الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 955
- بتاريخ: 22 - 10 - 1951
تركيا الصغيرة!!.
الأستاذ سيد قطب
ها نحن أولاء نخوضها في الأيام حرباً صليبية جديدة، بل ها نحن أولاء نخوضها معركة من معار الحروب الصليبية القديمة. . فما خمدت قط نار هذه الحروب بيننا وبين الصليبيين. .
ها نحن هؤلاء نخوضها حرباً مقدسة في وادي النيل، وفي الشمال الإفريقي، وفي إيران، وفي العراق. . ولقد كسبنا الجولة الأولى في إيران العظيمة، ونحن في طريقنا إلى كسب الجولة الثانية في وادي النيل. ولن يقف الشعب العراقي القوي المتحمس دون خطوات إيران، ولا دون خطوات الوادي. والشمال الأفريقي كله يتأهب استعداد للوثبة الكبرى. .
الظل الأسود يتقلص. . ظل الاستعمار البغيض. ظل الصليبية التي عجزت عن مكافحة الإسلام باسم الدين، فقامت بحركة التفاف عن طريق الاقتصاد، وعن طريق الثقافة، وعن طريق الاستعمار. وهي تحمل الصليب في قلبها وتخبئه، بدل أن كان تشهره على الرؤوس وترسمه على الحراب والسيوف!
الظل الأسود يتقلص، وحطام الاستعمار يتطاير، فتنحني عليه الأساطيل، تلتقطه غارقا من اليم، كما انحنى الطراد الإنجليزي (موربتيوس) ليلتقط بقايا الإمبراطورية من مياه إيران العظيمة!
الظل الأسود يتقلص والراية الإسلامية الكبرى تنشر ظلالها الشفيفة الحبيبة، تنشرها وتنشر معها القوة والثقة واليقين في النصر؛ وتنشر معها العزة والاستعلاء على الذل والقهر.
لقد ارتفعت هذه الراية الحبيبة فأنمت في شهر ما ظل حزب تودة الشيوعي يحاوله في عشر سنوات ولا يستطيع!
وامتدت عدوى الضربة الإيرانية الإسلامية القوية إلى وادي النيل، ولا غضاضة في أن نسجل أن إيران قد سبقتنا، فإيران بضعة من جسم الوطن الإسلامي الحي، ولا غضاضة في أن تتحرك الكف لتصفع، قبل أن تتحرك القدم لتركل، ولا غضاضة في أن تتحرك الذراع لتضرب قبل أن تتحرك الرجل لتسحق! - والعراق على الإثر - فشعب العراق الأبي الفتى لا يقبل أن يكون متخلفاً. . إن بترول العراف سيؤمم، وإن معاهدة العراق
ستلغي. . ستضرب العراق ضربتها الواحدة لتحقق بها ما حققت إيران وما حققت مصر في ضربتين متتاليتين. . والشمال الإفريقي كله على الإثر. . ويتطهر العالم الإسلامي. . يتطهر من أرجاس الصليبية الغربية، ومن عار الاستعمار الغربي. . .
الظل الأسود يتقلص. ولن تعصمه قوة الأرض عن التقلص. (لقد دالت دولة الرجل الأبيض) - كما يقول برتر أند رسل الفيلسوف الإنجليزي المعاصر - وتلك سنة الله في أرضه. ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ولكن الصليبية التي لم يهدأ لها بال، ولم تغمض لها عين منذ القرن الحادي عشر إلى اللحظة الحاضرة. . . هذه الصليبية لن تلفظ أنفاسها الأخيرة في الشرق إلا بعد أن تبذل طاقتها، وقبل أن تنثر كنانتها.
إنها تدرك أن حركات التحرير في الشرق الإسلامي إن هي إلا صحوة العقيدة التي ظنتها الصليبية قد ماتت إلى الأبد. . . إنها لا تخطيء عناصر هذه العقيدة الخالدة في وثبة التحرير الحاضرة، وفرنسا التي قادت الحروب الصليبية، فرنسا هذه أشد حساسية بذلك الروح الإسلامي النابض في كل حركات التحرير. فهي تحذر من هذا الروح. تحذر منه اليوم علانية، وتنذر خطر (العالم الإسلامي). . أحست به في قوة، وإن كانت طوال حياتها لم تنس وجوده، ولم تفتر عن مكافحته، كما لم تفتر إنجلترا وسواها من أمم العالم الغربي عن هذا الكفاح!
وها هي ذي الصليبية تتجمع مرة أخرى لوقف المد الإسلامي الزاحف - ولكن هيهات! - لقد فات الموعد، ومضت عقارب الساعة ودارت دورة الفلك، وما عاد لقوة بشرية. على الأرض أن تقف في وجه التيار.
لقد انبثقت من ثنايا العدم باكستان. وتفلتت من قبضة الاستعمار إندونيسيا وسوريا ولبنان. وأفلتت من القراصنة إيران، وضربت مصر ضربتها المدوية، فوقفت الإمبراطورية المحطمة تترنح، وتطوح بيديها ورجليها في الهواء توهم الناس أنها قوية وأنها ستضرب، وإن هي إلا سكرات الموت، وصرعات الحمام! والشمال الإفريقي كله في الطريق، ولن يمتد الزمن طويلا قبل أن يضرب ضربته كذلك.
الظل الأسود يتقلص، والراية الإسلامية ترتفع، وترف وخفق، والكتلة الثالثة تتجمع في
ظل هذه الراية النورانية. راية النصر والعزة والاستعلاء.
وفي ضجة المعركة الفاضلة الأخيرة. وفي عجيج الموقعة التي تحول سير التاريخ. وفي اندفاع السيل المتدفق الفوار. .
في ثنايا هذا كله تتسلل من الصف ثعلبة غادرة، وتتخلف عن الميدان قطة لئيمة، وتتوارى عن الجمع فأرة حقيرة. . إنها. . تركيا الصغيرة!
تركيا وحدها دون بقية العالم الإسلامي كله، تركيا وحدها هي التي تطعن مصر في ظهرها، وتتخنس مع أعداء الشرق، وأعداء الإسلام، وأعداء الإنسانية. تركيا وحدها هي التي تقبل اليد التي صفعتها والقدم التي ركلتها. تركيا وحدها هي التي تنحني على الخنجر الذي مزق أوصالها وأجهز على (الرجل المريض)!
ويطير أمين جامعة الدول العربية إلى تركيا ثم يعود ليذيع البشرى على العرب بعودة تركيا إلى راية الإسلام وصفوف المسلمين. . ثم إذا تركيا هذه في مجلس الأمن تعانق إسرائيل!
وتعلن مصر تحطيم النير الذي يشد عنقها إلى عجلة الإمبراطورية الفانية. ويخرج شعبها يهتف للحرية، ويتنفس الصعداء. . ثم إذا تركيا هذه تحتج على هتاف الحرية من المصريين!
وتتجمع الصليبية ممثلة في أمريكا وإنجلترا وفرنسا، فتتآمر على مصر المسلمة في صورة الدفاع المشترك، وترسل بسفرائها الثلاثة يحملون نتائج المؤامرة اللئيمة. . فإذا هم ثلاثة رابعهم كلبهم يحمل نفس النتائج!
وإنها تركيا. . تركيا التي تستكثر على مصر أن ترفع رأسها، لأن الفلاحين العبيد لا يجوز أن يتحرروا. . هذه هي العقدة الحقيقية في نفس تركيا! والعقدة الأخرى هي الإيمان بأوربا والكفر بكل ما هو شرقي، وكل ما هو إسلامي، منذ أيام الانقلاب!
إنها تركيا. . تركيا التي ما إن تصاب بكارثة أو زلزال حتى تتدفق عليها الأموال والتبرعات من هنا. من المتمصرين الذين يعيشون في مصر، ومن خير مصر، ومن دماء مصر، وهواهم مع تركيا، واعتزازهم بالعنصر التركي وبالدم التركي!
إن هذه الأموال التي تتدفق من مصر لهي دماء المصريين الكادحين، مقطرة ومكثفة ومبلورة. فأما (الفلاحون) فهم الفلاحون. هم العبيد. هم رقيق الأرض. وأما السادة فهم الذين
يعتزون بالعنصر التركي وبالدم. هم الذين يصوغون دماء الرقيق ذهبا يتقاطر على تركيا. تركيا الخائنة لمصر وللشرق وللإسلام. تركيا حليفة الصليبيين في القرن العشرين.
إن الذين يعيشون هنالك في القصور على ضفاف البوسفور؛ حيث تجبي إليهم ثمرات العرق والكد والدماء من ضفاف الوادي. . . إن هؤلاء الذين يطعمون تركيا الخائنة لحم المصريين وعظامهم. وهم الذين يسقون تركيا الخائنة عرق المصريين ودمائهم
(ولقد آن لمصر أن تضع لهذا كله حداً. آن لمصر أن تمنع تسرب قرش واحد إلى تركيا الملعونة. الملعونة من المسلمين أجمعين. الملعونة من الإنسانية المنكوبة بالاستعمار في مشارق الأرض ومغاربها. الملعونة من الأرض والسماء إلى يوم الدين.
لقد آن أن تقول مصر لمن يعيشون في قصورهم هناك على ضفاف البوسفور. إما أن تعيشوا هنالك من كدكم وعرقكم، أو في ضيافة تركيا التي تعتزون بها وتنتسبون إليها. وإما أن تعودوا إلى مصر التي تطعمكم وتسقيكم. فمصر لم تعد أمة من العبيد. ولن تكون يوماً أمة من العبيد.
إن العالم الإسلامي كله يتحفز للوثبة الكبرى. وإن الكتلة الإسلامية كلها لتتأهب للظهور على المسرح العالمي، لتمسك بيدها ميزان التعادل والتوازن. فلتلهث تركيا وهي تعدو في ذيل القافلة: قافلة الاستعمار وقافلة الصليبية. وليركلها العالم الإسلامي بقدمه القوية. فتركيا الصغيرة لم تعد ذات وزن في كفة الميزان. لقد اختارت لنفسها أن تلهث وراء القافلة. فلتلهث. وليلهث معها المتمصرون والمتتركون. . ولكن لتعرف مكانها، ولتعرف عنوانها. . إنها. . إنها تركيا الصغيرة!
سيد قطب
الولايات المتحدة الأمريكية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
- 6 -
سياسة العزلة:
كان سكان الولايات المتحدة الأوائل قوما عذبوا في سبيل دينهم وحرياتهم، وقد دفعهم الظلم الواقع عليهم إلى الهجرة إلى العالم الجديد. وهجرة الوطن والاغتراب عنه ليسا أمراً هيناً.
ولكن الظلم والاضطهاد يحببان الإنسان الحر فيهما ويدفعانه إليهما.
ولا يقيم ضيم يراد به
…
إلا الأذلان عبر الحي والوتد
ولما استقر سكان الولايات في ولاياتهم حاولت إنجلترا أن تستغلهم شأنهم في ذلك شأن المستعمرات، ولكنهم وقفوا في وجهها وانتهى الأمر باستقلالهم 1776.
قرر الأمريكان منذ اللحظة الأولى أن العالم القديم مملوء بالشرور والآثام والمشاكل، وانتهجوا (سياسة العزلة) ومضمونها ألا تساهم الولايات المتحدة قي اتحادات أوربا السياسية وألا تشترك مع أية دولة أوربية في حل المشاكل التي تقوم في أوربا، كما قررت الولايات عدم التدخل في شؤون البلاد الأمريكية التي حررت نفسها من المستعمر الأوربي باعتبارها دولة أمريكية.
وقد سارت أميركا على هذه السياسة ولكن الحرب لم تلبث أن نشبت في أوربا عقب قيام الثورة الكبرى في فرنسا سنة 1789، وانقلبت أوربا إلى أتون حربي في الفترة من سنة 1793 - 1815، وكان النضال بين إنجلترا وفرنسا عنيفا وعنيفا جدا: ذلك أن إحداهما كانت سيدة البحار، وهي إنجلترا وقد تيسر لها القضاء على البحرية الفرنسية، ولكنها لم تستطع أن تنزل إلى البر لتقضي على فرنسا.
وكانت الثانية فرنسا سيدة البر التي استطاع ابنها العبقري نابليون أن يصرع الملوك وان يذل القياصرة، ولكنة لم يستطع أن ينزل بإنجلترا الهزائم في البحر، بل بالعكس حطمت إنجلترا أساطيله.
طال النضال بين الدولتين ولجأتا إلى الحرب الاقتصادية: فقررت إنجلترا محاصرة
الشواطئ الفرنسية، ورد نابليون عليها فقرر أن الجزائر البريطانية في حالة حصار، وحرم على الدول الأوربية الاتجار معها، وكان غرضه أن يميتها جوعا. فردت إنجلترا عليه بأن قررت منع دخول سفن البلاد المحايدة (ومنها أمريكا) الموانئ الفرنسية أو الموالية لها إلا بعد مرورها على الموانئ الفرنسية أو الموالية لها إلا بعد مرورها على الموانئ الإنجليزية ودفع الإتاوة المطلوبة.
وقرر نابليون أنه ما دام الحياد قد أصبح ممنوعاً في البحر فهو ممنوع أيضا في البر، وطال النضال واشتدت الحرب حتى انتهت بهزيمة فرنسا وتسليم نابليون1815.
وقد أصاب التجارة الأمريكية ضيق شديد بسبب سياسة إنجلترا البحرية، ومنعها للسفن الأمريكية من دخول الموانئ الأوربية، وبلغ الضيق أقصاه (1812) فقامت الحرب بين الدولتين.
