المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 953 - بتاريخ: 08 - 10 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٥٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 953

- بتاريخ: 08 - 10 - 1951

ص: -1

‌في مفرق الطرق

للأستاذ سيد قطب

(من كتاب السلام العالمي والإسلام يصدر بعد أيام. .)

تقف الكتلة الشيوعية اليوم في جانب، وفي الجانب الآخر تقف الكتلة الرأسمالية، وتحاول كلتاهما أن تستدرج البقية الباقية من العالم إليها؛ وأن تستخدم في المجزرة موارد هذه البقية، مواردها البشرية والاقتصادية ومواقعها الإستراتيجية.

فأما الكتلة الرأسمالية بقيادة أمريكا فتستخدم عدة وسائل لهذه الغاية:

تستخدم أولاً عامل التخويف للرأسمالية في كل أنحاء العالم - وبخاصة العالم العربي - من الشيوعية التي تزحف يوماً بعد يوم، وتناشدهم المصلحة المشتركة بينهم وبينها؛ وتلجأ في ذلك إلى المحالفة الطبيعية بين الرأسمالية المحلية والرأسمالية العالمية.

وتستخدم ثانياً الضغط المسلح في البلاد الواقعة في رقبة الاستعمار المباشر وغير المباشر، كما هو الشأن في مجموعة البلاد العربية.

وتستخدم ثالثاً إغراء الدولار تحت عنوانات كثيرة، منها ذلك العنوان الجديد الذي خلف مشروع مارشال، وهو عنوان:(النقطة الرابعة) في مشروع ترومان!

وهي على العموم تخاطب الطبقات الحاكمة والمستغلة، ولا تعتمد كثيراً على الجماهير الكادحة؛ لأن مصالح هذه الطبقات معلقة بانتصار الكتلة الرأسمالية، وتبذل جهوداً ضخمة في هذا السبيل دون أن تلقى بالاً إلى مطالب الشعوب القومية، لفرط ثقتها بالطبقات الحاكمة والمستغلة، ويقينها أن هذه الطبقات لا تعادي الاستعمار عداء حقيقياً في سبيل مطالب شعوبها القومية. . وسيظل موقفها كذلك إلى أن تتولى هذه الشعوب قضاياها بأنفسها؛ وتبرهن على أنها لا تستنيم لشعوذات المشعوذين من زعمائها وكبرائها، وأنها معتزمة أن تسبب للاستعمار وللجبهة الرأسمالية متاعب حقيقية، وتعرض مصالح هذه الجبهة وجيوشها لأخطار حقيقية. . . وعندئذٍ فقط تفكر الكتلة الرأسمالية الاستعمارية في الإنصات لصيحات هذه الشعوب.

إن هذه الكتلة تريد أن تضمنا إليها لتستطيع أن تجند من العرب وحدهم مليوناً - كما ورد في بعض البرقيات - ثم لتتخذ من بترولنا ومواردنا الغذائية، ومواقعنا الإستراتيجية عدة

ص: 1

للنصر في المذبحة العالمية المنتظرة وبخاصة بعد تلك الصفعة القاسية التي أصابتها في إيران، وما تزال تترنح منها.

ولقد قيل في الحرب الماضية: إن الحلفاء كانوا يطهرون حقول الألغام أحياناً في الصحراء الغربية بإطلاق الجمال والبغال فيها، فإذا عزت عليهم الجمال والبغال أطلقوا زنوج المستعمرات الأفريقية، يطهرون بأشلائهم المتطايرة حقول الألغام!

وسواء صح هذا أم لم يصح، فإن وظيفة جند المستعمرات كانت دائماً هي تطهير حقول الحرب، وتمهيدها للسادة البيض، واحتمال الصدمة الأولى في المعارك الحامية.

وفي الحرب الكورية الحديثة نلقى الألاي التركي الذي ذهب إلى هناك نفس المصير، وقام بنفس الدور، ولن يكون مصير المليون من الخراف العربية التي سيقدمها السادة هنا لحلفائهم الطبيعيين، إلا كمصير جند المستعمرات، ومصير الألاي التركي، في الحرب القادمة، إذا قدر لها أن تهيج!

. . . وأما الكتلة الشيوعية فتخاطب الجماهير الكادحة، تخاطب الملايين التي تنتج كل شيء وتجوع، تخاطب المعدات الخاوية والأجساد العارية، تخاطب الضحايا التي طال عليها الإهمال، وطال عليها الحرمان، فأصبحت تستجيب لكل من يلوح لها بالرغيف، وكل من بعدها الخلاص من الترف الفاجر الداعر الذي تزاوله على مرأى منها ومسمع فئة قليلة العدد، فاحشة الموارد، بينما الشظف الكافر السافر يجعل هذه الملايين الكادحة حطاماً، ثم يفتت ذلك الحطام!

وهي تستخدم كذلك أخطاء الاستعمار وجرائمه؛ ورغبة الشعوب المستعبدة في إلقاء هذا النير عن أعناقها، والاستمتاع بالحرية الطبيعية التي يغتصبها الاستعمار الفاجر الآثم، بمعاونة الخونة من المستغلين في هذه البلاد، كما تستفيد من مقاومة الصليبية الغربية، والرأسمالية المحلية لكل دعوة إسلامية حقيقية، وكل عدالة اجتماعية إسلامية.

وعلى أية حال فإن كلتا الكتلتين تحاول أن تلقى في روع البقية الباقية من العالم، أن ليس للبشرية كلها إلا أن تسلك طريقاً من طريقين، وأن تنضم إلى كتلة من الكتلتين، وأنه لا مفر من أن تنتصر الجبهة الغربية، أو أن تنتصر الجبهة الشرقية، ليسود السلام، وتنعم البشرية بالأمن، وتصل الإنسانية إلى استقرار؛ وأن انضمام البقية الباقية من العالم هو السبيل

ص: 2

الوحيد لتغليب إحدى القوتين على الأخرى بصفة حاسمة، لإنهاء حالة القلق والتأرجح والاضطراب. .

فأين وجه الحق في هذه الدعوى، وأين وجه المصلحة القومية والمصلحة الإنسانية في هذا الادعاء؟

إنه ليس من مصلحتنا نحن ولا من مصلحة الإنسانية أن تغلب الآن إحدى الكتلتين على الأخرى وتمحوها من الوجود محواً؛ فنحن في دور استكمال وجودنا الطبيعي في الحياة، واستنقاذ مصالحنا المغصوبة بأيدي المستعمرين، ليس من مصلحتنا أن تهزم الجبهة الشرقية هزيمة نهائية، ولا من مصلحة الإنسانية كذلك وإن وجود هذه الكتلة بهذه القوة في هذه الفترة لهو إحدى الضمانات لنا لنستخلص هذه الحقوق يوماً بعد يوم؛ كما أنه الضمانة المؤقتة للبشرية ألا تسيطر عليها قوى الاستعمار الجائر الغاشم الظالم. . وإذا كان فينا من يحسن الظن بأمريكا، ويظن أن سيطرتها ستحد من شرة الاستعمار، فلينظر كيف تقف أمريكا في صف هذا الاستعمار، وكيف تمده بقوة الحديد والنار عند الاقتضاء، على أنني أعيذ البشرية أن يستبد بها الصلف الأمريكي السخيف، الذي لا يقاس إليه الصلف البريطاني ذاته في أرض المستعمرات. إن عداوة الأمريكي للملونين عداوة كريهة بغيضة؛ وإن احتقاره للملونين لتهون إلى جانبه تعاليم النازية؛ وإن صلف الرجل الأبيض في أمريكا ليفوق كل ما كانت تتصوره الهتلرية، وويل للبشرية يوم يوقعها سوء الطالع في ربقة هذا الصلف الأمريكاني بلا قوة في الأرض تخشى ويعمل لها حساب!

كذلك نحن في حاجة مؤقتة إلى وجود القوة الشيوعية في الأرض، لتخويف الطغاة والمستغلين، واسترداد حقوق الجماهير المسلوبة، في ظل هذا التخويف! وإننا لندين لوجود هذه القوة بالشيء الكثير من مشروعات العدالة الاجتماعية الضئيلة التي تحاولها السلطات في هذه البلاد، ولولا الخوف من الشيوعية ما تم منها كثير ولا قليل!

ولكن هذا كله ليس معناه أنه من الخير لنا وللإنسانية أن ينتصر المعسكر الشرقي انتصاراً حاسماً كاملاً، وأن يتحقق ذلك الحلم الشيوعي الواهم، ويدين للشيوعية الجميع.

إن هذا المعسكر لا ينبغي لنا الخير، ولا يطيق أن تكون لنا فيه كرامة، أنه يريدنا جنوداً له أو عبيداً، لا أن يكون لنا وجود ذاتي وكيان محترم. ولقد دلتنا تجربة فلسطين على حقيقة

ص: 3

ما تضمره لنا روسيا الشيوعية، لقد وقف منا موقف العداء في مجلس الأمن، كما أن أسلحة الكتلة الشيوعية لليهود هي التي وقفت في وجوهنا بفلسطين، ذلك أن روسيا كرهت أن يكون للأمة العربية كيان، وأشفقت أن تستحيل الكتلة العربية قوة حقيقية تستعصي على السيادة الشيوعية في المستقبل، فآثرت أن تتبخر كل دعاواها في حقوق الشعوب الطبيعية، وأن تخسر أساساً من أسس دعايتها ضد الاستعمار، وأن تسمح بقيام دولة إسرائيل على أساس الدين وحده - وهو أكبر ما تنكره الشيوعية - آثرت ذلك كله على تقوية الكتلة العربية، وضربتها تلك الضربة القاسية المنكرة، لتقوم إسرائيل في جنبها كالشوكة؛ تمزق وحدتها الجغرافية، وتفصل حدودها المتصلة، وتحرمها التماسك والقوة والشخصية. إن روسيا عدوة وحدتنا وقوتنا ووجودنا الذاتي، وكل ما تلوكه ألسنة دعايتها هو مجرد أسلحة في صراعها مع الكتلة الغربية، كدعاية هذه الكتلة ضدها سواء بسواء.

إنه لا بأس في نظر الشيوعية الروسية أن تأبى على الكتلة الغربية في استخدام مواردنا في الحرب ضدها. أما أن يكون لنا كيان ذاتي، وقوة شخصية، ووجود قومي فلا! وإن دعاتها في بلادنا ليفزعون كما لو كانت قد لدغتهم أفعى، إذا سمعوا دعوة للتكتل الذي يوجد لنا شخصية قومية، إنهم لا يريدوننا إلا ذيولاً ذليلة تنعق بالشيوعية، وتؤدي لها التسهيلات الممكنة في أرضنا حين يستمر القتال! وهو وضع تأباه علينا كرامتنا، وتأباه علينا مصالحنا، بل يأباه مجرد الشعور بأننا أناس، لا سوائم ولا أشياء!

والشيوعية قد يكون لها اليوم لألاء في عيون الكادحين المحرومين، الذين تصاغ دماؤهم يواقيت للنحور والصدور، ويقطر عرقهم كؤوساً للسكارى والمخمورين. . ولكن تصور البشرية كلها نسخاً مصبوبة في قالب الشيوعية الواحد، لا يسمح لفكر واحد فيها أن يشذ، ولا لقلب واحد فيها أن ينبض بخالجة لا يرضاها ستالين. . هذا التصور وحده تقشعر منه الأبدان، ويشفق من تحققه كل إحساس آدمي سليم!

على أن طبيعة الحياة تأبى الانتصار الكامل الحاسم لقوة واحدة من هاتين القوتين الماديتين اللتين لا يفرق بين طبيعتهما إلا اختلاف المصالح والمطامع. وإن الهزيمة لتنبت في زحمة النصر، كما أن النصر ينبت في ركام الهزيمة، وها نحن أولاء نرى أن الخلفاء الذين بذلوا ما بذلوا ليقهروا ألمانيا واليابان؛ ينحنون اليوم على الحطام والأشلاء ليستنقذوا منها المارد

ص: 4

الذي صرعوه بالأمس، كي يستعينوا به على المارد الجديد. . نفس الذي فعلوه بعد الحرب العالمية الأولى، ولئن انتصروا غداً على الجبهة الشرقية، فليواجهن ألمانيا من جديد، ولئن انتصرت الشيوعية فلينبتن لها عدوها من ذات نفسها، من الضغط والكبت اللذين لا تطيقهما البشرية طويلاً. وقد بدأت يوغسلافيا حتى قبل المعركة، وسيتبعها التشقق في المعسكر الشيوعي لنفس الأسباب، أو بسبب الجمود والتوقف الناشئين من صب البشرية كلها في قالب واحد، تسيطر عليه فكرة واحدة، لا تسمح بأي تطور بعد مرحلة الشيوعية التي نعدها ختاماً للحلم الماركسي لا تتعداه! وإنها للعنة لا تصاب بها الإنسانية إلا وقد أريد بها شر عظيم.

إنه لمن السذاجة أن نتصور أننا نستطيع أن نجني ثمار السلام العالمي من وراء اصطدام هاتين الكتلتين الضخمتين في حرب حاسمة أخيرة، ولقد كان الطيبون الأبرياء في العالم يتخيلون هذه الثمرة الحلوة يانعة بعد كل من الحربين الماضيتين، فلم تطلع شجرة الحرب إلا ثمرات مرة، تجرعها هؤلاء الطيبون الأبرياء، وكان الجني الحلو كله للطغاة والمستغلين، من الشرقيين أو من الغربيين إن طريق الخلاص للبشرية المنكودة الطالع لن يكون هو الانضمام إلى هذا المعسكر أو ذاك، ليسحق أحدهما الآخر سحقاً ويخلو له وجه العالم، ويسيطر عليه وحده، ويسيره كما يريد.

إن المعركة في صميمها ستدور في أرض غير الكتلتين، ستدور في تركيا والعراق وسورية ومصر والشمال الأفريقي، وفي باكستان وأفغانستان، وفي منابع البترول العربية في عبادان والظهران. . . إنها ستدمر مواردنا نحن، وتحطم حياتنا نحن، وتدع أرضنا بلقعاً خراباً يباباً، وسواء علينا انتصرت هذهأم انتصرت تلك، فسنخرج نحن من المعركة فتاتاً وحطاماً، لا كما خرجت أوربا من الحرب الماضية، ولكن كما لم تخرج أمة من حرب قط، وإذا كانت هيروشيما قد ذهبت مثلاً بقنبلة ذرية صغيرة، فسنكون نحن تلك الفئران الصغيرة لتجارب القنابل الذرية؛ والقنابل الهيدروجينية، وغاز الموت الزاحف، وأشعة الموت السحرية، وحرب الميكروبات الطائشة، وسائر ما يتمخض عنه الذهن الكافر في دنيا الضمير الغربي الملوث.

إن طريق الخلاص هو أن تبرز إلى الوجود من أرض المعركة المنتظرة كتلة ثالثة تقول

ص: 5

لهؤلاء: لا! لن نسمح لكم بأن تديروا المعركة على أشلائنا وحطامنا. إننا لن ندع مواردنا تخدم مطامعكم، ولن ندع أجسادنا تطهر حقول ألغامكم، ولن نسلمكم رقابنا كالخراف والجداء!

إن هذا وحده هو الذي يعيد إلى الأدمغة المحمومة شيئاً من الهدوء، والى الخطوات المجنونة شيئاً من الاتزان، ثم يشعر هؤلاء وهؤلاء أن في هذه الرقعة الفسيحة الضخمة الهامة ناساً، يحسب لهم حساب، لا كميات مهملة، ولا ماشية وأذناب.

وإن الذين استعمرت دعايات الكتلتين أرواحهم ليقولون: إن هذا مستحيل ما إليه من سبيل، فنحن لا نملك القوة التي نقف بها حاجزاً بين الكتلتين، وستدوسنا الأقدام من هنا أو من هناك، ولا يغني عنا أن نعلن الحياد، أو أن ننضم إلى هذا أو ذاك.

وأنا أدرك كيف تستعمر الدعاية الأرواح والأذهان، ولكني لا أدرك كيف يهون الناس على أنفسهم إلى هذا الحد الزري، وكيف لا يخجلون أن يصبحوا بإرادتهم عبيداً وأشياء.

