجمالها ونظافة شوارعها المستقيمة التي تمر بقسميها العربي والإفرنجي على السواء.
ولكني لم أكن لأتصورها على حقيقتها التي رأيتها عليها. ويمكن أن نقول صادقين: إن الإسماعيلية هي البلد الوحيد في القطر المصري الذي لا تستطيع أن تصفه بغير الجمال والنظام والحسن والنظافة مهما تجنيت عليه، أو حاولت إنقاص قدره، وتهوين شأنه، أو النيل منه لغرض من الأغراض.
ويرجع السبب في ذلك أن الإسماعيلية نظيفة بطبيعتها حيث تقع على بحيرة التمساح لتي تمر بها قناة السويس - فتأثر في جوها، وتجعله نقياُ وهادئاُ، عليلاُ بليلاُ. . وفي منظرها فنزيده روعةُ وجلالاُ، وتضفي عليه مهابة وبهاء، وأرضها صحراوية رملية، قد رصف أكثر شوارعها. إلا أن الصحراء تحيط بها من ثلاثة جهات فتهب عليها رياحاُ ساخنة
أحياناُ، وتحمل الرمال والغبار، فتكون سبباُ من أسباب الضيق والبلاء. . إلا أن هذا لا يحدث في غير أيام الخماسين، حيث تعم الشكوى في مصر من هذه الأيام
والإسماعيلية مدينة محدودة لها أول، ولها آخر. ولعلك تعجب حين تعلم أن الناحية البحرية منها لها سور حديدي يؤذن بانتهاء المدينة في هذا المكان. . وهي مدينة إفرنجية بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من معان، حتى أن السائر في بعض شوارعها يعتقد انه يسير في بلد أوروبي صميم، لا في شارع من شوارع مدينة مصرية ومرجع ذلك أن شركة القناة هي التي وضعت تصميم هذه المدينة، وجعلها في الأصل قسمين: أولهما حي الفرنجة، وثانيهما حي العرب، وهما يقعان شرقي الخط الحديدي من القاهرة إلى بور سعيد، وغرب ترعة الإسماعيلية التي استفادت منها الشركة في تجميل المدينة إلى أبعد حد. ذلك أنها بنت على طول شاطئ هذه الترعة الغربي القصور الفخمة لموظفيها، وكبار رجالها، وعلى هذا الشاطئ يقع شارع (محمد علي) وهو أطول شوارع المدينة على الإطلاق، وأكثرها اتساعا وأهمية
وغرست الأشجار على الشاطئين في نظام جميل، وبخاصة شاطئ الترعة الغربي حيث تمتد الحدائق إلى شاطئ بحيرة التمساح في صورة غابات كثيفة رهيبة من أشجار (الكزورين) و (اللاتانية) و (الكافور) وغير ذلك من الأشجار الضخمة التي جعلت الغابة ستارا كثيفا يحجب الشمس في أيام الصيف القائض أن تصل إلى المتنزهين والمرتاضين، في أية ساعة من ساعات النهار
وما أجمل بحيرة التمساح تلك البحيرة الهادئة الوادعة التي تنساب فوقها المراكب الشراعية الصغيرة، والقوارب البخارية هنا وهناك، وكأنها الحمائم البيض فوق صفحة لا يهيجها موج، ولا يعكر صفوها ريح عاصفة - وما أجمل بحيرة التمساح حين تمر بها البواخر الكبيرة الذاهبة إلى البحر الأحمر، والآتية منه، وكأنها مدن كبيرة تتحرك ببطء وتثاقل، كأنها تحمل أوزار العالم وآلام الوجود
وحدائق الإسماعيلية ذات شهرة عالمية، ذلك لأن اليد الفرنسية التي تمتاز بالذوق والجمال، قد افتنت في تنسيقها، وأبدعت في تنظيمها فصارت طرفة فنية تأخذ بمجامع القلوب ولكن لا يتمتع بها غير الأجانب التي لا تخلوا منهم الحدائق في أية ساعة من ساعات النهار. .
يخرج إليها الرجال والنساء والأطفال، في مظهر طبيعي لا أثر للكلفة والتصنع فيه. . أما المصريات بالذات فلا تكاد ترى لهن أثراُ في هذه الجنات الباسقات، الوارفة الظلال. وإذا قدر لك ورأيت مصرية دفعتها روح المدنية إلى أن تأخذ نصيبها من الرياضة الجميلة بين حدائق الغن، فإنك ناقم عليها أشد النقمة. . ذلك أنها لم تفهم معنى الرياضة، فهي تتخذ من عوامل الزينة ما يجعلك توقن أنها ذاهبة إلى معرض من معارض الأزياء والجمال. . يا الله! ما هذه الثياب الغالية المطرزة المفوفة التي تعوق سيرك أيتها المصرية الذاهبة إلى مواطن الطلاقة والمراح. . إلى الطبيعة المطلقة، الخالية من أسباب التصنع والتكلف المقيت. . بينما ترين الأجنبيات كالزهرات المتفتحات، وسط هذه الزهور الطبيعية، فيخيل إليك أنهن يكملن الوضع الطبيعي لهذه الزهور، وينسجمن معها في بساطة لا تدانيها بساطة، ومع هذا لا يمكن أن تحكم على هؤلاء الأجنبيات بغير الذوق والجمال الأخاذ
وقد ترى طائفة من الشباب المصري، فيتملكك الحزن لمنظرها وهي تسير في الطريق اللامع وقد حمل كل فرد عودا من القصب. . قصب السكر أطول منه، يلوكه بين ماضغيه، ويكاد يطحنه بأضراسه طحنا، ثم لا يكف أثناء المص عن الكلام البذيء، يلاحق به الرائحات دون اهتمام بما ينال في بعض الأحايين من تأنيب قاس يعتقد هو أن هذا فاتحة الباب.!
والحي الإفرنجي في الإسماعيلية نظيف جدا، شأنه في ذلك شأن الحي الإفرنجي في بور سعيد والسويس وأعني بهما بور فؤاد وبور توفيق. . وفي هذا الحي تجد العمائر الضخمة الفخمة، والفيلات الصغيرة المتناثرة، والشوارع اللامعة أرضها، والحوانيت الغاصة بأجمل السلع، وأغلى الأسعار. وينشرح صدرك إذا طوفت بهذا الحي سواء فالليل والنهار. . بيد انك لا تكاد ترى وجهاً مصرياً يقطن في هذا الحي، وأنمى هي وجوه غريبة من كل لون وجنس. . وجوه تنكرها ولا تعرفها. . . وجوه أجنبية كالحة أكثرها من الإنجليز الذين رمت بهم أمواج البحار، ولفظتهم بلادهم، وجاءت بهم المطامع الأشعبية اللآتمة إلى هذه الصحراء القاحلة في منطقة قناة السويس، فاحالتها أفكارهم إلى جنة وارفة الظلال. لا بأموالهم وجهودهم، وإنما بأموالنا نحن المصريين - أو بعبارة أدق بذلك الحبر على الورق، يصنعونه في مصالحهم بلا رصيد وغطاء، ويقذفون به ألينا جنيهات مصرية قشيبة لا
نعرف لها أول من آخر. وبجهود عمالنا نحن المصريين الذين يكدون ويكدحون لقاء ما يأخذونه من أجر زهيد لا يكاد يقع موقعا من كفايتهم!
والحي العربي ليس في نظافة سابقه، وإن كانت شوارعه مرصوفة إلا أن فيه الفوضى المصرية سواء في المناول أو الدكاكين. وعلى البلدية تبعة ثقيلة جدا، ولنا معها حساب عسير، وذلك أنها لم تعمم المجاري بهذا الحي المسكين، فلم يخل شارع من شوارعه الكبيرة أو الصغيرة على السواء من أقذار يتراكم عليها الذباب، ومياه قذرة منتنة تلقى من النوافذ إذا جن الليل كأفواه القرب، أو تخرج بها النسوة والفتيات من الأبواب، أو تفيض بها أكثر الأحايين دورات المياه، حاملة معها الوباء العاجل والخطر الماحق والدمار الأليم. .
وغربي السكة الحديدية ثلاثة أحياء اخرى، دعت إليها سنة التطور وكثرت الزحام في الإسماعيلية! أولهما (عرايشية لندن) ولا تعجب لهذه التسمية فهو حي إنجليزي لحما ودما، بنيت عمائره بأيدي مصرية وضع فيها الذهب أو بعبارة أدق (الحبر على الورق) أيدي الإنجليز، وفي كل عمار من عمائره تقطن عشرات من الأسر الإنجليزية الصميمة التي نزحت إلى هذا القطر المسكين، لتشاطر أهله غلات أرضه وثماره، بل تستأثر دونهم بأطيب هذه الثمرات وخير هذه الغلات. . .
وثانيهما (عرايشة مصر) وهو حي متوسط يسكنه كثير من المصريين ذو الدخل العادي، ويشبه من وجوه كثيرة حي العرب في الناحية الشرقية الثالث (عراشية العبيد) وهو حي فقير، تسكنه الطبقات الفقيرة العاملة الكادحة في هذه المدينة الزاخرة بالناس من جميع الألوان والأشكال، والتي تفيض بالذهب في كل ناحية من نواحيها، ومع هذا لا يكاد يسمع الفقير رنين هذا الذهب ليجد منه السلوى والعزاء.!
هل كتب على المصريين أن يعيشوا دائماُ على هامش الحياة دون أن يفهموا شئُ من حقيقتها وإن طال بهم العمر وأمتد بهم الأجل!! إن الفقر ليس علة العلل كما يدعي بعض الناس، وإنما هو الجهل الفاضح بأسرار الكون، وحقيقة الوجود، وإلا ماذا تكلفنا النزهة اليومية ساعة كل يوم ومعنا أبناؤنا نتمتع فيها بالنسيم والهواء، والخضرة والماء، والجمال والصفاء؟!
