الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 952
- بتاريخ: 01 - 10 - 1951
الدولة والأدب في الاتحاد السوفيتي
للأستاذ عمر حليق
هناك ظاهرة جديدة يلمسها المنتبه للإنتاج الفكري في الاتحاد السوفيتي فيما يصل إلى الأوساط الأدبية هنا في نيويورك من كتب ومجلات ومقتطفات تتعاون مع نشرها باللغة الإنجليزية المؤسسات العلمية الأمريكية والمعنيون بالشؤون الداخلية لروسيا السوفييتية تنويراً لأذهان الرأي العام عن اتجاهات الفكر الروسي المعاصر.
هذه الظاهرة الجديدة هي انتقاد المراجع السوفييتية الرسمية لما تعتقد بأنه (شعوبية) ألحت بطائفة من رجال الأدب والفن الروسي في معالجتهم لشؤون الحياة ونظرتهم إليها بين آن وآخر من زاوية لا تراعى مراعاة دقيقة إيديولوجية ماركس - لينين - ستالين التي هي عماد الفكر والحياة السوفييتي المعاصرة.
خذ مثلاً ما قالته جريدة (برافدا) لسان حال الحكومة الروسية الحاضرة في عدد 14 أغسطس 1951 في افتتاحية يقرؤها الملايين في مختلف اللغات الإقليمية التي تتكلم بها شعوب الاتحاد السوفييتي في شرقي أوروبا وشمال آسيا:
(الأدب والفن في روسيا يجب أن يقتديا بمبادئ الحزب الشيوعي الذي هو عماد العهد السوفييتي. والحزب (الشيوعي) لم يبخل بالجهد في إفهام الكتاب والفنانين بأن فكرة (الفن للفن) لا تتماشى مع المصلحة الجوهرية للنظام الشيوعي والعهد السوفييتي الذي حققت لروسيا هذه المكانة وهذه الرفعة.
(فالبيان الذي نشرته مؤخراً اللجنة المركزية للحزب الشيوعي يشرح بوضوح أن الأدب السوفييتي - وهو في الطليعة بين الآداب المعاصرة - يستند في أصوله إلى حقيقة واحدة وهي أن كل إنتاجه فكري لا يعالج صميم الحياة الشعبية ولا يلمس المصلحة الأساسية - عاطفية كانت أم سياسية أم اقتصادية - للكثرة من الشعب - كل إنتاج من هذا القبيل هو سوء اجتهاد:
(فهذه القصص والمسرحيات واللوحات والقطع الموسيقية التي أنتجها المبدعون خلال العهد السوفييتي ولاقت رواجاً شعبياً واسعاً لم تضمن هذا الرواج وهذه الرفعة إلا لأنها صاغت في القالب الفني ألواناً من الحياة الواقعية التي عاشها أبطال هذه الروائع الفنية في خضم
التطور الاجتماعي الذي ألم بالحياة الروسية منذ أن اتخذت إيديولوجية ماركس - لينين - ستالين نبراساً لها.
(واستمر الأدب والفن في الاتحاد السوفييتي على هذه الصلة الوثيقة بالحياة الواقعية فحقق الفكر السوفيتي المعاصر ألواناً من الإبداع هو مدعاة للفخر. وهذا ما سأتوجب اليوم أن نشن حملة لا هوادة فيها على شذرات من الأدب والفن تسربت إلى الإنتاج السوفييتي الحديث فتجاهلت صلة الأدب والفن بالحياة اليومية وانساقت في خمرة (الفن للفن وحده). وهذه الخمرة برجوازية (رأسمالية) لا ترضى عنها إيديولوجية السوفييت. وأصبح لزاماً على هؤلاء (الشعوبيين) من الكتاب والفنانين أن يزيلوا الغشاوة عن عيونهم وأن يساهموا في دفع أذى هذه الخمرة البرجوازية). اهـ
ونشر الكاتب السوفييتي المعروف (ا. سوكوف) طعناً في هذه (الشعوبية) كراساً خص بالنقد فيه مجلتين أدبيتين حديثتين هما (ليننغراد) و (سفيرزا) وحلقات للإنتاج المسرحي في بعض المقاطعات السوفييتية الآسيوية وفي أوكرانيا.
قال سوكوف:
(ومن أبرز الإنتاج الفكري خلال الأعوام الخمسة الماضية (أعوام ما بعد الحرب) بين أدباء وفناني ولايات خوزستان وتركستان وأزبا كيستان وأذربيجان هو عزوفهم في قرض الشعر عن مواضع لا تمت إلى الحياة الشعبية السيارة والتفاتهم إلى نواح في الإنتاج الفني النثري صلتها بالحياة الواقعية صلة صادقة متينة.
وبرغم هذا الاتجاه القويم فإن السنوات الخمس الماضية قد شاهدت لوناً من الإنتاج الفني لا يليق بالفكر السوفييتي. ومثال ذلك القصص والمسرحيات التالية: (دخان الوطن) لسيمونوف و (حياة بكتوف) لسافر ونوف و (نهر النار) لخوزيفيكوف.
(والنقيصة التي تشترك فيها مثل هذه الأعمال الأدبية هي تجاهل واضعيها جوهر الحياة اليومية وانسياقهم في ألوان من التخيل لا يستمد قوته من تيار المعيشة في حياة الفرد والجماعة. حتى بعض المسرحيات الفنية كأوبريت (الحارس الشاب) يجب أن تراعي الحقائق التاريخية وجوهر الحياة اليومية مراعاتها للميزان الموسيقي والنغمة المنسجمة.
(هذا لون من الإبداع الفكري يجب أن يكون شديد الصلة بالحياة الواقعية، وكل نقد أو
تقريظ للأدب والفن لا يراعي هذه الصلة بعد من قبيل الإهمال الذي لا يرضى عنه الأدب الحي. ولذلك فلا عذر لأندية الأدب والفن في أذربيجان وأرمينيا وأستونيا مثلاً أن تتجاهل هذه الحقيقة عندما تهاونت في انتقاء طائفة من المسرحيات والقصص والأوبرات الشعوبية التي ظهرت في الأسواق الأدبية هناك عزيزة آمنة.)
ويناصر هذا الأديب الروسي المعروف حملة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي على هذه (الشعوبية) في الأدب والفن، ولا يجد غرابة في أن تشن الصحافة الرسمية في روسيا حملتها على النقاد والحلقات الأدبية والفنية والعواصم والأقاليم. ويختار أديبنا هذا بالذات قصيدة للشاعر الأوكراني (سوسيدرا) عنوانها (أحب أوكرانيا) لاقت في مقاطعة أوكرانيا رواجاً وقبولاً حسناً. وأوكرانيا ولاية في روسيا الأوربية عرف أهلها بنزعتهم القومية المحلية وتعلقهم بها تعلقاً يعرفه كل مطلع على تاريخ الشعب الروسي.
وينتقد سوكوف حلقات الأدب في أوكرانيا لتركها هذه القصيدة تمر دون نقد يأخذ ببث الاعتبارات الإيديولوجية السوفييتية.
ثم يمضي سوكوف في استعراضه لاتجاهات الأدب السوفييتي الحديث فيقول (إنه وإن كان يحلو لنا أن نعترف بنجاح الأدباء والكتاب السوفييت نجاحاً لابد من الثناء عليه إلا أنه يجب علينا أن نعترف كذلك بأن الإنتاج الأدبي والفني في روسيا لم يصل بعد إلى الكمال ولم يستطع بعد أن يتكافأ مع عظمة النمو الصناعي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي حققه عهد ستالين).
ويستشهد الكاتب بمأثرة للأديب الروسي الكبير (ماكسيم جوركي) فيقول (يطيب لنا - والحالة هذه - أن نستذكر نصيحة جوركي للأدباء الأحداث حين قال لهم: إذا كان للأدب أن يحقق ما عليه من مسؤولية للأمة فإن عليه أن يدرك الواجب الأساسي وينقذه في غير هوادة أو اعوجاج. هذا الواجب هو مراعاة الجد والدقة في دراسة صور الحياة الواقعية المعاصرة. حياة اليوم والساعة. وعلى الأدباء أن لا يقطعوا صلتهم بالحياة اليومية وأن يمعنوا في تصوير الحياة العاملة بأوسع معانيها في إطار الفن والإلهام.)
وقد تناولت كبرى مجلات الأدب الروسي (جتزيتا لترانوريا) هذه (الشعوبية) في بحوث عديدة بأقلام عدد من كبار الأدباء الروس كلها تنتقد موجة (الفن للفن وحده) التي تسربت
إلى بعض الأوساط والحلقات الأوربية في ولايات روسيا الآسيوية والأوربية.
وهذا الاهتمام الزائد الذي واجهت به السلطات الروسية الرسمية هذه (الشعوبية) الطارئة مدفوع باليقظة الدقيقة التي تراقب بها حكومة ستالين اتجاهات الفكر في القارة السوفييتية.
وقد توافق أو تخالف مبدأ (الفن للفن وحده). فالجدل حول هذا الموضوع لم يخل منه تاريخ الآداب الإنسانية قديمها وحديثها. إنما المهم أن نتعرف على مركزية الفكر في الاتحاد السوفييتي ومبلغ الجد في حماسها لجعل إيديولوجية ماركس - لينين - ستالين شاملة لشتى نواحي النشاط الإنساني سواء أكان اقتصادياً أم سياسياً أم فنياً.
وليس المهم أن نستعرض هنا صلاح هذه المركزية الفكرية أو طلاحها، فلقد تقرر في العهد السوفييتي تسخير النشاط الإنساني بأسره لتحقيق الاشتراكية الماركسية الكاملة.
فإذا تقرر أن الإنتاج الاقتصادي مثلاً يجب أن يتماشى مع المبدأ الشيوعي المعروف (من كل بقدر ما يستطيع إلى كل حسب حاجته) فلا مفر من أن يتقرر كذلك توجيه الأدب والفن السوفييتي ليخدم ويحقق هذا المبدأ.
فإذا كان مقياس صلاح الأشياء في إيديولوجية السوفييت هو مبلغ نفعها للكثرة من الناس، فإن على المبدعين من الأدباء والشعراء والفنانين - والحالة هذه - أن يضعوا مصلحة الأيديولوجية السوفييتية ونظام الحياة الذي اختارته فوق (خمرة) الفن للفن وحده.
ونشاط المسؤولين في الاتحاد السوفييتي لمحاربة هذه (الشعوبية) لم يقتصر على توجيه النداءات وتذكير النقاد وحلقات الأدب والفن بعلاقة الأيديولوجية السوفييتية بالإنتاج الأدبي والفني. ففي عدد 18 أغسطس من جريدة برافدا افتتاحية تناولت الدور الذي يجب على بيوت النشر والطباعة في روسيا عمله لمحاربة هذه (الشعوبية) قالت برافدا:
(الواجب الرئيسي لدور النشر والطباعة في الاتحاد السوفييتي هو صيانة الأدب الرفيع في إطار المبادئ السوفييتية. فالكتب والمجلات يجب أن تستذكر دائماً مبادئ العهد السوفييتي وأسسه الفكرية. وكل انصراف عن هذه المبادئ يضر بالحياة السوفييتية، فيجب أن لا تطرح في الأسواق الروسية كتب وجلات لا تراعي طبيعة الكيان الاجتماعي والفكري للشعب السوفييتي وتراثه الأدبي والفني ومصلحة السياسة والاقتصاد والقومية.
(وإن من دواعي الأسف أن ينساق نفر من دور النشر في غمر الأسواق بإنتاج أدبي وفني
لا يراعي هذه الحقائق. فإذا كانت الرغبة في ترويج الكتب وزيادة أعدادها هو الدافع لهذا الاتجاه فإن هذه الرغبة خاطئة. فالمهم في الإبداع الفني قيمة الكتاب لا عدد ما يباع منه. ويجب أن يكون الكتاب السوفييتي خير كتب العالم من حيث صدق الفكرة وروعة الفن وحيوية الأدب وصلته بالحياة الواقعية لا من حيث عدد ما يطبع منه.
(والدولة السوفييتية لا تشجع أصحاب دور النشر أن يتبعوا أساليب البرجوازيين الرأسماليين في ترويج الكتاب على أساس من خمرة الحس والشهرة وأهواء المرضى من أصحاب الثقافة المشوهة.)
ولفتت (برافدا) النظر إلى ضرورة تثقيف المسؤولين عن اختيار الكتب والمقالات في بيوت النشر الروسية وترقية أذواقهم الفنية في إطار الأيديولوجية السوفييتية، وتعرضت (برافدا) بالذات إلى مجلة (الفن)(اسكوستوفو) الروسية وقالت بأن بعض محرريها تعوزهم الثقافة الصادقة والذوق الفني الصحيح.
حتى اللغة وقواعد الصرف والنحو لم تخل من اهتمام الدولة السوفييتية إزاء هذه الظاهرة.
فقد نشر ستالين نفسه منذ بضعة أشهر فقط دراسة دقيقة في كراس عنوانه (الماركسية ومسألة اللغات) عالج فيها عاهل روسيا علاقة اللغة بالأيديولوجية السوفييتية من وجهة النظر الماركسية، وقال ستالين:(إن الفهم الصادق لقوانين التطور في لغات الشعوب أمر له أهمية خاصة لتحقيق الاشتراكية الكاملة.)
وقد شرح ستالين هذه القوانين فأشار إلى (ضرورة خلق ظروف وملابسات معينة تعجل نمو لغة موحدة في دولة كالاتحاد السوفييتي تضم عشرات اللغات واللهجات والثقافات المتباينة.
وهذا التباين في المقومات الثقافية لشعوب الاتحاد السوفييتي في قطاعاته الآسيوية والأوربية كان من أبرز ما اهتم به ستالين في مطلع حياته الفكرية، وكتابه عن (الماركسية ومشاكل القوميات) يسجل إدراك ستالين للمشاكل العاطفية وتباين مقومات الخلق القومي فيما وضعه البلشفيك من نظام لروسيا السوفييتية.
وستالين - ككل ماركسي واع - من أعداء القوميات لأنها في اعتقادهم تعرقل تحقيق الاشتراكية الكاملة في عالم تتشابك فيه المصالح الاقتصادية والسياسية ويتكل بعضها على
بعض كما هو الحال في هذا الإقليم الواسع الذي يتألف منه اليوم الاتحاد السوفييتي.
ولكن آراء ستالين في مشاكل القومية لم تعمه عن مبلغ قوتها خصوصاً بعد هذه التجارب الطويلة التي خبرها أولو الأمر في روسيا في معالجتهم للقوميات المحلية في القطاعات الآسيوية والأوربية التي تشكل اليوم الدولة السوفييتية.
ولذلك فإنك تلمس في دراسة ستالين الجديدة عن (الماركسية ومسألة اللغات) تحويراً في بعض آرائه القديمة عن القوميات. وتدرك في ثنايا هذه الدراسة مناورة فكرية جديدة.
فستالين أصبح الآن يعتقد بأن تطور الشعب نحو الشيوعية الحق يمر في مرحلتين يتوازى ويتناسق فيهما هذا التطور.
الأولى - مرحلة قديمة بحتة تعبر الجماعة فيها عن مشاعرها وآمالها القومية المحلية في لغة الجماعة وثقافاتها القومية المحلية.
والثانية - مرحلة أعم اتساعاً تنمو فيها الفكرة (الإقليمية) أولاً ثم (العالية) بعد ذلك فتتسع الآفاق على نحو تفرضه العلاقات الإنسانية في عالم اتسعت فيه المواصلات الفكرية واحتكت فيه الثقافات والأفكار احتكاكاً متزايداً.
وهاتان المرحلتان تسيران متحاذيتين. ففي حين تنمو التعبيرات القومية في اللغات المحلية نمواً طبيعياً تنمو كذلك المرحلة الثانية (الإقليمية ثم العالمية) نمواً أشد قوة لأنها تهيمن على كثير من أوجه النشاط الإنساني في عالم يزداد احتكاك أجزائه يوماً بعد يوم، ويفرض على القوميات المحلية ضرورة الاندماج.