إن جيشنا ما لا يأمن أن يدير المعركة في أرض معادية؛ يتربص به أهلها الدوائر، ويتلفون ذخيرته ومؤنه؛ ويقطعون خطوطه ومواصلاته؛ ويتجسسون عليه للعدو؛ ويحرمونه الهدوء والراحة؛ سواء سالمهم فتركهم إلى ما هم فيه، أو تولى الحملة عليهم، ليواجه الثورة الداخلية بينما هو يواجه الأعداء في الميدان.

ولقد هزم الجيش الألماني الظافر مرتين بسبب الثورات والانتفاضات الداخلية، قبل أن يهزم في ميادين القتال. وما من جيش يواجه عداء الشعوب وهو آمن في قديم الحروب أو حديثها، وما يؤمن بذلك إلا المستغفلون الأذلاء!

إن هذه الشعوب التي تعد مئات الملايين، والتي تتحكم مواقعها الاستراتيجية في نتائج أية حرب عالمية؛ وتتحكم مواردها الطبيعية في النصر والهزيمة. . إن هذه الشعوب لا تعجز عن شيء حين تريد، وكل قول غير هذا هراء!

سيد قطب

ص: 6

‌أبو الثناء الألوسي الكبير

(بمناسبة مرور مائة عام على وفاته)

للأستاذ محمود العبطة

1 -

عصر الألوسي الكبير:

عاش الألوسي الكبير السيد أبو الثناء في بغداد، وفيها ولد وبها مات. وكانت بغداد في العصر الذي عاش فيه، وهو يمتد من منتهى القرن الثامن عشر حتى ينيف على منتصف القرن التاسع عشر للميلاد، أيالة من أيالات الدولة العثمانية، تتعاورها الخطوب، وتصب عليها المصائب؛ فمن جهل وأمية وأوبئة واغتصاب للحقوق وسلب للحرية، وغزوات من القبائل المجاورة إلى غارات متتالية متتابعة من إيران وبلاد نجد. . . وقد عاصر الألوسي الكبير خمسة ولاة من ولاة بني عثمان على بغداد، اثنان منهم وهما داود باشا (1770 - 1849م) وعلي رضا باشا (تولى عام الولاية 1831م)، من أشهر ولاة بني عثمان الذين تولوا مدينة السلام بعد المصلح الشهير المرحوم مدحت باشا الذي جاء بعدهما بسنين قليلة. إذ أدخل الأول - داود باشا - أنظمة جديدة للإدارة الحكومية وأوجد حرساً من المماليك والأغوات لقصره، وتمكن بدهائه وذكائه أن يجعل الأمن يستتب في أنحاء العراق، كما قضى على الفتن والثورات الداخلية وقام بأعمال عمرانية وشق الترع والأنهر، وكان مع ذلك يؤيد التقدم العلمي والثقافة العقلية حتى بلغت المعاهد العلمية في عهده ثمانية وعشرين معهداً ودام حكم داود في بغداد أربع عشرة سنة وقد رغب في أواخر حكمه الانفصال عن الدولة شأن محمد علي الكبير والي مصر وعزيزها؛ فأعلن استقلال العراق عام 1245هـ أما الوالي الثاني وهو علي رضا باشا الشهير باللاز، فقد كان كسلفه داود، يحب النظام ويسعى إلى تطبيقه، وهو الذي أمر القائد التركي (قاسم باشا) بضرب الحصار على مدينة بغداد وإخراج داود منها، ودام الحصار مدة ولم يرفع إلا بانتشار الطاعون في الجيش المحاصر الذي تسرب إلى المدينة، وقد اتفق مع هذا المرض الساري الوبيل فيضان دجلة على أطراف بغداد فبغداد نفسها، فكان كرب عظيم. وكانت النفوس تقضي بين القتل والغرق وفتك المكروب، وكان يموت أو يقتل في اليوم الواحد مائة وخمسون نفراً على أقل

ص: 7

تقدير، وقد وقع الطاعون والفيضان في أواخر عام 1246هـ، وبعد دخول الوالي الجديد على رضا وقد هلكت أكثر نفوس بغداد حتى لم يبق من نفوسها غير عشرها! كما تدمرت مرافقها العمرانية وقصورها ومنشآتها الأخرى، وهنا لابد أن نشير إلى التصادم المسلح الذي وقع بين أعوان الوالي القديم وأعوان الوالي الجديد وهذا أدى إلى قتل الكثير كما أدى إلى حريق عظيم أنتشر في بغداد.

وقد عمد الوالي الجديد علي رضا إلى ترميم ما وقع، كما سعى بهائه إلى القضاء على سلطة المماليك والانكشارية وبذلك أنهى عصر المماليك الذي دام ثلاثة وثمانين عاماً (من 1750 إلى 1833) والذي ختم بانتهاء حكم داود باشا، وبعد القضاء على سلطة المماليك التي أنزلت على البلاد خسفاً وظلماً، دبت الحياة في بغداد ورجع إليها أهلوها الذين تفرقوا أيدي سبأ في القرى المجاورة والمدن البعيدة؛ كما دخلتها التقسيمات الإدارية والتنظيمات الحديثة في جهاز الدولة المتداعي؛ إذ أنه في عهد علي رضا أصدر الخليفة العثماني عبد المجيد (خط كولخانة) وذلك في عام 1255هـ (1839م)، وهذا الخط في أول بشائر الإصلاح في الولايات العثمانية الذي بدأ في عهد سلفه السلطان محمود الثاني القاضي على سلطة الانكشارية في الدولة عام 1241هـ (1826) وأول من أدخل التنظيمات العسكرية الحديثة في الجيش العثماني، وتبع علي رضا في تسلم ولاية بغداد محمد نجيب باشا (ولايته عام 1842م) ونجيب هذا قوي وذكي. سار كسلفيه علي رضا وسابقه داود على منهج إصلاحي وأشتهر بتأديبه العشائر الثائرة في أطراف العراق واستعماله سياسة القوة في ذلك. وكان الأخير هو عبد الكريم باشا ولم يكن كأسلافه في شؤون الولاية والإدارة وبعده جاء رشيد باشا. عاصر الألوسي أبو الثناء هؤلاء الولاة، وكان كل منهم الحاكم بأمره والمطيع الأعمى أيضاً ينفذ ما يريده السلطان العثماني من جباية المال، وجمع الضرائب. والألوسي بطبيعة الحال وبطبيعة مراكزه ووظائفه المتصلة اتصالاً مباشراً بالجمهور، ينصاع لتيار الرأي العام ويستجيب لمطالبه وحاجاته، ولم يكن الألوسي بالرجل الجبان ولا بالشخص المستسلم لمشيئة أولي الأمر ولولاة البلد، بل كان على العكس لا يهاب السلطان، ولا يخشى الولاة، ولهذا نراه ينضم إلى الأحزاب المعارضة للسلطة الحاكمة، نراه يناصر داود باشا على علي رضا باشا في وقت عز النصير لداود، وانفرط من كان حوله من

ص: 8

الحاشية والأنصار، وأدت مناصرته لداود باشا، ومؤازرته له أن حبس في سجن (نقيب أشراف بغداد). وبعد أن أفرج علي رضا عنه ابتسمت الدنيا له وشرب القليل من نعيمها، ولكن لم يطل له ذلك إذ سرعان ما عاد عليه النحس بعد السعود وذلك في عهد ولاية نجيب باشا الذي عزله من منصبه العظيم (الفتوى) وأساء. معاملته، فساءت حاله واسود الزمان في وجهه فصبر وثابر حتى قصد عاصمة السلطنة العثمانية (استنبول) فنال من دهره ما أراده. عاش الألوسي أكثر من نصف قرن، وفي عهد اختلت فيه القيم الاجتماعية والمقاييس الأدبية كما أن الحرية الشخصية والكرامة والعقيدة كانت حديث خرافة ليس إلا! عاش في عصر مظلم ليس فيه للقوانين والأنظمة سلطان ولا سيادة، هذا مع العلم - كما أشرنا - أنه عاصر ولاة مصلحين محبين للصالح العام، ولكن ماذا يفيد الوالي المصلح إذا كان الجهل ضارباً يجرانه؛ والتعصب والتخريب هو السائد وهو المتحكم؟ كما أن الرغائب الفردية هي الكل في الكل، والبلد كله في هرج ومرج، إذن نقولها غير مترددين: إن الألوسي الكبير عاش في عصر الظلم والظلام. . وكل عصور الظلم والظلام حيث لا عدة للشخص في الحياة إلا القوة والبطش أو استعمال الذكاء والأساليب الملتوية، في كل عصر من هذه العصور السود، تسود البلاد الفتن والفوضى، ويخيم الجهل والخرافات كما تنعدم المرافق الزراعية والصناعية والثقافية، وهذه كلها هي العلامة الفارقة لبغداد بعد سقوط خلافة بني العباس وبعد هجمات التتر والإيرانيين والتركمان والأتراك. . وعصور الظلم والظلام التي ذكرنا صفتها البارزة تمتاز مع ذلك بظهور النبوغ الفردي، والكفاءة الشخصية، إذ يظهر أشخاص يجدون في هذه المفارقات الاجتماعية، وفي تقلبات الظروف والأحوال مجالاً لعبقريتهم النفاذة وشخصيتهم اللامعة، كما أن التجارب المتعددة والمفاجئات المباغتة توجه أعصابهم للتكيف الاجتماعي وأهتبال الفرص لنيل مآربهم وغاياتهم. والألوسي الكبير، بلا ريب، من هذه الشخصيات، لأنه زج نفسه في زحام المعارك وكان في عهود الولاة الأربعة ممثلاً للرأي العام في قصور الولاة والحكام على رغم الحوادث التي لم تنل منه بل زادته صلابة وثباتاً! لأنه - وهو أبن بغداد الصميم - والمتصل اتصالاً مباشراً بالجماهير التي يعظها ويخطب فيها ويفتي في شؤونها الأخروية والدنيوية، لأنه وجد ألا سبيل لمقارعة الحكام الظلام، والولاة الطائشين، ومن يحيط بهم ويؤازرهم من

ص: 9

ذوي الأغراض والأطماع إلا بالتكتل والتجمع والمطالبة الصريحة بالإصلاح، وهذه الصفات بينة في حياته المضطربة القلقة، تبيانها في مؤلفاته الدينية والعلمية والأدبية، فهو في كلتا الحالتين متأثر في بيئته ومجتمعه؛ وكل كتبه المطبوع منها والمخطوط ترينا صحة هذا القول، فهو العربي العراقي البغدادي الأول الذي ناوأ السلطة وجاهر بعداء الولاة، هذا فوق أنه صدر العلماء وزعيم الحركة الثقافية والعلمية في عصره والمجتهد الديني؛ وهو كما قال أحد تلامذته (فخر علماء المسلمين الواصل إلى رتبة الاجتهاد) فهو المصلح الديني والاجتماعي، وتفسيره الفخم (روح المعاني) يرينا صدق قول تلميذه بأنه واصل إلى مكانة الاجتهاد، لأن الألوسي يوجه المسلمين إلى إصلاح وتقويم وترميم كيانهم الاجتماعي المنحل المنفسخ قبل مائة عام. . وهو بعد ذلك مرآة حساسة دقيقة لعصره الذي رسمنا ملامحه في السطور السابقة، وهو يرينا بعواطف الأديب، وأحاسيسه الرقيقة وذوقه السليم، يرينا الحالة الاجتماعية والثقافية والأدبية لذلك العصر بصورة واضحة بينة، لا كذب فيها ولا تزويق.

2 -

البيت الألوسي:

أشتهر الشرق العربي ومنه (العراق) في القرن الماضي بوجود عائلات علمية تحمل العلم والأدب من الأجداد إلى الأحفاد. . ومن هذه العائلات أو البيوتات في مصر، الشرقاويون والرازقيون (آل عبد الرزاق) والرافعيون وغيرهم، ومنها في لبنان اليازجيون والبستانيون والشرتونيون، أما في العراق فقد أشتهرت في بغداد بيوتات كثيرة تمتاز بحصر العلم والأدب بأبنائها فحسب، وأشهر هذه البيوتات الألوسيون والسويديون والواعظون والرحبيون والحيدريون والزهاويون والقمريون والطبقجليون. . الخ

وهذه العوائل البغدادية تمتاز فوق أنها تحمل الصفة العلمية التي تتوارثها، فهي اختصت بصفة أخرى لا تقل عن الأولى أهمية وخطورة، ألا وهي فروع العلوم من منطق وكلام وأدب وحديث، تنحصر في عائلة منها فقط، ويبقى هذا الفرع في نماء وازدهار في الأجيال القادمة من العائلة نفسها، فبيت السويدي أشتهر بالحديث والمنطق، وبيت الواعظ بالوعظ، وبيت الزهاوي بالمنطق والكلام، وكثير من الفقهاء ظهروا من بيت الطبقجلي والرحبي، ويضاف إلى ذلك ما لانحصار الثقافة العلمية في العائلة الواحدة من أثر عظيم في خلق الجو العلمي والأدبي في صقل المؤهلات وتقويم الملكات والتوجيه الصحيح المستقيم، إذ أن

ص: 10

الطفل في أمثال هذه العوائل يشاهد أول ما تتفتح عقليته ويشتد ساعده، يشاهد جواً علمياً يقومه ويعينه في خلق مستقبل علمي صحيح. . . وهذا القول يظهر جلياً واضحاً في الألوسي المترجم له، إذ أنه تتلمذ على أمه وأبيه قبل أن يبلغ سن الحلم، ثم لقي من رعاية أبيه وأستاذه وتوجيهه وإرشاده ما جعله مضرب الأمثال في الرواية والحفظ وسرعة البديهة ودقة النظر.

فالوراثة والبيئة والتوجيه الصحيح تعاونت في سبيل خلق رجال هذه العوائل وإعدادهم للعلم والأدب.

و (ألوس) التي ينتسب إليها أبوالثناء، قرية تقع على نهر (الفرات) قرب (عانات) وينتسب إليها من العلماء والأدباء محمد بن حصن الألوسي الطرسوسي، والشاعر المؤيد الألوسي (توفي عام 557هـ)، وقد تضاربت الأقوال في صلة العائلة بألوس، فمن قائل إن العائلة بغدادية النجار، ولكن أحد أجداد العائلة فر إلى ألوس من وجه هولاكو التتري عند دخوله بغداد، ثم رجع أحد أبنائها إلى بغداد في القرون المتأخرة، وهذا رأي الأستاذ محمد بهجت الأثري، ويقول صاحب (حديقة الورود) ما معناه أن أجداد أبي الثناء عاشوا ببغداد، وقد سافر الشيخ إسماعيل الألوسي من علماء القرن الحادي عشر للهجرة إلى (استنبول) إذ أنعم عليه السلطان العثماني بالمنح والهدايا، ومما منح له أراض واسعة في جهات عانات وألوس، فسكن الشيخ إسماعيل وأهله ألوس، وبقي أبناؤه فيها حتى القرن الثالث عشر للهجرة إذ هاجر منها السيد محمود الخطيب بن السيد درويش وأقام بمدينة السلام، والرأي الثالث هو رأي كاتب مقدمة (روح المعاني) إذ يقول:(انتقل منها - من ألوس - أجداد شيخنا من نحو مائتي سنة إلى الزوراء) وروح المعاني قد طبع عام 1301هـ فيكون تاريخ هجرة الألوسيين إلى بغداد هو القرن الحادي عشر للهجرة (السابع عشر للميلاد). ومن ملخص هذه الآراء الثلاثة المختلفة والمتفقة معاً، لنا أن نقول إن العائلة الألوسية بغدادية الأصل، وأنها اضطرت إلى النزوح من بغداد لعوامل قهارة، منها كثرة الفتن والاضطرابات والغزوات المتعددة، وأنتشار الأمراض، وأنها سكنت (ألوس) وجعلتها لها مستقراً ومقاماً.