عبد الحفيظ أبو السعود
المدرس بمدرسة البنات الثانوية الأميرية بالإسماعيلية
-
في شعر عائشة التيمورية
1840 -
1902
للأستاذ محمد سيد كيلاني
بقية ما نشر في العدد القادم
هذه الأبيات التي سردانها من قصيدتها في رثاء ابنتها هي أروع ما في القصيدة. وهي تصور شعوراُ داخلياُ لحالة فتاة قد أيست من شفائها وأيقنت بهلاكها، فهي تودع أمها الوداع الأخير وترجوا أن يترفق بها اللحاد حين يوسدها الثرى ويهيل عليها التراب. وتسأل أمها أن تصون جهاز عرسها تذكاراُ لها. واسمع إلى أمها حين تجيب ابنتها:
فأجبتها والدمع يحبس منطقي
…
والدهر من بعد الجوار يجور
بنتاه يا كبدي ولوعة مهجتي
…
قد زال صفو شأنه التكدير
لا توصي ثكلا أذاب وتينها
…
حزن عليك وحسرة وزفير
هكذا ردت عائشة على ابنتها. وهو رد ضعيف، وكان ينبغي أن يكون أقوى من ذلك بكثير والمعاني في هذه الأبيات تافهة. ثم تأخذ قيمة القصيدة بعد ذلك في الانحدار، ويختفي الشعور الداخلي بيتا ُبعد بيت حتى ينعدم تماماُ وتنقلب إلى نوع من النظم الذي لا رائحة فيه للشعر. وهذا دليل على ضعف الشاعرة وضيق افقها. ولو أنها وهبت حظاُ من الشاعرية لاستوحت من المقام جملة قصائد مبكية لا قصيدة واحدة، وبخاصة أن بنتها ماتت وهي في فجر شبابها. وقد قيل أنها انقطعت عن قول الشعر بعد وفاة بنتها هذه لمدة سبعة أعوام
ولعائشة قصيدة رثت بها والدها ومطلعها:
عز العزاء على بني الغبراء
…
لما توارى النجم بالظلماء
وقد ذكرت في هذه القصيدة مجئ الطبيب إلى والدها، ثم أنطقت أباها بعد أبيات مؤثرة. ثم شرعت بعد ذلك تندب وتنوح فقالت:
يا حسرة ابنته إذا نظرت لها
…
بمماته عين من البأساء
قالت وحق سنا أبوتك التي
…
كانت ضياء الأمن للأبناء
مذ ما فقدتك والحشا متسعر
…
والجسم منتحل من الضراء
ياكنز آمالي وذخر مطالبي
…
وسعود إقبالي وعين سنائي
يا طب آلامي ومرهم قرحتي
…
وغذاء روحي بل ونهر غنائي
أبتاه قد جرعتني كأس النوى
…
يا مر جرعته على أحشائي
أبتاه قد حش الفراق حشاشتي
…
هل يرتضي الشفوق جفائي
فإذا قرأت هذه الأبيات شعرت بأن امرأة تقف أمامك وقد تدفقت منها الدموع. وهي تتحسر وتتوجع وتئن وتتألم لما أصابها من خطب وحل بها من كرب
ورثت شقيقتها بقصيدة مطلعها:
يا من أتى للقبر يقرأ طرسه
…
مهلا فليس كتابه بمداد
وقد ذكرت كذلك في هذه القصيدة عيادة الطبيب لأختها ونظمت على لسان تلك الأخت ابياتاُ مؤثرة إلى حد بعيد فقالت:
جاء الطبيب يجس نبض ذراعها
…
فرأى التأثر ليس كالمعتاد
فتنفس الصعداء مرات وقد
…
أعيي، وقال اليوم ضل رشادي
فتنهدت جزعاُ، وقالت سيدي
…
أأموت قبل الترب والأنداد
وأسير من دون الأنام وكم أرى
…
للدهر قبل الموت من رواد
ثم انتقلت بعد هذا إلى تصوير شعورها الفياض بالحزن على ما أصابها من موت أختها
والملاحظ في رثائها لبنتها ووالدها وشقيقتها أنه تضمن صورة واحدة، تلك هي مجيء الطبيب ويأسه من شفاء المريض وعجزه عن علاجه. ثم تأتي بعد ذلك محاورة بين المريض والطبيب أو بين المريض والشاعرة كما حدث لها مع بنتها، ونرى في هذه المحاورة شعراُ رائعاُ يترجم عن إحساس عميق ويعرب عن شعور متقد بين الجوانح. وهذا شيء لا نراه عند غيرها من الشعراء. فهي قد انفردت به وتميزت عن سواها ممن يقولون الشعر. وذلك راجع إلى طبيعتها الأنثوية، فإن المرأة التي تشرف على علاج المريض وتسهر الليالي في خدمته وتسمع شكواه وأنينه فكان لها من طبيعتها ما جعلها تأتي بهذه الصورة الجديدة. ولم نر شاعراُ في عصرها وفق إلى مثل هذه الصورة غير صالح مجدي في رثائه لزوجته، وذلك لأنه كان يعالجها بالبخور والتمائن والرقي فلما ماتت صور هذا
كله في رثائه لها
ولعائشة قصيدة مطلعها:
بيد العفاف أصون عز حجابي
…
وبعصمتي أسمو على أترابي
وهذه القصيدة جديدة في موضوعها، فريدة في بابها. تأمل في قولها:
فجعلت مرآتي جبين دفاتري
…
وجعلت من نقش المداد خضابي
كم زخرفت وجنات طرسي أنملي
…
بعذار خط أو إهاب شبابي
منطقت ربات ألبها بمناطق
…
يغبطنها في حضرتي وغيابي
وحللت من نادي الشعور ذوائبا
…
عرفت شعائرها ذوو الأنساب
ما ضرني أدبي وحسن تعلمي
…
إلا بكوني زهرة الألباب
ما ساءني خدري وعقد عصابتي
…
وطراز ثوبي واعتزاز رحابي
ما عاقني خجلي عن العليا ولا
…
سدل الخمار بلمتي ونقابي
أنت تقرأ هذه الأبيات فتشعر بأنك تقف أمام امرأة. وليست هذه المرأة الخنساء، ولا ليلى الأخيلية، ولا غيرهما من شاعرات العرب، وإنما هي امرأة تعيش في العصر الحديث. اتخذت من الدفتر مرآة، ومن المداد خضابا. ولو كان هذا المداد أسود لأضحت الصورة كريهة قبيحة. فلعلها أرادت المداد الأحمر فإن صح هذا فالصورة مقبولة. وهي تقول بعد ذلك إن كونها امرأة لم يمنعها أن تنزل إلى ميدان الأدب جنباُ إلى جنب مع الرجال. وهي في دفاعها عن هذا الرأي تعبر عن شعور صادق وتنطق عن ثقة واطمئنان إلى نفسها، وهذه الصيحة بداية للمطالبة بحقوق المرأة؛ ومساواتها بالرجل وتحريرها من الرق والإسار وفي الأبيات صورة لما كانت عليه المرأة في ذلك الوقت وهذه الصورة تستوحيها من ذكر الخدر والعصابة والثوب المطرز والخمائر، فلو أن الشاعرة عاشت معنا في هذه الأيام لما ذكرت شيئاُ من ذلك، ولما أتت بهذه الصورة التي لا وجود لها بين الطبقات الغنية
ومن شعرها المتكلف قصيدة في ذكر الخمر
لاح الصبوح وبهجة الأوقات
…
فاشرب وعاط الصب بالكاسات
ومنها:
ودع الوشاة وما تقول عواذلي
…
فالعين عيني والصفات صفاتي
فأنا الأسير بظل روض كرومها
…
ولو أن في عنقي شهى حياتي
وليس هذا مما تقوله النساء، ولكن عائشة تريد أن تنظم الشعر ولا تجد أمامها ميداناُ للقول، فماذا تصنع؟ نظمت في ذكر الخمر كما نظمت في الغزل من قبل
وليس لها في باب المدح سوى قصيدة واحدة هنأت بيها الخديوي توفيقا عقيب القضاء على الحركة العرابية
وكانت الشاعرة تستوحي من أنوثتها كثيراُ من الصور، ومثال ذلك قولها:
ولكني أرى في الصبر طبي
…
ومكحلة الجلا حسن امتثالي
وقولها:
فدعني يا خل والخل نخلو
…
ونكحل بالثنى جفن الأماني
وقولها:
مرآته طمست وأصدأ وجهها
…
من بعد ما سعدت بطول جلاء
ولطالما اكتحلت عيون أولى النهى
…
من غدره بمصائب وبلاء
فأنت ترى أن الشاعرة تكثر من ذكر الكحل والمكحلة والمرآة، وهذه كلها من مستلزمات المرأة
وقد استخدمت التورية باسم عائشة في عدة مواضيع. فمن ذلك قولها:
إن قيل عائشة أقول لقد فنى
…
عيشي وصبري والإله خبير
وقولها:
ولى التقلب في سمير تحرقي=ما دمت عائشة ليوم فنائي
محمد سيد كيلاني
صراخ الجياع
للأستاذ أحمد قاسم أحمد
نحن. . . ومن نحن. .؟
نحن مقطوعة رعناء، تلفظها شبابة خرساء. .!
نحن أهزوجة هوجاء، تحتضر في حنجرة بكاء. .!
نحن ركام حائل من ببطون طاوية، وعيون غائرة، وصدور معتلة. .
نحن حطام أشل من ظهور دامية، وأيد مغلولة، وأفواه مكممة.
نحن. . ومن نحن. .؟
نحن الجياع الذين يهبون القوت. . والأرقاء الذين يمنحون الترف، والعذبون الذين يصنعون السياط. .
نحن الجحافل الرجيمة من أشباه الموتى وأشباه الأحياء. .
نحن القطعان الهضيمة من أبناء آدم وبنات حواء. .؟
نحن. . ومن نحن. .؟
نحن المواكب الزاحفة من الأسمال والأشلاء والهياكل، تتقدمها طبول الدم المطلول تهدر في عنف وصخب، وتظالمها ألوية الحرية الذبيحة تضطرب في جنون وتمرد، وتحدوها قوافل الألحان الزرق؛ تتراكض في ضجيج وفحيح. .
نحن الفيالق الساغبة من الشذاذ والمتشردين. .
نحن النفايات التافهة من التعساء والملاعين. .
نحن الثمار العفنة الساقطة من دوحة الآدميين. .
. . . نريد طعاما. .!
نريد طعاما لنا ولأولادنا وأزواجنا. . نريد طعاما من الأرض التي نفلحها، وكساء من القطن الذي نغرسه، وشرابا من الماء الذي أجراه الله. .
لقد آمنا بأن حقنا في الحياة ليس منحة يتعلق بذلها بالأهواء، وإنما هو شرعة يتعلق أمرها بالسماء. .
كما آمنا بأن الطين - يا سادة - معدننا ومعدنكم، والله ربنا وربكم. . يحكم بيننا وبينكم. .
وها نحن أولاء نشرف عليكم من قمم إنسانيتنا، ونصرخ في وجوهكم، وفي وجه كل عانية جبار: لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا، فمتى كان لكم أن تستعبدوا الأحرار. .؟
اسمعوا دوينا الذي تنقض له معاقل الطغيان. . ونداءنا الذي يجلجل في كل أذن، ويعربد في كل مكان. .
نحن الجياع. . . نريد الطعام. . .!
أحمد قاسم احمد
-
4 - رسالة المربى
ضرورة التقيد بطريقة معينة - طريقة المشروع - مزايا
المشروع
للأستاذ كمال السيد درويش
إن عملية النمو في التعليم هدف يستحق أن نعمل من أجل الوصول إليه، ولكن كيف يمكن أن نخرجه إلى حيز التنفيذ. ما أكثر الأسس الفلسفية التي يضعها الكثير من كبار المصلحين والفلاسفة لعلاج المشاكل المعقدة، حتى إذا جاءوا إلى صخرة التنفيذ تحطمت جهودهم عندها، وتبخرت آمالهم لديها وعادوا بالحسرة والخسران المبين. ومن أجل ذلك نرى أن نكتفي بتحديد رسالة المربى دون أن نتقيد بحذافير طريقة عملية معينة لتنفيذها. بل أن عملية التعلم كعملية نمو حر متواصل تدعو هي نفسها إلى عدم التقيد بطرقة عملية معينة. ذلك لأنها طريقة عملية تجريبه. وأساسها الفلسفي يحض على عدم التقيد بأسلوب معين في التنفيذ، فما يكون صالحا اليوم قد يصبح غير صالح في الغد، والطريقة التي تستعمل في المدينة، غير التي تستعمل لتعليم أهل القرية، وهم يعطون إشارة المرور وكيفية عبور الشوارع كأول درس بتعلمه الطفل في أمريكا، بينما لا نزال نحن حتى الآن نتقيد بمناهج زرع وحصد
التقيد بحذافير طريقة عملية يتنافى مع طبيعة عملية التعلم الصحيحة، إذا قد تصبح هذه الطريقة بعينها ديكتاتورا بتحكم في المعلم والمتعلم، وحجر عثرة في استمرار عملية النمو. ولذلك يمكن القول أن التقيد بطريقة معينة هو علة فساد الكثير من النظم التعليمية، فإذا كان ولابد من طريقة عملية للتعلم، فلتكن الطريقة التي ترمى إلى تحقيق فكرة عدم التقيد نفسها تحقيقها عمليا. وأقرب هذه الطريقة إلى تحقيق المعنى الذي حددناه هي طريقة المشروع ولذلك سنتناولها بوجه عام
ما هي طريقة المشروع؟ هي طريقة وضعها وأسسها أحد فلاسفة التربية بأمريكا، ومن بينها مصر
ومتى يبدأ المشروع؟ يبدأ كما تبدأ عملية التعلم لدى الأسرة وكما بدأت لدى الإنسان الأول.