لم تكن الحرب بالنسبة للولايات المتحدة نصرا خالصا وإن انتصرت في النهاية، كما أنها لم تفد شيئاً من هذا النصر، فلم تنل توسعا إقليميا ولم تظفر بأي كسب خارجي يبرر ما أنفقت من أموال وما فقدته من رجال (21 ألف بحار، 30 ألف جندي) وبرغم هذا يؤمن بعض المؤرخين بأن هذه الحرب قد أفادت الولايات الأمريكية فوائد جمة:
أولا - دعمت هذه الحرب الوحدة القومية إذ أنها دفعت سكان الولايات إلى أن يقفوا صفاً واحدا يدافعون عن وطنهم واستقلالهم. وقد أكد البرت جالاتين وزير مالية أمريكا (1801 - 1813) أن الأمريكيين كانوا أنانيين جداً، شديدي التفكير تفكيرا محليا، فلما جاءت الحرب (جددت الشعور الوطني والخلق الوطني اللذين جاءت بهما الثورة، واللذين كانا يتضاءلان مع الأيام، فلقد أصبحت للشعب أهداف توثق بين أفراد وترتبط بها كرامتهم وأفكارهم السياسية. فهم الآن أمريكيون أكثر من ذي قبل، وهم يشعرون ويتصرفون كأمة. وإني لشديد الأمل بأن هذا التطور خير ما يضمن دوام الاتحاد (وتعتبر هذه الحرب حرب الاستقلال الثانية).
ثانيا - عرفت أمريكا أن الاستقلال الاقتصادي جوهري تماما مثل الاستقلال السياسي، بل عرفت ما هو أكثر من هذا، عرفت أن الاستقلال السياسي لا يمكن أن يقوم ولا يمكن أن تكون له قيمة إلا إذا قام على أساس الاستقلال الاقتصادي، ولهذا لجأت الولايات المتحدة
إلى حماية استقلالها الاقتصادي ففرضت تعريفة جمركية تسمح بازدهار الصناعة الأمريكية.
مبدأ منرو:
سارت الولايات الأمريكية في سياستها الخارجية على مبدأ العزلة كما رأينا، وقررت عدم الاشتراك في أي اتحاد أوربي، كما قررت عدم التدخل في شؤون الولايات الأمريكية التي تحصل على استقلالها.
وفي 1817 تولي جيمس منرو رئاسة الجمهورية الأمريكية وكان شديد الرأي حازما فيما يقر رأيه عليه (وقد وضع منرو مبدأ هاما في السياسة الأمريكية عرف باسمه وأهم ما جاء فيه:
أولا - إن أية أمة أمريكية تحصل على استقلالها لا يمكن أن تعود مستعمرة ثانية، وأن أي اعتداء على استقلالها تعتبره الولايات المتحدة عملا عدائيا بالنسبة لها أو بعبارة أخرى وضع منرو مبدأ وجوب عدم تدخل الدول، الأوربية في الشؤون الأمريكية.
ثانيا - إن قارتي أمريكا بما تتمتعان به وتحافظان عليه من حرية واستقلال قد أصبحتا غير خاضعتين لاستعمار أية دولة أوربية في المستقل.
ثالثا - إن النظام السياسي للدول الأوربية يختلف تماما عن نظام أمريكا، ويجب أن تعتبر أية محاولة من جانب تلك الدول لبسط نظامها على أي جزء في هذا النصف من الكرة الأرضية خطرا على سلامتنا وامتنا.
رابعا - لم نتدخل ولن نتدخل في شؤون المستعمرات القائمة أو البلاد التابعة لأية دولة أوربية.
خامسا - لم نساهم بأي نصيب في الحروب التي نشبت بين الدول الأوربية لأمور خاصة بها، كما أنه ليس مما يتفق مع سياستنا أن نفعل ذلك.)
ولعل أحد القراء يسألني: ما هي الظروف التي أدت إلى أن يصدر الرئيس منرو تصريحه هذا؟ والجواب على ذلك أن بعض الأمم الأمريكية مثل الأرجنتين وشيلي قد انتهزت فرصة الثورة الفرنسية وانشغال أوربا أثناء حروب نابليون وأعلنت استقلالها وخروجها على إسبانيا. وفي 1822 خول الرئيس مونرو - تحت ضغط شعبي عنيف - سلطة الاعتراف
بالدول الجديدة وهي كولومبيا وشيلي والمكسيك والبرازيل، وتبادلت الولايات المتحدة التمثيل السياسي مع هذه الدول الناشئة، وتم اعتراف الولايات المتحدة بهذه الدول على أنها دول شقيقة مستقلة تقف معها على قدم المسواة مكونة جزءا من أمريكا الحرة.
في هذه الأثناء كانت الدول الأوربية الكبرى قد كونت التحالف الرباعي وكان الغرض الرئيسي من إقامته منع فرنسا من العودة إلى الثورة وتهديد السلام الأوربي، ولكن مترنيخ رئيس وزراء النمسا وزعيم الرجعية وعدو الحرية والقومية حاول تأويل نصوص المحالفة الرباعية تأويلا يمكنه من دعم الحكم المطلق الذي كان قائما في النمسا ومن مقاومة الحركات القومية. وقد نجح في كسب قيصر روسيا وملك بروسيا بل وفرنسا إلى جانبه. احتجت إنجلترا على ذلك التدخل في شؤون الأمم الذاتية ولكن احتجاجها ذهب عبثا، فقررت الدول القضاء على الثورات التي قامت في نابلي وفي بيرمنت 1820 تطلب الحكم الدستوري وعهدت إلى النمسا بتنفيذ ذلك.
ثم قامت ثورة دستورية إسبانيا 1820 فقررت الدول القضاء عليها ي مؤتمر 1823 ووكلت إلى فرنسا تحقيق ذلك. خافت أمريكا من أن تقضي فرنسا على الثورة الدستورية في إسبانيا ثم تنتقل بعد ذلك إلى القضاء على استقلال الدول الأمريكية الناشئة لتكون لها مناطق نفوذ فأعلن رئيسها مترو مبدأه السابق حتى يمنع فرنسا أو غيرها من التدخل في شؤون الدول الأمريكية الجديدة.
وقد احتجت إنجلترا على تدخل الدول في شؤون إسبانيا، وخافت أيضا من أن يمتد نفوذ فرنسا إلى الدول الأمريكية التي كانت تستأثر بجانب كبير من تجارتها الخارجية، ولكن احتجاجها ذهب أدراج الرياح فسارع وزير خارجيتها كانتج إلى الاعتراف باستقلال الدول الأمريكية الجديدة (حتى ينشئ) كما قال (عالما جديدا يوازن ما تحصل عليه غيره من الفوائد في العالم القديم).
قويسنا
أبو الفتوح عطيفة
في الأدب المفارق:
الرديف في الشعر الشرقي
للأستاذ عطا الله ترزي باشا
إن الأشعار الشرقية في جمالها وجوهرها تتشابه إلى حد عظيم، وقد حصل هذا التشابه نتيجة بعض العوامل التي أثرت في كل من الأشعار. فقد اصطبغ الأدب الشرقي بوجود هذه العوامل، وهي كثيرة، بلون خاص يميزه في أساسه عن الأدب الغربي تمييزا بينا. وينبغي أن نجعل رابطة الدين في مقدمة تلك العوامل.
لقد كان أثر الإسلام عظيما في الحياة الأدبية عند العرب. ونجد أن هذا الأثر قد امتد كذلك إلى الآداب الشرقية الأخرى. فأصبحت الآداب متأثر بعضها ببعض؛ فقد تأثر الأدب الفارسي بالأدب العربي وبالعكس، كما أن الأدب التركي تأثر بهما، حتى لأصبح الشاعر التركي في وقت من الأوقات يجيد اللغتين العربية والفارسية بقدر ما يجيد لغته الأصلية فينظم الأشعار. وقد خلف كثير من شعراء الترك دواوين كثيرة في الفارسية والعربية.
وكذلك كان حال الشعراء الفرس؛ فقد اصطبغ الشعر الفارسي بطابع الشعرين العربي والتركي. وهكذا قل عن الشعر الأردأ فإنه مزيج من عدة لغات إسلامية حية أهمها الفارسية والعربية والتركية وعليه فقد وجد، بسبب هذا الدين الحنيف، اتصال وثيق بين الأشعار الشرقية.
ولقد بلغ هذا التشابه درجة توحدت فيها قواعد الأوزان وكثير من الأسس الأخرى الموضوعة للمنظومات الشعرية في الشرق.
ومع ذلك كله فإن كلا من هذه الآداب يحتفظ بطابعها الخاص الذي يميزه عن غيره. فهنالك مظاهر قوية تميز الأشعار الشرقية بعضها عن البعض الآخر، وهي التي تستند عليها قواعد نظم الشعر من بعض الوجوه.
ويدور هذا المقال حول (الرديف) الذي يميز الشعريين التركي والفارسي وغيرهما من الأشعار عن الشعر العربي تمييزا واضحا.
والرديف في اللغة بمعنى الراكب خلف الراكب وكذلك الردف بكسر الفاء (المنجد). وقال الفيروز آبادي: الردف بالكسر الراكب خلف الراكب كالمرتدف والرديف. . وكل ما تبع
شيئا. . ولليل والنهار وهما ردفان. . وجليس الملك عن يمينه يشرب بعده ويخلفه إذا غزا. . الخ (القاموس المحيط)
وقال القاموس أيضا الردف في الشعر حرف ساكن من حروف المد واللين يقع قبل حرف الروي ليس بينهما شيء.
وسكت كل من فريد وجدي والبستاني في دائرتيهما عن ذكر اصطلاح الردف أو الرديف في الشعر.
ومما يجدر الإشارة إليه أن الأدبيين التركي والفارسي يفرقان بين الردف والرديف. فالشعر (المردف) بفتح الدال اصطلاحا هو غير الشعر (المردف) بتشديد الدال، وقد عالجنا الأخير في هذا المقال.
ومن الجدير بالذكر أيضا أن الشعريين التركي والفارسي يختلفان عن الشعر العربي حتى في الردف. فقد جوز العرب الردف في حرفي الواو والياء، ذاهبا إلى صحة القافية بين (الفعيل) و (الفعول). مثال ذلك ما قاله المتنبي في رثاء محمد بن إسحاق التنوخي في قصيدة مطلعها:
إني لأعلم واللبيب خبير
…
أن الحياة وإن حرصت غرور
فجعل كلا من الملمات (خبير، غرور، بصير، نور، تسير، طور. . الخ) قافية لقصيدته. وهذا الاستعمال غير جائز في الشعريين التركي والفارسي إطلاقا.
والرديف في اصطلاح شعراء الترك والفرس لفظ يتكرر في نهاية كل بيت من الشعر. فهو عبارة عما تلا حروف الروي من حروف أو كلمات في البيت مباشرة.
وعلى هذا الاعتبار فإن الرديف يتكون من حرف أو حرفين أو أكثر، أو من كلمة أو كمتين أو أكثر، إذ يكرر الشاعر أحيانا ربع البيت أو ثلثه كما يتبين من الأمثلة الآتية:
قالت الشاعرة التركية (فطنت):
غناي قلبه سبب دولت قناعت (ايمش
جهاندة جاي فرح كوشة فراغت (ايمش
ومعناه: أن من استغناء الفؤاد القناعة، ومن دواعي السرور في هذا الكون الانزواء إلى الخلوة!
وقال الشاعر الفارسي العظيم (عمر الخيام) في إحدى رباعياته:
آنان كه در آمدند ودرجوش (شدند
آشفته ناز وطرب نوش (شدند
خورنده نبياله ومدهوش (شدند
درخواب عدم جملة هم آغوش (شدند
وترجم هذه الرباعية إلى اللغة التركية نظما شاعر تركيا الأول وسفيرها السابق في الباكستان الأستاذ يحي كمال، مراعيا فيها قواعد الردف:
أونلر كه كلوب بودهره يرجوس (أولرق
أذواقه صار يلديلر قدح نوش (أورلرق
إبجد كلري باده لرله مدهوش (أورلرق
صوك أويقوبه والديلرهم آغوش (أولرق
بمعنى (هاج الذين غاروا في بحر السرة يشربون، مرحين مدهوشين، من كؤوس فناموا، وهم سائرون إلى الفناء، متعانقين.)
ولهذا الشاعر التركي غزل مردف مشهور، ننقل؟ إلى القراء بعض أبياته، ومنه يتبين أن الرديف يتكرر في نهاية الشطر الثاني من كل بيت من الشعر بخلاف مطلعه حيث يتكرر في شطريه:
آهسته جك كوره كلري مهتاب (أويانمسون
بر عالم خيله دالان آب (أويانمسون
آغوش نوبهارده خوا بيده درجهان
سورسون صباحي حشرة قدر خواب (أويانسمون
أي كل سكونه وارمابي أمرايله بلبلة
كلشندة مست ذوق أولان أحباب (أويا نمسون
ومعناه: (مهلا أيها الملاح لا تحرك مجدافيك سريعا فيهتز الماء اللجي الغارق في الخيال، فيوقظ ضوء القمر!
إن الكون تمثال رائع وقد ضمه الربيع البهي إلى صدره، فليتنا لم نتيقظ من سنة الكرى،
وليت الصبح أبد الدهر لم ينجل!
أيها الورد ناد البلبل يسكت، لكي لا يتنبه الأحبة وهم في الروض نائمون فرحين)
تلك أمثلة ذكرناها والرديف فيها متكون من كلمة واحدة، وإليكم هذا المثال وفيه الرديف كلمتان:
بنم تك هيج كيم زار وبريشان (أولمسون يا رب
أسير درد عشق وداغ هجران (أولمسون يا رب
يقول الشاعر: رب لا تجعل أحدا من الناس مثلي، يشقي في نار الفراق مضطجعا بآلام الغرام.
ويصادف أن يستوعب الرديف كل البيت باستثناء كلمة تترك للقافية، كما قال الشاعر:
صفا (ي عشقي كيم آكلير كيمكله سويلشه لم
وفا (ي عشقي كيم آكلر كيمكله سويشله لم
بمعنى من يفهم صفو الغرام! مع من نتحدث؟!. ومن يفهم معنى الوفاء في الغرام! مع من نتحدث؟!.
ومن النادر جدا استعمال مثل هذا البيت - الذي جرى مجرى المثل - في الشعر.
