المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 956 - بتاريخ: 29 - 10 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٥٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 956

- بتاريخ: 29 - 10 - 1951

ص: -1

‌نهاية مأساة.

.

وأخيراً أدركت مصر الرسمية بعد خمس عشرة سنة من سني المهانة والاستكانة أن (المعاهدة) و (الاتفاقية) اللتين تربطانها بإنجلترا في الشمال والجنوب إنما هي كلمتان من لغة سياسية حملهما الاستعمار ما حمل الديمقراطية والحرية والإنسانية والسلام والعدل من معاني المخادعة والمصانعة والمراءاة فجعلها من أسماء الأضداد في لغة الخلق! نعم، أدركت مصر الرسمية اليوم ذلك ووعته بعد أن كابدت ما كابدت من عناد القوم في الحق وصلابتهم في الباطل ومداهاتهم في الرأي، فألغت معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899. ولكن مصر الوطنية أدركت هدف إنجلترا منذ نصبته في ساحة عابدين سنة 1882 وظلت تسدد إليه أسهمها التي لا تطيش، من كنائنها التي لا تفرغ! وكان الرسميون يحاولون أن يستروا الضياء عن بصائر الوطنيين ليوهموهم أن هذه الأسهم صواريخ لهو وبهجة؛ وكان الوطنيون يجهدون أن يكشفوا الغطاء عن أبصار الرسميين ليفهموهم أن هذه الصواريخ قذائف دمار وهلكا! وظل الأمر بين الجبهتين على هذه الحال سبعين سنة، تفككت فيها العرى، وتمزقت القوى، وتفرقت السبل، وتباينت الوسائل، وتعارضت الغايات؛ واتخذ المحتل من هذا الخلاف الطويل الوبيل حقلاً مصرياً بذر فيه الفرقة وجنى منه السيادة! ولم تجمع القوتان الرسمية والوطنية على إحراج العدو وإخراجه إلا في اليوم الثامن من هذا الشهر! وهذا الإجماع وحده هو الذي سيقذف ببقايا (دنكرك) في عرض البحر. ولن تستطيع إنجلترا ولو كان معها ظهراؤها الثلاثة أن تثبت أقدامها الرخوة في ثرى النيل ما دامت مصر قد أجمعت على تطهيره منها. وليس للضآلة والقلة دخل في حساب النصر، فإن عشرين مليوناً من البراغيث والعزل جديرة بأن تقض مضاجع الجيش المسلح! فكيف إذا كنا عشرين مليوناً من الأنفس المؤمنة الصابرة التي لا تعرف في يوم الجهاد، إلا إحدى الحسنيين: النصر أو الاستشهاد!

إنا نجود على وباء من الأوبئة بقرابة المليون من الأرواح العزيزة، فهل نضن بمليونين منها على الخلاص من وباء طال حتى أذل، وانتشر حتى أقل، واستشرى حتى برى الأجساد، وهد القوى، وأوهن العزائم، وقطع العلائق، وأفقر الأيدي؟

كان احتلال الإنجليز لوادي النيل مأساة بشرية من نوع عجيب في الطول والفصول والإخراج والتمثيل! كانت من نوع القراقوز المبكي، أخرجها الإنجليز المحتلون من وراء

ص: 1

الكواليس، ومثلها المصريون الرسميون على المسرح! كانت الخيوط بيد العميد أو السفير يقلبها كيف يشاء، والدمى الخشبية المصرية على مرأى من الشهود وتتحرك ولا تعي، وتتكلم ولا تفهم!

لقد كانت مأساة مروعة دامية! شهد بدايتها الخديو توفيق فصفق لمخرجيها بيديه، وشهد نهايتها الملك فاروق فركلهم بقدميه! لم يبق بعد إضراب الممثلين وإنكار المتفرجين إلا أن نطرد الفرقة ونقوض الملعب!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌1 - الثورة المصرية 1919

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

8 أكتوبر 1951:

إذا تلفتت مصر في غدها إلى أيامها الخالدة في تاريخها الحديث فسيكون يوم الاثنين 8 أكتوبر 1951 أعظمها شأناً وأسماها قدراً، ذلك لأنه اليوم الذي حطمت فيه أغلالها واستردت حريتها واستقلالها وحققت وحدة واديها، ووقفت مصر صفاً واحداً في وجه الغاصب الأجنبي، وأعلنت إلغاء معاهدة التحالف والصداقة مع بريطانيا التي وقعتها 1936 وكذلك ألغيت اتفاقيتا السودان الموقعتان سنة 1899.

ومما يدعو إلى الغبطة والرضا أن نذكر أن المصريين على اختلاف أحزابهم ونزعاتهم قد وقفوا جميعاً صفاً واحداً إزاء هذا الحادث التاريخي المجيد، وأحب أن أسجل هنا أقوال أبناء مصر الذين شهدوا جلسة البرلمان في مساء ذلك اليوم العظيم الذي ألقى فيه رفعة رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس باشا بيانه التاريخي:

(من أجل مصر وقعت معاهدة 1936 ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها) مصطفى النحاس.

(إن المعارضة تتقدم بالشكر للحكومة ممثلة في شخص الوطني العظيم مصطفى النحاس باشا إن مصر بجميع أحزابها ستكون وراءه فيما عقد العزم عليه ولا أحزاب بعد اليوم) حامد العلايلي بك (دستوري).

(إن أي مصري لا يستطيع إلا أن يقف خلف الحكومة مناصراً هذه الخطة الوطنية السليمة فقد استجابت لما طلبه الرأي العام منذ زمن طويل. إن الخطوة التي خطاها رفعة رئيس الوزراء هي حد فاصل بين سياستين، سياسة مهادنة الإنجليز، وسياسة مكافحتهم) دكتور نور الدين طراف (وطني).

وقال النائب الاشتراكي أن حزبه يؤيد الحكومة تأييداً كاملاً، وطالب بوضع تشريعات أخرى تنص على اعتبار من يعاون الإنجليز خائناً لبلاده لأنهم أعداء مصر، وقد كانوا دائماً أعداءها.

وقال النائب السعدي الأستاذ فوزي سيف (إن المعارضة مستعدة لبذل آخر نقطة من دماء

ص: 3

رجالها لتحقيق ما قاله رفعة النحاس باشا).

وأخيراً وقف معالي المصري العظيم الدكتور محمد صلاح الدين باشا وقال: (إن هذه الأيدي التي مدت لمعاونة الحكومة هي الدليل الحق على أن المصريين يعرفون كيف يوحدون صفوفهم، وإذا وحدت الصفوف في البرلمان توحدت صفوف الأمة كلها).

هذا ما كان من الأمر في داخل مجلس النواب، ولم تكن حماسة الشيوخ ولا ابتهاجهم بتحرير مصر أقل من حماسة النواب وابتهاجهم.

أما في خارج البرلمان فقد هرع المصريون إلى المذياع ليستمعوا إلى بيان رئيس الحكومة، وقد هزهم البيان فعانق بعضهم بعضاً بعضا والتهبت أيديهم بالتصفيق وانطلقت ألسنتهم تهتف بالحياة الحرة للدولة المصرية السودانية، ولملكها المفدى فاروق، وقامت المظاهرات في مساء الاثنين وفي أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، وانهالت برقيات التهاني على رفعة رئيس الحكومة من جميع الطوائف والهيئات.

ووقفت الدول العربية بجانب شقيقتها الكبرى وأعلنت تأييدها لها ومؤازرتها.

أما الدول الغربية: إنجلترا وأمريكا وفرنسا فقد وقفت تعترض على القرار واستهجنت خطة مصر، وهذا أمر طبيعي فإن الغاصب لن ينزل عما اغتصبه بمحض إرادته. إن الحقوق والحريات تؤخذ ولا تعطى، ومصر قد قدرت كل شيء. وأعدت عدتها للجهاد والنضال، ولن تستطيع قوة أن تحول بينها وبين حريتها ووحدة واديها، وهذه هي بداية الكفاح والجهاد.

الليلة والبارحة:

هذا هو يوم 8 أكتوبر 1951، وهذه هي مكانته في تاريخ مصر، وإن مصر إذا تلفتت إلى ماضيها القريب تبحث عن خير أيامها الخالدة لوجدته ماثلاً في يوم 13 نوفمبر 1918 فإن هذا اليوم كان بدءاً لثورتها الخالدة المعروفة بثورة سنة 1919.

وجدير بنا نحن المصريين أن نهتم اهتماماً كبيراً بدراسة هذه الثورة لأمور ثلاثة:

أولها: إن الواجب على كل أمة أن تعنى بتاريخها عناية كبرى إذا أرادت لنفسها بقاء ومجداً. وأعتقد أنه يحب عليها أن تعنى بدراسة تاريخها المعاصر عناية خاصة لأنه من غير شك يؤثر في حاضرها وفي مستقبلها، والثورة المصرية سنة 1919 هي من غير شك

ص: 4

أبرز حادث في تاريخ مصر المعاصر.

وثانيهما: إن كثيرين من أبناء مصر المعاصرين قد ولدوا إبان الثورة أو بعدها ولم يشهدوها، ولهذا قصدت إلى أن أضع أمام أعينهم صورة رائعة لجهاد آبائهم في سبيل تحرير بلادهم وصفحة بيضاء مطهرة من صحف مصر المعاصرة، وإذا أردنا لمصر حياة حرة كريمة فعلينا أن نكون أمة مجاهدة وهذا هو جهاد الآباء، فليحمل الأبناء اللواء فإن هذا هو الطريق الوحيد اللائق بها بين الأمم.

وثالثها: إنني معجب حقاً لموقف مصر وبالمصريين في تلك الفترة من التاريخ، فقد وقفت مصر صفاً واحداً وكتلة واحدة تطلب استقلالها، وقد كان يتزعم تلك الحركة الوطنية المباركة رجال جدير بمصر أن تفخر بهم على مر الأيام وكر السنين وهم سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعدلي يكن وعبد الخالق ثروت وحسين رشدي وغيرهم، هؤلاء الرجال كتبوا بأعمالهم أسمائهم في سجل الخلد:

وليس الخلد مرتبة تلقى

وتؤخذ من شفاه الجاهلينا

ولكن منتهى هم كبار

إذا ذهبت مصادرها بقينا

وآثار الرجال إذا تناهت

إلى التاريخ خير الحاكمينا

13 نوفمبر 1918:

في 14 سبتمبر 1882 احتلت بريطانيا مصر، ورغم أنها أعلنت منذ الساعة الأولى عزمها على الجلاء بمجرد استقرار الحالة في مصر فإنها حتى هذه الساعة لم تف بوعد من وعودها بالجلاء التي بلغ عددها خمسة وستين وعداً.

منذ ذلك التاريخ فقدت مصر استقلالها، وعانت بريطانيا في واديها إثماً وعدواناً وفساداً، وقد قاومت مصر هذا العدوان الآثم ما استطاعت ولم تقبله بتاتاً، وكان الزعيم الأول الذي رفع راية الجهاد مصطفى كامل باشا، وسقط مصطفى كامل شهيد الواجب في فجر الشباب فحمل الراية بعده الوطني الغيور محمد بك فريد.

ولم تأل إنجلترا جهداً منذ الساعة الأولى في تثبيت أقدام الاحتلال فاعتدت على سلطة خديو مصر الشاب الخديو عباس الثاني وأذلته أكثر من مرة، وأذاقت المصريين ألوان الهوان والعذاب، وما يوم دنشواي ببعيد عن الأذهان. ثم اضطهدت زعماء الجهاد الوطنيين

ص: 5

الأحرار فنكلت بهم ونفي محمد فريد ومات شريداً طريداً بعيداً عن الوطن الذي أحب. مات يحتطب في ألمانيا.

وفي 1914 قامت الحرب العالمية الأولى، ولم يكن لمصر ناقة فيها ولا جمل، فهي حرب قامت بين ألمانيا والنمسا وتركيا في جانب، وبين إنجلترا وفرنسا في الجانب الآخر، ولكن مصر ذاقت منها الكوارث والويلات، وتتابعت عليها المحن والكوارث فأعلنت الأحكام العرفية والعسكرية، وعزل الخديو عباس الثاني لميوله العدائية نحو بريطانيا، وأعلنت الحماية البريطانية على مصر. لقد كانت مصر ترجوا فكاكاً من الاحتلال فجاءها ما هو أدهى وأمر إذ ابتليت بالحماية. ثم سيق أبناء مصر قسراً باسم التطوع إلى ميادين القتال فاستشهد منهم كثيرون دون ذنب جنوه ودون أن تشترك بلادهم في الحرب، وأبيح للقوات البريطانية أن تباشر جميع حقوق الحزب في أرض مصر وموانيها. وعم الغلاء وانتشر الوباء نظراً لقدوم الجند من مختلف بلاد الإمبراطورية البريطانية.

وأكثر من هذا لجأت السلطة إلى الاستيلاء على الحبوب والأقوات من الأهالي بأثمان حددتها ولم تترك لهم ما يكفيهم من أقوات، وزادت فجمعت الدواب ووضعت يدها قسراً على الممتلكات. وبلغ عدد المتطوعين من أبناء مصر 000ر002ر1 جندي وأرغمت مصر على أن تقدم ثلاثة ملايين ونصف المليون جنيه كهدية.

وقد كانت مصر وكان رئيس وزرائها حسين رشدي باشا يتوق إلى أن تقف مصر على الحياد في هذا النزال، ولكنه لم يكن حراً في اختيار السياسة التي يتبعها فقد كانت الحراب البريطانية تهدده، ولذلك اضطر إلى التسليم بما طلبته بريطانيا في 5 أغسطس 1914.

وقد ارتاحت بريطانيا لموقف مصر هذا فإن مصر المعادية خطر يهدد بريطانيا.

وظلت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ. اشتد الغلاء وصودرت الحريات وكمت الأفواه ومنع المصريون من إبداء رأيهم في نوع حكومتهم. وقد كان أكبر أسباب استياء المصريين الحماية. لقد كانوا يعملون على التخلص من الاحتلال فإذا به ينقلب إلى حماية، وانتظر المصريون بفارغ الصبر نهاية الحرب ليعرفوا مصيرهم ومصير بلادهم.

وأخيراً في 1918 آذنت شمس الحرب بالمغيب وأعلن الرئيس ولسن - وكان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية - مبادئه وأهمها أن (لكل قوم الحق في تقرير مصيرهم).

ص: 6

استبشر المصريون خيراً واعتقدوا أنه عندما تضع الحرب أوزارها سيطبق عليهم هذا المبدأ لأن مصر قد وقفت بجانب الحلفاء وضحت معهم بالمال والأبناء وإذن فلم لا تتمتع بحريتها كاملة ما دامت قد قامت بنصيبها من أعباء الحرب التي أعلن الحلفاء أنهم ما قاموا بها إلا نصرةً للحرية وللديمقراطية وحماية للشعوب الصغيرة من الشعوب الكبيرة!!

وفي شهري سبتمبر وأكتوبر من 1918 بدأ كبار المصريين ومفكروهم يتشاورون في موقف مصر وفي مصيرها، وكان من السباقين إلى هذا الأمير عمر طوسون وسعد زغلول باشا. وقد خاطب الأمير سعداً (لأنه رأى فيه جرأة وإقداماً وقدرة على المناقشة والجدال).

وفي 11 نوفمبر 1918 أعلنت الهدنة وتخلص العالم من الكابوس الذي كان يجثم على صدره.

