المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 951 - بتاريخ: 24 - 09 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٥١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 951

- بتاريخ: 24 - 09 - 1951

ص: -1

‌إذا جاء نصر الله والفتح.

.

(مهداة إلى آية الله كاشاني)

للأستاذ سيد قطب

في الأفق بشائر - في هذه الأيام - على الرغم من كل ما يكتنفه من سحب وظلام. في الأفق بشائر بالعودة إلى حمى الإسلام، تتجلى في كل أنحاء الوطن الإسلامي. عودة الفلول الشاردة الممزقة، التي هدها الكلال وهي تلهث وراء أعلام أجنبية عن روحها وتاريخها؛ أجنبية عن أهدافها ووجتها. . .

إنها تعود رويدا رويدا في هذه الأيام إلى الحمى الذي استبيحت حرماتها عندما فارقته، والى الراية التي أزيلت عزتها حينما تخلت عنها. . إنها تعود إلى الإسلام تتنادى باسمه في كل مكان، وتطلب عنده القوة والعزة والسلامة. . وهذا هو موضع الرجاء في العالم الإسلامي في هذه الأيام.

إن الدعاة اليوم إلى تكتيل العالم الإسلامي في جبهة، والى تحكيم الإسلام في هذه الكتلة. . ليسوا هم الدعاة الدينيين وحدهم، وليسوا هم (الإخوان المسلمين) وحدهم، وليسوا هم الأفراد الذين يوجه الإسلام تفكيرهم وحدهم. . انهم ليسوا هؤلاء وحدهم فحسب في هذه الأيام، إنما هم كذلك جماعات وأحزاب وشخصيات ليست الدعوة الإسلامية طابعها البارز، أو جهتها الإسلامية. . وهذا هو الدليل على أن الأمة الإسلامية قد وجدت نفسها بعد التيه والضلال، وأنها تتجاوب بصدى واحد، منبعث من ضميرها بلا تمحل ولا افتعال.

لقد لعب الاستعمار لعبته الكبرى يوم مزق الوطن الإسلامي الأكبر، وحوله إلى دويلات تحمل الطابع القومي الهزيل، وتتخلى عن قوميتها الإسلامية الكبرى. لقد هدم حينذاك كل ما بناه الإسلام من وحدة ضخمة تذوب فيها العناصر والأجناس، وتنصهر فيها الألوان واللغات، وتهتف كلها هتافا واحدا من قلوب متآخية في الله.

ولم يكن بد للاستعمار من أن يلعب هذه اللعبة. فما كان في استطاعته أو مقدوره أن يزدرد هذه الكتلة الكبرى وهي وحدة متماسكة. فأما حين نفخ لها في بوق (القومية) الخداع فقد انفرط العقد، وانحلت العقدة، وتناثرت الفلول، وباتت كلها لقمة سائغة لمن أراد.

ثم واجهت كل دويلة مشكلاتها الداخلية. واجهتها عزلاء من راية تقف في ظلها، ومن قبلة

ص: 1

تثوب إليها. وانطلقت كل دويلة تجابه الاستعمار المتجمع المتكتل وحدها. تارة في مجلس الأمن، وتارة في هيئة الأمم، وتارة في محكمة العدل. وفي كل مرة كانت تؤوب بالفشل والخيبة، لان الاستعمار هناك وحدة؛ ولان (القومية) التي خدع بها المستضعفين في الشرق لا تجعله ينسى (الصليبية) التي يواجه بها الإسلام كافة!

وانطلقت كل دويلة تجابه الطغيان الداخلي فيها والمظالم الاجتماعية بحلول ومبادئ تلهت وراءها في أرض غير أرضها؛ وفي بيئة غير بيئتها. تارة باسم الديمقراطية. وتارة باسم الاشتراكية. وتارة باسم الشيوعية وهي كلها محاولات يائسة، أنشأتها أوضاع غير أوضاع الوطن الإسلامي، وهي أمتدادت طبيعية للفكرة المادية التي يدين بها الضمير الغربي والحضارة الغربية، وتجد جذورها في الحضارة الإغريقية والرومانية، ولا مبرر لنشأتها أو امتدادها في الجو الإسلامي والتفكير الإسلامي.

وماذا كانت العاقبة؟

كانت العاقبة في الخارج هي ما نراه من تفكك العالم الإسلامي وتكتل العالم الصليبي. كانت هي ضعف الدويلات الإسلامية وقوة الاستعمار الأوربي. كانت هي هذه الحلقة المفرغة التي تدور فيها هذه الدويلات حول دول الاستعمار. كانت هي توزيع الأسلاب بين إنجلترا وفرنسا وهولندا وأمريكا. كانت هذه المواقف الهزلية التي تقفها حكومة الدويلات شبه المستقلة كمصر والعراق، تقدم رجلا وتؤخر أخرى!

وكانت العاقبة في الآخر هي هذه البلبلة في مواجهة الطغيان والمظالم الاجتماعية. منا من يريد مواجهتها باسم الإسلام، ومنا من يريد مواجهتها باسم الاشتراكية، ومنا من يدعو خفية للشيوعية. والإقطاع العارم وإلى الفاجرة يقفان في الجبهة الأخرى صفا، يضربان هؤلاء بأولئك، ويوقعان بينهم الفتنة والبغضاء!

وبين الحين والحين يخرج بغاث هزيل، وببغاوات فارغة تحذرنا من دعوة الإسلام ومن راية الإسلام. تحذرنا عداء العالم الغربي إذا نحن هتفنا باسم الإسلام، وتجمعنا كتلة تحت رايته كان هذا العالم يساقينا اليوم كؤوس المودة!. وتحذرنا الفرقة والتنابز في داخل الوطن الواحد. كأننا اليوم جبهة واحدة لا شراذم وشيع وفرق!

وتحذرنا ما هو اشد وأنكى تحذرنا طغيان الحكم الإسلامي. . تحذرنا هذا الطغيان كأنما ننعم

ص: 2

اليوم في بحبوحة الحرية! وتحذرنا ألاعيب رجال الدين المحترفين. كأننا الآن لا نذوق منها الأمرين!

إنها تعلات فارغة لا تخدم أحداً إلا المستعمرين الذين يفزعون من فكرة التكتل الإسلامي تحت راية الإسلام، لأنهم يدركون ما أدركته الملكة فكتوريا، وما أدركه جلادستون من أن راية القرآن يجب أن تمزق قبل أن يتسنى للرجل الأبيض حكم هذه البقاع الإسلامية. ولأنهم يدركون أن ظل الاستعمار الأسود سيتقلص يوم ترتفع هذه الراية من جديد.

أن الاستعمار الغربي لا تخفى عليه ضخامة القوة التي يمكن أن تواجهه في ميدان الحرب والسياسة والاقتصاد لو تكتل الوطن الإسلامي. لا تخفى عليه ضخامة الموارد البشرية والمادية التي يمكن أن يحشدها لا يخفى عليه أن الدفة سيتحول اتجاهها يوم يقف أربعمائة مليون من البشر تحت راية واحدة وفي ظل عقيدة واحدة، ونظام اجتماعي واحد.

أن الرأسمالية والشيوعية كلتيهما لترتعشان من هذا اليوم (الرأسمالية) لأنها تعلم أن الأسس الاقتصادية التي تسمح لها بالربى والاحتكار والاستغلال الرأسمالي. . كلها ستتحطم يوم يحكم الإسلام، فيقيم بنائه الاقتصادي على أسسه الاقتصادية الخاصة التي تطرد المرابين والمحتكرين والمستغلين، ولا تسمح لهم في ظلها بهذا النشاط الآثم الظالم. ويومئذ يخرج من قبضتها الاقتصادية الاستغلالية هذا العالم المترامي الأطراف من شواطئ الأطلنطي إلى شواطئ الباسفيكي. يخرج من قبضته المؤامرات إلى - كما خرجت دول الكتلة الشرقية تماما في ظل الشيوعية - وعندئذ تضيق الأرض بما رحبت. فماذا يبقى للرأسمالية الغربية حين يخرج العالم الإسلامي كله من قبضتها وقد خرجت من قبل كتلة العالم الشيوعي؟ إن الرأسمالية الغربية يومئذ تختنق وتسقط جثة هامدة. وذلك ما يخشاه المستعمرون من الراية الإسلامية والحكم الإسلامي. وما قد يخيفهم اكثر من الجيوش والكتائب التي يجردها الوطن الإسلامي عليهم لتسحقهم سحقا.

(والشيوعية) لأنها تعلم أن فرصتها الوحيدة في العالم هي الاختلال الاجتماعي والاقتصادي. فلا مجال للشيوعية في مجتمع عادل متوازن، لا تتضخم فيه الثروات، ولا تتضخم فيه الفوارق، ولا يسوده الربا والاحتكار والاستغلال الرأسمالي، ولا يقوم فيه العداء بين العمال وأصحاب العمل، لأنه لا سبيل فيه لتحكم أصحاب العمل ولا إلى غبن العمال.

ص: 3

ولما كان المجتمع الذي يمكن أن ينشئه الإسلام، حين يقوم على أصوله الصحيحة مجتمعا غير طبقي؛ لأن مصالح العمال لا تفترق فيه عن مصالح رأس المال، فالعمال أنفسهم أصحاب الحق في نصف الربح، كما أنهم أصحاب حق في تحويل نصيبهم أو بعضه إلى أسهم في مرفق العمل. ومجتمعا لا ترف فيه ولا شظف فكلاهما مكروه أو حرام. ومجتمعا لا تضخم فيه للثراء لأنه يحرم الربا والاحتكار والظلم في الأجور. ومجتمعا متوازنا لأن الدولة فيه ملزمة بإعادة توزيع الثروة كلما أصابها الاختلال. بل مكلفة أن تتخذ من الوسائل الوقائية ما يمنع كل ما قد يؤدي إلى هذا الاختلال. ومجتمعا كل المرافق العامة فيه مؤممة أو شائعة الملكية وليس فيها احتكار. . لما كان المجتمع الإسلامي كذلك فان فرصة الشيوعية في اقتحامها نادرة بل مستحيلة، ولهذا تحرص الشيوعية حرص إلى على مطاردة فكرة التكتل الإسلامي والحكم الإسلامي. وتطلق أبواقها يخوفون من هذه الفكرة أو يهونون من قيمتها، أو ينكرون أن تطبيقها العملي؛ ويبذلون من الجهود ما تبذله الجهة إلى سواء بسواء!.

وفي وسط هذا كله تتجاوب صيحة واحدة مشتركة في جوانب العالم الإسلامي، تدعوا إلى راية الإسلام، وتهتف بالوحدة الإسلامية، وتنادي بالحكم الإسلامي. . .

وليس الأخوان المسلمون هم الذين يستقلون بهذه الدعوة. وليس أصحاب التفكير الإسلامي من الكتاب والدعاة هم الذين ينفردون بها كذلك إنما هي دعوة تنبعث من ضمير هذه الأمة الإسلامية، من حيث تحتسب ومن حيث لا تحتسب.

إنها تنبعث من حكومة الباكستان تدعو إلى مؤتمر اقتصادي إسلامي، لتنظيم اقتصاديات العالم الإسلامي على أسس إسلامية.

إنها تنبعث من آية الله كاشاني زعيم إيران الروحي، يصرخ في وجه الإنجليز الكلاب أن يخرجوا لا من إيران، ولكن من الوطن الإسلامي. ويبعث بتشجيعه وتوجيهه إلى رئيس الوزارة المصرية. ويطلق المظاهرات في شوارع إيران تأييدا لمصر في قضيتها.

إنها تنبعث من علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني زعيمي مراكش، التي حاربتها فرنسا في دينها بالظهير البربري سنه 1931 لأنها يئست من إخضاع مراكش قبل أن تمزق وحدتها الدينية.

ص: 4

إنها تنبعث من مسلمي الملايو في آسيا، والصومال في أفريقيا، وهم يتجهون إلى دول العالم الإسلام.

إنها تنبعث من احمد حسين زعيم الحزب الاشتراكي في رسالة حارة يبعث بها على صفحات الاشتراكية آية الله كاشاني والى مصدق رئيس حكومة إيران، التي طعنت احتكار البترول بخنجر الإسلام فأدماه!

إنها تنبعث من احمد أبو الفتح في كتابه: (حكايات لمصر) دعوة الخلاص، بحكم الإسلام وبعدل الإسلام.

إنها اليقظة. إنه لهدى إنه النور. إنه ضمير هذه الأمة كلها يستيقظ ويهتدي ويستنير. إنها لم تعد دعوة فرد، ولا دعوة هيئة. إنه صوت السماء يهبط مرة أخرى إلى الأرض. إنها البشائر التي تلوح في الأفق على الرغم من كل ما يكتنفه من سحب وظلام.

سيد قطب

ص: 5

‌سلبية الرأي العام العربي

إزاء قضية كشمير

لأستاذ كبير

موقف الدول العربية من مشكلة كشمير موقف يدعوا إلى الدهشة والأسف. وانك لتلمس وراء هذا (الحياد) الذي تعتصم به الحكومات العربية، وبعض كبريات السنة الرأي العام العربي، حين نتحدث عن قضية كشمير، سلبية لا يبررها إلا اعتقاد خاطئ في أفضلية العصبية الآسيوية على التضامن الإسلام، وإلا وهم نشرته في ألسنة الرأي العام آلة الدعاية الهندية وبعض المغرورين بها من الكتاب والمعنيين بالشؤون العامة من أن الهند علم على التحرير الآسيوي الذي سيتزعم حركات التحرر في البلدان المغلوبة على أن. ويتخذ هؤلاء من مناصرة الهند لحركة التحرير الإندونيسي دليلا على هذا الادعاء. فقد خفي أن مناصرة الهند لإندونيسيا لم تكن مدفوعة برغبة اكتساب السوق الإندونيسي للإنتاج الهندي الذي لا يزال يسيطر عليه ملوك الصناعة من البريطانيين والإقطاعيين الهنود.

وإن الحقيقة لتجادل كل من يدعي بان حكومة الهند الحالية هي نصيرة مخلصة للحرية الآسيوية؛ فأن صمت الهند على مأساة العروبة في فلسطين، وتحالف نيودلهي وتل أبيب تحالف يدرك خفاياه كل من راقب صداقة اليهود والهنود في الأمم المتحدة كما أدركها كاتب هذه السطور - كل ذلك وفوقه المعرفة الصادقة لحقيقة السياسة الهندية إزاء العالم العربي يفرض على الرأي العام العربي أن يهيب لنصرة الباكستان في أزمتهامع العدوان الهندي في كشمير.

ترى هل اشتم الرأي العام العربي خطورة السياسة الهندية على مصالحه في هذا الخبر المتواضع الذي نشرته جريدة الأهرام في 30 يونيو 1951:

(العرب لا نؤيد الهند في الترشيح لعضوية مجلس الأمن).

(انتهى الرأي بين دول الجامعة العربية على عدم تأييد ترشيح الهند لعضوية مجلس الأمن بعد أن وقفت على معلومات رسمية تنبئ بتحول في سياسة الهند إزاء العالم العربي).

ولو شاء كاتب هذه السطور أن يتفرغ لسرد حقائق هذا التحول في سياسة الهند نحو دول الجامعة العربية لملأ الصفحات، ويكفي بان نذكر الآن بان الهند هي شاعرة شعورا قويا

ص: 6

بعدواتها للإسلام والتكتل الإسلامي قد انتهجت نهجا جديدا منظما لعرقلة كل ما من شأنه أن يزيد في تضامن الدول العربية وان يحقق لها مواصلة اليد من صناعة واستقرار وتكافل - والعرب كلمة أوجدها الإسلام.

والهند في تخوفها من استكمال الدول العربية والإسلامية لمكانها العالمية قد شرعت في التحالف مع خصوم العروبة والإسلام. وابتدأت بإسرائيل، فكل عدو للعدو صديق. والواقع أن هناك أسبابا جوهرية عديدة تدفع إسرائيل والهند إلى التحالف والتدسس على كيانات الدول العربية والإسلامية، فلقد تسجل الآن في صميم الأيدلوجيتين الهندوسية والصهيونية أن الإسلام هو أصعب العقبات في طريق برامجهما التوسعية لأسباب تتعلق بميلاد الباكستان وما تدعوا إليه من تضامن إسلامي، وبهذا النتوء الممتلئ مكروبا والمسمى بإسرائيل، وبما يضمره من شر لعالم العرب والمسلمين.