ولا يتسع المقال أن يسرد الأمثلة على الرديف الذي أصبحت الدواوين التركية والفارسية زاخرة، بل وأن الأشعار المردفة في هذين الأدبيين تفوق الأشعار غير المردفة عدا. والنوع الأول (أي المردف) أسهل نظما وأكثر تأثيرا على السامع من غير المردف. وأن نظم الشعر الخالي عن الرديف أصعب من نظم الشعر المردف. بيد أن المردف أكثر انسجاما، وأشد وقعا من حيث النغمات من غير المردف.
ولا يصادف هذا اللون من الشعر في الأدب العربي إلا ما ندر، بل وذهب البعض إلى أن الرديف غير وارد في الشعر العربي إطلاقا. فيذكر الشاعر التركي الشهير (نامق كمال) أن الرديف خاص بالشعريين التركي والفارسي دون الآداب الأخرى والى هذا يشير الدكتور طه حسين باشا قائلا:(إن الشعر العربي وحده، هو الذي يختص بالتزام قافية واحدة في القصيدة)
ولقد استشكل على البعض من الكتاب أمر التفريق بين الرديف والإيطاء، فخلطوا بينهما
خلطا عجيبا يكاد يذهب عن الردف جماله.
والإيطاء هو أن يتكرر لفظ القافية ومعناها واحد، كما قال امرؤ القيس في قافية - سرح مرقب - وفي قافية أخرى - فوق مرقب - وليس بينهما غير بيت واحد. .
ويلاحظ أن الإبطاء كلما تباعد كان أخف. وكذلك إن خرج الشاعر من موضوع إلى موضوع كأن يخرج من مدح إلى ذم. .
ومن الإيطاء قول ذؤيب:
سبقوا هوى وأعنقوا لهواهمو
…
فتخرموا ولكل جنب مصرع
ثم قال صفة الثور والكلاب:
فصرعنه تحت العجاج فجنبه
…
متترب ولكل جنب مصرع
فكرر ثلث البيت. . . ولو أن الشاعر كان قد التزم القافية في موضعي (فتخرموا) و (متترب) لعددنا (ولكل جنب مصرع) رديفا.
وإذا اتفق الكلمتان في القافية واختلف معناهما لم يكن إبطاء. وقال الفراء يواطيء الشاعر عن عي. وإذا كرر الشاعر قافية للتصريح في البيت الثاني لم يكن عيبا. نحو قول امرئ القيس:
خليلي مرابي على (أم جندب
ثم قال في البيت الثاني: لدى (أم جندب
والواقع أن هذا المثال الأخير لا يخرج عن كونه حالة من حالات الرديف. إذ ينبغي أن نعتبر كلمتي (أم جندب) رديفا.
ويقرب من هذا ما قاله توبة مخاطبا بعل ليلى الأخيلية:
لعلك يا تيسا نزا في مريرة
…
تعاقب ليلى أن تراني (أزورها
على دماء البدن إن كان بعلها
…
يرى لي ذنبا غير أني (أزورها
وهذه قطعة مترجمة من شعر الشاعر الأزدي الكبير (محمد إقبال) مردفة في الأصل. وقد حافظ المترجم في نفس الوقت على رديفها في العربية:
أخلقن دنياك كي تحيا بها
…
سر هذا الكون بالحق (الحياة)
هي في الحرية بحر زاخر
…
وغدير في حمى الرق (الحياة)
تختفي في الطين سرا وترى
…
بقوى التسخير والخلق (الحياة)
هي في الغافل ترب هامد
…
وهي في اليقظان سيف جاهد
وفي هذا يقول الدكتور عبد الوهاب عزام بك في هامش المقال الذي نشره في العدد الأول من مجلة الثقافة حول الأدب الهندي الإسلامي:
(إن شعراء الفارسية والأردية يجيزون أن تكرر كلمة واحدة في آخر الأبيات ويسمونها رديفا، ولكنهم يلتزمون قبلها قافية. فالحياة في الأبيات الثلاثة رديف، والقافية في الكلمات التي قبلها).
وينبغي اعتبار الضمائر التي تلحق بأواخر الأبيات في الشعر العربي رديفا كما يتبين من هذه الأمثلة:
قال المعري في لزومياته:
مل المقام فكم أعاشر أمة
…
أمرت بغير صلاحها أمراؤ (ها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
…
فعدوا مصالحها وهم أجراؤ (ها
فهنا ينبغي أن نعتبر (ها) في نهاية الأبيات رديفا.
وقال سالم بن وابصة:
لعمرك ما أهويت كفي لريبة
…
ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
…
ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وهنا ياء المتكلم رديف. . وفي المثال الآتي الضمير (نا) رديف. . وهو من شعر بشامة النهشلي
إنا محيوك يا سلمى فحيينا
…
وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة
…
يوم سراة كرام الناس فادعينا
وإلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي يعجز المقال عن ذكرها. . .
ويشير الأستاذ محمد مهدي البصير إلى نوع من الشعر المردف اخترعه البغداديون لسرد الحكايات والخرافات يسمى بـ (الكان وكان) وهو نوع من الشعر العامي قافيته مردوفة دائما. . . وقد تطور حتى نظمت به الحكم والمواعظ ولكنه ظل محافظا على صبغته العامية إلى أن انقرض. . .
ومهما يكن من أمر فإن العرب كما سبق لم تستعمل في أشعارها الرديف إلا نادرا جدا. إذ يصعب على المحقق الباحث أن يعثر في الدواوين الشعرية على أمثلة وافية من الشعر العربي المرد وف. . أما الأمثلة التي أتينا بها في هذا المقال وغيرها من الأشعار المردفة إنما وردت على لسان شعراء العرب عرضا من غير قصد. . هذا بعكس ما عليه الأمر في الشعرين التركي والفارسي، فإن الأشعار المردفة فيهما كثيرة. بحيث أنك لا تجد شاعرا من شعرائهما إلا وقد استعمل هذا اللون من الشعر في ديوانه.
ولا يخفى لما لهذا النوع من الشعر من اللطافة والجمال والحلوان ما لا نتذوقه في غيره من أنواع الشعر، فنرى القارئ ينجذب إليه بقوة السحر الذي يتجلى في سلاسة ألفاظه وسهولة تراكيبه، ولذا يفضل الكثيرون من شعراء الترك والفرس نظم الأشعار المردفة. وقد شاع استعمال هذا اللون من الشعر في الغزل أكثر من شيوعه في باقي الأغراض.
ولا غرابة في أن نعثر في آداب الأمم الأوربية على أمثلة لهذا النوع من الشعر، لا نشك في أن شعراءهم قد أقتسبوها من الشرق. وخير مثال نورده هنا القصيدة الإنكليزية التي مطلعها:
- '
وهي من نظم الشاعر المعروف (توماس أوبزبرن). ويلاحظ هنا أن الشاعر كلمة (لاند) في آخر الأبيات رديفا، والتزم في الكلمات التي قبلها قافية. .
كركوك - العراق
عطا الله ترزي باشي
أبو الثناء الألوسي الكبير
بمناسبة مرور مائة عام على وفاته
للأستاذ محمود العبطة
- 3 -
عزلة من الإفناء:
بعد سنين حافلة بجليل الأعمال، يانعة بنهضة العلم وتقدم الأدب ورقي المعارف، يرعاها الألوسي الكبير بعلمه الوافر وأدبه الثر، وشخصه اللامع. . . بعد هذه السنين التي هي بمثابة ضوء لامع ساطع يمده شهاب الدين الألوسي بالقوة والحياة، في تلك السنين المظلمة المعتمة، وبعد تلك السنين الخصبة صدرت إرادة الخليفة العثماني بنقل الوالي المصلح علي رضا من ولاية بغداد وتعيين الوالي نجيب باشا مكانه (كانت ولايته عام 1842م) ولم يكن الوالي الجديد يقل عن الوالي القديم حبا للإصلاح وإيثارا للأمن والسلام، وإن كان يفرق عنه في إيثار القوة حين ينقع العقل، والتصرف الصحيح، ويفرق عنه أيضا في عنجهيته وكبريائه، وعذره في الخيلاء والكبرياء أنه من بيت السلاطين، ويجري في عروقه الدم الملوكي! وكما كانت بداية علي رضا دليل شؤم ونحس على الألوسي، إذ سجن فيها وعذب، فقد كانت نهاية ولايته دليل شؤم ونحس على الألوسي بالذات وعلى (بغداد) التي وجدت فيه خير باعث لاسمها ومجدها أخيرا. . جاء محمد نجيب للولاية، ولم يكن يعلم حالة أهلها وما هم عليه من تحزب وشقاق، وحسد ونفاق، وبعد أن استقر به المقام وتسلم زمام الولاية، تحركت جيوش البغي والنفاق، التي أخرسها عدل علي رضا، إذ تمكن أعداء الألوسي الكبير أن يفهموا الوالي الجبار أن مفتي بغداد يكره ويكيد له، وأثر ما تمكن هذا القول من قلب الوالي، تجمع الأعداء وعددهم أكثر من مائتين تبعهم جمع كبير من السوقة والرعاع ثم قصدوا قصر الوالي نجيب الواقع في خارج بغداد القديمة وعلى شاطئ دجلة. وعندما قربت الجموع من قصر الوالي اندهش مما رأى وقال في سره إن ثورة حدثت، أو انقلابا يهدد ولايته وخليفته بالويل والثبور، وعندما استطلع الخبر أخبره زعماء المظاهرة أن سبب البلاء ورأس الفتنة هو أبو الثناء الألوسي مفتي الحنفية الذي يشاركه فيها واعظ
الجيلي، وأن من الخير وقطعا لدابر الفساد عزل المفتي الألوسي من الفتوى ونفي الواعظ إلى مدينة البصرة! فأجاب الوالي طلب المتظاهرين وأصدر حالا أمره بعزل الألوسي من الإفتاء، وذلك عام 1263هـ وقد سبقت هذه الحادثة، حادثة أخرى تصور درجة حقد الوالي على اللألوسي ودرجة لؤمه أيضا، وتلك الحادثة الأخرى هي أن كتابا ورد اللألوسي المفتي من قصر السلطان في الآستانة، يطلب فيه رجال القصر حضور مفتي بغداد إلى العاصمة العثمانية للاشتراك في ختان أبناء السلطان عبد المجيد؛ فطلب الوالي من المفتي الاعتذار عن حضور الختان، فأجاب المفتي اللألوسي طلب وأرسل رسالة يعتذر فيها عن الاشتراك في الحفلة والوالي الذي يطلب من الألوسي عن السفر يقوم بدور الثعلب المراوغ فيرسل إلى القصر العثماني رسالة يتقول فيها ما يشاء ويتهم الألوسي بأنه لم يحضر الحفلة إلا كبرياء واحتقارا!
ومهما كان السبب فقد عزل الألوسي من الإفتاء، وانصرف بكليته إلى إتمام تفسيره وتعليم تلاميذه ومنادمة خلانه. وقد قابل أمر العزل برباطة جأش معهودة فيه بكل أطوار حياته مترقبا الأيام، وتقلب الأحوال. . كل هذا والوالي يتحين الفرص للقضاء عليه، والفتك به، ولما لم يجد سبيلا لذلك فقد قطع عليه مصدر رزقه الوحيد، وهو ما تدره عليه تولية جامع مرجان من مال قليل يقتات به وأهله الكثيرون، فأصدر الوالي نجيب أمره بعزله من التولية بعد أن عزله من الإفتاء وصادر وظائفه الأخرى، وذل بعد عزله من الإفتاء بخمسة أيام مع أنه عين متوليا على جامع مرجان قبل تعيينه مفتيا على مدينة بغداد، هكذا تقول المصادر التاريخية، وقولها الصدق، ولكن للجبروت والاستبداد صولة وسلطة في عهد لم تقيد فيه سلطة الحاكمين بالقوانين والأنظمة والعرف المستقر.
وبرفع الفتوى والتولية عن الألوسي الكبير توالت النكبات عليه، وعضه الفقر بنابه حتى باع كتبه وأثاثه وحاجاته البيتية ليقتات أهله وعائلته الكبيرة بثمنها. وهو مع هذه المصائب منصرف إلى إنجاز التفسير والقيام بواجب الدراسة ومجالسة الإخوان. ويقول اللألوسي في مقاماته التي هي منبع غزير وصور صادقة لحياته وعصره، خصوصا وأنه كتبها في سنيه الأخيرة. يقول واصفا وظيفة الإفتاء وتدخل الحكام في شؤون المفتي (وقد كنت أرى أمر الإفتاء، أمر من القضاء حيث مزقت الشورى أذاك أديمه، وأسقمه أعضاء المجلس ذوو
الآراء السقيمة، أعضاءه السليمة، فلم يكن يختاره إلا ذو جهالة، قد جعل والعياذ بالله تعالى دينه لدنياه حباله، وحاشاني أن أكون كذلك.) وبقي في حاجة ملحة إلى المادة، وفي قلق نفسي لا يزيله إلا مجالسة إخوان الصفاء ومدارسة التلاميذ والطلبة. وعند وصول أحمد أبن الوالي بغداد، عرض شكواه عليه، ووصف سوء حالته له، فوجد منه أذنا صاغية، وقلبا رحوما، أزال منه بعض بلواه.