وفي 13 نوفمبر 1918 قرع سعد ورفيقاه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي أبواب دار الحماية، وقابلهم السير ريجنالد ونجت وتحدثوا إليه وسألوه عما تعتزمه بريطانيا إزاء مصر، وذكروا له صراحة أنهم قد جاءوا يطلبون استقلال مصر.

قال شعراوي باشا: نريد أن نكون أصدقاء بريطانيا صداقة الند للند لا صداقة الحر للعبد.

فأجابه ونجت: إذن أنتم تطلبون الاستقلال!

فصاح به سعد: نعم ونحن له أهل.

لم يعد المعتمد البريطاني زعماء مصر بشيء وإن أظهر عطفاً على مطالبهم ووعداً بمخاطبة حكومته. والمهم أن نذكر أن سعداً ورفاقه قد طلبوا الاستقلال التام.

أخذ سعد هذا يعمل على تنظيم (الوفد) وتم له ذلك ووضع القانون الأساسي للوفد وأهم ما جاء فيه:

1: تألف وفد باسم (الوفد المصري) من حضرات: سعد زغلول. عبد العزيز فهمي. علي شعراوي محمد علي بك.

عبد اللطيف المكباني بك. محمد محمود. لطفي السيد. إسماعيل صدقي. سينوت حنا. حمد الباسل. جورج خياط. محمود أبو النصر بك. مصطفى النحاس. حافظ عفيفي.

2: مهمة هذا الوفد هي السعي بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلاً في استقلال مصر استقلالاً تاماً.

ص: 7

3: الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر التي يعبرون عنها رأساً أو بواسطة مندوبيهم.

4: لا يجوز للوفد أن يتصرف في المهمة التي انتدب لها.

وفي 13 يناير 1919 ألقى سعد خطبة في دار حمد الباسل باشا زاد فيها مبادئه وضوحاً فذكر أنه يطلب الاستقلال التام لمصر والسودان (لأن السودان ألزم لمصر من الإسكندرية).

للكلام صلة

أبو الفتوح عطيفة

ص: 8

‌رحلة أبي الطيب المتنبي

من مصر إلى الكوفة

للأستاذ أحمد رمزي بك

ترك المتنبي الفسطاط في ليل عيد الأضحى سنة 350 ودخل الكوفة في ربيع الأول سنة 351 هجرية.

أحب أبا الطيب المتنبي وأتغنى بشعره، فنظمه لدى نشيد الإنشاد. إذا جال شعره في خاطري أو طرق أذني أحسست بأنني لست غريباً عن صاحبه، وكأنني قد تعرفت إليه وعاشرته في حياة أخرى قبل اليوم. إن شعر المتنبي كالدواء المنعش الذي يفرضه الطبيب على المريض في دور النقاهة لكي يقوى جسمه وتشتد نفسه، فإذا اعتاده المرء صعب عليه بعد الشفاء أن يتركه، وأصبح بحكم العادة جزءاً متمماً لمأكله ومشربه.

كذلك شعر أبي الطيب هو الدواء النفسي الذي لجأت إليه كثيراً لكي أقوي نفسي على مواجهة الملم من الأمور، ولكي أقدم على الصعب منها ولكي أحيا الحياة التي تلائمني.

كان رحمة الله عليه يحب المجد، ولا أنكر على القارئ أنني أحب المجد وممن يعشق العلا، وكان المتنبي خير شعراء العالم في وصف الحرب ومعاركها ومشاهدها، ولا أخفي على القارئ أنني أعتبر الأمم التي تحارب وتواجه الموت أقوى الأمم وأعزها وأحقها بالحياة - فالحياة إذا لم تقترن بالمخاطرة والإقدام في كل يوم فلا قيمة لها في نظري. وأنا ممن يفهم قوله:

ولا تحسبن المجد زقاً وقينه

فما المجد إلا بالسيف والفاتكة البكر

وتركك في الدنيا دوياً كأنما

تداول سمع المرء أنمله العشر

أنا لست أديباً ولا صناعتي الأدب، أقول هذا لأقرر حقيقة واقعة، ولكني أومن بأن الشعر والأدب ليسا وقفاً على الأدباء والشعراء، وإنما الأدب بضاعة يتذوقها الناس جميعاً، هي مثل الهواء والنور. وكنت أطمع في أن أكون أديباً ولكن عملي وكثرة مشاغلي حالت بيني وبين التفرغ للأدب، وإن كنت عودت نفسي أن أختلس الفرص لمجالسة أهل الأدب آخذ عنهم وأتحدث إليهم، وأرى أن كل دقيقة أقضها في صحبتهم هي متعة لي، ويرجع ذلك إلى ما ألمسه فيهم من رقة الإحساس. . . فهم برغم ما يشيعونه عن أنفسهم، مصابيح الظلام

ص: 9

وسط هذا العالم المدلهم الذي وجدنا أنفسنا فيه، ونحن لا ندري من أين أتينا إليه، ولم يؤخذ رأينا حينما قذفت بنا الأقدار للعيش في ربوعه والخوض في غمرانه. .

فأرجو من القارئ حين يقرأ ما أكتب عن الأدب، ألا يتصور أنني قد درست المتنبي في ديوانه وتأملت أفكاره واطلعت على خفايا تاريخه، أو أنني انكببت أحفظ قصائده وأقرأ ما كتبه الناقدون عنه، أو أنني تتبعته في رحلاته وغزواته.

فهذه أمور ليس من السهل الإلمام بها، ولست أدعي أنني سأقوم في يوم من الأيام ببحثها ودراستها وتقصي أنباءها، إذ الباقي من العمر قليل، وما أكتبه ما هي إلا أماني ورغبات أرجو أن يقوم بها الغير إذا شاءوا. ولذلك يحق لي أن أصرح بأن المتنبي كشاعر عالي رج الدنيا ولا يزال شعره يرج النفوس ويهزها، لم يلق من رجال الأدب العربي ورعاة الشعر ما يستحق من عنايتهم، أقول هذا على رغم ما كتبه المعاصرون عنه، وبرغم ما ذكره المتقدمون من أن أكثر من ستين عالماً لغوياً قد تصدوا لديوانه بالنقد والتفسير والتفنيد. إن لا يزال في نظري مع عصره وحياته وفكره وشعره دنيا جديدة للبحث والتأمل والدرس والجمع والتبويب. إنه ليس بشاعر يدرسه طالب في رسالته أو أطروحته، ولا برجل يتقدم أديب واحد أو عالم واحد، كائناً ما كان علمه وفضله، فيكتب فيه كتاباً ويقول هاكم اقرءوا كتابيه، فقد قرأت المتنبي ودرسته وفهمته إن مثل هذا لا يقال عن أبي الطيب المتنبي وفيه ظلم لتاريخه وافتئات على عبقريته، لأن المتنبي ومعه غيره من فطاحل شعراء العرب في مختلف العصور، يحتاجون إلى جيل من الناس، ينكب على دراستهم بأسلوب علمي صحيح.

وليعذرني القارئ إذا قلت إن المتنبي يستحق أن ينصرف لديوانه وعصره مجموعة من علماء العرب: في اللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا والاجتماع وعلم النفس، لأن كل ناحية في المتنبي تحتاج إلى كشف جديد ودراسة وبحث وتدقيق وجمع وتبويب، وأن أسماء البلاد التي جاء ذكرها في شعره عن سيف الدولة هي المرجع الوحيد لنا للحروب التي قامت يوماً ما بين المسلمين والروم، وهي حروب ليس من السهل تقصي أجنادها. .

والصورة التي أعطيها للمتنبي في هذه الكلمة متواضعة، لأنها قاصرة على سفره من مصر وخروجه منها في ليل عيد الأضحى سنة 350 ووصوله الكوفة في 25 ربيع الأول سنة

ص: 10

351، وإن حوت نظرة أولى عن مقامه بمصر وبعض أيامه بها.

الذي نعرفه هو أن المتنبي جاء مصر وعاش في كنف كافور الإخشيدي سنوات وقال الشعر: فأين كان مقامه وكيف عاش وكيف أقضي وقته ومن عاشر من الناس؟

كلها أمور تحتاج إلى بحث وتدقيق وتأمل، وليست موضع استنتاج أو رجم بالغيب كما يلجأ بعض المؤلفين المعاصرين، لأنها ليست بالسهولة التي يتصورونها عليها، فإذا لم تسعفنا النصوص والمراجع، وإلى أن تكتشف غوامضها، لا يسعنا أن نحكم حكماً متسرعاً، وإنما نكتفي بإيراد ما نعلمه عنها، وليس لدي شيء أقدمه سوى نظرة أولى عن بعض الأماكن التي ورد ذكرها في أيام إقامته بمصر.

ولم تكن القاهرة قد أنشئت بعد، فكانت الفسطاط هي مصر، وكانت حياة الشعب مركزة حول جامع عمرو، أي الجامع العتيق كما كان يطلق عليه وقتئذ، وكانت جزيرة الروضة أمام الفسطاط: يراها الجالس أمام الجامع ويرى في اتجاهها على الضفة الأخرى للنيل حصن الجيزة الذي أنشأه العرب عند الفتح، والذي تهدم بعد ذلك فعمره أحمد بن طولون مدة ولايته، كان هذا الحصن قائماً أيام المتنبي لأن كافوراً الإخشيدي جدد بناءه وعمره وحفر حوله خندقاً، أنه كان يخشى المغرب وأهله. . .

وكان الحصن ملاصقاً لمسجد همذان وهي إحدى القبائل التي نزلت بالجيزة أيام الفتح، وسكان الجيزة من خلاصة عرب اليمن ولا أعرف لهم نسباً آخر غير هذا.

فهذا كان المنظر الذي يواجه من يخرج من باب المسجد العتيق، ولا نعلم كما قلنا الأماكن التي نزل فيها المتنبي، وإن كان جاء ذكر دار أخلاها له كافور بالفسطاط وأنه وكل به من يخدمه ويسهر عليه، ولا أجزم بأنها كانت بعيدة عن مسجد عمرو.

وبدأ مدائحه في سنة 346 ولم يأت في شعره بشيء عن حياته التي كان يحياها ولا الأماكن التي ارتادها ولا عمن كان معه من الأهل والعبيد والخدم، وإنما جاء ذكر شعره، والجامع الأعلى ويقصد به مسجد ابن طولون، والدار التي بناها كافور وسكنها جاء ذكرها على مرتين في 346 و347 هجرية.

وبرغم الجهود التي بذلت أخيراً في الكشف عن تاريخ الدولة الإخشيدية، لا تزال هذه الحقبة من الزمن في حاجة إلى مراجع أوسع مما لدينا، لأن ما وصل إلينا عن حياة كافور

ص: 11

الخاصة وما كان يسود البلاد المصرية من أحوال سياسية لا يزال موضع التساؤل، فإن احتفاظ مصر بموقفها الاستقلالي بين الدولة العباسية وقوة الفاطميين ودفاعها عن أملاكها من أرضي الشام، أمور غامضة إن دلت على شيء فإن هذا الشيء هو عبقرية كافور وحده. . . الذي استمر يسيطر على دولة إسلامية واسعة الأطراف بدليل قول أبي الطيب.

يدير الملك من مصر إلى عدن

إلى العراق فأرض الروم فالنوب

وإذا نظرنا لشعر المتنبي وجدناه لا يتعرض لأي ناحية سياسية بالذات وإن جاء ذكر أبي شجاع فأنك أحد قواد الإخشيديين وما كان يؤمله فيه. ويظهر أن المتنبي كانت له رسالة خاصة في مصر كما سيظهر ذلك، ولذا تحاشى جهده أن يظهر في شعره بعض ما يمكنه من الاهتمام بها، واكتفى بالمدائح والشكوى ولإخفاء غرضه من المجيء إليها.

والذي أستخلصه من عصره هو أن الجامع الطولوني أنشئ على ربوة جبل يشكر، (كان يطل على بركة قارون التي كانت تتصل أيام الفيضان ببركة الفيل، وكان الواقف على جبل يشكر أو على مئذنة ابن طولون يكتشف الجيزة ويرى الأهرام وينظر إلى مباني الفسطاط ذات الطبقات العالية، وقد جاء في ديوانه ذكر الدار التي كان يسكن فيها كافور، أشار إليها بمناسبة خروج كافور هارباً منها، أو في أيام يسيرة مات له حول الخمسين غلاماً ففزع من الدار واستوحش منها، ويظهر أنه منذ أن سقطت دولة آل طولون لم يكن بمصر دار تصلح لسكنى الملوك، لأن دار الإمارة التي نزلها أحمد بن طولون ولها بقايا لم تكن جديرة به، ولذا أنشأ القصور الكبيرة التي هدمت بعد سقوط دولته، ولما جاء كافور أصلح داراً كانت لأحمد بن طولون وسكنها، فمدحه المتنبي في سنة 347 بقوله:

أحق دار بأن تدعى مباركة

دار مباركة الملك الذي فيها

ويذكر الديوان أن أبا الطيب مدح كافوراً في عام 346 ما بنى بجوار المسجد الأعلى - أي مسجد ابن طولون - داراً فهنأه الناس بها، ولما تحول إليها قال:

نزلت إذ نزلتها الدار في أح - سن منها من السنا والسناء

حل في منبت الرياحين منها

منبت المكرمات والآلاء

وليس من شك في أن الدار التي جاء ذكرها سنة 346 هي التي أنشأها كافور، وأن التي جاء ذكرها في 347 هي التي عمرها، وهناك إجماع على أنها لم تكن لأحمد بن طولون

ص: 12

بل كانت لابنه خمارويه.

فقد ذكر ابن دقماق تحت (دار الفيل) أنها الدار التي على بركة قارون، وكان كافور أمير مصر قد اشتراها وبنى فيها داراً ذكر أنه أنفق عليها مائة ألف دينار وسكنها في رجب سنة 346 وقيل إنه سكنها إلى أن مات ودفن فيها ثم نقل بعد ذلك إلى الصحراء، وقيل إن سبب انتقاله من جنان بني مسكينبخار البركة، وقيل وباء وقع في غلمانه، وقيل ظهر له بها جان. . ابن دقماق صفحة 11 جزء4. . وفي صفحة 125 يقول (وقيل لم يقم بها غير أيام قلائل ثم أرسل إلى أبي جعفر مسلم الحسيني ليلاً، فقال امض بي إلى دارك، فمضى به قمر على دار المرصدي وأقام بها شهوراً ثم عمر دار خمارويه المعروفة بدار الحرم بسوق حبة وسكنها أول رجب سنة 347 هجرية وأقام بها عشر سنين إلى أن توفى في جمادى الأولى سنة 357 ودفن بها ثم نقل إلى الصحراء).

ويقول المقريزي (كانت دار الفيل قديماً هي الدار التي على بركة قارون وقد ذكر مثلاً مسكين أنها من حبس جدهم، وذكر ابن يونس أنها في جنان بني مسكين يعنى هذه الدار في غطتهم) وكان كافوراً أمير مصر قد بنى فيها داراً أنفق فيها مائة ألف دينار ثم سكنها سنة 346 وانتقل إليها وأدخل فيها عدة مساجد ومواضع اغتصبها من أهلها، ولم يقم بها غير أيام قلائل ثم أرسل إلى أبي جعفر مسلم الحسيني ليلاً فقال له امض إلى دارك فمضى به فمر على دار فقال لمن هذه الدار فقال لغلامك يعني دار المرصدي فدخلها وأقام بها شهوراً إلى أن عمر دار خمارويه المعروفة دار الحرم بسوق حبة وسكنها أول رجب سنة 347 وأقام بها إلى أن توفى).