ولا يترك ستالين آراءه هذه في إطارها العام، وإنما يستدرج القارئ إلى الهدف الخاص الذي دفعه إلى معالجة مسألة اللغات.
ويشرح ستالين كيف أن الأيديولوجية السوفييتية قد حققت للقوميات المحلية في القطاعات والولايات الروسية المتباعدة فرصاً لتنمية لهجاتها ولغاتها الوطنية على مبادئ ماركس ولينين.
وفي رأي ستالين أن اللغة تنمو في اتجاهين:
اتجاه يعمل على زيادة المفردات والمصطلحات في اللغة المحلية ويزيد من ثروتها التقليدية بفضل التعبيرات الحديثة المستمدة من الحياة الاشتراكية الجديدة وما خلقته من تطور
اجتماعي وصناعي وسياسي واقتصادي وثقافي.
أما الاتجاه الثاني فيعمل على توحيد هذه المفردات والمصطلحات والمشتقات والتعبيرات المستعارة في الحياة السوفييتية الجديدة بين مختلف اللغات القومية المحلية التي تعيش على النظام الأيديولوجي الجديد. ويجري هذا التوحيد في إطار قواعد نحوية وصرفية جديدة تشترك في اقتباسها هذه اللغات المحلية فتخلف فيما بينها تعبيراً مشتركاً، وبذلك تثبت دعائم النظام السوفييتي الجديد الذي وفر لها هذا التطور اللغوي.
ويقول ستالين أنه لولا توفر النظام اللغوي الجديد (أي الأيديولوجية السوفييتية) لما تيسر للغات المحلية أن تزيد ثروتها اللغوية من المفردات والمصطلحات والتعبيرات وقواعد الصرف والنحو المستحدثة، وستالين واثق من اليوم الذي يتم فيه تناسق هذه اللغات المحلية في إطار لغة الوطن الروسي الأكبر على أساس هذين الخطين اللذين شرحهما.
وستالين في دراسته الجديدة عن (الماركسية ومسألة اللغات) لا يقول بأفضلية لغة على أخرى بين لغات العالم الأكبر من حيث جمال اللفظ وسهولة النطق، وإنما يعتقد - استناداً إلى هذه الخطط التي شرحها - أن العالم سيأخذ في المراحل النهائية باللغة التي تحتوي على ذخيرة واسعة في المفردات والتعبيرات التي هي أقرب صلة بالحياة العملية الواقعية.
وهدف ستالين الرئيسي من بحثه هذا هو دعوة الكتاب والشعراء والفنانين السوفييت لأن يجعلوا تصويرهم للحياة أكثر تعبيراً عن الواقع حتى يضمنوا للغة الروسية مرونة وواقعية تحقق لها الفوز في سباق التفوق والسيادة بين لغات العالم.
وستالين في دعوته هذه يساهم شخصياً في محاربة هذه الظاهرة الجديدة في إنتاج روسيا الأدبي والفني في عالم ما بعد الحرب.
فالأيديولوجية السوفييتية لا ترضى عن مبدأ (الفن للفن وحده) وتعده من الأسباب التي تخدر الشعوب وتعمي قادة الفكر والدهماء فيها عن دقائق الحياة الواقعية ومشاكلها.
ولا تزال حملة المسؤولين الروس على هذه (الشعوبية) في الإنتاج الأدبي والفني على أشدها كما تشهد على ذلك ألوان الأدب والفن الروسي المعاصر التي تجد سبيلها إلى العالم الخارجي.
نيويورك
عمر حليق
عقدة الأب
في رأي الفيلسوف ابن خلدون
للأستاذ أمين محمد عثمان
آمنت ولازلت أؤمن بأن في التراث العربي العريق، كنوزاً مطمورة، تحتاج إلى من ينقب عنها، يخرجها من كهوف النسيان، إلى عالم النور والعرفان. وقد بينت في مقالي الأسبق (صحيفة مطوية في البلاغة العربية) أن نظرية الإدراك بالإجمالي والتفصيلي، لم تكن وليدة القرن العشرين، ولا هي بنتاً من بنات أفكار علماء النفس المحدثين، بل سبق إليها عالم من علماء العرب منذ تسعة قرون، وهذا مثل آخر من آلاف الأمثال أسوقه للأدباء والباحثين الذين بهرهم زخرف الحضارة الأوربية، علهم يعطون الحضارة الإسلامية التي أساءوا الظن بها، قسطاً وافراً من العناية.
لقد كانت الفلسفة المسيحية تذهب إلى عهد قريب، إلى أن الطفل الشرير بطبعه، وأنه يولد محملاً بكثير من السرور والآثام فيجب أن يقمع ذلك فيه بالشدة والعنف، وأن يسلك به سبيل التعذيب والإيلام. وقد نحا المتنبي هذا المنحى في شعره فقال:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد=ذاعفة فلعلة لا يظلم
وهذا عين الخطأ، فلا الطفل شرير بطبعه كما تقول الفلسفة المسيحية، ولا هو خير بطبعه كما يقول (جان جاك روسو) كما أن عقليته ليست كالصحيفة البيضاء يسطر المربي عليها ما يشاء، كما ذهب إلى ذلك (جون لوك).
ولكن الطفل يولد مزوداً بالغرائز والنزعات الفطرية، وهي ميراثه من أبويه ومن النوع الإنساني، فعلينا أن نعمل مع هذه النزعات لا ضدها، وأن نحاول إعلاءها، وتكوين العواطف النبيلة فيها.
وهناك مرحلتان من مراحل النمو لهما أكبر الأثر في حياة الناشئ فإن هو جازهما بسلام، فقد اجتاز العقبة كلها إلى شاطئ الأمان، وإن تعثرت خطاه فيهما أو لعبت بنفسه أعاصير التربية الصارمة فإنني أخشى أن تهوى بنفسه أمواج الأمراض النفسية إلى قرار سحيق.
أما أولهما: وسنقتصر الكلام عنها الآن: فهي مرحلة الطفولة المبكرة ويعلق فرويد عميد علماء التحليل النفسي، و (آدلر) مؤسس مدرسة علم النفس الفردي أهمية كبرى على هذه المرحلة، ففيها تتكون أهم قوالب السلوك عند الإنسان وهي التي تحدد الخطوط الشخصية الأساسية فيما بعد، ولقد دلت البحوث النفسية على أن كثيراً من الانحرافات النفسية الحقيقية والخطورة التي يصاب بها الشاب أو الرجل، ترجع إلى صدوع نفسية في الطفولة الأولى، وفي هذه المرحلة يأخذ الطفل فكرة عن نفسه، مما نوحي به إليه نحن. فالطفل الذي ننعته بأنه شقي وبأنه مجرم، وبأنه لا يفلح سرعان ما يتشرب هذه الفكرة عن نفسه ويعمل على أن يسير بمقتضاها، وعلى العكس إذا أخذنا نصف الطفل بأنه مهذب، وبأنه شجاع فإنه يتقبل عن نفسه هذه الفكرة ويتشبع بها، ويجهد نفسه في تنفيذها، وفي هذه المرحلة يتكون لدى الطفل سلطة داخلية هي ما نسميها بالضمير أو الرقيب أو النفس اللوامة، أو الحافظ، كما يقول الله تعالى (إن كل نفس لما عليها حافظ) هذا الضمير أو الرقيب إن هو إلا خليفة الأبوين ويتكون لا شعورياً عن طريق الأوامر أو النواهي التي تصدر منهما إليه، فإن كان الأب من الصنف الصارم الجافي الذي يحاسب على اللفتة والحركة ويعاقب على السهوة، ويسرف في الأمر والنهي، والصفع واللكز، ويفرط في التأنيب واللوم، فإن هذه التربية كما يقول الدكتور عزت راجح في كتابه (الأمراض النفسية). . تصبح لها صدى في ضمير الطفل اللاشعوري يمثل السلطة الأبوية، فترى قد أصبح يتطلب من الطفل ما يتطلب ذلك من الأب التعسف وأكثر، يحاسبه على كل صغيرة وكبيرة، ويحرم عليه القيام بأشياء لا ضرر منها، ولا ضير عليها، فترى الطفل يشب وقد أمسى شديد الحساب لنفسه وللناس، شديد الحذر والتوجس من نفسه ومن الناس، يغشاه شعور صريح أو مضمر أنه مخطئ أو آثم) وبهذا تتكون عنده عقدة الإثم والحاجة إلى عقاب النفس.
وجاء في كتاب (أسس الصحة النفسية) للدكتور عبد العزيز القوصي، عند الكلام على (عقدة الأب)، منشأ هذه العقدة قسوة السلطة وصرامتها، وشدة الجو المنزلي ويترتب على قسوة السلطة وامتصاص الطفل لها، أن يعكسها على نفسه، ويعكسها على نفسه يكون قاسياً عليها شديد النقد لها، كثير التبرم بها، غير راض عنها، شاعراً بخطئه على الدوام، يخشى لوم الناس ونقدهم، ويحسب لهم ألف حساب، وعندما يعكسها على الناس يكون أيضاً شديد
النقد لهم، قاسياً عليهم، يتمتع بإبراز خطاياهم).
وقد ذكر علماء النفس: أن هذا باب جديد، فتحه فريق من أصحاب (التحليل النفسي) وخطوا فيه خطوات موفقة، واستطاعوا به تعليل كثير من مظاهر السلوك الزائغ والاعتلال النفسي.
وفات هؤلاء، أن هذا الباب الجديد، قد طرقه الفيلسوف ابن خلدون واستقصى فيه منذ ستة قرون، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته المشهورة أن (الشدة على المتعلمين مضرة بهم) وعلل هذا بأن من كانت نشأته في أحضان القهر، وتربيته في مهاد القسوة والعنف لا سيما إذا كان صغيراً، سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها؛ وذهب بنشاطها ودعا إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعمله المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين).
ولم يكتف ابن خلدون ببيان الأثر الذي تحدثه سياسة الشدة بالأفراد، بل قال إن أثرها في الأمم أشد خطراً وأبعد أثراً، فالأمة التي تقع فريسة للاستعمار، صديقة للشدة والعنف، هي أمة تنشأ على الذل والخوف، وتربى في أحضان الفساد الخلقي فيصير ذلك خلقاً وطبيعة لها. انظر إلى بني إسرائيل، وقد لبثوا تحت حكم الفراعنة أحقاباً يسومونهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، فلما أذن الله لهم، وأخرجهم موسى بعصاه، من أرض الفراعنة إلى صحراء سيناء، أوحى الله إلى موسى بأن يستعد هو وقومه لدخول الأرض المقدسة ومقاتلة من فيها من العمالقة. ولكن الخوف كان قد استبد بهم، وذهب الرعب بقلوبهم كل مذهب وقد تعود زعماؤهم أن يكونوا عبيداً المستعمرين (قالوا إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين). وبين ابن خلدون بعد ذلك أن الحكمة في وقوعهم في التيه أربعين سنة، هو انقراض هذا الجيل الذي نشأ في أحضان
القهر والعنف، ومجيء جيل آخر تربى في أحضان الصحراء، تحت سمع الحرية وبصرها، وكان على يديه فتح الأرض المقدسة.
وكما يحلوا لعلما النفس، أن يوجهوا نصائحهم وإرشاداتهم إلى مربي النشء فإننا نرى كذلك ابن خلدون، بدل المربين على الطريقة المثلى في التربية الصحيحة فيقول: فينبغي للمعلم في متعلمه، والوالد في ولده، ألا يستبدوا عليهم في التأديب. ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال: يا أحمد إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه. وثمرة قلبه. فصير يدك فيه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. . أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة.
أمين محمد عثمان
دبلوم معهد التربية العالي
الولايات المتحدة الأمريكية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
- 4 -
حكومة فدرائية
نحن شعب الولايات المتحدة، رغبة منا في اتحاد أكمل، وفي إقامة العدالة، وكفالة الطمأنينة الداخلية، وتهيئة وسائل الدفاع المشتركة، ورعاية الخير العام، وضمان بركات الحرية لنا ولذريتنا، رسمنا وقررنا هذا الدستور للولايات المتحدة الأمريكية.
من ديباجة الدستور 1787
في 1774 ثارت المستعمرات الأمريكية على إنجلترا، ثم أعلنت استقلالها 1776، وأجتمع مؤتمر يمثل الولايات الثلاث عشرة لوضع دستور للدولة الجديدة، وقد ثار نقاش عنيف بين مندوبي الولايات وذلك بسبب تضارب مصالح سكان الولايات ونزعاتهم ورغباتهم ومذاهبهم الدينية وحرصهم على حريتهم الفردية وعلى استقلال ولاياتهم المختلفة. ولكن المندوبين أظهروا صبراً وتحملوا جهداً حتى وضعوا دستوراً يحقق لسكان الولايات حرياتهم الفردية وسعادتهم، ويكفل قيام حكومة مركزية أو اتحادية (فدرائية) تدافع عن سلامة الولايات وترد عنها أي عدوان خارجي، وتحقق السلام الداخلي وتقيم العدالة وتصون الحرية وتنهض بشؤون الولايات الاقتصادية.
وتم بذلك وضع نظام حكومي جديد في نوعه فترك للولايات الحكم الذاتي وقامت حكومة مركزية ساهمت فيها الولايات جميعاً، وهذه هي أهم المبادئ التي تضمنها الدستور الجديد:
أولاً: إن الناس جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات ولهم الحق في الحياة والحرية.
ثانياً: إن الحكومة ما وجدت إلا برضى الشعب ولخدمة الشعب، وموظفوها يختارون بالاقتراع العلني تلبية لإرادة أكثرية الشعب.
ثالثاً: إن الحكومة التي لا تعمل وفق رغبات الشعب والتي لا تحرص على تحقيق سعادة الشعب، ولا تحافظ على حقوق الأفراد وحرياتهم يجب أن تزول ويجب أن يقيم الشعب مكانها حكومة تخدم مصالحه وتحرص على حقوقه، وإن خير حكومة لهي حكومة تنتخب
بواسطة الشعب ومنه وتعمل لمصلحته وبرضاه وهذه هي الحكومة الديمقراطية الحقة.
ويلاحظ أن هذه المبادئ كانت تعتبر ثورة على أنظمة الحكم القائمة وقتذاك. ذلك أن الدول التي كانت قائمة في أوربا وفي غيرها من بلاد العالم - ما عدا بريطانيا - كان نظام الحكم فيها نظاماً استبدادياً رجعياً يقوم لمصلحة بعض الطبقات فتنعم بينما تشقى أغلبية الشعب التي كانت محرومة من حرياتها وكافة حقوقها وعليها أن تشقى وأن تعمل لإسعاد فئة قليلة مترفة من الشعب، وكان ذلك من أهم أسباب الثورة الفرنسية الكبرى (1789) التي قلبت نظام الحكم في فرنسا وأقامت الحريات لأول مرة في أوربا في تأريخها الحديث.
رابعاً: تقرر أن يترك لكل ولاية حكمها الذاتي وأن تتمتع بحق السيادة، ولا تتدخل الحكومة الاتحادية في حقوق الولاية الخاصة.
خامساً: تقرر أن تنشأ حكومة اتحادية أو فدرائية للولايات جميعاً، ولكن ما مدى سلطتها وما مدى حقوقها وكيف تتكون؟ كانت كل ولاية حريصة على حريتها وعلى عدم الحد من سيادتها، ولكن من جهة أخرى لم تكن الولايات آمنة من غزو الدول الأخرى، وما من ولاية كانت قوية إلى حد يمكنها من حماية تجارتها الخارجية، وكانت الولايات في حاجة ماسة إلى شبكة من الطرق لأجل التجارة والنقد والبريد. وإذن فلتقم الحكومة الاتحادية لتتكفل تحقيق هذه المصالح المشتركة للولايات جميعاً. وقد وضح الدستور نظامها وسلطاتها ووافقت عليه الولايات المختلفة، وأصبحت أمريكا أرض الحرية فهرع إليها المعذبون والمضطهدون من سكان القارة الأوربية.
