المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 954 - بتاريخ: 15 - 10 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٥٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 954

- بتاريخ: 15 - 10 - 1951

ص: -1

‌هبي يا رياح الخريف هبي

هبي وأحطمي هذه الأشجار الغلاظ التي تأكل خير الأرض، وتحجب نور السماء، وتقطع سبيل الناس، ولا تحمل إلا شوكا من غير ثمر، وخشباً من غير نفع، وخضرة من غير جمال!

هبي يا رياح الخريف هبي!. . هبي واهدمي هذه الأوكار القباح التي اتخذت أشكال القصور وانتحلت أسماء الأندية، فباض فيها الشر باسم السياسة، وفرخ فيها الفجر باسم الرياضة، وأوت إليها أبابيل من البوم التي تعلن الخراب، والخفافيش التي تمج الظلام، والغربان التي تذيع الفرقة، فلا نرى فيها ولا نسمع منها إلا خمراً تعربد، وقماراً يصطرع، وترفاً يفسق، وسرفاً يدمر!

هبي يا رياح الخريف هبي!. . هبي واكسحي هذا الغثاء العفن الذي زكم الطرق وسد المسالك مما فني من الجذوع وبلى من الفروع، وذبل من الأوراق، فأصبح شوهاً في الأعين وثقلاً في الأرجل؛ ثم لا يكون إلا أذى إذا عطنه المساء، وإلا قذى إذا أثاره الهواء، وإلا لظى إذا مسته النار!

هبي يا رياح الخريف هبي!. هبي واقشعي هذا السحاب المتراكم الذي أرتفع ارتفاع الدخان، وأنتفش أنتفاش العهن، فحجب الشمس، وحصر الأفق، وأحر الأرض، ثم لا نجد من ورائه مطراً يدفع الجدب، ولا ظلاً يمنع الحرور!

هبي يا رياح الخريف هبي!. . هبي واقلعي ذلك النبات الدنيء الذي يتطفل على أشجار الوادي، فيتغذى على أصولها، ويتسلق على فروعها. حتى إذا أدرك الهواء والضياء والرفعة، التف بمساليجه وكلاليبه على أعاليها التفاف الأفعوان، فيكظم أنفاسها فلا تنسم، ويشل حركتها فلا تميس، ثم يقول مشيراً بأطرافه الرخوة إلى كل عابر. انظر! ألست أنا الأمير وهذا الشجر هو الفلاح؟ وإذا لم يسخر الله لي الشجر فكيف أنمو؟ وإذا لم يسخر الفلاح للأمير فكيف يسمو؟

هبي يا رياح الخريف هبي!. . هبي واعصفي بما ذكرت وما لم أذكر من زبد يقول أنه زبد، وسراب يزعم أنه شراب، وحطام مختلف من بقايا الشعوب والخطوب والعقائد والحضارات والأساطير يدعى أنه أمة!

ولكنك يا رياح الخريف تهبين كل عام بين وقدة الصيف وخبوة الشتاء فتنكسين ما تنكسين،

ص: 1

فإذا دارت الأرض دورتها الكبرى عاد كل شيء إلى حاله، ورجع كل شخص إلى ضلاله. فأية ريح إذن تستطيع أن تنسف ما نعانيه من فساد تأصل في كل عمل، وتغلغل في كل أمر، وتدخل في كل حكم؟ لعلها الريح التي أهلك الله بها عاداً الأولى فأهلك معها الطغيان والبهتان والكفر! إنها الريح التي تصحبها الروح، والرجفة التي يتلوها البعث، والقرة التي يعقبها الربيع!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌خواطر في كتاب الله:

ضريبة الإنسانية

للأستاذ محمد عبد الله السمان

إن للإنسانية ضريبة على كل فرد، ولا يكاد يوجد فرد واحد يعجز عن تأديتها؛ اللهم إلا من ملأت الأنانية نفسه، واستولت الأثرة على قلبه، وهذا حري بأن يحذف من المجتمع، وتلفظه الإنسانية لفظة مهينة لا كرامة فيها!

والقرآن الكريم حين يشعر المرء بهذه الضريبة، وأنها واجب تحتمه المروءة، إنما يهدف إلى غرضين جليلين ساميين: أما الأول، فإثبات وجوده، وإظهار كيانه، وطبعه بطابع الخير والبر والتعاون، وتجنيده في خدمة الإنسانية، وإعداد نفسه للمعروف كلما ناداه الواجب واستصرخته المروءة. وأما الثاني، فدفع المرء إلى استغلال أوقات الفراغ فيما يفيد المجتمع ويسعده، واستنفادها في تدعيم أسس الخير التي يقوم عليها بناء كل أمة تبغي العزة في حياتها. .

وأولى أنواع هذه الضريبة بالإشادة هو فعل الخير، لأن الإنسانية في كل زمان ومكان متعطشة إلى الخير الذي يشد أزرها ويؤيدها في نضالها وكفاحها، ويضفي على رسالتها في الحياة إشراقاً يزيدها رفعة وسمواً، ويكلل مسعاها بالنجاح. .

(ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات. . . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات. . - فمن تطوع خيراً فهو خير له. . - ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم. . . ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير - يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون - وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم).

والإحسان نوع من ضريبة الإنسانية جدير بكل تقدير، لأن فيه تدعيماً للإخاء الإنساني، وبه تتقارب القلوب وتتآلف، وتترابط النفوس وتتصافى، والإحسان إما خير يفعله الإنسان بدافع من شعوره الإنساني، وإحساسه الأخوي، وإما عفو عن شرور الأشرار، ومقابلة إساءة المسيئين بالإحسان، وصبر على أذى المتعنتين من الظلمة والطغاة:

ص: 3

(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن، فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. . . إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون - إن الله يأمر بالعدل والإحسان. . . وقولوا للناس حسناً - للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة - ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، أدفع بالتي هي أحسن - الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين - أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا، ويدرءون بالحسنة السيئة - والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية، ويدرءون بالحسنة السيئة، أولئك لهم عقبى الدار).

والبر من أنواع الضريبة الإنسانية التي لها قدرها ولا غرو. فهو جماع أنواع الخير، وفيه تتجلى آيات الرحمة والإخاء والوفاء. ولا يكون المرء المعترف بضريبة الإنسانية مؤدياً لها إلا إذا جند نفسه للبر جهد المستطاع. وليس بعجيب بعد هذا أن تر في كتاب الله تعالى يدفع المسلمين إلى التعاون على البر، ليعيشوا في ظلال الأخوة الصادقة. وقد أشار القرآن الكريم إلى البر وإلى أن سبله جميعها تلتقي عند هدف واحد هو الخير، وخلاصة هذه السبل إيمان كامل، ومعروف دائم، وطاعة خالصة، ووفاء بالعهود، وصبر على المكاره:

(وتعاونوا على البر والتقوى. . . - ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون).

والمرء حين يؤمن بأن هناك نعماً عظمى أسبغها عليه الخالق جل وعلا، يجب عليه أن يؤدي شكر هذه النعم العظمى له، وليس هناك أعظم شكراً لله من أن تدفع ضريبتك الإنسانية في حياتك. ولقد ندد القرآن بالإنسان المارق، المنغمر في نعم الله، وهو في نفس الوقت مصر على الكفران بها، وعدم الاعتراف بما تفرضه الإنسانية عليه من ضريبة، فلم يحطم العقبة، ليفك رقبة ويحررها ويطعم اليتيم والمسكين في يوم ذي مسغبة، ويكون من الذين يتواصون بالمرحمة. . .

(لقد خلقنا الإنسان في كبد - أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ يقول أهلكت مالاً لبداً، أ

ص: 4

يحسب أن لم يره أحد؟ ألم نجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وهديناه النجدين، فلا أقتحم العقبة، وما أدراك مل العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة، والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة، عليهم نار مؤصدة).

ولقد قص علينا القرآن الكريم قصة سبأ، أولئك الذين غمرهم الله بنعمه فما شكروه، ووهب لهم حياة طيبة فتهربوا من ضريبة الإنسانية، وكان جزاؤهم، أن سلبهم الله النعم، وأبدلهم بحياتهم الطيبة حياة تعسة، وجعلهم عبرة وعظة للأجيال من بعدهم:

(لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور. فأعرضوا، فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا، وهل نجازي إلا الكفور؟ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم، فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق. . إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور).

وهناك إنسان يعيش في حياته كما تعيش الأنعام، يأكل ويشرب ويتمتع وكفى، ولا يشعر بوجوده كعضو في المجتمع يجب أن يؤدي نحوه واجباً، ويجهل أن للإنسانية ضريبة على كل فرد منتسب إليها، وهذه الضريبة لا يعجز عنها غني أو فقير، فالغني يستطيع أن يبذل من ماله في سبيل الخير، والفقير يستطيع أن يبذل شيئاً من وقته، فيحث الأغنياء على التصدق؛ ويدفع بهم إلى طريق البر، ويأمر بالمعروف ما وسعه الجهد، ويعمل إن استطاع في كل لحظة للإصلاح بين الناس. وقد سد القرآن الكريم أبواب الأعذار أمام العاجز عن أن يؤدي الضريبة من ماله، وفتح له طرقاً من الخير يستطيع أن يسلكها دون احتياج إلى شيء من المال، وأعتبر المتقاعد عن سلوك هذه الطرق محذوفاً من المجتمع، ومن المهملين الذين لا خير لهم في وجودهم، ولا فائدة من حياتهم:

(لا خير في كثير من نجواهم، إلا من أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً).

محمد عبد الله السماق

ص: 5

‌أبو الثناء الألوسي الكبير

(بمناسبة مرور مائة عام على وفاته)

للأستاذ محمود العبطة

- 2 -

أ - مولد الألوسي الكبير:

ولد السيد محمود عبد الله الألوسي في بغداد في منتصف شعبان من عام 1217هـ (1802م) في دار أبيه بجانب الكرخ، ووالده السيد عبد الله بن محمود، والقارئ - ولا شك - قد عرف نسب العائلة الألوسية ولماذا انتسبت إلى ألوس وتضارب الأقوال في ذلك، فلا نعود إليه ولا نكرر القول فيه، أما أمه فهي - كما قلنا - صالحة بنت الشيخ حسين العشاري من بيت علم وحسب ونسب. وسمي (محموداً) إحياء لاسم جده محمود بن درويش، وعادة إحياء الأسماء عادة مستحبة عند العراقيين، وعلى الأخص البغاددة منهم، ولا تزال هذه العادة محترمة حتى الآن في البيوتات العريقة في العراق، ولقب بعد مولده (بشهاب الدين) كما كني (بأبي الثناء) وهذه كتلك عادة أخرى لكل مولود جديد في بيوتات العلم والأدب في بغداد.

وقد نظم أحد الشعراء الذي لم أقع على أسمه وتاريخ وفاته ببيتين من الشعر على طريقة الحساب الشعري فقال:

لقد أشرق البدر السماوي مذ بدا

سنا نوره عن مشرق لاح بالجود

به كمل الدين الحنيف مؤرخ

(تكملت الدنيا بميلاد محمود)

ب - دراسته:

فتح الألوسي عينيه في بيته، وآثار النجابة والألمعية تلوح في حركاته وسكناته، وبعد أن نما وترعرع ووعى ما حوله وما يحيط به، درس مبادئ الخط، وحفظ القرآن في بيته وعلى يد أمه وأبيه. . وعلى يد أبيه الذي هو رئيس المدرسين في بغداد درس (الأجرومية) في مبادئ النحو العربي، ثم درس ألفية (ابن مالك) في النحو أيضاً، تناول بعدها كتب الفقه فقرأ (غاية الاختصار) في فقه الإمام الشافعي إمام العائلة التقليدي (فالمنظومة الرحبية) في

ص: 7

الفرائض كما قرأ مقدمات الفقه الحنفي. ولم يبلغ الربيع العاشر من عمره الزاهر حتى أحاط علماً بالنحو والفقه والمنطق والعلوم الأخرى. لقد تشبع فتانا الألوسي في باكورة عمره من منهل العلم. إن روحه في هيام دائم مهما بلغ تحصيله العلمي. . . وعلى هذا القياس فقد تتلمذ على جلة علماء البلد كعلي السويدي ومحمد أمين الحلي وخالد النقشبندي وعبد العزيز الشواف وعلي المزوري العماري وحصل على الإجازة العالمية من رئيس محدثي الشام في عصره عبد الرحمن الكزبري ومن مفتي بيروت عبد اللطيف فتح الله.

إن الألوسي - كما نرى - تتلمذ على جلة علماء بلده بغداد، وحصل على الإجازة بالعلم من علماء سورية ولبنان. . وقد عثرت على أوراق مخطوطة كتبها الألوسي المترجم له، ونقلها عنه أحد الألوسيين الآخرين، وهذه الأوراق تلقى ضوءاً نفاذاً على هذه الفترة من حياة الألوسي، إذ قال في بعض منها يصف حاله حين تحصيله العلمي، ويذكر فيها وفاة أمه وحنو والده عليه:(وقد ماتت أمي قبله، عليه الرحمة، بعدة سنين، فازداد حنوه علي بعدها، بيد أنه لضيق ذات يده لم يوسع أكمامي، ولم يجعلني أباهي بأثوابي أبناء أخوالي وأعمامي. . ومما اتفق أن بعث ثياب الشتاء لشراء قرطاس، وطالعت على نور القمر حيث أعوزني نبراس، وكم قاسيت من شدائد، تذيب لا در درها الجلامد.)

من هذه السطور نلمح الألوسي الفتى الذي فقد أمه فوجد أباه أماً له وأباً في حنوه ورعايته وحدبه؛ بيد أن فقر أبيه منعه من التنعم في شبابه باللباس واللذات، شأنه شأن الشباب في كل جيل. وفي الفقرات الأخيرة من هذه السطور، حيث يبيع الألوسي الشاب ثياب الشتاء ليشتري بثمنها أوراقاً يستعين بها في دراسته وشؤونه العلمية ويدرس على ضوء القمر، ما يقرأه في النهار على شيوخه. . . من هذه السطور تعلم درجة فقر هذه العائلة الكريمة التي اتخذت سبيل العلم رسالتها في الحياة، كما نرى أن الإرادة القوية والصبر على احتمال المكاره، والحيلة في الخروج من المآزق، طرق مستقيمة في الوصول إلى المطالب والغايات، وهذه قد سار فيها الألوسي فكان فيها الأمثولة والقدوة. والأستاذ الأخير الذي تتلمذ عليه أبوالثناء وأرتشف من مناهل علمه وفضله هو الشيخ علي علاء الدين الموصلي الذي مكث يتتلمذ عليه أربع عشرة سنة كان له فيها خير معين على تفهم دقائق العلوم المنقول منها والمعقول. وأستاذه الشيخ الموصلي كان حاد الذكاء، حاد المزاج معاً، ولهذا نرى قلة

ص: 8

من طلبة العلم من تقرب إليه ودرس عليه، وعبقرية التلميذ النجيب تلاقت مع عبقرية الأستاذ القدير، إذ أن عقول العباقرة تلتقي على ما يقول الفرنسيون، فأمسى مقام الشيخ علي في تقويم مواهب الألوسي وصقل ملكاته كمقام أبيه السيد عبد الله، أستاذه الأول ومعلمه في بيته. والألوسي يذكره بالخير ويشيد بفضله ويترحم عليه، كما أنه أرخ حياته في المقامة الثانية من (مقامات الألوسي) وأرخها أيضاً في (غرائب الاغتراب) وفي غيرهما من مؤلفاته المختلفة. . ودرس الألوسي على الشيخ المذكور في المدرسة الخاتونية الواقعة في باب (الشيخ) من رصافة بغداد.