ألا تشفق معي حينما تقرأ هذا على أولئك الذين يهدمون أمجاد القاهرة بإزالة قبور الصالحين أو تقيد الأسماء القديمة بأسماء المعاصرين في مدينة عاشت أكثر من 14 قرناً. . . إنهم مخطئون في حق بلادهم، لأن مفاتيح التاريخ القديم تنقطع صلته بنا حينما تغير الأسماء الموضوعة وتهدم القبور. . .

فلنعد إلى ما كنا فيه حيث يذكر المقريزي سبب خروج كافور من داره بقوله (أن وباء وقع في غلمانه وقيل ظهر له بها جان، وكان دار الحرم قد حبسها خمارويه - أي أوقفها على حرم والده - ثم إن الفيلة نقلت إلى الدار التي لهم الآن بالقرب من الجامع الطولوني على

ص: 13

جبل بشكر قبل مناظر الكبش).

ألا ترى الصلة الآن بين شعر المتنبي وأماكن يعرفها أهل القاهرة واضحة سهلة أمامك في جهات مررت بها، ويظهر أن المقريزي وابن دقماق ينقلان من مصدر واحد، ولكن الأول يقرر في صفحة 129 من الخطط ما يأتي:

(قال القاضي أبو عبد الله بن محمد سلامة القضاعي في كتاب الخطط. . وأن دار الحرم بناها خمارويه لحرمه وكان أبوه اشتراها له فقام عليه الثمن وأجرة الصناع والبناء بسبعمائة ألف دينار).

إذن عرفنا المصدر لتحديد أماكن الفسطاط ومنازل آل طولون هو القضاعي ولكن أين خططه؟

ويظهر أمامنا أنه في عصر المتنبي بمصر كان الجزء الواقع بين جامع ابن طولون والقلعة - التي لم تكن قد أنشئت بعد - كانت تحتله بقايا قصور ابن طولون وكانت خراباً يشمل جزءاً كبيراً من الأرض في عهد كافور، بدليل قول المعز لدين الله الفاطمي حينما دعاه جوهر إلى مصر، إنها لا تحوي غير خرائب ابن طولون.

لقد كان المسجد الطولوني ومناظر الكبش تطل على البركتين. . بركة الفيل وبركة قارون، وكانت الدار التي سكنها كافور ومدحه المتنبي من أجلها لا تبعد كثيراً عن المسجد، أما بركة قارون، وموقعها خلف جامع ابن طولون على رأي المقريزي وتؤكده خرائط الحملة الفرنسية، فكانت تتصل ببركة الفيل وتكونان بركة واحدة أيام الفيضان.

وكان امتداد بركة الفيل من جامع ابن طولون إلى القاهرة - حيث تقوم الآن الأحياء الحديثة ومنها الحلمية -.

لقد أمضى المتنبي حياته بمصر في أحياء الفسطاط وفي القصور بين البركتين، وكان يذكر الجامع العتيق وجامع ابن طولون ودار كافور التي مدحه من أجلها المتنبي، ذكرها المقريزي بقوله (إن الجالس في دار الفيل التي سكنها كافور كان يرى جزيرة مصر التي تعرف بالروضة).

هل نقدر أن نضبط أحياء الفسطاط وخططها وأماكنها المشهورة؟

هل نستطيع أن نوجد خريطة عن مصر القديمة وقصور بني طولون؟

ص: 14

ترى ماذا يكون الموقف لو لم يسعفنا المتنبي بشيء عن حياته الخاصة ومن كان يعاشرهم من الناس بمصر.

هل يستطيع عالم أن يقوم بهذا بالنصوص التي بين أيدينا؟

لا شك في أن جنان بني مسكين وسوق حبة من الممكن أن نحددهما وكذلك امتداد العمار السابق في الفسطاط ومصر وحول مدائن العسكر والقطائع ومن هنا تبعث مصر الإخشيدية: إنها في حاجة إلى من ينير لنا الطريق لكشفها وتحديدها.

وإن كان المقريزي ينير لنا السبيل إذ يقرر في صفحة 215 عند كلامه على خطط مصر خارج باب زويلة (إن الموضع المقابل لمشهد زين العابدين كانت كله تشغله بساتين شرقيها عند المشهد النفيسي وغربيها السبع شكايات ومنها بساتين عرفت بجنان بني مسكين وعندها بنى كافور الإخشيدي داره على البركة التي تجاه الكبش والتي تعرف اليوم ببركة قارون،

هذه لمحة لما كانت عليه صورة مصر حين عاش فيها المتنبي. .

ولا أشك في أن الفسطاط كانت مدينة لها مكانتها التاريخية وأثرها في حياتنا الأدبية والتاريخية والسياسية. إنها البوتقة الأولى التي انصهرت فيها القومية المصرية الإسلامية العربية ولذلك تغمرني الأحزان حينما أراها في الحالة التي هي عليها اليوم.

وتعود بي الذكريات إلى مدينة بومبي الأثرية الرومانية بجوار نابولي. لقد زرتها هذا العام - فدهشت حينما رأيت هذا التقدم في الكشف عن المدينة المطمورة وإعادة شوارعها ومبانيها وبعض منازلها وأسماءها إلى الحال التي كانت عليها حينما دهمتها ثورة البراكين، هذه المدينة القاتمة التي أخرجها العالم. .

نعم إن الأستاذ الإيطالي أميديو انيوري، الذي يشرف على أحيائها، واحدة من سلسلة طويلة من علماء العالم الذين كرسوا حياتهم وأفنوا أيامهم في سبيل بومبي.

فهل تجد الفسطاط عالماً أثرياً واحداً، يفني بعض السنوات في إحيائها وضبط معالمها وإعادتها إلى النور؟ إنها تستحق هذه العناية لأننا جزء مكمل لتاريخها، وما رأيت بلد تنكر لماضيه الحي غيرنا، إن بانيها عمرو بن العاص وهو أب للمصريين جميعاً. . على ما أعتقد.

ص: 15

للكلام بقية

أحمد رمزي

المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي

ص: 16

‌6 - أصحاب المعالي

(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفافها)

(حديث شريف)

للأستاذ محمد محمود زيتون

وتنطبق بوضوح نظرية التدرج من الماديات إلى المعنويات - فيما يتعلق بالمعالي - على يد الإسلام الحنيف، فقد نطق القرآن الكريم بآيات الله البينات عن الجبال الرواسي والأوتاد (وجعلنا فيها رواسي أن تميد بكم) (والجبال أوتادا) (والتين والزيتون وطور سينين) وكلها جبال معروفة و (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ومع ذكر السماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم وكواكب (والنجم إذا هوى) والتذكير بأن الحياة حياتان: دنيا وأخرى. ولابد أن تكون هذه الدنيا مغايرة لتلك الأخرى، فلا بد أن تكون الحياة الأخرى هي العليا (وللآخرة خير لك من الأولى)(والآخرة لهي الحيوان)(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا).

فلنتأمل هذه الآيات الكريمة لنرى كيف تصدق نظرية المعالي هنا:

(سبح اسم ربك الأعلى)(يخافون ربهم من فوقهم)(إن الله كان علياً كبيرا)(هو العلي العظيم)(من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)(ولتعلن علوا كبيرا)(وقد أفلح اليوم من استعلى)(ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات)(وفي السماء رزقكم وما توعدون)(بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى)(والسماء والطارق، وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب)(ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء)(وأنتم الأعلون)(وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا)(وتعالى الله عما يقولون علواً كبيرا)(وإن فرعون علا في الأرض)(وإن فرعون لعالٍ في الأرض)(أأمنتم من في السماء)(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)(الرحمن على العرش استوى)(في جنة عالية)(والسماوات العلا) و (كلا إن كتاب الأبرار لفي علين) أي في أعلى الأمكنة وهو في السماء السابعة إليه يصعد بأرواح المؤمنين، وفي الحديث (إن أهل الجنة ليتراءون أهل

ص: 17

علين كما تراءون الكوكب الدري في أفق السماء) (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين)(شهاباً رصدا) و (ذو مرة فاستوى) والعرش هو أعلى المخلوقات) (عند سدرا المنتهى) والإسراء بالنبي والمعراج به من الأرض إلى السماء والرسالات كانت تهبط بالوحي من السماء على ألسنة الأنبياء والمرسلين، وآمنت بهم شعوب وقبائل وكفرت مدائن (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها).

قال عباس بن مرداس:

فمن مبلغ عن النبي محمداً

وكل امرئ يجري بما قد تكلما

تعالى علوا فوق عرش إلهنا

وكان مكان الله أعلى وأعظما

وقال أيضاً:

رأيتك يا خير البرية كلها

توسطت في القربى من المجد مالكا

سبقتهمو بالمجد والجود والعلا

وبالغاية القصوى تفوت السنابكا

فأنت المصفى من قريش إذا سمت

غلاصمها تبقى القروم الفواركا

وقال العباس في مدح النبي:

حتى سما بيتك المهيمن من

خندف علياء تحتها النطق

ويقول شوقي في نهج البردة:

حتى بلغت سماء لا يطار

لها على جناح ولا يسعى على قدم

وكانت المرأة تأتي رسول الله فيسألها: أين ربك؟ فتقول:

في السماء. فيقول: دعوها فإنها مؤمنة.

ولقد نشأ الأستاذ الأكبر لأصحاب المعالي في صحراء جرداء فصفت نفسه من شوائب المادة وخلصت إلى أسمى المعاني، وجال فكره بين الجبال والوهاد والشعاب والتلاع، والربى والقاع، وتطلع بنظره إلى السماء يتأمل ما فيها، وفي ذات يوم شرف بسمعه على حفل سامر بمكة، فإذا به ينام، ولا يسمع شيئا. لأن الله تعالى عصمه من الدنيا ورفعه إلى المعالي، من حيث أراد الإشراف من أعلى الجبل على زامر الحي، وطالما كان لجبل أحد مكان في دعوة الإسلام، لهذا أحبه النبي القائل (أحد جبل يحبنا ونحبه) وهذه عاطفة إنسانية تتجه نحو مادة ترابية، وما كان ذلك ليكون من حيث هو جبل من تراب ولكن لامتزاج هذا

ص: 18

التراب بالدماء الغوالي التي سكبت عليه في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا.

وأريد محمد يوماً أن يكف عن هذا الدين الذي جاء به، فقال لسفير القوم عمه أبي طالب (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه ما تركته)، وفي هذا الجواب مزاج من العزة والطموح، إذ أن النبي إنما بهذا الدرس العالي على الأجيال المتعالية في سلم الترقي، وبين عينيه الشمس والقمر، وهما ما هما علواً وارتفاعاً ومع هذا يمتلئ قلب محمد بالعزة التي تكاد تفتت الشمس والقمر وتنزلهما من أعلى مكان ليكونا بين يديه.

ومن هذا الباب رؤيا يوسف عليه السلام (قال يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) والأحلام - في نظر السيكولوجيين - هي تنفيس عن رغبات مكبوتة، وهكذا يجتمع أنبياء الله في قمة المعالي، بما ملأ قلوبهم من الإيمان، فتهون حيلها ما في الأكوان من كواكب وجبال. وكثيراً ما يرى الطامحون في منامهم أنهم يطيرون، وأقرب تفسير لذلك أنهم من أصحاب المعالي.

وليس بمنكر أن يكون محمد زعيم أصحاب المعالي فهو القائل (علو الهمة من الإيمان) والقائل أيضاً (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها) وجاء في الأثر (لا تصغرون هممكم).

ولقد كان أهل المدينة من الجهات العالية بها يسمون في العرب باسم (أهل العوالي) وقد جاء (عجوة العالية شفاء)(لا ينبغي لهم أن يعلونا) وفي ذلك اليوم غلب على وهم أبي سفيان أن أبطال المسلمين قد قتلوا، لهذا قال:(أنعمت فعال) أي فدعني، وقال أبو طالب:

- في نزوة حمقاء -: لا تعلوني! شيء

ويقال إن أرواح الأنبياء في الملأ الأعلى، كما أن النبي الكريم كان يقول وهو يقاسي سكرة الموت: بل الرفيق الأعلى، فتقول عائشة: إذن والله لا تختارنا.

وقف أبو سفيان يوم أحد مفاخراً برأس الأصنام (هبل) فيخاطبه: اعل هبل. وما يكون لصنم أو لعابد صنم أن يعلو أو يسود، لهذا أمر النبي أحد الصحابة ليجيب فقال: الله أعلى وأجل. وماذا يقول المنطق السليم في هذا الجواب السليم الصاعد بالتمجيد إلى الله الذي لا أكبر منه ولا أعلى، وهو سبحانه وتعالى يعلو ولا يعلى عليه.

ص: 19

وكان مما قاله معبد الخزاعي عندما التقى النبي بحمراء الأسد بعد غزاة أحد (. . . ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك)

من أوضح الأدلة على الشعور بالدون عند أهل الدون قول رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول عندما قال:

متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل

تذل ويعلوك الذي لا تصارع

وهل ينهض البازي بغير جناحه

وإن قص يوماً ريشه فهو واقع

وذلك من غير شك تعبير عن هذا النقصان الناجم عن الحقد والضغن في نفس هذا المنافق الغليظ الذي لا يعلو، وما يكون له ولا لمثله ولا لأمثال أمثالهما أن يعلو. وخير منه في هذه الخصومة الوليد بن المغيرة في وصفه كتاب الله (وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق.)

ولما سئل نبي الله عن أي أنواع الجهاد في سبيل الله قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). وهو عليه السلام الدافع إلى علو النفس وإباء الضيم وارتفاع الكرامة إذ يقول (اليد العليا خير من اليد السفلى).

ومن مظاهر التشريف والتكريم أن ينزل الضيف في أعلى مكان بالبيت، لهذا عندما وصل النبي - لدى هجرته المباركة - إلى قباء نزل في علو المدينة بحي عمرو بن عوف، وفي بيت أبي أيوب الأنصاري، نزل النبي بالسفل وما كان أبو أيوب ليرضى أن يكون هو بالعلو والنبي بالسفل، ولكن تواضع نبي الإسلام أبى عليه أن يعلو مادياً، فارتفع روحاً ومعنى، وهو الذي سأل ربه: اللهم الرفيق الأعلى، اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى، أسأل الله الرفيق الأعلى.

وقبلا نادي نوفل بن خويلد يوم بدر فقال: يا معشر قريش: اليوم يوم الرفعة والعلي، فقال النبي: اللهم اكفني نوفل بن خويلد، فقام إليه علي فقتله، ومعنى ذلك أن صاحب المعالي علياً ابن أبي طالب كرم الله وجهه قتل نوفل بن خويلد الذي يدعي الرفعة والعلى، وهما منه براء، وهو منهما على غير شيء في كثير أو قليل. لهذا كثر ما كان المسلمون يعلون الكفار بالسيوف فتطيح رءوسهم إلى أسفل سافلين.

ولما دنا فراق النبي عليه السلام دنيا الناس جمع أصحاب المعالي الصحابة في بيت عائشة وقال لهم فيما قال (أوصيكم بتقوى الله، وأستخلفه عليكم وأحذركم الله، إني لكم نذير مبين

ص: 20

ألا تعلوا على الله في بلاده وعباده، فإنه قال لي ولكم: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين).

وجاء فتى إلى رسول الله فقال: يا نبي الله إن لنا منك نظرة في الدنيا ويوم القيامة لا نراك، فإنك في الجنة في الدرجات العلا، فنزلت:(ومن يطع الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) وقال النبي: أنت معي في الجنة.