سادساً: تقرر أن تكون الدولة الجديدة جمهورية، وقد اختير جورج واشنطن زعيم حركة الاستقلال فكان أول رئيس للجمهورية ثم أعيد انتخابه للمرة الثانية، ولكنه رفض أن يرشح نفسه مرة ثالثة خوفاً من أن يصبح ذلك قاعدة، وربما تمكن أحد الرؤساء الذين يتجدد انتخابهم من قلب هذا النظام الجمهوري إلى نظام ملكي، وهذا يدل على تمكن النظام الجديد من نفس الشعب الأمريكي.
وفيما يلي وصف لتوزيع السلطات الثلاث في الحكومة الفدرائية:
أولاً: السلطة التشريعية:
تقرر أن تكون في يد الكونجرس (البرلمان) وهو يتألف من مجلسين:
أ: مجلس الشيوخ ويتكون من 96 شيخاً باعتبار شيخين عن كل ولاية صغيرة كانت أو كبيرة، ومدة عضويته ست سنوات ويسقط ثلثه كل عامين حتى يكون دائم التجدد مع مجلس النواب. وأعضاؤه جميعاً منتخبون ويشترط ألا تقل سن الشيخ عن ثلاثين سنة عند انتخابه.
ب: مجلس النواب: وعدد أعضائه 435 نائباً، وترسل كل ولاية نواباً عنها إلى المجلس حسب تعداد سكانها، فكلما زاد عدد سكانها زاد عدد نوابها في مجلس النواب، ولا بد أن يمثل الولاية نائب على الأقل. ومدة عضوية المجلس سنتان، ويشترط ألا تقل سن العضو عن 25 عاماً عند انتخابه. وينتخب المجلس رئيسه، أما رئيس مجلس الشيوخ فهو نائب رئيس الجمهورية.
ويجتمع المجلسان في مقرهما بمدينة واشنطن وهي عاصمة الولايات المتحدة.
السلطات المخولة للمجلسين:
للكونجرس سلطة فرض الضرائب على الدخل وجبايتها، وعقد القروض ووضع قوانين وأنظمة للتجارة بين الولايات ومع البلاد الأجنبية، وضرب العملة، ووضع قوانين الجنسية، وإعلان الحرب والتجنيد والإنفاق على الجيش وتجهيز الأسطول وسن لوائح وقوانين للجيش والبحرية والتعاون مع الولايات على تنظيم قوة الجيش والأسطول وإنشاء مكاتب وطرق البريد الخ.
وبحسب الدستور لمجلس الشيوخ وحده السلطات الآتية:
1 -
يستطيع مجلس الشيوخ عدم الموافقة على اختيار رئيس الجمهورية للموظفين في كثير من الوظائف المهمة.
2 -
لمجلس الشيوخ أن يوافق بأغلبية ثلثيه على أي معاهدة تعقدها الولايات المتحدة حتى تصبح نافذة.
3 -
لمجلس الشيوخ الحق في محاكمة المتهمين من أعضاء الكونجرس، ولمجلس النواب السلطة الوحيدة في اتهام أي موظف مدني في الولايات المتحدة بإساءة التصرف بحيث تقتضي العدالة عزله ويحاكم أمام مجلس الشيوخ.
وأما مجلس النواب فقد منحه الدستور سلطة واسعة في جمع المال للدولة، فجميع القوانين
الخاصة بإيرادات الدولة يجب أن تقرر أولاً في مجلس النواب قبل أن يعمل مجلس الشيوخ بمقتضاها. والسبب في ذلك أن مجلس النواب أكثر تمثيلاً للولايات، فالولايات الكبرى لها عدد كبير من النواب وهي تدفع قسطاً أكثر من إيرادات الدولة، وعلى هذا وجب أن تكون سلطة مجلس النواب في الناحية المالية واسعة.
ومجلس الشيوخ يستطيع أن يدخل تعديلات على أي قانون، وإذا اختلف المجلسان تعين لجنة من أعضاء المجلسين لحسم الخلاف.
وعند افتتاح كل كونجرس جديد يجتمع أعضاء كل حزب سياسي ممثل في مجلس الشيوخ وينتخبون زعيماً لهم ويعينون شيوخاً آخرين أعواناً له وكذلك في مجلس النواب. ويختار هؤلاء الزعماء بحسب تقاليد الحزب السياسي ويقومون بدور كبير في سن القوانين بمقتضى الدستور.
الأحزاب السياسية:
يوجد في الولايات المتحدة حزبان سياسيان كبيران هما:
1 -
الحزب الديمقراطي: وهو من أقدم الأحزاب إن لم يكن أقدمها؛ ويؤمن أتباعه بسيادة الديمقراطية سيادة تامة ويعتبر منذ نشأته حامي الحرية والمدافع عن حقوق الإنسان.
1 -
الحزب الجمهوري: وكان يسمى في أول الأمر الحزب الفيدرالي أو الاتحادي، وكان يدعو إلى قيام حكومة اتحادية قوية والى أن يمنح الأغنياء امتيازات معينة والى استئثارهم بالحكم. وقد نجح الديمقراطيون في تحقيق أهدافهم واستأثروا بالحكم سنوات طويلة حتى أقاموا في أمريكا حكومة جمهورية ديمقراطية.
على أن هذا الحزب الجمهوري كان من البداية حزباً وطنياً، وكان حزب رجال الأعمال ومن أشهر رجاله إبراهام لنكولن أعظم رؤساء الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر والذي كان له الفضل الأكبر في تحرير العبيد بأمريكا وفي المحافظة على وحدة واتحاد الولايات الأمريكية 1860 - 1864.
ومنذ عام 1932 نجح الديمقراطيون في الفوز برئاسة الجمهورية الأمريكية.
للكلام صلة
أبو الفتوح عطيفة
مع الراحلين
الشيخ محمد راغب الحلبي
عضو المجمع العلمي العربي
مهداة إلى محقق تاريخ حلب الدكتور سامي محمد الدهان
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
نشرت الرسالة الغراء في العدد 946 أسطراً معدودات للسيد عبد اللطيف الطباخ ينعى فيها المرحوم (الشيخ محمد راغب الطباخ الحلبي) ويعرف به تعريفاً وجيزاً لا يوازي المكانة العلمية التي كان يحتلها الشيخ منذ أخرج للعالم العربي في سنة 1342هـ - سنة 1923م موسوعته التاريخية الخاصة بمدينة حلب وأعلامها. والتي أسماها (إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء).
وتعد هذه الموسوعة التاريخية أحدث المصادر عهداً عن تاريخ حلب بعد كتاب (نهر الذهب في تاريخ حلب) الذي ألفه الشيخ كامل حسين الغزي الحلبي، والذي ظهر مع (إعلام النبلاء) في وقت يكاد واحداً، فقد شهدت سنة 1342هـ مطلع الكتابيين اللذين يتحدان في موضوع واحد هو التأريخ لمدينة حلب والترجمة لأعيانها على مر العصور. وكان كل من المؤلفين يعلم عزم صاحبه على التأليف في هذا الموضوع. ومضى كل منهما إلى غايته على منهجه الخاص، وعلى هدى مصادره التاريخية والأدبية الخاصة. ولم يئن أحد الشيخين عنان العزم عن المضي في تأليفه، بل قام بينهما من التعاون العلمية ما يجب أن نسطره بالحمد. وخاصة عند فقيدنا المترجم له. . . فقد زار الشيخ كامل الغزي في منزله واطلع على أجزاء من (نهر الذهب) ونقل منه بعد استئذانه - ترجمة ابن أبي طي يحيى بن حميدة الحلبي المؤرخ المتوفى سنة 630هـ، وترجمة ابن عشائر الحلبي المؤرخ المتوفى سنة 789هـ. لأنه لم يظفر بهما بعد طويل بحث، فلما رآهما في كتاب الشيخ كامل الغزي أستاذنه في نقلهما إلى كتابه.
ولم يقم بين الشيخين الغزي وراغب الطباخ ما يقوم عادة بين المتنافسين من أهل الصنعة الواحدة، ولم تجد أحدهما يحط من قدر الكتاب الذي ألفه صاحبه ترويجاً لكتابه ورفعاً لشأنه
على حساب الآخر. . بل تجد على الضد من ذلك أن الشيخ راغب الطباخ يثني على عمل صاحبه ويزن عمله وزناً صحيحاً لا يعرفه إلا من كابد التأليف ويقول:
(وإني من الشاكرين لمساعيه. المقدرين لجليل عمله. فقد عانى في جمع تاريخه ما عانيته، وقاسى ما قاسيته. . . هذا وقد أجتمع عند كل واحد منا من المواد ما لم يجتمع عند الآخر، واطلع على ما لم يطلع عليه، فسترى في تاريخه ما لا ذكر له عندي. وستجد في تاريخي ما لا تجده في تاريخه، فلا يستغني بأحدهما عن الآخر، كما قيل: لا يغنى كتاب عن كتاب).
وهذه الروح العلمية الرحيبة الآفاق الواسعة الصدر قل أن تجدها في زماننا هذا، حيث يظن الناقد - مثلاً - أنه ليس في الدنيا غيره، وأنه الأديب ليس في العالم إلاه. . . وأنه - وحده - اجتمعت له التجربة الكاملة، والثقافة الرفيعة والذوق المرهف. . ثم لا يستحي أن ينشر هذا الكلام - الذي أستحي أن أنعته - في مجلة سيارة، ثم بعد ذلك في كتاب.
ولقد ترجم الشيخ راغب الطباخ في كتابه لمئات ومئات من الرجال الذين أنجبتهم حلب الشهباء. ولكنا لا نظفر في كتابه بترجمة ذاتية له، ولو صنع لكان أراح المؤرخ الأدبي من عناء الترجمة له، كما فعل السيوطي المؤرخ مثلاً حينما ترجم لنفسه في كتابه (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة). وكما فعل المقرئ المؤرخ في كتابه (نفح الطيب). وكما صنع من المعاصرين الأستاذ محمد كرد علي بك في كتابه (خطط الشام)، والأستاذ محمد الأسمر في ديوانه (تغريدات الصباح).
على أننا لم نيأس من معاناة الترجمة لراحل وقف أكثر من حياته على تأليف كتاب واحد في التاريخ لحلب الشهباء، ورأينا أن هذه اللفتات الصغيرة في مقدمة كتابه الكبير، وفي الترجمة لجده الشيخ هاشم الطباخ ولوالده الشيخ محمود ولأخيه الشيخ محمد، ولعميه الشيخ عبد السلام والشيخ على الطباخ قد تعيننا على إخراج صورة لهذا العالم المتواضع الذي لم يحفزنا إلى الكتابة عنه إلا واجب الوفاء لعلمائنا الراحلين الذين لم يضنوا بجهد ولم يبخلوا ببذل في سبيل المعرفة والبحث، فكيف نبخل عليهم بصفحات مشرقة من تاريخهم نستأنس في كتابتها بما تلفظه عين البصيرة من هنا وهناك، وبما نجده مبعثراً في خلال السطور التي كتبوها. اعترافاً منا بفضلهم، وتلبية لواجب الوفاء لهم.
ولا أعرف بالضبط السنة التي ولد فيها المرحوم الشيخ راغب الطباخ. إلا أن ناعيه في مجلة الرسالة الغراء يذكر أنه توفي في رمضان الفائت سنة 1370هـ عن ثمانية وسبعين عاماً. ومعنى هذا أنه ولد في سنة 1292هـ الموافقة لسنة 1875م. على أننا نجد في الجزء السابع من كتابه، وفي خلال ترجمته لعمه الشيخ عبد السلام أنه كان بمدينة (جدة) سنة 1308هـ مع عمه وكانا يزوران الشيخ محمد مراد الطرابلسي وهو من أهل العلم والفضل فتدور بينه وبين العم مطارحات ومناقشات طويلة، (فكان يتراءى لي - وأنا صغير - أن الحق تارةً يكون مع السيد الطرابلسي وتارةً مع سيدي العم). ومعنى هذا أن سنه كانت عند المناقشة في جدة سنة 1308 ستة عشر عاماً. فهل كان في السادسة عشرة صغيراً كما يقول بنص عبارته؟ ومهما يكن من أمره، فقد ولد رحمه الله في محلة باب قنسرين بحلب في دار ذات أواوين ثلاثة مفروش صحنها بالرخام الأصفر. وفي الوسط بركة صغيرة. وهي دار قديمة أستظهر المترجم له أنه مضى عليها 300 سنة إلى وقت ولادته واشتراها والده الحاج محمود الطباخ سنة 1276هـ.
وينتمي الشيخ راغب إلى أسرة جمعت بين التجارة والعلم والتصوف. فقد عرض على جده الشيخ هاشم منصب القضاء في الآستانة، فأبى معتذراً بأن لهم صنعة أغناهم الله بها عن الوظائف وهي صناعة بصم الشاش الأبيض بألوان ونقوش لتتخذ منه العصائب والمناديل في بلاد كثيرة من الشرقين الأدنى والأوسط، وقد نشأ أبوه أيضاً في صناعة البصم وتجارتها أسوةً بأبيه، جامعاً بين العلم والتجارة، إلا أن مسائل العلم انحصرت عنده في الأمور الفقهية التي تتعلق بأحكام المعاملات في الشريعة الإسلامية، حتى يكون مثال التاجر المسلم الحق في بيعه وشرائه. ونجد عميه أيضاً يشتغلان بالتجارة. على أننا نجد المؤلف نفسه يعترف في خلال ترجمته لوالده بأنه مع اشتغاله بخدمة العلم كان يتعاطى صناعة بصم المناديل والملافع. كما تعاطى التجارة مع أخويه في خان العلبية وخان البرغل إلى سنة 1339هـ 1920م وهي السنة التي تركوا فيها صناعة البصم نهائياً لقلة رواج هذه المناديل والملافع الملونة في بلاد الشرق العربي وتركية. وخاصةً بعد أن غير كما أتاتورك زي بلاده إلى القبعة الغربية. فلم تعد المناديل توضع على رءوس الفلاحات التركيات. .
وفي أسرة الطباخ نزعة تصوفية من ميراث القرون الماضية ولكنها بقيت فيهم إلى عهد
غير بعيد. . فجده الشيخ هاشم وهو من رجال القرن الثالث عشر الهجري أخذ الطريقة الخلوتية القادرية على الشيخ إبراهيم الدار عزاني ولازم زاويته، ثم لزم بعد وفاته ولده الشيخ محمد (وسلك على يديه؛ وصار يختلي معه الخلوة الأربعينية في كل سنة). وأبوه الحاج محمود الطباخ كان يختلف إلى الشيخ محمد الهلالي ابن الشيخ المتصوف الزاهد الشيخ إبراهيم الهلالي شيخ التكية الهلالية بحلب. وأخوه الشيخ محمد الطباخ لازم الزاوية الكيالية وشيخها إذ ذاك الشيخ حسن بن طه الكيالي (فأخذ عنه الطريقة الرفاعية، ولازمه ملازمة الظل لصاحبه. . وأخذ في مطالعة كتب السادة الصوفية، وطالعا عدة كتب في الزاوية المذكورة، وصار يختلي معه فيها كل سنة أربعين ليلة على حسب عادة أهل الطريق). وعمه الشيخ علي الطباخ أخذ الطريقة الخلوتية القادرية على الشيخ إبراهيم الهلالي، وبعد وفاته لزم ولده الشيخ مصطفى الهلالي. . وفي سنة 1310هـ صار خليفة للشيخ وأذن له بإقامة الذكر والإرشاد. فصار له بعض المريدين الذين كانوا يقيمون الأذكار معه في مسجد الروضة في محلة سراي إسماعيل باشا.