وفوق ذلك فأن اليهودية العالمية، وقد أدركت أن لا أمل لها في حياة سعيدة في العالم المسيحي الذي اكتشف غشها وخداعها وسجله في صفحات (الكتاب المقدس) وفي تاريخ الغرب السياسي والاقتصادي، وقد تحدت العروبة والإسلام في عقر دارهما فإنها ساعية حتما للتحالف مع مذهب كالهندوسية لم تسجل كتبه الدينية لطخة عار على اليهودية كما سجلته المسيحية وكما اختبرها في مأساة فلسطين. والى أن يختبر الهنود طبيعة الخلق اليهودي وما جبل عليه من شر ومكيدة وانتهازية فإن مكاتب الدعاية اليهودية كما سجلتها المسيحية وكما أختبرها في مأساة فلسطين. وإلى أن يختبر الهنود طبيعة الخلق اليهودي وما جبل عليه من شر ومكيدة وانتهازية فأن مكتب الدعاية اليهودية ستستمر في نشاطها بنيودلهي وكلكتا وبومباي، وستضل التجارة اليهودية على تغلغلها في اقتصاديات المدن الهندية الكبرى كما سبق لها أن تغلغلت في كبريات المدن الأوربية والأمريكية.

وإنك حين تطالع حماس الكتاب اليهود ودور النشر اليهودية في أوربا وأمريكا - وهي صاحبة السيطرة التامة على الفكر الغربي المعاصر في تجميد الثقافة الهندية والطنطنة بها لسبب وغير سبب - حين تطالع مدى اتساع حركة تطعيم الثقافة الغربية بالتراث الهندي التي يحمل لواءها يهود الغرب، لا تجد بدا في أن تدرك بان هناك (حاجة في نفس يعقوب) ولا تترد في أن تفسر هذا الحماس اليهودي على ضوء تشابه الأيديولوجيتين الهندوسية

ص: 7

والصهيونية في أمرين رئيسيين

أولاً - شعور كليهما بالتعاظم والأيمان بأنه نواة حضارة القرون المقبلة. وكل دارس لحاضر الثقافة الهندية كما يبثها أقطابها اليوم يمل من تكرار الفضائل (الرسالة الروحية) الخالدة التي يؤمن الهنود المعاصرون بوجوب فرضها على عالم المستقبل، (وادعاءات شعب الله المختار) في إسرائيل وفي خارج إسرائيل هو صنع لادعاءات ألسنة الثقافة الهندوسية المعاصرة.

وثانياً - أوجه التشابه بين الأيديولوجيتين الهندوسية والصهيونية هو اعتقادهما بأن الإسلام وأهله من عرب وعجم حجر عثرة في وجه هذه (الرسالة) الإنسانية الكبرى (صهيونية كانت أم هندوسية) ولعلنا عائدون إلى دراسة أوجه التشابه بين هاتين الأيدلوجيتين في بحث منفرد. ونكتفي بان نذكر الآن أن حقائق هذا التحالف الهندوسي اليهودي، هي مواقفهما المتشابهة من مشاكل مصر مع بريطانيا، وأزمة البترول الإيراني، وسلبية الهند إزاء مأساة اللاجئين الفلسطينيين، ومشكلة القدس، وعشرات القرارات والتوصيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتعلق بالشرق العربي التي عالجتها الأمم المتحدة والتي تجانست آراء وفد الهند وإسرائيل في هيئة الأمة بصددها تجانسا عجيبا.

ولنعد بعد هذه التوطئة إلى صلب هذا المقال وهي سلبية الدول العربية وألسنة الرأي العام العربي إزاء عدوان الهند على كشمير.

والباحث لتفاصيل القضية الكشميرية يستطيع أن يثبت عدوان الهند متجردا من العاطفة الدينية تجردا تاما.

فتاريخ أزمة كشمير واضح لا يدخل فيه التعقد؛ ولاية عدد سكانها 5 ملايين نسمة 90 % منهم مسلمون يحكمهم مهراجا هندوسي وهو من بقايا عهد الانتداب البريطاني. وكان من المسلم به أ، تكون كشمير جزءاً من هذه القطاعات الهندية التي كانت (العصبية الإسلامي) تطالب بجعلها دولة إسلامية. وقد تركت اتفاقية تقسيم القارة الهندية مستقبل كشمير رهينا بمشيئة أهله، ولكن الهند تواطأت مع حاكم كشمير الهندوسي ورتبت معه الانضمام إلى الحكومة الهندية غير عابئة بمشيئة السكان المسلمين وغير مراعية لحكمه ومبدأ تقسيم الهند الذي سلم به الطرفان (الهندوس والمسلمون) بعد انتهاء الانتداب البريطاني. لو كان في

ص: 8

مثل هذا التواطؤ صبغة شرعية لاستطاعت الباكستان أن تكسب لنفسها بقعة غنية في صميم الهند - وهو ولاية حيدر أباد التي كانت في استطاعة حاكمها المسلم نظام الملك أن يعلن انضمامه للباكستان كما فعل حاكم كشمير الهندوسي. ولكن السياسة الهندية تقيس القانون بميزانين - واحد للمسلمين والآخر للهنود - ففي حين أن حكومة جوهر لال نهرو ابتلعت حيدر أباد عنوة واقتدارا. . أصبحت الآن تحول دون استفتاء الشعب الكشميري عن حقيقة رغبته في المستقبل الذي يرتضيه على نحو ما أقره مجلس الأمن ومختلف اللجان الدولية التي درست مشكلة كشمير عن كثب.

ومدعاة الأسف في سلبية الشعوب والحكومات العربية إزاء هذا التحدي الهندي أن العالم بأسره ينتقد السياسة الهندية إزاء كشمير انتقاداً مرا ويحمد للباكستان صبرها وحنكة أولي الأمر فيها.

وإليكم أمثلة من انتقاد الرأي العام العالمي لعدوان الهند على كشمير:

قالت جريدة الشيكاغو تربيون وهي من كبريات الصحف الأمريكية:

(إن جوهر لال نهرو رئيس وزراء الهند يرفض الأخذ بقرارات الأمة المتحدة فيما يتعلق بكشمير. وبينما يرفض الصين إدانة الشيوعية بالعدوان في كوريا - وعدوانها في كوريا حقيقة سافرة - نراه يلهب الأمم المتحدة بالسياط ليدين الباكستان بالعدوان في كشمير والهند هي المعتدية. والآن يلجأ نهرو في كشمير إلى أساليب ستالين في إقامة مجلس نيابي مزيف في كشمير يدين له بالولاء).

وقالت جريدة النيويورك تايمس أكبر صحف العالم قاطبة:

(الحق في قضية كشمير في جانب الباكستان حتما، وصلابة نهرو ومناورته في كشمير ليست إلا عنوانا على نوع (الديمقراطية) التي يبشر بها الهنود).

وقالت جريدة المانشستر جارديان صحيفة حزب الأحرار في بريطانيا:

(إن من دواعي الغرابة أن تلهب الصحافة الهندية الرأي العام حول حادثة فردية من حوادث الحدود (بين الهند والباكستان) في كشمير، بينما سجل مراقبو الأمم المتحدة في كشمير اكثر من 400 حادثة اعتداء هندي على قوات الحدود الباكستانية).

وقالت الجريدة نفسها في عدد آخر:

ص: 9

(أي ديمقراطية تبشر بها الهند حين يقوم رئيس وزارتها (نهرو) بالتواطؤ مع رئيس حكومة صورية في كشمير لا يدين له الشعب بالولاء.).

(. . . قد يستطيع الدكتور فرانك جراهام وسيط الأمم المتحدة في كشمير بأن يحمل الباكستان على التخفيف من حدتها وعدتها إلى الجهاد في كشمير. وقد يكون من حق المستر نهرو أن يطلب ذلك من وسيط الأمم المتحدة لو انه (أي نهرو) كان على حق في سياسته نحو الباكستان في كشمير).

(. . . وعلى المستر نهرو (أن يظهر حسن النية) بإقلاعه عن التواطؤ مع العناصر الحزبية التي تضمر للباكستان خيرا وأن يكف عن إلهابها بالخطب النارية التي تزيد النار ضراما.)

وقالت جريدة الديلي تلغراف البريطانية:

(إن سياسة المستر نهرو التوسعية تشكل خطرا عليه وربما على العالم بأسره. ألم يقل نهرو في خطبة له في 11 يونيو (لن اسمح بعد الآن بمزيد من الهراء بصدد كشمير مهما كانت العواقب). إن المستر نهرو يعتلي الآن حصاناً عاليا مما يستوجب فحص مقدرته وحنكته، وما هي سياسته؟. هل أنه يحاول أن يفرض إرادته على الأمم المتحدة عنوة واقتدارا. . . إنه يسعى لطرح القارة الهندية في السعير في ظروف تكتنفها الأخطار.)

وقالت جريدة أوتاوا سيفيزن الكندية:

(إن الهند بمواقفها المتناقضة إزاء القضية الدولية لتلجئ أصدقاءها في العالم إلى الدهشة فهي تقول لمجلس الأمن إنها لا تستطيع تقديم وحدات من جيوشها للدفاع الجماعي العالمي بدعوى أن مشاكل العالم يجب أن تحل بالمفاوضات السلمية. ثم هي (أي الهند) في الوقت نفسه تحتفظ بأكثرية جيشها النظامي على حدود الباكستان (كشمير) وترفض قرارات الأمة المتحدة الداعية إلى حل المشكلة بالاستفتاء السلمي النزيه).

وبعد فإذا كان الرأي العام العالمي (وهو لم يكن في يوم من الأيام نصيرا للقضايا الإسلامية) على مثل هذه الحدة في انتقاده لعدوان الهند في كشمير، فحري بالرأي العام العربي أن يدرك أن للباكستان وجهة نظر وجيهة في نزاعها مع الهند. أضف إلى ذلك أن الشرق العربي بحكم جواره للقارة الهندية لا يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي إزاء هذه الحالة

ص: 10

المتدهورة في كشمير حيث ترابط قوات الباكستان النظامية والمتطوعين المسلمين من كشمير والحدود الشمالية الغربية لمواجهة أربع فرق عسكرية هندية تامة العدة وهي تؤلف 90 % من قوات الجيش الهندي النظامي.

ولقد مرت قضية كشمير هذا العام في ثلاث مراحل كان التطور فيها من سيئ إلى أسوأ بسبب عناد الهند وإصرارها على ابتلاع هذه الولاية الإسلامية.

أما المرحلة الأولى فقد كانت في يناير المنصرم عندما عرض مؤتمر رؤساء دول الكومنولث البريطاني المنعقد في لندن أن تقوم قوات نظامية تابعة لدول الكومنولث بحفظ الأمن في كشمير خلال فترة الاستفتاء التي اقترحتها الأمم المتحدة. ورضيت الباكستان بهذا الاقتراح، ولكن الهند رفضته وأصرت على رأيها في أنه إذا كان لابد من إجراء استفتاء فليكن تحت الحراب الهندية. وهذا نوع من (الديمقراطية) ولون من ألوان (الرسالة الروحية الخالدة) التي يبشر بها الهنود في هذا العصر. وكانت نتيجة هذا الموقف الهندي أن كسبت الباكستان مزيدا من العطف في الأوساط العالمية.

وكانت المرحلة الثانية في يناير وفبراير الماضيين عندما اقر مجلس الأمن مشروعا كلفت به (الدكتور فرانك جراهام عميد جامعة نورث كار ولاينا الأمريكية) وهو شخصية محايدة لها مكانتها - للتوسط بين الهند والباكستان لسحب القوات المسلحة من كشمير تمهيدا للاستفتاء. ومرة أخرى رضيت الباكستان بهذا القرار ورفضته الهند لأنها لا تعترف بمبدأ التحكيم.

أما المرحلة الثالثة فهي جزء من سياسة (الأمر الواقع) التي اتبعها اليهود في فلسطين وأخذها عنهم الهنود، وهي مواجهة الباكستان ببرلمان مزيف من ولاية كشمير يدين للهند وأعوانها بالولاء.

وقالت الهند إن هذا البرلمان (الذي حددته الهند لإجراء انتخاباته في أكتوبر القادم) هو صاحب الكلمة النهائية في مصير كشمير. وإذا علمنا أن الجيوش الهندية تسيطر الآن على منطقة كبيرة من ولاية كشمير - وإنها قد اعتقلت آلاف الزعماء المسلمين هناك - أدركنا نوع المصير الذي سيقرره هذا البرلمان الكشميري.

وقالت جريدة أولوس التركية معلقة على هذا (البرلمان) ما يلي:

ص: 11

(التحكيم مبدأ نص عليه ميثاق الأمم المتحدة (الذي وقعت عليه الهند) فهل هذا المبدأ مخالف لمبادئ الدستور الذي تضعه الهند الآن لكشمير؟ وأي نوع من الدساتير هذا الذي لا يقبل مبدأ حق الشعب في اختيار مصيره).

مرت هذه المراحل كلها وقوات الباكستان والمتطوعين المسلمين ترابط على الحدود وتشاهد بعينها هذا التحدي الهندي العنيد. واعتصمت قوات الباكستانية بالصبر في ظروف الصبر فيها مر ثقيل. وحين اشتكت الهند إلى مجلس الأمن مؤخرا من أن دوريات باكستانية نظامية ومتطوعة قد اعتدت على المراكز العسكرية الهندية، أجاب رئيس الوفد الباكستاني هنا في هيئة الأمم بتقديم مذكرة تحتوي على 492 حادثة اعتداء قامت بها القوات الهندية في الأشهر الأخيرة.

والرأي العام العالمي حساس جدا لهذا التوتر الخطير في قضية كشمير. فبالإضافة إلى أن حياة الباكستان الزراعية مرتبطة بالأنهار الثلاثة الكبرى التي تنبع في كشمير وتمتد إلى شعاب الباكستان - بالإضافة إلى هذه الأسباب فأن الأوساط الدولية تعتبر أن في مشكلة كشمير قسطا كبيرا من الخطورة بعرض السلم الآسيوي لمثل ما أولدته الحرب الكورية من ذيول.

فهذه الولاية الإسلامية تحدها من الشمال ثلاث مناطق شيوعية هي روسيا الأسيوية والتبت والصين الشيوعية. فإذا اندلعت في كشمير حرب فان هذه المنطقة الإسلامية ستصاب بمثل النكبة التي أصيبت بها الهند الصينية الفرنسية وبورما التي تسرب المفسدون إليه وخلطوا بين المبادئ القومية السليمة وبين صراع الشيوعية وخصومها من حلفاء الغرب.

وهذا وضع يدفع كال من يهمه مصلحة الثقافة الإسلامية والتضامن الإسلامي والاستقرار الآسيوي والعدالة والأنصاف أن يساهم بدفع الأذى ونصرة الحق قبل أن تدهم الكارثة.

ولقد اقترحت مجلة الإيكونمست البريطانية الواسعة النفوذ فكرة لها وزنها حين علقت (في عدد 16 يوليو 1951) على الموقف في كشمير قائلة:

(تقوم الهند بتنفيذ سياستها في كشمير على أساس الأمر الواقع خطوة خطوة. . . ومناورات الهند الآن ترمي إلى أن قضية كشمير أمر مفروغ منه، وترفض فكرة تدعو إليه هيئة الأمم المتحدة التي كانت الهند أول من رفع قضية كشمير إليه.

ص: 12

أن فشل تسوية قضية كشمير يعرض السلم في جنوب آسيا إلى خطر أكيد

. . يبدو أن الشعوب والساسة الآسيويين أنفسهم يجب أن يقوموا بعمل إيجابي لحل هذا التوتر. واللجنة المؤلفة من الوفود العربية والآسيوية في هيئة الأمة التي أثبتت نشاطها لتسوية قضية كوريا تسوية سلمية تستطيع أن تقوم بنشاط مماثل في قضية كشمير.)