جـ - وظائفه العلمية:

لعل أول وظيفة نالها أبو الثناء أثناء تتلمذه على أساتيذ زمانه وعلماء عصره، أنه ألف رسالة في أحد العلوم لداود باشا الدالي وقد أعجبته كل الإعجاب فوظف له في كل يوم درهمين من وقف جامع (محمد الفضل) وهذه الوظيفة الأولى قد أعانته أثناء تحصيله العلمي في عيشه، والقارئ يعلم درجة حاجته وفاقته، أصبح بعدها أو أثناءها محافظاً لمكتبة مدرسة الشهيد (علي باشا) التي كان أبوه أحد أساتذتها ثم أصبح مدرساً في بيت خاله الحاج عبد الفتاح الراوي في جانب الكرخ وبعد أن نال الإجازة في التدريس من أستاذه علاء الدين في المدرسة الخاتونية في باب الشيخ أقامت السيدة (عاتكة) من محسنات زمانها مأدبة حافلة حضرها جلة علماء بغداد وفضلائها، وأعيانها وكان من جملة الحاضرين رئيس صنف التجار نعمان الباجه جي البغدادي، الذي لمح ألمعية الألوسي فأراد أن يخلد اسمه فاقترح على الشيخ علاء الدين أن يكون تلميذه الألوسي مدرساً في مدرسة جامع الباجه جي في محلة (سبع البكار) في الرصافة فأشار الأستاذ على التلميذ الذي صار أستاذاً، أن يدرس في المدرسة المذكورة فأنصاع له وجلب تلامذته من مدرسته التي كانت في بيت خاله، وعمره إذ ذاك عشرون سنة. . . وقد رأى التلاميذ عجباً في مدرسة الباجه جي إذ الراحة متوفرة والمكان واسع، والتقدير موجود، فذاق الألوسي أول أفاويق السعادة ونال شيئاً مما كان يطمح له ويأمل، ولكن القدر كان له في حرب دائم متواصل إذ نظم أحد التلامذة أبياتاً من الشعر وصف فيها المدرسة الجديدة وأناقتها وقارن بينها وبين مدرسة الراوي، فوجد حساد الألوسي منفذاً للافتراء، وأنه سب خاله الحاج عبد الفتاح فشاغب عليه الحساد،

ص: 9

وأرادوا أن يخرجوه من مدرسة الباجه جي بحجة السب! ولما لم ينالوا ما أرادوا استعانوا بمفتي الحنفية ومفتي الشافعية لغاياتهم هذه، كما استعانوا بمحمد الكركولي أحد المتنفذين ببغداد، وذهبوا هم وأنصارهم إلى الوالي داود فتكلم نيابة عن الجمع الحاشد الكركوكي المشهور بابن النائب الذي يضمر للألوسي الحسد والعداء، فحاك وأصحابه دسيسة جديدة وهي أن أبا الثناء قد سب الإمام أبن حجر أثناء وعظه في جامع القمرية في الكرخ، فلم تنطل الفرية على الوالي الداهية، فأجابهم بما أسكنهم وأخزاهم! وهنا أنقل للقارئ جواب الوالي لابن النائب الكركوكي، ولكن على لسان المدعي عليه، أو المتهم في لغة القانون وهو هنا الألوسي محمود إذ نقل الجواب بإنشائه البليغ الرائع فقال (إن ابن الألوسي شافعي المذهب، فيبعد من طريق العقل أن يسب ذلك العلامة وهو بين أئمة مذهبه المشار إليه بأكف الفضل، وأعجب من ذلك وأعظم، تأخير شكوى هذا الذنب الواقع في رمضان إلى المحرم، فما أظن ذلك إلا افتراء، أصر على إنشائه قهرمان الحسد، وكم جمع الحسد جيوش البغي على المحسود وحشد، فبالله تعالى عليكم إلا ما تركتم هذا الرجل وحاله، وأرى الأحرى بكم أن تصالحوه وخاله. . . فإني أظن أن يأتي على الرجل زمان، يشار إليه بين علماء الإسلام بالبنان. وبعد أن أطفأت هذه الفتنة التي واجهها الألوسي بصبر وثبات، والتي انتهت بحرمانه من التدريس في مدرسة الباجه جي، كان أنصار الألوسي يعملون على إيجاد وظيفة تليق بمكانة أبي الثناء وفضله. وأخيراً وجدوا ضالتهم بمساعي الزعيم الشعبي (عبد الغني جميل زاده) رئيس الحزب الذي يضم أحرار البلد أمثال السيد الألوسي، فتم على يد الزعيم عبد الغني إزالة ما وقع سابقاً ثم عين بمساعدة أنصاره مدرساً وواعظاً وخطيباً في جامع أمين الباجه جي شقيق نعمان رئيس صنف التجار، الواقع في محلة رأس القرية. . . وبقي يدرس ويربي الجيل الجديد تربية العالم الخبير القدير، ولاقت دروسه قبولاً واستحساناً من تلامذته ومريديه، وكانت بغداد في أواخر عهد داود تضم نهضة أدبية يرعاها القصر ويحميها السلطان. ولم يكن الألوسي مع قيامه التام بشؤون التدريس والخطابة والوعظ والإرشاد بالرجل القانع القعددة شأن أكثر المعممين ورجال الدين في عهده بل كان على العكس رجلاً طلاعة يستمع لتيار الرأي العام، ويستجيب لداعي القضايا العامة، وكان أكثرية البغاددة يناصرون داود باشا في الانفصال عن قاعدة الخلافة

ص: 10

والاستقلال بالعراق عن الدولة العثمانية، والألوسي كان من دعاة هذه الفكرة ودليل ذلك حبسه بأمر الوالي الجديد علي رضا في سجن نقيب الأشراف.

د - تصدره للافتاء:

بقي الألوسي بسجن النقيب يتجرع الغصص ويتحمل النكبات منتظراً الفرج من الله مترقباً أفاعيل القدر. . . وتم له ما أراد إذا طلب منه محمود النقيب رئيس النقباء الوعظ في جامع الشيخ عبد القادر الجيلي القريب من دور نقباء بغداد وكأنه وضعه بسجن ثان قريب من السجن الأول، فقبل الألوسي الطلب وأجاب النقيب بما أراد، وإن كانت العيون يحصون عليه أنفاسه، ويعدون عليه حركاته، ووعظ في جامع الجبلي أكبر جوامع بغداد وأشهرها، فسار اسمه وذاع صيته وقصده القاصي والداني من الأهلين والموظفين والعسكريين والعلماء، ليستمعوا إلى مجلس وعظه ويستفيدوا من حسن محاضرته فطرقت أذن الوالي علي رضا المشهور بحريته الفكرية وحبه العلماء شهرته واسمه، فقصد جامع الجبلي وذلك في أواخر رمضان ليشاهد هذه الأعجوبة الذي تم سجنه على يده فخلب لبه وأسر سمعه فرضى عنه وصالحه وأمر أحد خاصته المدعو (عبد الرحمن الأعظمي) أن يجلب الألوسي معه إلى قصره - قصر الوالي - في اليوم الثاني من عيد الفطر. وعند حضوره في اليوم الموعود قربه إلى مجلسه وحادثه بأرق الحديث وطلب منه التردد إلى قصره مرتين في الأسبوع، فكان الألوسي يزور الوالي الذي أعجب به كل الإعجاب وأعاد إليه وظائفه التي اغتصبت منه فألف له الألوسي رسالة جيدة أثبتت أن الألوسي من فلاسفة الحكم ومن ذوي الرأي في السياسة، فأجازا الوالي أبا الثناء بتولية أوقاف مدرسة جامع مرجان وتولية هذا الجامع مشروطة لأعلم أهل البلد وذلك في 17 محرم سنة 1249 ونال قبل التولية خطبة الجمعة والعيدين في جامع الجبلي، وبعد أن نال التولية أخذ يفر إلى جو الرفعة والكرامة - كما قال حفيده محمود شكري الألوسي - وفتحت له باب الأمل التي داعبها منذ كان يافعاً فنال رتبة علمية لها مغزاها العالي في ذلك الوقت وتلك الرتبة العلمية هي (تدريس الأستانة) التي صدرت بمرسوم سلطاني ولم تقف رتبه العلمية عند هذا الحد العظيم، بل نال أقصى ما يناله رجل العلم من الرتب العالية؛ إذ أن صديقه الشاعر العمري وصديق آخر بشراه أن الوالي علي رضا سينصبه مفتياً للمذهب الحنفي، وكان سروره عظيماً جداً

ص: 11

إذ لبس بزة الإفتاء في 16 ذي القعدة سنة 1250 وبعد ما شاع لهذا الخبر الذي فرح به أنصاره واستاء له أعداؤه وحساده، هنأ الشعراء والأدباء والعلماء الذين شغفوا بالألوسي الكبير حباً وولاء. وها نحن ننقل أبياتاً من قصيدتين لشاعري العراق في ذلك الحين وهما عبد الباقي العمري وعبد الغفار الأخرس يؤرخان الإفتاء ويمدحان المفتي. وقال الأول:

كالبدر طلعته والبحر راحته

والعزم والحزم مثل النار والجبل

لو شاء باحث أهل العلم قاطبة

عن المذاهب والأديان والملل

يا من به لاذت الفتوى فسجلها

وصانها عن جميع الزيغ والزلل

من عين كل عدو يا مؤرخة

(محمود) قد يحرس الفتوى بعين (علي)

وفي عجز البيت الأخير الذي أرخ سنة الفتوى تورية لطيفة باسمي الوالي والمفتي. وقال الأخرس البغدادي:

إن الشريعة فيك لابس تاجها

قوم وحامل سيفها صنديد

وتتوف في كل العلوم فأرخوا

(نوفت بالإفتاء يا محمود)

والألوسي الكبير بعد أن نال هذه الرتب العالية التي لا تصلح إلا له، وليس يصلح إلا لها - كما قال أبو العتاهية الشاعر وردت أسئلة علمية دقيقة من علماء فارس وفطاحل إيران، إلى علماء بغداد يطلبون إجابتها وحل غوامضها، فأجاب عليها شهاب الدين مفتي بغداد، جوابا شافياً مقنعاً أسكت السائلين والمتحدين برسالة علمية جليلة، وبعد أن ذهب رسول علماء فارس جاءت الألوسي الكبير رسالة تهنئة مشفوعة بوسام سلطاني (نشان افتخار) من (استنبول) فزين صدر الألوسي بالوسام، أو أزدان الوسام بصدر الألوسي.

تقلد الألوسي رتبة الإفتاء، ونال الرتب العلمية العالية، وهو لم يتجاوز الثلاثين ربيعاً إلا قليلاً، فكانت صفحة جديدة من حياته تطفح بالهناء والسعادة، نالها الألوسي الكبير - وهو الأهل لها - بصبره ومصابرته وقابليته العلمية. وفي هذه الفترة من حياة الألوسي اشترى داراً فخمة في أشهر محلات بغداد (محلة العاقولية) كما جلب له الخدم والحاشية، على الأصول المتبعة في عصره. والألوسي مع ما نال من اسم وثراء ومكانة اجتماعية، لم ينس إخوانه وأبناءه رجال العلم وطلبته، بل على العكس ازدادت رعايته لهم، وعنايته بهم، إذ خصص قسماً من داره الكبيرة للطلبة الغرباء يقدم لهم فيه الغذاء والكتب والخدمات الأخرى

ص: 12

مجاناً ومن جيبه الخاص فأمست داره مدرسة هو عميدها وبيته بنايتها كما أمست بغية لطلبة العلم من سائر أنحاء العراق والأقطار الإسلامية وقد بلغت دروسه أربعة وعشرين درساً في اليوم وكانت داره العامرة مجمعاً علمياً وندوة للشعر، يحضرها العمري وعبد الغني والأخرس وأحمد عزت والتميمي والواعظ وغيرهم وغيرهم، من جلة القوم وأعيان البلد. . وفي أواخر فترة الإفتاء بدأ بتأليف تفسيره الخالد (روح المعان) وكان هذا سبباً لأن تصبح دروسه في اليوم ثلاثة عشر درساً، وبقى يفتي ويدرس ويؤلف مدة زادت على ثلاث عشرة سنة.

للكلام صلة

محمود العبطة

ص: 13

‌الولايات المتحدة الأمريكية

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

- 5 -

الحكومة الاتحادية

السلطة التنفيذية:

الولايات المتحدة جمهورية ولها رئيس ينتخبه الشعب ومدة رياسته أربع سنوات. ونحن نقرأ كل يوم عن ترومان رئيس الجمهورية الأمريكية وعن سياسته ومشروعاته وأعماله، والواقع أن منصب رئيس الجمهورية الأمريكية من أعظم المناصب وأرفعها في العالم كله لأنه يتمتع بسلطة كبيرة لا يتمتع بها كثير من أمثاله من الملوك أو رؤساء الدول.

وطبقاً للمادة الثانية من الدستور الاتحادي وضعت السلطة التنفيذية في يد الرئيس، وليس لنائب الرئيس - وهو ينتخب معه كل أربع سنوات أيضاً. ويتولى رئاسة مجلس الشيوخ - أية سلطة تنفيذية.

وتجري الانتخابات للرئاسة وللنيابة عنها في شهر نوفمبر، وقبل المعركة الانتخابية يعلن كل حزب سياسي مرشحيه لكل من الرئاسة والنيابة عنها، وتضع الأحزاب كذلك قائمة بأسماء مندوبيها في الانتخابات. وفي الموعد المحدد من نوفمبر ينتخب الناخبون من كل ولاية منتخبي الرئيس (مرشحي الأحزاب في الولايات) وعددهم مساوٍ لعدد النواب والشيوخ في الكونجرس. ومهمة هؤلاء الناخبين التصويت لمرشحي الحزب للرئاسة وللنيابة. والمرشح الذي يفوز بأغلبية الأصوات يصبح رئيساً للجمهورية وهكذا نرى أن رئيس جمهورية الولايات المتحدة يمثل الشعب الأمريكي أصدق تمثيل؛ لأن جميع الناخبين في سائر أنحاء الولايات يشتركون في انتخابه، ومن هنا نرى أن انتصار رئيس ليس إلا انتصاراً لمبادئه التي يعلنها إلى الشعب ومعناه إيمان الشعب بهذه المبادئ، والرئيس مكلف في حالة نجاحه بتنفيذ السياسة التي رسمها وباتباع المبادئ التي نادى بها.

ويتولى الرئيس منصبه في 20 يناير الذي يلي انتخابه في نوفمبر، وتقام لذلك حفلة تسمى حفلة التولية أو المبايعة، ويذهب الرئيس إلى دار الكونجرس ويقسم اليمين التالي:

ص: 14

(إني بكل وقار أقسم أني سأنفذ بكل أمانة واجبات منصب رئيس الولايات المتحدة، وإني سأبذل كل ما لي من قوة لأحافظ وأحمي وأناضل عن دستور الولايات المتحدة) ثم يلقي الرئيس خطبة يوضح فيها السياسة التي تلتزمها إدارته. وأثناء مدة الرئاسة يقيم الرئيس في قصر أعد له هو (البيت الأبيض) بواشنطن.

سلطات الرئيس:

رئيس الولايات المتحدة الأمريكية - طبقاً للدستور - هو المهيمن على السلطة التنفيذية، وجميع الموظفين مسئولون أمامه ويستمدون منه سلطتهم، وعليه أن يعنى بتنفيذ القوانين وأن يدير المنظمة الكبرى التي تقوم بمهام الحكومة، وهو الموظف الوحيد ما عدا نائبه الذي ينتخبه الشعب وهو مسئول أمام الشعب وعليه أن يسعى دائماً إلى تحسين أحوال الشعب والبلاد.