وقد رأينا كيف أنشد النابغة أبو ليلى عبد الله بن قيس أمام النبي بيته العالي:

علونا السماء عفة وتكرما

وأنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فغضب النبي فقال: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة يا رسول الله فقال النبي: أجل إن شاء الله. وهذا يذكرنا بقول النبي لأم حارثة بن سراقة (وحارثة في الفردوس الأعلى فرجعت وهي تضحك وتقول وهي تضحك: بخ بخ لك يا حارثة.

والحق دائماً ينتسب إلى العلا بينما الباطل ينتمي إلى الدون، وهذا مصداق قول رسول الله لسعد بن معاذ إذ أصدر حكمه - بأمر النبي - في يهود بني قريظة (لقد حكمت فيهم بحكم الله - من فوق سبع سموات - وشأن هذا الحكم العلو والرفعة - قد طرقني بذلك الملك سحراً) فهذا الحكم العالي الذي تتضائل دونه أحكام الاستئناف العالي.

وقد تغلغلت روح المعالي في نفوس الصفوة المختارة من فلاسفة الإسلام وخلفائهم المثقفين، فهذا ابن سينا يقول في مطلع قصيدته في النفس:

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تدلل وترفع

وهذا المأمون يقول لرجل استأذن في تقبيل يده (إن قبلة اليد من المسلم ذله ومن الذمي خديعة، ولا حاجة بك أن تذل ولا بنا أن نخدع).

والجهاد في الإسلام رفعة النفس بينما النكوص على الأعقاب والقعود عن الجهاد هو الإخلاد إلى الأرض، والرضى بالدنيا، وشأن الكريم أن ينشد الحياة العالية، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل). والنبي يقول (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد). والسماء إشارة إلى السمو والرفعة لهذا

ص: 21

يقول النبي (ألا تؤمنوني وأنا أمين في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء) وإليها تصعد دعوة المظلوم ففي الحديث (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة) والملائكة تتحدث في عنان السماء. وما أجمل الخلق النبوي حين يقول محمد (لا تفضلوني على يونس بن متي). ذلك أن النظرة القاصرة تفرق بين إسراء محمد إلى سدرا المنتهى وهبوط الحوت بيونس إلى قعر البحار في أسفل الأرض، ولكن محمداً لا يرتضي هذه التفرقة لأنهما كان في القرب من الله سواء.

وجاء في الخبر (أربعة أملاك اجتمعوا في الهواء، أحدهم هبط من العلو، والآخر ارتفع من السفل، والآخر من المشرق، والآخر من المغرب، واحد منهم يقول:

(أقبلت من عند ربي، فسبحان الموجود في الكل مكانه، مشيئته ووجوده قدرته، والعرش والثرى وما بينهما هو حد الخلق الأسفل والأعلى بمنزلة خردلة في قبضته هو أعلى من ذلك بما لا يدركه العقل ولا يكيفه الوهم. ولا نهاية لعلوه ولا فوق لسموه ولا بعد في دنوه ولا حس في وجوده ولا مس في شهوده ولا إدراك لحضوره، ولا حيطة لحيطته).

محمد محمود زيتون

ص: 22

‌خواطر مسموعة:

حلم ويقظة

للأستاذ حامد بدر

سئمت نفسي هذه الحال، فعللتها بالآمال، وسبحت فيما يسمونه الخيال، مفكراً في موقف القوم، بين الأمس واليوم، حتى غلبني النوم. ورأيت فيما يرى النائم جحفلاً من الشباب، يحكم الصعاب، بعزمات صلاب. فسألت أحدهم: إلى أين؟ فأجاب: لن تنام لنا عين، حتى نقضي هذا الدين. ولن يهدأ لنا بال، حتى ننال الآمال، فليس مع الطلب محال. وكلنا أبى ألا يذل، مجاهد لا يمل، مطالب بوطن مستقل. نحن بنو الحضارة، والعزمة الجبارة، والمفرط أولى بالخسارة!. .

ألا إن الجهاد ليس بهين، وقديماً قيل إن الطلب اللين، يضيع الحق البين! مصر لنا لا للغرباء، والدار ليست للنزلاء، والحق كل الحق في وجوب الوحدة والجلاء. فكرة قد اختمرت في الرءوس، آمن بها الرئيس والمرءوس، وغضبة فرعونية ضاقت بها النفوس. وهل يقدر شاذ أن يأخذ ويدع، فيما عليه الرأي قد اجتمع، والحق أحق أن يتبع؟

فقلت: شقوا طريقكم، في ظل مليككم، والله وليكم!

ولما كانت الدعوى صريحة، والحجة صحيحة، والقضية نزيهة، والمطالب وجيهة، فإن الحكم أقر، بأن لا مفر، من أن الغريب يفر، ولا يستقر. وعلى أثر الحكم تم الجلاء، وزال الغلاء، وذهب البلاء! وسمعت نشيداً يهز السامع. ويرن في المسامع، ويأخذ من القلوب بالمجامع. . وفجأة أفقت من السبات، ولم أحفظ من الأبيات، سوى ما هو آت:

زها العصر زها العصر

وجاء الفوز والنصر

فلا ظلم ولا قسر

عليك اليوم يا مصر

فعيشي وليعش سوداننا ومليكنا الحر

بلادي: لست للغربا

ولست لغاصب غصبا

فبالجد اقهري النوبا

وقولي: قضي الأمر

وعيشي وليعش سوداننا ومليكنا الحر

لنا السودان والنيل

هما للملك إكليل

ص: 23

يصون حماها جيل

يذوب لعزمه الصخر

فردد يا شباب النيل: عاش مليكنا الحر

وأبدع أيها الشادي

بلحن رائح غاد. .

يرن صداه في الوادي

فيصغي البر والبحر

شباب النيل يفديه

وعاش الملك الحر

هذا ما وعيت، وليتني أغفيت، حتى أتيت على آخر بيت. فاحتشاد الناس، واختلاط الأجراس، والتهاب الإحساس، كل ذلك كاف لطرد النعاس! وكم دهشت عندما رأيت تلك الأمة لا تزال تطالب، بأعز المطالب، فقلت: هذا واجب، ولا يضيع حق وراءه مطالب.

حامد بدر

ص: 24

‌رسالة الشعر

ذكري شوقي

للأستاذ محمود غنيم

طواه الردى فتحدى العدم

بشعر يدور على كل فم

لعمرك ما مات من شعره

على صفحات الصدور ارتسم

وفي كل بيت له صورة

تطل عليك بلحم ودم

تمر الليالي بشعر (ابن هاني)

فتظهر من عتقه والكرم

قواف لها فعل بنت الدنان

وكم زان بنت الدنان القدم

سلوا الشرق هل كان شعر (ابن هاني)

سناه إذا ما الكلام ادلهم؟

وبلسمه من جراح الزمان

وسلواه في كل خطب ألم؟

تغنى به في السرور الطروب

فكان الكمان وكان النغم

وناح به في الخطوب الحزين

فلامس منه مكان الألم

قواف سرت سريان البروق

تجوب الوهاد وتطوي الأكم

شوارد طبقت الخافقين

بها الشرق بعد الشتات التأم

أعز على الضاد من كل ما=حوته خزائنها من حكم

وأروى من النيل الظامئين

وأخلد من لبنات الهرم

ثوى ربها في التراب ورفت

بأفق البيان رفيف العلم

سلوا الضاد هل كان أحمد كنزاً

حوته يداها؟ تجبكم: نعم

لقد منحته الطبيعة ملكاً

عريضاً من الشعر فيه احتكم

وعرشاً كعرش ابن داود فيه

تقوم الطيور مقام الخدم

يقولون شاد بقيثاره

شجى العرب قلت: وهز العجم

أجاد القريض بعهد الشباب

وأعجز حين اعتراه الهرم

وكم شاعر لم يمس الشعور

فما قال شعراً ولكن نظم

لعمرك ما الناس دون الشعور

ودون الأحاسيس إلا نعم

إذا الشعب لم يعر الشعراء

مسامعه فهو شعب أصم

ص: 25

وما قيمة الروض دون طيور

تغني ودون زهور تشم؟

وما الكون إن أصبح الكون سوقاً

لبيع القرى بالجياع ازدحم؟

لقد عبد المحدثون الحطام

كما عبد الأقدمون الصنم

أرى عالماً كسدت روحه

على فضلات الحطام اختصم

أراد الحياة بحد الحسام

وشاد به ركنها فانهدم

فيا عابدي الزاد خلوا الحسام

وسوسوا الأمور بسن القلم

وما الشعر إلا حياة الشعوب

ورمز النهوض وحفز الهمم

إذا ساد في الأرض قل الفساد

بها وأظل السلام الأمم

محمود غنيم

ص: 26

‌أنشودة الغد.

.

للأستاذ عبد اللطيف الشهابي

(إلى المشاعل التي تحترق!.)

يقول الغد:

وراء الغمام لنا موعد

وخلف السراب لنا مورد

وفوق السماء لنا معبد!

وراء الغمام

ترفين مثل المنى والوئام

كأنك آلهة للأنام

على نصب من رفيف السلام

وخلف السراب

تطلين مثل الأماني العذاب

على عالم زاخر بالرغاب

على بشر في طباع الذئاب

وفوق السماء

سيحنو علينا جناح الرجاء

وتغمرنا دفقه من ضياء!

فتسمح بالطهر تلك الدماء!

وكالحائر

تطوف هنا صرخة الثائر

ترددها مهجة الشاعر!

فتصرخ كالرعد بالغادر:

بأرض الجدود

ص: 27

تحاربنا فئة من قرود

تعيث وتزري بقدس العهود

فتضرب بالسوط ظهر العبيد!!

أيا غالية

سنمشي على الشوك للداليه

لنعصرها خمرة صافيه

فتشربها طغمة عاتية!

ألم تعلمي؟!

لهيب يؤز اللظى في دمي

وسخط يجلجل ملء الفم

ويصرخ بالنفس: لا تحجمي

فهذا الأنين

صراخ الضحايا وراء السجون

يطوف علينا، فهل تسمعين؟!

سننفض عنا غبار السنين!!

ألا فاحمدوا

وراء الخلود لنا موعد

وخلف الصراع لنا مورد!

هلموا. . هلموا، بقول الغد

العراق - الحلة

عبد اللطيف الشهابي

ص: 28

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

مسرحية (مسمار جحا):

افتتحت فرقة المسرح المصري الحديث موسمها الثاني على مسرح الأوبرا الملكية يوم الخميس 18 أكتوبر، بمسرحية (مسمار جحا) تأليف الأستاذ علي أحمد باكثير وإخراج الأستاذ زكي طليمات.

من هو جحا؟ يقول لنا الأستاذ كامل كيلاني: جحا العربي - فهناك جحا التركي وغيره - هو أبو الغصن دجين بن ثابت، عاش بمدينة الكوفة في القرن الثاني من الهجرة. ويقول: أعجب الناس بما سمعوا من طرائفه وملحه، ثم تناقلوها جيلاً بعد جيل، فأضافوا إليها كثيراً من مخترعاتهم، وأسندوا إليه كل غريب من الملح، حتى تعذر التمييز بين الأصل والتقليد، وأصبح جحا علماً على فن بعينه من فنون القول، بعد أن كان علماً على شخص بعينه من أفذاذ الناس.

ورأى الأستاذ علي أحمد باكثير أن يتخذ من هذه الشخصية الحائرة بين الحقيقة والخيال موضوعاً لمسرحية يعالج بها قضية وادي النيل ويجري الصراع فيها بين الحرية والاحتلال.

لم يأخذ المؤلف جحا من التاريخ ليحقق وجوده التاريخي، وإنما أخذه من مجموعة النوادر التي تسند إليه، وأمضى شخصيته - كما تخيلها وأرادها - في الطريق الذي رسمه للوصول إلى الهدف. فهذه المسرحية إذن ليست مسرحية تاريخية، وإنما اتخذ المؤلف أشخاصها من سالف العصور، وأجرى بينهم أحداثاً ترمز إلى واقع عصرنا وتكاد تسفر عنه في بعض المواطن.

الشيخ جحا يعمل واعظاً في مسجد الكوفة، فيعظ الناس على طريقته الخاصة. . يمزج الجد بالهزل، ويعالج المسائل بمنطقه الساخر. وهو لا يلزم حده كموظف يحرص على استقرار عيشه واستمرار رزقه، فهو يبدو ومن أول الأمر صاحب رسالة اجتماعية وسياسية تحفزه على أن يطلق لسانه في الأغنياء والحكام، فيعزله الوالي من وظيفته. ويعود جحا إلى بيته حيث يلقى هناك زوجته (أم الغصن) الفظة السليطة، فتعنفه على طول لسانه الذي أدى إلى

ص: 29

فصله من عمله، وتسائله عما سيصنع بعد للإنفاق عليهم، ويدخل (حماد) ابن أخيه، الشاب الفلاح الذي يحب (ميمونة) بنت عمه جحا. ويشير حماد على عمه أن يشتغلا معاً بالزراعة، فيقبل. وهنا تقول أم الغصن لزوجها جحا: إن اشتغلت بالزراعة فلابد أن يهجم الجراد على الزرع فيلحق شؤمك بجميع الفلاحين! ويهجم الجراد فعلاً. وتقع كارثة عامة.

وبذلك ينتهي الفصل الأول، فإذا كان الفصل الثاني رأينا جحا وزوجه في دار أنيقة وحال حسنة، ونعلم من حديثهما أن الشيخ جحا أصبح قاضي القضاة في بغداد. ويدخل (عبد القوي) كاتب الحاكم الأجنبي، ونفهم من حديثه مع جحا أن الجراد لما انتشر وأفسد الزرع ثار الزراع بتدبير جحا وقيادة حماد، ثم استطاع جحا بحكمته ولباقته أن يقنع الحاكم الأجنبي بالعمل لإنصافهم من ظالميهم الملاك حتى لا تتحول الثورة الاجتماعية إلى ثورة سياسية وبذلك قرب مكانه من الحاكم، فصار قاضي قضاة الدولة.

ويحدث جحا نفسه، ويحدث ابن أخيه حماد، عن ضيفه بمجاراة الدخيل المتحكم في البلاد، ويبدي رغبته في العمل لإثارة الشعب ضده، فيرى أن تدبر قضية تعرض عليه، تشبه قضية البلاد العامة، فيطيل النظر فيها بحيث تشغل الرأي العام، وتنبهه. . ويتفق الاثنان على أن يتنازل جحا لحماد عن داره، فيبيعها حماد لمن يشتريها، مشترطاً عليه أن تبقى له (للبائع) ملكية مسمار في أحد الجدران. . ويتم ذلك، ويقلق حماد راحة المشتري بالتردد الكثير على الدار لمشاهدة المسمار والاطمئنان عليه! وتعرض القضية، ويطول نظرها سبعين يوماً ويحدث ذلك أثره المنشود في الشعب.