هذا اقل ما يمكن للشعوب والحكومات العربية عمله للعزوف عن هذه السلبية الضارة التي انتهجوها إزاء عدوان الهند لكشمير، ولإيفاء بعض ما عليهم من دين للباكستان التي كان حماسها ودفاعها عن قضايا العروبة جميعها في هيئة الأمة وخارج هيئة الأمة على اخلص ما يكون الحماس وابلغ ما يكون الدفاع

نيويورك

(عين)

ص: 13

‌1 - أصحاب المعالي

(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)

(حديث شريف)

للأستاذ محمد محمود زيتون

لست أقصد بهذا العنوان نقدا لوزراء آل الحكم إليهم أو زال عنهم، ولا أتحدث به عمن كانت لهم في الوزارة رياستان من سيف وقلم، ولا أريد أهل العوالي الذين كانوا يسكنون (العالية) في شمال المدينة المنورة، وإنما أرمي إلى الطواف على كل ذي همة عالية في التراث الإنساني عند العرب وغير العرب، في الماضي وغير الماضي، من الشعراء والفلاسفة والعلماء والمتكلمين والمناطقة وأهل الفن ورجال الدين وأساطين الاختراع، وجهابذة البيولوجية والسيكولوجية، وأستاذة الأخلاق والاجتماع والساسة والقادة وأئمة الإصلاح ورعاة الأمم ممن يمضون تحت لواء أصحاب المعالي الذين علو في سلم المجد إلى درجات العلا.

وفي الحق إنها لمخاطرة. . فما أوسع الأفاق، وما أرحب الجوانب، وما أصعب التجميع بين الأشتات، والتوفيق بين المنظوم والمنثور، والتأليف بين أعالي الجبال، والتأليف بين اعلي الجبال ومعالي الأمور.

وسنرى أن العرب - جاهلين وإسلاميين - كانوا حقا أصحاب المعالي في كل جانب من جوانب الحياة الكريمة، فقد امتلأت دواوين شعره، وسجلات نثرهم بكل مشتقات المعالي قولا وعملا حتى ليبدو للباحث المنصف أنهم أكثر أصحاب الحضارات إنتاجا في هذا الباب بحيث لم تكن تخلوا خطرات شاعرهم وناثرهم من الجبال العالية، حقيقة ومجازاً، بياناً وبديعاً، صراحة وكفاية.

لهذا انفردت اللغة العربية بوفرة المشتقات من هذه المادة. قالوا في الفعل: علا يعلو ويعلى، وتعالى يتعالى، وتعلى يتعلى، واعتلى يعتلي، واستعلى يستعلى، واعلولى يعلولي، وأعلى يعلي، وعلى يعلي، وعالي يعالي، واعل وتعال وعالي. وفي الاسم والصفة قالوا: والعلو والتعالي والاعتلاء والعلاء والاستعلاء والعلي والعلى والعلى، والعلوى والأعلى والعالي

ص: 14

والمتعالي والمعتلى والمعلى. والعلوان والعالية والعلياء والمعلاة والعليا والعليا والعليات والعلية والعلاوة، والأعالي والمعالي والعوالي والعلالي والعلاوي والعليون. وفي الحرف والظرف قالوا: على وأعلى وعلوا وعاليا وعلاء وعالية ومن علة ومن عال ومعال ومن على وعلو.

والى جانب هذا اشتقت الأعلام فقيل: على ويعلى والعلاء، والعلا والأعلى وابن العلاء وأبو المعالي وأبو العالية وأبو العلاء وعبد الاعلى، وعلية، وأم العلاء، ومن أسماء الأماكن المعروفة في الحجاز: العالية والعلياء والعوالي والمعلى والعلاية وعلو المدينة.

وقالوا: سدرة المنتهى، والفردوس الأعلى والجنة العالية وأعلى عليين. واشتقوا من هذه المادة بعض الاصطلاحات الفنية فمنها:

استعلاء الحروف وهو أن تتصعد هذه الحروف في الحنك الأعلى والمستعلي من الحروف سبعة وهي الحاء والغين والقاف والضاد والصاد والطاء والظاء - ورجل علو للرجال (على وزن عدو) قاهرهم. والمرأة عالية الدم أي يعلو دمها الماء وهي تتعلي من نفاسها أي تطهر منه، والعالية في القناة أعلاها، وعوالي الرماح كناية الشباب والوجاهة، قالت الخنساء وقد خاطبها دريد:(أترونني تاركة بني عمي كأنهم عوالي الرماح ومرتثة شيخ بني جشم) وعالية الوادي حيث ينحدر الماء منه، ويقال: استعلى الفرس على الغاية إذ بلغ الغاية عن الرهان ويقال: لا تعل الرياح على الصيد فيراح ريحك ونفر، ويقال: كن في علاوة الريح وسفالتها، والمعلي (بفتح اللام) وهو القدح السابع في الميسر، وهو أفضلها لأن له غنم سبعة أنصباء أن فاز، وعليه غرم سبعة أنصباء أن خسر، وللناقة حالبان: البائن والمعلى والمستعلي. قالت الكميت:

يبشر مستعليا بان

من الحالبين بأن لا غرارا

وعليون: ديوان الملائكة الحفظة يرفع أليه أعمال الصالحين من العباد، وهذه كلمة تستعلي لساني أي تجري عليه. وذهب الرجل علاء وعلوا إذا ارتفع، وتعلت المرأة أو تعالت أي ارتفعت وتشوقت لخطابها، وتعلى الرجل من علته إذا برأ، ويقال في الدعاء لكثير المال: اعل به أي أبق يعده. والمعتلي المقصر قال طفيل الغنوي:

ونحن منعنا يوم حرس نساءكم

غداة دعانا عامر غير معتل

ص: 15

فالمعتلي فرس عقبة بن مدلج، والعلاة فرس عمرو بن جبلة، والمعلى فرس الأشعر الشاعر، وعلوي فرس سليك. وعلوي فرس خفاف بن ندبة الذي قال فيها:

وقفت له علوي وقد خام صحبتي

لأبني مجدا أو لأثأر هالكا

وعلوي أيضا أسم فرس كانت من سوابق خيل العرب. وكذلك الناقة ناقة عليان طويلة جسيمة، وناقة علاة وعلية وعليان. وعالية القوم وعلياهم أي أعلاهم، وعلية القوم وعليهم: أشرافهم.

وتولدت الألفاظ المرادفة للمعالي فاشتق منها. رافع وصاعد وطالع وطلاع وطلعة، وعزيز ومعتز ومعز، وقد يضاف إليها أبن أو أب أو أم. وأنف الناقة وسنام الأمر. والسمو والرفعة والعزة والقمة والذروة والخفة والهمة والصعدة والرقية والطلعة والتوقل والشرف والشرفة، والغارب والمجد والمحتد والأصل، وأبو النجم وعبد شمس وعبد الأعلى.

واقتضى ذلك معرفة بأحوال الجبال والتلال، والنجوم والأفلاك، والرياح والمشارق والمغارب، والترحل والتسيار، والمياه جاريها وراكدها، ومواطن النهوض والنكوص، وعوامل العزة والذلة، وعلامات الرفع والخفض، والأصول والمحاتد، والمبادئ البانية والهادمة، والنفوس المتقدمة والمتخلفة، والمناصب المالكة، والأوضاع المملوكة، واتجاه المرء من العالي والى السافل وبالعكس.

احتفلت كنوز العربية بهذه الذخائر، واستطاعت أن تعطي للحضارة عناصر القوة في انتقال تراثها من المادية إلى المعنوية، شأنها في ذلك شأن الإنسانية في إطارها الواسع حين تدرجت - في النظر والتأمل - من الأشياء المحيطة إلى النفوس المدركة ذاتها.

وليس من الطبيعي أن يتأمل الطفل نفسه أول ما يتأمل، بل هو يظل طويلا يتفحص الموجودات المحسوسة ثم يدقق - من بعد - في البحث وراء النفس وخصائصها.

فالجبال العالية، والسماوات العلا، والآفاق الممتدة، والأفلاك الشارقة الغاربة، الطالعة والآفلة، والأطيار الغادية والرائحة، والسهام والرماح في مروقها وهبوطها، والجمل البارك والطامح، والكثبان حين تعلوا وتسفل مع الرياح السوافي، والصواعق حين تنقض، والأمطار حين تنزل، والقوي حين يتغلب على الضعيف، وحالب الناقة حين يعلوا ويسفل، والمرء حين يرتفع ويتضع بنسبه وحسبه وقوله وعمله، والعيون في مطالعة المشاهد في

ص: 16

وضح النهار، والأشباح في غبش الظلام؛ والآذان في تتبع الأصوات من مصادرها، وأصدائها البعيدة المديدة، والحيوان والإنسان في الطلوع والنزول. . ومقارنة هذا كله بعضه ببعض من حركات بين السماء والأرض؛ والعالي والسافل، من فوق إلى تحت. . هذه المدركات لابد أن ينتقل بها المنطق الإنساني من المحسوس إلى المعقول، أو من المادة إلى المعنى، ومن المدرك إلى المجرد، ومن الأشباح إلى الأرواح، فكان الإنسان - تبعا لذلك - همزة الوصل بينهما. ومصداق ذلك العلياء رأس الجبل وهي أوسع ما علا من الشيء، وهي أسم من أسماء السماء.

والمفهوم أن الفكر الأمم قد تراوح على مر العصور بين الأرض والسماء، وبين الثرى والثريا، والسماك والسمك، وتنقل بين مطالب المادة والروح. وهنا نعرض نماذج موجزة لهذه النقل قالوا. فلان خطير النفس، بعيد مرتقي الهمة، وأنه ليسموا إلى معالي الآن، ويصبوا إلى شريف المطالب، وتنزع همته إلى سني المراتب. وأنه لطلاع ثنايا (وهي الطرق في الجبال) ويؤم معالي الأمور، يجري في غلاء المجد، ويتسور شرفات العز، وفلان بنى له مجداً مؤثلا (راسخا) وتفرع (صعد) ذروة المعالي، ووثب إلى قمة الشرف، وعلى العكس من ذلك قالوا. فلان قاعد الهمة، عاجز الرأي، متخاذل العزم، لا تسموا همته إلى منقبة، ولا يدفعه طبعه إلى مكرمة، وقد استوطن مهاد الخمول، وأخلد إلى الصغار واستنام إلى الضعة، ورضى من دهره بالدون، وقعد عن ما تسموا الأمور النفوس العزيزة، وترقى الأمور الهمم الشريفة.

وفي العزة يقولون. عزيز الجانب، منيع الحوزة؛ حصين الناحية، وفلان أقام تحت ضلال العز، وبلغ عزا لا يقرع الدهر مروته ولا يفصم عروته ولا ينقض مرته، ولا يزال كعبه عاليا وهو أعلى عينا.

وفي الذلة يقولون. كليل الظفر، مهيض الجناح، ضعيف المنة (القوة)، مخضود الشوكة، مالت دعائم عزه، وتهاوت كواكب سعده، وتقوض سرداق مجده:

وفي النباهة يقولون: ذهب سمعه في الناس، وتجاوب بصدى ذكره المحافل، ورن صيته في الأقطار، وهو اشهر من القمر، واشهر من نار على علم (جبل)، وعلى الضد من ذلك: وهو خامل الذكر، ضئيل الحسب مغمور النسب، وهو نكرة من النكرات وغافل من

ص: 17

الأغفال، وهو تعلوا عنه العين وتنبو عنه.

ومن باب الإيماء إلى المعالي اختيار عناوين الكتب، فللحلبي (النفحة العلوية) وللذهبي (العلو للعلي الغفار).

وإذا قال العرب: يفتله في الذروة والغارب فذلك كناية عن أن يستميله.

وهذا أبن خفاجة الأندلسي يمنح الحياة للجبل العالي، ويضفي عليه صفات الرعونة والطموح، والحركة الذاتية، إذ يقول:

وأرعن طماح الذؤابة باذخ

يطاول أعنان السماء بغارب

يسد مهب الريح عن كل وجهة

ويزحم ليلا شهبه بالمناكب

وهذه صورة جلمود صخر حطه السيل من علي تنعكس على حس امرئ القيس، ولا تفوت خياله وهو يرى جواده يجري في قوة واندفاع فيقول:

مكر مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطه السيل من علِ

ويقول زهير:

تبصر خليلي هل ترى من ضعائن

تحملن بالعلياء من فوق جرثم

ويتجلى طموح الذهن، وتطاول الخيال في هذا الصراع النفساني بين الواقع والمثال، حين يقول الشاعر الجاهلي القديم، وهو يتحدث عن فرسه السريع:

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنه لم يطر

للكلام صلة

محمد محمود زيتون

ص: 18

‌الولايات المتحدة الأمريكية

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

- 3 -

ولايات متحدة:

اكتشفت أمريكا وتدفقت عليها سيول المستعمرين والهاجرين من الأسبان والبرتغاليين والفرنسيين والإنكليز، ونزل الفرنسيون في حوض نهر سانت لورنس بكندا وفي حوض المسسبي. وأما الإنكليز فقد أنشأوا عدة مستعمرات لهم على الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية، وكانت هذه المستعمرات محصورة بين أملاك الفرنسيين في حوض سانت لورنس وفي حوض المسسبي. ولم ليبث الصراع أم قام بين الفرنسيين والإنجليز، وانتهى هذا النضال 1763 بانتصار إنجلترا وطرد الفرنسيين، أصبحت إنجلترا سيدة أمريكا الشمالية.

لكن هذه السيادة لم تدم طويلا، فقد حاولت إنجلترا أن تفرض ضرائب باهظة على سكان المستعمرات، ولكن السكان رفضوا أن يدفعوا، لماذا؟ لان حكومة إنجلترا وبرلمانها فرضوا هذه الضرائب، والأمريكان غير ممثلين في البرلمان الإنجليزي. لقد نادى الأمريكان أنه لا ضرائب بدون تمثيل، وما داموا غير ممثلين في البرلمان الإنجليزي فإن هذه الضرائب غير قانونية ولا يجوز دفعها بتاتا، وحاولت إنجلترا بطريق التسويف والمماطلة المعروفة أن تحل المشكلة، ولكن سكان المستعمرات رفضوا بتاتا ما قدمته إنجلترا من الحلول، وانتهى الأفاق بقيام الثورة ثم الحرب ثم الاستقلال، وهكذا نالت الولايات المتحدة استقلالها بالثورة التي بدأت 1774.

على أو أساس تقوم الدولة الجديدة، وكيف يكون نظامها الحكومي؟ وماذا يكون مصير الولايات؟ أندمج مع بعضها اندماجا تاما وتنشئ دولة جديدة، أليه تبقى كل ولاية من الولايات مستقلة في شؤونها الداخلية، وتكون هناك حكومة مركزية تشرف فقط على المصالح المشتركة للولايات جميعا؟ طال النقاش حول هذه المسائل واشتد الجدل. لقد قاسى الأمريكان طويلا صبروا على مرارة الأذى والاضطهاد والحرمان في أوطانهم الأولى

ص: 19

بأوربا، وهاجروا بعقائدهم وحرياتهم إلى وطنهم الجديد في أمريكا، ومن ثم كانوا حريصين اشد الحرص على الاحتفاظ بحرياتهم كاملة غير منقوصة. وتستطيع أم تتصور مدى النضال ومدى الخلاف إذا علمت أن سكان الجمهورية الناشئة كانوا من الإنجليز والفرنسيين والروسيين والهولنديين والبولنديين وغيرهم، ولكن خفف من حدة الخلاف أن هؤلاء المهاجرين قد اصبحوا أمريكان، (من هو الأمريكي؟) سؤال أجاب عليه مزارع أمريكي فقال:(هو أما أوربي إنها من سلالة أوربية) ومن هنا جاء المزيج العجيب الذي لا تجده في بلد آخر. . . إذ يمكنني أم أشير إلى أسرة كان الجد فيها إنجليزيا وزوجته هولندية وتزوج ابنه من فرنسية، ولأبنائه الأربعة الآن أربع زوجات ينتمين إلى أربع أمم مختلفة. إنه أمريكي، قد طرح وراءه عاداته وعصبيته القديمة، وهو الآن يتلقى عادات من أسلوب الحياة الجديدة الذي احتضنه، ومن الحكومة الجديدة التي يطيعها، ومن المكانة الجديدة التي يتبوأها.