وسلطات الرئيس التنفيذية كثيرة ومنوعة: فهو ينفذ الدستور والقوانين التي يسنها الكونجرس، وهو القائد الأعلى للجيش والبحرية والفرق المحلية (المليشيا) للولايات، وهو الذي يرسم سياسة الولايات المتحدة الخارجية ويعين الوزراء والسفراء بموافقة مجلس الشيوخ، وبواسطته يمكن أن تعترف حكومته بأي دولة جديدة، ويمكن أن يفاوض حكومات الدول الأخرى وأن يعقد معاهدات بشرط أن يوافق عليها مجلس الشيوخ.

وله أن يرسل جيش الولايات المتحدة إلى أية بقعة من بقاع الأرض.

وهو يختار الوزراء المسئولين عن تسيير شؤون الحكومة الاتحادية في الخارج والداخل ولكن يشترط أن يوافق مجلس الشيوخ على اختيارهم، ومن هؤلاء الوزراء تتكون وزارة الرئيس.

وقد اختار واشنطن الرئيس الأول للجمهورية أربعة وزراء لمساعدته ولكن زاد عدد الوزارات فبلغ تسعاً 1948: الخارجية المالية، الدفاع (الجيش والبحرية والطيران) العدل، البريد، الداخلية، الزراعة، التجارة والعمل.

ويشرف وزير الخارجية - وهو تابع للرئيس ومستشار له - على السياسة الخارجية: ومهمة وزارة الخارجية إقامة العلاقات الودية بين الولايات المتحدة والدول الأجنبية، وتقوية العلاقات التجارية والصناعية مع الدول الأجنبية وحماية الرعايا الأمريكان وأملاكهم في

ص: 15

الخارج.

وأما وزارة المالية فمهمتها تدبير الشؤون المالية لحكومة الولايات المتحدة، وحماية دخل الحكومة وزيادته وحماية قوة شراء العملة الأمريكية وقيمة الثقة بمالية الحكومة الأمريكية وجباية الضرائب للحكومة الخ.

ومهمة وزارة الدفاع المحافظة على سلامة الأمة من أي عدوان خارجي أو فتنة داخلية سواء في زمن السلم أم في زمن الحرب.

ومهمة وزارة العدل تنفيذ القانون الاتحادي تنفيذاً فعالاً وحماية حقوق الولايات المتحدة القانونية وحماية حقوق الأفراد وتنفيذ قوانين الهجرة والجنسية.

وأما وزارة الداخلية فتعمل على تحسين الرفاهية ورعاية مصادر الثروة الأهلية وتنميتها؛ فتعنى بالإشراف على الأراضي ومنها أراضي المراعي، وتعمل على حسن استغلال الأراضي الزراعية، وتنظم موارد الأخشاب من الغابات، وتدرس المصادر الطبيعية للثروة المعدنية؛ وتستغل مساقط المياه في توليد الكهرباء.

ووزارة الزراعة تعمل على توفير الغذاء للشعب وذلك بتحسين الإنتاج الزراعي والحيواني للمواد الغذائية.

وأما وزارة التجارة فمهمتها ترقية تجارة الأمة وتوسيعها، وفتح الأسواق الخارجية لها.

وتعنى وزارة العمل بشؤون العمال، وبتحسين حالتهم وزيادة رفاهيتهم وتسوية الخلافات التي تقوم بينهم وبين أصحاب الأعمال.

السلطة القضائية:

وهي تتكون من المحاكم الاتحادية، ومهمتها تفسير القوانين الاتحادية وشرحها والحكم في القضايا بين رعايا الولايات المختلفة ومعاقبة مخالفي القانون.

وتقوم محاكم الحكومة الاتحادية بعدة واجبات أخرى. . إذا اتهم شخص في الولايات المتحدة بالاعتداء على القانون يؤتى به إلى المحاكم الاتحادية ليحاكم.

وتقوم المحاكم الاتحادية بوظيفة الحكم إذا قام خلاف بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.

وإذا قام خلاف بين ولايتين يعرض النزاع على المحاكم الاتحادية للفصل فيه.

المحكمة العليا:

ص: 16

نص دستور الولايات المتحدة على إنشائها، ولا يمكن إلغاؤها إذا عدل الدستور، وهي أعلى محكمة في البلاد، وإليها تستأنف الأحكام. ويعين قضاتها الرئيس، ويوافق مجلس الشيوخ على التعيين.

وهناك محاكم اتحادية أخرى. ويستطيع سكان الولايات المختلفة أن يستأنفوا أحكام محاكم الولايات أمام المحاكم الاتحادية إذا لم يقتنعوا بالحكم الأول.

ولرئيس الجمهورية حق تخفيف العقوبة وحق العفو عن المجرمين وتعيين قضاة المحاكم الاتحادية.

اتحاد فدرائي:

سألني أديب عن معنى كلمة (اتحاد فدرائي) وأنا أجيبه فأقول إن الاتحاد الفدرائي هو اتحاد عدة ولايات لتكوين دولة، وفي هذا الاتحاد تحتفظ الولاية بحكمها الذاتي، وتقوم الحكومة المركزية أو الاتحادية بالإشراف على الشؤون العامة للدولة كما رأينا في شرحنا للنظام الحكومي في الولايات الأمريكية؛ فإن هذه الدولة هي خير مثل للاتحاد الفدرائي.

وهناك اتحاد آخر هو الاتحاد الكنفدرائي. وفي هذا الاتحاد تفقد الولاية شخصيتها وتنتقل سلطة الولاية إلى الحكومة المركزية. وخير مثل لهذا هو الاتحاد الذي قام في ألمانيا الحديثة سنة 1780.

قويسنا

أبو الفتوح عطيفة

ص: 17

‌على هامش النكبة

نفوس كبيرة

للأستاذ حسني كنعان

عاد من غرفة مدير المدرسة يتأبط مجموعة للكتابة ومسطرة وقلم رصاص، وكان بجانبه في المقعد تلميذ ظريف مداعب يحب مداعبته دائماً، وما كاد يلج الصف ويجلس مكانه على المقعد حتى فاجأه هذا الرفيق (الدعوب) يقول له:

- هنيئاً لكم معشر التلاميذ اللاجئين الفلسطينيين هذه المنح والأعطيات والهدايا التي تقدم إليكم مجاناً الفينة بعد الفينة، ونحن ننظر بأعيننا دون أن يصل إلينا مثل الذي يصل إليكم. .

فمن كتب مدرسية إلى أقلام ودفاتر وماحيات وحرامات للتدفئة وسراويل وصداري). . . ثم إلى آخر ما هنالك من حاجات تبهج الفؤاد وتقر العين وتثلج الصدر. فلماذا لم يوزعوا علينا مثلها؟ ألسنا تلاميذ مثلكم، نتعلم كما تتعلمون، وندرس كما تدرسون. . وكان هذا الحار يتكلم والبسمة لا تفارق شفتيه القرمزيتين زيادة في الدعابة، فحسبه صديقه جاداً في قوله، وليس من عادته أن يركبه بمثل هذه الدعابة التي أثرت في نفسه تأثيراً عميقاً، فرجع بالذاكرة إلى الماضي القريب كيف كان يدفع إليه مثل هذه الهنوات المدرسية ليوزعها على فقراء الطلاب في مدرسته الأولى قبل أن يغادرها مجلياً مشرداً طريداً، فطفرت من مقلتيه الدموع حارة على المصير السيئ الذي انتهى إليه، ثم نظر إلى رفيقه نظرة عتاب وسلامة، بيد أن صديقه ما قصد بقوله ذاك سوى الدعابة والمباسطة والإيناس ليدخل إلى روع صديقه أن قبول الهدايا لا ضير فيه ولا عار، وأنها لو قدمت إليه نفسه على شرف والده وثرائه وغناه لما استنكف عن قبولها، لكن هذا اللاجئ حسب أنه جاد لا هازل فقال له فيما قال:

- أتحسدوننا على هذه الحاجات التي لا تعدل شيئاً في نظرنا، وقد تركنا الأطيان والأموال والحلي والرياش والمتاع والعقار. . وخرجنا من بلادنا حفاة عراة لا نلوي على شيء. .

وما هذه العطايا التي تعتبرونها هدايا لنا إلا كالهبات ومسليات لنا عن مصابنا الأليم الفادح، فو الله لا آخذها ولن أقبل شيئاً منها بعد الآن. .

وهنا أخذت الحدة مأخذها من الطفل اللاجئ الذي لا يتجاوز تحصيله السنة الثانية من سني

ص: 18

المدارس الابتدائية وأعتبر أن مزاح رفيقه قد مس كرامته فأهوى على المجموعة فمزقها، وعلى القلم والمسطرة فحطمهما، وألقاهما في سلة المهملات ومضى يقول:

أجل كيف نقبل مثل هذه المنح الرخيصة، من يد المتعسفين الظالمين الذين أذلونا وشردونا وأخرجونا من ديارنا وأقاموا مقامنا حثالة من شذاذ الآفاق! إن هذا لن يكون. . . فبهت رفيقه، وندم على ما بدر منه، وأخذ يعتذر له ويطلب منه العفو والمغفرة، فلم يفد من اعتذاره ومؤانسته شيئاً. . بينما كان معلم الصف منهمكاً بكتابة الوظيفة الليلية على اللوح سمع حوارهما الرقيق بلسان الطفولة البريئة، ورأى أن هذه الحركة غير عادية في درسه، فترك اللوح وأقبل على الطفلين يستطلع خبرهما. ولما أدرك القضية وعرف سببها أوقفهما على انفراد في زاوية من زوايا الصف ريثما ينتهي من عمله فيجري معهما التحقيق اللازم ويعاقبهما بعده لإخلالهما في درسه. .

انتهى الدرس وخرج التلاميذ إلى الفسحة، فتقدم المعلم من التلميذين الموقوفين وبدأ بالتلميذ اللاجئ قائلاً:

- أيجوز لك (يا عامر) أن تتلف المجموعة وتحطم المسطرة والقلم وترمي بهما جميعاً في السلة، ثم ترفض النعمة التي أنت أحوج الناس إليها؟ إن عملك يا عامر لا يعمله تلميذ عاقل، في حين أن رفيقك لم يقل ما قاله إلا مداعباً ومازحاً. . ومن عادة الأصدقاء الدعابة والتظرف والإيناس. . فرفع عامر إصبعه بأدب وطلب من أستاذه أن يسمح له بالكلام، فسمح فاستهل الصبي كلامه قائلاً: أنت يا سيدي بمقام والدي ومن حق الوالد على الولد أن يصغي إلى شكوى ولده بروية وهدوء. .

- فقال المعلم: أحسنت يا بني تكلم وأوجز. .

- سيدي إن من عادة رفيقي هذا الدعابة والمزاح فهو يمازحنا جميعاً، وما علمت أن أحداً أزعجه مزاحه ودعابته، لكنني هذه المرة لا أدري كيف أثرت دعابته بي هذا التأثير الذي اعتبرته جارحاً للعاطفة مثيراً للنفس في حين أنه كان صداه الدعابة ولحمته المزاح على الغالب. . .

وقد أثقل على ذلك وأنا ربيب نعمة وأليف خير ورخاء، ما تعودت تناول العطايا من أحد أو أن أسمع شيئاً مما قاله اليوم صديقي، وما فعلت ذلك في أدواتي إلا ترفعاً وإباء وندماً

ص: 19

على أخذ هذه الهدية، فلأن أعيش جاهلاً ثم أهلك برداً وجوعاً وعرياً أحب إلي من سماع قول كهذا وأخذ يجهش بالبكاء. .

وكان هذا الولد ابن رجل ثري في حيفا يملك ثلاث بيارات واثنتي عشر مفتاحاً لدور ودكاكين ومخازن، وكان إلى جانب هذا يملك ثروة تقدر قيمتها بثمانين ألف جنيه ذهبت جميعها نهباً مقسماً لشذاذ الآفاق، حتى أن والده عندما شعر بأن السلطة الحاكمة هناك حالت دون وصول النجدة من المجاهدين الأشاوس إلى حيفا وألجأت أهلها إلى الخروج منها بالقوة، وأنها ساعدت الغزاة الغادرين على مطاردتهم منها، عاد إلى الدار ليحمل ما يقدر على حمله من الأموال، فقتل وهو هارب بها وسلبت منه، وقد علمت الأسرة بمصرعه وهي مؤلفة من زوجة ثكلى وولد وبنت، أما الولد فهو عامر صاحب قصتنا هذه، وأما البنت فهي التي عالت هذه الأسرة كما سترى، وأخيراً أتت هذه الأسرة المروعة بأعز عزيز لديها إلى حيفا، وقد أجلتها السلطة المنتدبة عن ديار الآباء والأجداد على الجملة، ولم تدعها تودع فقيدها الغالي ولو بنظرة أخيرة تلقي على جثمانه الطاهر الذي همد كالصرح مجندلاً بدمه، أجل أتت إليها تلك السلطة الشيطانية فأركبتها سيارة أقلتها إلى الميناء ومن ثم قذفوا بها في قارب مع من قذف من سكان حيفا ووجهتهم ميناء صيدا تحت وابل من رصاص الآثمين المعتدين. . .

وبعد مشقة وعذاب وصلوا إلى ميناء هذه المدينة الساحلية انتقلوا بعد ذلك إلى بيروت، وأقاموا حقبة من الزمن كأنها دهر، فزين لهم أقاربهم اللجوء إلى دمشق فأموها وهم في حالة يرثى إليها من التعب والمسغبة. . .

ولما وصلوا إليها متأخراً لم تدون أسماؤهم في جمعية الصليب الأحمر. وكان لا دخل لديهم إلا معاش البنت التي عينت معلمة للغة الإنجليزية في المدارس الخاصة، وذلك بعد أن من الله عليهم بالإقامة فيها وكانت الأجرة زهيدة. .

وكان المعلم يعرف هذا كله فلم يستغرب ما رأى وما سمع منه فرق لحاله، وأخذ يخفف عن الصبي ويسري عنه ويربت على كتفه ويقول:

- نعم العمل عملك يا بني، ونعمت النفس الأبية نفسك. ثم تقدم وأخرج من منضدته مجموعة ومسطرة وقلم رصاص ودفعها إلى الصبي بلطف راجياً منه قبولها هدية منه،

ص: 20

وزاد في الإيناس والتلطف حتى تخيله الصبي والداً له، فاستحيا منه وتناول الأدوات والاحمرار باد على وجهه، والعرق يتصبب من جبينه، ذهب التلميذ مساء إلى البيت يحمل بيده الراعشة الهدايا من يد معلمه الأب المعنوي له. . .

ولكن الصبي عاد في اليوم التالي بالأدوات إلى المدرسة ودفعها إلى أستاذه مع رسالة من والدته تشكر المعلم على حسن صنيعه وتصرفاته مع ولدها ثم تعتذر من قبول الهدية وتقول:

إنها لا تريد أن ينشأ ولدها على مد يده للهدايا ما دام في يديها وعنقها حلي وأطواق تبيعها تباعاً لتنفقها على ولدها كلما أبصرته بحاجة إلى المال للحصول على اللازم من أدوات المدرسة وتكاليفها. .