ورحلته إلي الأستانة:
مضت السنة الأولى والثانية والثالثة والألوسي يتحمل ضربات القدر، بعد أن سد باب رزقه، وبعد أن لم يبق في بيته من أثاث وأشياء ما يباع، حتى كاد - على ما يقول أن يأكل الحصير على مداد التفسير، وقد وجد - وهو الخبير بتقلب الأحوال وطباع الناس - أن خير مخرج له هو أن يشد الرحال إلى العاصمة العثمانية: خصوصا وحالته المعاشية تزداد في الهبوط، إذ لا مصدر للرزق له، ثم إن دروسه التي يلقيها في بيته تلقى مجانا على سنة علماء بغداد. . عزم الألوسي على السفر إلى أستا نبول، ليعرض شكا يته إلى أولي الأمر، ويرفع ما بقلوبهم من كراهية وحقد. فشد رحاله في غرة جمادى الثانية عام 1267هـ (1845م) وكان معه في قافلته المؤرخ سليمان والوالي عبد الكريم ومصطفى الربعي وإقبال الدولة الهندي. . تحركت القافلة ضحى جمادى، تحمل كبار القوم ومعهم الألوسي وولد عبد الباقي، وكان لسان حاله يردد قول الأمير الحميري:
ففيم الإقامة في بلدة
…
تناكرني بعد عرفانها
سارت القافلة على بركة الله فوصلت الموصل فجزيرة أبن عمر فديار بكر حتى وصلت سامون ومنها ركب الألوسي إلى القسطنطينية. وصل المدينة التي كان يحلم بها والتي كانت المركز العصبي للدولة الواسعة وكانت استنبول في عهده عروس الشرق الأوسط لأن الأموال تجبى من أطراف المملكة لكي تسعد هذه المدينة وتتزين! فأتصل بشيخ الإسلام عارف حكمت الحسيني وقدم له التفسير فقابله الشيخ ببرودة غير معهودة، وأخيرا تمكن الألوسي من إقناعه وإزالة ما في صدره من أقاويل، وجرت بين شيخ الإسلام والمفتي السابق مناضرات ومباحث دلت على سعة اطلاعهما، أعانه شيخ الإسلام للنزول بدار الضيافة في القصر، إذ قدم مذكرة إلى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) ضمنها مطالبة
وشكواه وأردف بهما بيتين من الشعر ضمن بها شطرا لأبي فراس الحمداني:
قصدت من الزوراء صدرا معظما
…
وقد سامني ضر وقد ساء ني دهر
فقلت لنفسي والرجاء موقر
…
(لنا الصدر دون العالمين أو القبر)
وبعد دراسة المذكرة صدرت إرادة سلطانية بتوجيه رتبة قضاء (أرضروم) له مع إعطاء هدية مالية عظيمة وبقي في العاصمة أشهرا مكرما محاطا بالإجلاء ثم أراد العودة إلى الوطن معتذرا من شيخ الإسلام الذي اقترح عليه الإقامة في العاصمة فتوجه إلى بغداد في 21 شوال عام 1268هـ ومعه في القافلة والي بغداد الجديد رشيد باشا الذي جعله ساعده الأيمن في بغداد، ثم وصلها في 15 من ربيع الأول عام 1268هـ وحين الوصول أجرى له استقبال عظيم من قبل إخوانه، ومدة غيابه في الرحلة الميمونة تقرب السنتين.
والألوسي في أيام الأخيرة:
رجع الألوسي إلى بغداد بعد رحلة طويلة شاقة، ورجع إلى عادته القديمة يحاضر دروسه في بيته وينادم أصحابه وقد يتردد إلى قصر الوالي الذي كان يستعين به، والألوسي قد شاهد في حله في بغداد وترحاله إلى جزء مهم من الدولة العثمانية، وشاهد الانهيار الروحي والمعنوي في الدولة، فأراد أن يبعث الروح الإسلامية حية يقظة تكون مستعدة حيت اعتداء الغربيين على دول المسلمين فألف رسالة مهمة في (الجهاد) وشرح كتبا أخرى قد ألفها قبلا وكأنه كان يعلم بدنو أجله فأراد أن يهدى إلى الأجيال المقبلة تاريخا مفصلا لحياته ولعصره فكتب (مقامات) خالدة هي في مقدمة كتبه الأدبية، وكانت المقامة الأولى إرشادات طيبة إلى أولاده النجباء دلت على نخبة اجتماعية وحس دقيق. والألوسي مع قيامه بهذه الأعمال الجسام كان يتحمل ألم الحمى النافقة التي أصيب بها أثناء رجوعه من الرحلة إلى بغداد، إذ ابتلت جميع ثيابه، وبقى يتحمل هذا المرض الذي كان يعاوده
ز - وفاته:
وهكذا يتم الفصل الأخير من حياة الألوسي الكبير!
حياة كلها كفاح مرير، ورجولة مثلى ورعاية للأدب، وتقديس للعلم
تخدر جسم الألوسي الكبير، بعد أن نحل عظمه، وهزل لحمه، ثم ارتفعت روحه إلى خالقها
وذلك في صباح 25 ذي القعدة 1270هـ، وقد شيع جثمانه تشييعا حافلا، سارت به بغداد أجمعها، وبين التأسف والتوجع دفن الألوسي في مقبرة عائلته في مقبرة الشيخ معروف الكرخي. رحم الله الألوسي الكبير!
تمت
محمود العبطة
صالح علي شرنوبي
للأستاذ رجاء عبد المؤمن النقاش
في أمسية من أماسي سبتمبر الجاري، وعلى شاطئ مدينة سمنود، في جلسة حالمة ضمتني أنا والأستاذ أبو الفتوح عطيفة، أخذ الأستاذ يحدثني عن الآثار الفكرية التي تركتها في نفسه إحدى زياراته للقاهرة، وأخذت أصغي إلى حديثه الرقيق الدسم. . وفي لفتة من لفتاته المشرقة، انطلق يحدثني عن الأثر الذي تركه الشاعر الشاب صالح شرنوبي في نفسه، حين سمعه للمرة الأولى في جمعية الشبان المسيحيين ضمن جماعة من شعراء الشباب، وقد كان فيهم من المبرزين، إن لم يكن أبرز شخصية وأميزها بينهم جميعا.
قلت للأديب معقبا على لفتته تلك: إنني آمل أن يسد هذا الفنان الشاب ثغرة تركتها في الشعر العربي وفاة علي محمود طه، إذ أنني في الواقع أنظر إليه بعين الأمل في مستقبله، ذاك الذي يلوح لي مشرقا باسما من وراء الإرهاصات الطيبة التي أراها فيشهره وخصوصا وأنه ما زال في ريق شبابه، وميعة عمره.
ومضى ذلك اليوم، وفي صباح اليوم التالي، وبينما أتصفح جريدة الأهرام، لفت نظري في صحيفة الوفيات اسم الفنان المبدع وقرأت. . فإذا بالشاعر الذي كنا نتحدث عنه بالأمس قد شد راحلته إلى هناك. . إلى عالم الفناء، أو قل عالم الخلود.
لقد كانت لحظة رهيبة أشد الرهبة على نفسي، عنيفة أقسى العنف على شعوري، تلك اللحظة التي قرأت فيها النبأ المؤسف. . لقد وقع علي وقع الصاعقة التي زلزلت كياني كله، وأشعلت في أعماقي كوامن الشجن، ونكأت في روحي جرحا عميقا كاد أن يندمل. . أجل! لقد حملني هذا النبأ على جناحه هناك. . إلى صفحات الماضي القريب للأدب العربي، فمنذ مطلع الربع الثاني من هذا القرن، وحظ الأدب العربي سيئ إلى حد يدعو إلى الأسف، فكلما لاح في أفقه نجم، وتطلع الحيارى إليه على أمل أن يكون بزوغه هدى لهم. . كلما لاح هذا النجم وبدأ ضوءه يملأ الآفاق، ويخترق حجب الظلام، ويشق طريقه إلى القمة، استيقظ الحالمون بعد قليل غفوة على حقائق الواقع المخيفة، وأفاق السكارى ليروا جثة باخوسهم أشلاء ممزقة ولما يرتووا بعد من كأسه المحطمة أمامهم في فناء الحانة الكئيبة الشاحبة.
يوم فقد الأدب الغربي أحمد العاصي ومازال في شبابه، ممتلئ النفس، غض الجناح. . ولم يكد الأدب العربي يفيق من هول الصدمة، حتى تمزقت من تاريخ الشعر العربي صفحة كادت أن تكون أخلد صفحة فيه. . هناك. يوم أصبح الناس على صوت الناعي لينبئهم أن أبا القاسم الشابي قد كفنته أعوامه الخمسة والعشرين. وما يكاد الناس ينفضون عن أفئدتهم غبار الذهول، الذي عراهم حتى رأوا الأدب العربي يكاد ينفطر قلبه على فقيد جديد. . وكان الفقيد من السودان. . وكصاحبه أبي القاسم - لم يكن التيجاني يوسف بشير قد أتم في طريق العمر خمسة وعشرين عاما. . وتتولى الفجائع على رأس أدبنا المسكين، فلا يمضي عام إلا وهو يودع إلى شاطئ الأعراف محمد عبد المعطي الهمشري، ثم يتبعه إلى نفس النهاية فخري أبو سعود، ويليه فؤاد بليبل. وها نحن نرى أمامنا نجماً جديداً يخبو، وعلى صرخات الأنين من الأفئدة الحرى، والنفوس الملتاعة، نشيع في موكب الأحزان. . صالح علي شرنوبي.
لم يكد نوره يسطع على الدنيا فيلفت إليه الأنظار، حتى سقط في طرفه عين كالبرق الخالب، والسراب الكذوب. . إلا أنها قصة جديدة نستمعها من تاريخ أدبنا المعاصر. . وصفحة أخرى ريانة الصبا مياسة الجمال، يطويها هذا التاريخ ليحل محلها أخرى صفراء ذابلة، توحي إلى النفس بالأسى وتدفع إلى محاجرنا منهمر الدمع.
مضى صالح. . في رونق شبابه، فمضت معه شاعرية ناضجة وهي إثره جناح جبار، وانطوت بموته صفحة للفن الرفيع ما كانت لتقدر على طيها الأنوار والعواصف. . ولكنه الموت؛ ولكنه القدر، كانت روحه ألصق ما تكون بالفن، وكان الفن ألصق ما يكون بروحه. . كل ما عرفته عنه يتفق كل الاتفاق مع شخصيته الفنية، التي رسمتها له في ذهني إثر قراءتي المتتابعة له، إذ لم تتح لي الظروف أن أتصل به اتصالا مباشرا يتيح لي أن أعرف كل شيء عنه. . كان المرجع في رسم هذه الصورة في رأسي هو شعره، ثم بعض أصدقائه وزملائه الذين اتصلت بهم عن كثب وعرفت منهم بعض طباعه وخلائقه. . أول ظاهرة تلفت نظر الدارس في شخصية هذا الفنان هي الصدق. . الصدق في أجمل صورة، حيث يصدر عن طبيعة أصيلة، ولا أثر للتكلف ولا للصنعة فيه. . فهذا لا يخرج القصيدة إلى حيز الحياة إلا بعد تجربة نفسية تصهر فيها أحاسيسه ومشاعره. تجربة يعيش فيها
ويحس جوها، ويكتشف دقائقها، ويلم بحقائقها. . فأنت تشم من شعره في كل قصيدة وكل بيت، رائحة (الصدق) تفعم أحاسيسك، وتملأ مشاعرك فتهزك من أعماقك هزاً عنيفاً، وتدفعك قسراً إلى متابعته والاندماج في جو قصيدته بعد أن يلهب نفسك، ويشعل وجدانك - استمع إليه في قصيدته على ضفاف الجحيم، وهو يخاطب القاهرة وأضوائها القاسية:
إني هنا فعبدي وثوري
…
ملء عنان اللهو والسرور
ومزقي بضحك المخمور. .
…
غلالة ينسجها تفكيري
ليستر العريان من شعوري
…
ويحجب اللافح من سميري
الجائح المدمر الضرير
…
يود لو يعصف بالقصور
وساكنيها عابدي الفجور
…
النائمين في حمى الحرير
الغافلين عن أسى الفقير
…
ولوعة الشرد الدحور
الوالغين في دم المهدور
…
من عصب الكادح والأجير
إني هنا يا جنة الحقير
…
آكل جوعي وأضم نيري
قف طويلا أمام تلك التعبيرات الصادقة، المنطلقة من إحساس صادق، لتتفيأ الظلال التي تتركها على صفحات الشعور الملفوح بحرارتها وقوتها، قف أمام (العريان من شعوري) ثم أمام (عابدي الفجور). . (التأمين في حمى الحرير). . ثم قف بربك أمام الشطر الثاني من البيت الثامن (آكل جوعي وأضم نيري). . ثم قل هل هناك أصدق في الإحساس والتعبير وفي دقة الأداء وعمقه، من تلك التعبيرات؟
ثم استمع بعد ذلك إلى هذه الومضات المتدفقة من أعماق وجدانه المشتعل:
هذا أنا في العالم الكبير
…
فوق ربي المقطم المهجور
متخذاً من أرضه سريري
…
من الحصى والطين والصخور
وتحت سقف الأفق المطير
…
والقاصف المزمجر المقرور
أنام نوم العاجز الموتور
…
على عواء الذئب والهرير
وقهقهات الرعد في الديجور
…
تسخر من عجزي ومن تقصيري
هنا تصوير صادق، وصادق جداً، لا يقدر عليه إلا شاعر أحس أثر التجربة العميق في نفسه، بعد أن جمع إحساسه، وحشد قدرته الفنية، ليلتقط دقائق المنظر حتى يخرج صادقاً
كما هو في نفس الفنان، وكما هو في أعماق الواقع - ولا أترك هذه القصيدة قبل أن أقف أمام هذه الأبيات:
وأنت يا زنجية الضمير
…
تدرين قدري وترين نوري
فتجرين ضحكة المغرور
…
أو ترتدين كفن المقبور
هازئة كالزمن المبهور
…
من المثالي الفتى الطهور
قف أمام (زنجية الضمير). . فلعل هذا التعبير يكون المفتاح الصادق لكل وثبة من وثبات شعوره وقفزة من قفزات فنه، في القصيدة كلها. . إنه يخاطب زنجية الضمير. فعليه أن يفترق من منبع السخط عليها، كل لفظة تتناسب مع جو القصيدة العاصف، وكل حركة تتفق وموسيقاها الصاخبة. الصدق. . صدق الفنان. هو الظاهرة الأولى في شخصية صالح شرنوبي. . ويلي ذلك ظاهرة الانطلاق. . الانطلاق الحر الذي لا يقيده قيد ولا تحده حدود. . وهذا انطلاق الفني لا يتوفر إلا لكل شاعر جبار الجناحين، قادر على التحليق في الآفاق الواسعة، مكتمل الأداة، يعبر في حرية من فنه الذي لا يضيق به، ومن نفسه التي تتسع لزاد من الأحاسيس، لا يفنيه ضعف في الملكة أو همود في الطاقة، ترى ماذا أقصد بالانطلاق؟ الانطلاق في رأيي، هو أن يكون الفنان صاحب (نفس خاصة) ينظر بها إلى زوايا الحياة نظرة خاصة به وحده، ويتأثر تأثرا له خصائصه المنفردة، ومميزاته التي تهيأ للفنان شخصية لا تضيع في غمار الشخصيات الفنية الأخرى، ثم هو التعبير عن الإحساس بصدق بالغ مع التحلل من كل القيود التي تفرض من خارج النفس الفنان. . الانطلاق مجملا، هو كما يقول صالح نفسه في قصيدة (الشاعر):
شاعر الكون لا يقيده الكو
…
ن وإن ضمه تراب وماء
ساحر النور والظلام، وكم يسمو. . فتفي في نوره الظلماء
قلبه العالم الكبير ونجوا
…
هـ حنين ورحمة وإخاء
خلقه كالضياء في كل حال
…
فهو في الحان والمصلى ضياء
عقله مسرح بنته المقادي
…
ر ووشت ظلاله الأضواء
أزلي. . ممثلوه رؤاه
…
والأماني المجنونة الخرساء
فالنظرة الفاحصة التي بدقتها وروعتها وعمقها ظواهر الأشياء، والإحساس الشامل، والأفق
الواسع، والتعبير الصادق، والشخصية الخاصة. كل هذه الأشياء هي حدود الانطلاق الذي يرفع من قيمة الفنان شاعراً كان أو موسيقياً أو مصوراً.