مشكاة تعترض حياة المتعلم؛ مشكلة حقيقية قد اعترضته هو فعلا تدفعه إلى محاولة التغلب عليها. يشعر الإنسان إذا اعترضته المشكلة بحاجته الشديدة إلى من يعلمه كيف التغلب عليها. يسأل أولا ما هذا أو ذاك، وعند ذلك يبدأ المربي، وهو دور الرفيق الذي يوجه بما لديه من خبرة؛ ويساعد ويعين حيى يتغلب الإنسان على مشكلته، وينتهي عند ذلك بنجاح المتعلم في حل مشكلته، ولكن المشروع الأول الذي كان غرضنا في حد ذاته سرعان ما يصبح وسيلة إلى غرض جديد هو مشروع آخر حديث ، وسنضرب لذلك مثلاً: (أراد طالب أن يكبت خطابا ردا على خطاب جاء إليه، ولم يكن هذا الطالب قد سبق أن كتب خطاب قط، ولذلك لجأ إلى مدرسة يستفتيها. ولو لاحظنا موقف الطالب في هذه الحال لوجدناه موقف المستيقظ المهتم بكل ما يقوله مدرسه. هذا هو الدرس الحقيقي الذي سيتعلمه فعلا في كيفية كتابة الخطابات. درس ثابت لن ينسى لأنه سيستعمل معلوماته في الحال في كتابة الخطاب، بل وسيتوسع في استخدام هذه القدرة الجديدة التي اكتسبها فيكتب إلى آخرين، ويراسل زملاءه في إنجلترا والباكستان، هلم جرا. .
ولكن هذا المثال السابق في الحقيقة لا يمثل مشكلة بالمعنى الحقيقي للمشكلة، كما تفهمه طريقة المشروع، ذلك لأن كتابة خطاب ليست ذات أهمية حيوية قصوى بالنسبة للتلميذ، وإنما هي صعوبة عارضة، وإنما تكون المشكلة مشكلة حقا كلما كانت تمس أمرا حيويا بالنسبة للإنسان، فدودة القطن بالنسبة للفلاح المصري، بل وللدولة، كلها مشكلة خطيرة، وهي التي تثير بمجرد ظهورها مختلف الجهود للقضاء عليها، وظهور الملاريا أو انتشار الكوليرا، أو هجوم الجراد، كلها مشكلات خطيرة يمكن أن تعتبر سلوك المجتمع في التغلب عليها مشروعا من المشروعات التي توصي بها طريقة المشروع. ولذلك لا تعترف طريقة المشروع بتعلمنا الحالي، ولا بنظمنا المدرسية المنطقية. ولا تعترف بالمناهج ولا الحصص، ولا بالفصل أو الجرس، ولا بالانتقال من سنة إلى أخرى، أي لا تعترف بالامتحان. ذلك لأنها طريقة تتمشى مع الميول النفسية للطفل، وتتدرج معه وتنمو بنموه. يسأل فتجيبه، ويتعلم فتساعده وتعينه. . . يتم ذلك كله أثناء سير المشروعات التي يقوم بها والتي يأخذ بعضها يراقب بعض. ولكي يكون المشروع مشروعا بمعنى الكلمة يجب أن يلاحظ في تطبيقه ما يأتي: -
1 -
أن تكون المشكلة من وحي الطالب أو الطلاب، وان يتم تحديدها على أيديهم، ومن وحي شعورهم
أن يظل موقف المتعلم خلاله تلقائيا
أن يستمر مادامت المشكلة مستعصية على الحل أي أن المدة التي يستغرقها المشروع يجب أن لا تحدد إلا بانتهاء المشروع نفسه
4 -
أن يظل الهدف الأساسي من المشروع واضحاً أمام المتعلم، ولا يتيسر ذلك إلا بالمحافظة على سر المشروع من كثرة التشعب الذي قد يؤدي إلى تشتيت الجهود وتلاشي الغرض الرئيسي منه
5 -
أن يعتمد في سيره على التجارب العملية التي ستتعدد وتتنوع بحسب ما يتطلبه المشروع نفسه، وأن تتجه كلها في النهاية نحو تحقيق الهدف الأخير
6 -
أن يصبح الهدف بمجرد الوصول إليه وسيلة فعالة بدوره في تحقيق أغراض أخرى وفي إثارة مشاكل جديدة بحيث يضمن استمرار العمل واستمرار النمو
وتمتاز طريقة المشروع بمزايا عديدة أخرى. فاعتمادها على المشكلة جعل سلوك المتعلمين نحوها سلوكا غريزيا له كل مظاهر السلوك الغريزي من حيوية وتغير وتلقائية واستمرار. حتى يتحقق الغرض. وبذلك ضمنت نمو المتعلم واستمرار انتباهه التلقائي، وهو ما لا نجده مطلقاً في الطريقة المنطقية التي ينأ المتعلم فيها التعليم ولا يقبل عليه إلا مضطرا وتحت ضغط خارجية. والمشكلة إذا اعترضت المظهر النزوع لشعور الإنسان حفزته، ولذلك نلاحظ كيف يكون نزوع المتعلمين نحو التعلم في طريقة المشروع قويا وواضحا ومرغوبا فيه. ويلاحظ أن طريقة المشروع تكسب المادة التي يتعلمها التلميذ قيمة وحيوية لأهميتها بالنسبة إليه؛ بينما لا تكتسب المادة أي معنا في الطريقة المنطقية. ويتلقى التلميذ في طريقة المشروع المعلومات كوحدة واحدة كلية غير مجزئة؛ يتعلم المعلومات كما هي الحقيقة وفي الحياة. وبذلك تتفادى أكبر عيوب الطريقة المنطقية التي قسمت المعلومات إلى علوم من تاريخ إلى كيمياء إلى آخره فأصبح الطالب بسبب ذلك عاجزاً عن الربط بين ما يتعلمه سواء في المادة الوحدة أو بينهاوبين غيها من المواد
وتتناول طريقة المشروع عيوب التعليم الحالية فتنقد الطالب من تحكم المناهج وكثرة المواد
وتحكم المدرسين ومن شبح الامتحان وما يتبعه من رسوب وفشل كفيل بقل روح البحث العلمي في التلميذ، وهي تضمن نمو المتعلم باستمرار ونمو المعلم أيضا
إن طريقة المشروع أكبر حدث تربوي خطير ظهرفي العصر الحالي. وواجبنا نحن المصريين بوجه خاص والشرقيين بوجه عام التخلص من الطريقة القديمة المنطقية التقليدية التي نسير عليها، وأن ننقذ أبناءنا ومجتمعاتنا وأوطاننا بأن نؤدي لها أكبر الخدمات واجلها حين ندخل في التربية طريقة المشروع أو ما يشابهها وينبني على أساسها؛ فبذلك وحده يظهر جيل حر في تفكيره، عملي في حياته؛ جيل ينمو باستمرار ويتمشى مع ركب الحياة. جيل يخلع رداء الجمود ويتحرر مما يعوقه من قيود.
وبمثل هذا الجيل يتسنى لنا مساير الزمن ومنافسة الغربيين؛ كيف لا وقد أعدته رسالة المربى كما يجب أن تكون
كمال السيد درويش
-
النقد والشعر
للأستاذ سامي أمين
في العدد (945) من المجلة (الرسالة) يقول في الافتتاحية الأستاذ الناقد سيد قطب عن الشعر (أن الغناء. الغناء المطلق بما في النفس من مشاعر وأحاسيس وانفعالات. حين ترتفع هذه المشاعر والأحاسيس عن الحياة العادية، وحين تصل هذه الانفعالات إلى درجة التوهج والإشراق، أو الرقة والانسياب على نحو من الأنحاء. .
(ولسائل أن يسأل: أو ننفي الفكر من عالم الشعر أيضا؟ ولست أتردد في الإجابة: إن هذا الفكر لا يجوز أن يدخل هذا العالم إلا مقنعا غير سافر. ملفعا بالمشاعر والتصورات والظلال. ذائبا في وهج الحس والانفعال. أو موشى بالسباحات والسرحات. . ليس له أن يلج هذا العالم ساكنا باردا مجردا)
ومن هذا الشعر القصيدة التالية المختارة من ديوان (أنفاس محترقة) للشاعر الأستاذ أبو الوفا. . (في انتظار الصباح):
جدد لي الأقداح
…
يا ساقي الراح
على أرى في الراح
…
أطياف أفراحي
في مزهري ألحان
…
أخشى أغنيها
أخشى على الأوتار
…
من هول ما فيها
يا مزهر الأقدار
…
عن بها غنى
واشرح على الأطيار
…
ما غاب من فني
لكل يوم شراب
…
لابد من كأسه
وكل معنى العذاب
…
في لون إحساسه
من ذا يرد الصواب
…
للدهر في ناسه
للغاب يا ابن الغاب
…
اهرب فداك اللواح
تبا لضعف التراب
…
أغرى عليه الرياح
لولاي في ذا الإهاب
…
ما هيض مني الجناح
لا تسألوا يا شهود
…
عن حكمة الأقدار
وأين نحن العبيد
…
مما وراء الستار
ومن تخطى الحدود
…
يلقى به في النار
(النار ذات الوقود)
…
يا رب يا ستار
ربان بحر الوجود
…
أدري بموج البحار
فاستسلموا للوعود
…
وامضوا في التيار
هات اسقني يا صاح
…
كأس الهوى الفضاح
سكران لكني فؤادي
…
مما يعانيه صاح
يا ليل هل من مداو
…
يا ليل. . يشفي جراحي
لم يجد فيك اصطباري
…
وليس يجدي نواحي
يا هل ترى لي صباح
…
أم ليس لي من صباح
هذا الهذيان المطلق الذي لا تربط بينه قافية واحدة ولا فكرة واحدة (إنما تربط تلك النغمة المناسبة. . نغمة الروح الحزين. . العابث. . المتطلع. . الأليف. . الوديع. . روح الفراشة البيضاء والعصفور الراقص المزقزق الصداح). . على حد قول الأستاذ. .
هذا العناء الذي يتكلفه الأستاذ الناقد. . فيريد الشعر بهذا الشكل المشوه الممسوخ. . لا رابط بين مقاطع القصيدة الواحدة. . ولا ولامح من قريب أو بعيد. . فهي أمشاج وتهاويل. . فمن الراح والأقداح إلى النواح وإلى حكمة الأقدار والنار ذات الوقود وإلى ما لا أدري من لغو منظوم لو تجرأ واحد وعرضه على مجلة مهمة كالرسالة مثلا لاتهموه بالجنون. . أقول هذا العناء الذي تكلفه الأستاذ لم يكن له من باعث سوى إظهار بعض الشعراء وفرضه على القراء بغير إنصاف. . وهكذا نرى أن نقادنا اليوم - للأسف - لا ينظرون إلى الشعر وإنما ينظرون إلى الشاعر فيحسبون لهذا ولذاك ألف ألف حساب. .