ولم أقع فيما قرأت عن الشيخ راغب على نص يدل على أنه سلك طريق الصوفية أو أختلي الخلوات الأربعينية مثل أخيه الشيخ محمد، ولكن الذي أعرفه - مما نبشت في كتاب أعلام النبلاء - أن المترجم له تتلمذ على أستاذين من أكبر علماء الشام وهما الشيخ محمد الزرقا، والشيخ بشير الغزي. أما الشيخ الزرقا فقد كان حجة في فقه الإمام أبي حنيفة، وكان كما يقول تلميذه:(لو شاء إملاء مذهب أبي حنيفة من حفظه لأملاه بنصوصه وحروفه). وقد تولى التدريس في المدرسة الشعبانية أولاً، ثم اشتغل بالقضاء أو رياسة كتاب المحكمة الشرعية بحلب، وظل أكثر حياته الطويلة معلماً يلتف حوله التلاميذ ويردون أصفى موارده، إلى أن توفي سنة 1343هـ - 1924م. أما الشيخ بشير الغزى فقد كان أميناً للفتوى بحلب فعضواً بمحكمة الحقوق فرئيساً لها، فمدرساً بالمدرسة الرضائية، فقاضياً إلى أن عين في آخر أيامه قاضياً لقضاة حلب، وظل في المنصب إلى أن توفي سنة 1339هـ - أي قبل الشيخ محمد الزرقا بأربع سنوات.
وعلى قدر ما كان الشيخ محمد الزرقا متمكناً من الفقه الإسلامي ضالعاً فيه، كان الشيخ الغزي متمكناً من اللغة العربية وشعرها وأدبها، وكان حاضر الذهن في الاستشهاد باللغة أو
بالشعر، وأعجب من ذلك أن كتب الأغاني لأبي الفرج، والحماسة لأبي تمام، والآمالي للقالي، والكامل للمبرد، ودواوين أبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري كانت كلها على مناط الطلب. بحفظها ويروي عنها ويعيها في صدره، فلا يكاد يخطئ في الرواية عنها أو يعز عليه الاستشهاد منها.
ومن هذين المزاجين عند شيخين من أكابر شيوخ الشام في وقتهما اجتمع للشيخ راغب الطباخ مزاج ثالث في التحقيق والصبر عليه واللجوء إلى المصادر والسعي وراءها لا يمنعه منها مانع من زمن أو بعد شقة غيره. ففي المدينة المنورة عثر على أوراق في تاريخ حلب لمؤرخ مجهول - كما يقول فهرس مكتبة عارف بك حكمت - فاستنسخ الأوراق فإذا هي ليست تاريخاً لحلب. . وإنما هي موشح للشيخ علي الميقاتي الحلبي في ذكر متنزهات الشهباء ومدح بعض أعيانها. .!
وفي حلب نفسها يلتقي بالمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون سنة 1921 ويذكر له أمله في الحصول على نسخة من مخطوطة كتاب (الدر المنتخب) لابن خطيب الناصرية من علماء القرن التاسع الهجري، فيعود ماسينيون إلى باريس ويصور المخطوطة ويبعث بالنسخة المصورة إلى الفقيد الكريم. ثم يكتب إلى العلامة المرحوم أحمد تيمور باشا سائلاً إياه أن يدله على كتب في مكتبته تتصل بتاريخ حلب. فيكتب له تيمور باشا عن جزءين في مجلد واحد من كتاب (كنوز الذهب في تاريخ حلب) للإمام المحدث موفق الدين أبي ذر. ثم يعثر في مكتبة محمد أسعد باشا الجابري بحلب على مخطوطة (در الحبب) لرضي الدين الحنبلي فيستعيرها ثم ينقلها بخطه إلى نسخة حسنة الخط صحيحة الرسم يراها أسعد باشا فيستحسنها ويأخذها بدلاً من مخطوطته. . . ثم يجد نسخة من كتاب (الدر المنتخب) المنسوب لابن الشحنة عند أحد علماء حلب فيكتبها بخط يده ويقابلها بغيرها من النسخ المخطوطة، ويحقق أن هذا الكتاب لأبي اليمن بن عبد الرحمن البتروني، وليس لأبن الشحنة كما كان معروفاً قبل ذلك. ثم يذهب إلى دمشق فينسخ عشرات وعشرات من المخطوطات التي وجدها في مكتبات العاصمة السورية مما يتصل بموضوع تاريخه لمدينة الشهباء. ثم نجد الكرام من العلماء يعيرونه من نفائس المخطوطات والكتب ما يعينه على إخراج كتابه (إعلام النبلاء) كالمرحوم أحمد تيمور باشا الذي أعاره كتب (المنهل الصافي)
لابن تغرى بردى في خمسة مجلدات، و (كنوز الذهب) كما سلف القول، و (رحلة القاضي ابن آجا مع الأمير يشبك).
وليس هذا الشغف يجمع الكتب القديمة والمخطوطات الثمينة طارئاً على الشيخ راغب الطباخ، فقد اقتنى جده الشيخ هاشم الطباخ كتباً خطية نفيسة كثيرة، منها (الجامع لآداب الراوي والسامع) للحافظ الخطيب وهي نسخة قديمة قيمة، وكتاب (أسرار التنزيل) للفخر الرازي، وكتاب (شرح المناوي الكبير على الجامع الصغير) و (شرح منظومة الإمام النسفي الحنفي) و (جزء عبد الله بن المبارك في الحديث) وغيرها.
وقد توزع الأبناء هذه الكتب وتصرفوا فيها بالبيع إلى أن استقرت منها جملة وافرة في مكتبة المجلس البلدي بالإسكندرية. وعلى كثير من هذه الكتب خط الشيخ هاشم الجد.
ويظهر لي أن الشيخ راغب الطباخ لم يكن يعرف من اللغات الأوربية ما يعنيه على استكمال عدة البحث العلمي الصحيح! فقد استحضر أحد وجهاء حلب الإيطاليين (أندريه ماركوبولي) من باريس قطعة من كتاب (بغية الطلب) لابن العديم مترجمة إلى الفرنسية، وأطلع عليها المترجم له، وترجم له - كما يقول - جانباً منها، وهو نص يدلنا على عدم معرفة الفقيه للغة الفرنسية. وفي موضع آخر من مقدمة كتابه يذكر أن اللجنة الألمانية الأثرية التي زارت مدينة حلب سنة 1326هـ قد أطلعوه على الجزء الثاني من تاريخ (بروكلمان)(واستخرجوا لي ما هو موجود من تواريخ الشهباء في المكتبات الأوربية). ولو كان يعرف الأبجدية اللاتينية - على الأقل - لاستطاع أن يستخرج بنفسه تواريخ حلب من كتاب المستشرق الألماني بروكلمان. . .
وطريقة المؤلف في (إعلام النبلاء) هي الجمع والنقل عن السابقين وعن نوادر المخطوطات مع توسع في النقل (فما رأيت من الحوادث في كتابين أخذت الأوسع منهما، وإذا كان في الأقل زيادة مفيدة التقطتها وأضفتها إلى تلك لتكون الفائدة أتم). ونراه التزم في باب التراجم خطة التوسع في النقل والجمع (فلم يقع نظري على ترجمة لحلبي في كتاب من الكتب التي اطلعت عليها إلا ونظمتها في عقد هذا التاريخ).
وإذا كان الشيخ راغب لم يسلك في كتابه مسلك المؤرخ الحديث من تحليل ونظرة عامة إلى العصور، وتفاعل بين الظروف والشخصيات، ودراسة للأحوال الاجتماعية، وتأريخ
للشعب فإن المؤرخ بالمعنى الحديث يستطيع أن يجد في هذه الموسوعة التاريخية مادة غزيرة يستخرج منها ما يريد دراسته من تاريخ حلب، فإن الكتاب - على طريقة صاحبه - هو سجل زمني حافل بالأحداث والتراجم، ويكفي أن صفحاته التي زادت على أربعة الآلاف نسخة قد اشتملت على 1136 ترجمة لرجالات حلب من الوزراء والأمراء والشعراء والعلماء والمحدثين والفقهاء والأطباء وأرباب التجارة وغيرهم. كما يكفي أن جمع هذه المواد الكثيرة للكتاب قد استغرق من المؤلف أثنين وعشرين عاماً حيث ابتدأ يضعه سنة 1323هـ، وانتهى من تأليفه سنة 1345هـ.
ولقد كان المؤلف يعالج نظم القريض، إلا أنه لم يكثر فيه، ولعل اشتغاله بالكتب والمخطوطات ونسخها لم يعنه على إتمام المعالجة، ونجد في أول الكتاب صورته الفوتوغرافية وتحتها هذان البيتان:
إليكم يا بني الشهبا كتابا
…
حوى تاريخ أجداد عظام
وروحي في ثناياه تجلت
…
وذا رسمي إذا غابت عظامي
ثم نجد في المقدمة بعض شعر نظنه له لأنه لم ينسبه لقائل. ومنه:
يا ناظراً فيما قصدت لجمعه
…
أعذر فإن أخا الفضيلة يعذر
واعلم بأن المرء لو بلغ المدى
…
في العمر لاقى الموت وهو مقصر
إلا أن الفقيد لاقى الموت غير مقصر في واجب، فقد ملأ عمره بالعمل المتصل، حتى استطاع أن يخرج للناس كتاباً منشوراً يقرءونه ويرجعون إليه، حين يودون أن يرجعوا إلى تاريخ السابقين، من أبناء العرب الميامين.
رحمه الله، وعوض العرب والمجمع العلمي العربي خير العوض، وجعل ما بين الأمة العربية الإسلامية وحاضرها موصولاً حتى يوفى العقد على تمامه، والسلك على نظامه.
محمد عبد الغني حسن
2 - أصحاب المعالي
(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)
(حديث شريف)
للأستاذ محمد محمود زيتون
والسموأل يباعد ويقارب بين الطرفين البعيدين في هذه الصورة الشعرية إذ يقول:
لنا جبل يحتله من نجيره
…
منيع يرد الطرف وهو كليل
رسا أصله تحت الثرى وسما به
…
إلى النجم فرع لا ينال طويل
هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكره
…
يعز على من رامه ويطول
علونا إلى خير الظهور وحطنا
…
لوقت إلى خير البطون نزول
ولم يكن أمام الحارث بن حلزة ما يعوق رقيه وانتماءه إلى ذروة الشرف، يقول:
فبقينا على الشناءة تنمينا
…
حصون وعزة قعساء
ويقول عنترة العبسي وقد جمع بين الحركة إلى أعلى وخوض الحروب ونيل الرتب:
ولى بيت علا ذلك الثريا
…
تخر لعظم هيبته البيوت
وخضت بمهجتي بحر المنايا
…
ونار الحرب تتقد اتقادا
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
…
ولا ينال العلا من طبعه الغضب
وهو الذي لم يقعد بسواد وجهه عن النهوض والجهاد. وفي ذلك يقول:
وأختر لنفسك منزلاً تعلو به
…
أو مت كريماً تحت ظل القسطل
إن كنت في عدد العبيد، فهمتي
…
فوق الثريا والسماك الأعزل
وبذابلي ومهندي نلت العلا
…
لا بالقرابة والعديد الأجزل
لا تسقني ماء الحياة بذلة
…
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم
…
وجهنم بالعز أطيب منزل
تلك هي مؤهلات المجد التي ابتدعها عنترة، وحرص على إبرازها، فكان له مكانه الممتاز بين أصحاب المعالي، وحسبه شرفاً أن له - وهو العبد الأسود - همة عالية نالها بالقوة لا بالانتساب إلى سادة العرب محتداً وعديداً، وأحق معادن الرجولة بالإشادة هذا المعدن
العنتري النادر أو كما يقول شاعر قديم:
شباب قنع لا خير فيهم
…
وبورك في الشباب الطامحينا
وأصحاب المعالي من القوة بحيث يتفاوتون في درجات التصعيد، كل على حسب طاقته من التصميم على إدراك الغاية: فهذا النابغة الذبياني يمدح عمرو بن الحارث_ألا أنعم صباحاً، أيها الملك المبارك، السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك. . والسخاء ظهارتك، والحمية بطانتك، والعلا غايتك.) وتلازمه هذه النزعة حتى وهو يمدح النعمان بن المنذر ملك العرب:
كأنك شمس والملوك كواكب
…
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
هذا في حين نرى عنترة - وهو الباطش الشديد - يتوعد النعمان بهذا الشعر المليء بالذخيرة، المفعم باللهيب، المختضب بالدماء:
اليوم تعلم يا نعمان أي فتى
…
يلقى أخاك الذي قدر غره العصب
فتى يخوض غمار الحرب مبتسماً
…
وينثني وسنان الرمح مختضب
إن سل صارمه سالت مضاربه
…
وأشرق الجو وانشقت له الحجب
والخيل تشهد لي أني أكفكفها
…
والطعن مثل شرار النار يلتهب
والنقع يوم طراد الخيل يشهد لي
…
والضرب والطعن والأقلام والكتب
ومن هنا نرى الفرق بين النعمان وعنترة في القدرة على التصعيد في طلب المعاني النادرة، والامتزاج بالطبيعة في توليد القوى الدافعة الرافعة معاً.
وهذا ابن المنير الطرابلسي ينزل القمر - كرمز للجمال - من السماء إلى الأرض فيقول:
وأنزل النير الأعلى إلى فلك
…
مداره في القباء الخسوراني
ومثله في هذا محمد بن وهيب إذ يقول:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم
…
شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
وكان زهير بن أبي سلمى - على تقواه وروعه وسيادته وغناه - من دعاة المغامرة في طلب العزة ولو لقي في ذلك حتفه، قال يمدح الرجلين الساعيين في إصلاح ذات البين بين عبس وذبيان، وذلك كنز من المجد يرفع صاحبه: قال:
عظيمتين في عليا معد هديتما
…
ومن يستبح كنزاً من المجد يعظم
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه
…
يطيع العوالي ركبت كل لهذم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
…
وإن يرق أسباب السماء بسلم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
…
يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يغترب يحسب عدواً صديقه
…
ومن لا يكرم نسفه لا يكرم
ويقول أمية بن أبي الصلت: وقد أدرك الإسلام ولم يسلك:
ورثنا المجد من كبرى نزار
…
فأورثنا مآثرنا بنينا
وهو المادح بقوله:
وأرضك كل مكرمة بنتها
…
بنو تيم وأنت لها سماء
وبذلك جعل الطريف سقفاً للتليد. والسماء أشرف من الأرض على كل حال.