وهذا الانطلاق ظاهرة تلفت النظر في شخصية صالح الفنية في كل شعره على الإطلاق، تحسه وأنت تقرأ له: في لفظه وموسيقاه، في لفتاته وصوره، في دفقات وجدانه الشاعر، ونبضات قلبه الفنان. . أو ليس منطلقاً ذلك الذي كأنه يستشف حجب الغيب وهو يقول في (أشواق الربيع):
تعالي نخلق الحب
…
فقد يخلقنا الحب
لنروي ظمأ الدنيا
…
بما يوحي به القلب
فقد يخنقنا الترب
…
ولم نعشق ولم نصب
وننسى أننا (كنا)
…
وفي أيامنا جدب
تركناه بلا ري
…
وفينا المنهل العذب
تعالي فالردى الحبار
…
لا يحنو ولا يرحم
وهذا سيفه المخضو
…
ب لا يبلي ولا يثلم
يريني ومضه ملا
…
يريني ظله الأقتم
تعالي فاغد المرهوب غيمان السنا مبهم
ويا ضيعة دنيانا
…
إذا ولى ولم تعلم. .
أو ذلك الذي يقول في (الأفعى) مصوراً لنا موقفاً خالداً من مواقف البشرية، هناك. . . حيث يتصارع جسد المرأة، وجسد الرجل صراعاً خالدً،. . ولكن المرأة في هذه القصيدة ليست امرأة عادية،. . إنها أفعى، إنها بغي،. . وعليه ينطلق في تلوين الصورة وتظليلها مختاراً لها ما يناسبها من الألوان والظلال. . وذلك م يبدو واضحاً في القصيدة الرائعة:
اشغليني بما تريدين مني
…
واملئي بالغرام سمعي وعيني
بفنون الأغراء باللهب الثا
…
ئر من جسمك البديع الأغن
جسمك العبقري شكلا وظلا
…
الغوى الغنى عن كل حسن. .
اشغليني فقد تنالين من عمري يوما، نقضيه كالحالمين
عند هذا الركن القريب من الأر
…
ض وإلا فعند أبعد ركن
هو يوم كأي يوم سيمضي
…
أو مضى فالحياة لون كلون
سوف نقضيه وحدنا. . ثم ترضين، وأشكو، وتشمتين، وأثنى
في غرام مستهتر. . . يتصبى
…
كل شيء فينا، ويحيى ويغنى
في صراع يطول بالراحتين
…
وبجسمي وجسمك الماردين
وبما في شبابنا من حياة
…
واشتهاء يطغى، وشوق يغنى
بين خمر رخيصة وأغان
…
ساقطات، تجري، على غير لحن
ودخان معطر، نتعاطا
…
هـ بعيداً، في وكرنا المستكن
وحديث مهلهل عن لياليه وعن قلبك الصغير المسن
نكات حفظتها عن (أبي النوا
…
س) أو عن جحا الحكيم المفن
تتقاضينني عليها حياتي
…
وتقولين قد رجعت بغبن. . .
وننتقل بعد ذلك إلى شعر المناسبات عنده، لنرى أن أهم ظاهرتين فيه أيضاً هما: الصدق والانطلاق
وبين يدينا قصيدته (فاروقية) قائمة على ذلك بالدليل، شاهدة عليه بالبرهان،. . يقول في مطلعها: -
حادي الشمس لا تعجل سراها
…
فهنا لو علمت نبع سناها
مل بها ساعة. . . تبث هواها
…
لجميل هامت به مقلتاها
ويقول في ختامها الرائع: -
ملك تخشع القوافي لديه
…
ناهلات من سحره معناها
كل أيامه، ملامح مجد
…
ملأ الدهر كأسه من طلاها
إن تناهى القصيد دون علاه
…
فمعاني علاه. . . لا تتناهى
وكل ما عرفته عن حياته بعد ذلك موافق تماماً لشخصيته الفنية التي استخلصنا حدودها من شعره. . . فقد كان - على ما علمت - مسرفا لا يبقى في يده على شيء، سمح الخلق، رضى النفس. . . شيء واحد أثار تعجبي ودهشتي، ذلك أنه كان شاباً حدث السن، إذ ما كنت أن أتصور أن كل هذا النضج وكل هذه الأصالة، يمكن أن تتوفر لشاب في مثل سنه، والخطأ في دهشتي وتعجبي واضح بين، إذ أن القرائن في ماضي أدبنا العربي، وغيره،
وغيره من الآداب، لا تنكر حدوث ذلك، وفوق هذا، فإن، فإن العبقرية غلابة على السن والجنس والنوع، فليس من لوازمها أن يكون العبقري شيخاً، ولا من مانعها أن يكون رجلا لا امرأة، أو مصرياً لا فرنسياً. . . ذلك لأن العبقرية كما قلنا لا حدود لها من سن، أو جنس، أو نوع.
رحمك الله يا صالح. . . إنها لخسارة فادحة حلت بالأدب العربي، كم أدمت من نفوس، كنت موضع آمالها، وقبلة مناها، وكم حطمت من أفئدة، كنت ساكن سويدائها، ورب هواها. . .
ولئن كانت حياتك مثلا من الصدق والانطلاق، لقد كان موتك ضربا من العبر التي لا تكرر في كل حين ولكنها - إلى قلتها - خالدة وصفحة باقية، جذبت إثرها من كتاب التاريخ صفحات،. . . ولن يجد قائل ما يرثيك به خيراً من قولك أيها الفنان:
مات فرد ممن شدا الحق فيهم
…
(أنتم الناس أيها الشعراء)
رجاء عبر المؤمن النفاس
5 - أصحاب المعالي
(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)
(حديث شريف)
للأستاذ محمد محمود زيتون
هذا هو البارودي أو بالأحرى فلذات من شخصيته المالية الدائبة على طلب التمجيد والتخليد، وليس ثمة أبعد همة من احتقار اللذة خمرا ومزمارا، وأسمى مكانة من الاعتماد على النفس في سلوك النهج بغية العزة والتماس الكرامة.
والبارودي - والحق يقال - من طراز الأبيوردي الذي من شيمه معالي الأمور، أما قمة انجم فهي موطئ قدمه، فكيف برأسه:
الناس من خولي والدهر من خدمي
…
وقمة النجم عندي موطئ القدم
وللبيان لساني والندى خضل
…
به يدي، والعلا يخلقن من شيمي
لو صيغت الأرض لي دون الورى ذهبا
…
لم ترضها لمرجى نائل همهمي
وعن قليل أرى في مأزق حرج
…
به تشام السريجيات في القمم
ويقول:
عجبت لمن يبغي مداى وقد رأى
…
ما حب ذيلي فوق هام الفراقد
ولي نسب في الحي عال بقاعه
…
رحيب ماري العرق زاكي المحاتد
ورثتنا العلا وهي التي خلقت لنا
…
ونحن خلقنا للعلا والمحامد
أبا فأبا من عبد شمس وهكذا
…
إلى آدم لم ينمنا غير ماجد
ومن العجيب أن العرب في شتى الإعصار والأمصار لم يفارقهم هتا المجد في الروحات والغدوات، وما من شيء يحتلفون بذكره في نثرهم وشعرهم أهم عندهم من المعالي.
يقول حسا بن ثابت في مدح جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان:
دار لقوم قد أراهم مرة
…
فوق الأعزة عزهم لم ينقل
بيض الوجوه كريمة أحسبهم
…
ثم الأنوف من الطراز الأول
ويقول لبيد:
فاقنع بما قسم المليك فإنما
…
قسم الخلائق بيننا علامها
فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه
…
فما إليه كهلها وغلامها
ويقول شاعر في رثاء الأحنف بن قيس:
فما كان قيس هلكه هلك واجد
…
ولكنه بنيان قوم تهدما
ويقول لبيد عند النازلة، والنجوم والشهب والجبال تراوده:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع
…
وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
…
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وكذلك صفي الدين الحلي وهو يرثي صديقا له غرق بدجلة:
أصفيح ماء أو أديم سماء
…
فيه تغور كواكب الجوزاء
ما كنت أعلم قبل موتك موقنا
…
أن البدور غروبها في الماء
ومنها:
أنف العلاء عليك من لمس الثرى
…
وحلول باطن حفرة ظلماء
ويقول:
حبك الأوطان عجز ظاهر
…
فاغترب تلق عن الأهل بدل
فبمكث الماء يبقى آسنا
…
وسرى البدر به البدر اكتمل
والساعاتي أيضا يذكر المعالي عند الرثاء فيقول:
بكت عيون العلا وانحطت الرتب
…
ومزقت شملها من حزنها الكتب
وقال آخر:
كل شيء إذا تناهى تواهى
…
وانتقاص البدور عند التمام
وقال غيره:
كأن الفتى يرقى من العمر سلما
…
إلى أن يجوز الأربعين فينحط
وقال أبن سارة:
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك
…
الأعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها
…
فراقها الثاويان البدو والحضر
وفي الكرم يول الشاعر مادحاً عمرو العلا هاشم:
عمرو العلا ذو الندى من لا يسابقه
…
مر السحاب ولا ريح تجاريه
وفي الهجاء يقول الحطيئة للزرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وفي الحكم يقول الهذلي:
تا لله يبقى على الأيام ذو حيد
…
بمشمخر به الظيان والآس
وفي المال يقول الحافظ:
تباً لمن آتاه رب العلا
…
مالاً ولم يرزقه إنفاقا
فالمال كالآل متى لم يكن
…
يبين الإنفاق إشراقه
وكان في العرب رجل اسمه (أنف الناقة) نسبت إليه قبيلته لأنه سيدها وهو جعفر بن قريع، وكان كل فرد في هذه القبيلة عرضة للسب والتسيير حتى قال الحطيئة فيهم قوله:
قوم إذا عقد عقداً لجارهم
…
شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
قوم هموا الأنف والأذناب غيرهموا
…
ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا
عند إذ جعلوا يفخرون، وإذا سأل أحدهم عن نسبه لم يبدأ إلا بقوله:
أبن أنف الناقة. وقد كان يغضب إذا ذكر
وفي المدح يضع زهير بن أبي سلمى هرم وقومه فوق الشمس:
لو كان يعقد فوق الشمس من كرم
…
قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
وقالت بنت لبيد تمدح:
أشم الأنف أصيد عبشمياً
…
أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركبا عليها من بني حام قعودا
وكان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان (عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم يعارضها ولا يجري معها مجراها. .)
وعدى هذا هو القائل:
نحن كنا قد علمتم قبلكم
…
عمد البيت وأوتاد الإصار
ويقول ذو الإصبع يرثي قومه:
لهم كانت أعالي الأرض
…
فالسران فالعرض
إلى ما حازه الحزن
…
فما أسهل المحض
إلى الكفرين من
…
نخلة فالدارين فالمرض
لهم كان جمام الماء
…
لا المزجي والبرض
فمن ساجلهم حربا
…
ففي الخيبة والخفض
وهم نالوا على الشنآن
…
والشحناء والبغض
معالي لم ينلها الناس
…
في بسط ولا قبض
وقال محمد بن وهب الحميري:
ولما رأى الله الخلافة قد وهت
…
دعائمها والله بالأمر خابر
بنى بك أركان عليها محيطة
…
فأنت لها دون الحوادث ساتر
وأرعن فيه للسوابغ جنة
…
وسقف سماء أنشأته الحوافر
لها فلك فيه الأسنة أنجم
…
وتقع المنايا مستطير وثائر
ولو لم تكن إلا بنفسك فاخرأً
…
لما انتسبت إلا إليك المفاخر
وقال شاعر قديم:
قلال مجد فرعت آصاصا
…
وعزة قعساء لن تناصى
وقال يزيد بن الطثربة:
عدت من عليه تنقض الطل بعدما
…
رأت حاجب الشمس استوى فترفقا
وقال أحدهم يصف حديقة:
ترفعت عن ندى الأعماق وانحدرت
…
عن المعاطن فاستغنت بمسقاها
فاهتز بالبقل والريحان أسفلها
…
وأعتم بالنخل والرمان أعلاها
أيا معاوية اشكر فضل واهبها
…
وكلما جئتها فاعمر مصلاها
وقال البلوى في وصف بيت:
وقد حلوا أعاليه بتبر
…
وقد بسطوا أسافله رخاما
وقد جعلوا له بابا وقفلا
…
وحلوا بابه ورقا وسلما
وقال آخر:
فاستنزلوا أهل (جو) من منازلهم=وهدموا شاخص البنيان فاتضعا
وقال حسان يهجو نوفل بن الحارث:
وما ولدت أبناء زهرة منهمو
…
صميماً ولم يلحق عجائزك المجد
والبهاء زهير يقول:
على الطائر الميمون يا خير قادم
…
وأهلا وسهلا بالعلا والمكارم
ويقول ابن سناء الملك:
وما أنا راض أنني واطئ الثرى
…
ولي همة لا ترضى الأفق مقعدا
ولو علمت زهر النجوم مكاني
…
لخرت جميعا نحو وجهي سجدا
ويقول صفي الدين الحلي:
سلى الرماح العوالي عن معالينا
…
واستشهدى البيض هل خاب الرجافينا
وفي وصف الفرس يقول الثعالبي:
يا أيها الملك العزيز ومن له
…
شرف يجر على النجوم ذوائبا
أصلحت بين العالمين بهمة
…
نذر الأجانب بالوفود أقاربا
ويقول مهيار الدليمي:
وأبى كسرى علا إيوانه
…
أينفي الناس أب مثل أبي
وتقول هند بنت طارق في النسوة يوم أحد وهن يضربن الدفوف والمعازف:
نحن بنات طارق
…
نمشي على النمارق
والطارق هو النجم الذي هو زحل، فهي تقول نحن بنات من بلغ العلو وارتفاع القدر كالطارق، وما أدراك ما الطارق: النجم الثاقب.