والذي لا خلاف فيه ولا جدال أن السيد عبد الله بن السيد محمود والد المترجم له ورئيس

ص: 11

مدرسي بغداد في عصره، قد ولد في بغداد وبها ترعرع، وبعد أن بلغ عبد الله المذكور سن الحلم تزوج (صالحة) بنت الشيخ حسين العشاري المتوفى في حدود عام (1200هـ)، والألوسي عبد الله والد محمود الألوسي توفي في بغداد في الطاعون المشهور (عام 1246هـ) بعد أن أنجبت له صالحة ولدين من الذكور هما عبد الرحمن ومحمود، ولم يكن عبد الحمن بن عبد الله الألوسي (1244 - 1284هـ) أقل شأناً وشهرة من أخيه أبي الثناء، وقد قضى عمره في حل القضايا العامة ومشاكل الناس حتى قيل إن الحكومة المحلية في بغداد كانت تشكو انصراف أبناء الكرخ إليه، وصدهم عنها في فصل القضايا، ورجل هذا شأنه لم ينصرف بكليته إلى التحصيل انصراف شقيقه الصغير، والذي أجمع عليه مؤرخو الأدب في العراق ومترجمو العائلة الألوسية أن هذه العائلة تنتهي إلى الدوحة النبوية الكريمة، وهذا شرف يزيد شرف العلم والأدب وحسن الأخلاق، والمترجم له حسنى الأب حسيني الأم؛ ومن المناسب أن نثبت هنا أرجوزة نظمها الشاعر المعاصر للألوسي عبد الباقي العمري ذكر فيها إياه الألوسي وأجداده ابتداء من الألوسي الكبير أبي الثناء وحتى جده الأعلى عليه السلام، قال العمري:

السيد (المحمود) في الأفعال

سليل (عبد الله) ذي الأفضال

أبوه (محمود) بن (درويش) الذي

ينعى (بعاشور) غياث اللائذ

ابن (محمد) سليل (ناصر)

للدين ينعى (للحسين) الطاهر

ابن (علي) بن (الحسين) المقترى

إلى (كمال الدين) ذي التقرر

سليل (شمس الدين) ذي اليقين

أبن (محمد) بن (شمس الدين)

سليل (حارس) لشمس الدين

يعزى وذا النجل شهاب الدين

ابن (أبي القاسم) طاهر النسب

أبن (أمير) ذاك طاهر الحسب

ابن (محمد) إلى (بيدار)

يعزى كما قد جاء في الأخبار

وجاء من بعده أبيه (عيسى)

(محمد) بن (أحمد) بن (موسى)

و (أحمد) من بعده (محمد)

و (أحمد الأعرج) فهو السيد

ينعى إلى الشهير (بالمبرقع)

(موسى) إلى (الجواد). . . .

(أبن الرضا) أبوه (موسى الكاظم)

أبوه (جعفر) الإمام العالم

ص: 12

أبن (محمد) الإمام الباقر

سليل (زين العابدين) الطاهر

نجل (الحسين) السبط عالي الهمم

ريحانة الهادي شفيع الأمم

نجل (على) الطهر ذي المفاخر

حاز العلا من كابر عن كابر

وأمه (فاطمة) البتول

بضعة (طه) المجتبى الرسول

صلى عليه الملك الوهاب

ما اتصلت بين الورى الأنساب

3 -

حياة الألوسي:

إن الدارس لحياة الألوسي الكبير، تلك الحياة الخصبة المليئة تمتاز بعمقها وعرضها، ولا تمتاز بطولها، إذ أن الألوسي لم يزد عمره على الخمسين سنة إلا قليلاً، وهذا العمر القصير لم ينصرف إلى الخدمة العلمية والأدبية فحسب، بل أنصرف إلى حمل أعباء ثقيلة، منها عبء التدريس والإفتاء، وعبء الزوج والأهل، ثم عبء مجالسة الأنيس والصديق، وقد وصفه واضع مقدمة التفسير بقوله (فهو وإن رأيته يسامر أحبته مشغول الفكر بحل المشكلات، أو مشياً لمسجده فهو متفكر بحل المعضلات)، وهذا لعمري وصف صادق لهذا الرجل الحازم، الذي لا يعرف للراحة نصيباً، فهو مع مسامرته لأحبائه وخلانه، أو مع ذهابه وإيابه، يكون عقله الباطن يقلب المسائل ويضع التصاميم، وإذا عرفنا أنه ذاق مرارة الفقر والحرمان في طفولته، وعرفنا أيضاً حالة عصره المظلم وما فيه من مآس ومشاكل، وفقد للقيم والمفاهيم، إذا عرفنا ذلك كله، لا بد لنا وأن نحني الرأس إجلالاً وإكباراً لهذا الرجل عظيم الذي شارك - على الرغم من هذه العراقيل - في سائر علوم زمانه وعبر عن روح عصره أحسن تعبير، مع أن عمره هو دون عمر الإنسان، ولنا أخيراً أن نعلل موته المبكر - إن صح التعبير - بسبب جهد أعصابه ومغامراته السياسية ورحلاته وقيامه بمهام التدريس والإفتاء والتأليف.

وحياة الألوسي ظاهرة مبسوطة لمن يريد دراسته على الرغم من ندرة التدوين في زمانه وقلة وسائل النشر والطبع أيضاً، فهو قد كتب تاريخ حياته بتفصيل دقيق في مقاماته، كما ألمع إليها كثيراً في رحلته (غرائب الاغتراب) وهناك ترجمة وافية لحياته في مقدمة تفسيره (روح المعاني) كما أن أحد تلامذته النجباء، كتب عن حياته كتاباً لم يزل مخطوطاً وهو (حدائق الورود) هذا بالإضافة إلى معاصريه من الشعراء وأشهرهم الأخرس

ص: 13

والعمري، وأحمد عزت والتميمي الذين رسموا في شعرهم ملامح متعددة عن حياة الألوسي الكبير، ولا يقل المتأخرون من علماء العراق عن المتقدمين في العناية بالسيد الألوسي، وأشهر هؤلاء حفيده العلامة محمود شكري والأستاذ محمد بهجت الأثري والمؤرخ عباس العزاوي والدكتور محمد مهدي البصير، والألوسي الكبير الذي لقي العناية التي يستحقها شخصه وأدبه وعلمه في حياته وبعد مماته، جدير وأهل بأن تزداد عنايتنا به ودراستنا له، وبخاصة أن ذكرى وفاته المئوية مناسبة حسنة في هذا الموضوع.

للكلام صلة

محمود العبطة

ص: 14

‌شاعر مجهول

للأستاذ حسني كنعان

لما حط الصقر المصري إبراهيم باشا بثقله على (طورس) وأخذ يتوثب ويتحفز من أعاليه على البلقان، ليغزوها كما عزا البلاد الشامية، سأله أحد الدبلوماسيين الفرنسيين. . .

إلى أين يذهب بفتوحاته، وهلا يتوقف عند حدود تركيا؟ فأجاب:

- إنني أتباع التقدم إلى البلاد التي لا أستطيع أن أتفاهم مع أهلها باللغة العربية.

- ثم سأله أحد جنوده الذين لهم دالة عليه عندما كان يزجي الصفوف ويهيئها للقتال، كيف تتحدث سموكم بهذا الشكل عن الأتراك، وأنت من أصل تركي، وفرع أناضولي. . .؟

فأجاب:

- أجل أنا من نبتة تركية، ولقد ولدت في البلقان ولكنني عشت في مصر، وإن أرض هذه البلاد وسماءها جعلت مني عربياً، صهرتني هذه التربة الخصبة ببوتقتها، ومصرتني بمصريتها. . .

وقائد هذا شأنه وهذا حبه للعرب قمين بأن يكون معبود جنوده المصريين والشاميين، وخليق بهذه المدائح التي خلد الشاعر الجندي اسمه فيها. وما كانت هذه الأماديح مقتصرة في تخليد مآثره في الأشعار والقصائد العامرة فحسب، بل تعدتها إلى الإشارة بذكراه من قبل شاعرنا في الموشحات والمواويل والقدود والأناشيد، ومن هذا القبيل قوله من موشح يصف به غزو عكا مما يدل على أن الشاعر كان في ركابه يوم غزاها. ولقد عثرت في الديوان على موشح من نغمة الجهاركاه يصف الشاعر به هذه الغزوة، والموشح معنون (بعنوان زارني الحبيب).

صاحب السعود قاهر الأسود

الغازي الغضنفر قائد الجنود

في عكا أقام ساعة الزحام

علم القيام رتبة السجود

رتب الألوف حولها صفوف

عود السيوف فرقة الصمود

غارت العساكر كالأسد الكواسر

غنت القنابر تشبه الرعود

لاحت البيارق فوقهم خوافق

جازت الخنادق وهي كالفهود

دقت الصنوج والطبل الرجوج

أبحر تموج ما لها خمود

ص: 15

والجيش الجهادي مطلق الأيادي

ألحق الأعادي في بني ثمود

والسور العظيم صار كالرميم

وانثنى الغريم يلطم الخدود

أول النهار خيم الغبار

وانتهى الحصار وابتدأ الصعود

ذاك اليوم كان أوحد الزمان

لا تسل فلان، الدنيا شهود

أيها القدير أيد الوزير

الغازي الشهير وأعطه الخلود

ما كان الشاعر متغالياً ولا متزلفاً في مدحه هذا القائد الفذ، وإنما كان عشقاً له معجباً به ولا سيما بعد أن صحبه مدة، وعرف مراميه ونزعاته، وقد أعلن الأمان على الجدران في إعلانات خاصة عند ابتداء الفتح ودخوله القدس، وأخرج منادين ينادون في الطرقات بأن عدالته تشمل الجميع على السواء، وأنه يفتح قصره لسماع كل شكاة ورفع كل ظلامة - وأن جميع الطوائف حرة في معتقداتها، وممارسة طقوسها الدينية والمذهبية كيفما تريد، وأنه سيحذو في هذا السبيل حذو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ويسير في النهج على منواله، وهذا ما حبب الشاعر به، وحبب الرعية إليه مما حز في نفوس الأمم الاستعمارية الطامعة في تركيا وجعلها تعجل بإطفاء هذا القبس المتوهج الذي لو ترك وشأنه لاهتدى بأضوائه خلق كثير. . فوضع شيخ المستعمرين العراقيل في تقدم النور، وسارع لإطفائه، حيث ألب على الفاتح العظيم شعوبه الراضية به. وأقام الثورات من خلف جيشه في سواحل لبنان. . . وفي جبل العرب أعني جبل الدروز، ونزل شيخ (الشياطين). . . من الشواطئ وأعمل المكائد في قفاه، فخشي القائد شر الفتن الداخلية والثورات المحلية وجلا عن بلاد الشام، وعاد الجيش التركي من حلب بمساعدة الشيطان الرجيم شيخ المستعمرين. . وأحتل البلاد من جديد وأخذ يتتبع خطا أتباع الباشا الفاتح، لينكل بهم ويثأر منهم، وكان شاعرنا في طليعة المغضوب عليهم فما نجاه من حمل المشنقة سوى فراره إلى مصر مع القائد الكبير. . . فوجد هناك في القاهرة آفاقاً جديدة في سخاء الشعر مفتحة أمامه فحلق في أجوائها كل محلق، وتعرف على أدبائها وشعرائها وأمتدح أمراءها وزعمائها ومدح مآثرها ومساجدها وحصونها وقلاعها، والديوان مفعم بمآثر مصر الخالدة، ولقد أمتدح قلعة محمد علي باشا الكبير بقصيدة عامرة تقع في (32) بيتاً أختزل منها بعض أبيات لضيق لأبرهن بها على تأثير هذه الآفاق الجديدة في نفسه:

ص: 16

عروس كنوز قد تحلت بمسجد

مكللة تيجانها بالزبرجد

أم الجنة العليا تزخرف قاعها

بأبهج ياقوت وأبهى زمرد

أم المكرمات الآصفية أبدعت

هيولي أعاجيب بصورة مسجد

فذا مسجد معناه يشهد أنه

بعمره المسعود من غير مسعد

فدع قصر غمدان وأهرام هرمس

وإيوان كسرى وأنظرنه لتهتدي

ودع إرماذات السوارى وحسنها

وعرشاً لبلقيس كصرح ممرد

ودع أموي الشام وأنزل بمصرنا

وبادر لهذاك البناء المعمد

لئن جاء في الدنيا وحيداً ومفرداً

فلا غرو فالمنشي له ذو تفرد

محمد آراءه على مآثر

عزيز ومولى كل سام ممجد

هو الشمس لم يحجب سناها غمامها

ولا أنكرت أضوائها عين أرمد

وكم منشآت كالرواسي بني لها

فعجباً جرت في البحر ذات تشيد

معاليه جلت عن نظير وأصبحت

تباهي جميع العالمين بمفرد

فعرج على تلك المآثر وابتهج

بآثار هذاك الخديوي الممجد

وعاين بناء يستضئ منزها

لطرفك في روض البهاء المخلد

أمين بني الجندي قال مؤرخاً

تربك على قدر العزيز محمد

فأنت تعرف من ثنايا هذه الأبيات مقدار الأثر البالغ الذي تركته في نفسه هذه القلعة التاريخية العظيمة التي يصفها في شعره بمنزلة قصر غمدان وأهرام هرمس، وإرم ذات الأسوار والمناعة، ويضعها في القداسة بمنزلة الأموي في دمشق، بيد أن هذه القصيدة على إعجاب ناشر الديوان بها، وتلك المقدمة النفيسة التي قدمها لها في الديوان، لا أراها تعدل في الروعة أشعاره في الغزليات والأماديح والتشاطير والتخاميس، وله فيها أبيات يعجز القلم الثر عن وصفها لجودتها وروائها وجمالها وتنسيقها، ومتى أتينا على بحث هذا النوع من الشعر نريك نوعاً منها، ويبدو أن صاحبنا لم يك ذا باع طويل في الوصف، ومن أبيات له من هذا القبيل في وصف الشطرنج أرى ألا مندوحة عن نشرها للأطراف فقط وليس للفن، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على هيامه بهذه اللعبة التي كانت سلوته وسلوة القائد المصري في ساعات الاستجمام والراحة. .

ص: 17

أقول إن لاعب الشطرنج

كفارس هاج ببحر السرج

ولا يزال ناصب الفخاخ

يصطاد من جاء من الرخاخ

كأنه ليث الشرى المفترس

لا سي إن أرخى عنان الفرس

وصالت الأفيال للأفيال

في حومة القتال والجدال

ابتدرت أمامها البيادق

تسعى فمنها سابق ولاحق

وبارز الشاه أخوه الفرز

وانهتك الستر وزال العز

وميز الغالب بالتأييد

وبان فضلل باعه المديد

وأقبل النصر من الإله

وأنفصل الحرب بموت الشاه

ولا أنكر أن إقامته في مصر صقلت شاعريته ورققت من حواشيه، بيد أن هذه الإقامة كانت مقتصرة على إظهار الولاء والمحبة للمضيف الكبير الذي أغدق على ضيفه الشاعر المنح الكثيرة والأعطيات، وكان جل هم الشاعر في مصر أن يوسع آفاق علومه ومعارفه، ويتعرف إلى أكبر عدد ممكن من أرباب هذه الصناعة، أعني صناعة الشعر والفن، وكان الوالي التركي يلح في طلبه ليثأر منه جزاء وفاقاً لما أحدثته أشعاره من دعاية موفقة للفاتح المكتسح الذي دانت له سلطة البلاد التي غزاها طوال هذه المدة.

(يتبع)

دمشق

حسن كنعان

ص: 18

‌شرعة القومية وشرعة الإسلام

بمناسبة مرور 1370 سنة على هجرة النبي

عن العلامة وليم ماكدوجل

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

إن الشرائع العالمية وهي المسيحية والإسلام والبوذية، كل منها تتطلع إلى السيطرة على العالم، وجعل الناس جميعاً تحت لوائها، وترمي كذلك إلى تحديد قواعد الفضيلة والخلق للبشر.

أما الشرائع القومية، ومنها شرائع اليهود والبراهمة واليابانيين والصينيين، فإنها تحدد مراميها في جماعة أو قبيلة أو أمة أو دولة بعينها، لأن تعاليمها لا يمكن أن تناسب جميع البشر بعكس الشرائع العالمية السابقة الذكر.