ومن أصحاب المعالي الشعراء من جعل للعلا عينا وحاجباً، واختار لها خدنا وقرينا، من هؤلاء الخطيب أبو محمد إذ يقول:
(لقد رأيت الثناء حقاً واجباً. على من غدا للعلا عيناً وحاجبا، وسلب الوفاء صاحب القوس (حاجبا). وقال أيضاً:
من ذا يفيد فديتكم زواره
…
خطط النوال غرائبا ورغائبا
أم من غدا خدن العلا وقرينها
…
فظننت ذا عينا وهذا حاجبا
وجعل أبو العتاهية للعلا يداً إذ قال في مدح الرشيد:
بسطت لنا شرقاً وغرباً يد العلا
…
فأوسعت شرقياً وأوسعت غربياً
وأكثرهم يجعل المجد بناء يسقفونه بالممدوح أو يجعلونه رداء وإزاراً له، قالت الخنساء في صخر:
وإن ذكر المجد ألفيته
…
تأزر بالمجد ثم ارتدى
وقال أبو فراس الحمداني في رثاء جابر بن ناصر الدين:
لما تسربل بالفضائل وارتدى
…
برد العلا واعتم بالإقبال
وقال الإمام السبكي وقد جعل للمعالي أذيالاً يجرها بنو النجار فخراً بالنبي:
نزلت على قوم بأيمن طائر
…
لأنك ميمون السنا والنقيبة
فيا لبني النجار من شرف به
…
يجرون أذيال المعالي الشريفة
وحافظ إبراهيم قد تجشم الصعب لكي يلبس المجد معلماً، بينما جعل محمود صفوت الساعاتي للعلا عيوناً تبكي على عزيز راحل:
بكت عيون العلا وانحطت الرتب
…
ومزقت شملها من حزنها الكتب
ومنهم من نصب خيام العز على ظهر السماك، فهذه نقية بنت الخطيب تقول:
أعوامنا قد أشرقت أيامها
…
وعلا على ظهر السماك خيامها
ومنهم من لم يرض بالأرض مقاماً، فارتفع إلى ما فوق السماء بالعفة والكرامة، قال أبو ليلى النابغة عبد الله بن قيس في حضرة رسول الله:
علونا السماء عفة وتكرماً
…
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فتغضب رسول الله، وبان ذلك في وجهه وقال: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟
قال: إلى الجنة يا رسول الله. فقال النبي: أجل إن شاء الله ذلك لأن الله سبحانه وتعالى وصف الجنة بالعلو فقال:
(في جنة عالية)
ويقول أبو النجم العجلي:
ثم جزاه الله عنا إذ جزى
…
جنات عدن في العلالي والعلا
ويقول أبو العتاهية في القلم:
لك القلم الأعلى الذي بسنانه
…
يصاب من المرء الكلى والمفاصل
ومن شعراء العرب من يقصر المعالي أحياناً على الممدوح فيقول:
قل لأمير المؤمنين الذي
…
له العلا والمثل الثاقب
وقد ينزل أحدهم الثريا من السماء ليضعها على نحر الحبيب فيقول:
كأن الثريا فوق نحرها
…
توقد في الظلماء أي توقد
وإنما يرتفع الفرد وتعلو الجماعة ينشدان الكمال جداً واجتهاداً كما يقول القائل:
دنوت للمجد والساعون قد بانوا
…
جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا
وكابدوا الجد حتى مل أكثرهم
…
وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله
…
لن تدرك المجد حتى تلعق الصبرا
ولا يخفض القبيلة وأفرادها إلا التخلف عن طلب المعالي، قال الشاعر في (قصي):
ألهي قصياً عن المجد الأساطير
…
ورشوة مثلما ترشى السفاسير
وأكلها اللحم بحتاً لا خليط له
…
وقولها: رحلت عير. . أتت عير
وما أبدع الجمع بين الغرام والجهاد في قول الشاعر الذي يطلب العزة في الكأس والقبلة، وقد تمناهما في قبة الفلك وجبهة الأسد، وترفعا بهما عن الابتذال:
ليت الملاح وليت الراح قد وضعا
…
في جبهة الليث أو في قبة الفلك
كما يقبل ذا حسن سوى ملك
…
ولا يطوف بحانات سوى ملك
ويضع الحافظ أبو الطاهر السلقي أهل الحديث في أعلى مكان حيث لا يدانيهم أحد من الناس:
أهل الحديث هم الرجال البزل
…
ومن المعالي في الأعالي نزل
هل يستوي السمك الذي تحت الثرى
…
أبداً مقيم والسماك الأعزل
أما الخنساء فقد قالت ترثى أخاها صخراً وفي مرجل نفسها تعتمل عناصر القوة مع مؤهلات المجد:
طويل النجاد رفيع العما - د ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا أياديهم
…
إلى المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهمو
…
من المجد ثم مضى مصعدا
يحمله القوم فوق ما عالهم
…
وإن كان أصغرهم مولدا
وإن ذكر المجد ألفيته
…
تأزر بالمجد ثم ارتدى
وتقول أيضاً:
وإن صخراً لتأتم الهداة به
…
كأنه علم من فوقه نار
ومن الناس من يتعالى بنفسه إذا تكبر عليه أحد أو تباعد عنه، قال الشاعر:
وإني إذا ما لم تصلني خلتي
…
وتباعدت مني اعتليت بعادها
أي علوت بعادها ببعاد أشد منه، وقال أحمد بن بلال بن جرير
لعمرك إني يوم فيد لمعتل
…
بما ساء أعدائي على كثرة الرجز
أي عار قادر قاهر
وليس يتساوى عند الموت خامل وعامل، فمن كان في الحياة عالياً فهو كذلك عند الموت،
قال أبو الحسن الأنباري في رثاء أبي طاهر محمد بن بقية وزير عز الدولة بن بويه عندما صلبه عضد الدولة، وتمنى الشاعر أن لو كان هو المصلوب، وقيلت فيه هذه القصيدة التي قال في مطلعها:
علو في الحياة وفي الممات
…
لحق تلك إحدى المعجزات
ومنها:
ولما ضاق بطن الأرض عن أن
…
يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا
…
عن الأكفان ثوب السافيات
ومنها:
ولم أر قبل جذعك قط جذعا
…
تمكن من عناق المكرمات
حتى المرأى كانت ترى أنه صاحبة المعالي حين تبدي زينتها وتمشي تيهاً ودلالاً، فقد كتبت ولادة بنت المستكفي على تاجها بسلوك من الذهب:
أنا والله أصلح للمعالي
…
وأمشي مشيتي وآتيه تيهاً
وأمكن عاشقي من لثم ثغري
…
وأعطى قبلتي من يشتهيها
وليس يصلح للمعالي كل من استند إلى نسب أو حسب، وإن كان يصلح لها خامل الآباء إذا طلب الأسباب، لهذا يقول أبو الأسود الدؤلي:
كم سيد بطل آباؤه نجب
…
كانوا الرءوس فأمسى بعدهم ذنبا
ومقرف خامل الآباء ذي أدب
…
نال المعالي بالآداب والرتبا
وبالعزيمة الصادقة يبلغ المرء هذه الدرجات كما تقول ليلى الأخيلية:
فتى كانت الدنيا تهون بأسرها
…
عليه ولا ينفك جم التصرف
ينال عليات الأمور بعزمه
…
إذا هي أعيت كل خرق مشرف
ويتفلسف ابن المعتز في (مؤنة المعالي) فيقول:
(لن تكسب - أعزك الله - المحامد، وتستوجب الشرف إلا بالحمل على النفس والحال، والنهوض بحمل الأثقال، وبذل الجاه والمال، ولو كانت المكارم تنال بغير مؤنة لاشترك فيها السفل والأحرار، وتساهمها الوضعاء من ذوي الأخطار، ولكن الله تعالى خص الكرماء الذين جعلهم أهلها. فخفف عليهم حملها وسوغهم فضلها، وحظرها على السفلة، لصغر
أقدارهم عنها وبعد طباعهم منها، ونفورها عنهم واقشعرارها منهم).
أما الفرزدق فيرى مؤهلات المجد في عزة النفس وكثرة العدد:
لنا العزة القعساء والعدد الذي
…
عليه إذا عد الحصى يتخلف
ويرى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب أن الإسلام هو العيش العالي، ولو أصيب في سبيله بما أصيب، فهو القائل عندما قطعت رجله في غزوة بدر، وتوسد قدم النبي عليه السلام:
فإن يقطعوا رجلي فإني مسلم
…
أرجى به عيشاً من الله عاليا
وألبسني الرحمن من فضل منة
…
لباسها من الإسلام غطى المساويا
ويرى الإمام علي كرّم الله وجهه أن مطالب العلا كثيرة، وتستلزم بذل المال، وحسن الخلق، والاعتصام بالله وحده، وشكر نعمه، وكذلك العلم والسفر فهو القائل:
ونافس ببذل المال في طلب العلا
…
بهمة محمود الخلائق ماجد
وبالله فاستعصم ولا ترج غيره
…
ولا تك في النعماء عنه بجاحد
ويقول:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمو
…
على الهدى لمن استهدى أدلاء
ويقول:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
…
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج غم واكتساب معيشة
…
وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار ذل ومحنة
…
وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من مقامه=بدار هوان بين واش وحاسد
ويرى البارودي كل شيء محبب في سبيل المعالي:
ومن تكن العلياء همة نفسه
…
فكل الذي يلقاه فيها محبب
أما شوقي فيتخذ عزة النفس والإباء سلماً لطلب العلا:
ينال العلا من لا يرى في سبيلها
…
رضاء يخسف أو قعودا إلى حكم
أأقبل أن يستعبد الضيم مهجتي
…
وما خلقت إلا قضاء على الضيم
والعلم في نظر الشيخ طنطاوي جوهري هو مذهبه في المعالي:
لي في العلا مذهب سارت به السلف
…
فلا أبالي إذا ما ضله الخلف
ومنها:
أبيت إلا المعالي والمعارف إذ
…
أرى الجهالة عاراً ليس ينكشف
وكم خطبت المعالي وهي ترمقني
…
ولم يعقني عن إدراكها الترف
ولم يكن خجل عائشة التيمورية ولا الحجاب بمانعها عن العلياء:
ما عاقني خجلي عن العليا ولا
…
سدل الخمار بلمتي ونقابي
عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت
…
صعب السباق مطامح الركاب
ويحتفل صفي الدين الحلي بالأخطار والأخلاق، ما دامت عليات الأمور رائد الكريم:
لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا
…
ولا ينال العلا من قدم الحذرا
ومن أراد العلا عفواً بلا تعب
…
قضى ولم يقض من إدراكها وطرا
لا بد للشهد من نحل يمنعه
…
ولا يجتني النفع من لم يحمل الضررا
لا يبلغ السؤل إلا بعد مؤلمة
…
ولا يتم المنى إلا لمن صبرا
ويقول:
ولا ينال العلا إلا فتى شرفت
…
خصاله فأطاع الدهر ما أمرا
والعفاف والإقدام والحزم والجود هي المؤهلات التي لا بد منها - في نظر أبي العلاء - في سبيل المجد:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل
…
عفاف وإقدام وحزم ونائل
ولا يحمي الشرف العالي من الأذى إلا السيف في رأي المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
…
حتى يراق على جوانبه الدم
ولا يصون العلا في نظره إلا استعمال الشدة في موضع الشدة، والحلم في موضع الحلم:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهمو
…
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
…
مضر كوضع السيف في موضع الندى
للكلام صلة
محمد محمود زيتون
2 - على ضفاف القناة:
معمل تكرير البترول
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
وأعني به المعمل الحكومي الذي يقع في الزيتية قرب مدينة السويس، بجوار المعمل العظيم الضخم الذي (تمتلكه) الشركة الإنجليزية لحماً ودماً، والمعروفة بشركة (شل).!
زرت هذا المعمل الحكومي مع تلميذاتي، طالبات القسم الثانوي بمدرسة الإسماعيلية الثانوية الأميرية للبنات، وفي ذهني صورة مشرفة عنه، تعتز بها كوطني غيور، وأستاذ يحاول أن يشرب نفوس تلاميذه وتلميذاته حب الوطن، والاعتزاز بمرافقه الحيوية، ومقومات وجوده. .
أقول في ذهني صورة كونتها من المعلومات الكثيرة المتنوعة - في الواقع - التي تنشر في الصحف والمجلات والكتب المدرسية، التي في أيدي الطلاب والطالبات، والتي تصور هذا المعمل في إطار من الجلالة والكمال، والروعة والعظمة، ما تمتلئ له نفس المصري بالفخار والإجلال.
ومن العجيب المؤلم أنني فجعت في هذا الأمل. في هذه الصورة الجليلة العظيمة التي كونتها من الصحف والمجلات، والكتب المدرسية، لا من البحث والدرس والتنقيب. . ووقفت ذاهلاً حيران، حينما علمت الحقيقة المرة، التي تسيء إلى مصر والمصريين أجمعين، وتدل دلالة واضحة على غفلتنا وبلهنا، وتمكن العنصر الإنجليزي اللعين في البلاد، أو بعبارة أدق السلطان الإنجليزي، وتمكنه في مرافقنا الحيوية إلى حد كبير، حتى ليخيل إلى الآن، أن صراخنا وهتافنا بين الحين والحين، ومطالبتنا بالجلاء الناجز، ما هو إلا عبث أطفال عاجز، والطريق الوحيد إلى الحرية والاستقلال هو غير ما نفعل بلا مراء. . أنه أشبه بهتاف الأطفال والصغار كلما رأوا طائرة في الجواء، محلقة في الفضاء، ارتفعت أصواتها مدوية مجلجلة:(يا عزيز يا عزيز. . كبة تأخذ الإنجليز. .).!
والعزيز القهار الذي لا يغلبه شيء في الأرض ولا في السماء قادر على أن يأخذ الإنجليز، ولكنه لا يأخذهم إلا إذا حاولنا نحن أخذهم والقضاء عليهم، واتخذنا طريق الجد والسعي والعمل، لا طريق الهزل والنقاش والفرقة والجدل، ومهما كانت جهودنا ضعيفة ضئيلة، فإن
العزيز القاهر سينصرنا حينئذ عليهم نصراً مبيناً، ويتولى هو أخذهم ما دمنا نتذرع بالإخلاص، ونتذرع بالإيمان والعزم. .
إن الزائر العابر لهذا المعمل الحكومي يعجب بما فيه من عدد وآلات، ومساحة واسعة، وبناء فخم ضخم، فيه بذخ وسخاء. كما جرت بذلك عادة حكومتنا السنية الرشيدة في عنايتها الكبيرة بالبناء والعمارة، ومبالغتها في تشييدها وتنسيقها. وتنظيمها إلى حد يخرج بها عن الغرض الذي بنيت من أجله، وبدل دلالة واضحة على المبالغ الكبيرة التي أنفقت عليه، والتي يذهب أكثرها إلى جيوب المرتشين من القائمين بكل عمل حكومي نظير تغاضيهم عن الأصول المرعية، والقواعد المرسومة، والاشتراطات الموضوعة، والمتفق عليها، والقوانين التي يجب أن تسود. .
وإن الزائر العابر يؤخذ بما يقال له من معلومات معسولة جذابة، وعبارات منمقة حماسية، كلما طاف باتجاه المعمل، وتجول في أرجائه ونواحيه. . معلومات تسيطر على حواسه، وتملك عليه جوانب نفسه، ويعتقد أن مصر سعيدة به إلى حد ليس بعده سعادة، ويخيل إليه أن إنتاجه يغمر البلاد بأسرها، ويسد حاجة مصر من هذه المواد الضرورية في مختلف نواحي الحياة من بنزين وكيروسين وديزل ومازوت وفزلين إلى غير ذلك من منتجات البترول، أو الذهب الأسود بعبارة أدق.! ولكن الواقع غير ذلك، إذ أن هذا المعمل بجلالة قدره لا يعمل للسوق. . هذا المعمل الذي تشرف عليه وزارة التجارة والصناعة لا ينتج للاستهلاك الشعبي، وإنما يعمل وينتج للمصالح الحكومية فحسب. ينتج البنزين والكيروسين والسولار والمازوت، ولا شيء غير ذلك، ومع هذا فإن جماع إنتاجه لا يكفي هذه المصالح، ولا يسد غير جزء يسير مما تحتاج إليه، والتي تمد يدها دائماً مستجدية معمل شل، وغيره بقية معامل العالم، فتستورد مقادير كبيرة تسد بها حاجياتها، وبخاصة مصلحة الميكانيكا والكهرباء التابعة لوزارة الأشغال.!
إن هذا المعمل الحكومي العظيم يعيش على فتات موائد معمل شل، أي أنه يكرر نصيب الحكومة في استغلال آبار البترول، ويقدر بحوالي خمسة عشر في المائة مما تخرجه هذه الآبار، وهي كمية أقل ما يقال فيها: إنها نصيب الخائب، المغلوب على أمره، والذي ليس له من الأمر شيء، إلا أن يسمع فيطيع. .!!
هذه الحقيقة المرة التي فجعت آمالي، وخيبت ظني في هذا المعمل الوطني، لأنه في الواقع يستمد حياته من معمل شل، ولا يكاد يستقل بأمره، أو ينهض فريداً بأعباء العمل الذي من أجله قد بني، إلا إذا أردنا نحن المصريين له مخلصين. .
أما معمل تكرير البترول الإنجليزي، وأعني به معمل شل فإنه يفوق معمل تكرير البترول المصري بمئات المرات لا أقول مساحة وإنما أقول إنتاجاً وكفاية، واستعداداً للطوارئ، ومواجهة للظروف كائنة ما كانت. . إنهما كالعملاق الجبار الذي يزهو بقوته وجبروته، والقزم الذليل الهزيل الضعيف، الذي يتضاءل ويتضافر خجلاً واستحياء لئلا تقع عليه العيون، لشعوره بضعفه وحقارته، وضآلة شأنه، وهوانه على الناظرين. .!!