هذه حادثة واقعية ليست من نسج الخيال يلفقها كاتب أو شاعر للدخول إلى قلوب القراء وتملقهم واستمالتهم ولفت أنظارهم إلى أسلوب خاص بالأدب القصصي: بل هي من القصص الواقعية التي نراها ونسمع عنها تصدر كل يوم عن هذا الشعب العربي الأبي الذي نهنهته النكبة وأذلته الفاقة وهو ما انفك محافظاً على إبائه وكرامته. . .

فإن دلت هذه الأفاحيص على شيء فإنما تدل على كبر هذه النفوس التي تحلي هذه الجسوم الصغيرة، وأنا لنأمل يوماً أن يستطير شررها فتنقلب إلى براكين جياشة تنفجر فتقض مضاجع أولئك المستعمرين الغاصبين الذين سببوا هذه النكبة، وسيكون إنقاذ البلاد السليبة ما تقاسى الآباء على أيدي هؤلاء الأحداث الذين تفتحت أعينهم على ظلام النكبة فغلت نيران الثأر في نفوسهم ورضعوها مع اللبن.

دمشق

حسني كنعان

ص: 21

‌بمناسبة ذكرى شوقي

المرأة في شعر شوقي

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

شوقي قمة من القمم الشوامخ في تاريخ الأدب في العصر الحاضر، فهو من شعراء الطليعة، يضطرك بروعة بيانه وقوة عارضته واتساع أفق خياله وغزارة مادته، وما تلمس في آياته الشعرية من جزالة وسهولة، أن تضعه في مقدمة الصفوف.

وهو أقوى دليل وأكبر برهان على ما وصل إليه الأدب المصري الحديث من نهضة وتقدم، فقد جمع شوقي في شعره بين القديم والجديد في أسلوب بليغ يتمشى مع جزالة الأدب العربي القديم، والتفكير العصري والذوق الحديث، فتراه يعمد إلى الألفاظ اللغوية القديمة التي نسبها الناس وصاروا لا يستسيغونها ولا يقوون على سماعها لأنهم لا يعرفون معانيها فيبعثها في شعر يحيط فيه بما في الغرب من صور بديعة ومعان رائعة وخيالات واسعة واضحة ترضاها الحضارة الشرقية ويستسيغها الطبع الشرقي.

فقد كان يعتبر أن البعث للألفاظ الدارسة وسيلة من وسائل التجديد، وسبيلاً من السبل التي تصل بين مدنية قديمة بائدة ومدنية حديثة طارقة، يجب ألا تنقطع الصلة فيهما بين السلف والخلف، وقد كفل لهذه الألفاظ حياة جديدة بما أفاض عليها من ثوب شعري جميل جعلها تتسع لما ظنها الناس أنها لم تتسع له من الصور والأخيلة والمعاني.

وشوقي كغيره من الشعراء طرق أبواب الشعر القديم ثم زاد عليها ما استجدت به الأيام من الاجتماعيات والحوادث التي عاصرها وما أحدثت في نفسه من آثار بالغة، ومن هذه الحوادث البالغة الأهمية، الضجة التي قامت حول تحرير المرأة وإعطائها نصيباً موفوراً من الحرية التي حمل لواءها قاسم بك أمين.

وقد شارك شوقي في هذه الدعوة بنصيب لا بأس به، ولكنه كان كغيره من الشعراء والكتاب يخضع لقانون البيئة الاجتماعية الذي تفرضه على الألسنة فلا تنطق إلا بحذر، وعلى الأقلام فلا تكتب إلا بمقدار، وعلى الجوارح فلا تتحرك إلا في تلصص، وعلى القلوب فلا تنبض إلا في خوف ووجل، لأنهم كانوا يخشون أن يكون في شيء من هذا ما يثير سخط المحافظين الذين يعتبرون - في ذلك الوقت - السواد الأعظم الذي يسيطر على

ص: 22

الجانب الخلقي من الحياة المصرية فكان على شوقي بحكم هذه الاعتبارات، ولأنه لا يريد أن يباعد بينه وبين محبيه أو ينفر منه القلوب التي أجلسته على عرش الإمارة، وزانت جبينه بتاجها، ألا يعرض لهذا الموضوع فيما ينشر على الناس إلا مترفعاً متأنياً حذراً غاية الحذر.

ويتخذ شعر شوقي عن المرأة صورتين. منفصلتين لا تقارب بينهما: أما الصورة الأولى فهي تقليده لمن سبقه من الشعراء، إذ يفتتح قصائده بالنسيب الذي اعتاده الشعراء القدامى، كما في قوله من قصيدته (لبنان)

السحر من سود العيون لقيته

والبابلي بلحظهن سقيته

الفاترات وما فترن رماية

بمسدد بين الضلوع مبيته

الناعسات الموقظات على الهوى

المغريات به وكنت سليته

القاتلات بعابث في جفنه

ثمل الغرار معربد أصليته

الشاهرات الهدب أمثال القنا

يحيى الطعين بنظرة ويميته

الناسجات على سواء سطوره

سقماً على منوالهن كسيته

ثم يقول فيها:

إن قلت تمثال الجمال منصباً

قال الجمال براحتي مثلته

دخل الكنيسة فارتقبت فلم يطل

فأتيت دون طريقه فزحمته

فازور غضباناً وأعرض نافراً

حال من الغيد الملاح عرفته

فصرفت تلعابي إلى أترابه

وزعمتهن لبانتي فأغرته

فمشى إلى وليس أول جؤذر

وقعت عليه حبائلي فقنصته

في هذه الأبيات الأخيرة بين لنا شوقي طبيعة المرأة عندما يتقرب منها الرجل طالباً ودها فتتمنع وتظهر الإعراض والصد حتى إذا رأته ينظر إلى غيرها أو يحادث إحدى صويحباتها ثارت غيرتها، وطامنت من كبريائها، وحاولت هي التقرب منه حتى لا تظفر به غيرها.

وشيء آخر يظهر لنا من هذه الأبيات، وهو معرفة شوقي لمواطن الضعف عند حواء، وكيف أنه يعرف متى يقبل عليها ومتى يعرض عنها.

ص: 23

وفي سنة 1919 ثارت البلاد على مختلف طبقاتها تطالب باستقلالها، وسافر الوفد المصري لغرض قضية البلاد على مؤتمر السلام في فرساي وهناك تلقى دعوة من لورد (ملنر) وزير المستعمرات الإنجليزية إذ ذاك ليتفق مع الوفد على مركز البلاد وتحديد علاقة إنجلترا بها. وتمخضت المحادثات عن مشروع قدمه لورد (ملنر) واتفق مع الوفد على عرضه على البلاد لأخذ رأيها فيه مع التزام الحيدة، فأنتدب الوفد أربعة من أعضائه للقيام بهذه المهمة، وقد اختلف القوم في صلاحية المشروع أو عدم صلاحيته.

وقد شارك شوقي في هذه الحركة وعبر عنها أصدق تعبير في قصيدة طويلة بدأها بالنسيب فقال:

أئن عنان القلب واسلم به

من ربرب الرمل ومن سربه

ومن تثنى الغيد عن بأنه

مرتجة الأرداف عن كثبه

ظباؤه المتكسرات الظبا

يغلبن ذا اللب على لبه

بيض رقاق الحسن في لمحة

من ناعم الدر ومن رطبه

إلى قوله:

يا ظبية الرمل وقيت الهوى

وإن سعت عيناك في جلبه

ولا ذرفت الدمع يوماً وإن

أسرفت في الدمع وفي سكبه

هذى الشواكي النجل صدن امرأ

ملقى الصبا أعزل من غريه

صياد آرام رماه الهوى

بشادن لا برء من حبه

قد شاب في أضلعه صاحب

خلو من الشيب ومن خطبه

واه بجنبي خافق، كلما

قلت تناهى، لج في وثبه

فأنت ترى بالرغم من أن الموضوع الذي نظم فيه القصيدة موضوع سياسي بحت، إلا أنه سار على سنن من قبله من الشعراء الأقدمين؛ فبدأ قصيدته بهذا النسيب مهد لموضوعه الذي نظم من أجله القصيدة فقال:

ما بال القوم اختلفوا بينهم

في مدحة المشروع أو ثلبه

كأنهم أسرى، أحاديثهم

في لين القيد وفي صلبه

يا قوم هذا زمن قد رمى

بالقيد واستكبر عن سحبه

ص: 24

الخ. . .

وعندما أطلق سراح شباب الحركة الوطنية في عهد وزارة سعد زغلول، وأحتفل شباب مصر بنجاة إخوانهم وإخراجهم من السجون، شارك شوقي في تكريمهم بقصيدة عامرة افتتحها بأبيات غزلية رقيقة هي:

بأبي وروحي الناعمات الغيدا

الباسمات عن اليتيم نضيدا

الرائيات بكل أحور فاتر

يذر الخلي عن القلوب عميدا

الراويات من السلاف محاجرا

الناهلات سوالفاً وخدودا

أقبلن في ذهب الأصيل ووشيه

ملء الغلائل لؤلؤاً وفريدا

يحدجن بالحدق الحواسد دمية

كظباء وجرة مقلتين وجيدا

حوت الجمال فلو ذهبت تزيدا

في الوهم حسناً ما استطعت فريدا

لو سر بالولدان طيف جمالها

في الخلد خروا ركعاً وسجودا

وما أشبه هذا البيت الأخير بقول كثير عزة حيث يقول:

رهبان مكة والذين عهدتهم

يبكون من خوف العذاب قعودا

لو يسمعون كما سمعت حديثها

خروا لعزة راكعين سجودا

في هذه القصائد يظهر تقليد شوقي لمن سبقه، فهو يدفع بالمرأة دفعاً في قصائده وفي مواقف يحسن أن تكون بعيدة عنها كل البعد، إذ أن الغزل والتشبيب الذي يبدأ به قصائده لا يكون إلا في وقت تكون النفس هادئة تنعم بالطمأنينة والأنس، ولكنك لا تملك نفسك من الإعجاب ببراعة الشاعر وافتتانه في الإتيان بروائع المعاني وفخم الألفاظ.

أما غزله الخالص قاله متغزلاً فهو قصير قليل تظهر فيه الصناعة والتأثر في لفظه ومعناه بمن تقدمه من الشعراء. فإذا تصفحت باب النسيب في الجزء الثاني من الشوقيات فإنك لا تكاد تعثر على شعر تستطيع أن تقول عنه بوصال وقرب. مما يجعلنا نعتقد أن الشاعر لم يصب بهذا الداء - داء الحب -، لذلك نجد هذا النوع من شعره أكثر صناعة وتكلفاً، ولولا قوة الشاعر وبراعته لما وجدت في نفسك دافعاً لقراءته. فاسمعه يقول وهو تقريباً أجود ما قاله في هذا الباب:

خدعوها بقولهم حسناء

والغواني يغرهن الثناء

ص: 25

أتراها تناست اسمي لما

كثرت في غرامها الأسماء

إن رأتني تميل عني كأن لم

تك بيني وبينها أشياء

جاذبتني ثوبي العصي وقالت

أنتم الناس أيها الشعراء

فاتقوا الله في قلوب العذارى

فالعذارى قلوبهن هواء

وقوله في قصيدة أخرى:

أداري العيون الفاترات السواجيا

وأشكو إليها كيد إنسانها ليا

قتلن ومنين القتيل بألسن

من السحر يبدلن المنايا أمانيا

وكلمن بالألحاظ مرضى كليلة

فكانت صحاحاً في القلوب مواضيا

حببتك ذات الخال والحب حالة

إذا عرضت للمرء لم يدر ماهيا

وأنك دنيا القلب مهما غدرته

أنى لك مملوءاً من الوجد وافيا

صدودك فيه ليس يألوه جارحاً

ولفظك لا ينفك للجرح آسيا

وبين الهوى والعذل للقلب موقف

كخالك بين السيوف والنار ثاو

وبين المنى واليأس للصبر هزة

كخصرك بين النهد والردف واهن

وعرض بي قوم يقولون قد غوى

عدمت عذولي فيك إن كنت غاو

يرومون سلوانا لقلبي يريحه

ومن لي بالسلوان أشربه غاليا

وما العشق إلا لذة ثم شقوة

كما شقي المخمور بالسكر صاحيا

على هذا النمط تجد شعره الذي يندرج تحت هذا الباب كله صناعة وتقليداً للسابقين.

هذه هي الصورة الأولى التي ذكر فيها الشاعر المرأة ومنها نرى أن نصيبها من هذا القسم من شعره نصيب لا يساير روح العصر ولا يتمشى مع تطور الزمن ونهضة المرأة في الميدان الاجتماعي وما وصلت إليه.

أما الصورة الثانية فهي التي سنقدمها إلى القراء في العدد القادم إن شاء الله.

أسيوط

عبد الموجود عبد الحافظ

ص: 26

‌رسالة المربي

صلتها بأهداف التربية الأخرى. . . التربية الاجتماعية. . . التربية الخلقية التربية البدنية

للأستاذ كمال السيد درويش

إذا كانت تلك هي رسالة المربي في الحياة فما هو موقفها من أهداف التربية الأخرى؟ سنبدأ بالكلام عن موقفها من التربية الاجتماعية لأنها من أهم الأهداف التي تتردد على الألسن في الوقت الحالي.

إن الصيحة التي انبعثت تنادي بضرورة الاهتمام بالتربية الاجتماعية هي نتيجة طبيعية للأحوال المضطربة التي يجتازها المجتمع في العصر الحالي. إن الإنسان مضطر إلى الحياة مع غيره من الناس فهو كائن اجتماعي والمجتمع نتيجة حتمية لوجود الإنسان. ومع الحياة في المجتمع تتعقد الأمور وتتعارض، وتنمو المشاكل، ولقد كانت مشاكل المجتمع البدائي بسيطة سهلة ومع ذلك حاول الإنسان التخلص منها فابتكر واخترع وكان يأمل من وراء ذلك إلى توفير جهوده مع تحقيق أكبر قسط ممكن من السعادة. وعلى عكس ما كان منتظراً لم يأت كل اختراع جديد إلا وفي طياته من المشاكل الظاهرة والخفية ما زاد في آلام الإنسانية ومتاعبها حتى أصبحنا في القرن العشرين نعاني من الآلام والويلات ونجابه من الأزمات ما أكد لدينا أن المجتمع الإنساني قد أصبح مريضاً حتى أصبحنا الآن نفكر في علاج هذا المجتمع المريض. ولما كانت التربية من أهم وسائل العلاج، فقد انبعثت الصيحة؛ تلك الصيحة القوية التي نادت ولا تزال تنادي بضرورة الاهتمام بالتربية الاجتماعية بل وبجعلها هدف التربية الأسمى.

وتقف رسالة المربي من هذه الصيحة موقفاً آخر غير موقف المؤيدين. ذلك أن أنصار هذا الهدف سيخضعون كل وسائل التربية لتحقيق هذا الهدف الذي سيصبح تقليداً جامداً وديكتاتوراً متحكماً يقف في وجه التطور والتقدم، وسيقتل النمو وهو ما يتنافى مع رسالة المربي. تنظر رسالة المربي إلى التربية الاجتماعية من وجهة نظرها الخاصة بمواصلة النمو. هي تنظر إلى التربية الاجتماعية لا على أنها هدف في ذاته؛ ولكن على أنها وسيلة إلى هدفها هي، فالتربية الاجتماعية تؤدي إلى إيجاد التوافق الاجتماعي الذي يساعد الإنسان على مواصلة التقدم والنمو، وهكذا يرفع هدف رسالة المربي في هذه الحالة من قيمة

ص: 27

التربية الاجتماعية ويحلها مكاناً سامياً ويفرض على المشتغلين بالتربية الاهتمام بها.