وبلغ من حرص الولايات على استقلالها أن ولاية رود أيلند رفضت أن ترسل عنها نواب إلى المؤتمر الدستوري الذي عقدته لوضع دستور الجمهورية في فلادلفيا خوفا من أن يتعرض استقلالها للخطر إذا قامت حكومة قوية. وأخيرا انتهى الأفاق بقيام نظام حكومي جديد للجمهورية الناشئة على أساس أن تحتفظ كل ولاية باستقلالها الذاتي، وان تقوم حكومة مشتركة تدفع عن الولايات أو اعتداء وتدافع عن مصالح الدولة الخارجية، وهكذا قامت دولة الولايات المتحدة. ويشير توماس جفرسن 1790 إلى المعنى السابق فيقول (لكل إنسان، ولكل جماعة من الناس تعيش على الأرض الحق في الحكم الذاتي).

نظام الحكم في الولاية:

إن النظام الحكومي القائم في جمهورية الولايات المتحدة من أحسن الأمثلة للأنظمة الديمقراطية وأروعها، سواء في حكم الولاية أو في الحكومة المركزية بواشنطن. يعرف المؤرخون الديمقراطية بأنها حكومة الشعب ينتخبها الشعب وتعمل لمصلحة الشعب. وهذا التعريف ينطبق تماما على نظام الولايات المتحدة الحكومي.

فلكل ولاية مدير (حاكم) وهو ينتخب بالاقتراع العام، ومدة حكمه في نصف الولايات تقريبا سنتان، وفي النصف الآخر أربع سنين.

ص: 20

وسلطة الحاكم مبينة في دستور الولاية، فهو يساهم في عمل القوانين بالاشتراك مع الهيئات التشريعية ويعين أعضاء كثير من اللجان، وهو رئيس الحرس الأهلي بالولاية الخ. وينتخب معه نائب الحاكم، وهو يترأس مجلس شيوخ الولاية، ويرتقي إلى منصب الحاكم إذا مات.

وحاكم الولاية رئيس الهيئة التنفيذية، ويعاونه في إدارة شؤونها كثير من الموظفين، ولكن يلاحظ أن أهم موظفي الولاية ينتخبهم الشعب. وفي بعض الولايات تعقد امتحانات مسابقة لاختيار موظفين أكفاء دائمين لمساعدة الموظفين المنتخبين على تصريف شؤون الولاية.

أما السلطة التشريعية فهي في جميع الولايات، وعددها ثمان وأربعون ولاية تتكون من مجلسين: مجلس للشيوخ وآخر للنواب، ويستثنى من هذا العدد ولاية نبراسكا، فلها مجلس تشريعي واحد. وفي معظم الولايات نجد أن عدد أعضاء مجلس النواب أكثر من أعضاء مجلس الشيوخ، ولكن مدة عضوية مجلس النواب اقل من أعضاء مجلس الشيوخ. ومهمة السلطة التشريعية إصدار القوانين ومراقبة الهيئة التنفيذية، ولكن يلاحظ أن حاكم الولاية له حق (الفيتو) أو نقض مشروعات القوانين، ويلاحظ انه لا يجوز للسلطة التشريعية أم تسن قانونا يغاير الدستور العام إنها قوانين الكونجرس إنها المعاهدات مع الدول الأجنبية.

أما السلطة القضائية فهي في يد رجال القضاء والنيابة العمومية، وجميع المحاكمات يتولاها قضاة قد انتخبهم الشعب، وفي بعض الولايات يعينهم الحاكم والمجلس التشريعي. وفي بعض القضايا الجنائية يحاكم المتهمون أمام محلفين، وهذا في الواقع مقتبس من نظام القضاء الإنجليزي، ويكون عدد المحلفين 12 عضوا، وتبدأ المحاكمة فتبدأ النيابة بتقديم دلائل الاتهام ثم تتاح للمتهم فرصة الدفاع عن نفسه، فإن لم يكن في استطاعته أن يدفع نفقات للدفاع عنه، قامت المحكمة بانتداب محام وتدفع الولاية نفقات انتدابه، ومهمة القاضي أن يفسر القانون للمحلفين، وبعد انتهاء المحاكمة يقرر المحلفون أن كان المتهم مذنبا أليه غير مذنب ويصدر القاضي حكمه طبقا لقرارهم.

ولعلك تسألني ما هي العلاقة بين سلطة الحكومة المركزية وسلطة حكومة الولاية، وكيف تقوم؟ أن الخط الفاصل بين سلطات الحكومة المركزية وسلطات حكومة الولاية ينتهي عند حدود الولاية فالمسائل الواقعة داخل حدود الولاية تخص الولاية وحدها، وليس لأحد أن

ص: 21

يتدخل في شأنها، فالشعب الأمريكي يحرص اشد الحرص على ما للولاية من حقوق وسيادة.

ودساتير الولايات جميعها تشترط أن تكون السلطة العليا للشعب؛ وان ترجع إلى الشعب وتبين أغراض الحكومة، وهي الحرص على السلام والتعاون مع حكومة الولايات الأخرى على هذا الغرض وأغراض أخرى، وحقوق الأفراد مكفولة وسوء استعمالها فيما يضر بالآخرين محظورة بتاتا.

وتقوم حكومة كل ولاية بالأشراف على شؤونها الخاصة من نشر التعليم، ووقاية صحة الشعب، وتحسين وسائل النقل، والعناية بموارد الثروة وطرق استغلالها، والمحافظة على موارد الثروة الطبيعية للولاية.

وكما رأينا تقوم كل ولاية بإصدار قوانينها، ومن هنا نجد أن القوانين قد تختلف من ولاية إلى أخرى، فبعض الولايات تبيح الطلاق، والبعض الآخر يحرمه، كما أن مدة التجنيد قد تختلف من ولاية إلى لأخرى، ولكن المهم أن المبادئ الأساسية للحياة وهي الحرية والمساواة والسعي لتحيق سعادة الأفراد، تكفلها جميع دساتير الولايات ودستور الحكومة المركزية.

أما الموارد المالية لحكومة الولاية، فأهمها ما تفرضه الولاية من ضرائب على الممتلكات، وضرائب الميراث والدخل وغيرها.

ويلاحظ أن الحكومة المركزية قد تمد يد المساعدة إلى حومة الولاية فتساهم معها في المحافظة على طرق النقل وفي إنشائها، وقد تعمل على رفع مستوى التعليم بها، ويتلقى عدد كبير من الولايات مساعدات من الحكومة الاتحادية، ومقادير من المال تنفق في أغراض خاصة.

بهذا ينتهي وصف نظام الحكم في الولاية، أما نظام الحكومة المركزية إنها الاتحاد فسنتناوله بالبحث في مقالنا التالي إن شاء الله.

أبو الفتوح عطيفة

ص: 22

‌رحلة إلى الحجاز

للشيخ مصطفى البكري الصديقي

للأستاذ سامح الخالدي

- 3 -

أذية الأعراب للحج:

ولما مال تبان الليل، وزاد في الشوق الكيل، تلقانا الفقراء من أهلها مبشرين بإسعاد وطول ذيل، قائلين وقد نما الليل، مسفرة يا حجاج والليالي سعود، فما أحلاها من بشارة تقود الفؤاد المفؤود إلى نسيان أتعاب للالتهاب تذود، وكان حصل من العرب بل الأعراب، بعض أذية للحج أوجبت ضياع أسباب، وبهؤلاء الخدام زال الإعدام، وجاء الإيسار والبسط التام، وعندما قاربنا المنازل المنورة، التي جلت أن تكفيها مصورة، طربت وحق الطرب، بالوصول إلى المقر الأقرب، وصبحني إخوان لهم اتصال أحب، وخلان لهم ود عن السر أعرب، ولفرط اندهاشي بمن أنا قادم عليهم من أسلاف، غبت عني كأني شربت صرف السلاف، وأنست في سرى أنسا، أنساني نفسي، وخيل لي أني انفردت عن أبناء جنسي، وأن خدام الأسلاف والجدود تلقوني رافعي البنود، فعظمت لدى ذاتي، بوافر سافر لذاتي، وامتدت الأعناق وطالت، وبهذا التلاق مالت، وأخبر بعض من بعض من كان معي، ومنهم الحاج حسن (بن مقلد الجيوسي) أن الجسم كبر وطال، في تلك الساعة وذلك الحال، وصادقة الغير، ولم أشعر بهذا المير.

الشيخ يبدأ بالزيارة:

ودخلت من باب جبريل للزيارة، وبلغ الطفل المتطفل على سادته الاماجد بها أوطاره، شرف القلب وشرق الجفن بدمعه وغرق. وزرت الحبيب بدمع صبيب، (ومن زار مرقده، وجبت له الشفاعة) كما رواه البيهقي وأبن عدي في الكامل. وعنه صلى الله عليه وسلم (من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني لا يهمه إلا زيارتي كان حقا على الله أن أكون له شفيعاً يوم القيامة) و (من لم يزر قبري فقد جفاني) وعنه صلى الله عليه وسلم (من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة).

ص: 23

(وأتيت الروضة وصليت ركعتي التحية، أعددتهما من المنة لحديث (ما بين بيتي ومنبري وروضة من رياض الجنة) وروى البيهقي من حديث جابر أنه قال (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في ما سواه إلا المسجد الحرام في ما سواه إلا المسجد الحرام، وشهور رمضان في مسجدي هذا أفضل من ألف شهر رمضان في ما سواه إلا المسجد الحرام).

(ثم نهضت ثانية لزيارة المرقد العظيم، مواجها للوجه الكريم، قائما بين يديه، مكثرا من الصلاة والتسليم عليه، وقرأت في المقابلة آخر براءة وآية (ولو أنهم ظلموا أنفسهم الآية) وكررت طلب الشفاعة، وعممت الدعة لحاضر وخاطر بالبال من أولاد وعيال وإخوان، ألحقت سائر الأمة الحميدة.

(وبعد أداء ما يلزم في هذا المقام، توجهت لدار قرب باب السلام، استأجرتها للنزول فيها، كيما مواطن الوحي يصافيها، وفي ثاني يوم في الصباح قصدت سكان البقيع، وبعد زيارة سيدي عثمان، عطفت على زيارة أغلب المشاهد، وعنه (يا أم قيس أترين هذه المقبرة، يبعث الله منها سبعين ألفا يوم القيامة على صورة القمر ليلة البدر). وكريت على زيارة سيدي العباس عم سيد الناس، وأخيه سيدي حمزة.

(وفي اليوم الثالث من هذا المقر المدني، بعد أداء فرض العصر، ودعنا الحبيب الأعظم، وأنشدت في السر قول أبن عباد:

فارقت طيبة مشغوفا بطيبتها

وجئت مكة في وجد وفي ألم

لكني سررت بأني عند فرقتها

ما سرت من حرم إلا إلى حرم

وبتنا على الأبيار، وأولجنا إلى القبور الشهدا الأخيار، ومنها إلى (الجديدة) التي لصوصها غير مؤيدة، وعرب وحرب، من لهم المعرفة في الحرب، هم حيات تلك الأرض، وحياتها في طولها والعرض، فلو قطع دابر أعيانهم، لخف فرط هيجانهم، ولله تعالى خفي مراد، فيما قدر وأراد، فإن شرهم الآن في زيادة، نمت على العادة، يريدون بوفد الله أمراً. ويأبى الله إلا ما أراده وسرينا إلى (حنين) و (بدر). ووفد للسلام المحب الفالح السيد محمد صالح نجل العالم المفرد الشيخ محمد الخليلي، وفي (رابغ) أحرمنا وفي (قدية) لم نطل الإقامة، ونزلنا (عسفان) والحر آذى الوجوه البسامة، ومن أوقعته في حبالها وأرضعته ثدي خبالها،

ص: 24

صديقنا الأواه، الشيخ نور الله، وفي فم وادي فاطمة، دفن وأمواج الهم متلاطمة، وهنيئا له كل حين فإنه يبعث في الآمنين لحديث (من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة) فإن قالت الوادي ليس من الحرم، قلت ما قارب الشيء أعطى حكمه، وقد دفن فيه على يمين الوادي بالنسبة للغادي. وما أحسن قول المحيوي مروي الصادي:

عرج ففي أيمن الوادي خيامهم

لله درك ما تحويه يا وادي

ودخانا مكة المشرفة عقب العشاء، وزرنا أهل باب المعلا، ونزلنا دارا للشريف يحيى بن بركات فحصلت لنا بها مسرات وبركات، وبعد إتمام الزيارة، ورفع مسدول الستارة، والفوز بمشاهدة البيت المعظم، والحوز على طواف القدوم، عدنا لصلاة الجمعة، ولما أذن المغرب سرنا إلى المعرف المطرب، ووصلنا انتصاف الليل، والحاج يسيل إليه كالسيل، ونزلنا لصاق خيام، كبيرة ودائرة وإحرام، وبعد الوقوف في صفوف، أهل الشفوف، والتمتع بمعروف ذلك اليوم المعروف، وما قلق القلب الطروب، فيه إلا وقت الغروب لأنها كانت ساعة جماعة، لقلوب أعيان للأكابر لساعة، تفتق الجيوب وترتق فتق الغيوب، تطهر من العيوب. وفي الحديث (لو يعلم أهل الجمع بمن حلوا لاستبشروا بالفضل من ربهم بعد المغفرة) وبعد أن جمعنا جمع التقديم، وحصل للمؤخر همع جمع التقديم، وقفنا الأرواح على المواصلة، لما وقفنا لاستقبال الإمدادات الحاصلة، وأكثرنا من التلبية والدعاء، عاملين بحديث (من أصبح يلبي غابت الشمس بذنوبه) وعنه (ص)(إذا كان عيشة عرفة لم يبق أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان إلا غفر له) قيل يا رسول الله أهل عرفة خاصة، قال بل للناس عامة. ودخل الليل، وختمنا الموقف بدعوات عامة، وهب صبا الرضا والقبول أقمنا في (المزدلفة) إلى مضي زلف من الليل لا زلفة، وحين اعتدل ميزان الليل، شمرنا الذيل، وفي (منى) بعد رمي الجمار دخلنا مكة المكرمة قبل الغروب، واجتمعنا بمكن معنا في دار الشريف، وأتيت البيت المعظم لطواف الإفاضة، وتضلعت من كاسات زمزم. ولم ادع النزول إلى حرم الحصول، إلا من شدة وهج يؤذي المهج، أو غلبة نوم، وكان جاءني محب ملهوف بأخذ الإجازة، فأجزته وأهديته نسخة من ورد السحر المعروف، فتوقف في بعض من محلات منه تنوف على الخمس، فأريته الشرح الكبير، المسمى (بالضيا الشمسي على الفتح القدسي) فزالت الإشكالات، وقرأ إخوان من جماعتنا الورد

ص: 25

المذكور في الحرم الشريف، وكنت أطوف على البيت الموصوف بالجمال، ونجلس في المواجهة في أول الصفوف، ونسمع نغمات الطائفين من سائر الصنوف. وقد أغرب إذ أعرب الفاروقي مجدد ما بعد سابع الألوف، فجعل الكعبة زادها الله شرفا على غيره ينوف.