ويرتفع الستار في الفصل الثالث عن منظر المحكمة، والقضاة وعلى رأسهم جحا ينظرون هذه القضية العجيبة، وقد امتلأ حرم المحكمة بجمهور من الشعب الحانق على صاحب المسمار الذي يتحكم في مالك الدار. . ونرى الحاكم قد أخذ مجلسه في المحكمة يرقب الحال ويستحث القضاة. . ويرد عليه جحا بأن العدل يجب أن يأخذ مجراه بعيداً عن التأثر بالحكام. ويأبى صاحب المسمار أن ينزل عن حقه في مسماره. . فيشغب عليه الشعب ويهيب به مردداً:

يا رب المسمار

انزع مسمارك

من دار الأحرار

إذ ليست دارك

ص: 30

فيصيح بهم حماد: يا قوم، إنكم تهتمون بالمسمار الصغير وتغفلون عن المسمار الكبير! ويشير إلى الحاكم. ويقول جحا للحاكم: إنك تستكثر سبعين يوماً على نظر هذه القضية، وهناك قضية أهم منها لا تزال معلقة منذ سبعين عاماً. . ويغضب الحاكم ويأمر بالقبض على جحا وإيداعه السجن. ويأتي بعد ذلك منظر جحا في السجن وقدوم الحاكم عليه يفاوضه عساه أن يرجع إلى (صوابه) فيطلق سراحه، وهنا يدور بينهما حوار رائع يفند فيه جحا كل حجج المستعمر على طريقته الساخرة ومنطقة الجحوي المفحم.

ويثور الشعب ثورته الجائحة، ويندحر الدخلاء. ويرتفع الستار في المنظر الأخير عن منزل جحا حيث نرى ابنته ميمونة تزين استعداداً لعقد زواجها بعبد القوي كاتب الحاكم الذي كان يعمل في الخفاء مع الحركة الشعبية. وكان جحا قد وعد حماد بأن يزوجه ميمونة على رغم زوجته أم الغصن التي كانت تعارض ذلك وترغب في زواج ابنتها من عبد القوي. وتحدث المفاجأة بأن يعقد القران ويضع جحا يده في يد عبد القوي قائلاً: زوجت ابنتي ميمونة لموكلك حماد. .

عرض الأستاذ كثير في هذه المسرحية، القضية المصرية القائمة، عرضاً فنياً موحياً، يبعث المشاعر الوطنية ويحفز الهمم ويرسم الطريق، وقد سلط السخرية الجحوية النفاذة إلى غطرسة المستعمر وتبجحه فلم يدع له حجة إلا دحضها، وتمثيل ذلك في الحوار القوي الرائع الذي دار بين جحا وبين الحاكم الدخيل في السجن. وقد ساق كل ذلك مساقاً فنياً جميلاً ممتعاً خالياً من ثقل الوعظ وشوائب التهريج. وتضمنت المسرحية إشارات إلى الناحية الاجتماعية من حيث ترف الأغنياء وحرمان الفقراء، ولكن يلوح أن المؤلف كان يشعر بالقيود في هذه الناحية فلجأ إلى التوريات والتلميحات ولم يأخذ هنا حريته كاملة كما أخذها في الناحية السياسية.

وقد صاغ المؤلف - في براعة ولباقة - نوادر جحا في الحوار واستخدمها استخداماً حسناً في التسديد إلى الأهداف، وفي إشاعة الفكاهة، واتخذ من شخصيتي (أم الغصن) و (الغصن). مداراً للدعابة والمرح، واستعان بأم الغصن ومشاكساتها لزوجها جحا على إبراز الفلسفة الجحوية وأثرها في مجرى الحوادث.

وهذه ثاني مسرحية - بعد سر الحاكم - نراها على المسرح للأستاذ على أحمد باكثير، ولا

ص: 31

شك أن المسرح يرحب بإنتاجه ويضعه في الصف الأول من كتابه، وأسجل له هنا - مع الغبطة والإعجاب - تلبيته لنداء المجتمع وأداء واجب الفن نحوه.

وقد أخرج المسرحية الأستاذ زكي طليمات، ولست أدري ماذا أقول في هذا الرجل الدائب على خدمة المسرح العربي بكل رقته وجهده وفنه، هذا الرجل الذي يربط بين المسرح الراقي والأدب الرفيع في الوقت الذي نرى فيه عوامل كثيرة تحاول أن توهن هذا الرابط وتميل بفن التمثيل نحو الإسفاف وصناعة التسلية الخاوية.

والحديث عن إخراج المسرحية يكاد يظلمه ضيق المقام، وقد جرى الأستاذ زكي طليمات على مذهبه الإيحائي بالمناظر والإضاءة والأصوات والمجموعات (الكومبارس) فكان موفقاً كدأبه في تصوير جو الرواية، سواء المشاهد منها وما يلمح وراء الأحداث، وهذا يقابل ما يسمى في فن الكتابة (ما بين السطور).

ثم أجمل ملاحظاتي على التأليف والإخراج فيما يلي:

المسرحية تهدف إلى معالجة القضية المصرية وقد حددت فيها ملامح هذه القضية وتحديدا ظاهرا، وروح الدعابة والملح مصري، ومع ذلك قيل إن جحا يعظ الناس في الكوفة ويتولى القضاء في بغداد، ولو أغفل ذكر هاتين المدينتين ما ضر ذلك شيئا.

2 -

في المنظر الأول يقول جحا للناس وهو يعظهم: سبحوا الله واستغفروه. فيقولون: لا إله إلا الله: والتسبيح هو قول سبحان الله، والاستغفار: أستغفر الله. وقد مر ذلك بالمؤلف والمخرج والممثلين جميعا، ولم يلتفت إليه أحد منهم!

3 -

أرى أن دخول أم الغصن على زوجها جحا في مجلس القضاء والمشادة التي حدثت بينهما و (ردح) الزوجة لزوجها لم يكن كل ذلك لائقاً، وكان مقحماً وحشوا

وقد أجاد الممثلون والممثلات في أداء أدوارهم، وخاصة سعيد أبو بكر (جحا) ونعيمة وصفي (أم الغصن) وعبد الرحيم الزرقاني (الحاكم الأجنبي) وصلاح سرحان (حماد) وعدلي كاسب (والي الكوفة) وسميحة أيوب (ميمونة) وظهر عبد الغني قمر في دور قصير هو دور عالم ينافس جحا، فكان موفقاً في أدائه، وأحب أن أقول لعبد الغني: ليس المهم أن يأخذ الممثل دوراً كبيراً في الرواية، بل أن يكون في دوره الملائم له. ومثل (الغصن) شاب جديد هو عبد المنعم إبراهيم فكان مثار المرح والفكاهة في الرواية كلها، وقد دل هذا الشاب

ص: 32

على استعداد يبشر بمستقبل، وخاصة في الأدوار الهزلية.

وأهمس في أذن أبطال الفرقة: أخلفتم ما عهدناه فيكم من مراعاة الإعراب في هذه المرة، وأنتم تؤدون اللغة العربية أداء جميلا من حيث التمثيل والإلقاء، ولكن حذار من غضب سبويه! وأخص بالذكر سعيد أبو بكر ونعيمة وصفي، فحرام أن يشوبا كفايتهما الفنية العظيمة بهذا الخطأ. .

ماذا تغني أم كلثوم؟

أصدر رفعة رئيس الوزراء قراراً بإلغاء الحفلة الغنائية التي كان مقرراً أن تحيها الآنسة أم كلثوم بالنادي الأهلي مساء يوم الخميس الماضي، وذلك رعاية لشعور شهداء منطقة القنال. وقد صدر القرار على أثر برقيات أرسلت من مختلف بلاد القطر للمطالبة بإلغاء هذه الحفلة.

ولا شك أننا جميعاً نشعر بالأسى لفقد أولئك الضحايا، وليس للهو والمباهج مكان مع هذا الشعور. وقد صدر قرار رفعة رئيس الحكومة وصدرت تلك البرقيات، معبرة عما يخالج نفوس الجميع.

ولكن لي وقفة في هذا الموضوع إزاء فن الموسيقى والغناء وهل هو لهو كله لا يناسب إلا حال البهجة والمرح؟

ننظر أولاً في واقع الأمر. ماذا كانت ستغني أم كلثوم في هذه الحفلة؟ نشرت أبيات من شعر شوقي قيل إنها أغنية جديدة أعدتها أم كلثوم للغناء في حفلة الموسم الجديد، وهي من نوع التهويمات التي جرت مطربتنا الكبيرة على جمعها من شعر شوقي والخيام معرضة عن واقع الحياة الذي يجري حولنا. فكان المتوقع أن تغني هذه الأبيات، إلى أغنيات أخرى عن العشاق والذي (بصالح في روحه!)

وعلى ذلك لم ير الناس ولم تر الحكومة من اللائق أن تغني أم كلثوم على ذلك النحو المألوف في هذا الظرف. ولا يسوغ هذا الغناء ما قيل عن تبرعها بإيراد الحفلة لصالح أسر الشهداء، لأن الأساس العمل المناسب لا ما يجنى منه.

أقول ليس من اللائق أن يغني ذلك الغناء في هذا الظرف، ولكني لا أذهب مع القائلين بأنه لا يناسب الغناء. فالغناء والموسيقى يعبران عن كل حال ويناسبان كل ظرف، ولكن المدار

ص: 33

على الطريقة والمادة التي تغنى. ومن البداهة أن هذا الفن - إذا أحسن استخدامه وتوجيهه - يقوي الأرواح ويغذي المشاعر الوطنية، فمن الإطالة المملة أن أفيض في هذا الأمر المفروغ منه، وحسبي أن أشير إلى ما كان يصنعه العرب من اصطحاب نسائهم في الحروب ينشدن للأبطال ويقوين عزائمهم، وأن أذكر أثر (شوبان) في بعث أمته بألحانه وبما كان يكسبه بعزفها من المال ويرسله إلى أحرار وطنه كي يستعينوا به في العمل على تحرير بلادهم.

ومالي أذهب بعيداً وأم كلثوم نفسها تعلم أن (دنانير) كانت تغني على أطلال البرامكة. .

فلو أن أم كلثوم اختارت قطعة لشاعر من وحي الحالة الحاضرة وأعدتها للغناء في هذه الحفلة وتبرعت بإيرادها كما قيل، لكان ذلك عملاً مشكوراً منها، ومشاركة من الفن في الجهاد الوطني. . وما أظن أن أحد كان يعترض عليها أو يحتج على الغناء.

عباس خضر

ص: 34

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

إلى الدكتور زكي نجيب محمود:

عندما فرغت من قراءة مقالك الثائر على كتابي الثائر، ذلك المقال الذي طلعت به على الناس منذ قريب على صفحات (الثقافة) ارتسمت على شفتي ابتسامة عابرة. . . أول معانيها أنني أحب أن أنصف الحقيقة مهما كان طعمها مر المذاق بالنسبة إلى الآخرين، وسأنصفك دائماً سواء لقيتك بالرفق والهوادة أم لقيتك بالعنف الذي لا يلين! وأرجو أن يتسع صدرك لثورتي كما اتسع صدري لثورتك، لأن المشكلة الكبرى التي تقوم بيننا ويجب أن ينفذ إلى أغوارها القراء، هي أن يعرفوا على التحقيق أي ثائر أنا وأي ثائر أنت!

أنت يا صديقي ثائر علي، وثائر على نفسك، وثائر على غيري وغيرك من شيوخ الأدب وشبابه، لا تكاد تعترف بأن لنا جميعاً في محيط الأدب والفن ذرة من الأصالة الخالقة. . ترى هل أنت هنا ثائر أصيل؟ لا أظن! بل إن ثورتك هذه لتجعلني أعبر الآماد والأبعاد، وأطوي السنين والأيام، وأرتد على جناح الخيال إلى ذلك الماضي البعيد، الماضي الذي يذكرني بطفولتي الثائرة. . لقد كنت في ذلك الحين طفلاً ساخطاً على كل أمر من الأمور، ساخطاً على كل وضع من الأوضاع، لا أكاد أرضى عن شيء، ولا أكاد أقبل على طعام، ولا أكاد أترك طفلاً من الأطفال بغير اعتداء! يقدمون إلي أبهى الثياب فأقول لهم ليس عندكم ما يلبس، ويعرضون علي أشهى الأطعمة فأقول لهم ليس عندكم ما يؤكل، ويقبل علي الأصدقاء الصغار فأصفع هذا وأركل ذاك، ومنطق التبرير لهذا العدوان العجيب أنهم (جميعاً) لا يستحقون مني أي اعتراف بالجميل. . كنت أفعل هذا كله وما هو أكثر منه فإذا اعترض علي معترض من الأهل ضربت الأرض بقدمي، ولوحت في الهواء بيدي، وبدأت عملية التحطيم في أرجاء البيت لا تبقي ولا تذر: كل ما في طريقي يجب أن يزول، وكل ما في طريقي يجب أن يدمر، ولا فرق في ثورة الطفولة مثلاً بين لوحة فنية وبين آنية زجاجية، لأن منطق الطفولة لا يعترف بقيم الأشياء، فهي في محيط إدراكه القاصر وأمام ناظريه سواء!!

ص: 35

ودارت عجلة الزمن وأصبح الطفل شاباً. . شاباً ثائراً أيضاً! ولكن ثورة اليوم قد تغيرت عن ثورة الأمس: غيرها طول التجربة، واتساع الأفق، واكتمال الوعي، سواء في شؤون الأدب أو في أمور الحياة. . ويتذكر الشاب الثار طفولته الثائرة فلا يستطيع أن يمنع ابتسامة عابرة من أن ترتسم على شفتيه: أحقاً لم يكن في بيته ما يستحق أن يؤكل، ولا عند أهله ما يستحق أن يلبس، ولا بين أصدقائه الصغار من يستحق عطفه وحبه ورضاه؟! ويقتنع الشاب الثائر أن ثورة طفولته كانت عمياء لا تبصر، وغافلة لا تعي، وذاهلة لا تفرق. لقد كان في فوره غضبه يحطم (كل) الأشياء وكان (بعضها) يستحق البقاء، وكان في وقدا سخطه يعمد إلى تكدير (الجميع) وكان (بعضهم) يستحق التقدير، وقل مثل ذلك عن موقفه من أنواع الثياب وألوان الطعام!

وبمثل هذا الإدراك السليم نظر الشاب الثائر إلى أدبنا المصري وثار عليه. . ثار عليه في (أكثر) حالاته ولم يثر عليه في (كل) حالاته، لأنه أراد لثورته أن تكون عادلة لا ظالمة، ومنصفة لا مجحفة، ورزينة متأنية لا يفسد من رزانتها تهور ولا يشوه من أناتها اندفاع؛ حين آمن بعد طول التجربة واتساع الأفق واكتمال الوعي، أن هناك فارقاً كبيراً بين ثورة الرجولة وثورة الطفولة!!

إنك يا صديقي - وأرجو مرة أخرى أن يتسع لي صدرك - لا تزال تمثل تلك الثورة الطفلة التي عرفتها أنا في ذلك الماضي البعيد. . وإذا كان هناك فارق بيني وبينك، فهو أنني قد ودعت ذلك العهد الغابر وأنك لا تزال تعيش فيه، على الرغم من أنني قد تخطيت اليوم حدود الثلاثين وأنك قد تخطيت بالأمس حدود الأربعين. . إنني لا أريد أن أنال منك بشيء من السخرية أو بشيء من التجريح، وإنما أريد صادقاً أن أقدم ثورتي وثورتك على حقيقتهما إلى الناس، ليعرفوا كما قلت لك أي ثائر أنا وأي ثائر أنت!

لقد قلت في مقدمة كتابي الثائر الذي تفضلت مشكوراً فكتبت عنه: (لقد نظرت إلى أدبنا فوجدته في أكثر حالاته أدب المحاكاة الناقلة لا أدب الأصالة الخالقة، أدب الترديد والتقليد لا أدب الإبداع والتجديد؛ ليس له طابع خاص وليست له شخصية مستقلة، وإنما ضاع طابعه واختفت شخصيته في زحمة الجلوس إلى موائد الغير بغية الاقتباس من شتى الطعوم والألوان. . إنني أتحدث هنا عن أدبنا المصري في نطاق الدراسة الأدبية والنقدية؛ الدراسة

ص: 36

التي تضع تحت المجهر نظرية في الأدب أو مشكلة في الفن، أو شخصية كان لها في محيط الفكر الإنساني مكان ملحوظ)!