ثم عن تلك الخواطر المتنافرة والاهتياجات المتدفقة التي نظمها أبو الوفا يقول الأستاذ سيد قطب إنها (ظاهرة فنية) تلد بين الحين والحين وليس النقد الفني عندنا من النضج بحيث يتناولها بالتعهد والرعاية كما يكون لها كيانها الخاص فيما بعد. ولست أطلب من الأستاذ إلا أن يلقي نظرة على أي محاولة فاشلة يقدمها شاعر ناشئ في مطلع حيلته الأدبية والفكرية فسيجدها ولا شك (ظاهرة فنية) فريدة تستحق الإعجاب. .
والآن أقدم شاعراُ (مغموراُ) نشر ديواناُ قبل زمن قصير يحوي ستا وثلاثين قصيدة، وقدم نسخاُ منه إلى دور النقاد ودور الصحف والمجلات في مصر، فلم يلتفت إليه أحد ولم يظهر له اسم. وليس له ذنب سوى إنه من البلدان المتأخرة، من العراق. . . فأما أبو الوفا الذي يقدمه الأستاذ سيد قطب (على الصفحات الأولى من الرسالة) فهو من أرض الكنانة مصر بلد (المتقدمين). .
يقول الأستاذ (شاذل طاقة) في مفتتح ديوانه (المساء الأخير) هذه الكلمات (لله هؤلاء الشعراء. . شياطين عبقر. . فإنهم يألمون مرة ثم يحيون الآم مرة أخرى. . فكأنهم يألمون مرتين) وهذه أصدق وأدق كلمة تقدم ديواناُ من الشعر ثم هذه بضع من قصائده. . وليتفضل فيقارنها من يشاء بالنماذج التي أوردها الناقد الكبير سيد قطب من شعر أبى الوفا في مقاله. . وليقل بعدئذ من يشاء بأنني أتهم سيد قطب وسواه من النقاد في مصر بالمحاذاة كذباُ وافتراء. . .
هذه إحدى قصائد الأستاذ الشاعر (شاذل طاقة) وعنوانها (ظمأ). . وهي تصوير رائع للظمأ السرمدي الذي يحسه الإنسان في أعماقه إلى الجمال. .
أذوب قلبي أم أصون لساني
…
وأعذل نفسي أم أذم زماني
لك الله يا دنيا فلا حسنك انتهى
…
ولا القلب من أشواقه بأمان
ولا أنا عن بث اللواعج منته
…
ولا لك في وقف العذاب يدان
أناديك مبحوح النداء وأنثنني
…
أنوء بما قاسيته وأعاني
طبعت على عشق الجمال فلا أرى
…
مع الحسن إلا دائم الهيماني
أحوم كما حام الفراش على اللظى
…
وأقضي ولا أنفك عن حوماني
أموت وفي نفسي من الحب غلة
…
أبت ريها الأيام في ريعانه
وأمضي إلى ربي أبث شكايتي
…
وطى الحشا ناراُ تذيب جناني
أعتقد أني في غنى عن تحليل هذه الأبيات العالية الرائعة فهي تصور وضع الإنسان بين الحسان في هذه الحياة ولوعته الدائمة وتعطشه الأبدي، وعدم استقراره. . ومن ثم حيرته وشكاته. . .
وأمضي إلى ربي أبث شكايتي
…
وطي الحشا ناراُ تذيب جناني
ثم يلاحظ في هذه القصيدة أنها متماسكة المبنى والمعنى، مترابطة الأوصال، ذات وحدة فنية تشد القارئ إليها شداُ. . فليس فيها من التفسخ المعنوي والاضطراب الفكري والضعف البياني شئ وهذه قصيدة أخرى بعنوان (توبة). . بل هذه قصة الإنسان المخطئ حين يؤوب مثقلاُ بذنوبه إلى الله مستغفراُ. . .
يقدمها الشاعر ناظمها بهذه الكلمات (لا يفزع الإنسان إلى ربه إلا حين يخطئ فسبحانه ما أعجب خليقته. .). . ولننقل الأبيات الأخيرة منها اقتصاداُ للوقت. . .
أنوء بكل الخطايا التي
…
تذوب نيرانه الجلمدا
فرحماك يا بارئ الخاطئين
…
أتيت إليك خفوت الندا
ويا رب ها أنا ذا تائب
…
ونفسي وروحي وقلبي الفدا
أجرر ذيل الذنوب الكبار
…
وأسري وملء الطريق مدى
أصارع بالحب ما آدني
…
وأدفع بالشعر ما نكدا
وأرنو إلى مقبل من بعيد
…
وأكح عيني بومض الهدى
ولننتقل إلى مجال آخر. . فنستمع إلى شاعرنا بعد ضياع (فلسطين). . في أبيات من قصيدة طويلة. .
فلا تقرب الوادي فها هو موحش
…
ولا تسأل الأحجار. . أخرسها الرعب
ولا تطلب ذكرى لعهد تفرقت
…
أماسيه ما بين النوائب والنجب
نزلت على الوادي فلا الزهر يانع
…
ولا حضر السمار. . والسمر العذب
بل الشمس قتماء وفي الأفق وحشة
…
والبدر إطراق ودون المنى حجب
هي النائبات السود أظلم وجهها
…
وكانت ذكاء لا يحس لها غرب
ففي جانب الوادي وفي منحنى الحمى
…
نفوس تولتها المصائب. . والكرب
لحى الله خطباُ قد ألم فروعت
…
مطالعه زغب الحواصل لم يحبوا
هذا وفي الديوان قصائد ممتازة لا وقت لدينا ولا لدى القارئ لاستماعها جميعاُ. . وعسى الله أن يهدي النقاد عندنا فيعملوا من أجل الشعر والأدب، لا من أجل الشعراء والأدباء
دهوك
سامي أمين
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
الواقعية الفنية:
هناك نوع من الأدباء يحيرني إذا ما حاولت أن أتحدث عنه: هل أصفه بأنه لا يجيد القراءة، أم أصفه بأنه لا يحسن الفهم، أم أصفه بأنه يجهل أصول التفكير وطرائق التعبير؟ إذا أطلقت عليه كل هذه النعوت فاعذرني. . لأنه يحيرني! ولست والله غالياُ إذا قلت لك أن هذا النوع من الأدباء يستطيع أن ينطقك بما لم تفه به، وأن ينسب إليك ما لم تهدف إليه، وأن يناقشك بعد هذا كله في الموضوع طبقاُ لمزاجه هو لا طبقاُ لمزاجك، ورفقاُ لهواه هو لا ورفقاُ لهواك، ولا بأس عليه أبداُ من أن تغفر فاك من الدهشة ما دام هو قد فغر فاه ليتثاءب، منتظراُ أن تقول له محيياُ بعد نشوة السبات العميق. . صح النوم وطابت الأحلام يا صاحب المزاج الرقيق!
من هذا النوع من الأدباء ذلك الأديب العراقي الذي كتب عن (الواقعية الفنية) في العدد (948) من الرسالة، معقباُ على رأي لي كنت قد سجلته حول هذه الواقعية منذ أسابيع. . لقد ذكرني الأديب العراقي وهو يعقب على أفكاره لم تخطر لي على بال، ذكرني بقصة ذلك الزعيم المصري الذي قيل له أن أجر العامل قد بلغ في اليوم جنيهاُ في السويد، فهتف وهو لا يملك شعوره من دفقة البهجة ولا لسانه من غلبة السرور: عظيم!. . عظيم جداً!. . عظيم والله أن يحصل العامل على مثل هذا الأجر في السويس!
لا فرق أبداً بين فهم هذا النوع من الأدباء وبين فهم هذا الزعيم (الفهيم). . تتحدث عن السويد فيحسبونها السويس، وعن الأسكندرونة فيتوهمونها الإسكندرية، وعن النيل فيتخيلونه الدردنيل! ثم لا يقفون عند هذا الحد من الغفلة ولا يقنعون بهذا الحظ من الذهول، ولكنهم يجدون الجرأة العجيبة على التهجم عليك مفترضين أنهم على حق وإنك على الباطل، ولا يتحرج منطق الغافلين والذاهلين من أن يقدم إليك الدليل!
يقول الأديب العراقي الذي يمثل هذا المنطق أو يمثل ذلك النوع من الأدباء. . (ويحضرني الآن رأي الأستاذ المعداوي في العدد (939) من الرسالة إذ قال: الواقعية ضربان، واقعية أولى ويكون فيها نموذج الشخصية موجوداُ (بالفعل) في الحياة، والواقعية الثانية، ويكون
نموذج الشخصية موجوداُ (بالإمكان) ولم يقف الأستاذ المعداوي عند هذا الحد، إنما ذهب إلى تعريف الواقعية الأولى فقال:(هي نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء، كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه العين وتألفه النفس)، ولو وقف الأستاذ عند قوله:(إنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء) لهان الخطب وما جعل ذلك النقل مقيداً (بما تلمسه العين وتألفه النفس)، كما أنه لو احترس الأستاذ في قوله وقال:(إنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه عين الفنان وتألفه نفسه) بدلا من إطلاق (العين والنفس) التي تدعو إلى جعل الفن ضرباً من ضروب العبث، كما يجعل - هذا الإطلاق نفسه - الفنان والرجل العادي في كفه متساويه من حيث الإحساس، أقول لو قال الأستاذ (عين الفنان ونفسه) لسهل الأمر وما دعانا إلى الولوج في دهاليز الظلمة والجهل، وهو يقصد الإيضاح والإعلام)!
أرأيت إلى هذا الفهم العظيم الذي يذكرك بقصة السويد والسويس، والإسكندرية والإسطندرية، والنيل والدردنيل؟!
أرأيت إلى هذه اللغة الفينيقية التي لا يستخدمها غير (الأساتذة) الراسخين في العلم، المتضلعين من الفن، والمتمكنين من مناهج التفكير! لقد أتهمني الأديب العراقي بأنني أدعو إلى جعل الفن ضرباً من ضروب العبث، وأدفع بالقراء إلى دهاليز الظلمة والجهل بدلاً من دهاليز الإيضاح والإعلام!! ألا ترى أنه فهم عظيم. . على طريقة ذلك الزعيم الفهيم؟! لقد قلت عن (الواقعية الأولى) أنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء، كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه العين وتألفه النفس. . قلت هذا فتوهم الأديب العرفي أن كلمة (النقل المباشر) معناها (النقل الفوتوغرافي) كما نص على ذلك في موضع آخر من مقالة! وتخيل أن (العين) التي أقصدها هي عين بائع الفجل والبصل والخيار، وأن (النفس) التي أعنيها هي نفس بائع اللب والحمص والفول السوداني!! تصوروا يا قراء الرسالة كيف يدعو المعداوي إلى جعل الفن ضرباً من ضروب العبث، وكيف يدفع بالقراء إلى دهاليز الظلمة والجهل العميق؟! معذرة إذا تصورتم هذا كله مادام الفهم (العابث) الذي يتمتع به الأديب العراقي قد أظهرني أمامكم على هذه الصورة العزيزة المنال والفريدة المثال، ومعذرة مرة أخرى إذا ما كان في الأدباء مثل تلك النماذج العقلية التي تعيد علينا قصة
السويد والسويس، أو قصة الإسكندرية والإسكندرية، أو قصة النيل والدردنيل!!