مدرسان من الحرم يطلبان إجازة من الشيخ البكري:

(وجاءني رجلان من أهل التمكين والعيان، وعرف كل واحد الآخر أنه من مدرسي الحرم المصان، وطلبا إجازة في حديث الأولية فأسمعتهما الحديث الشريف، وسأل أحدهما وهو المدعو بالشيخ محمد التكروري، عن الأسماء الأهلية، فأشر للأخ الأمجد الشيخ أحمد الموقت، فتكلم معه، فعرف أنه عارف نوري. ثم قال للفقير بلغنا أنكم تطالعون الفتوحات المكية فهل يمكنكم شرحها حرفا حرفا؟ فبدت الناجذ استعجابا من كلامه، وقلت له لو حاولت فهم ظاهر ألفاظ الخطبة لأعجزتني قطفا، فكيف ببحرها الذخار، فقال فيكم بركة. ثم ودع ورفيقه وسار، فسألت عنهما فأخبرت أنهما من أكابر المدرسين الآن. واخبرني السيد محمد التفلاتي أحد الأعيان في السفرة الثانية للروم بما قدمته فتحققت أنه وحيد زمانه. وقلت للمذكور عن سؤاله الثاني، فقال ما سألك إلا وهي متحقق أنه يمكنك من حيث الفضل الرباني.

(وأخبرت عن رجل مغربي مواطن، في الحرم الشريف قاطن، مراده الحج والعودة للبلاد، يدعى الشيخ إبراهيم من نسل سيدي عبد السلام بن مشيش صاحب الصلوات، وحدثني مادحه أن المشار إليه ما نزل المدية أقبلت أهلها عليه، وانقادت له أكابرها لما السيد قبله، وسعت إليه على الآماق إذ بجواره أنزله، وقال إنه إذا جاء للمواجهة، لا يدري بمن حاذاه وبمن واجهه، وما في المدينة المنورة بيت إلا وقد أتقد مصباحه دون زيت، فسرت لزيارته مع الصادح راغبا في دعوة صالحة، ونظرة مخصوصة تجعل النفس للقرب صالحة، وصحبني الأخ النبيل الشيخ أحمد فرأيته في جهة باب السلام مستقبلا بيت السلام، فبادرته السلام، فسر السرور التام، ولم نطل الإقامة لئلا نشغله عن طلبه، وطلبنا منه قراءة الفاتحة، والسؤال لنا من ربه، حال مواجهة بيت ربه. وطفت طواف الوداع، وطفت الدموع على الخدين تذاع.

الرجوع من الحج:

ص: 26

وفي سحر ليلة الجمعة بعد أن كررنا طواف الوداع برزنا إلى الشيخ محمود، وما زلنا بعده نرحل منمحطة إلى محطة إلى أن أتينا على قبور الشهداء، وبادرنا الزيارة.

وفي الحديث (من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتب له حجتان مبرورتان) رواه الديلمي عن ابن عباس. وغب التحية أديت ركعتي التحية، وعجلت الرجعة إلى المواجهة وقرأت قوله (وعجلت إليك ربي لترضى).

(وبعد ما زرت سيد الشهداء، على بعد مسافة، دخلت قبة أخيه العباس، وما برحت أتردد من الحرم إلى الدار المعهودة، لاغتنام بركات إمدادات لا يشار إليها مقصودة، وجاءني فيها عالم تقدير، جناب الشيخ محمد الدقاق وهو مغربي واخبر أن السيد الأعظم امسكه في جواره وأنعم عليه بدنوه من نزله وقرب داره، وذكر اشتياق النفس لمهجة أكباده من أولاده، وطلب فاتحة بوصولهم إليه في هذه البلاد، دون بلاده، فأجبناه رغبة في دعوة منه صالحة، وأخبرت أنه بعد ذلك نال مطلوبة وقضى الحق مصالحه، ووفد بالمذكور على رجل يدعى عبد السلام، فشكرت صنيعه ورجوت له العفو التام، وذكر لي الجامع بهذا الجامع رجلا شريفا مهل لي من باعلوي يدعى الشريف علي، فقلت له سر بنا إليه، نغتم دعاه وأشياء مما لديه، وكانت هذه الجمعية بطراز العصابة الألمعية، مباركة المبدأ والآخر لاشتمالها على ذكر سادات حوت في المفاخر، وذكر السيد المشار إليه، أغدق الله نعمه عليه، أن بعض أشياخه ممن يشرب من نقاخه، ضمن بيتين لبعض السادة، في قصيدة وقيد إفادة، وهما:

إذا لم نطلب في طيبة عند طيب

به طاب طيب الحان أين نطيب

إذا ما استجاب الله منا دعاءنا

لدى أحمد المختار أين يجيب

ولقد أكرمنا غاية الإكرام، وتلطف بنا في الصحبة، وبعد ما عدت للمحل المحلي، تأملت فيما علي من فوائده أملي.

(ولما عزمنا على الوداع القطيع، وقد أثر في القلب القطيع، وألمع فيه سيوفا وأسنة، حتى امتلأت بها الأفئدة والأجنة، وعدنا بعد العشاءين من المحل الخارجي عن المدينة، لأجل الزيارة والوداع ثانية بنفوس مدينة، وبعد الصلاة في حضرة الجمع والوجود، ووداع ينبوع الهمع واللمع والجود، أتينا نسيئة النفس ونقد العين، على فراق روح الروح، وعين العين

ص: 27

في العودة على طريق الحج:

وفي صباح ذلك اليوم الخطير سرنا إلى (الجرف) بطرف مطير، واللب منا أسير والقلب ذاك كسير، وما زلنا نطوي بسط البيد أي طي، ونزوي هموم الفراق عند الأحباب أي زي، إلى أن وصلنا مناما أسنى هدية صبيحة الرأي الصائب المصان، جناب سليمان باشا أحد أعيان وزراء آل عثمان، أثابه الديان.

اجتمعنا يوم الثلاثاء العاشر من المحرم، بالجردة، فكان يوم الاجتماع لدينا معظم، وأقمنا فيها كالعادة، وسرنا طالبين الرحاب للاستفادة، وكانت المكاتبات الواصلة حركت ساكن الأشجان، وتقدمنا نسير مع الشعارة، لما اتبعنا مع الحج أهل الذعارة، غلمانه المطلقين اللسان، بالسب لسفاهة برأي وعدم إحسان، فحصلنا وإن خاطرنا راحة، من منازعتهم لم تدخل في راحة، وصرنا نخب العلا ونحب الخلا لما حلا، إلى أن وصلنا (العلا) وأقمنا يومين. كانا في البسط مثل تؤمين، وأتينا (المدائن) وأقربنا منها أفازة مثلثة، إذ أمامنا الدار الحمرا، النازحة المياه، فكانت للهلكات محدثة، وكان يوم الوصول إلى (المعظم) مهول، نهبت فيه المياه المعدة، وتلفت فيه أنفس لها عدة. ولم نقم في هذه المحطة المضرة بالحجاج، إلا مقدار ما له فيها نحتاج، وأسرعنا إلى (المنزل الأخضر) فوصلناه قبل الفجر بوجه أنضر، وأقربنا منه أفازة المغائر، ولم يروي ركب الحج السائر، إلا لدى قلعة (جفيمان) التي عمرها الوزير المعان، جناب عيد الله باشا أمير حجنا الشامي قبل عامنا، وسرنا إلى منزلة (معان) والحق بجوده أعان، وأقمنا في (الحسا) يوما لعمارة جسر مهدوم، ويوم دخولنا على (الزرقا) والفؤاد مكلوم، ونحن في المحفة كؤوس المسرة نسقى وفي بحرها نعوم، ورد على اللسان مطلع مقيد، فسمعه الأخ الحاج حسن (بن مقلد الجيوسي) فانجلت غيوم، ثم تبعه آخر وثان وثالث، فطلب إثباتها لئلا تنسي ومطلع القصيدة:

سمعت حديثا يجلب البسط والصفا

فهيج شوقا للقا كأسه طفا

(وجاء كثير ملاقيه، بالفواكه المنوعة الشامية، فحركت ساكن أشواق، وجاءت أهل (جورة حوران) بالماء كل الطيبة التي لكم جوع مضى في المفازات مطيبة، فأكلنا بنهم فرحا بوصال قرب ديار، وشربنا من ماءها العذب وجزنا سراعاً إلى (المفرق) وحزنا طربا من القدم إلى المفرق، وجاءنا بعض إخوان سوابق عهد ومحبة، فسرنا القدوم لننشق أخبار

ص: 28

منازل علت منه الرتبة، وكان صحبنا الأخ الفاضل الأني، خليفتنا الشيخ محمد المكتبي، وهذا الأخ اسمه مسطور في الرحلة العراقية ناويا زيارة الديار القدسية، وتجديد آثار الصحبة المؤسسة، ومن هذه المحطة توجهنا إلى قرية تسمى (أصيلة) وبتنا بها والأنس بها حائق، ومنها ترحلنا إلى (طيبة بني كنانة) ونزلنا (الصما) لما امتلأت بسهام المواصلة الكنانة، وبتنا بليلة طيبة، وفي الصباح شددنا على النوق، وقطعنا وادي العرب، ونحن في سرور وطرب؛ ومررنا على (جسر المجامع) فلم ننزل الليل عند (عيون القصب) وبعد ما زال النصب شمرنا ذيل السير حيث انتفى الوصب، ونزلنا على (الجالوت) حصة، أذهبت على الفؤاد غصة، ودخلنا بملاقية بني صعب وجبل نابلس صباحا (جينين) وعندنا للأوطان حنين، وتوجهنا صحبة رفاق إلى قرية (كور) وبتنا بها ليلتين نسقي من علها ونهلها، وأوصلنا الذي أخذناه من أهلها لأهلها؛ وتوجهنا صحبة من معنا إلى الديار المقدسة؛ والآثار التي على الأنوار مؤسسة، وبتنا في (الزاوية) التي للهموم بالسرور زاوية، وقام بخدمتنا رضوان؛ فارتحنا راحة من رأى رضوان؛ ومنها إلى (بيتونيا) ولم نتجاوز لها حدا؛ وفي الصباح أقبلت الوجوه الصباح؛ ولم ندر لهم عدا!.

(وحصل يوم الدخول والحصول، في منازلعزت عن الحومل والدخول من البسط المقبول؛ لا سيما بملاقاة ثمرات أكباد، وقلت بعد الصلاة في الحرم الشريف مني تحية.

(وبعد الإقامة في نزل السلامة، وورود الأحباب، مهينة بنيل الآراب؛ وردت الكتب المشرفة من الأصحاب والأنساب، مبشرة بتحصيل ما لم يكن في حساب؛ وسطرت ما ورد منهم والجواب (في الأردان) فانظر هناك تر العجاب >لأني لم اختم تأليف هذا الكتاب إلا سنة خمسين. لما توجهت ثالثا لتلك الرحاب؛ على طريق مصر القاهرة بمعونة رب الأرباب.

(تمت الرحلة)

أحمد سامح الخالدي

ص: 29

‌رسالة الشعر

عتاب.!

لصاحب السعادة عزيز أباظة باشا

(1)

تجهمتني! فيم التجهم خبري

وأضويتني حتى لأشفيت؛ فانظري

أنزوة حب أم ملالة بغضة؟

فإن تك صدا؛ قلت يا نفسي اصبري

وإن كانت الأخرى فأنتن هكذا

خلقتن كالدنيا، تبيع وتشتري

فلستن من حواء أن لم تسمننا

تلون ضوء الماسة المتغير

بعثت بأشجاني إليك وأدمعي

تقلن احفظي ميثاقه وتذكري

تطير بها كتب كأن سطورها

نفاثة طرد صاخب متسعر

فما بالها هانت؛ وكانت إذا هفت

لك الكثب قرت فوق صدر معطر

عجبت لجلمود من الصخر نابض

بأعطاف أملود من البان معصر

وللحسن في أبهى حلاه مثلما

بسمت ربيب الغابة المتنمر

خبرتك في يومك، يوم التنكر

ويوم رضاك الساكب المتفجر

وما كنت إلا فتنة شبح سحرها

وأغرادها النشوان بعض التوقر

وما كنت إلا الراح مرا وكوثرا

لكل مذاق سائغ المتحدر

ولست وإن أخلفت ودك منكراً

سموقك، إن الحر ليس بمنكر

(2)

تنكرت لي يا منية النفس والنوى

ترامي بمرمى الجوانح وامق

بأي دقيق في الذنوب أخذتني

وأي جليل في الهنات الدقائق؟!

أبذلي حمى نفسي لديك موطئا

وحبيك حبي خالقي. وهو خالقي؟!

أبالطارقات الصم يهززن مضجعي

ويغشينني باللافحات الحوارق؟

أبالجهد موصولا؛ وبالدمع ساكباً

وبالسهد حتى قد رثت لي نمارقي؟!

أبالعهد قدسا والوفاء منضرا

وإن وفاء الناس إحدى الخوارق؟!

ص: 30

وعاتبني صحبي وقالوا أعاشق

وهذا شعاع الفجر ملء المفارق؟

وقالوا ألم تقسم يمينا غليظة

ألم تملأ الدنيا بضخم المواثق؟!

فقلت وهل تلحي قلوب ظمية

هفت لقلوب ظامئات شقائق؟!

وقلت؛ متى رد المقادير قادر

فأقوى على دفع القضاء الملاحق؟

لقد طالعتني كالصباح فبددت

جواشن أحداثي؛ وسحب بوائقي

وصبت أساكيب المنى في خمائلي

وروت بصهباء الرجاء حدائقي

تنكت لي فارعي شكاتي وأنتي

إليك تهدى في دموعي السوابق

فديتك؛ قولي هل طريق أخوضها

إليك؛ فقد سدت على طرائقي

وعودي يعد للعين لألاء نورها

فقد ضربت في نافر الصبح غاسق

وعودي أذق أمن الحياة وروحها

وأنع برغد وأرف الظل باسق

وأنشط لأعناق المنى ثابت الخطى

خفيفا فهذا البحر قد آد عتاقي

سلمت على الأيام مخضلة الصبا

يرف رفيف الطل فوق الشقائق

ولا زلت ري الحسن مملوءة الحمى

يطيف به يأس القلوب الخوافق

وميلت بالنعمى، وبدلت رحمة

وعدلا وأعتابا بهذي الخلائق

بدجشتين

عزيز أباظة

من وحي رأس البر:

رحلة السماني!

للأستاذ محمد يوسف المحجوب

(مهداة إلى الشيخ المحترم سعد اللبان بك رائد ندوتنا برأس

البر)

كتائب الطير: سيري

وأقبلي يا سماني

ص: 31

وبشرينا بجو

قد عز عن أن يدانى

حوى الجمال فنوناً

بها نهيم أفتتانا

سبتمبر حين وافى

طابت به دنيانا

الصيف فيه بديع

يا سحره إذ حوانا

يا ليته طال حتى

نفني به الأزمانا

فلا نرى غير ظل

ذقنا لديه الأمانا

سائل لدى البحر رأسا

للبر يحكي الجنانا:

الأفق ضاح فسيح

للعين ألقى العنانا

لا ناطحات سحاب

نهيا بها أجفانا

ولا ضجيجا بمدن

ولا عجيجا طوانا

الجو صحو جميل

من راحة قد سقانا

والبحر حلو رخاء

في رقة يتدانى

والنيل عذب فرات

قد صب فيه الحنانا

وللسان حديث

يروي الهوى عن هوانا

ضم الحبيبين لحناً

فأسمع به الألحانا

وللنسيم عبير

ننسى به الأشجانا

وتسبح الروح فيه

تستلهم الوجدانا

فلا نرى غير سحر

مفصل ألوانا

يعبر الصمت عنه

إذا أردنا البيانا

فنستكين إليه

وترهف الآذانا

ونبصر الروح نشوى

وما شربنا دنانا

عصائب الطير: سيري

وحلقي في الفضاء

وحدثي عن ليال

سبحتها في العراء

في رحلة. . كل خطو

منها نذير الفناء

لموطن حين نادى

رآك رمز الوفاء. .

ص: 32

ماذا دعاك لطير

يا جار الغرباء؟

وما الذي ينتويه

في السير راعي اللواء؟

أمخلص للرعايا

وحاذر ذو دهاء

وخاتل صائديه؟

أم خامل ذو غباء؟

يا ويحها كل عام

من صيفها والشتاء. .!