ونحن نعلم أن المبادئ الخلقية في جميع المدنيات تنحصر في طائفتين كبيرتين من الشرائع الزمنية والخلقية. فالأولى هي الشرائع القومية التي تعمل في حدود جماعة أو قبيلة أو دولة أو أمة، وهي كذلك لا تقتصر على توجيه الأفراد إلى الخير والسعادة عن طريق معاملته وسلوكه مع غيره، ولكنها تسيطر عليه في علاقته بالدولة أو الأمة التي هو فرد منها منتم إليها، والتي يجب أن ينظم حياته تبعاً لمقتضيات مصالحها وحاجاتها.

أما الثانية فهي الشرائع العالمية، وهذه تعمل على السيطرة على العالم وإخضاع البشر لقواعد الفضيلة التي ترى أنها صالحة لحياتهم، ملائمة لهم في كل زمان ومكان. والفرق بين هاتين الشرعيتين: أن الأولى قومية وسياسية، والثانية عالمية خلقية، وهذا الفرق يظهر واضحاً عند مقارنة الشريعة اليهودية أو البرهمية بالشريعة المسيحية أو الإسلامية.

ففي الدولة اليهودية مثلاً لك يكن الحكم حكماً روحياً، إذ عبد إسرائيل إلهاً قومياً، فلم تكن شريعتهم تقصر غايتها على تنظيم سلوك الفرد، ولكنها رمت إلى خير الشعب جملة، واليهود في نظر أنفسهم أفضل شعوب الأرض بما امتازوا به من مميزات وخصائص بأن جعلهم الله شعبه المختار، ذا العزة الخالدة والمجد المقدس، وفي نظر شريعتهم أن الأخلاق دين وسياسة معاً، وأن الشريعة قامت على رواس من الوطنية فكفلت البقاء للشعب المشتت

ص: 19

في بقاع الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وكذلك استطاعت أن تبقى عليه وتصونه من الفناء في الكثرة العالمية.

أما الشريعة المسيحية فإنها روحية بحتة لم تتدخل في الشئون السياسية بل تركت ما لقيصر لقيصر، وبذلك طغت تعاليمها على النظام القومي، فجردته من العنصر السياسي وعملت على إزالته وهدمه، لأنها تعمل على غزو العقائد والأوضاع القومية بغير تمييز ولا تفرقة بين جنس وآخر، أو بين فرد وآخر من أفراد الجنس الواحد، وهدفها من ذلك انحلال القومية وجعل العالم كله خاضعاً للسيطرة الروحية، وفات العاملين عليها أن انهيار صرح القومية الإغريقية كان بسبب فلاسفتهم إلى الفكرة العالمية الحرة، ولم يدركوا أن هذه الفكرة لا تأتلف مع فكرة القومية ومميزاتها، وقد تقوضت أركان الدولة وزالت من الوجود لأنها عملت على بسط سلطانها على شعوب كثيرة مختلفة الشرائع متباينة العقائد، فلم يستطيع نظامها القومي وشريعتها السياسية (أي نظام وشريعة الدولة الإغريقية) أن تمتص كل هذه العناصر المتنافرة وإن كانت سيطرت عليها زمناً غير قليل، وقد جاء انتشار المسيحية في أرجائها تحولاً خطيراً في هيكل أوضاعها الخلقية، بل أنه أبدل نظامها القومي بشرعة عالمية مجردة عن الفكرة السياسية.

وأما اليابانيون والصينيون فقد احتفظوا بعناصرهم الوطنية وروحهم القومية لأن مبادئهم الخلقية تستند إلى دعامة قومية ثابتة، ومن خصائص الشرائع القومية أنها إذا خرجت من بيئتها وامتدت إلى الأمم الأجنبية، فإنها لا تقوى على الاحتفاظ بأثرها في تكييف حياة الأفراد وتوجيه أفكارهم ونزعاتهم، إذ من طبيعة الأقوام عدم مقدرتهم على الاحتفاظ بمميزاتهم وشخصياتهم إلا داخل حدود أنظمتهم ومبادئهم.

والتاريخ العالمي يحكي لنا قصة النضال بين الشرائع القومية ومميزاتها من يوم أن خلقت الشرائع العالمية. أما تاريخ الإسلام فإنه يضرب لنا أقوى الأمثال على اتجاهات الشرائع العالمية وقوتها، فإن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم استطاع أن يغرس نظامه الخلقي ومبادئه العالمية في شعب على حالة من البداوة والفطرة، ولكن له عبادته وعقائده وطقوسه الخاصة، ورغم هذا فإن نظام الإسلام سرى في هذا الشعب سريان الماء في العود اليابس فأعاد إليه الحياة، وأكتسح تياره كل العقبات التي كانت أمامه، وتكشف عن قوة فائقة من

ص: 20

النماذج والتمثيل، وخضعت له شعوب متباينة الجناس والأشكال، متغايرة الألوان من بيض وسود وصفر، وكان خضوع هذه الشعوب عن رضى وإيمان، كما يتبخر الماء في الهواء، وذلك لأن نظام الإسلام سوى بين الناس، وجعلهم صفاً واحداً كلهم سواء، ومحا بينهم من فوارق الجنس واللون والطبقة والقبيلة، وحطم الحواجز التي كانت بين أبناء الشعوب بل بين أبناء الشعب الواحد، وسوى بين الرجل والمرأة، ونادى بأن الناس سواسية لا فضل لابن البيضاء على ابن السوداء إلا بالتقوى والعمل الصالح المثمر، وقد تزاوج العرب مع جميع الأجناس والشعوب التي افتتحوا بلادها فكان هذا سبباً من أسباب الانتشار.

هذا الانتشار السريع الذي حدث في أقل من قرن من الزمان يرجع إلى أسباب كثيرة. . منها، وأهمها: المساواة بين المسلمين مساواة مطلقة في الدين والدنيا، وبساطة تعاليمه وقربها من الفطرة، والنماذج في كثير من عناصر الجنس والثقافة، وتلاقح الأمزجة من صنوف البشر، كل هذا وغيره أخرج مدنية بهرت شعوب العالم بجلالها وبهائها ورحابة ساحتها وتعدد مناحبها ولم يمض زمن طويل حتى طأطأت رؤوس البشر في مختلف بقاع الأرض للثقافة الإسلامية من علوم وفنون، وحتى غمرت هذه الثقافة الجزء المحصور بين آسيا الشرقية وإسبانيا بالجامعات الكبيرة ودور الكتب العامرة والمساجد الفخمة، في هذا الوقت الذي كانت تزحف فيه الثقافة الإسلامية زحفاً سريعاً كانت أوربا ترزح تحت أنقاض المدنية الرومانية، وتئن من الظلم والفوضى والاستبداد.

غير أن هذه المدنية الشامخة سرعان ما رأيناها تهوى بنفس السرعة التي سمت بها وذلك لتفكيك الشرائع القومية التي غزاها الإسلام ودخلت في حوزته وما أعقب هذا من ازدهار فلم تلبث هذه الحركة أن أعقبها السكون وتبدلت القوة وهناً وضعفاً، فإذا بنا نرى النور المتألق سناً وقوة، ويخيم عليه ظلام قاتم ويصبح المجد الزاهر قصصاً يحكيها لنا التاريخ كأمثلة نادرة لعدالة الحكم والخدمة العامة والبطولة الفذة والتضحية بالنفس والمال في سبيل العقيدة.

لا مراء في أن الدين الإسلامي ينتشر في الأمم التي تعيش على البداوة والفطرة، وأنه كلما التقى بالمسيحية في ميدان التنافس الحر، صرعها وتغلب عليها، ولكنه اليوم يعيش بعيداً عن الثقافة البشرية، والمم الإسلامية ترزح تحت أنظمة من الحكم الذي يخالف الإسلام

ص: 21

الصحيح، ودستور محمد وأصحابه الذي استطاعوا به أن يبهروا العالم أجمع، والذي رضيته جميع الشعوب التي خضعت له في ذلك الوقت.

كثيراً ما سمعنا من البعض أن المبادئ الخلقية الإسلامية مخالفة بطبيعتها للتقدم في شؤون الحياة السياسية، وهذا افتراء لا يقول به منصف، وتدحضه وثبة الإسلام القوية في أول عهدهن، وما تخللها من التماسك الروحي والحماس القومي، وما ظهر منها من دلائل الإيمان والقوة والمرونة، كما أن تاريخ المدنية الإسلامية يدلنا على قوة أوضاعها الخلقية السامية، غير أن بواعث تقدمها السريع هي بعينها نفس بواعث تأخرها وركودها السريع، وذلك لأن الشرائع العالمية وخاصة الشريعة الإسلامية، قد فكت قوى معتنقيها من آسار شرائعهم الضيقة الحدود، وأطلقت لهم الحرية في التعبير والاختيار، فتنبهت في نفوسهم قوى الإجماع على فكرة واحدة والعمل من أجل هدف واحد والسعي لغاية واحدة، فكان هذا التقدم السريع والارتقاء الخاطف وفاتها وهي تهدم حواجز الجنس والقومية، أنها تقضي على قوى الارتباط بالأصل والتحلل من الماضي، فكان هذا الانتكاس السريع الذي حل بهذه الإمبراطورية العظيمة، لأن التمسك بالقديم في نظري يعتبر عاملاً لازماً متمماً لحركة التقدم السليم، وما النعرة القومية أو ما يسمونه (التعصب) إلا اعتداد المرء بنفسه وتمسكه بقوميته وتقاليده، وهي عاطفة نبيلة ترمز إلى فكرة التحمس الوطني الذي هو عماد الرقي والتقدم وثباتهما، فإذا تلاشت هذه العاطفة أو ضعفت، أنهار الإحساس القومي وخمدت في الفرد روح التضحية من أجل الجماعة، وانتفت مميزاته وصفاته الوطنية وصبغته الشخصية، وزال طابعه الوطني الذي يعتد به، وهان عليه كل شيء.

إن الإسلام قد ظهر في بلاد تعتبر ملتقى قارات ثلاث تسكنها أجناس مختلفة من بيض وسود وصفر، ويختلفون في معنى القومية، فلما هدم الإسلام هذه الفوارق ونادى بفكرة المساواة بكل معانيها الواسعة، تزاوج المؤمنون من الأجناس التي دخلت حوزة الإسلام، بلا ضابط ولا قيد.

وإن كان هذا التزاوج سبباً من أسباب ازدهار الثقافة الإسلامية بفعل التلاقح البعيد المدى، إلا أن هذا الاختلاط الذي حدث بين جميع العرب وجميع الشعوب وخاصة الزنوج الذين دل التاريخ البشري على أنهم جنس عقيم الاستعداد للمدنية، بطئ الاستجابة لداعي الثقافة،

ص: 22

لأن حقائقهم العقلية لا تؤهلهم للنهوض فوق مستوى البربرية، لذلك تغير الدم العربي، وقلت نقاوته، وضاعت صفاته المميزة له، وفسدت سلالات العرب ذات الاستعداد القوي والقدرة على الإنتاج.

وبذلك بدأ التدهور يحل بالأمة الإسلامية ويدب في أوصالها الفناء، ولولا قوة تماسك نظم الشريعة الإسلامية وصلاحية قوانينها والتفاف المسلمين حولها، لزالت كما زال غيرها من الشرائع العالمية الأخرى، ولما استطاع أن يصمد لكل هذه الأعاصير التي تتزاحم عليه.

عبد الموجود عبد الحافظ

ص: 23

‌أصحاب المعالي

(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)

(حديث شريف)

للأستاذ محمد محمود زيتون

ويضارع المتنبي في هذا أبوفراس الحمداني الذي يجعل الدم سلاحاً ذا حدين، فهو للأضياف تارة، وللأعداء تارة أخرى، والكرم والجهاد للمعالي سبيلان:

للقا العدى بيض السيو

ف وللندى حمر النعم

هذا وهذا دأبنا

بودي دم وبراق دم

ويقول بشار بن برد:

وأبسطهم راحة في الندى

وأرفعهم ذروة في العلا

ومن أصحاب المعالي الممتازين الشريف الرضي، ففي أبياته الآتية ذخيرة عالية:

لغير العلا مني القلى والتجنب

ولولا العلا ما كنت في الفضل أرغب

ملكت بحلمي فرصة ما أسترقها

من الدهر مفتول الذراعين أغلب

فإن يك سني ما تطاول باعها

فلي من وراء المجد قلب مدرب

بحسبي أني في الأعادي مبغض

وأني إلى عز المعالي محبب

فللحلم أوقات وللجهل مثلها

ولكن أوقاتي إلى الحلم أقرب

يصول على الجاهلون وأعتلى

ويعجم في القائلون وأعرب

ولست براض أن تمس عزائمي

فضالات ما يعطى الزمان ويسلب

فهو راغب فضل، وصاحب حلم وإباء عن دنيات الأمور، لا يباعد بينه وبين عز المعالي أراجيف العدو، ولا فضالات الدنيا ولا حداثة السن.

ويلاحقنا في هذا المضمار الملك أبوفراس مرة أخرى، فلا يرتضي لأصحاب المعالي أن يحول صغر السن دون مآربهم:

أما أنا أعلى من تعدون همة

وإن كنت أدنى من تعدون مولداً

ويقول الشماخ في عرابة بن أوس الذي اصطف للقتال وهو دون الأربعة عشر يوم أحد:

رأيت عرابة الأوسي يسمو

إلى الخيرات منقطع القرين

ص: 24

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

وفي الحق أن أبا فراس كان عالي النفس سواء في حديثه مع نفسه أو عند المحنة النازلة، فما كانت صفته هذه لتزايله فتى أو ملكاً أو أسيراً في بلاد الروم:

أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى

ولا فرسي مهر ولا ربه غمر

ولكن إذا حم القضاء على امريء

فليس له بر بقيه ولا بحر

وقال أصيحابي الفرار أو الردى

فقلت هما أمران أحلاهما مر

ولكنني أمضي لما لا يعيبني

وحسبك من أمرين خيرهما الأسر

ولا خير في دفع الردى بمذلة

كما ردها يوماً بسوأته عمرو

ونحن أناس لا توسط بيننا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر

تهون علينا في المعالي نفوسنا

ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر

أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا

وأكرم من فوق التراب ولا فخر

ثم هو القائل يحدث نفسه، متثبتاً من خطاه في مدارج العلياء:

وما عابك ابن السابقين إلى العلا

تأخر أقوام وأنت مقدم

وليس تميم بن المعز لدين الله الفاطمي أقل من أبي فراس في هذه الحلبة إذ يقول:

وإني لألقي كل خطب بمهجة

يهون عليها منه ما يتصعب

وأستصحب الأهوال في كل موطن

ويمزج لي السم الزعاف فأشرب

فما الحر إلا من تدرع عزمة

ولم يك إلا بالقنا يتنكب

ومالي أخاف الحادثات كأنني

جهول بأن الموت ما منه مهرب

خليلي ما في أكؤس الراح راحتي

ولا في المثاني لذتي حين نضرب

ولكنني للمدح أرتاح والعلا

وللجود والإعطاء أصبو وأطرب

ومن بين جنبيه كنفسي وهمتي

يروح له فوق الكواكب مركب

وهذا الزمخشري يرى أن المجد مكسوب لا موهوب، فيقول:

(لا تقنع بالشرف التالد، وهو الشرف للوالد، واضمم إلى التالد طريفاً، حتى تكون بهما شريفاً، ولا تدل بشرف أبيك ما لم تدل بشرف فيك، إن مجد الأب ليس بمجد، إذا كنت في نفسك غير ذي مجد، الفرق بين شرفي أبيك ونفسك، كالفرق بين رزقي يومك وأمسك،

ص: 25

ورزق الأمس لا يسد اليوم كبداً، ولن يسدها أبداً)

وهذا ما نسجه أبو العلاء من قبله، إذ أنزل نفسه منازل السادة وأعتز بطارفه قبل تالده:

ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي

على أنني بين السماكين نازل

لدي موطن يشتاقه كل سيد

ويقصر عن إدراكه المتناول

ويقول:

ينافس يومي في أمسي تشرفاً

وتحسد أسحاري على الأصائل

وطال اعترافي بالزمان وصرفه

فلست أبالي من تغول الغوائل

ويقول إذ أصبح بمكان لا يناله غيره، ومن السفاهة أن يساميه فيه من هو دونه:

وطاولتلأرض السماء سفاهة

وفاخرت الشهب الحصى والجناد

ويقول:

إليك تناهي كل فخر وسؤدد

فإبل الليالي والأنام وجدد

وما تواضع أحد إلا ارتفع، ولا سيما عند القدرة على الاستيلاء لهذا قال القائل:

سدت الجميع فسدت غير مسود

ومن البلاء تفردي بالسؤدد

وقال أبو العلاء:

ولو أني حببت الخلد فرداً

لما أحببت بالخلد انفرادا

فلا هطلت علي ولا بأرضي

سحائب ليس تنتظم البلادا

وفي مقابل هذا يقول ابن مصر القاضي ابن سناء الملك:

توقد عزمي يترك الماء جمرة

وحيلة حلمي تترك السيف مبرداً

وإنك عبدي يا زمان وإنني

على الرغم مني أن أرى لك سيداً

أليس ابن سناء الملك سليل الفراعنة الشداد الذين حولوا النيل عن مجراه، ورفعوا الأهرام، وطاولوا الزمن بالبقاء، وضارعوا الخلود بالتحنيط.