وينتج هذا المعمل بجانب الأنواع التي ينتجها المعمل الحكومي - الديزل والفزلين والإسفلت وغير ذلك مما يحتاج إليه الاستهلاك الشعبي، والسوق في مختلف نواحي العالم. ولا يخفى ما في ذلك من ربح وفير. . وإن زيادة واحدة لمدينة السويس حيث يقوم هذا المعمل الكبير المترامي الأطراف، وجولة خاطفة بالغردقة ورأس غارب وسناجة. . تجعلنا ندرك إلى أي حد تتدفق الأموال باستمرار في جيوب هذه الشركة العاتية، أو بعبارة أدق كيف يسيل الذهب من مصر إلى خزائن الإنجليز براقاً يخطف بالأبصار. . ثم لا يعجب بعد ذلك لما يراه من مظاهر الغنى والثراء التي تكتنف هذه الشركة، وتحيط بموظفيها من الإنجليز بخاصة لأنهم الذين يستأثرون مع قلتهم بالمناصب الكبيرة ذات المرتبات الضخمة جداً، ولا يضير الشركة ذلك ما دام سيتمتع بمرتباتها الكبيرة أبناؤها من الإنجليز، لأن الإنجليزي يعرف كيف لا ينفق قرشاً واحداً خارج بلاده، ويدفع بجميع ما يمتلكه داخل بلاده، ولعلنا ندرك بعد هذا السر في تقشف هؤلاء الإنجليز المصطنع وبخاصة كبار الإنجليز في وزارة المعارف وغيرها من الوزارات، يرتدون أقل الملابس قيمة، وأحقرها شأناً، إلى حد أن يوقع الناظر إليهم في الضحك الساخر، والهزء اللاذع، وإن كانوا لا يقيمون وزناً لكل ما يسمعون، فلقد ضرب بهم المثل في الصفاقة والبرود، ولهم دائماً أذن من طين، وأخرى من عجين كما يقولون. .
وتحتل إدارة هذه الشركة في القاهرة أكبر عمارة في ميدان توفيق، مكونة من ستمائة حجرة، ومجهزة بآلات تكييف الهواء صيفاً، وأنابيب التدفئة شتاء، ويمتلك هذه العمارة
شركة مصر للتأمين، وتدفع شركة شل إيجاراً لها قدره خمسة وثلاثون ألفاً من الجنيهات سنوياً. ويقال إن القيادة البريطانية هي التي تدفع إيجار هذه العمارة مستترة وراء شركة شل، وذلك لاستعمالها في أغراض حربية عند اللزوم، ويدلل أصحاب الرأي على صحة ما يقولون بأن شركة شل كانت تسكن في عمارة بها ستون حجرة فقط، فكيف يقفز عدد الحجرات من ستين إلى ستمائة دفعة واحدة، وبلا سابق إنذار!!
ومما هو جدير بالذكر أن المركز الرئيسي لهذه الشركة في لندن، وله مجلس إدارة يدير شركة شل يرأسه سير (فردريك جوبر) وجميع أعضاء هذا المجلس من الإنجليز، ما خلا عضواً واحداً مصرياً، هو مندوب الحكومة المصرية. . وأننا نحن المصريين قد جددنا امتياز احتكار هذه الشركة للبترول المصري ثلاثين عاماً ابتداء من سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وألف ميلادية!!
وبعد: فإن مجرد زيارتي لمعمل التكرير الحكومي بالسويس ووقوفي على هذه الحقائق المرة، أضعفت ثقتي إلى حد كبير بما يكتب وينشر من أناس تضعهم في مقدمة المؤلفين والباحثين والمنتجين، وبما يذاع في أنحاء البلاد ممن لا يتوخون الحقائق حين يكتبون، وبخاصة في هذه الموضوعات الاقتصادية الوطنية، وكان الأولى بهم أن يتحروا الحقائق خدمة لهذا الوطن المرزوء.!
وإن من البلاهة والغفلة أن نقنع أنفسنا حكومة وشعباً بأننا نملك معملاً للبترول، ثم نملأ الدنيا ضجيجاً باستعداده وإنتاجه ما دمنا لا نستقل نحن باستغلال هذه الآبار التي حيت بها الطبيعة بلادنا المصرية العزيزة، وليس لنا دخل فيها، وإنما هو خير ساقه الله إلينا، ولم نعرف بعد كيف ننميه ثروة قيمة يكون لها دخل كبير في رقي البلاد، بل لم نعرف كيف نحافظ عليه من أيدي الغاصبين الذين ينتهبون كل شيء، ويستغلون هذه البقرة الحلوب - مصر - إلى أبعد حد، دون خوف ولا استحياء ولا إصاخة لصوت الضمير. .
إننا لآثمون في حق هذا الوطن الغالي، مفرطون في حق هذه البلاد الغنية الوفية، حيث لا تتعاون الجماعات ولا تنشأ الشركات المصرية الصميمة، لاستغلال مرافق البلاد، وما أودع الله فيها من عظيم النعم، وجليل الخيرات. .
وإننا ضقنا ذرعاً بجعجعة ساستنا الذين يستغفلون هذا الشعب المسكين، الذي لا يكاد يفيق
من آلامه، وجراحه العميقة الناغرة على الدوام، ولا يحرصون على خيره ونفعه حرصهم على مناصبهم وكراسي حكمهم، ولا يخلصون له النصح في تنمية موارده، وتكثير ثروته، إخلاصهم في تنمية مواردهم وتكثير ثروتهم، بل جعلوه قنطرة يصلون بالتظاهر بالإخلاص له والعمل لخيره - إلى ما يريدون، من تكوين ثروات، واقتناء ضياع، وتشييد عمارات وقصور، واستغلال مؤسسات وشركات. . وإن الأمل لمعقود الآن على جهود الشباب حتى يتم إنقاذ هذا الوطن المسكين. . فهل آن الأوان. .!!
عبد الحفيظ أبو السعود
عهد
ختام
للأستاذ محمد محمود جلال بك
وثمة صلة تخفى على النظرة العابرة. تلك صلة القرية وقرباها. (برطباط) بلد الشاعر التي هام بها وكانت في مجموعها مصدر أنسه، فصديقاه منها، ومعالمها أحب المعالم إليه، وعشراؤه الذين يعمرون ندوته من أهلها. إذا غاب عنها ونزل القاهرة دعاها هاتفاً:
يا (برطباط) سلام الله أهديك
…
أنت الحبيبة قلبي ليس سلوك
يا قرة العين يا دار الخليل ويا
…
مهد الأحبة ما حب كحبيك
وإذا طال مقامه عما قدر، وقد لا ينزل القاهرة إلا لعلاج أو لضرورة عمل، عزفت عينه عن مباهجها، ورأى في (برطباط) شخص حبيب يرفع إليه اعتذاره:
حالت صروف الليالي دون مجتمعي
…
يا ليتها ما مضت عنا لياليك
مرت سراعاً فسارت إذ مضت وقضت
…
على حشاشة أنسي بعد أهليك
ولم أظفر بنظير - فيما عرفت وقرأت - لهذا العمق في حب المكان - ولعل ما أشرت إليه من إرهاف حسه، وحب الخلوة أثر في ذلك:
ما مصر يوماً وإن جلت محاسنها
…
أبهى وأحسن عندي من مرائيك
وشاعرنا في هذا الوضع يشارك المرحوم رفاعة بك الطهطاوي إذ يقول في مقدمته (الوطنية المصرية) يشير إلى طهطا (ولأرضك حرمة وطنها، كما لأمك حق لبنها، ومن طبع الأحرار الحنين إلى الأوطان، وإن ألبستني المحروسة (القاهرة) نعما)
ولا شك أن الوفاء أظهر وأوضح حين يتصل بالقديم من المنازل والأول من الذكريات، فلكل واحدة من أولئك فضل الانبثاق العاطفي، وأول الإشراق للتقدير الشخصي.
يقولون إن الرسول الكريم - وهو مثل الكمال الإنساني عليه صلاة الله وسلامه - نظر إلى معالم البلد الحرام أول هجرته وقبل أن يستدير ثم قال (اللهم إنك أحب بلد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما هاجرت). وهذا أرق تبرير وأدق، وهو لم ير إلى ذلك التاريخ إلا جفوة منكرة من أهلها. ومعالم احتفظت بهول العذاب للنفر الغر من صحبه الكرام لا لشيء إلا أن يقولوا ربنا الله. ولكنه يعرف للبلد الذي نشأ فيه حرمته وحقه، ولا ينساه حتى وهو
مقبل على يثرب حين ينتظره الأنصار الفادون وحيت الظل والماء.
وقد يبلغ القلق من شاعرنا - وهو في عصر المواصلات السريعة - حداً تتراكم به هواجسه فتظهر على فمه شعراً يخاطب بلده:
بالله هل أحدثت أيامنا غيراً
…
أم أنت باقية ترجين راجيك
عمت خطوب الزمان الخلق كلهمو
…
فالله أسأله منهن يحميك
أما (برطباط) هذه فمن أقل البلاد حضارة، وأنآها قربة من مركز مغاغة مديرية المنيا - غربي بحر يوسف! وهذا مظهر أرقي للوفاء؛ ودليل قاطع على النسبية والشخصية في النظرة والحكم.
حدث سنة 1870 وقبيل سقوط باريس أن جمع الأديب مما طبع من القطع التمثيلية ودواوين الشعر مما يرضي ذوقه. وأنفق أكثر ما كسب من مال في تجليدها تجليداً فنياً رائعاً، ووفق إلى دار صغيرة في الضواحي حيث رتبها، كما نسق سكناه تنسيقاً أنيقاً، وما كاد يفرغ من كل ذلك حتى فاجأه الحرس الوطني يطلب إليه الرحيل لاقتراب جيوش الألمان! ذعر الشاب وقد حددوا له أسبوعاً قال إن هذه الفترة قد لا تكفي لمجرد البحث! وفي اليوم التالي جاء الحرس مرة أخرى يحدد له أربعاً وعشرين ساعة!! شده الرجل فودع بيته وما حوى. وفي حقيبة صغيرة وضع ما يحتاج إليه وآوى إلى أول فندق ثم أصبح وهو في الدار الآخرة! - أسلم روحه بعيد أن أسلم ماله في هذه الدنيا!!
وبقدر وفاء شاعرنا الفقيد كان ألمه لما يلقى من نكران أو يلمس من جحود، فيقول في قصيدته الطويلة تلك:
غاض الوفاء فلست ألقى صاحباً
…
إلا بغير فضيلة ووفاء
ولكنه مؤمن تقي. نشأ في بيئة تقوى. كان أبوه من أعلام المروءة وأهل الرأي في بلده. فتسمعه في أواخرها يقول:
ولقد شفى نفسي وأصغر همها
…
أن كل شيء صادر بقضاء
فهو يثور قضاء لحق المروءة عليه وترجمة لوفائه، ثم يعود ملتمساً عذراً في السكون من إنسان وحادث، ولما تمر به الدنيا أو يمر بها من تفاعل، يرجع بهذا إلى شيمة الرضى وهي وليدة التسليم لمبدع الكون وما قسم من حظوظ.
مررت مع صديقي أحمد الأزهري ذلك العام ذاته سنة 1946 بحقل للقطن استلفت منا النظر، فشجراته تستطيل على ما في الحقول المجاورة، وعهدنا بمعدن الأرض واحداً! واسترعى الانتباه منا قلة ما يحمل من ثمرات بينما تلك القصار تنوء بما حملت، وتساءلت فعرفنا أن الأول تجربة للقطن (السكلاريدس) وأما باقي الحقول فمن القطن (الأشموني) قلت أيها الصديق. . أما نذكر أقرب ما يتمثل به هاهنا؟ ولعله أقرب كذلك إلى البر. . قال ما تذكر؟
قلت ذلك قول صديقنا الفقيد (أحمد توفيق):
إن راح قوم للسماء بحظهم
…
فالحظ أسبق ما يكون ورائي
لا غرو أن نال اللئيم مكانة
…
ما نالها ذو حكمة وذكاء
فالغصن ينمو وهو خلو من جنى
…
وتراه يثمر عن قليل نماء
ألا ترى في هذين الحقلين المتجاورين بل المتلاحقين وما بينهما من فارق. مسرحاً تتمثل فيه هذه المحكمة. وتمثل فيه هذه الرواية؟!
ذكرت هذه الأبيات مرة على مسمع فقيد العربية الشاعر الخالد أحمد شوقي بك منذ ربع قرن وكنا نسير على شاطئ البحر بكازينو سان أستفانو فوقف يستعيدها ويستفسر عن قائلها، وقد أعجب بالمعنى وترحم على (أحمد توفيق) حين علم أنه أرتحل عن دنيانا باكراً.
وكذلك كان حظها من تقدير الصديق الأديب واصف غالي باشا وهو حجة في الذوق - سمعها بين أفياء (لؤلؤة البحيرة) وهو المتنزه المشهور في جنيف.
فلم أنس الصديق الراحل على شاطئ بحر أو بحيرة، في بستان أو في حقل، ولم تفارقني ذكراه في صحة ولا علة، بين كروب أو في سرور، ولكني حقاً نسيت وصاته سنين فلم أنشر فضله ولا أعلنت عهده حتى ذكرني صديق كريم على شاطئ البحر في بور سعيد سنة 43، ثم طوت المحن صحيفة الازدهار من الذاكرة حتى نشرها فبعثت بأول البحث إلى صديقي وأستاذي صاحب الرسالة وهو عندي أرعى الناس لعهد وأبر الأدباء بالبر وأكبر الإخوان عوناً على خير.
ولعل خير ما أكرم الله به الذكرى أن جعل (الرسالة) رسالة الظهر والخلق المتين - مظهراً لها، كما كان لقرائها الأكرمين تقدير ما راقهم وغض الطرف عما بها من قصور.
ديفون
محمد محمود جلال
رسالة الشعر
من روائع الشعر الغنائي:
حنين. .!
لصاحب السعادة عزيز أباظة باشا
خميلة في حواشي النيل مونقة
…
يلفها الضاحكان، الروض والماء
منضورة طلقة الأعطاف رواحها
…
بالضم صبح وبالتقبيل إمساء
كأنما من شعاع الراح نمنمها
…
مجودا عبقري الفن وشاء
تمسي وتضحي بها سمراء لاعبة
…
لأنها فتنة يقظى وإغراء
تمسي تهادى دلالاً خطو مترفة
…
لقاء وهي هضيم الكشح هيفاء
إذا انتشت في صدور الليل فهي رشا
…
وحين تهفو هواديه فرقطاء
وإن سكبت رجائي فاحتست عللاً=فالعقل مستيقظ والعين سجواء
تلقى الحديث خفيف الجرس منخزلاً
…
كأنما يعتريها فيه إغفاء!!
وقد تساعف عيناها فتكمله
…
إن البلاغة تكسير وإيماء
يا جارة النيل في عليا (زمالكه)
…
حيث الضحى ذهب والليل لألاء
أبثك الشوق مشبوباً تساقطه
…
على مغانيك أرواح وأنداء
ترى أعهدي مرعى أم انبعثت
…
تعطو إلى لذة التغيير حواء؟!
وأن حواء والدنيا بفتنتها
…
سحر وعزف وأنغام وصهباء
طلسم دهر، فلن تجلى له سجف
…
ونحن للضعف والأهواء أنضاء
إليك أشكوك، والشكوى لذي جن - ف ضراعة يتحاماها الأعزاء
لم تهف لي منك مذ بدا محبرة
…
كأنها من نشيد الخلد أجزاء
مخمورة الشوق جالت في رقائقها
…
يد مقبلة القفاز بيضاء
مسكية الرقم تسنى في غلالتها
…
كأن أحرفها السوداء أضواء
أطالع الصبح مطوياً على شجن
…
فإن دجا الليل فالظلماء رمضاء
وأسأل البرق، هل وافت نوابضه؟
…
والطائرات أفيها عنك أنباء؟
حتى إذا الليل لفت بي جواشنه
…
قلت الصباح، فإن الصبح جياء
وكم أهبت بقلبي أن يكف، وأن
…
يسلو، فأعرض عني وهو أباء
وقال، ما القلب إلا رحمة وهوى
…
فإن خلا منهما، فالقلب أشلاء
وقال فاختر. فقلت الصبر أجمل بي
…
وربما حمد الرق الأرقاء
يا أبخل الناس بالحسنى وأن أسيت
…
بها جراح وآلام وأدواء
أمعنت في الجور. شر الجور ما عملت
…
ثقال أعبائه الصحب الأحباء
لمن خلائق أطلاع سطوت بها
…
وقد نمتك المساميح الأجلاء؟
زيدي جفاء، وحسبي أنني رجل
…
أنت الهواء له والشمس والماء
وأن عيني ترى الأيام محسنة
…
إذا ترامتك، والأيام أعداء
وأن قلبي وإن صارمت مثله
…
وأن أذني إذا تلحين صماء
زيورخ
عزيز أباظة
أغنية الشاطئ الخالي
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
(شاطئ كليوباترة في عام 1950. والصيف يجود بأنفاسه الأخيرة. بين أيدي الخريف!. . والشاعر الحائر يسير على الشاطئ الخالي. . . في موكب من جلال المغيب!. . .)