ترى: أشاقتك دار

فسرت في كبرياء؟

لم تأبهي وجه موت

أو تفزعي من بلاء؟

في الجو طرت الليالي

من دون زاد وماء

لم يغتمض لك جفن

أو تشعري بالهناء

البحر تحتك غول

مستوفز للقضاء

وللصحاري فحيح

من وقدة الرمضاء

فإن أويت لبحر

لقيت موت الظماء

وإن هبطت برمل

شواك أقسى شواء. .

ما بالها وهي تسري

وديعة كالظباء

يحدو سراها رجاء

في عالم ذي صفاء

تنجو به من كلال

لاقت ومن إعياء

ترى الشباك أقيمت

سفاكة للدماء؟

يا للضعيف نراه

ضحية الأقوياء. .!

كتائب للطير: أهدي

تحيتي وثنائي

شهرين رهن انتظار

أن تقبلي بالرجاء

لموسم أنت فيه

للروح أشهى غذاء

طالعتنا بليال

ما مثلها في الصفاء

فإن أضع فيك شعري

فذاك بعض الجزاء

في كل عام دعانا

للرأس داعي الولاء

(الرأس) مصطاف قلبي

ومتعتي ودوائي

ص: 33

مهما لقيت لديه

من جفوة أو غلاء

لنا به ذكريات

تندى بطيب الإخاء

وحلبة تتهادى

بصفوة الأدباء

في ندوة وجه (سعد)

قد زانها بالضياء

تفيء روحي إليها

في الصبح أو في المساء

فأنهل الوحي سحرا

يحلو لديه غنائي

طيري لنا يا سماني

وحلقي في سمائي

وإن تعبت فقري

واستوطني أحشائي. .

ترى بها خير دار

لنازح الدار ناء

فإن أبيت جواري

أو خفت طيف اعتداء

أطلقت سربك توا

لتسعدي بالفضاء

فما عرفنا بسوء

يوما ولا إيذاء

ولا نصبنا شباكا

معاشر الشعراء.

محمد يوسف المحجوب

ص: 34

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

معالي الدكتور طه حسين باشا:

تلقيت البلاد يا معالي الوزير، بعد رحلتك في أوربا، فرحة مستبشرة، لما انطوت عليه نفوس أهلها من العرفان لفضلكم في نهضتها التعليمية التعميمية، مطمئنة إلى أنكم مواصلون ما أخذتم على عاتقكم من هذا العمل التاريخي الجسيم.

وعدت ألينا أيها العميد العزيز بعد الصيف الذي يحكم علينا دائما أن نتراخى، وقد نهرب منه إلى هنا وهناك، ولا نستطيع على رغم ذلك أن نهمل دعاء الحياة إلى مشاغلها وأهدافها، ولكننا اعتدنا أن نؤجل الكثير من الأعمال ريثما تذهب حدة القيض ويأتي بعدها ما يتقدم بنا إلى موسم النشاط.

عدت ألينا في بداية ذلك الموسم، ونشطت في نفوسنا آمال الجماعة التي جريت على العمل لخيرها، فأهلا ومرحبا بك أولا، أما ثانية فلدي أحاديث شتى في مسائل التعليم وشؤون الأدب والأدباء، أحب أن أحدثكم بها، كما اعتدت أن افعل في أحيان قدومكم من أسفاركم الموفقة المثمرة، وأنا اشعر أني بذلك اقدم لكم تحية قدومكم ألينا، وهي تحية عجيبة لما تنطوي عليه من الطلب، مما لا يكون عادة في التحيات الطيبات، ولكني مصر عليها، ومن حسن الحظ أني أتوسم إيثاركم إياها على التحايا الخاليات المخليات.

تغلبت يا معالي الوزير على العقبات المالية في تسيير التعليم ونشره، فكافحت ضيق الميزانية، وحاججت وزارة المالية، لتعليم الشعب كله، ولو رجعنا إلى بدء عملكم في سبيله ذكرنا ما كان يقال بل ما كان يخامرنا من الإشفاق. كان يقال أما تسرفون في التصريحات وفي الأمل، وكنا نشفق من وعورة الطريق. وأصبحنا الآن لا نستكثر على همتكم شيئا ولا نشفق عليكم من المطالبة حتى بالمستحيل. .

تغلبت على العقبات المالية، فأدنيت ثمار التعليم من الجميع وأنت الآن بصدد تنظيم الشكل، ولكن هناك وراء ذلك كله اللباب. . وهو روح التعليم ومادته وطريقه. هناك المناهج المكتظة بما يثقل ولا يجدي، والخالية مما يفيد، وهناك الطريقة الآلية التي تعني بالتلقين والاستيعاب دون الهضم والامتصاص والتمثيل.

ص: 35

وأنتم حينما تأخذون في هذا السبيل المؤدي إلى تقويم مناهج التعليم وبعث الروح فيه، ستعترضكم عقبات من نوع مغاير للعقبات المالية، هي عقبات في عقول المتولين المباشرين لشؤون التعليم، أعني حفظ النظم الجامدة، وورثة الأساليب الاستعمارية، أعني من هؤلاء وأولئك الجامدين والتافهين، الذين يعدون المناهج، ويؤلفون الكتب ويفتشون على المدرسين. . الخ.

لقد أطللتم على تلك الناحية من الإصلاح، من خلال التشريع الذي أعددتموه لإلغاء امتحان النقل بالمدارس، ولكن هذا لا يكفي، بل أنه لا يتفق مع المناهج والطرائق الحالية، بل مع تلك التعليقات، لأن إلغاء الامتحان مع بقاء ذلك لا ينتج غير كسل المعلمين وجهل التلاميذ.

إنك يا معالي الوزير الأديب عقلية جديدة على وزارة المعارف، وأقول لك - وقد حرضتني أو شجعتني على مثل ذلك - إن اكثر معاونيكم في الوزارة ليست عقليتهم من جنس عقليتكم، وإنما هم يحترفون وسائل الوصول، وإن سحب هؤلاء حولكم تحجب كثيرا من العناصر الصالحة.

وادعوا الله مخلصا ألينا يوفقكم ويعينكم على التغلب على العقبات العقلية، كما وفقكم وأعانكم على العقبات المالية.

وبقية حديثي إليكم هذا الأسبوع، يا عميد الأدباء، في مسألة تخص أحد إخواننا الأدباء، وهو الأستاذ عبد الله حبيب، فقد أصدرتم قبل سفركم إلى أني قرار بترقيته إلى (مراقب مساعد) في الإدارة العامة للنشاط الاجتماعي والرياضي، وحدثت قراء الرسالة إذ ذاك بهذا الصنيع الكريم لأديب قضى في خدمة الأدب العربي قرابة ثلاثين سنة، وعرفه قراء العربية ناقدا ومحققا وقاصا بارعا وعددنا ذلك مما جريتم عليه في مودة الأدباء وخدمتهم سواء في الوزارة أو في خارج الوزارة.

وكان المفروض ألينا يأخذ ذلك القرار الكريم طريقه إلى التنفيذ من مكتب المستشار الفني لوزارة المعارف، ولكنه قبع في هذا المكتب ولا يزال قابعا حتى كتابة هذه السطور. ولست ادري أنسيته سعادة المستشار؛ أم هو يحبسه لغرض لا نعلمه. الأنوار الذي أنا على يقين منه ألينا معاليكم أصدرتم هذا القرار لينفذ ويعمل به.

وتفضلوا معاليكم بقبول خالص المودة ووافر الإجلال.

ص: 36

جغرافية البلاد العربية:

ذكرت من قبل في توصيات اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، أن هذه اللجنة أوصت أن تخصص الجامعة جائزتين لتشجيع التأليف تمنحان سنويا، الأولى لأحسن كاتب عربي علمي أو أدبي يخدم فكرة تتصل بتحقيق أهداف الجامعة العربية العامة، والثانية لتكليف مؤلف عربي أو اكثر بوضع كتاب يستكمل وجها من أوجه النقص في مجال التأليف العربي المتصل بدراسة الحياة العربية وإنتاجهم الفكري وحضارتهم.

وقد جالت بخاطري ناحية من نواحي النقص في التأليف تنطبق عليها الفقرة الأخيرة التي تتضمن الجائزة الثانية، تلك هي (جغرافية البلاد العربية) التي لا توجه إليها العناية الكافية في التعليم عندنا، وهي أيضا مثل من أمثلة النقص في برامج التعليم الذي أشرت إليه في الموضوع السابق الذي وجهته إلى معالي وزير المعارف. وأذكر أن توصيات المؤتمر العربي الثقافي الأول تضمنت وجوب العناية بجغرافية البلاد العربية، ولكنا لا نزال نهمل هذه الناحية، أو نحن لا نوليها حقها في معاهدنا، وأقول في هذه المناسبة أن برنامج التعليم في مصر وفي سائر البلاد العربية لم تفتح أبوابها بعد لتوصيات المؤتمرات واللجان الثقافية، كما تبين ذلك من مناقشات المؤتمر الأخير، على رغم أن وزارات المعارف بالدول العربية تمثل فيها، وعلى رغم الخطب الطنانة الرنانة التي تلقى بها!

أليس من المخجل أن يطوف مدرس الجغرافية بتلاميذه العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا دون أن يعرج على البلاد العربية التي مصر جزء منها فيعرفهم على ما اتفقنا على تسميته (الوطن العربي الأكبر)؟ والى ذلك الإهمال المعيب في تعليم الجغرافية في معاهدنا يرجع جهلنا الفاضح بالبلاد العربية، وقد كان هذا الجهل مطبقا قبل أن تتناول الصحف المسائل العربية المختلفة التي أثيرت في السنوات الأخيرة. واذكر مثلا أن سلطان الحج زار مصر منذ سنين وكتبت عنه الصحف، ولم نكن نعلم قبل ذلك أين لحج هذه التي يزورنا سلطانها!

وبعد فليت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية تبدأ بهذا الموضوع في تكليف من يؤلف للجائزة الثانية.

وأعتقد أن خير من يقوم بهذه المهمة الدكتور سليمان حزين بك المدر العام للثقافة بوزارة المعارف، وإن من وضع الأمور في مواضعها أن يسند إلى هذا الأستاذ الكبير الذي برع

ص: 37

في فنه الجغرافي، والأشراف على تعليم الجغرافية أو الارتفاع به في وضع مناهج للمدارس والتأليف فيها، فإن ذلك أجدى من اشتغاله بمواعيد حضور الموظفين وانصرافهم بإدارة الثقافة وما إلى ذلك من الشؤون البعيدة عن أستاذيته.

كلوا وأعملوا:

شغلت الصحف في الأسبوعين الماضيين بأنباء المواطنين الذين اضربوا عن الطعام واعتكفوا بنادي الكتلة الوفدية، طلبا لإلغاء معاهدة سنة 1936، وأخذت هذه الحركة شكلا جديا وطنيا، لاهتمام الصحافة ولتأييد الكثيرين للمضربين، وقد تألفت لجنة لهذا التأييد. وأرادت الحركة أن تكبر حينما دعا الداعون جميع المواطنين إلى الإضراب عن الطعام يوما من الأيام. .

كان ذلك فعلا مظهرا من مظاهر إرادة الشعب للتخلص من هذه المعاهدة التي يشعر إنها من نكد الدنيا عليه. ولكن الحق أنني لم استسغ هذا العمل أو بتعبير أدق (اللاعمل) مع احترامي للدوافع الوطنية التي دفعت هؤلاء المواطنين إلى هذا الإضراب وتقديري لقدرتم على مشقة الحرمان.

الإضراب عن الطعام وسيلة سلبية الغرض منها حمل الآخرين على عمل معين، يلجا إليها الأطفال مثلا للإعراب عن غضبهم كي يحملوا الأمهات والأباء على إجابة رغباتهم؛ وكثيرون من الأباء والأمهات يقفون موقف الحزم من أولادهم الغاضبين على الطعام لكيلا يعتادوا ذلك. . ويلجأ إليها بعض الوطنيين كي يحركوا الضمير الإنساني العام الذي دلت الحوادث على فقده. . أو ليحملوا مواطنيهم على الاتفاق في وجهة وطنية معينة، وكان هذا غرض (غاندي) من صومه.

ولست أشبه مواطنينا الذين اضربوا، بالأطفال، وإنما ذلك من باب استيفاء الصور الواقعة، وقد علمنا أن الضمير الإنساني لا وجود له، بدليل أننا لم نكسب بإضرابهم، ولم يكن ينتظر أن نكسب لو متنا جميعا من الجوع، أي عطف أو تأييد من آية دولة من الدول، في آية هيئة من الهيئات العالمية!.

أما التشبيه بغاندي فلا موضع له، فكلنا - حكومة وشعبا متفقون على وجوب إلغاء المعاهدة، فلا معنى لذلك الإضراب إلا المطالبة بالإلغاء قبل الدراسة الكاملة للموضوع، ولن

ص: 38

يهمل الموت المضربين حتى تتم هذه الدراسة، فتكون النتيجة الانتحار.

ذلك كله على فرض الإضراب عن الآكل وسيلة سليمة، ولولا المشاعر الوطنية التي دفعت أولئك الذين أضربوا، لوصفت هذا العمل بالصفات التي لا تسرهم. وما أشد حاجتنا إلى العمل الإيجابي لخير وطننا، واقل ما نحتاج إليه لهذا العمل أن نأكل لنقوى.

إن هذه الوسيلة السلبية الهزيلة لا ينبغي أن يشجع عليها بالنشر، ولا ينبغي أن تؤيد بالخطب وتأليف اللجان، ولا بأي نوع آخر من التأييد، إلا إذا جاز التشجيع على الانتحار وتأييده!.

والمسألة كلها إنما كانت بالتشجيع والتأييد. . وليس جديراً بهما إلا من يأكل ويعمل.

عباس خضر

ص: 39

‌البريد الأدبي

النقد والشعر:

كتب الأستاذ سامي أمين في عدد الرسالة الماضي كلمة بهذا العنوان تعقيبا على كلمة لي عن ديوان: (أ، فاس محترقة) للشاعر المصري محمود أبو الوفا.

وكنت أحب أن أجد في كلمة الأستاذ سامي أمين ما أناقشه إيضاحا لرأيي الفني في الشعر - فأنا لا أحب إهمال آراء الناس وعدم الاهتمام بها - ولكنني أسف لأنني لا أجد هنا رأيا فنيا صالحا للمناقشة. إنما أجد تهجما ينقصه الاتزان والجد واللياقة: أولا: على صاحب أنفاس محترقة حيث يقول الكاتب: (هذا الهذيان المطلق الذي لا تربط بينه قافية واحدة ولا فكرة واحدة وثانيا: علي أنا حيث يقول: (فيريد الشعر بهذا الشكل المشوه الممسوخ) ثم باتهامي بالمحاباة لمجرد أن الشعر مصري!.

وقراء الرسالة الذين يعرفونني أكثر مما يعرفني السيد سامي يعرفون أن المحاباة وفكرة القومية المصرية الضيقة هما آخر تهتمين يمكن إلصاقها بي!. أما ذوقي الأدبي كناقد فني فأمره متروك لهؤلاء كذلك!.

وأنا أعتذر للسيد سامي أمين إذا لم أجد فيما عرض بعد ذلك شيئا أناقشه؛ فهو مجرد ذوق بدائي جدا في فهم الشعر كنت أحسب أننا انتهينا منه منذ زمن طويل. ونماذج من الشعر تمد يدك فتجد منها حيث شئت الكثير!.

وهذا الذي عرضه لا يمثل نهضة الشعر العراقي حيث تلتمع قوية مرموقة تشير إلى معقد الزعامة الشعرية في العالم العربي. ولعل الفرص تسنح لعرضها قريبا.

سيد قطب

بغداد بين الرشيد والمنصور:

ذكر الدكتور أحمد أمين بك، في كتابه الأخير عن هارون الرشيد، ص 25 ما نصه:

(فمما فعله الرشيد أن سمي بغداد مدينة السلام، تشبيها لها بالجنة (دار السلام) وسمي قصر الخلافة بالحريم تلميحا إلى البيت الحرام، وجلب بعضا من الأنصار وسماهم بالأنصار، وجعل بابا من أبواب بغداد قليل الارتفاع لكي ينحني الداخل منه تشبيها بالسجود احتراما

ص: 40

للخليفة، كما يفعل الداخل إلى الكعبة، وسمي الخيزران أم الخلفاء تشبيها بما سمي به الرسول عائشة أم المؤمنين).