وأختصر أبن المولى جميع المؤهلات في كل كلمة واحدة هي (الإسلام) فهو القائل في مدح الحسن بن يزيد:

ولو أن أمراً ينال خلوداً

بمحل ومنصب ومكان

أو بيت ذراه تلصق بالنجم

قراناً في غير برج قران

ص: 26

أو بمجد الحياة أو بسماح

أو بحلم أو في علا ثهلان

هم ذوو النور والهدى ومدى

الأمر وأهل البرهان والعرفان

وهو الذي جعل النبي كالجبل الأشم، ورهطه كالكواكب العالية، وكذلك أمير المؤمنين المهدي وأهله من أصحاب المعالي لأنهم ورثة النبي الكريم:

وما قارع الأعداء مثل محمد

إذا الحرب أبدت عن حجول الكواعب

فتى ماجد الأعراق من آل هاشم

تبحبح منها في الذرى والذوائب

أشم من الرهط الذين كأنهم

لدى حندس الظلماء زهر الكواكب

وإن أمير المؤمنين ورهطه

لأهل المعالي من لؤي وغالب

أولئك أوتاد البلاد ووارثو

النبي بأمر الحق غير التكاذب

ويجري أبو العتاهية في هذا المضمار إذ يرى الزهادة سبيل المجد:

دعني من ذكر أب وجد

ونسب يعليك سور المجد

ما الفخر إلا في التقى والزهد

وطاعة تعطي جنان الخلد

لا بد من ورد لأهل الورد

إما إلى ضحل وإما عد

والفضائل وحدها هي عدة المعالي كما يرى الطغرائي بقوله:

أبى الله أن أسموا بغير فضائلي

إذا ما سما بالمال كل مسود

ولقد قال أحد الخلفاء:

(لأن يضعني الصدق وقلما يضع. . . أحب إلى من أن يرفعني الكذب وقلما يرفع)

وللطغرائي مكانة لامعة بين أصحاب المعالي، حتى أنه ليجعل للعلا حديث صدق، وهو العامل بما تمليه عليه من انتقال وحركة، ففيهما العز، وليس ببعيد على من ولى الوزارة بمدينة إربل أن يأتي بهذه المعاني السامية التي تتدرج بها لامية العجم المشهورة إذ يقول:

أصالة الرأي صانتني عن الخطل

وحلية الفضل زانتني لدى العطل

مجدي أخيراً، ومجدي أولاً شرع

والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل

فيم الإقامة بالزوراء لا سكني

بها، ولا ناقتي فيها ولا جملي

ومنها:

حب السلامة يثني عزم صاحبه

عن المعالي ويغري المرء بالكسل

ص: 27

فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً

في الأرض أو سلماً في الجو فاعتزل

يرضى الذليل بخفض العيش مسكنة

والعز عند رسيم الأينق الذلل

إن العلا حدثتني وهي صادقة

فيما تحدث أن العز في النقل

لو أن في شرف المأوى بلوغ مني

لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل

ومنها:

أعلل النفس بالآمال أرقبها

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

لم أرتض العيش والأيام مقبلة

فكيف أرضى وقد ولت على عجل

غالى بنفسي عرفاني بقيمتها

فصنتها عن رخيص القدر مبتذل

ومنها: تقدمتني أناس كان خطوهمو

وراء خطوي لو أمشي على مهل

علاني من دوني فلا عجب

لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل

فهذا رجل أصيل من أصحاب المعالي، فحسبه أن يحفل بالشمس والحمل وزحل ليتخذ من كل ذلك درعاً للحياة النشيطة العاملة، فعرف قدر نفسه وصانها عن كل رخيص دون. وأمتطي الأمل الفسيح في سبيل الارتفاع، ولم يتخاذل حينما رأى مندونه يتقدمه في مدارج الحياة.

وليس بلوغ المعالي رهين العجلة، فقد يكون التأني سبيل السبق وذلك كما يرى شاعر قديم:

من لي بمثل سيرك المذلل

تمشي رويداً وتجى في الأول.

للكلام صلة

محمد محمود زيتون

ص: 28

‌رسالة شعر

نحو الصباح

للشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري

(مهداة إلى الناقد الكبير الأستاذ سيد قطب)

حيران يقظان يا فؤادي

والناس هانون راقدونا

الليل نحو الصباح جسر

بني الدجى فوق الحصونا

تعبره الكائنات وسنى

بيننا عبرناه ساهرينا

فامش معي يا أبن ذاتي

ولندع القوم حالمينا

لعلنا ندرك الأماني

من قبل أن ندرك المنونا

لا تحسد الناعمين واحسد

بني العذاب المسهدينا

أولاء آباؤهم بنوهم

ونحن من يبتني البنينا

ومن يرم مثلنا طموحاً

هيهات أن يطبق الجفونا

والنوم للخاملين لا لل

مكبلين. . . المعذبينا

لست أبن من أقطع الرعايا

ولا أبن من شيد السجونا

لست أبن العواصف أبن

السيول والنار أجمعينا

أبنك يا شعب يا صباحاً

يستل أنفاسه دفينا

ماذا أرى يا ظلام؟ ركباً

تحت الدياجي محدبينا

حافين عارين لاهثينا

باكين شاكين ضارعينا

وراءهم مارد رهيب=يزرع في الأنفس الشجونا

تقطر جنباه كبرياء

ويغتلي صدره جنونا

تدوس هذي العظام دوسا

كأنه طاحن طحينا

فابك معي موكب الضحايا

يصعد الشجو والأنينا

رواية مثلت قديماً

مخرجها خفرع ومينا

ولم يزل بعد ألف قرن

فرعون يستعبد القروتا

ص: 29

قد سارت الكائنات قدماً

فما لنا نحن جامدينا

ماذا أرى يا دموع؟ قصراً

أراده المجد أن يكونا

حيطانه تلك أم مرايا

من فوق حيطانه جلينا؟

كأن جدرانه الزواهي

سقين بالشمس أو طلينا

يا جنة الخلد في مداه

وحوله تفتن العيونا

إنا عدمناك مشتهينا

كما اشتهيناك عادمينا

لا تقبلي بالنسيم إنا

من نتن الأرض زاكمونا

لا ترقصي للربيع إنا

من ظلمة الكوخ قد عمينا

ماذا أرى يا حياة؟ إني

جننت من حيرتي جنونا

قبران ذا شيد من رخام

تخطف ألوانه العيونا

وذاك في صخرة نحيت

أقسمت ما كاد أن يبينا

هذا عليه الربيع ضاف

يرف ورداً وياسمينا

وذاك يمشي الخريف فيه

يبارك العوسج اللعينا

ويلاه يا عدل. . يا سطوراً

تنطق بالسخريات فينا

حتى أمام الفناء فرق

ميزنا جوهراً وطينا. .؟

يا أمة تعبد التماثيل

والطغاة المتوجينا

أقسمت لا تحملين إلا

منافقين أو كافرينا

فامش معي امش يا رفيقي

مثلي مستغرقاً حزينا

فماسة الصبح قد أشعت

والقوم قد فتحوا الجفونا

محمد مفتاح الفيتوري

ص: 30

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

إلى معالي وزير المعارف:

سيدي الأستاذ

حديث اليوم إليك كلمات تنوء بالألم وتفيض بالمرارة، وما أجدر حديثاً كهذا الحديث أن تنصت إليه بقلبك قبل أن تنصت إليه بإذنك، لأطمئن إلى أنه قد هز منك منافذ الشعور قبل أن يهز منافذ الأسماع!

هذا الألم الذي يلهب القلم في يدي مرجعه إليك، وهذه المرارة التي تلفح الأفكار في رأسي مرجعها إليك أيضاً. . . ومعذرة لهذه البداية الثائرة أو لهذه الصراحة السافرة، لأنها حق (رسمي) تفضلت يوماً فسمحت لي به، وأعربت لي عن تأييدك له، ما دام شاهده الصدق ورائده الضمير!

لقد كنت أنتظر بعد ذلك اللقاء الذي تحدثت فيه إليك ذات مساء ثم طالعت به الناس على صفحات الرسالة، أنك ستقف من الأدب والأدباء نفس الموقف الذي وقفته من التعليم والمعلمين: عناية ورعاية، وتأييد واهتمام، وعطف على كل أمل مظلوم وكل حق مهضوم. كنت أنتظر هذا كله وينتظره معي الناس، ولكن الأيام تمضي وعجلة الزمن تدور، وأنت مشغول عن تلك الحقوق والآمال. . . وتذهب مع الريح كل صرخة جازعة، ولهفة ضارعة، وكل أمنية جميلة كان لها في النفوس وقع وفي القلوب مكان!

أليس عجيباً حقاً أن تشغل عن حقوق فئة تجمع بينك وبينها قرابة الروح، وعن آمال طبقة تربط بينك وبينها صلات الأدب؟! صدقني إذا قلت لك إن عجب الأدباء لا ينتهي، وإن أسفهم لا ينقضي، وإن كل مظلوم بينهم قد بات ينظر إلي وهو يردد قول الشاعر القديم:

وأرى الأيام لا تدني الذي

أرتجي منك وتدني أجلي!

أتحب يا سيدي أن تسمع قصة واحد من هؤلاء المظلومين في عهدك؛ عهدك الذي ترقبوه كما يترقب الممحل قطرات الغيث، وتلقوه كما يتلقى الغريق أسباب النجاة، وعاشوا على الأمل فيه كما يعيش المحروم على حرارة الرجاء؟!

إن لدى بضعة أسماء أود أن أقدمها إليك، ولكني أكتفي اليوم بتقديم اسم واحد هو على

ص: 31

التحقيق شهيد هذا الأسبوع. . هذا الاسم الواحد هو النموذج الصارخ الذي يشير إلى غيره من النماذج، أو هو المثل الواضح الذي يدل على غيره من الأمثال، وأستمع يا سيدي لقصة هذا الشهيد:

شاب من هؤلاء الشباب المخلصين لنشر التراث العربي القديم: يسعى إلى نوادر مخطوطاته في كل مكتبة هنا وكل مكتبة هناك، ويمنحها من وقته وجهده وماله فوق ما يحمل طوق أمثاله ممن يجودون في سبيل العلم بالوقت والجهد والمال. . عمل جليل كما ترى، ومع ذلك فقد ظلمته وزارة المعارف حين نسيت جهده أو تناسته، أو حين جهلت قدره أو تجاهلته! ظلمته حين وضعته في مكان غير مكانه، هناك حيث ترهق الأعصاب وتخور الهمم وتخمد الأنفاس، وهناك حيث قدر له أن (يلقن) أطفالاً أكثرهم من أبناء الأجانب (مبادئ) القراءة والكتابة باللغة العربية. . أرأيت يا سيدي الأستاذ؟ أرأيت كيف تجبر وزارة المعارف أديباً على أن يقضي أكثر وقته مع (أطفال) يقوم منهم نطق اللسان، ثم لا تتيح له من هذا الوقت إلا أقله ليقضيه مع (رجال) من طراز أبي الفرج أو أبي حيان؟!

لقد قضت وزارة المعارف أن ينفق الأستاذ السيد أحمد صقر سبع سنوات من عمره في مدارس الليسيه الفرنسية. . وكأنما أرادت بعد هذا العمر الطويل أن تكافئه على ما قدم من جهود وما بذل من تضحيات، فأمرت منذ أيام بنقله إلى أقاصي الصعيد ليستقر مرة أخرى بين أطفال مدرسة (كوم أمبو) الابتدائية! أعذرني يا صاحب المعالي إذا تعثر القلم في يدي وتنزت الأفكار في رأسي واستحالت الكلمات إلى صرخات: من المسئول أمام الله حين تفرق وزارة المعارف بين هذا الأديب وبين أولاده الصغار الذين يتعلمون في مدارس القاهرة، وهو يقوم منهم مقام الأب والأم التي فارقت الحياة وتركتهم وديعة بين يديه؟! ومن المسئول أمام التاريخ - تاريخ الأدب على الأقل - حين يلقى الأدباء على يد وزارة المعارف مثل هذا الغبن ويتعرضون لمثل هذا الهوان؟! إن الحياء يمنعني من اتهامك، ولكن الحق يدفعني إلى هذا الاتهام. لماذا؟ لأنك لو شملت الأدباء بعطفك، وأفضت عليهم من برك، وقربتهم منك حتى تعرف من منهم مهضوم الحق ومن منهم مظلوم المصير، لما أهملت وزارة المعارف شأنهم وجحدت فضلهم وتركتهم نهباً لمتاعب الأيام. . من هنا يا سيدي - وأغفر للشعور ثورته وللقلم جرأته - تأتي مسئوليتك أمام الله وأمام التاريخ، لأنك

ص: 32

في الطليعة من هؤلاء الذين يعنيهم هذا القول الكريم: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته!!

ماذا أقول لك يا صاحب المعالي بعد هذه الكلمات؟ أقول لك إن هذا الأديب يجب أن ينصف وأن يوضع في مكانه. . إن مكانه هناك في دار الكتب، أو في مجمع اللغة، أو في تلك الإدارة التي تسميها وزارة المعارف (إدارة نشر التراث القديم) أقسم لك إنها تسمية ظالمة؛ ظالمة لأن تلك الإدارة موجودة حقاً ولكنها لا تفعل شيئاً. . وتسألني لماذا فأقول لك: لأن الذين يصلحون لها ويستطيعون أن ينهضوا بها قد قدر لجهودهم أن تذهب هباء مع الريح، بين مدرسة فرنسية هنا ومدرسة مصرية هناك!

يا سيدي رحمة بالأدب ورفقاً بالأدباء، ومعذرة لهذه الكلمة الثائرة لك لا عليك، وحسبك منها أن شاهدها الصدق ورائدها الضمير!!

بين شوقي والرصافي:

أعرف فيك إخلاصك للفن، وصدقك في النقد، وجرأتك في الحق، وترفعك عن المجاملات. . . ولهذا كله أود أن أعرض عليك هذه القضية الأدبية التي أوغرت على الصدور في العراق وأثارت من حولي ضجيج الأقلام! أود أن أعرضها عليك لتشارك فيها برأيك، هذا الرأي الذي أحتكم إليه لينصفني أو لينصف غيري من المعترضين والمتهجمين:

لا شك أنك تذكر أنني كتبت في الرسالة الغراء بضع مقالات أبديت فيها رأيي حول شعر الشاعرين: شوقي والرصافي. . ولقد قلت إن شوقي قمة شامخة من قمم الشعر في العربية، وإن الرصافي لا يمكن أن يلحق بغباره مهما قال القائلون، لأن شوقي شاعر العبقرية والرصافي شاعر القريحة، وشتان بين المطبوعين على قول الشعر وبين النظامين!