وأنشد أبو بكر الأيادي لامرأة العرب عنن عنها زوجها:
فقدتك من بعل علام تدكني
…
بصدرك لا تغنى فتيلا ولا تعلى
ويقول شاعر ارتفع بأمانيه للناس فوق ما يتمنى الناس:
سقى الله أرض العاشقين بغيثه
…
ورد إلى الأوطان كل غريب
وأعطى ذوي الهيئات فوق مناهمو
…
ومتع محبوبا بقرب حبيب
هذه شوارد كلها شواهد على الشعراء العرب لم يكونوا بمنأى من المعالي مادية وروحية في كل ما تتفتق به قرائحهم، وهذه ظاهرة قلما توجد في الآداب الأخرى على هذا النحو من
التنويع والتوزيع. وصدق أبن قتيبة حين يقول:
(. . ويقال ما استدعى شارد الشعر بمثل الماء الجاري، والشرف العالي، والمكان الخضر الخالي)
نستطيع أن نقول في أمان وأمانة إن الروح العربية كانت مجالا لتوليد هذه المعاني، ونشدان تلك المعالي، حتى إذا جاء الإسلام كانت منه في موضع الرعاية والتقدير، ولا سيما فيما يرفع المجتمع إلى أسمى الدرجات الإنسانية، وذلك يؤدي حتماً إلى انعكاس المعالي الاجتماعية على النفس المفردة، فكان الإسلام أشبه بالبؤرة من العدسة اللاقطة العاكسة مما: تلتقط ما دون العصبية الممقوتة، وتحتفظ بالمفاخر لتتسلط إشعاعاتها على نفوس المؤمنين بهذه الرسالة الجديدة التي يدعو إليها محمد وهو من أواسط العرب وأشرفهم محتداً وفعالاً.
والله تعالى هو العلي العظيم المتعالي الأعلى ذو العلا والعلا والمعالي. وصفة الله العليا هي شهادة ألا إله إلا الله.
محمد محمود زيتون
المقامة المدريدية
للأستاذ إبراهيم الابياري
أقلنا البحر على مبسوط مائه، وتحت منشور سمائه. وما هي إلا أن الفنان الوجود، في مثل المشدود، قد انضمت أطرافه، نبحر ما نبحر وما في ملتقى السماء بالماء منفذ، وطوانا الغيب في ظلمات ريب قد تراكبت إلفافه، نفكر حين نفكر فيلتاث علينا السبيل والمأخذ.
ونحن إذا صافانا الماء، وكتب للماخرة الاستواء، مردودون إلى كل ملهية، مرددون بيت الشادية:
وخطت هونا تهادي
…
خطو ظبي لم يفزع
ونراع بالمائجة الهائجة، فتلفتنا عما نحن فيه، إلى ما لا يد إلى تلافيه، ويصطخب مع لج البحر لج الفكر، وكأنهما قد التقيا على أمر، فنلفي غرقى الأفكار، لا البحار. ويميد الطود فيترنح كل من عليه ترنح السكارى قد أفلت منهم حبلان حبل العيون، وحبل البطون، هذا عن خوف، وذاك لانقلاب الجوف.
ومنا من لو ملك أن يقطع ما بينه وبين الحياة لفعل يشتري الآجل بالعاجل، آخذ يقول القائل:
إن المعنى إن يمكن قاطع
…
أوداجه إن جاوز الصبر المدى
ويدركنا الغوث، بعد غيث، ونلحق البر، على مستقر
ولي لسان إذا طاوعته جهراً
…
يكرر الحمد للمولى ويشكره
وأخطو إلى مدريد، على عجل حديد، وإذا أنا بين عشيةٍ وضحاها، على مغناها، فألتقي عصا التسيار بياض نهار، وما أن أفيء، حتى أتهيأ.
أمضى إلى الدار التي
…
قد جملت ياسمين
فاروق أرسى أسها
…
بيمينه طه حسين
هنا آمال في أمل، وأعمال للعمل، ودفائن مستورة، ومعالم مطمورة، حف بها الحافون، وخف إليها الخافون، نلقن عنهم، ولا نشركهم، على رابطة بيننا وبين الدارس، ووشيجة تجمعنا بالوارث.
أنا وإياكم بمنطق صادق
…
أهل وإن بعد المدى بصلات
وحسبنا هنا عربية إليها نعزى، فنجزي بها أحسن ما نجزي، فالأيدي ممدودة إلينا بالعون،
ونحن في ظل من الرعاية والصون.
وغداً سيثمر غرس غارسكم
…
وغد مع العزم الصدوق فريب
مدريد
إبراهيم الابياري
رسالة الشعر
من وحي رأس البر:
في دولة الطير
رحلة (الفجافيج)
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
يا دولة الطير: كم سطرت موعظة
…
للناس لو فكروا في الطير أحيانا
فيك الوفاء. . . وفيك النيل أجمة
…
لو أرهف الناس أسماعاً وأذهاناً:
سل السماني وقد تاقت لوطنها
…
واستعذبت غمرات الموت تحنانا
طارت تجوب عباب البحر. . ما طعمت
…
زادا، ولم ترو قلبا بات ظمأنا
تطوى الليالي خماصا كي ترى وطنا
…
يا من رأى طاويا يشتاق أوطانا
إن ينشد المرء رمزاً للوفاء ففي
…
بذل السماني وفاء قام عنوانا
يا من بيد مثلا للإخاء: لدى
…
دنيا الطيور إخاء لاح ألوانا:
سل (الفجافيج) لما شاقها وطن
…
- مثل السمائي - سرت في الجو رهبانا
وهي الصغار الضئال الجسم. . لو نظمت
…
سمطا لأبصرت عقداً ضم مرجانا
طارت تجوب عباب البحر. . لست ترى
…
جسماً لها. . يا لسرب سار حيراناً
الريح تدفعه خطوا. . وترجعه
…
خطوين. . فهو نزيل عندها هانا
لما تعثر واشتد البلاء به
…
أوى لأكرم طير عاش رحمانا
أوى لأجنحة (الكركي) ينشد في
…
ظلالها من صروف الدهر أعوانا
فراح يحمله عطفا، ويمنحه
…
قلباً حنونا على الأيام ما خانا
في رحلة ترتجي الأطيار لو لفظت
…
أجسامها ومضت بالروح وحدانا
حتى تخف لأهوال تنوء بها:
…
مما يشيب وينسى الروح نسيانا
عشراً وعشراً رأت من صدره نزلا
…
ومن جناحيه أعشاشا وأكنانا
فلم تبال عباب البحر مصطخبا
…
ولم تحاذر ضباب الجو إن رآنا
ولا أحست بلفح الشمس يصهرها. .=ألقت عن الروح أعباء أشجانا
ونام عنها شقاء الدهر فابتهجت
…
أسلمت للكرى قلبا وأجفانا
وطالع الوطن المحبوب مقلتها
…
حلماً جميلا فناجت منه أغصانا
حتى إذا وصلت للشط سالمة
…
طارت فلم يزجها (الكركى) شكرانا
ولا رأت عنده منا يكدر ما
…
أسدت يداه. . ولا بغيا وعدوانا
ولم يصبها بسوء. . بل رأى - كرما -
…
عون الضعيف الذي لم يلق معوانا
ولو أراد لكانت على قبضته
…
زادا شهيا لجوف بات جوعانا
يا للإخاء نرى (الكركي) آيته
…
فهل نرى مثله في الدهر إنسانا؟
إن القوي ليجتاح الضعيف بنا:
…
سلبا، وغدرا، وإيذاء، وحرمانا
والطير ترعى على الأيام دولتها
…
فأنظر لدنياهم. . واعجب لدنينا
محمد يوسف المحجوب
دليلة
كانت تمر في عهد، ثم مرت في عهد آخر. . . وبين العهدين
مات رجاء!!
الأستاذ أحمد كمال زكي
قيل لي مرت وهي بطيئة
…
وخطاها رهن قيد ومشيئة
عبرت تحفر لحنا شله
…
اصبح يفح إثما وخطيئة
كفنت في شعرها سو سنة
…
وأمان بين نهديها خبيئة
وتقيئ المطر من زنارها
…
فتقيئ الأرض. . والأرض بريئة
خصرها أنقاض خصر قد هوى
…
يوم أغفى النور والشمس مضيئة
خلفها ماض وتسعى لا ترى
…
عميت حتى على الماضي جريئة
قيل لي مرت كما مرت دليله
…
تحمل الحب لشمشون وسيله
تنظر الأفق وفي أهدابها
…
سرها تؤثر فيه كل حيله
يالها. . . تذهب إني واقف
…
فوق شلو كان في نفسي خليله
لم أضع تحت سماها أملا
…
لترى ما كنت أخشى أن أقوله
كنت ما شئت، وكانت لعبتي
…
لا كما كان الذي ضل سبيله
ضاع شمشون بحب غادر
…
وأنا ما كان لي يوما دليله
قيل لي مرت. . ومرت في سكينه
…
لا ترى الباب ولا تلحظ دجونه
نهدت في خطوات لا تعي
…
مثل هذا الطير يستجدى سجينه
لم أهن بعد، وما كانت لها
…
لتمر اليوم تجترر عونه
أنت يا هذى ضلال صاحب
…
فاتقى الأعين فيما تفعلينه
قد رأيت الباب، بل ما خلفه
…
فبه حفنة آمال رهينه
إنها لي. . بل لأنثى حرة
…
لا لطين في رواء الياسمينه
قيل مرت. . ثم ماذا ياغبية
…
ليس حقلي ما ترويه شقيه
قذفتك النار شيطانا به
…
أيريد القوت في أرض تقيه
أنا تكفير أبينا آدم
…
وحياتي مالها حوا دعيه
مالها فيك هوى أو بغيه
…
وبها فيض أمان أزليه
مالها إلا انعتاق مطلق
…
لذرى شم وراء الأبدية
أنا ذات. . فكرة. . بل نفحة
…
إن خطت جاءت حياة سمديه
أحمد كمال زكي
مدرس بالمدرسة المحمدية
-
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الاتجاهات الأدبية الحديثة:
طلبت محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية إلى محرر هذا الباب، أن يتحدث إلى مستمعيها عن (الاتجاهات الأدبية الحديثة في مصر) فأعد لها هذا الحديث الذي سجل في (استوديوهات السيد بدير بالقاهرة) وأذيع مساء يوم الأربعاء الماضي. ويظهر أن المحطة ستذيع أحاديث أخر عن الاتجاهات الأدبية الحديثة في الأقطار العربية الأخرى. فأنشر حديث الاتجاهات المصرية فيما يلي، راجيا أن يتاح لي تتبع ما عسى أن يذاع عن الاتجاهات الأخرى، فأحدث به قراء الرسالة لنقف على وجهات النظر في عالم الأدب العربي الحديث بمختلف بلاده
وهذا نص حديثنا:
كان أساتذتنا شيوخ الأدب المصري، أصحاب دعوة جديدة في التوجيه الأدبي، ظهروا بها في الثورة على من عاصروهم من قدامى الأدباء، وقاموا بدورهم الخالد في نهضة الأدب العربي الحديث، ارتادوا آفاق الآداب الأوروبية، وهم ذوو ثقافة عربية ومواهب أصيلة، ثم كتبوا وألفوا، حتى جمعوا لنا هذه الثروة الأدبية التي تكون أدبنا الحديث
وموضوعنا - وهو (الاتجاهات الأدبية الحديثة في مصر) - لا أريد له أن يعنى أدب أولئك الأعلام وذلك لأمرين، الأول أن ذلك الأدب قد شبع من درسه والحديث عنه، الأمر الثاني أنه قد تقادم عهده بعض الشيء، وجد بعده أو معه أدب أولى منه بلفظ (الحديث) من الناحية الزمنية على الأقل.
وقبل أن نقصد إلى هذا الأدب الحديث، ونأخذ في تبين اتجاهاته، أحب أن أذكر أمرا أراده محور هذا الموضوع ذلك أن المسألة في اتجاه الأدب ليست مسألة الأدباء وحدهم، وإنما هي كذلك مسألة القراء، بل إننا إذا نظرنا إلى الكتاب كانوا قراء قبل أن يكونوا كتابا، ولعلهم أكثر الناس قراءة - إذا نظرنا إلى هذا وجدنا الأمر كله في توجيه الأدب راجعا إلى القراء، فالجيل من الناس يشعر بحاجاته، ويطلب من التفكير والتعبير ما يلائم روحه وعصره، فيخرج من صميمه كتاب يعربون عنه ويقودون أفكاره ،
كان الأدباء قديما يلوذون بالملوك والمراء وأشباههم من الكبراء، لأنهم هم الذين يقرئونهم أو يسمعونهم، ويجزونهم على ما يقولون، ثم جاءت العصور الحديثة بالثورة على الطبقات الأرستقراطية، فتقدمت طبقات متوسطة إلى الصفوف الأولى في المجتمع وفي الحكم والسياسة. وقد تهيأت الفرصة للطبقة المتوسطة في مصر عن طريق التعليم في صدر هذا القرن العشرين، فارتفع منها أفراد إلى الطبقة العالية، وكان القراء يتكونون من هؤلاء وممن ظلوا متوسطين في حال حسنة، وكان حظ النوع الأول من الشعور بأنفسهم موفورا، وكان الآخرون المتوسطون يتطلعون إلى الأولين ويحاكونهم، فلم يكن يهم أولئك ولا هؤلاء ما تعانيه سائر طبقات الشعب من فقر وجهل ومرض. في هذه البيئة وفي ذلك الطور من الزمان نشأ أدباء الجيل الذي كان حديثا في ذلك الوقت، فكانوا لسان الطبقة المتوسطة ومن ارتفع منها.