ولنا على هذا الكلام عدة مآخذ:

(1)

للذي اجزم به أن هذا المعنى قد نسبة المؤرخون إلى الخليفة الثاني (آبي جعفر المنصور) ويخطئ من ينسبه إلى هارون الرشيد، لن أبا جعفر هو الذي أقام بغداد واختطها لتكون عاصمة ملكة، والأستاذ الكبير نفسه قد نسب هذا إلى المنصور في كتابه الأخير عن (المهدي والمهدوية).

(2)

ومهما يكن من شئ فان هذه الفكرة مفتراة على آبي جعفر المنصور؛ ووضعها بعض غلاة الشيعة تشويها لحكم هذا الخليفة العظيم؛ وطعنا على خلافة العباسين، وقد تورط في هذا الأستاذ (جورج زيدان) في كتابه) (تاريخ التمدن الإسلامي) ولم يحاول أن ينقد هذه الرواية، أو ينفيها عن الخليفة المنصور، فذكر أن أبا جعفر زيادة على ما تقدم قد بنى لنفسه قبة من الذهب تعرف بالقبة الخضراء لكي يصرف الناس عن الحج إلى الكعبة إلى الحج إليها، وقد أستند مؤسس الهلال في رأيه هذا إلى خطبة مغرضة خطبها بعض العلويين الخارجين على المنصور، ليحرض على الثورة عليه.

(3)

مهما قيل في استبداد المنصور وبطشه بخصومه دفاعا عن ملكه، فلا أتصور أن يبلغ به الآمر إلى المجاهرة بتعطيل ركن من أركان الإسلام، ونحن نعلم أن الدعوة العباسية لم تقم إلا على أساس الدين، والقرابة من رسول الله (ص) ومن مقتضى السياسة والكياسة إلا يجاهر المنصور بعمل كهذا، وقد ذكر الطبري في تاريخه، وأبن الأثير في الكامل: أن أبا جعفر المنصور قام في الناس خطيبا، وذكر ظلم بني أمية، واتخاذهم الكعبة غرضا فقال:(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، قضاء مبرم وقول فصل، وما هو بالهزل؛ الحمد لله الذي صدق عبده؛ وأنجز وعده، وبعدا للقوم الظالمين، الذين اتخذوا الكعبة غرضا والفيء أرثا؛ والدين هزوا؛ وجعلوا القران عضين، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون ذلك بما قدمت أيديهم وان الله ليس بظلام للعبيد).

أمين محمد عثمان

تحقيق نسبة أبيات:

ص: 41

1 -

قرأت كتاب الشهر (المهدي والمهدوية) للدكتور أحمد أمين بك فوجدت فيه البيتين منسوبين لابن هانئ الأندلسي:

لو كانعلمك بالإله قسما

في الناس ما بعث الإله رسولا

لو كان لفظك فهم ما أنزل

القرآن والتوراة والانجيلا

والحق أن هذين البيتين لأبى الطيب المتنبي يمدح بدر بن عمار في قصيدة طويلة ويذكر الأسد كما في ديوانه.

2 -

قرأت كتاب الشهر (ملامح من المجتمع العربي) للأستاذ عبد الغني حسن فوجدته ينسب الأبيات الآتية للجارية فضل ص27 من كتابه.

لأكتمن الذي في القلب من حرق

حتى أموت ولم يعلم به الناس

ولا أقول شكا من كان يعشقه

إن الشكاة لمن تهوى هي الياس

ولا أبوح بشيء كنت أكتمه

عند الجلوس إذا ما دارت الكاس

وهذه الأبيات عينها منسوبة للشاعر علي بن الجهم الذي مات مقتولا سنة 249هـ كما في كتاب المنتخب الجزء الثاني ص342 المطبعة بالمطبعة الأميرية سنة 1934 الذي جمعه وترجمه العلماء الآجلة طه باشا والسكندري رحمه الله وأحمد أمين بك وغيرهم من كبار الأدباء فأرجو التنبيه بصحة نسبة هذه الأبيات لقائلها.

عبد العليم علي محمود

غنية لا غنوة:

يقول الشاعر العراقي الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري في العدد 949 من الرسالة الغراء أن (غنوة) من الغنى بمعنى الاكتفاء واليسار كما في جميع المعاجم العربية) والذي أريد أن أنبهه إليه أن الكلمة التي تدل على هذا المعنى هي (غنية) كما في مختار الصحاح إذ يوجد فيه (عنى به عنه غنية بالضم) والمعروف عن الأستاذ عبد القادر إنه شديد الإعجاب بأمير الشعراء أحمد شوقي بك لهذا احليه على قصيدته المشهورة:

روعوه فتولى مغضبا

أعلمتم كيف ترتاع الظبا

فإنه سيجد هذه الكلمة (غنية) في هذا البيت:

ص: 42

كان عن هذا لقبي غنية

ما لقبي والهوى بعد الصبا

وللأستاذ الفاضل خالص الثناء والتقدير

الصافية

عبد الفتاح الجزار

تصويب في تصويب:

للأستاذ الباحث عبد القادر رشيد الناصري لمحات دوال على لمعة ذهنية واجتهاد في تقصي ما يغرب عن ألفة العربية.

ولقد صوب بيتا من الشعر مرويا عن أبى نواس في كتاب (هارون الرشيد) للدكتور أحمد أمين بك حين تحدث عن معلمي الكتاتيب في هذا العهد، لكن تصويبه في التعليل كان ذا علة!.

أما البيت؛ فقول أبى نواس:

عندها صاح حبيبي

يا معلم، لا أعود

أما التصويب فقول الأستاذ: (وزنه لا يستقيم إلا بسكون ميم معلم، وسكون يا معلم لا يجوز لأن الاسم منادى معرفة وحركته الرفع).

وأقول: إن الرفع حال أعراب، وحركته علامة؛ والمنادى من المنصوبات والاسم (معلم) مبني على الضم؛ فحركته ليست رفعا!؛ فالصواب إليه يقال (الاسم منادى معرفة وحركته ضمة بناء)، والمعرفة يبنى على ما يرفع به لا أن يكون مرفوعا!.

وجاء في موطن آخر قوله: (إنشاء الله. . وهي خطأه تقارب الخطيئة فإن (إنشاء) مصدر (أنشأ) فالهمزة والنون من كيان الكلمة، على خلاف (إن)(شاء)، آبى هما كلمتان (إن) الحرف و (شاء) الفعل، ومن ثم يجب الفصل.

ولقد أحلنا الخطأ إلى تعجيل رصاف الحروف، وإن كنت به غير ظنين!.

بور سعيد

أحمد عبد اللطيف بدر

ص: 43

المدرس بالثانوية

ص: 44

‌الكتب

معركة الإسلام والرأسمالية

تأليف الأبيات سيد قطب

بأمير صادق رستم

(هذا الوضع الاجتماعي السيئ الذي تعاني منه الجماهير في

مصر غير قابل للبقاء والاستمرار)

بهذه الجملة أفتتح المؤلف كتابه القيم ثم استمر يقول إن هذا الوضع (مخالف لطبيعة الأشياء ولا يحمل عنصرا واحدا من عناصر البقاء. . . إنه مخلف لروح الحضارة الإنسانية، مخالف لروح الدين، مخالف لروح العصر. ذلك فوق مخالفته لأبسط المبادئ الاقتصادية السليمة؛ ومن ثم فهو معطل للنمو الاقتصادي ذاته بل النمو الاجتماعي والإنساني) ثم استطر يقول (إنه وضع شاذ، يهدر الكرامة الإنسانية ويفسد الخلق والضمير ويقضي على كل معاني العدالة، ويقتل الثقة الضرورية في المجتمع والدولة وينشر القلق ويذهب بالاطمئنان).

وانبرى المؤلف الفاضل يبسط كل هذا ويتوج أدلته بالآية الكريمة (وإذا أردنا إليه نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).

وقد جعل من هذا كله (صيحة نذير) أنذر بها الذين يتشبثون بهذا الوضع الشاذ ويقيمون له الإسناد وهم ما بين مستغل يعز عليه إليه يساهم في التكاليف لإقامة المجتمع الصالح، وطاغ لا يرى ألا إليه يقوم المجتمع على السلطان الزائف، ومستمتع مرن على الاستمتاع الفاجر، ورجل دين محترف باع نفسه للشيطان بدراهم معدودة، وهو جميعا يلقون بأيديهم إلى التهلكة ومعهم أوطانهم المنكوبة ما لم تأخذ هذه الأوطان على أيديهم وفي الوقت متسع ولا غرابة، فالحقائق لا تعالج كما نعالجها نحن اليوم بالخطب والمواعظ والفتاوى المحتالة، ولا بكم الأفواه وحطم الأفلام. والمعدات الجائعة لا تفهم المنطق ولو كان صحيحا (وعلينا إليه ندرك هذا قبل فوات الأوان. ولقد أوشك والله إليه يفوت الأوان).

ص: 45

فإذا سكتت الأصوات كلها فهناك صوت لا يمكن إسكاته وهو صوت المعدات الخاوية للملايين التي تملأ جنبات هذا الوادي فهنا ملايين تبذل العرق والدم ولا تنال مقابلها لقمة الخبز جافة ولا خرقة الكساء متواضعة (وهذا صوت جموع من الأحياء ما عرفت الشيوعية ولا غيرها ولكنها جائعة عارية مسختها تلك الأوضاع الاجتماعية الظالمة فحرمت حتى حاسة الإحساس بالظلم، وحتى شعور الإنسان بالحرمان بينما الشرف الفاجر الداعر يعربد في المواخير والقصور والذهب المتجمد من دماء الملايين يبعثر على الموائد الخضراء وفي حجور الغواني).

ثم شرع المؤلف يتهم هذه الأوضاع الاجتماعية فقال: تنفذ، ولكن التنفيذ يحتاج إلى المال والمال في أيدي الرأسماليين والدولة تشفق إليه تحمل رؤوس الأموال نصيبها الواجب من الأعباء لأنها لا تمثل الجماهير المحتاجة، بل رؤوس الأموال ويضاف إلى ذلك إليه الدولة فقيرة وغير جادة، وأداتها الإدارية فاسدة أفسدتها الاستثناءات والمحسوبيات وسوء النظام وبلادة الروتين والرشوة وخراب الذمة. والأثرياء الذين نمثلهم قد بشموا ثراء وعجزوا عن تصريف نما في أيديهم من ثروات، وبعد كل هذا

أولا - بأنها تشل قوى الآمة على العمل والإنتاج، وتشيع فيها التعطل فتضعف عن مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية وهي تتزايد على مر الأيام. وعلة العلل في كل هذا هي سوء توزيع الأرض، فلا تزال موزعة كما كانت في اظلم عهود الإقطاع، ومحتكرة في أيدي قليلة لا تستغلها استغلالا كاملا ولا تدعها في أيدي القادرين على الاستغلال، وهم لا يملكون شيئا مع هذا، فالأرض الصالحة للزراعة يمكن إليه تتضاعف لو إن مشروعات الري والصرف فالدولة مشغولة بالصراع الحزبي في حلبة الأقزام التي أقامها الاستعمار منذ ربع قرن باسم الدستور ووقف يتفرج ويتسلى وهي فوق هذا مشغولة بحماية تلك الأوضاع الشاذة. .

وعدا هذا يقال (الآمة مصدر السلطات) ويتكلمون عن حق الانتخاب وحرية الاختيار، وهي خرافة لا تستحق المناقشة فهذه الآمة (مصدر السلطات) هي تلك الملايين الجائعة الجاهلة المستغفلة يشير لها السادة فتنتخب، ويشيرون لها فتمتنع لأنهم خزنة أملاكها وملاك الإقطاع الذي يؤوي الجياع. . فالحديث عن الدساتير والبرلمانات تصلح مادة فكاهة يتسلى بها

ص: 46

الفارغون.

ثانيا - بان الأوضاع المذكورة تفسد الخلق وتشيع الفساد في المجتمع والدولة وهذا طريق الانحلال الفردي والقومي ومضى المؤلف يدلل على هذا بالفتيان المرد والشيوخ المترهلين الذين تجبى إليهم ثمرات الكد والعرق والدماء من جهود الألوف الجياع الحفاة العراة فتنقسم الآمة إلى قسمين قسم يغري بماله في جانب، وقسم يتطلع بعوزة في جانب، وما شئت بعد ذلك من استهانة بالأخلاق والعادات استهانة فصلها المؤلف تفصيلا مؤلما، وبين ما يبني عليه من اختلال موازين العدالة الاجتماعية وقال (إنما هي الحمأة الآسنة يصب فيها الوحل والقذى ثم تتسع وتتسع حتى تحيل المجتمع كله إلى بركة من الوحل النتن تغوص فيها الضمائر والأخلاق وتغرق القوميات والأوطان).

ثالثا - بان الأوضاع الاجتماعية الحاضرة تقضي على تكافؤ الفرص وتقدم العدالة بين الجهد والجزاء وبذلك تشيع الحنق والاضطراب في نفوس الأفراد والجماعات، وتجعل المساواة أمام القانون خرافة - ومضى يدلل على هذا ويقول: إن الذين يعملون في هذا البلد هم الذين يجوعون. وإنما عني المؤلف بالأعمال الشريفة منها التي لا تدخل في قائمة السرقة والغش والاختلاس والتدليس والارتشاء واستغلال النفوذ وتجارة الرقيق الأبيض والخيانة الوطنية. . ومضى يقول: إليه النفوس متى فقدت الثقة في الخير والواجب والأمانة والضمير فقد فسد كل شيء وعم الإهمال والاستهتار وقد انتهينا إلى هذا والى ما هو أدهى منه. انتهينا إلى الشك المطلق في صلاحية الإدارة المصرية والى الترحم على أيام الاختلال وهذه كارثة الكوارث لان فيها كفر المواطن بوطنه وبشعبه وبنفسه. وتلك جريمة الاستثناآت والمحسوبيات.

رابعا - اتهام المؤلف للأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تدفع الناس دفعا إلى الشيوعية وخصوصا ذلك الجيل الناشئ من الشبان الأبرياء، فالشيوعية أن هي ضمنت كفاية الملايين الكادحين من الخبز والكساء فإنها تسلبهم الحريات جميعا، ولكن هذه الحريات مسلوبة الآن بطبيعة ما نحن فيه فلا ضير على أولئك الملايين ولا يحسون انهم فقدوا شيئا كانوا يملكونه.

خامسا - يتهم المؤلف الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها في جملها وتفصيلها مناقضة لروح

ص: 47

الدين كله منذ إليه عرفت البشرية الأديان السماوية جميعا.

ثم قال:

(وهي اكثر مناقضة للإسلام الذي يصرخ في وجه الظلم الاجتماعي والاسترقاق الإقطاعي وسوء الجزاء. . ولا علاج لما نحن فيه لا بالشيوعية ولا بالاشتراكية ولا بالفاشية وغيرها. . فالدواء الناجح الدائم هو في الإسلام، فهو يقر مبدأ الملكية الفردية ولكن يعد العمل هو السبب الوحيد للملكية والكسب، ويعني العمل كل أنواعه، ويحرم الربا لأنه ينتج عن راس المال كما يحرم الغش والاحتكار والربح الفاحش والمستقطع من أجور العمال وهي تبلغ نصف الربح كما رواه بعض فقهاء الإسلام، ويحرم أيضا السرقة والنهب والسلب والإكراه ولا يعد كل ذلك وسائل للتملك أو وسائل لتنمية المال، وهذا من طبعه يمنع التضخم في الثروات منذ البداية فيقي المجتمع الأذى ويمنع فوارق الطبقات. ويضاف إلى هذا ضربة الزكاة الدائمة وهي تعادل 2ر5 % من اصل الثروة كل عام وتجبيها الدولة وتتولى أنفاقها بنظام، يعني قابل للتطور حسب حاجات المجتمع وأوضاعه، كما تجبي سائر الضرائب. فهي ليست إحسانا يخرج من يد إلى يد، وما يفعله المسلمون اليوم ليس هو النظام الذي فرضه الإسلام.