إن الإنسان اجتماعي ولذلك يحتاج إلى معرفة كيفية الحياة في هذا المجتمع حتى يستطيع الاندماج فيه والتآلف مع أفراده وتكييف نفسه حسب ظروف المجتمع الذي يوجد فيه، وهذا شرط أساسي لكي يستطيع بعد ذلك العمل باستمرار والسير في طريق التقدم. ونمو الأفراد أساس نمو المجتمع وتقدمه، وإذا كان النمو دليل الحياة في الأفراد فكذلك نجده دليلاً على حياة المجتمع.

إن رسالة المربي تستخدم التربية الاجتماعية كوسيلة من الوسائل الفعالة في نمو المجتمع.

ونحن نعني بالتربية الاجتماعية تلك التي تمكن أفراد المجتمع من التآلف بتنمية قدرتهم على التكيف حسب الظروف المحيطة بهم في المجتمع وحتى يستطيعوا مواصلة التقدم في الحياة. وهذا هو ما يحتاج إليه المجتمع الإنساني، فالتطور الذي انتهى إليه بعد قرون عديدة هو نتيجة خيرات تلك القرون، وتتعقد مشاكله حتى يقف أمامها معظم أفراد المجتمع عاجزين عن فهمها أو حتى عن محاولة التفكير في حلها أو التخلص منها. وما الأزمات والحروب التي تهدد العالم من أن لآخر إلا أعراض تعارض المصالح الإنسانية وتضاربها. وعجز الإنسان عن التخلص منها هو الدليل على ضعف التوافق الاجتماعي لديه. لقد عجز أفراد الأسرة العالمية عن تنظيم شؤونها بأنفسهم فأخذت تنحط بعد رقيها وتتأخر بعد تقدمها. ألا يدل ذلك على جهل أفرادها بالخصائص الاجتماعية الضرورية للحياة في وفاق ووئام. يجب أن تقوم التربية الاجتماعية بهذا التنظيم الاجتماعي في حدوده الضيقة داخل الأسرة وفي مجاله الكبير بين العالم. إن الذي ينقص الفرد فالأسرة فالمدينة فالدولة فالعالم هو التوافق الاجتماعي، ولو نجحت التربية في إيجاد التوافق الاجتماعي لدى الأفراد لاطرد نحو المجتمع ولأصبح العالم كله أسرة كبيرة منسجمة، يعمل أفرادها في توافق وانسجام، ويسير ركابها دائماً نحو الأمام، ولكن كيف نستطيع التربية الاجتماعية وتحقيق التوافق الاجتماعي بين الأفراد؟ إن ذلك من السهولة بمكان. لقد عاش الإنسان مع غيره من الناس فوجد أن الصدق يؤدي في النهاية إلى تقدم الجميع، فقال: إن الصدق فضيلة. ومن خبرته وجد كما وجد غيره أن الكذب رذيلة. وهكذا نشأت الأخلاق وأخذت تنمو بنمو المجتمع ذلك لأنها ضرورية لا لحياة المجتمع بل لتقدمه أيضاً. فظهور الأخلاق نتيجة حتمية لحياة

ص: 28

الإنسان الاجتماعية. ولابد من الأخلاق لصالح المجتمع وبدونها لا تستقيم حياته. فهي التي تحدد نوع العمل الذي يجب أن نعمله وبفضلها نستطيع أن نتبين نوع العمل الذي يجب أن لا نعمله، لا لأننا لا نرضاه فقد يكون من أحب الأعمال إلى نفوسنا، ولكن لأنه يتعارض ومصلحة المجتمع الذي نعيش فيه. الأخلاق هي الرقيب على تصرفات المجتمع وأفراده، وهي البوليس الذي يحمي المجتمع، ورجل المرور الذي يصرف حركاته. وإذا عاش المجتمع بدون أخلاق أصبح كالمدينة بدون البوليس، والشوارع بدون رجل المرور، أصبح حافلاً بالاضطراب والفوضى.

لذلك يجب أن تحتل الأخلاق مكانها اللائق في التربية. فبدون الأخلاق ينهار ما بين أفراد المجتمع من توافق اجتماعي فينهار المجتمع كله. ولهذا اهتمت الأمم الحية في جميع العصور بالأخلاق حتى أننا نجد الملحدين الذين لا يعترفون بالأديان يهتمون بالأخلاق وبالتمسك بأهدابها. ولقد قامت المذاهب الفلسفية وتعددت ولم نجد من بينها مذهباً واحداً استطاع إغفال ما للأخلاق من أهمية. بل لقد ذهبت بعض المجتمعات إلى حد تقديسها وجعلها هدف التربية الأسمى. ونحن بطبيعة الحال لا ننظر إلى التربية الخلقية إلا من حيث وضعها الطبيعي أي كوسيلة من الوسائل التي تساعد على إيجاد التوافق الاجتماعي اللازم للإنسان حتى يستطيع مواصلة نموه والسير في ركب الحياة دائماً أبداً إلى الأمام.

ولا يستطيع المؤرخ إغفال تلك الحقيقة التي يجدها ماثلة أمام عينيه باستمرار، والتي تدل على أهمية الدور الحيوي الذي تلعبه الأخلاق في المجتمع. ذلك أن عصور التدهور والانحلال في الأمم ما هي إلا نتيجة الانحلال الخلقي الذي يكون قد أصاب الأمة قبل ذلك وأخذ ينخر في عظامها حتى تقع في النهاية فريسة سهلة للانقسام الداخلي أو العدو الخارجي. وأن الفرد العادي منا ليلمس نتائج الأخلاق في حياته. إن الرجل الذي يتمسك بالأخلاق غير ذلك الذي انحلت أخلاقه فهوى إلى الحضيض. وأسرة ذات أخلاق غير أسرة لا أخلاق لها. وقد لمس الأدباء والشعراء بإحساسهم المرهف ما للأخلاق من قيمة فمجدوها ورفعوا من شأنها. فهي سر بناء الأمم:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وهي مرجع صلاح أمر الإنسان:

ص: 29

صلاح أمرك للأخلاق مرجعه

فقوم النفس بالأخلاق تستقم

ولكن ما هي الأخلاق؟ إنها شيء أساسي وضروري لإيجاد التوافق الاجتماعي، وهذا هو الذي يحدد معناها. وبمقدار صلاحية الأخلاق في إيجاد هذا التوافق يكون مقدار ما يجب على الناس أن يتمسكوا به. إن تطور المجتمع يؤدي إلى تغير المستويات الخليقة وتطورها، ذلك أنها بمضي الزمن تصبح غير صالحة للغرض الذي وجدت من أجله أي غير صالحة لإيجاد التوافق الاجتماعي، ولذلك يجب أن لا يتمسك الناس بها وبهذه النظرة إلى الأخلاق نستطيع التخلص من إطارها الحديدي وسلطانها الديكتاتوري.

ومعنى ذلك أننا لا نهتم بالأخلاق في حد ذاتها بقدر ما نهتم بالروح الأخلاقية نفسها. يجب أن يهتم رجال التربية بإيجاد تلك الروح الأخلاقية حتى تصبح أساساً يحدد الإنسان بواسطة الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها ليكون عضواً عاملاً ناجحاً في الحياة. ولكن معنى ذلك أن الأخلاق ليست ذات قيم ثابتة في الحياة لأننا لا ننادي بتطور معناها وتغيره، وإنما بتطور طريقة تناولها والفهم لها والعمل بها.

وما دمنا قد أبرزنا أهمية تنمية الروح الأخلاقية فلابد من الكلام عن أهمية الدين. ذلك أن الأديان السماوية هي التي تحض على الأخلاق القويمة فضلاً عن أن الإنسان متدين بطبيعته فهو مضطر إلى التفكير في الصلة التي تربطه بالكون، ولذلك يجب أن تحتل التربية الدينية مكانها اللائق باعتبارها أساساً تنهض عليه الأخلاق القويمة التي لا تتم بدونها التربية الاجتماعية التي تساعد على نجاح عملية التربية.

وتنظر رسالة المربي إلى التربية الدينية نظرتها إلى التربية الخلقية. وبهذه النظرة يمكن التحرر من ديكتاتورية التربية الدينية التي قيدت حرية التفكير الإنساني بسلاسل من حديد كما حدث في المجتمع الصليبي خلال العصور الوسطى.

وكما تقودنا التربية الاجتماعية إلى الاهتمام بالتربية الخلقية والتربية الدينية فهي كذلك تقودنا أيضاً إلى الاهتمام بالتربية البدنية. ذلك أن العلاقة بين الجسم والعقل وتأثير كل منهما في الآخر من القوة بحيث يؤدي إهمال أحدهما إلى أضعاف الآخر. ولما كان غرضنا من الاهتمام بالتربية الاجتماعية إيجاد التوافق بين أفراد المجتمع حتى يسير وينمو، لذلك يجب أن نعتني بأفراد ذلك المجتمع لا من الناحية العلمية أو الخلقية أو الدينية فحسب، بل

ص: 30

وكذلك من الناحية الصحية حتى تكون سلامة الأبدان مدعاة إلى حفظ العقول والتمسك بالأخلاق، وحتى يتم التوافق والانسجام بين قوى الفرد ونوازعه المختلفة فيؤدي ذلك إلى توافق أفراد المجتمع وانسجامهم. وهكذا نجد للتربية البدنية أهميتها التي لا تقل عن التربية العقلية والخلقية والدينية فكلها تشترك في نمو الإنسان وتقدمه.

وما دمنا نريد ترقية المجتمع ونموه فيجب تربية جميع أفراده بلا استثناء أي إلى إقرار مبدأ تكافؤ الفرص وتوطيد العدل الاجتماعي، وسيؤدي ذلك إلى أن تصبح المواهب والميول الطبيعية هي الأساس الذي يحدد مستقبل الأفراد.

بمراعاة ذلك كله يتم التوافق الاجتماعي بين الأفراد، وتزول من المجتمع مظاهر التعارض والشذوذ، ويحل الانسجام والوئام، محل التنافر والخصام، ويسير المجتمع في رقيه وتقدمه إلى الأمام.

كمال السيد درويش

ليسانس الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي

مدرس بالرمل الثانوية

ص: 31

‌4 - أصحاب المعالي

(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفافها)

(حديث شريف)

للأستاذ محمد محمود زيتون

ويكاد أحمد بن منير الطرابلسي يكون الطغرائي الثاني في مطالع معانيه:

وإذا الكريم رأى الخمول نزيله

في منزل فالحزم أن يترحلا

كالبدر لما أن تضاءل جد في

طلب الكمال فحازه متنقلا

سفهاً لحلمك إن رضيت بمشرب

رتق ورزق الله قد ملأ الملا

فارق ترق كالسيف سل فبان في

متنيه ما أخفى القراب وأخملا

لا تحسبن ذهاب نفسك موتة

ما الموت إلا أن تعيش مذللا

للقفر لا للفقر هبها إنما

مغناك ما أغناك أن تتوسلا

لا ترض من دنياك ما أدناك من

دنس وكن طيفاً جلا ثم انجلى

أنا من إذا ما الدهر هم بخفضه

سامته همته السماك الأعزلا

ولأبي العتاهية مثيل في التذرع بالزهد والتقوى التي هي أوضح السبل إلى جانب الحزم والجد والثبات والحركة، ذلك هو الصفدي القائل:

الجد في الجد والحرمان في الكسل

فانصب تصب عن قريب غاية الأمل

إن الفتى من بماضي الحزم متصف

وما تعود نقض القول والعمل

ولا يقيم بأرض طاب مسكنها

حتى يقد أديم السهل والجبل

ومنها:

ولا يصد عن التقوى بصيرته

لأنها للمعالي أوضح السبل

والبيان في نظر سهل بن هارون هو سبيل المعالي التي يفصح عنها اللسان يقول: (إن الله رفع درجة اللسان فوق جوارح الجسد. . . فهو أداة يظهر بها البيان. . . ومفصاح بمعالي الأمور، ودليل على ما بطن في القلوب.،)

وفي هذا يقول الشاعر:

ص: 32

رأيت العز في أدب وعقل

وفي الجهل المذلة والهوان

وما حسن الرجال لهم بحسن

إذا لم يسعد الحسن البيان

كفى بالمرء عيباً أن تراه

له وجه وليس له لسان

ونفطويه يجمع بين لسان العرب ودين الإسلام:

سبيلي لسان كان يعرب لفظه

فيا ليته في موقف العرض يسلم

وما ينفع الأعراب إن لم يكن تقي

وما ضر ذا التقوى لسان معجم

وسلم الناس إلى المجد في العصر الحديث هو العلم كما يقول شوقي:

كل يوم آية دلت على

أن للعلم القوى والغلبا

لو بنوا فوق السها مملكة

لوجدت العلم فيها الطنبا

سلم الناس إلى المجد إذا

طلبوا سلمه والسببا

أما أبو تمام فيرى أن المعالي من غير شعر كالأرض لا معالم فيها:

وإن العلا ما لم ير الشعر بيتها

كالأرض غفلاً ليس فيها معالم

وما هو إلا القول يسري فيغتدي

له غرر في أوجه ومواسم

ويرتفع المتنبي بالشعر فوق الجبال، ويطير به عبر البحار إذ يقول:

قواف إذا سرن عن مقولي

وثبن الجبال، وخضن البحارا

ويقول عن شعره أيضاً:

إن هذا الشعر في الشعر ملك

سار، فهو الشمس والدنيا فلك

ومن طلب المعالي فليشمر لها وليسهر الليالي، هكذا يرى عبد الله فكري:

إذا نام غر في دجى الليل فاسهر

وقم للمعالي والعوالي وشمر

وخل أحاديث الأماني فإنها

علالة نفس العاجز المتحير

ولن تحط الأحداث من قدر رجل عالي الهمة كمحمود صفوت الساعاتي إذ يقول:

ماذا تريد الحادثات من امرئ

من جنده الشعراء والأمراء

دعها تمد كما تريد شباكها

فلربما علقت بها العنقاء

ومنها:

أتحط قدري الحادثات وهمتي

من دونها المريخ والجوزاء

ص: 33

ومنها:

أنا والمعالي عاشقان وطالما

وعد الحبيب فعاقه الرقباء

ويلتقي الشيخ طنطاوي جوهري مع الساعاتي في أن الأول عاشق المعالي والآخر محب المعالي. وكذلك يلتقي مع عبد الله فكري في التوسل إلى المعالي بسهر الليالي، وإن كان يربي عليهما بالتحليق إلى آفاق أسمى وأرجاء أرحب، يقول:

محب المعالي في معاليه يسهر

وذو الشوق في العلياء يصبو ويصبر

ألا إنما المجد المؤثل والمنى

بأن تشرئبوا للعلا وتشمروا

ولا تقتصر إن رمت عزاً ورفعة

على الرتب الدنيا فنفسك أكبر

فسافر لنيل المجد في كل فدفد

ولو كانت الأسفار بالحتف تسفر

هي النفس فلتصرف عنان جوادها

إلى قمة الأفلاك إذ هي أجدر

وخاطر ببذل الروح في كل صولة

فنقد المنايا في المنى ليس يكبر

ولم ينل العلياء من خار عزمه

إذا نابه أمر يذل ويضجر

وهو القائل:

أف لمن نام والعلياء ترمقه

كم حسرة تعتريه حين يختطف

وقال كعب بن سعد الغنوي لابنه:

أعمد لما تعلو فما لك بالذي

لا تستطيع من الأمور يدان

نرى من هذا كيف أن معالي الأمور شغلت الشعراء قديماً وحديثاً، ولئن اختلفوا وأنفقوا على وسيلة إدراكها، فما ذلك إلا دليل كبير على الحيوية الإنسانية في الشعر العربي، والارتفاع بالنفس الخبيرة المجربة عن التقليد، فإذا كل واحد يختط سبيله إلى العلا حراً من كل قيد، مما يجعل للشخصية العربية الشاعرة أصالة وثقافة ممتازتين.