النقل المباشر لصور الحياة؟ من يصدق أنني كنت أرمي لهذا المعنى وأهدف نحو هذا التفسير؟! عيب هذا النوع من الأدباء أنه يقف عند المعنى المادي للكلمة ولا يكاد يتعداه، ويدور حول الهيكل العظمي للفظ ولا يكاد يتخطاه، مثله في ذلك مثل ذلك النوع من القادة والحاكمين، أولئك الذين يتوهمون أن كل حديث عن العدالة الاجتماعية ضرب من اعتناق الشيوعية!! إنني عندما أقول عن (الواقعية الأولى) إنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء، فإنما أعني النقل الأمين، النقل الصادق، النقل الواعي، النقل الذي لا يجوز فيه الوهم على الحقيقة ولا يطغى الخيال على الواقع! هذا هو النقل الذي أعنيه، النقل الذي يجعل الفن يتصل بالحيات اتصالا مباشراً، وثيقا دقيقا، ليعكس على مشاعرنا كل مافيها من نبض وخفوق، النقل الذي قلت عنه يوما على صفحات الرسالة وأنا أتحدث عن بعض الأعمال الفنية للأستاذ توفيق الحكيم:(إنك عندما تقرأ أعمال الحكيم الأولى التي سجلها ليصور بها تلك البيئات التي عاش فيها بالجسم والفكر والروح والحواس تلمس أن الحياة كانت تتنفس تنفسا عميقا في فنه، وأن عدسة القصاص قد بلغت من دقة اللقطات مالا يتهيأ إلا لكل فنان مفتوح العينين والقلب والذهن، اقرأ مثلا (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) تحس أن الحياة فيهما تكاد تنتفض بين يديك وتتحرك أمام ناظريك؛ تنتفض بمواكب لا تحصى من الصور النفسية والنماذج البشرية! لقد كانت العدسة البارعة تنتقل من الشوارع إلى الأزقة، من المدينة إلى القرية، من القصر إلى الكوخ: ترقب، وتتأمل وتسجل. . وإذا حرارة التعبير قد ارتفعت لتلفح إحساسك على الورق، وإذا لمحة الخاطر قد استحالت فكرة في ثنايا العرض وإذا ركب الأحياء قد انتقل في حركة نابضة إلى السطور والكلمات!
لقد كان توفيق الحكيم يعب الحيات عبا أن صح هذا التعبير، ويوم أن كان يطل على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينيه، كان يطل من نافذة مفتوحة، هي نافذة الحواس المتحفزة لالتقاط كل ما تقع عليه من صور في دقة ووعي وانتباه، وهذه هي الفترات (المستيقظة) في فن توفيق الحكيم. فترات مستيقظة نلقت عن كتاب الحياة سطورا فيها عمق وروح، فإذا (عودة الروح) و (يومياتنائب في الأرياف) نسختان أمينتان تغمض عينيك بعد الفراغ منهما
لتبدأ الحياة سيرها في دروب النفس ومسارب الشعور، ولا بأس من أن تغمض عينيك فان الصور قد انطبعت على صفحة الفكر والخيال!)
هذه الكلمات التي كتبتها يوما عن فن توفيق الحكيم في أمسه الغابر، هي التصوير الصادق (للواقعية الأولى) التي قلت عنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء. . ترى هل تفهم منها أنني أعني (النقل الفوتوغرافي) كما اجترأ الأديب العراقي وألصق بي هذا الاتهام؟! إنني يوم أن كتبت عن (الواقعية الأولى) وقلت عنها ما قلت، لم أشأ أن أكتب (مذكرة تفسيرية) لكلمة (النقل المباشر) كما يفعل رجال القانون، لأن مقالاتي السابقة حول هذا المعنى على صفحات الرسالة كانت تعفيني من الشرح وتغنى القراء عن التفسير! ترى هل يحتاج الأديب العراقي إلى نموذج آخر مما كتبته من قبل في هذا المجال؟ لا بأس من تقديم هذا النموذج الآخر على سبيل المثال:
لقد كتب إلي يوماً أديب من حضرموت ليعرض على موضوع قصة أخرجها أحد الأدباء هناك، كتب يقول في ختام كلمته (هذه صورة تقريبية لفصول القصة، وحيث تنتهي تبدأ قضية النزاع والاختلاف، فيرى البعض أن تتلاحق فصول القصة كمأساة حتى الشوطالأخير، بينما يرى البعض الآخر ومنهم المؤلف أن الله وهو أعدل العادلين لن يجعل لمثل هذه (المأساة) صورة ما، في عالم تجري حوادثه على قوانين طبيعية عادلة. . هذه هي نقطة الخلاف عرضناها عليكم بكل أمانة راجين أن ترشدونا برأيكم)!
وقلت معقباً على القضية المعروضة علي في انتظار الجواب (أود أن أقول للأدب الحضرمي إن هذا الجدل الذي دار بين جماعة من أصدقائه جدل غريب. ومصدر الغرابة فيه أصحاب الرأي الأول يريدون أن يطبعوا موضوع القصة بطباع المأساة، وأن أصحاب الرأي الأول يريدون أن يطبعوا موضوع القصة بطباع المأساة، وأن أصحاب الرأي الثاني يريدون أن يخضعوا الموضوع لعدالة الله. . وكلا الرأيين بعيد عن جوهر الفن القصصي لأنه يمثل منطق القائلين به أكثر مما يمثل منطق الوقائع الطبيعية!
جوهر الفن هو أن نستوحي الحياة وحدها عندما نريد أن نخلق عملا من الأعمال الفنية، والقصة كعمل من هذه الأعمال لابد أن تخضع لمجرى الحياة في صورتها الواقعية التي لا تنكرها العين ولا يرفضها العقل، فالحياة التي صورتها الواقعية التي لا تنكرها العين ولا
يرفها العقل، فالحياة التي ترفرف عليها عدالة الله فيها الخير وفيها الشر، وفيها الفضيلة وفيها الرذيلة، وفيها السعادة وفيها الشقاء، وفيها ما شئت من ألوان المفارقات وضروب المتناقضات، فإذا صورنا الحياة تصويراً صادقاً فمن الطبيعي أن نقبل المأساة المستمدة من واقعها كما نقبل الملهاة، على شرط أن تكون عرضنا لهذه وتلك مسايراً لمنطق الحوادث المألوفة ومطابقاً لطبيعة الأمور كما يألفها الأحياء!
خذ موضوع القصة من هذا الوجود المتحرك أمام ناظريك ثم اخلع عليها بعد ذلك من ألوان الفن ما يبعد عنها صفة الجمود الذي لا يتفق مع الحركة، ونزعة الخيال الذي لا يلتقي مع الواقع ولا مبرر بعد ذلك لأن تفرض على موضوع القصة أن يسير في هذا الطريق دون ذاك! إن الحياة هي التي ترسم خط السير، وتقرر غرض الاتجاه، وتحدد طبيعة الموضوع. . أعني أننا يجب أن نقتفي أثر الحياة في كل خطوة من الخطوات. . وكل نقلة من النقلات. . ثم نسجل ما شاهدناه كما يحدث في الواقع المشهود أو كما يحدث في الواقع الذي يمكن أن يكون. فإذا كان مجرى الحوادث في القصة لا يضيق بشبح المأساة فلا ضير من توجيه دفتها نحو هذا الذي نبتغيه، فإذا ضاق بها فلا حاجة بنا إلى تحمل الحياة فوق ما يمكن أن تطيق)!
أرأيت مرة أخرى إلى حقيقة النقل المباشر الذي أعنيه؟ لقد عمدت إلى نقل هذا النموذج الآخر بالذات لأرد به على فقرة أوردها الأدب العراقي في مقالة ليضفي على من علمه الغزير! قال حضرته وهو يحاول أن يفهمني حقيقة الواقعية الفنية بكلمات سبقته بمثلها منذ عامين: (والواقعية الفنية لا تبعدنا عن حياتنا - كما يظن - بل هي الواقع المحس قد داعبته أنامل الفنان، وقد يرسم الفنان - الشاعر أو القصاص - صوراً ماثلة في الواقع، واقعية حقاً، وقد لا تكون كذلك. . كما يلزمنا أن تكون تلك الصورة المنقولة سامية حسنة جميلة، بل كل ما يطلبه الفن نقل الصورة نقلا فنياً، وكل ما يطلبه الواقع نقلها بأمانة!)
أليست كلماته التي وضعت تحتها الخطوط هي من حيث المعنى نفس كلماتي التي وضعت تحتها مثلتلك الخطوط؟! يا عجباً. . لقد كتبت تلك الكلمات منذ عامين ثم جاء الأديب العراقي فكتب مثلها منذ أسبوعين، ومع ذلك يتهمني بأنني أنظر إلى الواقعية الفنية على أنها النقل الفوتغرافي. . ويحاول أن يلقي على بعض الدروس!! هذا عن (الواقعية الأولى)
أو الواقعية الفنية، واذا كان الأديب العراقي قد نسب ألي في موضع آخر من مقاله أنني أقصد بالنقل المباشر لصور الحياة ذلك (التقليد الأعمى) للطبيعة كما ذهب إلى ذلك أفلاطون، فأنني أود أن ألفت نظره إلى أن (الفهم الأعمى) وحده هو أوحى أليه بان ينسب إلى مثل هذا القول العجيب. . ومرة أخرى أقسم له بمن علمني أصول الفن ومناهجه، أنني حين قلت (الواقع المحس الذي تلمسه العين وتأمله النفس)، كنت أقصد العين والنفس اللتين أنعم بهما الله على القصاص المحلق والأديب المتذوق والناقد الفنان، ولم أكن أقصد أبدا عين بائع الفجل والبصل والخيار، أو نفس اللب والحمص والفول السوداني. . وإذا لم يصدق فلا بأس من أن أنقل أليه الفقرة الأخرى من مقال آخر كتبته أيضا منذ عامين على صفحات الرسالة:
الحياة هي المنبع الأصيل لكل أثر من آثار الفن يترك ظله في النفس وبقاءه على الزمن: في أدب الكاتب، في شعر الشاعر، في لحن الموسيقار، في لوحة الرسام، لتكن الحياة نقمة أو نعمة، لتكن مأساة أو ملهاة، لتكن ألما أو لذة، لتكن دمعة أو ابتسامة. . حسب الفن أن يعبر عن الحياة فيصدق في التعبير، وأن يترجم عن رؤية العين وإحساس القلب فيسمو بالأداء)! هذا الفن الذي يترجم عن رؤية العين وإحساس القلب في هذه العبارة، أليس معناه العمل الذي ينتجه كل فنان؟! وهذا القلب وتلك العين إلى من ينسبان هنا في رأي الذين يفهمون؟ ألا ينسبان إلى ذلك الذي ينتج كل عمل يسلك في عداد الفنون؟! إن الذنب ليس ذنبي كما رأيت، ولكنه ذنب الذين يحسبونها السويس وهي السويد، ويتوهمونها الإسكندرية وهي الاسكندرونة، ويتخيلونه النيل وهو الدردنيل. . وهلم جرا أو هلم جرجرة كما كان يعبر الرافعي رحمه الله!!