ولقد قلت أنت في مقالك الثائر معقباً على هذه الكلمات: (وهو يقول هذا الكلام الجميل مقصوراً على الأدب، وأقوله أنا مطلقاً بغير قيد؛ فليس في حياتنا الفكرية كلها ذرة من الأصالة الخالقة، فلا العالم يكشف كشفاً جديداً ولا الأديب يخلق خلقاً جديداً، وإني لأنظر إلى تاريخنا وأعجب كيف استحالت الرءوس عندنا إلى جماجم خاوية، تنفذ إلى أجوافها أصداء غامضة مما يقوله سوانا، فتتردد الأصداء في جنبات الجماجم لتخرج على الألسنة والأقلام هشيماً هو أقرب إلى فضلات النفاية)!

بماذا يخرج القراء من كلماتي وكلماتك؟ إنهم يخرجون من كلمات الثائر الأول بأنه لا يريد أن يحطم في طريقه كل شيء، ويخرجون من كلمات الثائر الآخر بأنه يريد أن يحطم في طريقه كل شيء، وشتان ما بين الثورتين من فروق. . عندي أنا أن في الأدب المصري أشياء (قليلة) يجب أن تبقى لأني أضن بها على التحطيم والتضمير، وعندك أنت أن هذا الأدب (كله) لا يستحق نعمة البقاء لأنه يفتقر إلى عنصر الخلق والتجديد. إن ثورتي تريد أن تفرق بين ما يجب أن نحتفظ به في أيدينا وما يجب أن يلقى به إلى عرض الطريق، ولكن ثورتك لا تريد أن تفرق بين هذا وذاك، وسيان في منطقها الساخط المتذمر إنتاج يشع منه النبض والحقوق، وإنتاج يشيع فيه الهمود والجمود. . أنت ثائر على أدب الشيوخ وأنا والله أكثر منك ثورة، ولكنني لا أحب لثورتك أن تذكرني بطفولتي الثائرة، يوم أن كنت أضرب الأرض بقدمي وألوح في الهواء بيدي، وأملأ أرجاء البيت صراخاً وأقول لأهله: ليس عندكم يا من تجهلون فنون الطهي شيء يؤكل على الإطلاق. . لا يا سيدي إنني إذا ثرت على أدب الشيوخ فلن أستطيع أن أقول لهم ليس عندكم ما يقرأ في مجال الخلق والتجديد سواءاً أكان الخلق متصلاً بفكرة من الأفكار أو بشخصية من الشخصيات، أم كان التجديد ممثلاً في منهج من مناهج البحث أو طريقة من طرائق الدراسة، لأن عند العقاد كتاب (ابن الرومي) في محيط الدراسة الأدبية والنقدية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى رجل كتوفيق الحكيم، لأن عنده (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) و (سليمان الحكيم) في محيط أدب القصة والمسرحية، وأستطيع أن أذكر هنا (الأيام) لطه حسين، وفي معرض

ص: 37

أدب المقالة والبحث (أصول الأدب) للزيات، و (فن القول) لأمين الخولي في مجال البلاغة التجديدية، و (حياتي) لأحمد أمين في ميدان أدب التراجم الذاتية، و (صقر قريش) لعلي أدهم في نطاق الدراسة التي تمزج بين الأدب والتاريخ. . هذا عن الأحياء، أما عن الذاهبين فأستطيع أيضاً أن أذكر (إبراهيم الكاتب) للمازني، وأن أخفض قلمي لأحمد شوقي في كثير من أعماله الفنية!

وأنت ساخط على أدب الشباب وأنا والله أشد منك سخطاً، ولكن في أدب الشباب أشياء لا أستطيع (على قلتها) أن ألغيها كما ألغيتها أنت، خضوعاً لمنطق السخط العام أو لمبدأ الثورة العاصفة التي يطيب لها الهجوم وهي معصوبة العينين. . ترى هل قرأت في مجال الدراسة الأدبية والنقدية (نماذج فنية) لأنور المعداوي، و (التصوير الفني في القرآن) لسيد قطب، وفي مجال القصة الطويلة والقصيرة (بداية ونهاية) لنجيب محفوظ و (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي، وفي مجال الشعر الفني (أين المفر) لمحمود حسن إسماعيل، وفي المجال نفسه من إنتاج الذاهبين (الملاح التائه) و (الشوق العائد) و (أرواح وأشباح) لعلي محمود طه؟ أشك في أنك قد قرأت لهؤلاء، ولقد بدأت القائمة باسمي لغرض خاص. . هو أن أجعل كل قارئ يغرق في الضحك ويخبط كفاً بكف، حين أقول له إنك لم تقرأ كتابي مع أنك قد كتبت عنه افتتاحية (الثقافة)! ومرة ثالثة أو رابعة أرجو أن يتسع صدرك لثورتي كما اتسع صدري لثورتك، وأن تثق كل الثقة من أنني لا أقصد إلى النيل منك بشيء من السخرية أو بشيء من التجريح!!

لقد أكدت لقرائك أنك قرأت كتابي حرفاً حرفاً، وأنا أؤكد لهم أنك لم تقرأ منه غير المقدمة ثم أعقبتها بمقال أو مقالين، ثم أكملت القراءة في (الفهرس) كما يفعل الكثيرون في هذه الأيام. . أتريد مني دليلاً على صدق ما أقول؟ إن الدليلالذي لا يدفع هو أنك لم تناقش فصوله نقاشاً (موضوعياً) كما كنت أنتظر من أستاذ في الجامعة! كل ما فعلته هو أنك هاجمت الكتاب وصاحبه هجوماً عنيفاً ختمته بهذه الكلمات:(لا، لا تصدقوا الأستاذ المعداوي في ثورته، إنه ليس بالثائر كما رجونا لشبابه الفتي الطموح أن يكون، إنه لا يزال يسير على النهج الذي لابد من الثورة الحقيقية على أسسه وأوضاعه؛ إنه لا (يخلق) جديداً على نحو ما يخلق الأدباء الفجول؛ إنه لا يزال - مثلنا - عبداً من العبيد الذين

ص: 38

يقنعون بما يملى عليهم من خارج نفوسهم)!

لقد كنت أنتظر منك يا صديقي - وأنت الأستاذ الجامعي - أن تناقشني نقاشاً (موضوعياً) حتى يستقيم لك منطق النتائج في ضوء المقدمات. . كنت أنتظر منك مثلاً أن تقول لي: تعال يا أخي، لقد كتبت عن مشكلة الفن والقيود، وعن مشكلة الفن والحياة، وعن مشكلة الأداء النفسي في الشعر، وعن نشأة العقيدة الإلهية، وعن موقف العرب من التراجيديا الإغريقية، وعن الفن الإنساني، وعن أدب الاعترافات، وعن العبقرية والحرمان، وعن انحراف المواهب، وعن الواقعية في القصة؛ وعن أدب التراجم الذاتية، وعن برناردشو، ولورد بايرون، ولن بوتانج، وبلزاك، ودستويفسكي، ومرجريت ميتشل، وبيكاسو، وأبي العلاء، وتوفيق الحكيم، وعلي محمود طه، والمازني، وغير ذلك من المشكلات الفنية والشخصيات الأدبية. . فأين هو الجديد الذي أتيت به، وأين هو الخلق الذي انتهيت إليه، وأين هو خط الاتجاه الفكري الذي قلت لنا عنه إنه ينبذ الترديد والتقليد؟!

لقد كنت أنتظر منك أن تلقاني بمثل هذا التكذيب، وأن تواجهني بالدليل بعد الدليل، على أنني كنت في هذا كله ببغاء تردد؛ أو بوقاً ينقل، أو فكراً يعتمد في تحليقاته على أقوال الآخرين. . لم تستطع أن تقدم على مثل هذا الأمر الذي يخرج عن حدود طاقتك الفكرية والجدلية، وإنما استطعت أن تضرب الأرض بقدميك، وأن تلوح في الهواء بيديك، وأن تملأ صفحات (الثقافة) صراخاً لتقول لي:(اسمح لي يا صديقي أن أكذبك فيما تزعمه لنفسك من خلق ينبذ الترديد والتقليد؛ لأنني استعرضت فصول الكتاب بعد أن زال عني سحر أسلوبها، لأجدها - في أغلبها - تعليقاً على رجل أو كتاب، وهذا هو ما أسميه بفتات الموائد التي قنعنا بها قناعة الأذلاء)!

عيبك يا صديقي زكي، عيبك الخطير، هو أنك لا تؤمن بنفسك. . والرجل الذي لا يؤمن بنفسه لا يستطيع أن يؤمن بغيره، لأنه يضع منظاره (العاجز) على عينيه، ثم ينظر من وراء ضبابه إلى الآخرين، ثم لا يراهم إلا صوراً مكررة من شخصيته. . ولهذا، تشعر دائماً أنك عبد وأن كل من تراهم عبيد، وأنك ذليل وأن كل من تعرفهم أذلاء؛ ثم تثور عليهم جميعاً وتثور على نفسك، ثم تبدأ عملية التحطيم التي حدثتك عنها في طفولتي الثائرة! صدقني أنني مشفق عليك من هذه الثورة العاجزة التي ينقصها الإيمان بالنفس في

ص: 39

كثير من الأحيان. . إنك تهاجم الشيوخ، وتتنكر لهم، ولا تكاد تعترف بوجودهم، ومع ذلك فما أكثر ما واجهت الجمهور القارئ مستنداً إلى ذراع أحدهم لتستطيع في ميدان الأدب أن تقف على قدميك، حتى لقد كنت تحرص كل الحرص على أن تضع اسمه على كتبك متبوعاً باسمك، لتضمن لتلك الكتب شيئاً من الذيوع والانتشار. . لو كنت ثائراً قادراً لواجهت جمهورك القارئ دائماً وعلى فمك هذه العبارة: هاأنذا وحدي! ولكنك كنت الثائر العاجز الذي طالما واجهت الجمهور قائلاً له: هاأنذا. . مع أحمد أمين! آه من هذه العبودية التي تسري في دمك وتتخيل أنها من صفات غيرك، وآه من تلك الذلة التي ترسب في أعماقك وتتوهم أنه من سمات الآخرين!

إنني يا صديقي لست مثلك عبداً من العبيد، لأنني أومن بنفسي إلى أبعد حدود الإيمان. وإن الحرية لتلهب مني دماء القلب وعصارة الفكر ومداد القلم! أومن بنفسي إلى الحد الذي أشعر معه بأن كل كلمة أكتبها ستشق طريقها إلى النفوس والعقول، وستأخذ نصيبها من رضا الأقلام وثقة القراء. . ولست من طرازك حين تقول لأحد قرائك في العدد (667) من الثقافة. (أما أنك لم تكن قد سمعت صوتي بعد، فذلك ما لا أعجب له، لأني لم أكتب سطراً واحداً منذ بدأت الكتابة وأنا على يقين من أنه سيلتقي بعيني قارئ، فإن صرير قلمي - كما قلت في مقدمة كتابي أدب المقالة - لا يكاد يبلغ سمع صاحبه)!

إنني لا أطيق أن أواجه قرائي بمثل هذه الكلمات، لأنني أشعر شعوراً عميقاً أن الإيمان بالنفس - ذلك الإيمان الذي لا يبلغ حد الغرور - هو أول دعامة من دعائم النجاح. . كيف تصفني يا صديقي بعد ذلك بأنني مثلكم جميعاً عبد من العبيد، أولئك الذين يقنعون بفتات الموائد قناعة الأذلاء؟! إنني لأتحداك أن تذكر لي اسماً واحداً من أسماء الشيوخ قد أخذ بيدي في دنيا الأدب أو قدمني يوماً إلى القراء، وإن كتابي ليتحداك أن تثبت للناس أن فصلاً من فصوله الباحثة أو الناقدة قد كتب دون أن يحمل بين طياته رأياً جديداً، أو فكرة مبتكرة، أو تصحيحاً لوضع من الأوضاع الزائفة في محيط الأدب والنقد هنا وهناك، أو أنه يقتفي خطوات غيره في منهج التفكير وطريقة التعبير. . وعليك أن تقبل التحدي إذا كنت جاداً في ذلك (الكلام) الذي طالعت به الناس على صفحات (الثقافة)، ومعذرة إذا قلت (الكلام) ولم أقل (النقد)، لأن بين النقد والكلام فروقاً يعرفها الأدباء!!

ص: 40

ثم تقول عن كتابي إنه مجموعة مقالات، وإن المقالة في الأعم الأغلب حيلة العاجز، حيلة من لا يسعفه الخيال القوي والخلق البديع؟! صدقني إن الكلمات لا تستطيع أن تعبر عن أسفي حين أنظر إلى فهم الأستاذ (الجامعي) لحقيقة الأدب وجوهر الفن، فأراه وقد انتهى إلى مثل هذا الرأي العجيب! من قال لك إن الأدب الحق يقاس بالكم وإن الفن الأصيل يوزن بعدد الصفحات؟ أتريد أن تنكر أدب المقالة لأن الحيز الذي تشغله صغير، وألا تعترف بغير أدب البحث لأن الحيز الذي يشغله كبير؟ ما أحوجنا إذن إلى موازين التجار لنزن الأدب والفن بالرطل والقنطار. . إن المسألة يا سيدي ليست مسألة مقالة ولا مسألة كتاب، وإنما هي مسألة الفكرة المبتكرة التي تغير وضعاً من أوضاع الأدب أو تقيم الدراسة على أساس جديد، سواء أكانت تلك الفكرة موزعة على ثلاث صفحات تنتج المقالة، أم كانت موزعة على مائتي صفحة تنتج الكتاب، وزدها إلى الألف إذا شئت فلن تقدم أو تؤخر في حقيقة هذا التقدير!!

وتسألني ماذا كنت أكتب لو لم يخلق الله برناردشو، ولورد بايرون، ومدام ريكامبيه، وتوفيق الحكيم، والمازني، ولن بوتانج، وبيكاسو، وأوسكار وايلد؟! اسمح لي أن أقول لك إن هذا السؤال مضحك ومقلق. . ترى هل نسيت أن وظيفتي الفنية هي النقد، وأنني مسئول بحكم هذه الوظيفة أن أكتب عن هؤلاء؟ لقد بقي عليك أن تسأل الفلاح ماذا كان يفعل لو لم يخلق الله الأرض؟ فإذا أجابك بأنه سيعمل بحاراً سألته مرة أخرى وماذا كان يفعل لو لم يخلق الله البحر؟! نعم وهذا هو المنطق. . المنطق الذي يطالعنا به صاحب (المنطق الوضعي) في ثقة واطمئنان!!

إنني أخشى أن أقول لمنطقك في معرض الجواب: لو لم يخلق الله هؤلاء لقدمت إليك (مذهب الأداء النفسي) في نقد الفنون عامة ونقد الشعر على الأخص، وهو المذهب الذي سأسجل به أول محاولة مذهبية في الأدب المصري، في كتابي المقبل الذي سيكون (بحثاً) لا مجموعة مقالات. . أخشى أن أقول لمنطقك هذا فيقول لي منطقك: وماذا كنت تكتب لو لم يخلق الله الشعر وبقية الفنون؟!