قلت هذا فهاجمني بعض الأدباء هنا على صفحات الصحف وهاجمني البعض الآخر بالرسائل واللسان، وهاأنذا أنقل إليك ألوانا من هذا الهجوم الأخير:

كتب إلي صديق من (الموصل) يقول: (إنك قد تجنيت على الرصافي حين فضلت عليه شوقي، لأن الرصافي أشعر من شوقي ولأن المصريين يسوؤهم أن يؤمر عليهم شاعر عراقي، ولذلك أهملوه. . ولولا أنني أعرف نزعة (الرسالة) الإقليمية لكتبت رداً عنيفاً حول هذا الموضوع، ولكنني أعرف الناس بأنانية المصريين! ولهذا فأنا عاتب عليك تفضيلك شوقي على الرصافي وأنت شاعر عراقي)!

ص: 33

وكتب إلي أديب آخر من (البصرة) يقول: (ما كنت أحسب أن المجاملة للمصرين تصل بك إلى هذا الحد الذي تفضل فيه شوقي على الرصافي! ترى هل أنت مصري أم عراقي؟ وكيف تزعم أن شوقي أعظم من الرصافي؟ والله إن ذلك ليسوؤني منك. . ولولا أنني أخاف ألا تنشر الرسالة ردي لبعثت إليها بهذا الرد في المفاضلة بين الشاعرين)!

وقال لي أحد الشعراء العراقيين في معرض الحديث عن مقالاتي حول شوقي والرصافي: (إنني أعجب منك يا أستاذ، لأنك تريد أن تنال الشهرة بواسطة مصر، ولهذا لم تجد طريقة سوى أن تحطم الرصافي لترفع من شوقي! لا يا أستاذ! إن الرصافي عظيم عظيم حتى لا يفضل عليه أحد)!

وهكذا كان أسلوب النقد الذي وجه إلي من الأدباء والشعراء. . وبقي أن نسمع رأيك الفاصل في المشكلة، رأي الكاتب الحر والناقد النزيه.

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

أنا والله في حيرة من أمر الأدباء العراقيين؛ إذا تحدث ناقد مصري عن أديب مصري صاح أكثرهم فيما يشبه الغضب والعجب والاستنكار: نزعة عنصرية وعصبية إقليمية! وإذا سكت الناقد المصري وأحتل مكانه في التحدث عن الأدباء المصريين ناقد عراقي، صاح أكثرهم مرة أخرى فيما يشبه التأنيب والتثريب: متنكر للعراق ومجامل لمصر وكافر بالقيم!

ونحن بعد ذلك في رأيهم أنانيون متعصبون، نحيد عن الحق ونميل مع الهوى حين تحدد للأدب المعايير وتقام الموازين!

ومن العجيب حقاً أن يوجه إلينا مثل هذا الاتهام وما أكثر ما نفيناه، مقدمين الدليل القاطع والبرهان الناصع على أننا فوق الظنون والشبهات، ويا ظالماً حاربنا تلك العصبية البغيضة على صفحات الرسالة، ودعونا إلى نبذها بالقلم واللسان، ورفعنا الصوت عالياً بأن ليس في الأدب والعلم والفن مصري ولا عراقي، وإنما هناك كلمة واحدة نعتز بها ونطالب بأن تكون لنا خير شعار وعنوان. . هذه الكلمة الواحدة هي أن تنتسب جميعاً إلى (العروبة)

ص: 34

التي تشمل هذا الوطن الكبير، وتنثر ظلالها السمحة على كل اسم من أسماء أهل الأدب والفن هنا وهناك!

قلنا هذا وكررناه، حتى مللناه! ومع ذلك فالأدباء العراقيون غير راضين ولا مقتنعين، حتى نسبح بحمدهم ونشيد بذكرهم ونقيم لأدبهم المعابد والمحاريب. . وإن لم نفعل فالويل لنا من ألسنتهم وأقلامهم، والويل كذلك لكل عراقي يشير إلى الأدب المصري من بعيد أو قريب! من يصدق بعد هذا كله أننا أصحاب تعصب وأنانية أو أصحاب أهواء وأغراض؟! ألا فليرجعوا إلى كلماتهم التي وجهوها إلى الأستاذ الناصري وليراجعوا أنفسهم ليعلموا - إذا أنصفوا الحق والواقع - إلى أي فريق يجب أن يوجه الظن أو يقدم الاتهام!

وأعود إلى الأستاذ الناصري لأقول له إن فكرة المقارنة بين الشاعرين (العربيين) باطلة. . باطلة في رأي الحق والذوق والمنطق السليم! إن المقارنة مثلاً بين شوقي والمتنبي أو بين شوقي وأبن الرومي أو بين شوقي وأبي تمام شيء معقول ومقبول. . معقول لأن الطاقات الفنية هنا متقاربة، ومقبول لأن الملكات الشعرية هنا متشابهة، (معدنها) واحد وإن اختلفت مظاهرها تبعاً لاختلاف الذوق بين (الصائغين)! لهذا كله أقبل المقارنة بين شوقي وهؤلاء وأطيق المفاضلة، أما أن يقارن بين شوقي والرصافي فهي المقارنة بين النهر الكبير والجدول الصغير، أو بين الذهب والقصدير. . وليغفر لي الأدباء العراقيون (ضعف) الملكة الناقدة أو (غلبة) العصبية الإقليمية!!

ولا حيلة لي بعد ذلك فيمن ينكرون شوقي ويعترفون بالرصافي وأمثاله من الشعراء، إنهم أشبه بذلك الذي يذهب إلى سوق الفاكهة فتقع عينه على الكمثرى والتفاح ثم لا تقع يده إلا على الجميز والجوافة. . أمثال هؤلاء لا ينتظرون مني جدلاً ولا مناقشة، لأنني لا أطيق أن أناقش أذواقاً تجهل فنون الطعم والمذاق، حين تعرض عليها أنواع الفاكهة في كل سوق من الأسواق!!

شاعر يودع الحياة:

كنت أقرأ شعره فأعجب به وأثنى عليه، ومن أضواء هذا الشعر وظلاله رسم له الخيال على لوحة الشعور صورة إنسان، إطارها الحس المرهف والفكر النقم والشجن المقيم. . لم أكن قد رأيته بعد، وحين رأيته عدت إلى الصورة التي رسمها الخيال فلم أجد فارقاً بينها

ص: 35

وبين الصورة التي رسمها الواقع: كلتاهما تنقل عن الحياة ألوانها الحزينة القاتمة، تلك الألوان التي تترك أثرها العميق في قسمات الوجه ونبرات الصوت وطريقة الأداء. . . وهكذا لقيت الشاعر المصري الراحل، صالح شرنوبي رحمه الله!

قال له أحد الأصدقاء الأدباء إنني أذكر شعره بما يرضي الحق ويرضيه، وإذا هو يسعى إلى ذات مساء ليقدم إلى شكره بعد أن قدم إلى نفسه، في صوت يقطر حياء ورقة؛ حياء الإنسان ورقة الفنان. . وحين أكدت حرارة اللقاء صدق ما بلغه متن ثناء، تبسط اللسان الحيي وتهلل الوجه الحزين، وأنطلق الشعور الملتاع يقص علي فصولاً من رواية طويلة، كتبها بمداد الشجن تجهم الحياة وعقوق الناس!

وودعت صالح شرنوبي في تلك الليلة. . ودعته وأنا أؤكد له سروري بلقائه، وأكرر له إعجابي بشعره، لتطمئن نفسه إلى أن له عند الحرصاء على القيم مكاناً في الأدب العربي الحديث!

ومضت الحياة بصالح شرنوبي حتى علمت يوماً أنه قد حورب في رزقه، حين فصل من عمله في إحدى المدارس الأجنبية وكان يحصل منه على أجر زهيد. . فصل من عمله كما قيل لي، لأنه كان كريماً على نفسه فلم يرض لها أن تضام، ومخلصاً لمصريته فلم يرد لها أن تهان؛ ومن هنا ثار على القائمين بأمر المدرسة دفاعاً عن كرامة وطنه. . وطنه الذي لم يلتفت يوماً إلى حقه عليه كأديب أو حقه عليه كإنسان!

وتناولت القلم لأعرض مأساته على الدكتور طه حسين، باشا ولكن معاليه كان قد غادر مصر إلى فرنسا فأمسكت القلم عن الكتابة إلى حين. . ويعود الوزير الأديب إلى أرض الوطن وأوشك أن أتناول القلم مرة أخرى لأتحدث إليه، ولكن صالح شرنوبي يعفيني من أداء هذا الواجب، ويودع الحياة والأحياء ويمضي في طريقه إلى لقاء الله. . فإلى قبره في ذلك المكان المقفر حيث قدر لهذا الجسد المكدود أن يستريح، أقدم عزاء القلب ورثاء القلم!. .

أنور المعداوي

ص: 36

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

وفاة شاعر ومباهج شعراء

دعا جماعة من الشعراء، يوم الجمعة الماضي، إلى ندوة شعرية ينشدون بها في (مباهج الصيف) بحديقة جمعية الشبان المسيحية، وكان بين هؤلاء الشعراء الذين سيقولون في المباهج أسم الشاعر صالح الشرنوبي، ولكن الأقدار أبت على الطائر الذي ظل حياته كسير الجناح أن يذهب إلى فننه ليغرد، وشاءت أن تصنع مفارقة في مجال الشعر والأدب، فقد نشر نعي الشاعر في نفس العدد (من الأهرام) الذي نشر به أسمه مع شعراء الندوة!

عرفت الأستاذ صالح الشرنوبي من نحو عام، لقيته أول مرة في إحدى الأمسيات بندوة (الرسالة) ولقيته بعد ذلك بضع مرات، وقرأت له شعراً أطربني، لمست في شخصه روح الإنسان وأنس الأديب، ورأيت في شعره روعة الفن وصدق الأداء ولمحت فيه رقة الحال المستترة بالتجمل، ويخيل إلي أنه كان يتجمل بالشعر. . كان يعيش بقصائده التي تعمر جيبه. . ولم يكن يشعر أحداً بحاله، فقد كان من البؤساء المتعففين، فلم يثر جلبة حوله، وكان حيياً متواضعاً، إن ذكر شعره بالثناء خجل وأبدى شكره في تواضع عذب.

إنسان رقيق النفس ورقيق الحال، عاش وديعاً موادعاً، ومر بأصدقائه ومعارفه مرور النسمة اللطيفة، وكان في مصر. . ومع ذلك برز أسمه بين الشعراء!

ويظهر أن شدة الأيام قد استحت من طول محاسنته، فحاسنته، وأخذت به منذ شهور إلى مكان في تحرير جريدة الأهرام. وأخيراً أراد أن يتغنى بين إخوانه الشعراء بمباهج الصيف، ولكن الموت عاجله، فخلى مكانه في الندوة، وكان موته حرياً أن يحيلها كلها إلى حزن وحداد، ولكن الشعراء - سامحهم الله - منحوه نصف ساعة ذكروه فيه على عجل، ثم أسرعوا إلى مباهجهم منشدين!

بدأت الندوة بكلمة من الأستاذ خالد الجرنوسي، رثي فيها الفقيد وعبر عن أساه لفقده، وألقت الآنسة روحية القليني أبياتاً في رثاء الشاعر، كما ألقى الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي قصيدة رثاء أيضاً كانت أحسن ما قيل في الندوة، ووقف خطيب لم يعلق اسمه بذاكرتي فارتجل كلمة كنا نسامحه على ما جاء فيها من أخطاء وما لابسها من فهاهة لولا أنه ألقى

ص: 37

أبياتاً من قصيدة للشاعر الفقيد فأقض مضجعه وآلم روحه بما أرتكبه فيها من تكسير وتشويه!!

والأبيات تنتهي بهمزة مكسورة، فبلغت الجناية مبلغها حينما كان يقلب القافية على أوجه الإعراب المختلفة من رفع ونصب وجر.

ومما قاله ذلك الخطيب أن الشاعر مات ولم يحن حينه (بفتح الحاء) يقصد أنه مات في شبابه قبل الأوان. . وكنت أغض عن هذه الزلات لولا أننا في ندوة شعراء يقصدها الناس ليستمعوا إلى ما يلقى فيها وقد يأخذون عن أصحابها.

ومن تلك الزلات أن الأستاذ خالد الجرنوسي أثنى على الشاعر الكبير السيد حسن القاياتي الذي كان (ضيف الشرف) في الندوة، فخاطب الحاضرين قائلاً عنه: هذا الماثل أمامكم ولم يكن السيد القاياني واقفاً بل كان جالساً على كرسي. .

وتكلم مدرس بكلية أصول الدين، قدم على أنه سيعقب على الندوة فقال إن مشاركة الآنسة روحية قليني في الندوة تذكر بالشاعرة (الفحلة) الخنساء. . والفحولة هي الذكورة، بل الذكورة العارمة، وقد استعملت مجازاً في الشعر لدلالتها على القوة والاقتدار، فهل يستساغ أن توصف بها الأنثى؟ على أن وصف الشاعر بأنه فحل أصبح غير مقبول في الذوق العصري.

وكنت أود أن يؤثر شعراء الندوة حسن الذوق على رغبتهم في إلقاء ما أعدوه في مباهج الصيف، فإما أن يجعلوا الندوة كلها في الرثاء أو يكتفوا بما تيسر منه ويفضوها. .

ولكن يظهر أن تلك الرغبة عارمة في نفوسهم، فاستسلموا لشهوة الإلقاء، وجانبوا ما يليق، فراحوا يتحدثون عن البحر والأمواج والجمال والأزهار والتفاح والرمان. .

رحم الله الفقيد وغفر لإخوانه الشعراء.

أدباء الثقافة بوزارة المعارف:

في الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف طائفة من الأدباء بعضهم من المعروفين لجمهور القراء بأقلامهم وإنتاجهم وبعضهم متأدبون ذوو ثقافة واطلاع. وهم هناك في وضعهم الملائم من حيث قدرتهم وخبرتهم وثقافتهم التي تتطلبها أعمال الإدارة في الشؤون الثقافية المختلفة، فهناك مثلاً من يقرؤون الكتب التي تقدم للتقرير في مكتبات المدارس لإبداء

ص: 38

الرأي في صلاحها لهذا العرض، وهناك من يترجمون الكتب التي يقع عليها الاختيار، وهناك من يحررون السجل الثقافي الذي يصدر سنوياً مبيناً نواحي الثقافة العامة في البلاد المصرية معرفاً بما يصدر فيها من مؤلفات ومترجمات وما بها من جمعيات وأندية ومعارض ومتاحف. الخ

وقد تولى الإشراف على هذه الإدارة منذ إنشائها أساتذة من كبار الأدباء، منهم طه حسين وأحمد أمين وفريد أبو حديد، والأول هو منشئها وصاحب فكرتها، وقد اختير لها في أوائل هذا العام الدكتور سليمان حزين بك الذي كان أستاذاً للجغرافية بجامعة فاروق، وهو وإن لم يكن معروفاً بإنتاج أدبي إلا أنه في السنوات الأخيرة شارك في النشاط الثقافي العام بأحاديثه وتعليقاته في الإذاعة وبعض الأبحاث الأخرى.

ومن المعروف أن الأعمال الأدبية والثقافية تحتاج إلى مزاج رائق وراحة شعورية موفورة، فأهلها يستهلكون أعصابهم ويعتصرون أفكارهم.

لهذا جرى الأمر في إدارة الثقافة على أن يتاح لموظفيها الفنيين شيء من الحرية في مواعيد الحضور والانصراف وخاصة أن بعضهم تقتضي طبيعة عمله انتقاله إلى هنا أو هناك للاتصال بالهيئات الثقافية، ومنهم من يؤثر إنجاز ما لديه في منزله.

وبعض الناس حينما يرون ذلك يظنون أن أولئك الموظفين لا عمل لهم. . وقالت بعض الألسنة الطويلة إن إدارة الثقافة (تكية) للأدباء! وقد زين لكثير من المدرسين أن يلجئوا إليها فأرهقوا الوزراء والكبراء بطلب الوساطات. .

ويظهر أن الدكتور سليمان حزين بك مدير الثقافة العام، تأثر بتلك الأقاويل. . ويظهر أيضاً أن بالقرب منه موظفين تقصر بهم الأسباب الطبيعية دون الغايات المرموقة فيحاولون أن يصطنعوا أسباباً أخرى من الملق والإيقاع بمن ينفسون عليهم. . . زين هؤلاء للدكتور حزين أن يغير الوضاع المألوفة في معاملة الفنيين، واستغلوا في ذلك رغبته في أن ينفي عن الإدارة ما ترمي به من التقصير ومما يدل على هذه الرغبة قوله: أنه يريد أن يغير سمعة الإدارة إلى النقيض حتى لا يرغب فيها المدرسون، فيخف الضغط على الوزراء!