وللدولة حتى تتغير الأحوال وتبرز الحاجات حق مطلق في المال لا يقف في وجهه حق الملكية الفردية. فللدولة أن تفرض ضرائب خاصة غير الضرائب العامة تخصصها لكل وجه طارئ من اوجه الأنفاق لم يحسب حسابه في المصروفات العامة أو تعجز الميزانية العادية على الأنفاق عليه. فللدولة مثلا أن تنزع من الملكيات وتأخذ من الثروات بنسب معينة كل ما تجده ضروريا لحماية المجتمع من مختلف الآفات التي تتعرض لها المجتمعات. بل للدولة أن تنزع الملكيات والثروات جميعا وتعيد توزيعها على أساس جديد ولو كان الملك شرعيا لأن دفع الضرر عن المجتمع كله أولى بالرعاية من حقوق الأفراد وذلك هو التكافل الاجتماعي فختم على الدولة أملاكها تتلافى الضرر الذي يصيب المجتمع لأنه يقع على كل أفراده، وحتم عليها أملاكها تقي هؤلاء الأفراد من أنفسهم عند الاقتضاء!.

وللدولة أن تبقي على الملاك أراضيهم ثم تعطيهم قدرا يزرعونه في حدود طاقاتهم وتمنح حق الارتفاق على سائرها من تشاء من المحتاجين القادرين يشغلونها لحسابهم بلا اجر ولا

ص: 48

إكراه

وللدولة أن تحدد إيجارات الأرض أو نسبة من المحصول لا جور فيها على المستأجر ويقترب بما يحقق العدالة ويحث على بذل أقصى الجهد في الإنتاج وهذا أعدل وأمهر وأشمل من النظام الشيوعي.

هذا فيما يخص بالنظام الزراعي.

أما فيما يختص بنظام العمل والأجر فالإسلام يقدس العمل والمبدأ العام، عدا حصول العامل على نصف الربح، أن يستجد الحاكم من الأحكام بقدر ما يجد في ألا قضية. فمبدأ (مصالح المجتمع التي لم يرد فيها نفي) ومبدأ (توقي الأخطار المحتملة) يمنحان الدولة كل الحرية في التشريع في حدود العدل وكفاية العامل ورضاه على ضوء المصلحة الاجتماعية العامة وضوء المبادئ الإسلامية ومقتضيات الأحوال. فلم يحدد الإسلام قواعد ثابتة وترك المجال حرا لقبول تجارب البشرية في كل زمان وبقي حارسا للاتجاه العام.

والإسلام لا يقر نظام الاحتكار ولا حقوق الامتياز في الوارد والخدمات العامة، وهو أي الإسلام يبيح ويقر ما يسمى (تأميم المرافق العامة) لان ذلك من مبادئه الرئيسية، وما ينتج عن التأميم يعود لخزانة الشعب لا لخزائن الأفراد.

ويحل الإسلام مشكلات أخرى فانه يمنح أهله الذاتية الشخصية التي تبرز في المجتمعات الدولية، ثم أنه عقيدة استعلاء واعتداد وهو يأبى علينا أن نسلم زمامنا ونكون ذيلا لكتلة شرقية أو غربية، ونحن نتجاوز مائتي مليون يكون غدا ونتحكم بمراكزنا الاستراتيجية ومواردنا الطبيعية في كتلتي الشرق والغرب لو كان لنا علم واحد نؤوب إليه ونتكتل في ظله.

فروح الإسلام من القوة بحيث لا تخضع للتلاشي، وإذا ما تجمعنا تحت العلم الإسلامي فقد تمسك بميزان التوازن وتكون واسطة عقد السلام فينتهي الجنون الذي تزاوله الكتلتان بأثرة حرب ثالثة، وهما إنما تتصارعان علينا نحن الممتلكات والمستعمرات والأشياء!. . وغير خاف أن الكتلة الشرقية شيوعية والكتلة الغربية رأسمالية وكفى! وفي الإسلام جميع محاسن الشيوعية والاشتراكية من دون مساوئهما وتزيد على هذه أفاق أعلى وأسمى وأشمل، وتعاونا إنسانيا كاملا وتكافلا اجتماعيا صحيحا. ولا بدع فالإسلام يرفع قيمة الحياة إلى

ص: 49

المستوى اللايق مما لم يصدر عن الله.

من بعد ذلك خلص المؤلف إلى النتيجة المترتبة على ما تقدم وهي (لا بد للإسلام أن يحكم إذا أريد له أن يعمل، فما جاء هذا الدين لينزوي في الصوامع والمعابد ويستكن في القلوب والضمائر. . إنما جاء ليحكم الحياة ويصرف أو يصوغ المجتمع وفق فكرته الكاملة عن الحياة وذلك بالتشريع والتنظيم) و (مما سبق عرضه من مشكلات اجتماعية وقومية وطريقة علاج الإسلام لها يبين بما ليس فيه ضرورة الحكم للإسلام).

وفسر هذه الضرورة بان قال أن الدين المسيحي هو مجرد دعوة للتطهير الروحي ولم يتضمن تشريعا للحياة الواقعة، (وعلى توالي الأزمان أصبحت المسيحية محصورة داخل الكنيسة والحياة من حولها ابعد ما تكون عن روحها السمحة المتطهرة).

ثم نعي على المسلمين انهم حاولوا مثل هذا الأمر بالإسلام لا لأنه لم يتضمن التشريعات التي تحكم الحياة وتصريفها، بل لأننا أردنا أن نقلد في غير فطنة. . أوربا فنحكم بالقوانين المدنية، وإنما اضطرت أوربا إلى ذلك لأنها لم تجد في المسيحية تشريعا للحياة. بل هي مجرد عقيدة روحية وصلاة.

ثم مضى المؤلف يقول: إن دستور الدولة الحاضر ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، ومعنى هذا أن تستمد القوانين الشرعية كلها من الإسلامية القادرة على تلبية الحياة العصرية ونموها وتجددها مع الانتفاع بتجاربنا وتجارب الإنسانية كلها فيما يتفق مع فكرة الإسلام الكلية ومبادئه العليا عن الحياة.

وإذا ما حكم الإسلام قدم للإنسانية مجتمعا من طراز آخر قد تجد فيه الإنسانية حلمها الذي تحاوله الشيوعية ولكنها تطمسه بوقوفها عند حدود الطعام والشراب، وتحاوله الاشتراكية ولكن طبيعتها المادية تجعله خلوا من الروح والطلاقة، والذي حاولته المسيحية ولكنها لم تنظم له الشرائع ولم تضع له القوانين.

ثم أخذ المؤلف في نفي الشبه عن حكومة الإسلام فقال: أنه ليس حكم المشايخ والدراويش! ويخلط الناس بل أكثرهم بين الشرعية الإسلامية في ذاتها وبين النشأة التاريخية لهذه الشرعية التي أستجابت لمطالب حياة البادية، ثم الدولة الناشئة في عهد محمد المتوسعة في عهد عمر، ثم ظلت تستجيب لحياة الحضارة فيما بعد بقيت في الأمة الإسلامية حياة، فإذا

ص: 50

كان قد توقف نموها فلأن حيوية الأمة الإسلامية ذاتها توقفت، فإن دبت الحياة في هذه الأمة فالشريعة الإسلامية حاضرة تلبي حاجاتها المتجددة بما فها من سعة ومرونة وشمول، فهي قادرة على أن تمد الشرع الحديث بكل خدمات الحياة الراهنة المتجددة. ثم أن هذه الشريعة روحها من روح الجماهير، ولا دخل هنا للمشايخ والدراويش، فليس في الإسلام (رجال الدين) يعيشون متعطلين متبطلين على الأذكار والنذور، فلا جزاء بغير عمل اجتماعي منتج، ولا عبرة بمن يستبد باسم الدين، فالمرجع في الحكم على نظام ما إنما يجب أن يكون على قواعده وأصوله لا على مخالفاته بسبب الجهل والانحطاط أو الفوضى وسائر العوامل الأخرى، والمقرر أن الإسلام لا يدعوا إلى الاستبداد من الحاكم والرضا والخنوع من المحكومين.

ثم أن الإسلام لا يتدخل في الشؤون العلمية البحت ولا العلوم التطبيقية، فقاعدة (أنتم أعرف بشؤون دنياكم) من القواعد الأساسية المرعية فيه.

ثم أن الإسلام إذا نص في الحدود على قطع يد السارق، ورجم الزاني وجلده وجلد غير المحصن. . الخ فلا إقامة لهذه الحدود إلا مع قطع العذر، فإذا كانت هناك مبررات اجتماعية وفردية فلا عقوبة، بل العقوبة على من دفع المجرم إلى جريمته، والشاهد ما فعله عمر مع غلمان سرقوا ناقة لان سيدهم لا يعطيهم الكافي من الطعام فأطلق الغلمان وغرم السيد ثمن الناقة ضعفين. ثم لما كان الجوع في عام الرمادة عطل حد السرقة. ورجم الزاني لا يجوز إلا في حالة ما إذا ضبطه الشهود في تلبس كامل، وهذا في الوقت الذي لا يباح فيه أن يتسور على أحد داره أو يتجسس عليه، فمن استتر بالمعصية فأمره إلى الله، أما المستهتر ناشر الفاحشة فيؤخذ بالعقاب. أن الجموع حين تندفع في تيار العمل النشيط المنتج لن تكون هناك جرائم تقام عليها الحدود إلا في القليل النادر، ولا ننسى أيضا مبدأ (ادرأوا الحدود بالشهبات).

ومضى الكاتب يقول أن الأصول الإسلامية ليست هي الشروح والحواشي التي تقتل شباب طلاب العلم وترميهم بالجدل العقيم، أن الحلال بين والحرام بين، وكل ما صدر عن المذاهب الأربعة كان أساسه الكتاب والنسبة ثم الإجماع والقياس.

وأما في الحريم فالإسلام أباح لها الملك والكسب بالطرق المشروعة ومنحها حرية تزويج

ص: 51

نفسها، فلا إرغام ولا ضغط ومنحها حرية الخروج والدخول في ثياب محتشمة، وبالجملة أتاح لها الحرية التي لا تؤذي قط ولم يأمر بوضع النساء في الحريم، ولم يحولهن إلى سلعة، ولم يقر الإباحية الحاضرة، فلا خوف من الإسلام على امرأة فاضلة تزاول النشاط الإنساني في حدود الشرف والكرامة.

ثم قال المؤلف: إنه لا خوف من حكم الإسلام على الأقليات القومية في بلاده، فما من دين في العالم وما من حكم في الدنيا ضمن لهذه الأقليات حريتها وكرامتها وحقوقها القومية. لقد دلل الإسلام وحده على الاقليات الأجنبية عنه وعن قومه وحتى في البلاد المفتوحة، وضرب الكاتب أمثلة لذلك.

ثم انتقل إلى عداوات ضد الإسلام من أول الحروب الصليبية فالاستعمار إلى الرأسمالية فإلى الإسرائيلية في فلسطين فقال إن الدولة اليهودية ليست جنسية بل ديانة تضم أخلاطا من روس وألمان وبولونيين وأمريكيين ومصريين وغيرهم، وقد شجعتها إنكلترا ومونتها أمريكا ونسيت روسيا الشيوعية مبادئها الأساسية بجنب المصلحة الشخصية.

ولا ننسى التبشير فهو اختلال روحي وفكري يوحي بنبذ الوطن. وقد أفاض المؤلف أيضا في هذا الباب وذكر أيضا عداوات المستغلين والطغاة والمحترفين من رجال الدين والمستهترين والمنحلين والشيوعيين ودلل على كل هذه بالأمثلة الحية.

ثم عقب على ذلك كله بدعوة (الجماهير) إلى تدبر كل ما مر في كتابه وأهاب بها أن (الطريق واضح ولا سواه) لمن أراد المساواة والحرية والعدالة وكان مؤمنا بنفسه وقومه ووطنه وشعر بان له مكانا كريما في الوجود).

هذا هو كتاب (معركة الإسلام وإلى) أملاه على مؤلفه الفاضل اقتناع مطلق بعد بحث طويل وثقافة صحيحة سليمة، وأيمان بالإسلام وحقه، ووطنية مصرية صميمة، وميل فطري إلى الحق والعدل، ونفور من العبودية والذلة، وبعد عن البدع والمروق، فما أشبهه بابن تيمية والأفغاني والكواكبي وإضرابهم من دعاة الإصلاح الجريئين، ونفه الله بكتابه كل قارئ ينشد الهداية والطريق المستقيم.

حلوان

محمد صادق رستم

ص: 52

‌الأعلام الشرقية

في المائة الرابعة عشر الهجرية

1301 -

1365 1883 - 1946

الأمم الناهضة تقدر رحالها أحياء وأمواتا، فتعني بتراجمهم بعد وفاتهم، تسجلا لإعمالهم وحضا للأحياء على الإقتداء بهم في خدمة الأمة في شتى النواحي. بل دراسة تراجم كل أمة في كل عصر هي المرآة الصادقة في تحديد مركز تلك الأمة في ذلك العصر نهوضا وخمودا. ففي تراجم الرجال تتمثل حضارة الأمة وثقافتها وتقدمها وتأخرها. فهي إذا معيار صادق يرجو المخلصون في خدمة أمتهم إنصافها إياهم فيه، ويخشى المقصرون حكمها عليهم. فإذا لم يترجم لهؤلاء وأولئك ضاعت مواضع الأسوة الحسنة وسوء الأحدوثة من التاريخ، فيصبح المصلح والهدم على حد سواء.

وقد عني الأقدمون بالتراجم عناية أخرجت لنا هذه المعاجم التي يردها الباحثون. ويسرنا أن تتجه عناية الأدباء المعاصرين إلى التراجم فيقومون بما يجب على الأمة من تخليد تراجم رجالها.

ومنذ عهد المؤرخ الجبرتي ليس بين أيدي الباحثين مراجع تشفي غلة روح التراجم، حتى نهض الأستاذ زكي مجاهد بتأليف (الأعلام الشرقية) فقدم لنا فيه تراجم أعيان القرن الرابع عشر الهجري على اختلاف ديارهموأقطارهم وتنوع ثقافاتهم، متما لما قبله من كتب التراجم كحلية البشر في القرن الثاني عشر للمرادي، وخلاصة الأثر في القرن الحادي عشر للمحبي، والكواكب السائرة في المائة العاشرة للغزي، والضوء اللامع للقرن التاسع للسخاوي، والدرر الكامنة للمائة الثامنة لابن حجر، و. . . الخ ما ألف على القرون.

وقد قسم المؤلف معجمه هذا إلى طبقات؛ طبع منها وصدر:

القسم الأول في الملوك والأمراء

والقسم الثاني في الوزراء والسفراء

والقسم الثالث في زعماء الحركة الوطنية

والقسم الرابع في أعلام الجيش البري والبحري

والقسم الخامس في العلماء

ص: 54

وكل قسم منها مرتب على حروف المعجم. وهو أجمع كتاب صدر في تراجم الشرقيين في هذا القرن، فنشكر للمؤلف جميل صنعه.

وقد تابع المؤلف مصادره في النصوص من غير تصرف منه في التراجم، والمحافظة على النصوص من أهم الأمور في التاريخ. وهذا يبرئ قلمه من النقد لرده الأمر إلى مصدره، والى الباحث المحقق المقارنة بين الروايات عند اختلافها، والشخصيات السياسة قد تصطنع لها هالات فخرا أو مآخذ تبعا لأهواء الأحباب والخصوم، ثم الأحداث المتصلة بشتى الجهات من آراء في تلك الأحداث، وهذه الدراسة لعلها لا تتيسر في ظروف خاصة، فيكون ترك تلك المسائل تحت البحث أدنى إلى الصواب قبل البت فيها بعاطفة مجردة، وليس التاريخ قصصا تسرد، إنما هو أسباب ونتائج.

محمد شفيق محمد

ص: 55