وأرى من الضروري قبل الاسترسال في الحديث أن أنبه على أننا في هذا الموضوع بصدد اتجاهات الأدب، لا وصفه والحكم على قيمته، وأذكر كذلك أننا مضطرون إلى إجمال الكلام في هذا الحديث القصير، فليس ما نقوله ينطبق على كل الأدب وجميع الأدباء، وإنما هو على وجه العموم والأجمال.
كان أولئك الأدباء يحلقون في أجواء متعددة، وكان أكثر ما يطرقونه الدراسات الأدبية، دراسة الأدب العربي القديم، ودراسة الآداب الأوروبية القديمة والحديثة، ومنهم من اتخذ التاريخ الإسلامي مجالا للتأليف في عرضه وتحقيقه، ومنهم من اتخذ منه مادة لخيال أدبي وعمل فني. وهم كالطبقة التي صحبوا تقدمها في شدة الشعور بأنفسهم، فكانوا أحيانا يسرحون مع الخيال ويلزمون الأبراج العاجية، يستوحون فيها الخواطر والأفكار البعيدة عن معترك الحياة الدنيا، فإذا قصدوا إلى تصوير المجتمع لمسوه لمسا مترفا وعرضوه عرضا ملهيا يقصد منه الإقناع أكثر مما تلمس فيه الحرارة.
ثم تقدم الزمن وانتشر التعليم، وألحت الآلام على الناس في أعقاب الحرب الأخيرة، فأصبحوا ينظرون شزرا إلى تلك الآداب السابحة في أجواز الفضاء، ويعدونها ضربا من العبث، فهم لا يجدون فيها أنفسهم، ولا يرون بها صدى لما يشغلهم، فصاروا عنها من المعرضين.
وقصد بعض الكتاب إلى الأدب الخفيف اللذيذ الخالي مما يفيد، أو الأدب الماجن الذي يشبه الصورة العارية، وكثيرا ما يرافقها، وذلك ليجتذبوا القراء، وانجذب القراء إليهم فعلا، فتخدروا حينا، ثم أفاقوا أو أخذوا يفيقون.
سادت الكتابة الخفيفة الفارغة والماجنة بعض السنوات في أعقاب الحرب، ولكن جاذبيتها أخذت تتضاءل بعد ذلك حتى كادت تمحى وأصبحنا نرى في السنوات الأخيرة كتابات تتجه إلى الشعب وتتناول مسائله ومشكلاته، تراها في الصحف وفي الكتب، وترى الناس يقبلون على قراءتها ويستزيدون منها، والذي يسترعي النظر أنك إذا ذكرت كلمة الأدب أمام بعض هؤلاء الكتاب أو أمام الذين يقرؤون لهم، بدا عليهم عدم الاكتراث، كأنهم يقولون: دعنا في حالنا! مالنا وللأدب. . وهم معذورون في ذلك، لأن تحليق المحلقين من الأدباء في عالم الكواكب والنجوم قد جنى على المفهوم العام للأدب، وصار كثير من الناس لا يفهمونه إلا على أنه مناقشة في الكلاسيكية والرمزية أو معركة على نسبة من الشعر إلى المتنبي أو أبي تمام!
وعلى ذلك أستطيع أن أقول إن الأدب الحديث في مصر يتجه الآن إلى الواقعية التي تهدف إلى صميم الشعب على أيدي كتاب من الشباب ومن الشيوخ أيضا، يوجههم القراء الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم، وهذا الاتجاه لا يزال في أوائله، وهو بطبيعة الحال سيزداد كلما انتشر التعليم وزاد عدد القراء من سواد الناس.
وأرى أن هذا الاتجاه لو يرد إلينا من الخارج، أن كان مصاحبا لأشباهه في البلاد الأخرى، وإنما هو وعي جديد مستمد من داخل النفوس. وقد حاول بعض الأدباء أن يستوردوا مذاهب أوروبية كالوجودية والرمزية والسريالية، ولكن أحدا لم يلق باله إليهم.
ذلك هو الاتجاه، وهو كما قلت شيء آخر غير قيمة الإنتاج في ذاته، ولا شك أن فيما يكتب كثيرا من الجيد الرائع، وفيه أيضا كثيرا مما تدفع إليه العجلة وحب الإكثار وابتغاء الكسب، وفيه مع هذا وذاك كثير من الهذر والإسفاف.
وإني متفائل بمستقبل الأدب في مصر، لثقتي بهذا الشعب الذي يتعلم فيكثر فيه القراء الذين سيوجهون الأدب ويحملون الأدباء على الإجادة بالإقبال عليهم، وبالتنبيه إلى قيمة ما يكتبون.
ونسمع أحيانا من يعيب كتاب هذا الجيل لعدم عنايتهم باللغة والأسلوب، ويرد عليهم آخرون بأن المهم هو المعنى، ومعركة اللفظ والمعنى معركة قديمة، تثار من حين لآخر، ولاشك أن الذوق السليم يتطلب الجمال في كل شيء، فلماذا لا نطلبه في أسلوب الأدب ليكمل به جمال المعنى؟ وإذا اعتبرنا المعنى بمثابة الروح واللفظ بمثابة الجسد أفليس من الكمال أن يكون الروح الجميل؟ غير أنني لا أوافق القائلين بأن كتاب الجيل يهملون هذا الجانب في كتابتهم، فالجمال مسألة تتعلق بذوق العصر، فالفتاة العصرية - مثلا - تتبع في حليتها وتنسيق هندامها وثيابها غير ما كانت تصنعه الفتاة في العصور الماضية، وكذلك الأسلوب، فكما تركت الفتاة الأقراط الذهبية ذات الوزن الثقيل. وكما نبذت العقود ذات الأقراص المستديرة الكبيرة، وكما تحولت عن الألوان الزاهية الصارخة، كذلك فعل أدباء هذا الجيل، إذ جانبوا العبارات الطنانة والتراكيب الرنانة، ووجهوا همهم إلى الكلمة العذبة والأسلوب الأساس، أي أنهم يتجهون إلى البساطة واستخدام الكلام للوصول إلى الهدف، وليس معنى هذا أنهم أهملوا ناحية الجمال، وإنما هم يسيرون في اتجاه الذوق العصري العام الذي يؤثر جانب البساطة في كل شيء. ومما يلاحظ في هذا المقام أن أدباء الشباب جميعا متمسكون باللغة الفصيحة، لا نرى فيهم من يدعو إلى العامية، كما كان في الجيل الماضي من يدعو إليها، وكل ما في الأمر أنهم يريدون أن يطوعوها ويقربوا بينها وبين اللغة الدارجة برفع الدارجة إلى الفصيحة.
سيداتي وسادتي - لعلكم تلاحظون أنني إلى الآن قصرت الحديث على الكتابة، ولم أتعرض للشعر. إنني فعلت ذلك حقا لأن اتجاه الأدب إلى الحياة الواقعة في مصر إنما هو في ناحية الكتابة فقط، أما الشعر - على وجه الإجمال - فلم يتفضل بعد أن يأكل من طعام الناس ويمشي في أسواقهم.
ونرى أن الشعر المصري يسير الآن في اتجاهين: الأول إتباعي كلاسيكي، لا يزال أصحابه يقولون كما كان يقول القدماء، وينظرون إلى الأشياء كما كانوا ينظرون، وقد وصف أحد الظرفاء هذا الفريق من الشعراء بأنهم (شعراء الفنادق)، يستقبلون القادمين، ويودعون الراحلين، وتظهر على وجوههم دلائل مختلفة ليس فيها ما يدل على حقيقة ما يعتلج في نفوسهم. والاتجاه الثاني اتجاه خيالي فردي، وهو اتجاه المدرسة الحديثة، لا تزال
مشاعر أصحابه معلقة بالحبيب الهاجر والبحيرة الساجية والخطرات المغرقة في التأمل السابح بعيدا عن حياة الناس.
وأعتقد أن تخلف الشعر عن النزول مع الكتابة إلى معترك الحياة، هو الذي جعل الناس ينصرفون عنه، أو هو على الأقل أحد الأسباب في هذا الانصراف. والكلام هنا - كما سبق أن قلت - إجمالي، فهناك من غير شك فلتات من الشعر تتصل بالحياة، وكما أن من الكتابة ما لا يزال بعيدا عن الحياة.
عباس خضر
البريد الأدبي
علم يغيب
غيب الموت منذ بضعة أيام علما من أعلام فلسطين، هو المربي الكبير الأستاذ أحمد سامح الخالدي، فقد توفاه الله عن كهولة فاضلة، ممتلئة بالخير والتقوى والمروءة، ولقد وهب حياته منذ شبابه للثقافة والوطنية والمثل العليا، حتى غدا كاتبا مرموقا وعالما خبيرا بالتربية وأصول التدريس، أشرف على التعليم العام، وأدار الكلية العربية بالقدس الشريف بكفايته وتوجيهه إلى جانب بحوثه وتحقيقه، وله أشتات المؤلفات مطبوعة ومخطوطة، وقد نزح عن موطنه حين عدا عليه الأعداء، فأقام ببيروت عاكفا على التأليف والتصنيف، ومديرا لشركة الطيران اللبناني التي أسسها آل زوجته الأديبة الفضلى السيدة عنبرة سلام.
وكانت (الرسالة) حفية بمقالاته حتى عددها الأخير، فما أجدرها بالعزاء والتنويه بمآثر الفقيد الخالد.
ولعل الأيام القريبة تتيح لي القيام بهذا الواجب.
القاهرة
وداد سكاكيني
1 -
إلى الأستاذ قطب:
أخي صاحب التصوير الفني في القرآن. . .
قرأت في البريد الأدبي من مجلة الرسالة الغراء العدد (951) تعقيبك على مقال السيد سامي أمين (النقد والشعر) فاستغربت من كاتب كبير له مكانة مرموقة في العالم العربي أن يتصدى للرد على أديب لم نسمع به عدا هذه المرة، ثم أخذني العجب مرة أخرى عندما عرض الكاتب نماذج من شعر السيد شاذل طاقة في العدد (951) من المجلة نفسها ولم يتعرض لشعر غيره من شعراء العراق المبدعين، فهذا الشاعر الذي تعرض لشعره السيد سامي أمين كان قد أصدر مجموعة من الهذر المنظوم (المساء الأخير) وعندما عرضت في أسواق بغداد لم تصادف الرواج لأنها ليست من الشعر بشيء لذلك أعرض عنها النقاد والأدباء.
أنا شاكر لك حسن ظنك بالشعر العراقي حيث تقول: (وهذا الذي عرضه لا يمثل نهضة الشعر العراقي حيث تلتمع قوية مرموقة تشير إلى مقعد الزعامة الشعرية في العالم العربي، ولعل الفرص تسنح لعرضها قريبا (لأنك أثبت أنك وأخوك صديقنا المعداوي وصديقنا عباس خضر وأستاذنا الزيات فوق الريح الإقليمية والعصبية المصرية. أما نع آرائك في النقد فيكفي أنك صاحب كتاب (النقد الأدبي) و (العدالة الاجتماعية في القرآن) وأرجو أن لا تكون في المستقبل إلا في المكان المرموق الذي أتمناه لك ولأمثالك من النابغين، ومحيا الله مصر، واقبل من أخيك أصدق وأسمى آيات الإعجاب والإخلاص. .
2 -
نسبة شعر:
قرأت في العدد الأخير من مجلة (المستمع العربي) التي تصدرها دار الإذاعة العربية بلندن مقالا للأستاذ (أبو الوفا محمود رمزي نظيم) عن الموشحات في الشعر نسب فيه الموشحة التالية إلى ابن المعتز الشاعر العباسي:
أيها الساقي إليك المشتكي
…
قد دعوناك وإن لم تسمع
ونديم همت في غرته
ويشرب الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته
جذب الزق إليه واتكا
…
وسقاني أربعا في أربع
ونسبتها إلى المعتز خطأ شائع صححه العلامة المرحوم طه الراوي إذ أثبت بعد بحث وتنقيب أنها للشاعر الأندلسي (ابن زهر) وقد نشر المرحوم بحثه في مجلة (الرسالة) منذ سنوات ولا أتذكر الآن العدد المنشور به البحث. . .
3 -
لمن هذا الشعر:
ذكر الأستاذ عبد العليم علي محمود في العدد (951) من الرسالة الحبيبة أن الأستاذ عبد الغني حسن الشاعر المعروف ينسب في كتابه (ملامح من المجتمع العربي) الأبيات الآتية إلى الجارية فضل:
لأكتمن الذي في القلب من حرق
…
حتى أموت ولم يعلم به الناس
ولا أقول شكا من كان يعشقه
…
إن الشكاة لمن تهوى هي اليأس
ولا أبوح بشيء أكتمه عند الجلوس إذا ما دارت الكأس ونسبتها إلى فضل بل هي إلى الشاعر العباسي علي ابن الجهم حسب ما قرأها في الجزء الثاني من كتب المنتخب. .