أين يا شاطئ روادك أينا
…
والأغاريد التي كانت لدينا
والأماني وهي تروي مهجتينا
…
انتهت تلك الأماني. . وانتهينا
آه لو عادت، وعدنا فالتقينا!
أين أحلام الليالي الماضيات
…
والتلاقي في المغاني الساهرات؟
لم نعد نملك غير الذكريات
…
بعد أن كان الهوى ملك يدينا
آه لو عادت، وعدنا فالتقينا!
كم سهرنا وحدنا في (كليبترا)
…
والمنى تهدي لنا زهراً وعطرا
وأنا أرسل أنغامي سحراً
…
وهي تصغي والهوى يحنو علينا
آه لو عادت، وعدنا فالتقينا!
ها أنا أحيا هنا وحدي غريباً
…
أذكر الأيام والعهد القريبا
وأناجي الموج والرمل الحبيبا:
…
هذه آثارنا ترنو إلينا
آه لو عادت، وعدنا فالتقينا!
كلما جئت إلى تلك المغاني
…
رفرفت روحي، وفاضت بالحنان
أين أيام التداني. . . يا زماني؟
…
قد أضعناها، وعدنا فاشتكينا
آه لو عادت، وعدنا فالتقينا!
أيها الشاطئ إن عدنا إليكا
…
واسترحنا ها هنا بين يديكا
فأقم للحب أعراساً لديكا
…
وترنم فالمنى في راحتينا
وكفاني وكفاها ما بكينا
إبراهيم محمد نجا
من أعياد باريس:
شهرزاد مدريد
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
ومن ذكريات عيد الحرية في باريس سنة 1950 أيام كان الشاعر يتلقى علومه هناك وقد أهداه إلى أديبة إسبانية حسناء كانت برفقته أثناء ما كانت (الكرنفالات) قائمة في كل مكان.
عبرت بي وهي شقراء لها وجه صبوح
في مساء تعيق الفتنة منه وتفوح
شاعري الظل مخضل له النور مسوح
قلت: يا ضاحكة العينين ماذا لو أبوح؟
أنا لو تدرين قلب يهوى الغيد جريح
شاعر طوف في الأرض فأشقاه النزوح
سئم القيد (ببغداد) وأدمته الجروح
فأتى (باريس) في ظل الأماني يستريح
فرأى حلم لياليه بعينيك فهاما
وتسامى نغماً يشرق بالحب ضراما
ووقفنا نتملى (السين) والليل سكون
الثرى سحر ونور القمر الظامي حنين
عرس، فالورد والإنسان رقص ولحون
وعذارى الشهب في حاشية الأفق عيون
فتعانقنا بروحينا وهزتنا الشجون
وهتفنا: لمن الصهباء واللحن الحنون
ههنا يحلو لعشاق اللذاذات الجنون
فهلمي نتعاطاها فدنيانا فتون
ما على مغتربي دار (بباريس) أقاما
إن أحالا الليل جاما والمسرات مداما
وانتحينا حانة تحكي أساطير الليالي
السنى في جوها الصاخب شرقي المثال
واندفعنا بين حشد من نساء ورجال
يتساقون على نخب ليالي (الكرنفال)
قلت: يا ملهمتي الشعر ويا وحي خيالي
أنزعيها من جنى (بوردو) ومن تلك الدوالي
خمرة تكشف للشاعر عن سر الجمال
ما علينا لو أذبنا الروح في نار الوصال
أنت يا زهرة (مدريد) ويا زهو الدلال:
عيد أفراحي، وعطري، ومدامي، والندامى
قربي ثغرك أسكب فوقه روحي هياما
قالت: اشرب قلت: (سنيورا) اشربي نخب لقانا
لا تقولي قد خلا الحان ولم يبق سوانا
الهوى العاصف لا يعرف للنجوى مكانا
نحن أغرودة حب ردد الدهر صدانا
ما علينا لو ختمنا بدم القلب هوانا
حسبنا أنا احترقنا في جحيم من أسانا
قدر نادى، وقلبان أجابا من دعانا
فعسى نبعث ذكرى (شهرزاد) والزمانا
وتلاقت شفتانا ساعة كانت مناما
أمر الحب فكنا في فم الدنيا ابتساما
عبد القادر رشيد الناصري
رسالة النقد
الحياة قصص
تأليف الأستاذ يوسف جوهر
للأستاذ ثروت أباظة
بهذا الاسم ظهرت أخيراً مجموعة أقاصيص للقصاص الشهير الأستاذ يوسف جوهر. والأستاذ في غير حاجة إلى تعريف. فقد تعدت شهرته الفئة المتأدبة إلى غيرها. . وهو فنان راسخ القلم صاحب مدرسة في لأقصوصة. . ومجموعته هذه الأخيرة منهاج جديد لهذه المدرسة. فلكل أقصوصة معنى عميق تشير لك إليه حوادث القصة دون لفظها. والشخصيات بارزة الخطوط جلية التكوين، والأسلوب عربي رفيع، وليس يسيراً أن يأخذ فنان نفسه بكل هذا في أقصوصة صغيرة إلا إذا كان هذا الفنان هو يوسف جوهر.
وقد أنحاز الأستاذ جوهر في أغلب أقاصيص مجموعته إلى جانب الواقعية في قالب فني رائع. وإنني بمناسبة الواقعية أعتذر إلى الأستاذ أنور المعداوي إذا عجزت أن أضع هذه الأقاصيص في واحدة من واقعيتيه، فالفرق الذي أوجده دقيق يعز على غيره أن يستعمله مقياساً للواقعيات؛ فأنا أرى الواقعية نقلاً عن الحياة، ولا يهمني بعد إذا كان النموذج موجود فعلاً أو قابلاً للوجود ما دمت أستطيع أن أعيش معه إذا كان إنساناً، فإن تلك حادثة عشت في جوها.
والقصاص الواقعي لابد أن يكون قد رأى انحرافاً سجله في قصة. فما القصة إلا عقيدة تكونت من مجرى خاطئ للحوادث أو من التواءات متراكبة في نفس الشخص الذي يرسمه القصاص. . فنحن إن رأينا شخصاً عادياً سارت به الحياة سيراً لا التواء فيه ولا غرابة ولا شر؛ لا يمكن لنا أن نجعل من هذا الشخص أو من حوادث حياته قصة.
فالواقعية في القصة إذن نقل عن صورة شاذة من صور الحياة. أو تصور لصورة شاذة ولكنها قابلة للوقوع. ولا فرق بين الواقعيين لأننا لا نطلب إلى القصاص الواقعي القسم أن يقول الحق كل الحق ولا شيء غير الحق. وإنما بحسبنا أن يقص أمراً قابلاً للتصديق. فإن لم يفعل فهو قد تجاوز الواقعية إلى الخيال أو الرمزية.
نعود إلى حياة القصص التي رسمها الأستاذ يوسف جوهر فنراه قد التزم فيها الواقعية إلى أقصى حد لها فهو نقل لنا القصة التي قد تكون حدثت بالفعل أو القابلة للحدوث دون أن يدخل إليها مصادفة قصصية أو نهاية ذات عظة، أو غير ذلك مما سار عليه أغلب القصاص. ولعله ألزم نفسه بذلك حتى تكون المجموعة صوراً من الحياة حقاً بغير زيادة أو نقصان. فهو لم يعاقب المجرم على فعلته، وهو لم يجز المحسن على إحسانه، وإنما سير الحوادث في مجراها الدنيوي لا القصصي، فقصته الأولى يعاقب غي المجرم وفي الثانية لا يثاب المحسن وفي ديون رهيبة لا يفك العقدة. وهكذا وهكذا صور من الحياة يضعها لك على الورق بغير تنميق قصصي في الحوادث. ولست أدري أهذا خير أم لا. فالقصة اليوم تنحرف إلى عكس ذلك؛ فالجاني لابد له من عقاب والمحسن لابد له من ثواب. . هكذا نرى القصص العربية والغربية، ولكن يظهر أن الأستاذ يوسف جوهر قد بدا له أن يجعل القارئ هو نفسه الذي يعاقب المجرم فيحتقره، وهو نفسه الذي يكافئ المحسن فيكبره دون أن يحكم على أشخاصه. وفي المجموعة صرخات إلى القوم أن يثوبوا إلى رشدهم، فهو يهيب بالفلاح أن يطلب حقه، وبصاحب الأرض أن يخفف من عجرفته، ومن الغني أن ينظر إلى الفقير، ومن الفقير أن يطلب إلى الدولة أن ترعاه. . كل هذا دون أن يتكلم هو. بل أنه ليطلق الحوادث تتكلم في صراحة واضحة مبينة. وثمة صور نقلها دون أن يحيك حولها قصصاً ذات بداية وعقدة ونهاية. . وإنما هي صور التقطتها عدسته من أوساط القصص دون أن تغريها هذه الصورة أن تتبع هذه الخيوط إلى النهاية. . مثال ذلك (ديون رهيبة). وهناك أقصوصة لابد لي أن أذكرها معجباً بها كل الإعجاب، وهي (أربعة ذئاب ونعجة) وقد استطاع الأستاذ يوسف أن يرسم هؤلاء الذئاب أو الرجال رسماً قوياً صادقاً كل الصدق، وقد ربط ثلاثة من هؤلاء الرجال بواحد منهم كلاً بوشيجة تدل على نظرة دقيقة إلى الحياة. . إنها أقصوصة رائعة.
والمجموعة على غالبية الواقعية فيها لم تخل من الرمزية الطفيفة، أو هي في الحق لم تخل من الخيال، فأقصوصة (هذه هي الحرب) أخرج الأستاذ يوسف مصباحاً غازياً على كوبري قصر النيل. . . أخرجه يتكلم. . خيال ولكن المصباح لو تكلم لما قال غير الذي قال، ولا فعل غير الذي فعل لأنه مصباح منير مشرق النفس، تابع للميري غير محتاج إلى
مداهنة أو مصانعة لينال مالاً، وهو جماد غير محتاج إلى زلف أو تقرب ليكسب قلب امرأة. وهكذا كان الأستاذ يوسف جوهر واقعياً في خياله.
لست أعرف إذا كان الأستاذ يوسف جوهر قد أحسن أم أساء في التزامه هذه الواقعية فهو قيد نفسه بعنوانه. . والأقاصيص قد أدت الهدف التي أرادها أن تهدف إليه، ولم يعاقب على شر، ولم يثب على فضل ولكنه أدى، فإذا أراد المتزمتون المحافظون على الأخلاق أن يثوروا به فما عليه إلا أن يقول لهم:(هذه دنياكم فلا تثوروا علي؛ وإنما ثوروا بها إن استطعتم، وأنتم لا تطيقون ثورة فاسكنوا حتى يثب الله المحسن ويعاقب المسيء).
وإذا أراد القصاص الذين ينحون إلى المنحى الآخر من الإنابة والجزاء أن يثوروا قائلين: إن الأقاصيص لم تنته؛ فهو قائل لهم (بل قد انتهت وعلى القارئ أن يقيم نفسه، قاضياً وأنا إنما أروي لكم وأصور أشخاصاً، ولا أحب أن أكون قاضياً بينهم؛ بل إنني لا أحب أن أكون محامياً في الأدب.)
أحار فيما إذا كان قد أحسن أم أساء حيرة أنظر فيها إلى العرف الذي كان جارياً، أما إذا نظرت إلى نفسي فهو قد أحسن وأصاب ما أراد أن يصيب، وليس عليه من حرج ولا جناح ولكنني آخذ عليه هذه الصبغة المتشائمة التي أراقها على قصص الحياة ما إن الحياة ليست قائمة إلى هذا الحد، والتشاؤم بعد يأس. . وليس مع اليأس فلاح. . لابد للمحاول من قبس يهتدي به إذا حاول، فالصور الداكنة لا تشجع على المحاولة.
وبعد فكل ما نرجوه إلى الأستاذ يوسف جوهر أن ينظر إلى أدبه أكثر مما يفعل الآن، فهو قلم نحب أن نقرأ له، وتحب العربية أن تقرأ له أدباً خالصاً، وفناً رفيعاً. نرجو منه ذلك مهما كان في رجائنا حيف عليه، ومهما كنا نعلم ما سيلحق به إذا حقق هذا الرجاء، ولكنه فنان وأديب فعليه أن يؤدي للفن حقه، ما دام الفن قد أدى إليه حقه.
ثروت أباظة
البريد الأدبي
مولانا محمد علي:
قرأت ما كتبه الأستاذ سرطاوي في عدد الرسالة 938 و939 عن مولانا محمد علي، وقد أرتفع به إلى القمة الشامخة التي لم يبلغها غيره من رجالات الإسلام، وأظهره في مظهر المدافع عن الإسلام، الذاب عن حوزته والذائد عن حوضه، فهو يقول بعد كلام طويل ترجم به لحياته:
(لقد بلغ مولانا محمد علي من النجاح شأواً بعيداً قلما بلغه إنسان مثله، بسبب إيمانه العميق بالله، وذلك الإيمان الذي لم تكن لتقوى أعاصير الحياة على زعزعته، والذي كان يزيد في رسوخه ومتانته إدمانه قراءة القرآن والأحاديث المأثورة عن الرسول، والذكريات القومية العميقة الجذور في عواطفه عن مؤسس الحركة الأحمدية، وخشوعه في صلواته التي لا تنقطع لله تعالى. . .
ثم يقول ولعل بساطته التي نسبته إلى حد بعيد، إلى بساطة الأطفال ترجع إلى عمق اتصاله بالأبد وعالم الروح وهو على الأرض. وعلى الرغم من أن مولانا محمد علي يعيش في عالم يضطرب بالخداع والنفاق والغرور والنميمة والأذى، فإنه في أخلاقه كالكتاب المفتوح، يستطيع كل إنسان أن يقرأ فيه من النظر إلى قسمات وجهه كل ما يجيش في عواطفه من شعور السخط والغبطة، وهو كالمرآة الصافية الأديم، يرى الناظر فيها كل ما في تلك النفس العظيمة من استحسان واستنكار، تلك النفس التي لا تعرف الخداع والتضليل والأباطيل. . .
ثم يقول: وبعد فهذه شخصية إسلامية جليلة القدر بعيدة الأثر في خدمة الدين، تعمل أعمال الجبابرة وراء صمت التواضع ليكون العمل خالصاً لوجه الله العظيم.
وسيمر الزمن وتتلفت الأجيال المقبلة من أبناء المسلمين إلى التراث الخالد الذي صنعه مولانا محمد علي لنشر الدين، فتعطيه ما يستحقه من تقدير وتنصفه من الحياة التي لا تسدد النظر في مواكبها إلى الدجالين والمشعوذين، فيخلد مع الخالدين.
والآن وبعد مرور نصف قرن من جهاد مولانا محمد علي على ذلك الجهاد الذي فتح الآفاق الموصدة في وجه رسالة الإسلام الخالدة؛ يقف فوق الحياة بعد أن أشاع في ظلامها النور
الإلهي الذي يبعث الرحمة إلى القلوب المعذبة فيه).