وعلى ذلك جعل الدكتور حزين بأخذ أدباء الثقافة بالشدة ويعاملهم بالحرفية في مواعيد الحضور والانصراف وأتخذ في ذلك وسائل جاوز فيها عماله المدى اللائق، فقد حدث مثلاً

ص: 39

أن صعد سكرتيره إلى بعض الحجرات فوجد حجرة خالية بها ثلاثة مكاتب لثلاثة من الأساتذة الموظفين، وكان واحد منهم يتحدث بالتليفون في حجرة أخرى، والثاني يقف في الردهة، والثالث في المرحاض، فأغلق السكرتير الحجرة الخالية لأن موظفيها ليسوا على مكاتبهم. . وذهب بالمفتاح إلى سعادة المدير العام، فحكم على العمل أن يظل معطلاً بقية اليوم. .

ونحن مع الدكتور في رغبته المحمودة أن يدفع عن إدارة الثقافة ما ترمي به من التقصير، ولكنا نخالفه في الطريقة.

الواقع أن أدباء الثقافة لا يستخدمون في تحقيق الأغراض الثقافية المنشودة كما ينبغي، ولكن ليست الوسيلة أن يحضروا في الثامنة صباحاً وينصرفوا في الثانية بعد الظهر، وأن تغلق حجراتهم ليشربوا قهوة لدى المدير العام، إنما الوسيلة الصحيحة أن ينظم العمل الفني وتذلل عقباته وتوضع المشروعات الثقافية التي تستغل فيها جهود أولئك الفنيين، والدكتور حزين بك أستاذ موفور النشاط، ويمكن أن يكون نشاطه مجدياً لو وجه طاقته إلى معالجة المسائل الثقافية وتوجيه الجهود إلى الإنتاج الذي يرفع شأن الإدارة ويدفع عنها ما تعاب به، فهناك مثلاً التراث الثقافي المعطل، والذي يتمثل في عشرة كتب مخطوطة دفعت الوزارة ثمنها لمحققيها، ثم حكم عليها بالحبس! وهناك - مثلاً أيضاً السجل الثقافي الذي شعرت البيئات الثقافية في مصر والخارج بفائدته، وأبدى الجميع أرتياحهم إليه، هذا السجل صدر منه عددان عن سنتي 1948، 1949 ولا يزال سجل 1950 واقفاً ينظر إلى الميزانية وينتظر أن يسمح بالأخذ في إجراءات طبعه وقد أوشكت سنة 1951 أن تنتهي. . وقد صدر كل من السجلين الأولين في أوائل السنة التي تلي سنته وكان ذلك في الوقت الذي لم يكن فيه أحد يقول لمحرريه: لماذا تأخرتم وأين كنتم!

والدكتور حزين بك أستاذ جامعي، والذي يليق به أن يهتم بالبحث الثقافي ويتبادل الرأي مع من يعملون معه من الأدباء بقية الوصول بالأعمال الثقافية إلى أهدافها المقصودة، وقد بدأ استعداده لذلك حينما دعا الموظفين الفنيين إلى الاكتتاب لإقامة حفلات شاي، وقد توالت هذه الأكتتابات، وأقيم بعض الحفلات، ولكن لم يحدث فيها سوى تناول الشاي وبعض الحلوى، فلم يتحدث في موضوع، ولم يجد تعارف، فالجميع زملاء يعرف بعضهم بعضاً من قبل،

ص: 40

وكان كل جماعة في حجرة والمدير العام في حجرة أخرى مع بعض الخاصة والزائرين، ولعل حفلة الشاي المزمع إقامتها قريباً تكون اكثر جدوى من حفلات الشاي السابقة.

إن كل ما نبغيه أن تكون إدارة الثقافة بوزارة المعارف أداة فعالة في حركة البلاد الثقافية، والسبيل الذي نراه لذلك أن نستغل الطاقات في الإنتاج. بدلاً من استهلاكها في مراعاة المراسيم والشكليات.

عباس خضير

ص: 41

‌الكتب

نماذج فنية من الأدب والفن

تأليف الأستاذ أنور المعداوي

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

الأستاذ أنور المعداوي الكاتب المصري المعروف غني عن التعريف فهو ناقد فذ وأديب ممتاز ومن طلائع المثقفين القلائل في البلاد العربية، وأقول القلائل لأننا لو أحصينا الأدباء الذين جمعوا بني الثقافتين الشرقية والغربية وأطلقنا عليها أسم المثقفين كما تدل عليها كلمة الثقافة من معنى لوجدناهم من القلة بحيث لا يذكرون تجاه الأغلبية الساحقة من المتأدبين أشباه المثقفين وأنصاف الكتاب.

عرفه قراء الرسالة الزاهرة منذ سنوات في تعقيباته التي أعجبت كل أديب كما عرفه النقاد الموجودون الآن بين ظهرانيناً فإذا به يختلف وعدم التحيز لصديق أو قريب ومهاجمته الكثيرة من شيوخ الدب الذين يشطون فيما يكتبون:

وقال قائل منهم عنه (إنه عامل هدم في الحياة الأدبية لا عامل بناء) لماذا (لأنه منذ أن تناول قلمه ليكتب تحول القلم في يده إلى معمول ثائر، معول متعصب تنصب ثورته على بعض القيم والأوضاع!)

ولكنه وهو المارد الجبار الذي نذر نفسه ليغير من مناهج النقد القديمة البالية لم يبال بهذا الكلام الفارغ الذي يلقيه على عواهنه من لهم نصيب ضئيل من الثقافة أو من الذين لم يثبتوا أقدامهم في مواضعها؛ راح يكتب ويكتب بكل جراءة وصرامة غير ملتفت إلى نعيب الغربان ونقيق الضفادع، حتى مضت أشهر وإذا اسمه على كل لسان وإذا شهرته تسبقه في كل بلاد تشرق عليها من بلاد الشرق العربي، وإذا هو بين عشية وضحاها معروف وأثير لدي الجميع، وإذا يريد الرسالة يتلقى كل يوم عشرات الرسائل وكلها موجهة إليه، ليعقب على هذا المقال أو يجيب على ذلك السؤال أو يوجه ويرشد أو ينقد ليدل على مواضع القبح والجمال وكنت أحد الذين يقرؤون للأستاذ المعداوي وأحد الذين يعجبون بآراء المعداوي وأحكامه في عالم النقد والأدب، وقد شاء ربك أن تتصل الأسباب بيني وبينه، فإذا

ص: 42

بنا نصبح من أول مراسلتنا أصدقاء، ولا عجب فالأدباء إخوان وأقارب تجمعهم رابطة الفن قبل رابطة الدم والقرابة. ورحم الله أستاذ الشعراء حيث يقول:

إن يكد مطرف الإخاء فإننا

نغدو ونسري في إخاء تالد

أو يختلف ماء الوصال فماؤنا

عذب تحدر من الغمام واحد

أو يفترق نسب يؤلف بيننا

أدب أقمناه مقام الوالد

وأمضى أنا إلى باريس ومن باريس أكتب إليه ثم أعود لأشكو له مأساتي فإذا به يقف مني ذلك الموقف المشرف النبيل الذي يفسد عليه صداقة الوزير في سبيل الأدب، وفي سبيل إنصاف شاعر، وآنذاك تتجلى لي أخلاق المعداوي على حقيقته أخلاق سافرة للعيان، وإذا به قلب كبير وروح مثالية تضحي بكل شيء في سبيل الأدب، ومن ذلك الوقت وأنا لا أشك بأن أحكامه في الأدب والنقد والفن لا تصدر إلا عن دراية وثقافة وحق وخبرة واطلاع، ثم تمر الأسابيع وإذا ببريد الكنانة يحمل لي من الصديق الحبيب كتباه الثمين الذي رسمت به هذا العنوان. والكتاب من الحجم الكبير يقع في (250) صفحة طبعته لجنة النشر للجامعيين على نفقتها الخاصة، وقد تصفحته بإمعان فإذا يحتوي على (40) مقالة في مختلف الفنون و (10) منها عن نقد الكتب. . وقد قلت إن تلك الصفحات الفذة في تاريخ النقد في مصر والتي ضمنها الكتاب قد نشرت في مجلة الرسالة الغراء، واطلع عليها القراء في جميع البلاد الناطقة بلغة القرآن، ولكن يسرني أن أشير في هذه الكلمة العاجلة إلى بعضها.

أسلوب المعداوي في هذا الكتاب وفي جميع ما يكتب رصين سهل: لفظ رقيق وديباجة جزلة أنيقة، وهو كما قال فيه أستاذنا الزيات بك في افتتاحيته العظيمة عدد 948 من الرسالة.

(أسلوب المعداوي كما تراه في كتابه من الأساليب التي جاء فيه التأليف بين المعنى واللفظ جارياً على سنن الفن الصحيح؛ فالتفكير قوي عصي حار، والتعبير دقيق أنيق نهذب)

أما آراؤه فناضجة قويمة تقوم على العقل والعاطفة والتجربة والاطلاع، فمن مقالاته التي تغلب عليها العاطفة وأناقة اللفظ حتى لتنسيك نفسك وتأخذك إلى عالم الكاتب والسطور، (شاعرية مصرية تودع الحياة) و (من الأعماق) ولتقف لحظة لنقرأ مرة أخرى قوله في من

ص: 43

الأعماق) ص164.

(وأبداً لن ينسى يا دار هواه، يا من كنت وحي قلمه ومهبط إلهامه وحديث أمانيه. . لن ينسى حين غاب عنك أياماً ثم ذهب ليرى أهلك في آخر يوم من رمضان، ملء يديه كما كان بالأمس زهر، وملء عينيه أمل، وملء قلبه حب، وملء نفسه دنيا من الأحلام. . لقد كنت يا دار واجمة، كئيبة، يمرح في جنباتك الصمت، ويطبق السكوت! أين يا دار من كانت تفتح له أبواب الشعور بالدنيا على مصاريعها؟ أين. . أين. . الخ. .)

فأنت إذ تقرأ هذه السطور تحس كما لو كنت أنت صاحب من الأعماق أيا جئت إلى دار الحبيبة لتزورها فإذا بالدار واجمة، والأهل صامتون والدنيا مظلمة وكل شيء ينطق بالموت، بالخراب، بالدمار. . ورحمة الله على صاحبه ذلك القلب الكبير. . . وعزاء للصديق المفجوع بأعز أمانيه. .

ومن تلك الآراء التي أوافق عليها موقفه (حول مشكلة الفن والقيود) ص16 و (حول مشكلة الأداء النفسي) ص39 و (الفن والحياة) ص85 و (رأي في كتابة القصة) ص172 و (بيتان لجميل بثينة) ص175.

وأكثر آرائه في القسم الثاني من الكتاب بعنوان (كتب في الميزان) من ص179 إلى ص247. اللهم إلا رأيه في أبيات عمر أبو ريشة:

أتريد الوجود، منهتك يرينا أسراره عريانا

ويفض الفدام عن قلبه السمح

ويجريه للعطاش دنانا

لو بلغنا ما نشتهي لرأينا الله

في نشوة الشعور عيانا

وأبيات محمد مهدي الجواهري:

على الحصير وكوز الماء يرفده

وذهنه ورفوف تحمل الكتبا

أهوى على كوة في وجهه قدر

فسد بالظلمة الثقبين فاحتجبا

فأنا أخالفه. . فهو يعتبر أبيات عمر أبو ريشة عادية لا حس فيها ولا حركة، وأبيات أو بيتي الجواهري من الفن الأصيل الذي يهزه ويهتز لها صاحب (تحت المبضع)، فأنا بالرغم من الذين يقدرون موسيقى اللفظ وقوة السبك وأصالة الديباجة لا أظن أن شعر الجواهري مهما سما يصل إلى أخيلة أبو ريشة. ولما كنا في صدر الكلام عن الأبيات

ص: 44

المتقدمة فإن الجواهري لولا بيته الثاني:

أهوى على كوة في وجه قدر

فسد بالظلمة الثقبين فاحتجبا

لما بقي جمال أو معنى لبيتيه. .

كما أخالفه مرة أخرى في رأيه بقصة الأستاذ أحمد الصاوي محمد (زوجات) فأنا أعد الصاوي في كل ما ترجم وألف واقتبس لا أثر له في التوجيه أو الإرشاد اللهم إلا إثارة غرائز الشباب باسم الفن والأدب.

وختاماً فإن كتاب الصديق الأستاذ المعداوي في هذه الأيام التي طغت فيها موجة السياسة على الأدب وكثر التهريج والتزمير باسم النقد. ليعد اللبنة الأولى في صرح بناء النقد الحديث على ضوء العلم والفن والتروي. . فهنيئاً للمكتبة العربية بهذا المؤلف النفيس. . وتحية صدق وإعجاب لمؤلفه. . وألف شكر على هديته الثمينة

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 45

‌البريد الأدبي

حول الثقافة المصرية في السودان:

إلى حضرة الأخ الفاضل الأستاذ عباس خضر

أرفع إليك تحية طيبة وتقديراً عظيماً وإعجاباً كثيراً بما تقدمه لقراء الرسالة الزاهرة في باب (الفن والأدب في أسبوع) من مقالات شيقة نافعة، وأشكر لك هذه اللفتات الكريمة التي تخص بها إخوانك أبناء جنوب الوادي من حين إلى حين، هذا وقد دعني إلى كتابة هذه السطور إليك ما نشرته لك الرسالة في العدد (949) تحت عنوان:(الثقافة المصرية في السودان) وأستطيع أن أعتبر موجزاً في قولك (وليت وزارة المعارف تخرج عن تلك الرسمية المقفرة فتختار بعض الأدباء المعروفين بآثارهم القلمية الناضجة ليشاركوا في موسم المحاضرات المصرية بالسودان فتتيح لأهله أن يروا الوجوه التي يقرئون لأصحابها ويصلوا ما يقرئون بما يسمعون. .) وأستطيع أيضاً أن أؤكد لك يا سيدي الأستاذ أن هذه هي الرغبة الحقيقية لكل أديب هنا بل رغبة كل قارئ وقارئة في السودان من الذين يتتبعون الحياة الفكرية في مصر.

ومع أننا قدرنا للفاروق العظيم ولمصر إرسال تلك البعثات واستفدنا من كل الأساتذة المصريين الذين حاضرونا وعلى رأسهم الأستاذ الجليل الدكتور محمد عوض بك، إلا أننا نقرر للحقيقة ونقرر تأييداً للغتك البارعة التي سبقت الإشارة إليها أن مجرد ذكر اسم الأستاذ العريان في بعثة العام الماضي أحدث دوياً شديداً وتطلعاً عظيماً لرؤية هذا الرجل الذي عرفه السودان علماً من أعلام الأدب منذ نيف وعشرين عاماً وكانت محاضراته من النوع الذي ننشده فعلاً، ونتعطش إلى سمائه ولا سيما وأنه أعاد لنا ذكرى مشكلة الجديد والقديم في الأدب العربي، ذكرى ذلك الصراع الفكري بين عمالقة الأدب في حلبة الرسالة منذ أمد طويل وما يزال له إلى اليوم صدى ورنين.

وإذا كان لي أن أقترح فإني أقول يا حبذا لو ضمت البعثة هذا العام رجالاً في وزارة المعارف قرأنا لهم كثيراً وعرفناهم حق المعرفة كالأستاذ سيد قطب والأستاذ أنور المعداوي وعلماء أصحاب ابتداع وتفكير ديني حديث كالأستاذ خالد محمد خالد. وإذا كانت البعثة لا يشترط في أعضائها أن يكونوا من موظفي وزارة المعارف فكم نحن مشوقون لنرى

ص: 46

ظهرانينا أساتذة الجيل أمثال الزيات وأحمد أمين.