هل انتهى العجب؟ كلا! وكيف ينتهي ونحن نتحدث عن الواقعية في القصة فينقلنا الأديب العراقي إلى الواقعية في الشعر، ويأتي لنا بنموذج من شعر (هوسمان) ليتسائل: هنا واقعية. . ولكن هل هي من النقل المباشر الذي تلمسه العين وتألفه النفس؟ لو كان حضرته يعلم أن الواقعية في الشعر غير الواقعية في القصة!!
لما أوقع نفسه في هذه (اللخبطة) الطريفة. . ترى هل يريد أن يعرف الفارق بين الواقعية هنا والواقعية هناك؟ عليه أن رجع إلى هذا المقال وإلى الآخر الذي عقب عليه ليدرك
طبيعة الواقعية القصصية، وعليه أن يرجع مرة أخرى إلى مذهب (الأداء النفسي) على صفحات الرسالة ليفهم حقيقة الواقعية الشعرية، فإذا لم يستطيع أن يلمس هذا الفارق فليكتب إلي لأسمك بالقلم من جديد!!
أنور المعداوي
رسالة النقد
معجم شمس العلوم
طبعة أوربا صفحاتها 346طبع في بريل بليدن 1370 هـ
(1951)
طبعة اليمن صفحاتها 491 (بمطبعة الحلبي بالقاهرة
1370)
للأستاذ أحمد عبد الغفور العطار
بقية ما نشر في العدد الماضي
وفي صفحة 190: (البينك: الأصل) والصواب: البنك. قال الصنعاني في (التكملة)(1): (بنك. أبن دريد. بنك الشيء بالضم خالصة)
وفي صفحة 210: فعل بفتح الفاء (خ) التخ بالخاء معجمة والصواب: فعل، لأن التخ ثلاثي مجرد، و (فعل) مزيد، والمؤلف يريد الفعل الثلاثي لا المزيد، والتخ وزنه: فعل
وفي صفحة 214: (قال عبد الخالق بن أبي الطلح الشرابي) والصواب: الشهابي كما جاء
في الأكليل وصفة جزيرة العرب للهمداني
وفي صفحة 225: (التنفل بضم التاء وفتح الفاء ولد الثعلب والجمع التنافل قال: وارجا سرحان وتدريب تنفل. ويقال تنفل بضمها وتنفل بكسر التاء وفتح الفاء عن الكسائي
والتنقل لم يرد في العربية بهذا المعنى بل لم يرد: التنفل والصواب (التتفل)
جاء في صفحة 81 من الجزء الثالث عشر من لسان العرب: التتفل بالتاء. . وبيت امرئ القيس:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة
…
وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
وقال الأزهري: سمعت غير واحد من الأعراب يرويه يقولون نفل على وزن فعل وأنشده أي بيت امرئ القيس:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة
…
وعارة سرحان وتقريب تفل
ويدل هذا على (التنفل والتنفل والتنفل) خطأ، وكذلك (التنافل) والصواب بالتاء فيهن جميعاُ
وأما (إرجا) فلا معنى لها هنا، وجعلها مقصورة يخل بوزن البيت، وما أدري كيف ينسى الشيخ الجرافي بيتاُ مشهوراُ في معلقة جد مشهور ويخطئ في شطر منه في ثلاثة مواضع؟
1 -
إخلاله بالوزن وذلك بقصر الممدود وجعله (الإرجا)(إرجا)
2 -
تصحيفة: (إرخاء) وذلك بجعلها: (إرجا)
3 -
تتفل بحعلها (تنفل)
أما الخطأ الرابع فابداله (تقريب) بتدريب دون أن يذكر مصدر هذه الرواية، فهو يخطئ في هذا حتى يذكر المصدر
وفي صفحة 225 أيضاُ: (لاتمنعوا آماء الله مساجد الله) والصواب: (إماء) بدون مد
وفي صفحة 235: (تيما: أرض كان بها سموأل)
والصواب: تيماء
وفي صفحة251: (قال أعشى حمدان) وأنا لا أعلم أن ببني حمدان أعشى كان شاعراُ، فهل يدلنا الشيخ الجرافي على أعشى حمدان إذا كان موجوداُ حقاُ؟!
إن الأعشى المقصود هنا أعشى همدان لا حمدان، وما أدري كيف يخطئ الشيخ الجرافي هذا الخطأ الشنيع؟ إنه يمني وأعشى همدان يمني وهمدان في اليمن فكيف يجهل الشيخ ذلك؟ أبمثل هذه السهولة يقضي فخر همدان في الشعر عنها؟!
وفي صفحة 256: (قيل: يعنى الزرقاء. وقيل بنت الحسن وذلك أنها رأت الخ) والصواب:
بنت الخس لا الحسن
وفي الصفحة 29: (إلى بيته يؤتى الحكم) وصحة المثل: في بيته يؤتى الحكم
وأما الشعر الذي استشهد به المؤلف فقد مسخه الشيخ الجرافي وكسر وزنه وحرفه، وها نحن أولاء نقدم للقارئ نماذج من ذلك
جاء في الصفحة 18 من شمس العلوم تحقيق الشيخ الجرافي اليمني:
ضربت صدرها إلي وقالت
…
يا عدي لقد وقتك الأواقي
وهذا البيت مشهور يتداوله تلامذة المدارس فلا يخطئون في قراءته وإعرابه، ولكن الشيخ الجرافي لا يعرف ذلك، وصحة البيت كما روي بالإجماع:
ضربت صدرها إلي وقالت:
…
يا عديا لقد وقتك الأواقي
وفي صفحة 49:
إنى يكون، وليس ذاك بكائن
…
لبنى البنات وراثة ولدي الأعمام
وهذا البيت برواية الجرافي مكسور، ويدرك كسره كل من كان له ذوق، وما ادري من أين زاد في المعجم (ولدي) والصواب حذفه حتى يستقيم الوزن:
أنى يكون - وليس ذاك بكائن -
…
لبنى البنات وراثة الأعمام
وفي صفحة 52:
الناس من جهة التمثيل أكفا
…
أبوهم آدم وألام حواء
وصحته:
الناس من جهة التمثيل أكفاء
…
أبوهم آدم، وألام حواء
وفي صفحة 52 أيضا:
أيها الفاخر جهاراً بالنسب
…
إنما الناس لأم ولأب
وهو مكسور، ولا يستقيم إلا إذا وضعنا (جهراً) مكان (جهاراً)
وفي صفحة 37:
جدنا قيس ونجد دارنا
…
ولنا الأب فيها والكرع
والعجز مكسور، ويستقيم إذا روي كما نظمه الشاعر وهو هكذا:
ولنا الأب بها والمكرع
وفي صفحة 42:
وهل يأتمن ذو أمة وهو طالع
وذلك خطأ، وصوابه:
وهل يأتمن ذو إمة وهو طالع
وفي صفحة 65:
إني سينهى عني وعيدهم
…
بيض رهاب ومجنأ أجد
والبيت يروى هكذا:
إني لينهى الخ
وفي صفحة66:
حلت سليما ساحة القليب
…
بأجلى محلة الغريب
والصواب: محلة
وفي صفحة 90:
وحل الحي حي بني نمير=قراضية ونحن لهم إطار
قراضية: اسم موضع
ولا وجود لقراضية هذه، وصحتها: قراضية كما جاء في المفضليات
وفي صفحة 91:
له أيطلا ظبي وساق نعامة
…
وإرخاء سرحان وتقريب تنفل
والرواية المعروفة (ساقا نعامة) لا ساق نعامة، وكان من اللازم ذكر مصدر رواية الإفراد إذا كانت هناك رواية، وأما تنفل فصحتها تتفل
وفي صفحة 96:
وأبيض صولياً كأن عراره
…
تلألؤ برق في حي تأكلا
والبيت لأوس بن حجر وصحة (حي) حي
وفي صفحة 97:
فخر على الألآءة لم يوسد
…
كأن جبينه سيف صقيل
والبيت هكذا مكسور، ومختل المعنى وصوابه:
فخر على الألاءة الخ
وفي صفحة 113:
ألا تلك سلمى اليوم بت جديدها
…
وضنت وما كان النوال يئدها
كان من الحتم تشكيل (بت) ويئدها خطأ، وصوابها: يؤدها
وفي صفحة 213:
إني أتمم أيساري وأمنحهم مثنى الأيادي
…
وأكسو حفنة الأدما
وكتابة البيت بهذا الشكل خطأ، لأن (مثنى الأيادي) يجب أن يكون في العجز لا الصدر حتى يستقيم الوزن، والحفنة خطأ وصحتها: الجفنة
وفي صفحة 221:
وما كان عن تراث ورثته
…
ولا صدقات من نساء أوايم
والبيت من الطويل، ولكن ينقص من صدره في رواية الجرافي سبب خفيف، وهذا النقص أخل بالوزن وصحته هكذا:
وما كان مالي عن تراث ورثته الخ
وفي صفحة 230:
ولو أنها عرضت لأشمط راهب
…
عبد الإله ضرورة متبتل
يجب في صدر هذا البيت وصل همزة القطع من (أنها) حتى لا ينكسر البيت، ويكون هكذا (ولو إنها) الخ
وأما (ضرورة) فخطأ والصواب: صرورة
وفي صفحة 243:
باتت تلوم على ثادق
…
ليشرى فقد جد عصيانها
والبيت من المتقارب، ووزنه:
فعولن فعولن فعولن فعولن=فعولن فعولن فعولن فعولن
ويلحقه بعض الزحافات، إلا أن فعولن لا تصير (عولن) ولهذا فالبيت كما رواه الشيخ الجرافي في (الشمس) خطأ، ويجب أن يكون هكذا:
وباتت تلوم على ثادق الخ
وفي صفحة 257:
ألا ليت أمي لم تلدني ولم أكن
…
عشية حزا السيف رأس بن تامر
وصواب (حزا) حز
وفي صفحة257 أيضاُ:
يا رب بيضاء على حقير
…
يجيبها نصخ من التعبير
والصواب:
يا رب بيضاء على حفير
…
يجيبها نضح من العبير
وحفير اسم موضع
وفي صفحة 274:
ورسم دار وقفت في طلله
…
كدت أقضي الحياة من جلله
والواو زائدة في (ورسم) ويجب حذفها حتى يستقيم الوزن. وجاء في لسان العرب ج13 ص127:
ورسم دار وقفت في طلله
…
كدت أقضي الغداة من جلله
وفي صفحة 278:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
…
بمكة حولي إذخر وجليل
والرواية المشهورة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
…
بواد وحولي إذخر وجليل
ويروى لسان العرب في صفحة 127 من الجزء الثالث عشر البيت هكذا:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
…
بفج وحولي إذخر وجليل
وفي صفحة 278 أيضاُ:
رعت بأرض البهي جميما وبسره
…
وصمعاء حتى آنفتها نصالها
والبيت كما رواه الشيخ الجرافي غير صحيح. . لأن (البهي) - هنا - لا معنى له وصحته: البهمي جاء في اللسان ج8 ص385: الأصمعي: البهمي أول ما يبدو منها البارض فإذا تحرك قليلا فهو جميم) وفي صفحة279: كعقيلة اللأوحي بات يحفها
والشطر هكذا مكسور ولا معنى له وصحته:
كعقيلة الأدحي بات يحفها
وفي صفحة 88:
نفى اللوم عن آل المحلق جفنه
…
كجابية الشيخ العراقي تفهق
و (جفنه) خطأ والصحيح: جفنة وفي صفحة274 (قالت نادبة الأحنف بن قيس:
لله درك من مجن في جنن
…
ومدرج في كفن
وهذه الكلمة ليست شعرا، ولكن الشيخ الجرافي لا يعرف العروض، وهذا ما حمله على أن يرتب الكلمة ترتيب الشعر.