صدقني مرة رابعة أو خامسة أنني لا أريد أن أنال منك بشيء من السخرية أو بشيء من التجريح، وإنما أردت أن أقول للقراء إن سؤالك هذا مضحك ومقلق. . مضحك لأنه أقرب

ص: 41

إلى الهزل منه إلى الجد، ومقلق لأنني أخشى على هؤلاء (المساكين) الذين يتلقون عنك دروس المنطق في الجامعة، أخشى عليهم أن يواجهوا الحياة والناس بمثل هذا المنطق (السليم)!

أما أنك تخشى على القراء من كتابي لأنه على حد تعبيرك (سيشدهم في فهم الأدب إلى الوراء)، فأحب أن أطمئنك إلى أن عقول القراء بخير. . والدليل على ذلك أنهم قد قرأوا أكثر فصول هذا الكتاب من قبل على صفحات (الرسالة)، ومع ذلك فقد أقبلوا عليه إقبالاً أخجل القلم في يدي، القلم الذي ظلمهم يوماً حين نعتهم بأنهم لا يقرأون! إن كتابي لا يعلم (الإنشاء) لتلاميذ المدارس، ولكنه يفتح الآفاق للدارسين وينير الطريق للسالكين. . وحسبك أنني سأهدي إليك في الغد القريب نسخة أخرى من طبعته الثانية!!

أنور المعداوي

ص: 42

‌الكتب

من وحي البلد الأمين

163 صفحة من القطع المتوسط - الناشر مكتبة الخانجي

تأليف الشيخ محمد الطيب النجار

للدكتور محمد يوسف موسى

هذا هو الكتاب الثاني الذي نقدمه في هذا المكان من الرسالة الغراء، رسالة الثقافة الرفيعة بين الناطقين بالضاد، ومؤلفه هو الأستاذ الشيخ محمد الطيب النجار، والكتاب الأول هو:(الموالي في العصر الأموي) وقد نال به درجة العالمية مع لقب أستاذ في التاريخ الإسلامي من قسم تخصص الأستاذية بالأزهر.

والأستاذ النجار من علماء الأزهر النابهين، وقد ضم إلى التواضع المطبوع الذي حببه إلى كل إخوانه وعار فيه، العلم الجم وحبه الدرس والتماس المزيد من العرفان، فكان بذا وذاك قدوة طيبة لإخوانه الشبان العاملين على نهضة الأزهر الحقة.

هذا، وللأزهر منذ سنوات مبعوثون إلى كثير من البلاد الإسلامية، يحملون إليها رسالته، ويفيضون فيها من علمه وثقافته تمام الإدراك أن رسالة المبعوث الأزهري إلى أي بلد إسلامي ليست فقط تدريس العلم الذي أوفد من أجله، بل هي قبل كل شيء عامل من عوامل الإحياء والبعث للعالم الإسلامي الذي طال نومه، حتى ليكاد يكون موتاً، وأن يدرس البلد الذي يحل به ويكتب عنه كتاباً يكون مرجعاً عنه في عامة أحواله كما يعمل الغربيون حين يتفرقون في بلاد الشرق باحثين منقبين دارسين.

ويسرنا أن نقرر هنا بأن الأستاذ الشيخ النجار قد فهم رسالته على هذا الوجه، وقد حقق جانباً كبيراً منها بكتابه هذا الكتاب الذي نقدمه الآن للقراء.

والكتاب مجموعة من الأحاديث والمقالات الاجتماعية التاريخية الإسلامية، وكلها تتسم بسعة النقد والتوجيه، وكلها يهدف إلى التمكين للإيمان في القلوب وتحبيب الفضيلة إلى النفوس وإصلاح المجتمع الإسلامي. ويلمس القارئ، وهو يتنقل في الكتاب من موضوع إلى موضوع، أن الكاتب يكتب من كل قلبه، فهو لذا ينفعل ويثور ثورة المصلح الصادق،

ص: 43

حين يدعو الأمر إلى الانفعال والثورة.

ولنسمع له حين يتحدث (85 - 86) عن الذين يقومون بما أمر الله من شعائر لا تكلفهم شيئاً من المال، فإذا جاء من يطالبهم ببعض ما عليهم للفقير ولوا فرارا:

(وترى الرجل منهم وهو يمشي على الذهب، ويتبختر ويختال بين الحرير والفراش الوثير، ويبعثر الأموال لإشباع الشهوات الدنيا، ومع ذلك يضن بالمال اليسير على البائس الفقير؛ وإذا ما حاولت أن تستصرخ همته الوانية نحو إغاثة المعوزين، أجابك في تبجيح واستهتار (وما من دابة إلا على الله رزقها) وكأنما يظن أولئك السفهاء أن الله سينزل على الفقراء مائدة من السماء! فيا للعجب، ويا لله لهذا المنطق السقيم والطبع الخبيث اللئيم!).

ونرى الكاتب الثائر في أمثال هذا الموطن، يعود إلى طبعه من الأناة والتريث والهدوء حين يتناول موضوعاً من الموضوعات التاريخية، فيبحثه من أصوله بحث العالم العميق النظرة، ومن باب التمثيل لهذا، نذكر من حديثه عن توزيع العطاء بين المسلمين في عهد الرسول والخلفاء الراشدين (ص76 وما بعدها) إشارته إلى نظرية أبي بكر في التسوية بين المسلمين جميعاً، ورده على من كان يؤثر تفضيل أهل الفضل والسابقة في الإسلام بقوله:

(أما ما ذكرتم بين الفضل والسوابق والقدم، فما اعرفني بذلك، وغنما ذلك شيء ثوابه على الله جل ثناؤه. وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة)، ثم يعقب بنظرية الفاروق التي تقوم على تفضيل أهل السابقة في الإسلام، وفي هذا يقول قولته المأثورة:(لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه)، وقد سار على هذه النظرية عثمان وعلي بعد الفاروق رضوان الله عليهم أجمعين.

على أني بعد هذا كله، أختلف تماماً مع الأستاذ الكاتب في بعض ما ذكره في موضوع: بين العلماء والملوك ص91 وما بعدها، إنه يقرر أن علماء الدين ورجاله قائمون حق القيام بما عليهم، ما داموا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيما يكتبون ويتحدثون؛ وما داموا ليس لهم شيء من السلطان التشريعي والتنفيذي. لا، يا أخي!

يستطيع العلماء ورجال الدين أن يغيروا إلى حد كبير جداً مما نحن عليه من آثام دينية ومظالم اجتماعية؛ لو تجردوا من طلب الدنيا وآثروا ما عند الله على ما عند أولي الأمر وأصحاب الجاه من الدنيا وزينتها؛ ولنا فيما صنع ويصنع آية الله الكاشاني في إيران دليل

ص: 44

أي دليل! بل لنا فيما صنع بعض أسلافنا من رجالات الأزهر الذين لم يبعد بهم الزمن، الدليل الحاسم على قوة أثر الدين ورجاله إن تجردوا حقاً لله وباعوا أنفسهم في سبيله ابتغاء رضوانه!

وبعد! فالكتاب أثر طيب للكاتب الفاضل؛ يحسب له عند الله وعند الأمة؛ وهو دليل على فهمه لرسالته وعلى عمله للخير والإصلاح، وهو مع هذا ينضح بالإخلاص وحب الخير والعمل له، ولا عجب فهو من وحي البلد الأمين!

نفع الله به وبكاتبه، وجزاه خير الجزاء.

محمد يوسف موسى

أستاذ المدرسة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول

الصلاة وطرق التقدم الثلاثة

تأليف: مولانا محمد علي - بلاهور - باكستان

للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر

إن الشرق في حاجة إلى موقظات روحية تدفعه إلى الانتباه من غفوته التي أذهلته عن وجوده؛ فعاش في كنف المستعمر، ورضى عن حياته المهينة، وقنع بالدون حتى آده الاستعمار، وأذاه الاستعباد، وكادت أن تئده الذلة!

وليس أجمل من الاتجاه إلى الروح في إصلاح ما أشكل من أمور الشرق حتى يعرف القوم مدى صلتهم بخالقهم، وهو المعز المذل القوي المتين.

ولقد حمل إلى البريد من بغداد رسالة صغيرة في مرأى العين، لكنها كبيرة قيمة في تبصر البصيرة، بعث بها مشكوراً (السيد تصدق حسين القادري)؛ فأثار انتباهي جمال وضعها، ودقة تحريرها، ومتانة تركيزها؛ فهي تعرض الصلاة - للعاصين - عرضاً جليلاً، فيه اجتذاب للقلوب النائية عن المصلحة الروحية بينهم وبين الخالق، لأن ثمة بدعة عجيبة ابتدعها المارقون في أن الاتصال القلبي ذو كفاء عن الصلاة بأقوالها وأفعالها، حتى انصرف من أوتوا ظاهراً من العلم وقد تبطنوا الجهالة، وساروا بطانة الشيطان!

ص: 45

ومن المفيد أن نعرض إلى ما جاء في هذه الرسالة، فقد وردت في ثناياها قواعد في التربية الروحية يمكن أن تفيد أولئك المتكبرين على خالقهم، فقد قال المؤلف:(إن الصلاة تعتبر علاجاً شاملاً لكل شرور البشر) ويعلل هذا بقوله: (في الصلاة كل الفضائل والوسائل لبلوغ الغاية العالية حيث تمضي الأفعال والأقوال جنب جنب لمعاونة قوة الإيمان وللشعور بوجود الله). ويقول: (يستحيل تقدم الجماعة دون تقدم الفرد) وهذه قاعدة سليمة في الحكم على الشعوب المرباة تربية بعيدة عن التقليد، والاندفاع، وعدم احترام التقليد الأصيل في بناء الحياة، و (إن الإسلام يهتم بتقدم الذات الإنسانية الحقيقية).

ونرى المؤلف أن الخطوة الأولى في تقدم الإنسان الروحي (هي التجرد من أي فعل رديء) وتزكية النفس لا تكون إلا بإبعادها عن أدران الظلم، والقسوة، والكذب والمخادعة، وجماع ما يطارد هذه الأدران في (القتال المقدس ضد الشيطان) ويدفع الرقي الروحي إلى الذات العلية إحساس عميق في النفس الآمنة المؤمنة الأمينة، هذا الإحساس الذي يشعر المرء بأنه كلما زاد سجوده لربه زاد سمواً روحياً وخلقياً.

وفي الرسالة لمحات مشرقة رائعة على وجازة ألفاظها؛ فالمؤلف يقول: (إن العظمة المادية شيء سهل، ولكن الرفعة الروحية شيء شاق)، وترمز نهاية الصلاة إلى النجاح الفردي (رب اجعلني مقيم الصلاة)، كما ترمز إلى رجاء النجاح الجماعي (اللهم اغفر لي، ولوالدي، وللمؤمنين).

ويعرض مولانا المؤلف إلى قوله تعالى: (إياك نعبد)؛ ثم يعرض لعبادة المسلمين الآلية، ويعرض بالسلوك المتنافي مع أخذ العهد عند الوقوف بين يدي الخالق ويتساءل:(أيكفي أن تؤدى الفريضة في كل يوم؛ ثم نستتبع بما لا يتفق مع أوامر الله وناهيه؟).

وبعد أن يحقق طرق التقدم الفردي، والجماعي، يتجه إلى التقدم الثالث وهو (نشر الإسلام) ويرى أن التقدمين الأولين لا ينفعان إذا لم يؤديا إلى العمل على إذاعة العقيدة الصحيحة في مدلولها السليم.

هذه نظرة فيما جاء بتلك الرسالة الجديرة بالتقدير، ولا ننس التنويه بهذا الشعور الطيب البادي من السيد تصدق القادري؛ فقد دل على تقديره لمعنى التبادل الثقافي بين أبناء العروبة التي نرجو لها الحرية الكاملة في ظل الإسلام وتعاليمه القويمة!

ص: 46

بور سعيد

أحمد عبد اللطيف بدر

المدرس بالثانوية

ص: 47

‌البريد الأدبي

مدينة بلا مكتبة.!

يقول الأخ الأستاذ الفاضل عباس خضر في كشكوله الأسبوعي في العدد الصادر في 15 أكتوبر سنة 1951 من الرسالة الغراء إن مجلس نقابة ممثلي المسرح والسينما قرر أخيراً إنشاء مكتبة للنقابة. . ثم يقول: (. . والغريب في هذا الخبر أن النقابة ليس لها مكتبة إلى الآن. .)

فإذا كان خلو نقابة ممثلي المسرح والسينما - وهي المنشأة في قلب القاهرة، العاصمة الكبيرة الزاخرة إلى جانب دار الكتب الحكومية العامرة بمختلف المخطوطات القديمة وآلاف المطبوعات المؤلفة بمختلف اللغات - قد أدهش الأخ الأستاذ الفاضل، فما قوله - دام فضله - في خلو مدينة عظيمة بأسرها كمدينة بور سعيد، ثالث مدن القطر وأهم واكبر مواني مصر على الإطلاق بعد الإسكندرية، من دار كتب أو مكتبة عامة.؟

إنني أرى - إذ يقف حضرته على هذه الحقيقة المرة، التي ربما لم يقف عليها من قبل - أنه أولى به أن ينتابه الدهش والاستغراب أكثر مما ينتابه من خلو دار نقابة من مكتبة خاصة ينحصر نفعها في أعضائها.!

إنه والله لمن العار حقاً أن تظل هذه المدينة العظيمة المرموقة التي تشرف على أكبر وأهم ممر بحري دولي في العالم، مفتقرة كأية قرية مهملة في قلب البلاد، إلى مكتبة أو شبه مكتبة أو دار كتب إلى الآن وفي هذا العصر الذري.!

نعم، إنه لمن العار على كبراء هذه المدينة المنكودة وأعيانها وأثريائها ومن بيدهم أمورها أن تفتقد الطوائف المثقفة فيها دار كتب وقاعة محاضرات تليقان بمقامها وبمركزها الدولي وشهرتها بين مواني العالم نتيجة للجهل المطبق المخيم على بعض العقول والإفهام. .

فمتى ينتبه من رقاد مهلك

من قد أضر بعينه هجماتها!

محمد عثمان محمد

أصحاب المعالي:

قرأت في العدد الأخير من الرسالة الغراء بحثاً قيماً للأستاذ محمد محمود زيتون بعنوان

ص: 48

(أصحاب المعالي) وقد أكبرت جهد الأستاذ في جمع الشواهد وشرحها والتعليق عليها مما يدل على طول باعه في الاستدلال وذوقه في الاختيار.

إلا أني وجدت بعض المآخذ فأردت التنبيه إليها.

جاء في مقال الأستاذ بيت من قصيدة معروفة لأبي تمام الطائي نسبها إلى أبي العتاهية والبيت في وصف القلم

لك القلم الأعلى الذي بشباته

يصاب من الأمر الكلى والمفاصل

إذا ارتكب الخمس اللطاف وأفرغت

فيه شعاب الفكر وهي حوافل الخ

وقد ذكر في مقاله عن قصيدة أبي الحسن الأنباريفي رثاء الوزير المصلوب أبي طاهر محمد بن بقية أن الشاعر تمنى لو كان هو المصلوب ليرثي بالقصيدة المذكورة، والحقيقة أن السلطان عضد الدولة هو الذي تمنى ذلك حينما قرأ أو سمع القصيدة وقد ذكر الأستاذ زيتون أبياتاً مختلفة للإمام علي كرم الله وجهه والثابت أن الإمام لم ينظم الشعر ترفعاً عنه للآية الكريمة. . (والشعراء يتبعهم الغاوون الخ) كما لم يؤيد قول الإمام للشعر الأستاذ الزيات في مؤلفه العظيم (تاريخ الأدب العربي) وإن جاء في عبقرية الإمام للأستاذ العقاد أبيات في آل همدان لكنها لا تؤيد قول الإمام للشعر.