وأخيراً وليس أخرا كما يقولون فإني أذكر أن أعضاء نادي الخريجين بالخرطوم كانوا في آخر محاضرة استمعوا إليها من محاضرات الأستاذ محمد سعيد العريان في العام الماضي طلبوا منه أن يبلغ عميد العروبة وأدبها طه حسين رغبة كل المجتمعين بالنادي في تلك الليلة ورجائهم أن يتفضل فيشرف العروبة في السودان برؤيته.

فهل تحقق تلك الأماني بقدومه هذا العام على رأس بعثة المعارف؟

الخرطوم

جعفر حامد البشير

الولايات المتحدة الأمريكية:

اطلعنا على المقال المنشور في العدد 949 الصادر في 10 سبتمبر الجاري تحت عنوان (الولايات المتحدة الأمريكية) للأستاذ أبو الفتوح عطيفة وقد آلمني أن يتضمن دعاية سافرة لدولة استعمارية لم تترك فرصة إلا انتهزتها للتنكيل بالعرب وإذلال المسلمين، فقد جاء في هذا المقال بالحرف الواحد:(أن الشعب الأمريكي يؤمن بالحرية أشد الإيمان، ولا يرضى بها بديلاً وتاريخ أمريكا ينطق بهذا)(وأن العطف الأمريكي على اللاجئين يقابل بالشكر من ناحية العرب والشرقيين) وأن أمريكا بعد توقيع ميثاق هيئة الأمم المتحدة في 25 يونيو سنة 1945 بدأت تشترك في توجيه السياسة اشتراكاً تهدف به إلى سيادة الديموقراطية ومقاومة الطغيان والدكتاتورية والقضاء على أشد أعداء الإنسان: - الجوع، الشقاء، اليأس.

ولا يخفف من سوء وقع هذه الدعاية في نفوس الوطنيين هذه الفقرات البسيطة التي ضمنها الكاتب عتاباً رقيقاً لموقف أمريكا من فلسطين العربية. . فإن الدعاية التي قام بها الكاتب للأمريكان من الوضوح لدرجة لا تخفى على السذج. . بل إنني أؤكد أن الجرائد الاستعمارية التي تتقاضى أجراً من السفارة الأمريكية لا يمكنها أن تفكر في استخدام مثل هذا الأسلوب للدعاية.

ولما كنت معتقداً أن الرسالة الغراء لا تستكتب سوى الأحرار من الكتاب الذين يساهمون معها في أداء الدور العظيم الذي قامت ولا تزال تقوم به في بعث الروح الثقافية والوطنية

ص: 47

لا في مصر وحدها بل في البلاد العربية والإسلامية - أقول لما كنت معتقداً ذلك - فقد رجحت أن كاتب المقال قد تورط فيه ولم يقدر الأثر السيئ الذي نجم عنه.

وإنني أرجو أن تنشروا هذه الكلمة لا باسم حرية الرأي فحسب ولكن لكي يتأكد آلاف القراء الذي شاركوني دون شك شعوري بالاستياء من هذا المقال أن (الرسالة) الحبيبة إلى قلوبهم لا يمكن أن تتخذ منبراً للدعاية الأمريكية الاستعمارية كما أطمع أن يعاود الأستاذ أبو الفتوح عطيفة النظر فيما كتبه وأن يراعي في مقالاته المقبلة عن الولايات المتحدة الأمريكية أن هذه الدولة هي أشد الدول استنكاراً للحرية وعدواناً عليها.

ففي الولايات الجنوبية 12 مليوناً من الزنوج لا يسمح لهم بالتساوي مع مواطنيهم في التمتع بحقوقهم العامة والخاصة لا لشيء إلا لاختلاف لون بشرتهم، وهو سبب يدل على الجهل الذي يغرق فيه الأمريكان، والتعصب الذي يتنافى مع الحرية المقول بأنهم من أنصارها، وهذه الدولة هي وحدها التي أعانت اليهود بسلاحها وأموالها ونفوذها فمكنتهم من السيطرة على فلسطين، وتشريد الألوف من أبنائها، فما أشبه الأستاذ أبو الفتوح وهو يسجل شكر العرب للأمريكان لعطفهم على اللاجئين، ما أشبه بهذا الذي يسجل شكر القتيل لقاتله والسجين لسجانه.

إن أمريكا اليوم هي العدو الأكبر الذي يريد أن يرث إنجلترا في سيطرتها على الشرق الأوسط، فما أحرانا بالهجوم عليها، والتشهير بها، والتكتل ضدها، بدلاً من التورط في إزجاء شكر لها لا تستحقه ومدح لا تستأهله.

عباس الأسواني

المحامي

ص: 48

‌القصص

قانصوه الغوري

سلطان مصر الشهيد

للأستاذ محمود رزق سليم

الفصل الخامس

يوم استقبال

برح السلطان الغوري قصره الكبير عدة مرات إلى ناحية النيل، ليراقب نشاط العمل في بناء السواقي التي أمر بإنشائها لتمد حدائق الميدان بالمياه العذبة المتدفقة في القنوات الخاصة بين النيل والقلعة.

وفي أحد أيام 915هـ كان العمل في السواقي والقنوات قد تم، وأنسلت مياه النيل جارية تسعى إلى البساتين السلطانية. فأشاعت فيها حياة جديدة، ضحكت بها الأرض عن زرع نضر ونبات وسيم، واهتزت الأشجار وتثنت غصونها تثنى الساكر النشوان، ودبت بشاشة الحياة في الأعواد، فاخضر يابسها وانبسط عابسها، وتجمع نوارها وأشرقت أزهارها، ودنت قطوفها، وألقت على الأرض ظلا ممدوداً.

وكان كل بناء في الميدان قد أخذ سمته إلى الكمال كما شاء السلطان: من قصور غضة إلى غرف بضة، ومن مقاعد وثيرة إلى سلالم مدرجة، ومن جداول رقراقة إلى برك مموهة، إلى غير ذلك مما ينم عن ترف أصيل وعز أثيل، فيه للعين جلوة، وللنفس سلوة، وللأحبة دعاء، وللمسرة نداء. .

وأراد السلطان أن يكتمل أنسه، ويبتهج مجلسه، بالعلية من أمراء دولته، والجلة من أعيان مملكته، والصفوة من رجال سلطنته، ليقضي معهم يوم فرح وليلة سرور، ويتذاكرون بعض الشؤون؛ ويزيدون في المودة رباطاً؛ وفي المحبة وشيجة، وليقاسموه المتعة بما بناه، واللذة بما شاده، وليسمع منهم أحاديث الثناء عليه، وأناشيد الدعاء له. .

أنتشر الخدم ورجال القصر، منذ هذا اليوم في أرجاء الميدان، ينظفون وينظمون ومعهم البستانيون، فجنوا من الفواكه، ومن الأزهار ما ابتسم، وفرشوا المقاعد بحشياتها الثمينة

ص: 49

الوثيرة، وفصلوها بالوسائد الحريرية، ونشروا أمامها البسط الهندية النفيسة، ثم زينوا ما بين فرجها بطاقات من الورود والرياحين، ونثروا من فوقها حمائل القناديل الزيتية الفنية البديعة، وفي الصدر كنت ترى مقعد السلطان يمتاز عن غيره بعلو يسير مجملاً من الممتاز من الحشيات والوسائد، وقد نصبت من فوقه قبة مدورة كبيرة من حرير خالص ذات أهداب ذهبية منتظمة.

وقد أمر السلطان أن تملأ البركة الكبرى من ماء النيل عن طريق قناتها الخاصة، وبث مماليكه وغلمانه بين أسواق القاهرة وحدائقها ليجمعوا ما يستطيعون جمعه من الورد. .

ثم نثروه في البركة؛ فاختلط شذاه بعنبر مائها، وغام على سطحها وعام، وابتل وجهه منها واخضل، وفتح فمه فنهل من مائها وعل، فدار على قدمه ساكراً، وانطلق لسانه شاكراً، وبنى للسلطان عرشاً على الماء، وعطر بذكره الأنجاء.

وحول هذه البركة أجتمع قراء المدينة ووعاظها يقرءون ويذكرون، حتى دنا منهم الليل، فانصرفوا في هداة منه بعد ما أصابوا من الطعام والشراب ما لذ وطاب، ولبثوا زمناً حالمين بما رأوا من لذة ونعيم.

كان الطهاة قد شمروا منذ الصباح عن ساعد الجد. يطهون الطعام، ويتأنقون في طهيه ما شاء لهم الفن والابتكار، ويبدعون في تنظيم أنواعه وتلفيق صنوفه، وتصفيفها بما يلبي عن ذوق سليم، يناسب هذا الحفل العظيم، وحشدوا لذلك مئات من الدجاج والإوز، وعشرات من الضأن السمين، وشنان من الماء القراح البارد، وجفان الفاكهة اللذيذة ما بين تفاح وكمثرى وأعناب، وهيئت أواني الحلوى التركية والشامية والمصرية، إلى غير ذلك مما أنفق عليه نحو ألف دينار، في ذلك الزمن الرغد الرخي الرخيص.

وما إن انصرف القراء والوعاظ حتى مدت عشرات الأسمطة الحافلة المنمقة، وامتلأت الموائد بالأواني الخزفية وغير الخزفية، ورص فوقها نحو أربعمائة صحن صيني، ثم وزعت المأمونية الحموية كل قطعة منها نصف رطل، وفاضت أطباق الأحمال والطير. . .

وأهل السلطان وفي إثره أقبل الجمع، واتخذ السلطان مكانه في المقعد السلطاني تحت القبة، وعن يمينه جلس قضاة الشرع والعلماء والكتاب والمباشرون ومن على شاكلتهم من طبقة

ص: 50

المتعممين، وعن يساره جلس الأمراء في أبهة أزيائهم وروعة أسلحتهم، وبجانبهم عدد من الأعيان.

وأنتشر في الميدان حوله كثير من الجند والمماليك الغورية يحافضون على الجمع الحافل، والعامة عن كثب تروح وتغدو، وتحدس ما يجري في داخل الميدان، ويظنون ما شاءت لهم الظنون.

أكل الأضياف هنيئاً وشربوا مريئاً، وبعد اطمئنانه أنصرف الجمع إلا عدداً من العلماء والأمراء استبقاهم السلطان ليجاذبهم أطراف الأحاديث ويتذاكروا معا شؤون الدولة، ويقلبوا ما مضى من أيامها المجيدة، ويرددوا ما تنشد من أحلامها السعيدة فقال السلطان: إن ليلتنا هذه من أسعد ليالي السلطنة.

فقال أحد القضاة: أجل يا مولانا إنها للعين قرة، وفي جبين الزمان غرة، أدام الله لمولانا الابتهاج والمسرة، وأطال عهد حكمه السعيد. . إن هذا الميدان ليدين بتلك الحياة الجديدة للمشيئة السلطانية الشريفة، الله ما أجمل القصر والبستان! وما أروع البركة والمجرى، وما أبهى الغرف والمقاعد! إن تلك القبة المضروبة فوق المقعد السلطاني الشريف وهذه البسط والوسائد الحريرية وهذه الموائد الشهية، ومن أجتمع حولها من أقذاذ الرجال، لتذكرنا بما يرويه التاريخ عن الملوك الصيد من خلفاء بغداد، أحيا الله بمولانا دولة الإسلام، وأعز به جانب الدين. .

السلطان: الفضل في هذا التنسيق والنظام يرجع إلى ناظر الخاص المقر علاء الدين وأعوانه.

علاء الدين: مولانا! الشكر لله وللمقام الشريف، إنما تم كل شيء بإرشاد مولانا وإشارته.

السلطان: كنا نود أن يشاركنا الخليفة الجديد في ليلتنا هذه. . . ما رأيك أيها القاضي في الخلافة وما قام بسببها من خلاف؟ ألا أننا حسمنا أمرها على خير وجوهه؟

القاضي: أجل يا مولانا! لقد كاد يستشري النزاع بين الخليفة يعقوب وابن عم أبيه خليل؛ فقد أدعى خليل أن يعقوب لا يصلح للخلافة لأنه أعمى، فرد عليه ابنه الناصري محمد قائلاً (وأنت أيضاً لا تحسن قراءة الفاتحة)! فلما أمر مولانا باختبار خليل وجدناه وهو يقرأ الفاتحة قد تعثر فيها وتلعثم، ولم يكمل قراءتها، وذلك للثغة في لسانه، وقد كنت عادلاً يا

ص: 51

مولانا حينما وكلت الخلافة إلى الناصري محمد وأقررت عهد أبيه بها إليه، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعل عهدكما عهد يمن وإقبال ورخاء للمسلمين أجمعين.

السلطان: إن عامنا هذا عام رخاء، ولنا في وفاء النيل فيه فأل حسن، فقد بلغ نحواً من عشرين ذراعاً، ولا نزال نحتفل بعيد وفائه شكراً لله على نعمائه، ونحن قوم نتفاءل دائماً.

القاضي: إن البلاد جميعها للتفاؤل بسلطنتكم المجيدة، والدين أمرنا - بجانب الحذر والحيطة - أن نتفاءل ونقابل الحياة دائماً بالأمل والرجاء، وكما نعمل للآخرة كأننا نموت غداً، ونعمل للدنيا كأننا نعيش أبداً. . .

السلطان: صدقت! وإن دأبي الانتشاء والبناء، ولن آلو جهداً في أن أترك بكل موضع أثراً مشيداً نافعاً، وأن أسلك سبيلي لإعلان شأن السلطنة وإظهار عظمتها، وللترفيه عن عامة سكانها، وتزويد البلاد بما ينمي ثروتها يوسع نفوذها، إن سلطنة مصر اليوم - بعون الله - أقوى سلطنة إسلامية، وهي من أوسع دول الأرض جاهاً وقوة ومالاً، وستبقى كذلك ولن ينال منها العابثون منالاً. . أين القاضي معين الدين؟

(يأتي القاضي معين الدين بن شمس، وكيل بيت المال ونائب كاتب السر - وكان في وجهه دمامة - ثم يتقدم إلى جانب السلطان من الخلف ليقرأ على مسامعه المراسلات والقصص - المظالم -)

السلطان: ما عندك من أخبار البلسان؟ لقد كانت بلادنا تفخر بزرعه في أرضها لأن له دهناً عجيباً يغالي ملوك الفرنجة في ابتياعه، إذ يستخدم عندهم في ماء المعمودية، ثم أنقطع تبته من بلادنا جملة.

معين الدين: لقد خاطبنا بلاد الحجاز عندما علمنا أن البلسان ينبت في بعض جهاتها، وكلفنا بعض نوابنا فحملوا إلينا شجيرات منه غرسناها بالمطرية، فنبتت نباتاً حسناً يبشر بمستقبل عظيم، فليطمئن بال مولانا.

(يميل السلطان إلى بعض خاصته، ويسر إليه أنه يخجل من مماليكه حينما يرون رجلاً مثل معين الدين يقرأ قصصه ومراسلاته)

السلطان (موجهاً الخطاب إلى معين الدين): وما أخبار الشاه إسماعيل الصوفي؟

معين الدين: يعلم مولانا أن الشاه إسماعيل الصوفي، كان قد تحرك وزحف على الممتلكات

ص: 52

الشريفة، وأعد له مولانا تجريدة كبرى لرده وتأديبه. فلما وردت مراسلات الأمير (علي دولات) أمير التركمان، بأنه هزم الشاه هزيمة منكرة، أوقفت التجريدة. وقد أرسل إلينا (علي دولات) عدداً من رؤوس قتلى العجم من جنود الشاه إسماعيل، فعلقت على باب زويلة، ولكن الآن يقال إن جند الشاه يعبثون بأطراف إمارة بغداد.

السلطان: لقد وفد إلينا رسول من لدن الشاه ينبئ أن جنوده زحفوا على ممتلكاتنا خطأ وبغير إذن منه؛ فقبلنا عذره وخلعنا على رسوله. . ولكنه لا يزال في الخاطر من عمله شيء. .

فما الرأي عندك أيها الأمير قرقماس؟

الاتابكي قرقماس: يا مولانا. . الرأي عندي السمع والطاعة لك. إذا أمرت فالسيوف مسلولة، والرماح مشروعه، والنفوس تواقة إلى الجهاد والنصر.

وللفصل بقية

محمد رزق سليم

ص: 53