وفي نفس المقال يصف ميرزا غلام أحمد مؤسس الحركة الأحمدية بأنه مجدد في الإسلام. ذا شخصية جبارة تعمل على خير الإسلام والمسلمين في بقاع الأرض.
وقرأت ما جاء في عدد شهر أغسطس من سلسلة اقرأ عن المهدي والمهدوية للدكتور أحمد أمين حين يتكلم عن الحركة الأحمدية وعن مؤسسها. فيقول في ص76: (وهذه الفرقة تسمى أحياناً القاديانية وأحياناً تسمى الأحمدية نسبة إلى غلام أحمد. وأكثر المسلمين ينفرون منهم، ويعتقدون أنهم مارقون عن الإسلام خارجون على أهله؛ وقد صرح مصطفى كمال باشا وشيخ الإسلام ومفتي الإسلام بخروج القاديانية عن الإسلام، ويزعم محمد علي وأتباعه أنهم مسلمون، وأن غلام أحمد ليس إلا مسلماً ومجدداً؛ ولكن في كتبهم الأساسية ما يثبت غير ذلك؛ فقد نشر في مجلة الديانات مجلد 6 ص299: أن محمد علي رئيس القاديانية كتب أن الصاحب (ميرزا) نبي آخر الزمان؛ ويعنون بميرزا هذا غلام أحمد، وجاء في الخطبة الإلهامية لميرزا هذا قال: رأيت في المنام أني إله فأنا في اعتقادي كذلك (ع كمالات ص 565) ويقول إني أعتقد أن الإيحاءات التي أتلقاها معصومة من الخطأ كتلك التي كان ينزل بها القرآن (الدار الثمين) وقال: إن إيماني بما يوحي إلي ليس أقل على حال من إيماني بالقرآن وجاء في كتاب الأخبار: (أن الله يقول له أي ميرزا: أني أخبر الناس كافة أنك الرسول المقدس إليهم جميعاً) وجاء في كتاب آخر أن الله الحق هو الذي أرسل نجيه في قاديان؛ وإن مدينة قاديان ستظل في مأمن من الوباء إذا كانت محل إقامته. ثم تدلى فزعم أنه أعظم من الحسين بن علي، وأنه المهدي المنتظر.
هذان رأيان متناقضان كل التناقض، فعلى الرغم من أن الدكتور أحمد أمين بك لم يذكر شيئاً عن حياة محمد علي وصفاته؛ ولم يخصه إلا بإشارة عابرة فإننا نشتم منها أن محمد علي هذا خارج على الدين. وكيف يكون متصفاً بتلك الصفات التي ذكرها الأستاذ سرطاوي من يؤمن بأن هناك نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ويتبع رجلاً يدعى أنه إله وأنه نبي، ويعلن أن من لا يصدق به لا يدخل الجنة أبداً.
أما نحن من جانبنا فلا نستطيع أن نؤيد أحد الرأيين الآن حتى نقف على بعض جوانب هذه الشخصية وأعمالها ليكون حكمنا صحيحاً.
وإني أتقدم إلى قراء الرسالة الكرام بأن يدلني كل من يعرف شيئاً يخص هذا الموضوع إليه، وله مني خالص الشكر، ومن الباحثين عن الحقائق أجزل الثواب.
أسيوط
عبد الموجود عبد الحافظ
1 -
تعقيب على نفر:
ينتقد الأديب كيلاني حسن سند قولي (سمراء مثل الكروم) إذ لا لون للكروم في حدود نظره إلا تلك الخضرة الورقية الداكنة. ولو تصفح حضرته أحد كتب البلاغة لعلم أن (المجاز المرسل) يبيح لقائل أن يقول (شربت الكروم) وهو يريد عصيرها. وعصيرها هذا كما لا يجهل الأديب ذو ألوان مختلفات أحدها السمرة المرادة في التشبيه. . . وينتقد وصفي للضياء بالنعومة لأنه مما لا يلمس باليد؛ وأنا أسأله: وهل لنا أن نصفه بالخشونة؟ وإذا كان الجواب الطبيعي بالنفي، فلماذا تحرمون على شاعر أن يتخيل إيجابية شيء لم تستطيعوا للآن تقرير سلبيته. . . وأنا لم أقل (خمرية كالماء) ولكن (خمرية كالمساء) والتحريف مطبعي فلا محل لنقده؛ ومن ثم للرد عليه.
2 -
غموض:
ثم ننتقل إلى غموض - إلى البيت الثامن:
أرنو إلى الفجر الجميل كساحر
…
حملت يداه ريشة عذراء
يقول الأديب النابه إن الساحر لا يحمل الريشة. وإنما هو الرسام، وهذا من البديهة بحيث نخجل عن ذكره - ولو شئنا لقلنا (كراسم) ولن يختل الوزن الشعري. . . ولو أتيحت للأديب رؤية الفجر وهو يوزع الألوان والأضواء على لوحة الأفق لوقف مثلي مشدوه الفكر ملتهب الشعور منجذب الروح. نحو هذه المعجزة السماوية المتجددة. . . تماماً كما يقف المسحور تحت تأثير الساحر القدير. . . أما عن الشمس (شعت ماسة زرقاء) فهناك وجه الشبه البياني يرخص للشاعر والكاتب أيضاً أن ينظر للشيء من زاوية معينة ليشبهه بآخر لا يطابقه إلا من هذه الزاوية نفسها. والشمس إذ تبعث بأشعتها النفاذة في كل اتجاه إنما هي ماسة مكبرة ولو لم ترها البصائر الرمداء. . كذلك هذا، ولم يكن القمر يشبه
العرجون في كل حالاته عندما قال الله تعالى (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم).
ولو رزق الأديب الكيلاني شيئاً من النفاذ أو الإنصاف لساقته تنقلات القصيدة الفكرية من مشاهدة (الفجر) إلى (الظهيرة) إلى (الأصيل). . . لساقته هذه التنقلات الزمنية المتعاقبة إلى المشهد الأخير يشهد المساء الجديد.
والى السماء وقد تدفق جدولا
…
أزرق أمواهاً وشف نقاء
وبعد فعلى الأديب سلام الشعر
محمد مفتاح الفيتوري
ملاحظتان:
ذكر الأستاذ محمد سيد كيلاني بالعدد (949) من الرسالة أن شاعرات العرب لم يقلن بيتاً واحداً في الغزل قبل عائشة التيمورية!! وهو كلام عجيب غريب. وأحب أن ألفت الكاتب إلى بحث ممتع عن (الغزل في شعر المرأة) قد نشر بمجلة الرسالة منذ ثلاثة أعوام بقلم الأستاذ محمد رجب البيومي، ففيه الرد البليغ.
جاء بالعدد (950) من الرسالة بقلم الأستاذ أحمد عبد الغفور العطار أن فعولن في أول المتقارب لا تصير (عولن) كما في قول الشاعر:
باتت تلوم على ثادق
…
لبشرى فقد جد عصيانها
وختم الكاتب زيادة الفعل الأول ليصبح البيت في رأيه، والحقيقة أن (الخرم) وهو حذف المتحرك الأول من فعولن يدخل المتقارب والطويل، كما في حاشية الدمنهوري على الكافي، وعليه فالزيادة لا معنى لها على الإطلاق، وفقنا الله للصواب.
عبد المنصف ناصف
القصص
تمثيلية قصيرة:
الديك والثعلب
عن جفري شوكر
للأستاذ محمود البكري محمد
(مهداة إلى العقلاء. . والمجانين أيضاً)
أشخاص التمثيلية:
الديك، الدجاجة (زوجته). الثعلب. مسز مالكين (فلاحة). خمس دجاجات.
(. . قبعت الدجاجة والديك في المرقد. . ورأساهما بين أجنحتهما. . فجأة تنبعث من حلق الديك نغمة متحشرجة في ألم، كأن شيئاً ما قد مسه. . فتصحو (زوجته) مذعورة. . . وترنو إليه في شغف).
الدجاجة. ماذا أصابك يا رفيقي العزيز؟!
(يخرج الديك نفس النغمة. . وهو لا يزال في إغفاءته).
الدجاجة: (تنقره بخفة) ماذا حدث لك. . أتئن هكذا؟
الديك: (مفيقاً. . وفي صوت وسنان) لا تراعي من أجلي. . يا إلهي!. لقد اعتقدت أن شيئاً مزعجاً حدث لي!. وإن الرعدة لتعروني عندما أفكر فيه.
الدجاجة: (ضجرة منه) ماذا حدث لك؟
الديك: (في صوت مرتعد). . لقد وجدتني أتوثب هنا وهناك في الحظيرة. . وجلاً من وحش تساوره الرغبة الجامحة في أن يقتنصني. . ويقتلني!.
الدجاجة: يقتلك؟! وماذا يشبه هذا الحيوان؟
الديك: يكاد يشبه الكلب. . . لونه مزيج من الأحمر والأصفر. . وفي ذيله وأذنيه نقط
سوداء. . وإن له أذناً قصيرة وله (في رعدة) عينان متوهجتان! إن شيئاً ما في منظره. . أكاد أموت من الفزع عند تذكره!.
الدجاجة: (تدفعه. . وتقول بحدة) كم أنا خجلة منك! ولن أحبك بعد!. كيف تحمل الوجه الذي يقول لي إنك خائف؟ أنت؟! بعرفك الأحمر المشرشر كأنه قمة برج قلعة، ومنقارك الأسود اللامع كأنه حجر ثمين، وساقيك الزرقاوين، وأظفارك التي هي أشد بياضاً من أزهار السوسن، ولونك الذي يشبه الذهب المجلو. . أنت؟! يا جبان!
الديك: (بتلطف) أنه حلم مفزع. . يا عزيزتي!
الدجاجة: حلم؟ وأنت مرتاع من حلم؟! إن كل ما بك هو سوء هضمك!. يحلم الرجال أحياناً بدببة سوداء وثيران كالحة، وأشباح حالكة تلاحقهم. . والديكة تحلم بالكلاب: صغيرة وكبيرة. . و. . (باحتقار) بالوحوش الحمراء التي تريد أن تنهشها حتى الموت!. . و. . (في تأثر) لا ينقص الرجال والديكة غير جرعة من الدواء!.
الديك: مغتماً. . وتعتقدين هذا حقاً؟
الدجاجة: نعم!. . وعندما نهبط من هذا المثوى. . ستتجرع واحدة. . وإلا فإنا أراهن على بنسين إن لم ترقد من الحمى أو البرداء التي ستفضي بك - على أي حال - إلى الموت.!
الديك: (منتفضاً في اضطراب). . الموت؟
الدجاجة: (مؤكدة) لابد أن تزدرد واحدة من الديدان أو اثنتين ثم بلعة من هذا النبات أو ذاك. . تسرع إلى تجرعه أنى تجده في الحظيرة. . وتبتلعه جيداً. . (يئن الديك ثانية) يا رفيقي أبتهج بربك. . ولا تروعنك الأحلام!
الديك: يا دجاجتي الحبيبة! جميل جداً أن تسخري من هذا الحلم وتهونيه، ولكني قرأت مرة قصة رجلين كانا نائمين معاً في الليل قبل أن يبدأ رحلة. . ورأى أحدهما في منامه شخصاً يقبل ويأخذ مكاناً بجوار سريره. . ويقول له:(إذا سافرت في الغد فإنك غارق لا محالة. . وهذا كل ما أقوله لك). .
فأيقظ صاحبه، وأفضى إليه بذات نفسه. . ولكن صاحبه يقول له أنه لا يعبأ بالأحلام، ثم سافرا. . وبغتة وبلا سبب تنقلب السفينة، ويغرق صاحبنا!. . هذا حق وحقيقة!
الدجاجة: لا تفكر في هذا بعد الآن!
الديك: (بحنان) يا رفيقتي! إن من أجلك أن أحزن هكذا. فإني عندما أتملى هذه الحمرة القرمزية حول عينيك. لا أستطيع أن أتحمل مجرد التفكير في الموت، والبعد عنك!. لكم أنت حبيبة!
الدجاجة: أنه الفجر!. ومن عدانا غارق في سباته. . .
الديك: يا لله. . حقاً ما تقولين.
يخفق بجناحيه ويصيح عالياً. . ثم ينزل هو والدجاجة من القن. . وكذلك باقي الدجاجات. . يتبختر الديك في مشيته، ويعدو عابساً كأنه أسد. . . مختالاً كأنه أمير! يخطر على أطرافه لا تكاد تمس الأرض قدماه!
وبينما هم كذلك يزحف الثعلب. . ويربض مستخفياً بين الأعشاب. . ثم تخرج الدجاجات واحدة بعد الأخرى. . ويخرج الديك وحيداً في خيلائه باحثاً - في كبرياء - عن القوت. . وعلى حين غفلة يلمح الثعلب. فيجري بعيداً في صياح. . ولكن الثعلب يبرز من مكمنه. . ويتحدث إليه في رقة.
الثعلب: أوه. . لا تجر بعيداً. . أوه! أنا آسف إذا كان انزعاجك بسببي. . وإن من المؤلم أن أراك هارباً كأنك خائف!. إني لم أجيء لأسمع ما يجري بينكم، أو لأتجسس عليكم. . ولكن (في سرور) لأسمع صوتك الشجي!.
الديك: (متوقفاً. . ولكن على مسافة آمنة من الثعلب) لتسمع صوتي؟!
الثعلب: نعم صوتك! وإن كان من قول. . فإن لديك حاسة موسيقية لا يتمتع بها أي موسيقي سمعته. . إن صوتك أشبه بصوت ملاك من السماء.
الديك: (شاكراً. مقترباً). . أتعتقد هذا؟
الثعلب: أعتقد هذا؟! (في حديث ودي) إن أباك بارك الله روحه - وأمك كانا في منزلي. . وكان يسرني أن يكونا هناك. . ومع استثنائك أنت أستطيعأن أقول إني لم أسمع شخصاً يغني كما كان أبوك في الفجر. .
. . يا إلهي! لقد كانت موسيقاه تنبعث من الأعماق!. . لقد كان يقف على أطرافه ويمد عنقه، ويجهد نفسه ليخرج ذلك الصوت الرقيق إلى أن تغمض عيناه من الجهد!. .
الديك: يقولون إني صورة من أبي!. .
الثعلب: ولم تكن لأبيك الحاسة الموسيقية فحسب. . بل كان أيضاً حكيماً جداً. . حذراً كثيراً. . ولكن يا سيدي هلا تغني؟!. .
أرجوك. . فإني أبغي أن أعرف هل تستطيع أن تطرب كأبيك!. .
(يضرب الديك بجناحيه. . ويتمطى، ويمد رقبته، ويغمض عينيه، ويصيح بأعلى صوته، وفي لحظة ينقض الثعلب عليه. . ويمضي به بعيداً. . بينما الديك يحشرج ويقاوم، ويصيح في فزع. . وتندفع الدجاجات صائحات في ارتياع)
الديك: (في صوت ضئيل يائس) لماذا تعدو بي إلى الغابة؟ لقد انتصرت علي وخير أن تأكلني ها هنا. . وتنهي الأمر!
الثعلب: حقاً!. . سأفعل ذلك. . ومن بعدك الدجاجات السبع!. .
(بينما يفتح الثعلب فمه ينفلت الديك منه، ويسرع عائداً إلى الحظيرة)
الثعلب: يا عزيزي!. . أنا لم أقصد إفزاعك هكذا. . . تعال أحدثك عن قصدي!. .
الديك: لا. أشكرك، فأنا أعرف. . ولن تنالني مرة أخرى!. .
(تدخل (مسز مالكين) ومعها طبق من الحبوب. . وحيثما ترى الثعلب تطرده إلى الخارج ثم تستدعي الديك والدجاجات إليها. . وتطعمها).
الدجاجة: لم أكن أعتقد أني سألقاك ثانية. يا رفيقي الأثير.
الديك: آه. . لقد تعلمت الآن شيئين: ألا أغمض عيني حينما يجب أن تظلا مفتوحتين، وثانياً: ألا أعمل بنصيحة زوجتي!
الدجاجة: وكذلك قد عرف الثعلب أن من الحماقة أن يثرثر حينما يجب أن يمسك لسانه!
محمود البكري محمد