هذه (عينات) من خطأ الشيخ الجرافي في فهم النظم وتصحيحه وروايه، ومعظم الشعر في الكتاب كله مختل ومحرف ومسيخ، ولسنا في مقام الإحصاء حتى نستقصي شواهد
(الشمس) الشعرية، ولكننا نقدم (عينات) ليعلم القارئ أن طبعة شمس العلوم اليمنية رديئة جد رديئة، ولا يعتمد عليها ولا يوثق بها والآيات القرآنية نفسها لم تنج من التحريف والتشويه، وهاهي ذي بعض الآيات أذكرها للقارئ الكريم ليعلم أن الشيخ الجرافي لم يعن ألبتة بمعجم شمس العلوم ولم يحققه أو يصححه ومن هذه (العينات) ما جاء بصفحة 97:(فبآي آلاء ربكما تكذبان) وصحت كتابتها: فبآي الخ وفي صفحه 103: (إن خير من استأجرت القوي الأمين) يظن الشيخ الجرافي أن (القوي) مفعول استأجرت وفاته أنه خبر إن، وكان يجب أن تكون (القوي) وفي صفحة 165:(ولا يستوي الأعمى والبصير) وصوابها: وما والآية في صورة فاطر وفي صفحة 212: (تبت يدا أبي لهب وتب) ورسم (تب) يجب أن يكون هكذا: (تب) وسكون الوقف ينطق به ولا يكتب
وفي صفحة 216: وقرأ نافع (وأن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم) وقراءة نافع بكسر الباء، بل بفتحها مع تخفيف التاء. (يتبعوكم) وفي صفحة 88:(الجبار المتكبر) ويجب عدم إسكان الراء من (المتكبر) في الرسم وإن سكنت في النطق حتى ترقيم الصفحات لم يسلم من الخطأ فصفحة 224 أصبح رقمها 244
هذا بعض ما عنت لي كتابة عن الجزء الأول من شمس العلوم طبعة اليمن. وليعذرني القارئ إذا لم أذكر في نقدي المراجع لبعدها عني، ولكنى مع ذلك أعتقد أن ما ذكرته حق يوافق ما في تلك المراجع. وليعذرني القارئ مرة أخرى إذا رأى في بعض السطور (انفعالا) شديداُ فإن رد ذلك إلى الإخلاص للعلم واللغة
وما مبعث ألمي إلا الخسارة التي يتحملها اليمن. واشد ما يؤلمني أن يبذل هذا القطر العربي المحتاج آلاف الجنيهات لطبع (شمس العلوم) رغبة منه في نشر العلم وخدمة لغة القرآن، ومع هذا السخاء في الإنفاق والاحتمال فوق الطاقة لا نجده جهداً علمياً مبذولاً في التحقيق والنشر يكون كفاء تلك الآلاف الضائعة سدى
ولو أضاف اليمن ألفا وألفين من الجنيهات إلى الآلاف التي وقفها للطبع والنشر ودفع ذلك إلى بعض المحققين الممتازين أمثال: عبد السلام هرون أو أحمد شاكر أو أحمد صقر أو أحمد أمين لكان هذا المعجم (شمسا) مشرقة ساطعة لا (شمسا) كاسفة في المحاق
وأرجو من حكومة اليمن أن تتلف الجزء المطبوع من الشمس حرصا على كرامة اللغة
العربية وصونا لسمعتها وحفظا لأقلام الكتاب وألسنتهم من أن يتدسس إليها بعض تلك الأغلاط، وبشيع اللحن أكثر مما هو شائع
أحمد عبد الغفور عطار
القاهرة - مكة المكرمة
البريد الأدبي
حول الإجهاز والتجهيز:
أنكر الأديب محمد الدسوقي بالعدد الأخير من الرسالة استعمال كلمة التجهيز بمعنى القتل، ونقل نصا من مختار الصحاح يدل على أن كلمة الإجهاز هي المستعملة في هذا المعنى، وكنت أود أن يمد الناقد يده إلى المصباح المنير فيقرأ منه هذه العبارة: ج1 ص156
(وجهزت على الجريح من باب نفع، وأجهزت إجهازا إذا أتممت عليه وأسرعت قتله، وجهزت بالتثقيل للتكثير والمبالغة)
وإذن فالكلمة صحيحة، وقد كتبتها في مقالي عن قصد، لتؤدي ما أريده المبالغة والتكثير، وللناقد شكري وتحيتي.
محمد رجب البيومي
الكفر الجديد
تحقيق الحكمة:
لي صديق ماكر يعشق الأدب ويجيده جاء يعارضني بقوله:
صح عندي قول (شر الأمور الوسط) بعد أن قرأت مقالة ذلك الكاتب الكبير. فقلت له: لقد خالفت المعقول والمنقول باتجاهك عكس الحكمة الخالدة (خير الأمور الوسط) وإليك كلمات قصار تزلزل صرح هذا المقال
الوسط حقيقة في البعد بين الطرفين، ولاشك أن الإفراط والتفريط ذميمان - فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيدا عن الطرفين فكان معتدلاً فاضلا. وإنما سمي العدل وسطا لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين. وقد روى البيهقي حديث خبر الأمور الوسط، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أوسط قريش نسبا. وقال عليه السلام (عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع أليه العالي ويرتفع أليه التالي) وقال زهير:
هم الوسط يرضي الأنام بحكمهم
…
إذا نزلت إحدى الليالي العظائم
ثم إن كل شيء في الحياة خيره وكماله في الوسط، فالشجاعة الفضيلة وهي وسط بين التهور والجبن، والحلم وسط بين البطش والضعف، والحياء وسط بين الوقاحة والخنوثة،
والسخاء وسط بين التبذير والتقتير
وقد مدح الله التوسط في المعيشة بقوله (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) أي وسطا، والتوسط في المأكل والمشرب من الأمور التي تجلب السعادة للإنسان في حياته!
وقد ندب الشرع إلي التوسط في العبادة فقال عليه السلام (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا) وقال تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم. . .)
فالتوسط في جميع الأحوال هو الراحة التامة بل الكمال في الاعتدال.
محمد منصور خضر
شطانوف
منطق المدنية:
يعيب أهل المدن على القرويون سيرهم في الطرقات حفاة. . وهم يحملون نعالهم بأيديهم. . إبقاء على جدتها!. .
وها نحن أولاء نشهد في أرقا أحياء العاصمة الكثيرين من رجال الأعمال، من مختلف الجاليات، يسيرون وقد حملوا (الجاكيت) على ذراعهم. . تخلصا من الحر. . وكأني بهم يريدون أن يؤكدوا بذلك للمجتمع انهم لم يخلعوا (الجاكيت) عجزا من إفتنائه. . بل تجنبا للحر والعرق. . بينما سارت نسائهم شبه عاريات!. .
لا تعيبوا أذن - يا أهل المدينة - على القرويون سيرهم حفاة فمنظر الحفاة أكرم من منظر العراة!. .
وقبل أن تسجلوا على الناس المآخذ سجلوا على أنفسكم انتم يا أهل المدينة. . العريقين في الحضارة!. .
عيسى متولي
بنك مصر - القاهرة
القصص
السترة القديمة
للكاتب الفرنسي فرانسو كوبيه
للأستاذ حسن فتحي خليل
حينما كنت أشغل وظيفة كتابية بوزارة الحربية، كان لي زميل في نفس حجرتي يدعى جان فيدال، وهو ضابط سابق فقد ذراعه اليسرى في الحملة الإيطالية، ولكنه كان يمكنه الاكتفاء بيده اليمنى للقيام بأعمال مدهشة
كان شخصاُ وديعاُ ونموذجاُ للجندي الطيب، ومع إنه كان لا يتعدى الأربعين من عمره، إلا انه من العسير أن تميز شعرة بيضاء في لحيته ومع هذا اعتدنا أن نطلق عليه (الأب فيدال) احتراماُ له، لأننا كنا نعلم الكثير عن حياته الباسلة في مسكنه المتواضع في حي جرينبل، فقد ضم أخته أليه للإقامة معه فجاءت يتبعها طابور من الأطفال، وكان دخله يتكون من معاشه ومرتبه. وجملته ثلاثة آلاف فرنك يعيش عليها خمسة أشخاص، ولكنه بالرغم من هذه الأعباء نظيف الملبس فسترته نظيفة، وقد شبك ذراعه اليسرى الفارغة بدبوس
وكنت اسكن حينئذ أحد أحياء جنوب باريس، فكنت أصحبه دائماُ في طريقه إلى المنزل كما كنت أستشيره دائماُ ونحن في طريقنا ليحدثني عن حياته العسكرية السابقة، وكنا نمر في طريقنا بالقرب من المدرسة الحربية فتواجهنا تلك السترات الرسمية المختلفة الألوان - وكنا في آخر أيام الإمبراطورية - الثانية التي يلبسها رجال الحرس الإمبراطوري ورجال الهوسار بملابسهم الخضراء، والخيالة بملابسهم البيضاء والمدفعية بملابسهم الموشاة بالقصب التي تستحق حقاُ أن يقاتل لابسوها من اجلها حتى الموت
وكنت أدعو زميلي في أمسيات الصيف لتناول كأسين من الأبسنت، ونجلس في المقهى حوالي نصف الساعة، وحينما تأخذه النشوة منذ تلك الكأس التي انقطع عن شربها منذ أن أصبح رب عائلة يبدو رجلاُ مرحاُ، وحينئذ أتوقع أن أسمع منه قصة عن الحرب نقطع بها بقية الطريق
وذات مساء، وكان قد تناول كأسين من الشراب، وقف فجأة أمام إحدى الحوانيت التي تباع فيها الملابس القديمة في شارع جرينبل، كان حانوتاُ قذراُ يعرض سترات قديمة لبعض الضباط لوثتها الأمطار، وأحالت أشعة الشمس ألوانها، وبعض الزراير والمسدسات العتيقة، فأمسك فيدال بذراعي بيده الوحيدة ثم إشارة بطرف ذراعه المقطوعة إلى إحدى هذه السترات. كانت لضابط برتبة كابتن، ثم قال (انظر. . هذه هي السترة الرسمية عليها علامة الفرقة التي كنت أخدم بها) وتقدم ليرى الرقم المحفور على الأزرار فقال:(يا إلهي إنها نفس فرقتي. .)
وفجأة ارتعشت شفتاه وشحب وجهه وقال في صوت فزع. .