وليس أدل على هذا من عرض مواطن القوة عند شاعرين بينهما من الزمن ما يكاد يقارب الألف من السنين. وهما المتنبي والبارودي:

أما المتنبي فقد تشربت نفسه المعالي في كل أمر حتى لا يطالعنا من شعره بيت إلا بالمعاني الخالدة من مغامرة وسماحة وعلو همة وكبح جماح. يقول:

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

ص: 34

فطعم الموت في أمر حقير

كطعم الموت في أمر عظيم

والله إني لأخو همة

تسمو إلى المجد ولا تفتر

لا تنكري عطل الكريم من الغني

فالسيل حرب للمكان العالي

ودهر ناسه ناس صغار

وإن كانت لهم جثث ضخام

وما أنا منهمو بالعيش فيهم

ولكن معدن الذهب الرغام

أي محل أرتقي

أي عظيم أتقي

وكل ما قد خلق الله

وما لم يخلق

محتقر في همتي

كشعرة في مفرقي

لا أشرأب إلى ما لم يفت طمعاً

ولا أبيت على ما فات حسرانا

في سعة الخافقين مضطرب

وفي بلاد من أختها بدل

وترى الفتوة والمروءة والأبوة

في كل مليحة ضراتها

هن الثلاث المانعاتي لذتي

في خلوتي، لا الخوف من تبعاتها

وإذا كانت النفوس كباراً

تعبت في مرادها الأجسام

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

ذل من يغبط الذليل بعيش

رب عيش أخف منه الحمام

ولا شك أن هذه الأبيات المختلفة وزناً وقافية وقصيداً إنما تنتظم كلها في عقد فريد للمتنبي، لا بأس من أن نطلق عليه (عقد المعالي)، لأن عمدة الشعراء بتجاربه في الحياة وتأملاته في المعالي إنما يشغل سمع الزمن، مهما تغيرت النظرات، كما أنه شاعر إنساني درج عالياً في سلم النشوء والارتقاء إلى أعلى القمم.

وهل من المعقول أن نجد تناقضاً بين نفسية البارودي وحياته، حين نقارن بين البواعث والآثار. وهو الشاعر الفارس الوزير، ورئيس الوزراء، بل وهو الذي نفى بسبب الثورة العرابية التي اتقدت نيرانها من مشاعل الوطنية مما يفخر به شعب أبي مترفع كالشعب المصري الذي أطلع أمثال البارودي رب السيف والقلم. قال:

ولي شيمة تأبى الدنايا وعزمة

ترد لهام الجيش وهو يمور

إذا سرت فالأرض التي نحن فوقها

مراد لمهري والمعاقل دور

ص: 35

فلا عجب إن لم يصرني منزل

فليس لعقبان الهواء وكور

همامة نفس ليس ينفي ركابها

رواح على طول المدى وبكور

معودة ألا تكف عنانها

عن المجد إلا أن تتم أمور

لها من وراء الغيب أذن سميعة

وعين ترى ما لا يراه بصير

وأصبحت محسود الجلال كأنني

على كل نفس في الزمان أمير

إذا صلت كف الدهر من غلوائه

وإن قلت غصت بالقلوب صدور

ملكت مقاليد الكلام وحكمة

لها كوكب فخم الضياء منير

وقال:

وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت

لسلطانه البدو المغيرة والحضر

من النفر الغر الذين سيوفهم

لها في حواشي كل داجية فجر

إذا استل منهم سيد غرب سيفه

تفزعت الأفلاك والتفت الدهر

لهم عمد مرفوعة ومعاقل

وألوية حمر وأفنية خضر

ونار لها في كل شرق ومغرب

لمدرع الظلماء ألسنة حمر

تمد يداً نحو السماء خضيبة

تصافحها الشعري ويلثمها الغفر

ويقول:

وما بي من فقر لدنيا وإنما

طلاب العلا مجد وإن كان لي مجد

ومن كان ذا نفس كنفسي تصدعت

لعزته الدنيا وذلت له الأسد

ويقول:

وما أنا ممن تأسر الخمر لبه

ويملك سمعيه اليراع المثقب

ولكن أخوهم إذا ما ترجحت

به سورة نحو العلا راح يدأب

نفى النوم عن عينيه نفس أبية

لها بين أطراف الأسنة مطلب

لها غدوات يتبع لوحش ظلها

وتغدو على آثارها الطير تنعب

همامة نفس أصغرت كل مأرب

فكلفت الأيام ما ليس يوهب

ومن تكن العلياء همة نفسه

فكل الذي يلقاه فيها محبب

خلقت عيوفاً لا أرى لابن حرة

لدي يداً أغضي لها حين يغضب

ص: 36

أسير على نهج يرى الناس غيره

لكل امرئ فيما يحاول مذهب

للكلام صلة

محمد محمود زيتون

ص: 37

‌رسالة الشعر

انتظار

للأستاذ محيي الدين فارس

عد يا حبيبي إنني في انتظارك. . في الخميله

أرعى خيالك عابراً في الوهم. . في الذكر الجميلة

أرنو إلى الأفق البعيد. . إلى مغانيك الظليله!

كالناسك اللهفان يخشع في محاريب الفضيله

طال انتظاري ههنا والليل قد أرخى سدوله

عد يا حبيبي إنني أنا ههنا منذ الصباح

أغدو على شوك الرؤى وأروح مهتاج الجناح

قلبي! فراشتك التي لعبت بها أيدي الرياح

شفق الغروب جوانحي أواه. .! دامية الجراح

أرعى نجوم الليل يا حسناء بالجفن القريح

ولعاطر الأنسام كم أستاف؟ علك أن تفوحي!

يا زهرة في جنة الأحلام. . يا محراب روحي

وأنت على شفتي أطياف من الأمل الجريح

والبدر رقرق ضوءه حولي. . يسائل من أنا؟

متلهف النجوى، رقيق الخطو، حيران السنا

فكأنه روح الحنان على جراحي هيمنا. .

وأنا هنا طيف الشتاء حرمته خمر المنى

سحرتك موسيقى الحياة. . هناك. في الروض النضير

غاستور في ظل الهناءة، والرغادة، والحبور

فأنا هنا في مجهل النسيان، في الليل الضرير

ظمآن! والنبع الرغيب بثغرك الحار الصغير

وإذا النسائم أرقصت قلب الخمائل والزهور

ص: 38

وتعانقت خضر الغصون تذيع مكنون العطور

وتواثبت فوق المروج، وفي السموات الطيور

أومضت في قلبي - مجنحة الشذى. طفلاً غرير!

لا تسأليني إذ تلوح على أشباح المنون

أنت التي أضرمت نار الحب في قلبي الطعين

وأثرت شجو الليل في دنياي. . والسر الدفين!

وتركتني نهب العواصف في متاهات السنين

أترعت كأسي في صحاري العمر من خمر العذاب

وجعلت زادي من لظى الحرمان. . من دمع الشباب

وصنعت لي قيداً من الشوق العنيف من الضباب

فبكيت في حان الظلام كأنني شكوى التراب!

ولى الصباح. . وهاهو الليل الكئيب على البطاح

وأنا هنا. . في هوله الجبار حيران الجراح. .

حتام أحرق مهجتي بالشوق يا ألق الصباح

هذا سراج العمر سوف تغوله هوج الرياح!

عد يا حبيبي إنني أنا في انتظارك. . في الخميله

أرعى خيالك عابراً في الوهم. . في الذكر الجميله

أرنو إلى الأفق البعيد. . إلى مغانيك الظليله!

كالناسك اللهفان يخشع في محاريب الفضيله

طال انتظاري ههنا والليل قد أرخى سدوله

محيي الدين فارس

ص: 39

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

الفن للفن

تلقيت من صديقي الشاعر العراقي الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري، رسالة من رسائله التي يتفضل بكتابتها إلي يناقشني ويحدثني بها عن شؤون أدبية، يجر فيها الحديث إلى الحديث، ويقدح الفكر زناد الفكر. والرسالة الأخيرة فيما يلي، بعد حذف التحيات المشكورات:

(كنت في انتظار رأيك في قصيدتي: (أبن حمد يس الصقلي) و (قبرة شيلي) تلك التي أشرت إليها في أعداد الرسالة الماضية، أقول كنت في انتظار ما ذكرت عندما طلعت علينا الرسالة الحبيبة تحمل مقالك (الأدب والفن في أسبوع) وبه كلمتك عن (الريفيرا المصرية) وفيه تترك وصف شروق الشمس وغروبها والبحر والرمل للشعراء. وكنت في الصيف الماضي قد زرت الإسكندرية وقضيت وقتاً طيباً على البحر وشاهدت مفاتن الرمل والسابحات إبان عودتي من باريس في الطريق إلى بغداد، وبقيت تلك الذكريات أو تلك المناظر مخزونة في فكري، وكانت تراودني من حين لآخر كما تراود الأطياف مخيلة النائم، وكنت أود أن أرسم تلك الألواح على صفحة الشعر، ولكن مشاغل الحياة ألهتني، إلى أن قرأت دعوتك وأنا في انتظار رأيك فيها، وثق بأنني واسع الصدر لكل ما تبديه من آراء. هذا وأريد أن أقول إن المصايف المصرية تنقصها الدعاية، لتقصير الجهات المسئولة، ولعل هذه الجهات تنشط لتلك الدعاية بوساطة الصحف والإذاعة، ثم ما يضرها لو وضعت عدة جوائز للشعراء الذين يصفون تلك الأماكن. . أنا أقترح ذلك ولست أدري أتستجيب الدولة لهذه الفكرة أم لا.

أخي، قبل أن ألقي القلم أهمس في أذنك. . إن بعض المتخلفين عن الركب الذين يسؤوهم أن أنال المجد والشهرة في هذه السن، يقولون إن الناصري ليس بشعبي، لأنه يعبر عن عواطفه، وهو يعيش في برج عاجي، لأن شعره كله غزل وغناء، فهل يضرني هذا القول يا كاتب (الأدب والفن في أسبوع)؟ إنني أريد أن أتفرغ لهذا اللون من الشعر.

إن الشعر العربي لم يجد شاعراً غنائياً بعد امرئ القيس حتى الآن غير المرحوم علي

ص: 40

محمود طه، وقد مات شاعر الجندول فلم لا أكون أنا في مكانه؟! ثم ماذا يريد مني أولئك الذين ينعتونني بعدم الشعبية؟ وهل من الضروري أن ينزل الشاعر إلى مستوى العامة وكلهم أميون؟ إن على الشعب أن يثقف نفسه ليفهم الشاعر، إن اللغة التي أنظم بها لغة القرآن ولغة العرب، وأنا على هذا الأساس لا أحسن اللغة العامية لأنظم بها حتى يفهم الرعاع. . أما الشعر السياسي، فأنا لا أحسنه أيضاً لأنه شعر الأقذار والدس والنفاق، ولا أريد أن أنحط إلى مستواه، ثم إنني أعتز بنظرية الفن للفن. هذا هو رأيي، فهل توافقني يا أخي الحبيب؟)

لم تأت الفرصة بعد للنظر في قصيدتي شبلي وابن حمد يس وأرجو أن يكون ذلك قريباً. لن تستجيب الدولة إلى اقتراحك يا أخي، فدون ذلك كثير مما لا تهتم به. . أما قصيدتك فقد دفعت بها إلى أستاذنا لزيات بك، ولعلها الآن قد أخذت طريقها إلى مطبعة الرسالة، وهي قصيدة جيدة في بابها (العاجي) وإني أعتمد على الله وعلى سعة صدرك التي أحمدها لك، فأصارحك بأنني أصبحت لا أميل إلى هذا اللون من الشعر إلا إذا ارتفع إلى قمة الخواطر الإنسانية الرفيعة، فأنا أرى أن أكثر ما يقال من الشعر في التعبير عن العواطف الفردية لا يهم إلا صاحبه. .

إنك يا أخي (غير شعبي) لأنك شاعر غنائي، عاجي باعترافك فلماذا تتهم من يصفك بصفاتك. .؟ وما دمت تحس بدافعك إلى هذا الاتجاه فمن العبث أن يلويك عنه أحد. . وما دمت لا تريد أن تشارك الجماعة مشاعرها فأنت وما تريد. غير أنه لا ينبغي لك أن تلوم الشعب على أن لا صدى لشعرك فيه، أنت تعرض عنه وهو يعرض عنك، وليست المسألة مسألة ثقافة وتعليم وإنما هو اتجاه يوافق أو لا يوافق، وليست المسألة أيضاً مسألة لغة عربية أو عامية، فمن الواضح أن الدعوة إلى اتصال الأدب بالحياة وعنايته بإحساس الجماعة ومسائلها، ليس معناها القول بالعامية. وما يضر الشعر إذا عالج التوجيه السياسي فحارب ما في السياسة من الأقذار والدس والنفاق؟

ولست أريد أن أسترسل قبل أن أبدي العجب من قولك إن الشعر العربي لم يجد شاعراً غنائياً بعد امرئ القيس إلا علي محمود طه!

ماذا أبقيت إذن للشعر العربي؟ هل أنا في حاجة إلى أن أقول لك إن الشعر العربي في

ص: 41

مجموعه غنائي من امرئ القيس إلى الناصري. .؟

وكن يا أخي مكان علي طه. . ولكن يجب أن تعلم أن علي طه نزل إلى الشعب وتغنى بإحساسه في أروع قصائده كالقصيدة التي خلد بها أبطال الفلوجة وقصيدة (أخي أيها العربي) التي غناها عبد الوهاب.

وكيف تسألني الموافقة على رأيك ذاك وكتابتي - إن كانت تنال شرف تتبعك لها - تدل على أنني من أنصار الدعوة إلى اتصال الأدب بالحياة الواقعية الجارية؟ وبعض الناس يسئ فهم هذه الدعوة، فيظن غايتها الكتابة العلمية أو الصحفية المجردة من الجمال الفني. كلا، إننا نبغي أن يتناول الأديب صورة الحياة الشعبية ويعنى بإنسانها وصوالحه، بعد أن يخلطها بنفسه ويمزجها بشعوره، ويمسها بعصا فنه السحرية، فيخرجها أدباً حياً جميلاً، ينفع ويمتع. كل ذلك ولا يخرج الإنتاج عن أن يكون فناً، ولم نجعل الفن جمالاً فارغاً؟ أليس الأحسن أن يخرج جماله بالتوجيه والتسديد؟ ثم ما هو معنى (الفن للفن) هل هو أن تكون غاية الإنتاج الفني الجمال الذي لا شيء وراءه؟ إذا كان كذلك فإننا ندع أصحابه وشأنهم، يقولون ما يريدون ويقرأ لهم من يحب قراءتهم، كما ندع (هواة طوابع البريد) مثلاً. لكل امرئ شأن يغنيه. ولا أحب أن نذهب في ذلك مذهب السوفيتيين من حيث فرض الاتجاه، كما عرض لنا ذلك الأستاذ عمر حليق في مقاله القيم (الدولة والأدب في الاتحاد السوفيتي) فليكن عندنا ذلك اللون العاجي ما دام فينا من يريده من المنتجين والمستهلكين.

وإذا اعتبرنا الأدب المتصل بالحياة الواقعية فناً، وهو كذلك، فإن الكلمة الذائعة (الفن للفن) تنطبق عليه أيضاً، فهو فن ينشأ لأنه فن. . ولم تخرجه موضوعيته الحيوية عن فنيته. وعلى هذا التفسير يمكن أن تقبل هذه القضية، وليكن الفن للفن.