ومما لاحظته على الأستاذ الكريم إيراده لبيتين لولادة بنت المستكفي لا تنم عن المعالي وبعد الهمة بل تدل على الاستهتار وعدم الحشمة حين تعطي قبلها لمن يشتهيها، وقد يشتهيها عبدها، وشتان بين قولها

أمكن عاشقي من لثم ثغري

وأعطي قبلتي من يشتهيها

وقول عائشة التيمورية

ما عاقني خجلي عن العليا ولا

سدل الخمار بلمتي ونقابي

عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت

صعب السباق مطامح الركاب

كركوك

عبد الهادي أحمد السامرائي

وسوسان أيضاً:

ص: 49

للأستاذ الشاعر كيلاني حسن سند اعتراض على كلمة (سوسان) سجله على الشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري، ورد أديب من قراء الرسالة يصحح الكلمة في البريد الأدبي وأورد أبياتاً لأبي نواس تدعيماً لذلك.

ولقد لفت نظري هذا النقاش حول الكلمة لأن أستاذنا الكبير عباس العقاد أوردها كذلك في قصيدته النونية التي يعارض بها قصيدة ابن الرومي، فإذا رجعت إلى ديوانه ص37 قرأت:

بالغصن شبهه من ليس يعوفه

وإنما هو للرائين بستان

وهل نما قط في غصن على شجر

آس وورد ونسرين وسوسان

وللأستاذ العقاد مكانه - في مجمع فؤاد - الذي يطل منه ويشرف على مترادفات اللغة واشتقاقاتها. ولذا تكون الكلمة صحيحة.

السويس

محمد عبد الرحمن

1 -

رد على تساؤل:

يسألني الأديب الفاضل عفيفي الحسيني هل يجوز وصف الله سبحانه وتعالى بالأزل والأبد بدون نسبة أي (الأزلي) و (الأبدي) وذلك في نقده لبيت من قصيدتي (النور الحائر) هو:

يا أيها الأزل المحجوب بالقدم

يا أيها الأبد المستور بالعدم

وأنا أجيب حضرته بأنه لا مانع مطلقاً من ذلك. بل ربما كان أبلغ في الدلالة على المعنى المراد. فإنك حين تقول إن فلاناً (جمال) أو (كمال) أبلغ وأعمق مما لو قلت إنه (جمالي) أو (كمالي) ففي الصيغة الأولى جعلته هو (الكلي) بعينه بينما هو في الثانية جزء من (كل). ومما قالوه قديماً وأنشده سيبويه:

لست بليلي ولكني (نهر)

لا أدلج الليل ولكن أبتكر

أما سؤال الأديب عن معنى الأزل المحجوب بالقدم مع ترادف اللفظين، أفلا يرى معي الأديب أن لله قدمه (المطلق). وأن الوجود له قدمه (النسبي). وأننا كلما دفعنا حب المعرفة إلى محاولة استجلاء ذاته المقدسة حجبه قدمه وقدم العالم عن مداركنا، ولا أحسب الأديب

ص: 50

في حاجة إلى أن أهديه إلى معنى الأبد المستور بالعدم بعد هذا الذي ذكرت. ومن ثم يتضح له أن لا غموض ولا خطأ في البيت. وأن القافية مظلومة. ظلمها عدم الروية وقصور الأناة.

2 -

بيتاق:

وددت لو لم يردا في قصيدة الأستاذ الشاعر عبد القادر الناصري (ميعاد) المنشورة بالعدد (947) حتى يظل لها مستواها الرفيع.

البيت الأول:

وظل يضرخ حتى ذاب من ألم

فؤاده وجرى من ثغره مزقا

فالصورة المتخيلة هنا تمثل إنساناً يتقيأ قلبه قطعاً دامية من (ثغره) وهي صورة كما ترى يأباها الذوق الشعري الخالص. وأرجو أن لا يتعلق الشاعر بعنصر (الإثارة الشعورية) فطرق التعبير الشعوري السليم ميسورة للملهمين.

البيت الثاني:

أوليت خالق هذا الحسن من علق

أحب يوما إذن ما ذل من عشقا

ونحن نسأل الشاعر من هو خالق هذا الحسن؟ أليس هو الله تعالى الذي يؤمن به ويقدسه كمسلم؟ إن الهبوط في هذا البيت جاء نتيجة ضعف ديني تتميز به طبقة أدبية معروفة. ما كنت أخال أن لها كل هذا التأثير في فطرة الشاعر. وبعد فعلى الشاعر المجيد سلام أخيه.

محمد مفتاح الفيتوري

ص: 51

‌القصص

اعتراف

للكاتب التشكسلوفاكي كارك كابك

للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب

تحدث الأب فوق قس سانت ماثيو قائلاً - (أما علاج النفس فأنتم تعرفون أنه علاج من أقدم ما مارسه البشر. بيد أن الكنيسة تطلق على هذا الضرب من العلاج اسم (اعتراف التطهر المقدس). فعندما تضطهد النفس، وحينما ينتابها ما يشينها فاذهب أيها الآثم إلى كرسي الاعتراف المقدس، وأطرح عن نفسك كل الأوشاب العالقة بها. إن ما يدعونه الاضطراب العصبي ليس إلا ما نسميه نحن وخز الضمير والندم على ارتكاب المعصية.

(منذ سنين مضت، في يوم من أيام الصيف، كنت متخذاً ركناً من أركان كنيستي، قابعاً فيه من عناء الحر، وقد هبت علي نسمات باردة تلطف من حدة ذلك الوهج الشديد، عندما أقبل خادم الكنيسة وأخبرني بأن هناك من يود الاعتراف.

(بطبيعة الحال، قمت فارتديت حلة الكهنوت البيضاء. ثم جلست داخل مقصورة الاعتراف. وأحضر الخادم طالب الاعتراف، فوقف أمامي خارج المقصورة التي تحجبني عنه. وأطللت عليه من نافذة المقصورة. كان رجلاً في خريف العمر يرتدي ملابس محترمة. وكان يبدو من هيئته أنه إما تاجر متجول أو وكيل شركة لبيع الأراضي. وكان شاحب الوجه، مفرط البدانة. وركع الرجل أمام المقصورة دون أن يفوه بكلمة.

وقلت أشجعه: هلم وردد معي: أنا الآثم التمس، اعترف إلى الله العظيم -

(فقاطعني الرجل قائلاً في صوت جهوري - كلا. فعندي كلام آخر أو د أن أفضي به. دعني أتحدث على طريقتي).

وفجأة، أخذ ذقنه يرتعش، وتصبب العرق من جبهته. وأخذت أنا الآخر، دون سبب ما، أشعر بإحساس غريب مخيف مقزز، لم يسبق من قبل أن انتابني مثله، إلا في ذات مرة عندما كنت حاضراً تشريح جثة، جثة كانت في حالة تامة من التعفن والانحلال. ولن أقص عليكم أيها السادة ما كانت عليه تلك الجثة.

ص: 52

(وصمت في دهشة وانزعاج - ماذا بك بحق السماء؟

(فتلعثم الرجل قائلاً - لحظة واحدة. لحظة واحدة.

(ثم ندت شفتاه عن آهة عميقة، وتمخط بصوت جهوري وأخيراً قال - إني على ما يرام الآن. حسن. منذ اثنتي عشر عاماً.

(ولن أحدثكم بما أخبرني به، فإنه من أسرار الاعتراف، فضلاً عن أنه كان حديثاً عن أفعال وحشية مخيفة تشمئز منها النفوس. مهما يكن من الأمر فإني لا أستطيع إعادة ما قاله الرجل من تفاصيل مفزعة ليس لها مثيل حتى في عالم الخيال. ودار في خلدي أن أهرب من المقصورة، أو أصم أدني عن سماع أقواله، أو أفعل شيئاً من هذا القبيل. وحشوت فمي بجزء من حلتي الكهنوتية حتى أمنع صيحة من الرعب تكاد تخرج مني. وأخيراً قال الرجل وقد تمخط في رضا وارتياح - حسن. الآن وقد انجاب عن صدري ذلك الأمر أقدم لنيافتك عظيم شكري.

(فقلت في دهشة - انتظر قليلاً. إنك لم تكفر بعد.

(فقال في غير كلفة وهو يحدجني بنظرة من خلال النافذة الصغيرة القائمة بيني وبينه - ومن تحسبني أيها الأب؟ إني لا أومن بمثل ذلك. ما جئت هنا إلا لأريح شعوري. أنت تعرف أنه عندما تنقضي علي مدة دون أن أتحدث عما اقترفته، عندئذ يتراءى لي فلا أستطيع النوم، وأعجز عن إغماض عيني. وعندما أصل إلى هذه الحالة أراني مضطراً إلى الإفضاء بكل ما في قلبي. ولهذا السبب أتيت إلى هنا، لأن هذا من صميم عملك، ولأني أعلم أنك لا بد أن تحتفظ به في سريرتك. إنه سر الاعتراف. أما الغفران فإني لا أهتم به ولا قلامة ظفر. فهو لا يجدي إذا كنت عديم الإيمان. حسن. أرجو أن تتقبل شكري الجزيل واحترامي الزائد.

(وقبل أن أدرك ما الذي حدث كان الرجل قد خرج من الكنيسة يتهادى في رضاء.

(وبعد أن انصرم ما يقرب من عام عاد الرجل إلي مرة أخرى التقى به أمام الكنيسة وقد بدا شاحب الوجه، ذليلاً في مسكنه، وتلعثم وهو يقول - هل أستطيع أن أعترف لك يا صاحب النيافة؟

(قلت - اسمع. إنك لا تستطيع الاعتراف بلا غفران. إن هناك حداً لهذا. فإذا أنت لم

ص: 53

ترغب في التكفير فإني لا أستطيع مطلقاً أن أفعل لك شيئا.

(فتنهد الرجل وقال وقد انحنى رأسه في ذله - يا إله السماوات. إن هذا نفس ما يقوله لي كل قس. ولا يوجد من أستطيع أن أعترف له، ولابد لي من الاعتراف. خبرني يا صاحب النيافة ماذا يهمك لو قلت لك مرة أخرى. . .

(وعندئذ أخذ يرتعد كما ارتعد من قبل. فصحت في دهشة وغضب.

- لماذا لا تفضي بما يجيش في صدرك إلى أي إنسان آخر؟

(فأجاب وقد قطب حاجبيه في اكتئاب - ويكون من جراء ذلك أن يشي بي.

(ثم صاح في غضب - فلتذهب إلى الجحيم.

(وغادرني وقد أفصح مظهره عن مقدار يأسه.

(ومنذ ذلك الوقت لم أره مطلقاً.

* * *

وقال الدكتور بادم المحامي: إن قصتك لم تنته بعد. ففي ذات يوم - وكان ذلك منذ بضع سنوات - حضر إلى مكتبي رجل شاحب الوجه، ناكس الرأس. وفي الواقع، لم أعر مظهره اهتماماً يذكر. وعندما طلبت منه الجلوس وسألته عن شأنه، أخذ يحدثني قائلاً - استمع إلي. إذا طلب منك أحد المترددين عليك استشارة سرية وأخبرك أنه قد ارتكب وزراً مثل. . .

فقاطعته قائلاً - إن طبيعة عملي تمنعني من استخدام سره في غير مصلحته.

فقال الرجل وقد ارتاح لحديثي: إذن فكل شيء على ما يرام. . هناك ما أود أن أفضي به إليك. منذ أربعة عشر عاماً. .

ولقد حدثني يا صاحب النيافة بمثل ما حدثك به، أخذ يفضي بمكنونات صدره وكأنه يكاد يختنق بها. وكان عرقه فياضاً، ووجهه قاتماً. وكانت عيناه مغمضتين. وبدا لي كما لو أنه قد غثيت نفسه، فصار يقذف من فمه بكل ما احتواه عقله من أسرار تقلق راحته. وأخيراً سمعته يتنهد ثم مسح شفتيه بمنديله.

وصحت قائلاً: يا إلهي! ليس في الوسع عمل أي شيء لك. . ولكن إذا أردت نصيحتي، نصيحة رجل يسديها إلى رجل مثله. .

ص: 54

فقاطعني ذلك المخلوق العجيب قائلاً في صوت أجش: كلا. أنا لا أود أية نصيحة. إني ما جئت إلا لأخبرك بما أفضيت به إليك. ثم أضاف قائلاً في لهجة خشنة - ولكن تذكر أنك لا تستطيع أن تنتفع بما حدثتك به في غير صالحي.

ثم هب واقفاً وقال في صوت هادئ النبرات - حسن - ما مقدار ما أنا مدين لك به؟

فتمتمت قائلاً: خمسون كراونا.

فأخرج الرجل خمسين ورقة نقدية، ثم حياني وخرج. وكنت أود أن أعرف عدد المحامين الذين تردد عليهم ذلك الرجل لاستشارتهم. . على أية حال لم يعد لزيارتي بعد ذلك.

وتحدث الطبيب فيتاسك قال (ومع ذلك فليس ما قلته خاتمة هذه القصة. فمنذ سنوات مضت كنت أعمل كجراح في مستشفى، عندما فحصت مريضاً شاحب الوجه بدين الجسم متورم الساقين في شكل مفرط. وكانت تنتابه التشنجات، وتضطرب أنفاسه. وفي الحق، كان في حالة فريدة من مرض برايت (مرض البول الزلالي) وكان بطبيعة الحال بعيداً عن كل أمل في الشفاء. . وعندما أقبل الليل أنبأتني الممرضة أن المريض قد داهمته نوبة تشنجية. وعندما ذهبت إليه وفحصته وجدته يجاهد في سبيل التنفس وقد تصبب منه العرق مدراراً، وجحظت عيناه رعباً. وكانت كل هذه الدلائل المخيفة تشير إلى نزع الموت.

(وقلت له - حسن. أيها الرفيق. سأحقنك وستكون بعد ذلك على ما يرام.

(فهز المريض رأسه ولهث قليلاً - دكتور أنا. . عندي ما يجب أن أفضي به إليك. . ابعد هذه المرأة.

(وكنت أود أن أحقنه بالمخدر، ولكني عندما شاهدت ما لاح في عينيه بعثت بالممرضة بعيداً، ثم قلت له - والآن أفض إلي يا بني بما تود أن تحدثني به، على ان تنام بعد ذلك.

(فتأوه الرجل وقد لاح في عينيه ثمة رعب جنوني ثم قال - يا دكتور، يا دكتور، إني لا أستطيع. . فلا زلت أشاهد ما اقترفت. . لا أستطيع النوم - يجب أن أخبرك -

(ثم أفضى إلي بكل شيء وسط تشنجاته وحشرجته ولهثاته. ودعوني أقل لكم أني لم أسمع من قبل بمثل ما حدثني به.

وهنا سعل المحامي. فقال الطبيب فيتاسك (لا تخف. فلن أقص عليكم ما حدثني به. إنه سر الطبيب. لقد رقد بعد حديثه متهالكاً، مجهداً تماماً. ولم أستطع أن أمنحه فرصة للتفكير أو

ص: 55

أن أزجي إليه أية نصيحة. بيد أني أعطيته بضعة مقادير من المورفين، وجعلت أعطيه غيرها كلما استيقظ من غيبوبته حتى نام أخيراً نومته الأبدية. لقد منحته كأس المساعدة ممزوجة بالانتقام.)

فقال الأب فوفر مفكراً: (جميل منك ما فعلت. فقد خلصته على الأقل من بؤسه وشقائه.)

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 56