(يالهي. . لربما كانت سترته هو!) وأمسك بالسترة يقلبها بين يديه، فلاحظ ثقباُ مستديراُ في منتصف الظهر. . ثقب رصاصة، وحوله بقعة سوداء لعلها آثار دم، وكان ذلك الثقب يثير الفزع والشفقة، وكأنه جرح حقيقي، ولمحت في وجه فيدال أن هناك قصة وراء هذه السترة، فقلت له ونحن نتابع سيرنا لأدفعه حتى يحدثني بها:
- (إن ضباط فرقتك لا يجرحون من الخلف. . أليس كذلك؟)
ولكنه لم يسمعني. . كان يهمهم ببعض الكلمات قائلا: - (كيف وصلت إلى هنا؟ إنها لمسافة طويلة من ميدان الحرب في ميلينينانو إلى شارع جرينبل. . . أنا أعرف أن هناك يسلبون الموتى ملابسهم في الميدان، ولكن من الغريب حقاُ أن تصل هذه السترة إلى ذلك الحانوت الذي لا يبعد عن المدرسة الحربية سوى مائة خطوة فحسب حيث تعسكر فرقته، ولعله مر بها وعرفها وكأنها ميت عاد إلى الحياة)
ولقد أثار ذلك اهتمامي حتى إني أمسكت بذراعه وقلت (اسمع يا فيدال) لا تتكلم هكذا فأنا لا أفهمك. . ولكن حدثني بالقصة كاملة. . بماذا ذكرتك هذه السترة؟)
وكنت أشك إنه سيتكلم فقد فحصني بنظرة كلها شك. . بل خوف، ولكن يخيل لي إنه اتخذ قرارا هاما فإذا يبدأ قائلا:
(حسنا سأحدثك بالقصة فأنت رجل أمين وشاب مثقف، وأعتقد في صدق حكمك، وحينما أنتهي من سرد قصتي أرجو أن تصارحني عما إذا كنت قد تصرفت تصرفا حكيما
والآن. . من أين أبدأ؟ آه نعم. . أولا لا يمكن أن أذكر اسم ذلك الرجل لأنه ما زال حيا،
ولكنني سأطلق عليه الاسم الذي اشتهر به في الفرقة. كنا ندعوه (الظمأ) وكان ذلك الاسم يلائمه تماما لأنه كان لا يبرح (الكانتين) أبداُ وكان في مقدوره احتساء اثنتي عشر كأساُ حتى ينتصف الليل
كان شاويشاُ في فرقتي وكنا نعمل في مؤخرة الجيش، ومع أنه كان سكيراُ ولصاُ ومحبا للشجار إلا انه كان شجاعا كالأسد، له عينان زرقاوان باردتان كالصلب في وجهه لوحته الشمس ولحية حمراء. ولقد صرح له مرة بإجازة ثلاثة أيام قضاها في الأحياء الساقطة في الجزائر مع ستة من المجرمين على شاكلته فأعيد إلى الثكنات مشجوج الرأس بعد أن تشاجر مع بعض الجنود في منزل امرأة ساقطة. وأفاق بعدها فحكم عليه بالسجن أسبوعين، وخفضت رتبته، وكانت هذه المرة الثانية التي يجازى فيها بذلك الجزاء. ولقد كان من عائلة محترمة كما كانت ثقافته طيبة، ولو كان حسن السلوك لحظي بترقيات متوالية. ولكنه بعد مضى ثمانية عشر شهرا استعاد رتبته بفضل رئيسه الكابتن الذي قدر رباط جأشه تحت وابل النيران في الجزائر.
ولكن حدث أن نقل الكابتن الذكور وحل محله آخر كورسيكي في الثانية والعشرين من عمره واسمه جنتيل وهو شاب طموح وضابط نشيط، ولكنه يقسو في معاملة جنده، فهو يجازيك بالسجن أسبوعا إذا رأى زرارا مفقودا من سترتك، أو لاحظ بعض الصدأ على بندقيتك. هذا فضلا على إنه لم يخدم في الجزائر من قبل فلم يكن يسمح بذلك التراخي في النظام الذي تعودناه هناك حتى اعتبرناه حقا من حقوقنا.
ولأول وهلة نشأ شعور من عدم الاستلطاف بين الكابتن جنتيل وزميلنا (الظمأ) وكان جزاء أول ذنب يرتكبه الشاويش لعدم استجابته لما يطلب منه أن حكم عليه بالسجن أسبوعا. وبينما فاجأه ثملا مرة ثانية حكم عليه بالسجن لمدة أسبوعين. وقد قال الكابتن وهو يدينه:
- سأرى إن كنت ستتأدب!!
فلم يجيبه الظمأ بل سار بهدوء إلى زنزانته، ولعل الكابتن كان سيغير اعتقاده لو رأى الغضب المرتسم في عيني (الظمأ) الزرقاوين الصلبتين
وحدث بعد ذلك أن أعلن الإمبراطور الحرب على النمسا فنقلنا بحرا إلى إيطاليا، ولن أحدثك عن الحملة بل سأتابع قصتي. ففي بداية المعركة معركة (ملنيانو) التي فقدت فيها
ذراعي عسكرت فرقتنا في قرية صغيرة. وقد ألقى علينا الكابتن خطابا قصيرا قبل أن يصرفنا وهو يذكرنا بأننا نقيم في بلاد صديقة، وإنه يجب أن نعامل الناس معاملة طيبة، وأن كل جندي يؤذي أحدا من السكان سيكون جزاؤه قاسيا
وكان (الظمأ) يرتكن حينئذ على بندقيته بجانبي، وكان ثملا بعض الشيء، فهز كتفيه ولم يره الكابتن لحسن الحظ.
ولقد استيقظت منزعجا في منتصف الليل وأسرعت نحو فناء المعسكر فوجدت - في ضوء القمر - عدة جنود ورجال مدنيين يحاولوا أن يخلصوا فتاة جميلة من بين ذراعي (الظمأ) وكان يقاومهم فقوة بينما كانت هي تصيح جزعة داعية العذراء وكافة القديسين ليخلصوا منه، فأسرعت للمساعدة، ولكن كان الكابتن جنتيل قد سبقني. كانت له عين صارمة آسرة فتراجع الشاويش أمامه، فطمأن الكابتن الفتاة ببضع كلمات إيطالية ثم نظر إلى (الظمأ) وقال (إن المتوحشين أمثالك يجب أن يعدموا. . وفي اللحظة التي سوف أرى فيها الكولونيل ستفقد رتبتك ثانية. . سنحارب غدا، ولعلك تحاول أن تموت في المعركة
وآوينا للنوم ولكن كان الكابتن على حق، فما أن شقشق الفجر حتى اندلعت نيران المدفعية، فأسرعنا نحو أسلحتنا واندفعنا للقتال وكان (الظمأ) يسير بجانبي وكانت عيناه تنذران بالسوء، وكانت الأوامر الصادرة إلينا تقضي بأن نطارد النمساويين الذين لجئوا إلى الخنادق في قرية (ملنيانو) فسرنا ما يقرب من الميل ولكن فاجأتنا نيران العدو وقتلت منا حوالي خمسة عشر رجلا فأمرنا الضباط بالانبطاح أرضا بينما ظلوا هم واقفين. وفجأة شعرت بجسم بجانبي فتلفت فوجدت (الظمأ) ينظر إلي وهو ممسك ببندقيته وقال أترى الكابتن؟
قلت - نعم هل هناك شيء؟
قال - حسناُ. . لقد أخطأ حين وجه إلى كلماته في الليلة الماضية ثم رفع بندقيتة في لحظة خاطفة وأطلق النار، فرأيت الكابتن وقد انحنى ثم دفع برأسه إلى الخلف تاركاُ سيفه وسقط في قوة على ظهره.
فقلت وأنا أمسك بذراع (الظمأ) - أيها القاتل!
ولكنه دفعني بعيدا وهو يقول - أيها الغبي. . كيف تثبت أني قتلته؟
فقمت واقفا وأنا ثائر غاضب، ولاكن حدث في نفس تلك اللحظة أن هب بقية جنود الفرقة واقفين إذ صدرت أوامر الكولونيل بمهاجمة العدو.
كنت فاقد الحياة حينئذ لأنة كان يتحتم علي أن أهاجم العدو مع زملائي وكان القتال مريرا. . حتى أنى فقدت ذراعي في هذه المعركة.
وكان الجنرال ممتطيا صهوة جواده، فخورا بنا نحن جنوده الشجعان وهو يقول (عشتم يا رجالي فأنتم أشجع جنود العالم) وكنت مازلت قابعا في مكاني وأنا أتحسس ذراعي المكسورة حين تذكرت جريمة (الظمأ) الفظيعة. ورأيته وهو يغادر مكانه ويتقدم نحو الجنرال، وقد شج رأسه العاري والدم يشحب منه منها الدم على جبينه وخديه، وهو ممسك ببندقيته في يد وبيده الأخرى أحد الأعلام النمساوية التي استولى عليها. فنظر إليه الجنرال في إعجاب وقال (سأمنحك وسام الصليب)
وفقدت وعي بعدئذ. . ولكنك تعرف ما حدث لي، لقد بترو ذراعي وقضيت شهرين أهذي في المستشفى، وحينما كنت أضطجع أرقا في فراشي ليلا كنت أتساءل إذا كان من واجبي أن أبلغ عن جريمة (الظمأ) التي اقترفها، لكني كنت أعود فأقول إنه لا يمكنني إثبات. ومع هذا فقد حدثت نفسي بأنه إن كان مجرماٌ إلا أنه جندي شجاع، لقد قتل رئيسه ولكنه استولى على علم نمسوي. . ولم أعد أستقر على رأي فيما افعله.
ولما شفيت أخيرا بلغني أن (الظمأ) نال رتبة جديده وأنعم عليه بوسام الصليب، وقد دفعني ذلك للاشمئزاز من وسامي الذي ثبته الكولونيل بنفسه على صدري وأنا في فراشي بالمستشفى وعلى أية حال لم أعد أرى (الظمأ) منذ ذلك الوقت حتى الآن، فقد ظل في سلك الجندية بينما غادرتها أنا لعاهتي
ولكني حين رأيت تلك السترة القديمة في ذلك الحانوت بجانب المعسكر الذي يقيم فيه القاتل الآن أعاد منظرها إلى ذهني في جلاء تلك الجريمة التي لم ينل مرتكبها جزاءه بعد. . ولم أنقطع عن التفكير أن الكابتن ما زال يصيح مستنجداً بالعدالة)
وحاولت مات أستطيع أن أهدئ ببير فيدال وهو على حاله تلك من الاضطراب، وأخبرته مراراً أنه قد فعل خيراً وأن شجاعة (الظمأ) قد محت جريمته
ومرت أيام بعد ذلك وحين دلفت إلى حجرة مكتبي يوما ناولني فيدال جريدة الصباح وقد
طواها بحيث منها ذلك الخبر الذي قرأته كما يلي:
ضحية أخرى من ضحايا الإفراط في الشراب
وحدث بعد ظهر الأمس في شارع جرينبل أن رجلاً يدعى ماليه وشهرته (الظمأ) وهو شاويش في الحرس الإمبراطوري كان قد أفرط في الشراب في إحدى الحانات هناك مع زميلين له وكان واقفاً يتطلع إلى حانوت لبيع الملابس القديمة، وفجأة اعترته حالة من الهذيان الثمل فأخرج سلاحه وجعل يعدو كالمعتوه، ولكن تمكن زميلاه من الإمساك به وهو يصيح أنه ليس بقاتل. . وإنه استولى على علم نمسوي في ملنيانو. وقد علمنا أن ماليه نال وساما على شجاعته في الحرب، وأن إدمانه على الشراب هو الذي منعه من متابعة ترقياته. وقد نقل إلى المستشفى العسكري وسيحول بعدها إلى مستشفى سارتون للأمراض العقلية حيث يقال أنه لن يستعيد قواه العقلية بتاتا.!
فأعدت الجريدة إلى بير فيدال الذي رمقني بنظرة لها معناها ثم قال. لقد كان الكابتن كورسيكيا وقد حصل على انتقامه.
حسن فتحي خليل