ولم يعجبني منك يا أخي أن تزدري الشعب، إن الناس في طريق التعلم ولابد أن يدنو الأدب منهم ليدنو منه، فليلتقوا به في منتصف الطريق، يرون به صورهم ويلمسون فيه اهتمامه بهم ونحن من صميم هذا الشعب، ولا ينبغي أن يبعدنا عنه ما أصبنا من أدب وعلم وثقافة، وقد قام فعلاً أدباء من صميم الشعب وضاقوا بجهالته وأعرضوا عنه، ولكننا الآن في طريق جديد، هو الاهتمام بهذا الشعب والأخذ بيده في مختلف نواحي الحياة، فلم لا يكون الأدب كذلك من وسائل ترقيته، بل لم لا يكون هو اللسان المعبر عن النهضة الشعبية

ص: 42

في جميع نواحيها؟

ذلك يا صديقي الكريم ولك الشكر على رحابة صدرك السالفة والمتوقعة، ولك أيضاً خالص المودة وعاطر التحية. .

الواقعية والتاريخ:

ومن اتصال الأدب بالحياة الواقعة التصوير الفني للتاريخ مرتبطاً بالواقع، ومن أمثلة ذلك في الشعر قصيدة للأستاذ محمود حسن إسماعيل قالها بمناسبة العام الهجري الجديد، وقد نشرت (الأهرام) جزءاً منها، قرأته فأعجبت باتجاهه الواقعي في تصوير حالنا وموقفنا من الغاصبين، ويعجبني أيضاً من محمود إسماعيل ما أخذ به أخيراً من الوضوح واستعمال التعبير الناصع، ومن قصيدته تلك قوله:

جئناك تحمل حيرة الظلماء

فاسكب لنا قبساً من الأضواء

وارحم ضلال التائهين بأرضهم

فهمو أحق برحمة الغرباء

أوطانهم! لكنهم في ظلها

ضاعوا، بلا ثمر ولا أفياء

متكابرين على جراح بلادهم

متدابرين لسطوة الدخلاء

متناهشين على تمزق حالهم

وهوائه في ألسن الأعداء

يتراشقون، وقيدهم متربص

تقتات قبضته من الشحناء

نفث الدخيل بهم سموم سياسة

يدري الدهاة سطورها في الماء

توبيخ ابن الرومي في الإذاعة:

سمعت يوم الأربعاء الماضي (برنامجاً خاصاً عن ابن الرومي) من محطة الإذاعة المصرية ضمن البرنامج المدرسي الصباحي، وابتدأ البرنامج بحوار بين ابن الرومي وبين التاريخ يمثل كلاً منهما رجل ممن يمثلون في الإذاعة.

وقد كنت أتوقع - بحسن ظني - أن يعرض هذا البرنامج المدرسي طائفة جديدة سهلة من شعر ابن الرومي، ويبين دقائقها ورقائقها، ويدنيها من إفهام المستمعين وخاصة الطلبة، ولكن سرعان ما تبين لي خطأ حسن الظن بما تذيعه محطتنا ولا سيما في الأدب، على قلته في برامجها. .

ص: 43

شغل أكثر الوقت في برنامج ابن الرومي بذلك الحوار بين الشاعر الذي لم ينل حقه من التقدير في زمنه، وبين التاريخ الذي لم يكد يحفل به، ولم يكف التاريخ أن استهان بابن الرومي أو لم يكف الإذاعة المصرية ذلك، فألبت عليه التاريخ ممثلاً فيها فجعل يلقي على الشاعر درساً طويلاً ملأه بالتقريع والتوبيخ. . لماذا؟ لأنه لم يكن دساساً وكاذباً ومنافقاً على شاكلة أهل عصره الذين تقدمت بهم هذه الصفات واهتم بهم التاريخ الجبار. . فكلما تذرع الشاعر المسكين بفنه ووجدانه سخر به التاريخ. .

وإني أسأل: ما هدف ذلك؟ أهو درس للنشء في الأخلاق والصفات التي تؤدي إلى النجاح في الحياة. . أم هو درس في الأدب وقد خلا من الأدب؟!

عباس خضر

ص: 44

‌الكتب

الشيوعية على حقيقتها

تأليف عمر بك الإسكندري

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

مؤلف هذا الكتاب أستاذ قديم، غني عن التعريف به، هو الأستاذ عمر بك الإسكندري، شقيق المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري، فقيد العالم العربي والإسلامي على السواء. .

وعمر بك رجل لم يعرف في حياته غير الجد والعمل، والإخلاص والسعي، فأمكنه أن يستفيد من كل لحظة من لحظات حياته، وشغله العلم وجلاله، عن السياسة وسلطانها الغالب، وزخرفها الكاذب.

زاول التدريس شاباً في معاهده الثانوية والعالية، فأقبل على العلم يستزيد منه، وينهل من مناهله، ويغترف من بحاره ما وسعه الاغتراف، فألف التاريخ كتابيه تاريخ مصر إلى الفتح العثماني، وتاريخ مصر من الفتح العثماني إلى العصر الحديث - في وقت لم يكن من السهل التأليف في التاريخ. ثم ارتقى في مناصب التعليم الإدارية، حتى آثر الراحة والهدوء، فطلب إحالته إلى المعاش قبل السن القانونية، فأجيب إلى طلبه. . ولكن المرحوم النقراشي باشا لم يعفه من العمل والجد، فأسند إليه ترجمة كل ما تصل إليه وزارة الداخلية من نشرات خاصة عن الشيوعية - لما يعهده فيه من اقتدار على الترجمة من اللغة الإنجليزية إلى العربية، وبصيرة بدقائق هاتين اللغتين، فقام بما عهد إليه خير قيام، وكان من نتيجة ذلك هذا الكتاب الذي نقدمه اليوم إلى القراء. .

ولقد ضل كثير من الناس، وبخاصة في مصر - في فهم حقيقة الشيوعية ومبادئها وأغراضها وأهدافها القومية والبعيدة، وطرائق الحكم والمعيشة في البلاد الواقعة تحت سلطانها، واتجاهات أبنائها الفكرية والدينية، والخلقية والاجتماعية، واعتقدوا أنها السبيل إلى الحياة الرخية والمعيشة الراضية السعيدة، التي تصل بالبشرية إلى الغاية المنشودة، والأمل المرجو. . ذلك أن كل ما يعرفه هؤلاء عن الشيوعية أنها تسوى بين الناس جميعاً على اختلاف طبقاتهم في مستوى المعيشة، وانتزاع ثروات الأغنياء، وتوزيعها على

ص: 45

الفقراء من أفراد الشعب، بحيث لا يكون هناك غني ولا فقير، ولهذا فكل من أعتقد هذا يمني نفسه بذلك اليوم الذي تبسط فيه الشيوعية رواقها على بلاده، ليصبح سعيداً منعماً، بعد طول الكد والكفاح، والشقوة والنضال.!

ويسود هذا الرأي بين طبقات العمال بخاصة، أما أهل الريف فأكثرهم بمنجاة منه ولله الحمد، فلا يزال فيهم بقية من دين وإيمان، وصلاح وتقوى، يعصمهم كل أولئك من هذه العقائد، أو بمعنى أدق من هذه الأخطار، ولعل السبب في ذلك أنهم لم تتح لهم الفرص لاجتلاء غوامض هذه الموضوعات، ولا مبهمات مسائلها وأهدافها. .

وقد أتيحت الفرصة للمؤلف الكبير أن يطلع على الآراء والمذاهب الشيوعية في أمهات كتب الشيوعيين وغيرهم من مؤلفات الأجانب، كما اطلع على آراء فيلسوف الشرق، السيد جمال الدين الأفغاني عن الشيوعية في رسالته الخالدة (الرد على الدهريين) التي ترجمها من الفارسية إلى العربية الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.

والكتاب مكون من مقدمة في خطر الأوهام الشيوعية، وأن الدسائس والأقاويل وما ينبغي عليها من وعود، هي التي مهدت لقادة الحركة الشيوعية الأولى في روسيا السبيل للاستيلاء على عقول الملايين من العمال والفلاحين، فانقادوا لهم، وانساقوا وراءهم، واستماتوا في الكفاح معهم لنيل ما قالوا أنه مرتع الحرية ومنبت النعيم، حتى تم لهم ما أرادوه في قرارة نفوسهم من قلب نظام الحكم في بلادهم والاستئثار بالسلطة فيها - وستة فصول: يتناول الفصل الأول منها نشأة الشيوعية الحديثة وظروف انتشارها في روسيا دون غيرها، وقد ساعد على رواج هذه المبادئ في روسيا تفشي الجهل وقتئذ بين الملايين من أهلها. واشتداد تذمرهم من الحكم القيصري الذي لم يكد التاريخ يرى أشد منه ظلماً وقسوة أو كبتا للحرية. . يتجلى ذلك في الحادثة المشهورة التي سبقت الثورة الروسية الأولى سنة 1905 كما ذكرها تاريخ الحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي (البلشفيك) حينما أضرب العمال يوم 3 يناير سنة 1905 في مدينة بطرسبورج، فقررت الحكومة القضاء على الحركة بالقوة، ودست على الثوار قساً يدعى (جابون) فأفهمهم أن خير وسيلة لنيل مطالبهم أن يجتمعوا يوم 9 يناير ويسيروا في موكب هادئ حاملين أعلام الكنيسة وصور القيصر إلى قصر الشتاء حيث يقدمون للقيصر عريضة بمطالبهم، وسار موكبهم صبيحة ذلك اليوم كما أراد

ص: 46

القس ومعهم نساؤهم وأطفالهم حتى بلغ عدد الجميع مائة وأربعين ألف نفس، فما كان من القيصر (نيقولا الثاني) إلا أن أصدر أمره بإطلاق النار على هذا الحشد الحاشد، والجمع الزاخر، فمات منهم ما يزيد على الألف، وجرح أكثر من ألفين، حتى جرت الدماء أنهاراً في شوارع بطرسبورج.

ومن هنا أستغل البلشفيك، وهم الأكثرية المتطرفة من الشيوعيين، هذه الحادثة حيث كانوا يسيرون في الموكب، وقتل بعضهم وقبض على البعض الآخر، فأفهموا فيما بعد العمال أنهم مخدوعون في القيصر ورجاله، وأن خلاصهم مما يعانون لا يكون إلا عن طريق القوة المسلحة. .!!

ويتناول الفصل الثاني من الكتاب عجالة في تاريخ نشأة الشيوعية في روسيا وتطورها إلى ابتداء الحكم الشيوعي. وكيف كان الشيوعيون الروس في أول أمرهم ينتمون إلى دوائر وهيئات (ماركسية) سرية صغيرة نبتت في البلاد تباعاً، وكانت أقدمها (هيئة تحرير العمال) التي تألفت عام 1883، ألفها (بليخانوف) أحد أعضاء الهيئات الثورية القديمة التي كانت تعمل في روسيا سراً قبل أن تعرف (الماركسية) وفي 1895 أسس (لينين)(عصبة سان بطرسبورج الكفاحية لتحرير طبقة العمال) ووحد فيها جميع دوائر العمال الماركسية بالمدينة، ويعتبر لينين أبو الشيوعية المتطرفة في روسيا، وأكبر حاقد على الحكومة القيصرية!!

وقد أغتنم البلشفيك فرصة الاستياء من القيصر لهزيمة الجيوش الروسية في الحرب العالمية الأولى، فأعلنوا ثورتهم يوم 26 فبراير سنة 1917 وظلوا في نشاطهم حتى تم لهم قلب الحكومة المؤقتة في يوم واحد، يوم 25 أكتوبر سنة 1917 وفي المساء عقد مؤتمر عام لمجالس السوفييت، فصار هذا منذ تلك اللحظة أساس نظام الحكم في روسيا، وألف المؤتمر أول حكومة اشتراكية سوفييتية في روسيا وجعل إدارتها في يد مجلس يسمى (مجلس مندوبي الشعب) وأسندت رياسته إلى (لينين).

وتحدث الأستاذ الكبير في الفصل الثالث عن سير الحكم الشيوعي في روسيا من الوجهة الاقتصادية، وموت (لينين) في هذه الأثناء، وترشيح (ستالين) لرياسة الحزب خلفاً منه، وفي الفصل الرابع عن الحالة السياسية والاجتماعية نقلاً عن كتاب الشيوعية في ميدان

ص: 47

العمل، وهو مصور معتمد من مجلس نواب الولايات المتحدة كمستند رسمي من مستندات المجلس، وقد تم وضعه على أن يكون خالياً من التحيز، حاوياً للمحاسن والمساوئ معاً، ولا أدل على أنه قد حقق ذلك ما يحويه من آراء عن الدفاع الوطني، واعتراف بما يبذله الشيوعيون في سبيل نهضة التعليم من مجهودات تؤتى ثمارها حسب سياسة موضوعة، ثم كيف يستغلون أوقات الفراغ فيما ينفع ويفيد، باعتبار أن قضاء الفرد لأوقات فراغه على الوجه الصحيح من مستلزمات نمو ثقافته وتحسين حالته الصحية، وأن الواجب على كل مواطن أن يكون دائماً على استعداد لعمله وللدفاع الوطني، وهذا الاستعداد يكفله إلى حد كبير قضاء الجماعات لأوقات فرغ مجتمعين، وبالطريقة المثمرة التي تعد لهم بإشراف الحكومة والحزب الشيوعي. .!!

وتناول الفصل الخامس الشيوعية قديماً وحديثاً، والسادس السياسة السوفييتية الحاضرة، ومن هذا نرى قيمة هذه الموضوعات الهامة، وحاجة المجتمع إلى دراستها بإنعام نظر، وحسن تدبير، والوقوف على حقيقتها، وتبين أوجه الإنصاف فيها. .

وما أحوج المجتمع المصري بخاصة، والبلاد العربية بعامة، إلى هذا النوع من الدراسات، حتى يكونوا على بينة من أمرهم في كل ما يحيط بهم من أخطار وشرور، ويذيع فيهم من أفكار وآراء. .

عبد الحفيظ أبو السعود

المدرس بالمدارس الثانوية الأميرية

ص: 48

‌البريد الأدبي

تحقيق نسبة أبيات - لفضل الشاعرة، لا لعلي بن الجهم:

ذكرت في كتابي (ملامح من المجتمع العربي) الذي صدر في سلسلة (اقرأ) الأبيات السينية التالية ونسبتها - معتمداً على أوثق المصادر وأصحها - إلى الشاعرة (فضل) المجودة للشعر في عصر المتوكل العباسي. والأبيات هي:

// لأكتمن الذي بالقلب من حرق

حتى أموت ولم يعلم به الناس

ولا يقال شكا من كان يعشقه

إن الشكاة لمن تهوى هي الياس

ولا أبوح بشيء كنت أكتمه=عند الجلوس إذا ما دارت الكاس

ولكن الأستاذ عبد العليم علي محمود استدرك في العدد 951 من (الرسالة) الغراء، ذاكراً أنه وجد الأبيات بعينها في كتاب (المنتخب) منسوبة للشاعر علي بن الجهم. ثم ذكر الأستاذ في خلال تحقيقه طبعة هذا الكتاب المدرسي بالمطبعة الأميرية، كما ذكر أسماء (العلماء طه باشا والسكندري رحمه الله وأحمد بك أمين وغيرهم).