وأقول أنا (بأن لدى نسخة من ديوان علي ابن الجهم) بتحقيق صديقنا معالي العلامة الشاعر خليل مردم بك سكرتير المجمع العلمي العربي بدمشق ووزير الشام المفوض فوق العادة ببغداد الآن فلم أعثر على الأبيات المذكورة آنفا في الديوان، وهو ديوان بذلت في سبيل إخراجه على هذه الصورة جهود لا تنكر، ولا أخال أن تلك الأبيات إلا لعباس بن الأحنف الشاعر الغزل المشهور لأنها أقرب لعاطفته، ورغم ذلك فهل في الباحثين من أدباء العرب من يعرف نسبة الأبيات المذكورة فيرشدنا لها وله منا ألف تحية وإعجاب؟!
4 -
غنوة وغنية:
أخذ الأستاذ الفاضل عبد الفتاح الجزار من إلصاقية في العدد 951 من مجلة الرسالة الغراء بأن كلمة (غنوة) لا تدل على الاكتفاء واليسار ولكن كلمة (غنية) بالضم هي التي تدل كما في مختار الصحاح، وإيضاحا لذلك التنبيه أود أن ألفت نظر الأستاذ الجزار إلى كلمة وغنية وغنوة هما في معنى واحد وهذا هو الدليل. .
جاء في الصفحة (374) من لسان العرب لمؤلفه ابن منصور الأندلسي المتوفى سنة 711هـ. وهو أقدم مؤلفي المعاجم بعد ابن دريد صاحب (الجمهرة) المتوفى سنة 321 الذي يعد أقدم من وضع المعاجم في العربية، مادة (غنا) ما يلي:
استغنى الله سأله أن يغنيه قال وفي الدعاء اللهم إني أستغنيك عن كل حازم وأستعينك على كل ظالم، وأغناه الله وغناء (التشديد) وقيل غناه في الادعاء وأغناه في الخير والاسم بالسكون أيضا والغنيان وتغانوا أي استغنى بعضهم عن بعض قال المغيرة بن حيناء التميمي:
كلانا غنى عن أخيه حياته
…
ونحن إذا فتنا أشد تغانيا
واستغنى الرجل أصاب غنى
وجاء في الصفحة 271 المجلد العاشر من (تاج العروس) للسيد محمد مرتضى، الزبيدي المتوفى سنة 1205 هـ مادة (غنوة).
الغنوة بالضم قال الكسائي هو الغني وتقول لي عنه غنوة أي غنا وجاء في الجزء الرابع ص 364 من القاموس المحيط للفيروز أبادي الطبعة الثالثة ببولاق مصر سنة 1302 مادة (الغنى)
والغنوة بالضم الغنى تقول لي عنه غنوة والغنوة والغنيان بالضم والاسم الغنية بالضم والكسر وكلها بمعنى اليسار والاكتفاء كما قلت في 949 من الرسالة.
ومن هذا أود أن يعرف الأستاذ الجزار بعد شكري له على ملاحظته أنني لا أعتمد على مختار الصحاح بقدر اعتمادي على لسان العرب لأن الفرع يجب أن يتبع الأصل والفضل للمتقدم كما قد قيل.
عبد القادر رشيد الناصري
فتح الحرم المكي في الليل:
جاء في التلخيص الذي قدم به المرحوم الأستاذ سامح الخالدي الرحلة الحجازية لسيدي مصطفى البكري الجملة الآتية في ص977 من العدد 947 الصادر في 24 من ذي القعدة هذه السنة ما يأتي:
(وكيف كان الحرم في مكة يفتح خصيصا لأمير الحج الشامي). وهي عبارة توهم أن الحرم المكي كان يغلق في الليل وهو أمر لم يحدث لأنه يمنع الطواف. والطواف لا يمنع في أي وقت. وإنما وهم الأستاذ الخالدي فظن أن البيت هو الحرام. وذلك أن الشيخ البكري ذكر في ص 1009 العدد 948 من الرسالة ما يأتي: (فأيقظني رفيقي برفق وقال قم فإن البيت فتح للأمير الشامي الكبير الخ.) وبديهي أن المراد من البيت هو الكعبة المشرفة زادها الله تعظيما وأما الحرم فالمراد منه عرفا هو المسجد الكبير المتسع المحيط بالكعبة والمحتوى على المطاف وبئر زمزم - وأقول عرفا لأن حقيقة الحرم هي ما يدخل ضمن أعلامه التي هي من الشرق قرب عرفات ومن الغرب الشمسي قرب الحديبية ومن الشمال التغيم أي مسجد السيدة عائشة وهكذا.
لذا أرجو نشر هذا تصحيحا لعبارة المغفور له الأستاذ الخالدي.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
عبد السلام النجار
القصص
اللص الشريف
للكاتب الأمريكي الفكاهي ستيفن ليكوك
ترجمة الأديب مصطفى أبو غربية
- سأقص عليكم أيها السيدات والسادة قصتي، ولكم الخيار أن تصدقوا أو لا تصدقوا ما حدث لي. أما أنا فما علي إلا أن أروي الحادثة بدون زيادة ولا نقصان فأعيروني أسماعكم بضع دقائق.
في صباح أحد أيام الأسبوع وقع نظري على شاب وسيم الطلعة، واقفا أمام شباك التذاكر في إحدى دور السينما، فقلت في نفسي - لقد سبق أن رأيت هذا الشاب مرات واقفا أمام شباك التذاكر، فمن المحتمل أن يكون هناك سرا. ولم يخب ظني - ففي لمحة البصر مد الشاب يده إلى جيب جاره وأخرجها بخفة وبها محفظة نقوده، وبكل هدوء وسرعة دسها في جيبه وسار بخطى متئدة بعيدا عن شباك التذاكر خشية أن يراه أحد.
وكنت لما أزل طالبا أدرس العلوم الجنائية، فأنا لست من رجال الشرطة ولم تكن مهمتي مراقبة اللصوص ومطاردتهم، وقد سبق لي أن كتبت مقالة عن العلوم الجنائية وقد حازت إعجاب كل من قرأها. ولم يسبق لي أن تفهمت أو درست عقلية اللصوص النشالين أو شاهدتهم يسرقون، ولأول مرة أرى فيها هذا اللص يمارس مهنته في مثل هذا المكان، ففكرت في الأمر عاجلا وقلت في نفسي - هل أترك الفرصة تمر بدون أن أستفيد منها؟ فلماذا لا أتتبع خطوات هذا اللص وأقف على حقيقة أمره - والدافع الذي يدفعه لارتكاب مثل هذه الأعمال. فلحقت بالشاب الذي نشل المحفظة من جيب جاره ورأيته داخلا صالات الرقص فتبعته مقتفيا أثره، ثم دنوت منه وابتدرته قائلا - هل لي أن أجالسك؟ ولا يريبك أمري، فأنا لست من رجال الشرطة ولا ممن يودون مشاركتك في غنيمتك، فلا تقلق ولا تضطرب فكل ما هنالك أنني طالب يدرس العلوم الجنائية وكاتب صحفي مبتدئ، وقد لمحتك منذ فترة من الزمن قد مددت يدك إلى جيب جارك وأخرجتها بحافظة نقوده، وانسللت بخطى بطيئة. وتبعتك إلى أن دخلت هنا فلا تخف شيئا من أمرك عني، فهل لنا
أن نتحدث بضع دقائق؟
فابتسم الشاب ولم يضطرب ولم يرتب، وأجابني قائلا - إنني أعرف أنك لست من رجال الشرطة، ومن الواجب علي أن أخبرك بأنني أنا أيضا لست من اللصوص المجرمين، ولكن لي رجاء أرجو أن تسمح لي بأن نواصل حديثنا في مكان يفضل هذا المكان. فأجبته بالقبول، وخرجنا من الصالة وقد تأبط الشاب ذراعي كأن صداقتنا وطيدة منذ زمن وبدون كلفة وسرنا معا في طريق مؤدية إلى سوق عمومية تزدحم فيه عربات الخضار والمشروبات المنعشة وتكثر فيه بائعات اللبن وهنا أشار الشاب إلى امرأة عجوز ممن جلسن وراء عربة لبيع اللبن وفي يدها وعاء فارغ انهمكت في تنظيفه بعد أن أفرغته لأحد المشترين.
فسألته - هل عزمت على سرقة هذه العجوز المسكينة؟
فابتسم ولم يجب - ولكنه تركني واتجه نحوها وألقى في وعاء اللبن الفارغ المحفظة التي سرقها عند شباك بيع تذاكر السينما، وعاد إلي متأبطا ذراعي وتابعنا مسيرنا من جديد. وابتدرني قائلا - أظنك أدركت الآن ما هي رسالتي التي اؤديها؟ وحسبي أنك فهمت ما هو العمل الذي أسعى من أجله؟ - أنني من محبي حفظ التوازن بين حظوظ الناس وثرواتهم - فكل ما ابغي أنني أساعد المساكين الفقراء! فها أنا أسرق من الأغنياء وأعطى الفقراء، آخذ من ذلك المترف الغني محفظة نقوده وألقيها في وعاء لبن هذه المرأة العجوز المسكينة المحرومة من نعم الدنيا، فها هي الحكومات تتقاضى الضرائب والرسوم من الأثرياء وأصحاب العقارات والدخل السنوي لتنفقه على المعدمين الفقراء، فأنا أساعد الحكومة بقدر أستطاعتي، وثق أنني أفعل هذا بالرغم مني مدفوعا بدافع غريزي لا أستطيع مقاومته، وقد دأبت على فعله منذ نعومة أظفاري. . . ولكن هيا بنا لنذهب لبيتي حيث أطلعك على السر كله - هل تحب؟ فأجبته بكل سرور - فقال إنك سترى على باب بيتي اسما محفورا على لوحة نحاسية (بيت شريف) وقد يحملك هذا الاسم على التفكير، فلا داعي إذن للتفكير فهو اسم والدي عن جدي - إن أجدادي كلهم كانوا يحترفون العمل الذي أحترفه اليوم. سنجد باب الدار مقفلا، وقد تكون مريم خرجت لزيارة إحدى صديقاتها. وفعلا وجدنا الباب مقفلا ولكنه قال لي سندخل من باب المطبخ - تعال معي - فدخلنا ودعانا الشاب للجلوس
فجلست؛ وفاجأني قائلا: - هل تعرف اسمي؟ اسمي شريف قد ورثته عن أبي الذي ورثه جدي. فقلت اسمك شريف؟ فهذه مصادفة جمعت بين اسمك وعملك - فعملك اللصوصية والسرقة واسمك شريف، فأنب إذن لص شريف؟ واسم المرأة أمك أو زوجتك مريم كل هذا. . . فقاطني قائلا - اعلم أنني سليل بيت عريق لم تقدر البشرية حسناته نحوها. واعلم انك أصبت بأنني (لص شريف) وستخلد الأيام اسمي كما اخلد ذكرى والدي وجدي العظيم. سترى صورته هنا في القاعة المجاورة وسترى مدى الشبه بيني وبينه، وإذا كنت أميل إلى الأخذ من الأغنياء لأعطي الفقراء - وهو ما كان يفعله جدي ووالدي - فإن أخوتي جميعا يميلون لمثل هذا العمل أيضا - إننا لصوص شرفاء أباً عن جد - ونحن مازلنا نواصل تأدية رسالة الجد الكبر؛ فنقوم المعوج، ونعدل ميزان المساواة في الثروة بين الناس. ولكن انتظرني قليلا فسآتيك بصورته.؟
خرج الشاب وتركني في القاعة - وما هي إلا بضع دقائق حتى سمعت حركة خفيفة عند الباب وإذا بسيدة لا اعرفها تدخل القاعة. فدهشت المرأة عندما رأتني وداخلها بعض الريب والخوف - فهدأت من روعها قائلا - لا تخشى من شيْ يا سيدتي مريم فأنا صديق أسرتك. . . جئت مع شريف إلى هنا منذ زمن قصير؟ فتمتمت السيدة بصوت خافت - شريف - أحد أفراد أسرتنا؟ فقلت - نعم شريف - زوجك أو ابنك لا ادري؟
- زوجي - ابني؟
- فقلت - هاهو في الغرفة المجاورة ذهب ليأتني بصورة جده شريف
- جده شريف!
فقالت - يا سيدي أنا لا أفهم شيئا مما تقول؛ فأنا غريبة عن هذا البيت ولست من سكانه. وزوجي ليس اسمه شريف ولا أنا اسمي مريم! أظنك مخطئ - قالت هذا وتراجعت للباب مذعورة فاستوقفتها - وقلت لها - بيت من هذا أذن يا سيدتي؟ قالت: هذا البيت للإيجار - جئت لأستأجره! ولكن من تكون أنت إذا لم تكن صاحب البيت ولا تعرف صاحبه؟
فخطر لي خاطر وقلت أنا يا سيدتي مستأجر مثلك جئت لأستأجر هذا البيت.
قالت - آه فهمت الآن؟
قلت - وأنا أيضا فهمت يا سيدتي! أستودعك الله. قلت هذا وخرجت مسرعا - أذن كل ما
قاله الشاب كان سلسلة من الأكاذيب. البيت والأب والجد والأسرة والحرفة الشريفة، والأخذ من هذا وإعطاء ذاك. . . انه لص ولكنه غير شريف. . ووضعت يدي في جيبي فإذا بمحفظة نقودي قد اختفت. لقد سرقني اللص الشريف كما سرق غيري من قبل. وأسرعت راكضا نحو مركز الشرطة، وإذا بي المحه عن بعد. . لمحت الشاب وهو يركب سيارة ومعه امرأة لم تكن غير بائعة اللبن العجوز التي ألقى المحفظة في وعائها وهي تنظفه. وابتعدت السيارة ووقفت حائرا أتكون - المرأة شريكته في السرقة؟
لقد فهمت الآن كل شيء ورحت ضحية هذا اللص الشريف الذي عرف كيف يضحك مني ويضللني. هل أذهب إلى مركز الشرطة وأقص قصتي واطلب البحث عن الجاني؟ ولكن ما الفائدة؟ سيضحكون مما حدث لي - فخير لي أن اسكت وأن أواصل الدرس والبحث لأنني لا أزال مبتدئا في أدراك حيل اللصوص والنشالين الأذكياء. وعدت إلى بيتي مشيا على القدمين وأنا أفكر في خطة لإيقاع هذا اللص الشريف!
مصطفى أبو غربية