وليس طبع هذا المنتخب المدرسي في المطبعة الأميرية، وإشراف هؤلاء العلماء الآجلة على جمعه وترتيبه بمانعنا من أن نقول إن نسبة هذه الأبيات لعلي بن الجهم من باب الوهم الذي يجب أن يصحح.

ولا نقول هذا القول من غير دليل. . ففي الجزء العاشر من الأغاني طبعة دار الكتب المصرية ص214 وفي أخبار علي أبن الجهم بالذات قصة الشاعرة (فضل) التي أمرتها الجارية (قبيحة) جارية الخليفة المتوكل أن تقول أبياتاً عنها في وصف حكاية حال لها مع المتوكل. فخرجت (فضل) الشاعرة إلى المتوكل بهذه الأبيات السينية التي قالتها، فقرأها المتوكل وقال لها:(أحسنت يا فضل!) وأمر لها ولابن الجهم بعشرين ألف درهم، لأن أبن الجهم كان قد صنع في المناسبة نفسها أبياتاً بائية أولها:

تنكر حال علتي الطبيب

وقال أرى بجسمك ما يريب

ومن هنا جاء الوهم بأن الأبيات السينية هي لابن الجهم لاشتراك الشاعر والشاعرة في مناسبة واحدة، مع أن رواية كتاب (الأغاني) يفهم منها بدون جهد أن الأبيات للشاعرة (فضل) كما ذكرت ذلك في كتابي (ملامح من المجتمع العربي).

ص: 49

على أن هناك دليلاً آخر، وهو أن ديوان (علي بن الجهم) هو بين أيدينا في طبعته الوحيدة المحققة التي أخرجها أخيراً الأستاذ الجليل مردم بك ونشرها المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1949 عن نسخة خطية وحيدة في العالم كله، محفوظة في (الإسكوريال) تحت رقم 369، ومنسوخة سنة 1002 هجرية بخط مغربي. فليس في هذا الديوان المطبوع حديثاً لابن الجهم أثر لهذه الأبيات السينية، على الرغم مما بذله العلامة مردم بك من جهد في إضافة أشياء من شعر أبن الجهم لم تكن في النسخة الخطية، ولكنه استخرجها من بطون كتب الأدب والتاريخ والتراجم مطبوعة ومخطوطة.

والعجيب أننا لا نجد في ديوان أبن الجهم وفي قافية السين إلا خمس مقطعات صغيرة، ليس منها من بحر (البسيط) إلا اثنتان لا تعتمدان على ألف التأسيس كما تعتمد التي للشاعرة (فضل) التي أوردتها في كتابي، والتي هي موضع هذا الرد.

وقد فطن المرحوم الأستاذ عبد الله بك عفيفي إلى الوهم في نسبة الأبيات إلى علي بن الجهم، فذكرها في الجزء الثالث من كتابه (المرأة العربية) صفحة 36 منسوبة إلى (فضل) الشاعرة. فأقر بذلك الأمر في نصابه، ووضع الأبيات موضعها الصحيح، بل أغلى من قيمة الشاعرة في أبياتها هذه فقال: وهل يحسن البحتري وأشباه البحتري أن يقولوا خيراً مما تقول فضل؟. وذكر الأبيات.

على أنه بعد هذه الأدلة المادية لا نرى وجهاً لأن تستكثر هذه الأبيات على الشاعرة (فضل) بعد ما قال عنها إبراهيم ابن المهدي: (كانت فضل الشاعرة من أحسن خلق الله خطاً، وأفصحهم كلاماً، فقلت يوماً لسعيد بن حميد: أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها وتقيدها وتخرجها، فقد أخذت نحوك في الكلام وسلكت سبيلك. فقال لي وهو يضحك: ما أخيب ظنك! ليتها تسلم مني لأخذ كلامها ورسائلها! والله يا أخي لو أخذ أفاضل الكتاب وأماثلهم عنها لما استغنوا عن ذلك).

وأشكر الأستاذ الفاضل عبد العليم علي محمود الذي أتاح لي أن أدافع عن مسألة كنت واثقاً منها وأنا أضعها في كتابي (ملامح من المجتمع العربي).

محمد عبد الغني حسن

دائرة المعارف الحديثة:

ص: 50

الأستاذ أحمد عطية الله، مدير متحف التعليم، من الأساتذة المشهود لهم بوفرة الإنتاج وغزارة المادة، فله ما يقرب من خمسة وأربعين كتاباً (مطبوعاً) بين مؤلف ومترجم. .! ولكنه أحياناً لا يدقق في بعض ما يكتب وفي بعض ما يسرد من حقائق ووقائع. .!

فها هو ذا مثلاً بين يدي الجزء الثامن من دائرة المعارف الحديثة التي تتولى مكتبة الأنجلو المصرية نشرها له في أجزاء شهرية منذ ديسمبر سنة 1950. . فهو يقول تحت مادة (فاروق الأول) أنه (. . الابن الوحيد للملك أحمد فؤاد. .)، مع أنه من المعروف للعامة قبل الخاصة أنه كان لجلالة الملك فاروق أخ أكبر غير شقيق هو الأمير إسماعيل، من والده المرحوم الملك فؤاد وزوجه الأولى المرحومة الأميرة شويكار، وقد توفى منذ زمن بعيد، فكيف غابت هذه الحقيقة المعروفة عن الأستاذ عطية الله.

ثم هو يستطرد فيذكر في نهاية تلك الأحداث التي نمت في عهد الفاروق، فيذكر بعضها ويهمل البعض الآخر. .! فهو يهتم بتسجيل اجتماع جلالة الملك فاروق بالرئيس روزفلت - على تفاهته السياسية - عام 1945، إذا به يغفل مثلاً زواج جلالته الأول. .

وقد يخونه التعبير عما يريد أحياناً (فيقول مثلاً) في سياق تعداد تلك الأحداث ما نصه: (. . وجلاء القوات البريطانية عن القاهرة والمدن المصرية عام 1947. .)، وهو بالطبع لا يريد:(القاهرة والمدن المصرية) القطر المصري برمته.!

هذا، وما أردت بهذه الكلمة أن أقلل من قيمة هذه الدائرة الحديثة التي لا أشك أبداً في جزيل نفعها، ولكني أردت أن أضرب مثلاً فتناولت مادة من موادها العديدة وأشرت إلى ما أشرت إليه ليتداركه ويتدارك أمثاله الأستاذ المؤلف في الطبعات المقبلة إن شاء الله.

بور سعيد

محمد عثمان محمد

رد على نقد:

في البريد الأدبي العدد 949 يتساءل الأستاذ كيلاني حسن سند عن كلمة سوسان الواردة في قصيدة للفيتوري يقول:

(أما كلمة (سوسان) فلا أعرف إلا السوسن فقط فلعل القافية هي التي جاءت بهذه الألف. .

ص: 51

ولعلها لغة فيها والشاعر هو الذي يستطيع أن يفيدنا ذلك. والقاموس لم يذكر سوى سوسن وسوسنة).

ونقول للأستاذ إن كلمة (سوسان) وردت في قصيدة أبي نواس التي يقول فيها:

صهباء تبني حباباً كلما مزجت

كأنه لؤلؤ يتلوه عقيان

كانت على عهد نوح في سفينته

من حر شحنتها والأرض طوفان

إلى أن يقول:

وما بها من هشيم العرب عجرفة

ولا بها من غذاء العرب خطبان

لكن بها جلنار قد تفرعه

آس وكلله ورد وسوسان

وللأستاذ تحياتي واحترامي

صالح بيلو

ص: 52

‌القصص

ابتسامة صفراء!.

للأستاذ يوسف يعقوب حداد

لا يدري سليم متى هاجر عمه إلى البرازيل، ولكنه يدري أن أمه كثيراً ما كانت تضمه إلى صدرها وهو صبي صغير، وتهمس في أذنيه أن عمه إبراهيم سيعود يوماً ما من بلد الخيرات، وأنه سيحمل إليه من هناك ذهباً كثيراً، ومالاً وفيراً، ويعيشا بعد ذلك عيشاً سعيداً، هنياً!

ولقد شب سليم وهو يرضع هذا الأمل اللذيذ، ويتطلع إلى أفق يتوهج فيه بريق الذهب!

لم يذهب إلى المدرسة يطلب فيها العلم، ولم يبحث لنفسه عن عمل يعيش منه، فعمه إبراهيم سيعود بالذهب الوهاج ذات يوم، وعندئذ سيتقلب على بساط النعيم، ويعب من متع الدنيا!. . وماذا يضيره لو أن أمه غسلت اليوم ملابس الناس، وخبزت لهم الخبز وتحملت بذلك شيئاً كثيراً من نكد الدنيا وتعب الحياة؟!

شب سليم عن الطوق، واشتد ساعده. . . وهو كلما كبر جسده وانفتل عضله. تضخم في رأسه الأجوف ذاك الأمل الضاحك الذي أرضعته إياه أمه، واشتد في أفق حياته الساذجة بريق الذهب الذي سيعود به عمه أبو خليل. . . من البرازيل!

ولكن الأيام مضت يلتهم بعضها بعضاً، والأعوام تتابعت يسابق بعضها بعضاً، ولا خبر من العم إبراهيم يطرق آذان سليم وأمه الغارقة في مسوحها السوداء. . . حتى كان ذلك اليوم من أيام الشتاء لا يزال سليم يذكره جيداً، لأن الناس لا ينسون الأيام التي تغير مجرى حياتهم!

كان مساء ذلك اليوم البارد يجلس في مقهى القرية يتحارب بقطع النرد على زمرة من زملائه. ومن بعيد سمع ساعي البريد العجوز يسأل عن بيت سليم العنتبلي، فقفز من مقعده في غير وعي، وجرى نحو ساعي البريد يختطف من يده الرسالة ويهرع بها إلى مختار القرية ليقرأهاله!

ولا يستطيع إنسان أن يصف سعادة الفتى حين كانت الكلمات تنساب من فم المختار العجوز بصعوبة لتتسلل إلى أعماق سليم العنتبلي وتهزه هزاً رفيقاً هيناً؛ فيه نشوة من

ص: 53

تحقيق أحلامه وإصابة الصميم من أهدافه!

وفي دقائق معدودة، عرف سليم وأمه ما كانا يجهلانه سنين عديدة. . . في دقائق معدودة، عرف سليم أن عمه في البرازيل قد أصاب ثروة كبيرة، وأنه قد تزوج ولكن زواجه ظل عقيماً، وأن هذا العم يحتضر اليوم ويريده على عجل ليهبه نصف الثروة التي جمعها في بلاد الغربة. . . أما النصف الآخر فهو للزوجة التي شاركته الكد والتعب وجمع المال وتكديس الذهب!

واتكأ الفتى على حاجز الباخرة في يأس وفتور، وراحت شفتاه تتهامسان والظلام يجثم على صدر البحر كالعبء الثقيل - ولكن لماذا تقاسمني هذه المرأة الغريبة نصف الثروة التي وعدت بها؟!، من أي حائط قد برزت هذه الجنية البغيضة لتسلبني نصف الذهب الذي انتظرته أكثر من عشرين عاماً متحملاً من أجل ذلك عذاب الانتظار وشظف العيش وقساوة الحياة؟!

وافترت شفتاه عن ابتسامة صفراء خبيثة. . . وسحق عقب سيجارته برأس حذائه، ودلف إلى غرفته لينام لأول مرة منذ وصلته رسالة عمه، نوماً هادئاً عميقاً متواصلاً!

واستقبلته في الميناء سيارة فارغة هي سيارة العم إبراهيم، واحتضنته في القصر الفخم ذراعان دب فيهما دبيب الموت هما ذراعا العم إبراهيم، وابتسمت له شفتان ساحرتان هما شفتا زوج العم إبراهيم!. . .

وفي اليوم التالي، أعدت للغذاء قرب سرير العم المريض مائدة صغيرة حافلة بكل طعام شهي لذيذ، وجلست زوجة العم على رأس المائدة تقطع من هذا القديد وذاك الفطير، وتضعه أمام الفتى مرحبة به مكرمة ضيافته. . . وقد فات الفتى أن يغوص في أعماق عينيها ليرى تلك النظرة الغريبة التي كانت ترمقه بها بين الحين والحين!

وقبل أن يمد سليم يده إلى الطعام، لحظت عيناه قطة جميلة لا ترضى لها مجلساً إلا تحت قدمي زوجة العم، فأحب الفتى أن يداعبها ويلاطفها وقد رأى زوجة عمه تعز قطتها وتعطف عليها، فمد يده إليها بقطعة من اللحم الذي وضعته زوجة عمه في صحنه، فما كاد يفعل هذا حتى ندت عن شفتي زوجة العم صيحة خافتة بدا عليها أنها حاولت كثيراً أن تخنقها في فمها أو تقتلها على شفتيها، ولكنها كانت على ما يظهر أشد قوة وانطلاقاً من أن

ص: 54

تقاوم أو تحبس!

وأرتاع الفتى للصرخة الخافتة وسقطت من يده قطعة اللحم وهوت من بين أنامله، لا إلى الأرض كما ظن وإنما إلى بطن القطة الجميلة المدللة!

وفجأة. . . ماءت القطة مواءاً مرعباً، واهتزت في مكانها اهتزازاً فظيعاً، ثم سقطت إلى الأرض جثة هامدة لا حس فيها ولا حركة!

وأنتفض العم إبراهيم في سريره، وتشنجت أعصابه، وشحب وجه الزوجة واستحال لونه إلى مثل صفرة الأموات. . . وجمدت نظراتها المذعورة على وجه الفتى وهو يقهقه قهقهة مدوية هستيرية!. ثم تمالك سليم نفسه وتنفس الصعداء، ومال على أذن عمه يهمس بصوت مسموع وهو يرمق زوجة عمه بنظرة عتاب مرة، ساخرة - الحمد لله يا عم إبراهيم. . لقد كتب لي اليوم عمر جديد بفضل القطة الجميلة!

ولم تحتمل زوجة العم أكثر مما تحملت في خزي وفشل وهذه جريمتها قد انكشفت بهذا الشكل الفظيع الذي لم تكن تتوقعه، فدفعت كرسيها إلى الوراء بقوة وعصبية، وأسرعت إلى مخدعها لتكتب قصاصة من الورق تعلن فيها فرارها بعيداً عن مسرح جريمتها الفاشلة. .

وفيما هي تعد حقيبتها وتكدس فيها ملابسها، شعرت بظمأ شديد يكاد يفطر لسانها ويحرق كبدها، فأسرعت إلى قنينة الماء التي اعتادت أن تضعها إلى جوار فراشها، وتجرعت منها جرعة كبيرة. .

وحين أرادت أن تعود لتستأنف إعداد حقيبتها شعرت بالضعف يدب في ساقيها، وأحست بألم فظيع يقطع أحشاءها، وانعقد لسانها وهي تحاول أن تطلق من صدرها صرخة مدوية تعبر عن فزعها وهي ترى بعينيها قبرها المظلم يسرع نحوها فاغراً فاه لالتهامها!. . وسقطت إلى الأرض وهي جثة هامدة لا حس فيها ولا حركة!

وألقى الزوج نظرة احتقار على جثة زوجته الغادرة، فقد ظنها انتحرت بعد أن فشلت في قتل ابن أخيه العزيز، وربت على ظهر الفتى وهو يسلمه ثروته كلها!

ولم يدر العجوز الطيب القلب، أن ابن أخيه كان في تلك اللحظة يضغط بأنامله على زجاجة من نقيع السم، كان قد أفرغ محتوياتها في قنينة الماء التي عرف أن زوجة عمه قد

ص: 55

اعتادت الشرب منها!

البصرة: عراق

يوسف يعقوب حداد

ص: 56