الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 957
- بتاريخ: 05 - 11 - 1951
أمريكا التي رأيت:
في ميزان القيم الإنسانية
للأستاذ سيد قطب
أميركا. . الدنيا الجديدة. . ذلك العالم المترامي الأطراف الذي يشغل من أذهان الناس وتصوراتهم، أكثر مما تشغل من الأرض رقعته الفسيحة، وترف عليه أخيلتهم وأحلامهم بالأوهام والأعاجيب، وتهوى إليه الأفئدة من كل فج، شتى الأجناس والألوان، شتى المسالك والغايات، شتى المذاهب والأهواء
أمريكا. . تلك المساحات الشاسعة من الأرض بين الأطلنطي والباسيفيكي. تلك الموارد التي لا تنضب من المواد والخامات، ومن القوى والرجال. تلك المصانع الضخمة التي لم تعرف لها الحضارة نظيراً. ذلك النتاج الهائل الذي يعيا به العدو الإحصاء، تلك المعاهد والمعامل والمتاحف المنثوثة في كل مكان. عبقرية الإدارة والتنظيم التي تثير العجب والإعجاب. ذلك الرخاء السابغ كأحلام الجنة الموعودة. ذلك الجمال الساحر في الطبيعة والوجود والأجسام. تلك اللذائذ الحرة المطلقة من كل قيد أو عرف. تلك الأحلام المجسمة في حيز من الزمان والمكان. .
أمريكا هذه كلها. . ما الذي تساويه في ميزان القيم الإنسانية؟ وما الذي أضافته إلى رصيد البشرية من هذه القيم، أو يبدو أنها ستضيفه إليه في نهاية المطاف؟
أخشى ألا يكون هناك تناسب بين عظمة الحضارة المادية في أمريكا، وعظمة (الإنسان) الذي ينشئ هذه الحضارة؛ وأخشى أن تمضي عجلة الحياة، ويطوى سجل الزمن، وأمريكا لم تضف شيئاً - أو لم تضف إلا اليسير الزهيد - إلى رصيد الإنسانية من تلك القيم، التي تميز بين الإنسان والشيء، ثم بين الإنسان والحيوان
إن كل حضارة من الحضارات التي مرت بها البشرية، لم تكن كل قيمتها فيما ابتدعه الإنسان من آلات، ولا فيماسخره من قوى، ولا فيما أخرجت يداه من نتاج. إنما كان معظم قيمتها فيما اهتدى إليه الإنسان من حقائق عن الكون، ومن صور وقيم للحياة؛ وما تركه هذا الاهتداء في شعوره من ارتقاء وفي ضميره من تهذيب، وفي تصورة لقيم الحياة من عمق، والحياة أنسا نية بوجه خاص، مما يزيد المسافة بعداً في حسابه وحساب الواقع، بينه وبين
مدارج الحيوانية الأولى، في الشعور والسلوك، وفي تقويم الحياة وتقويم الأشياء
فأما ابتداع الآلات، أو تسخير القوى، أو صنع الأشياء، فليس له في ذاته وزن في ميزان القيم الإنسانية، إنما هو مجرد رمز لقيمة أساسية أخرى: هي مدى ارتفاع العنصر الإنساني في الإنسان، ومدى الخطوات التي يبعد بها عن عالم الأشياء، وعالم الحيوان. أي مدى ما أضاف إلى رصيده الإنساني من ثراء في فكرته عن الحياة، وفي شعوره بهذه الحياة
هذه القيمة الأساسية هي موضع المفاضلة والوازنة بين حضارة وحضارة، وبين فلسفة وفلسفة؛ كما أنها هي الرصيد الباقي وراء كل حضارة، المؤثر في الحضارات التالية، حين تتحطم الآلات وتفنى الأشياء؛ أو حين تنسخها آلات أجد وأشياء أجود، مما يقع بين لحظة وأخرى، في مشارق الأرض ومغاربها
وإنه ليبدو أن العبقرية الأمريكية كلها قد تجمعت وتبلورت في حقل العمل والإنتاج، بحيث لم تبق فيها بقية تنتج شيئاً في حقل القيم الإنسانية الأخرى. ولقد بلغت في ذلك الحقل ما لم تبلغه أمة، وجاءت فيه بالمعجزات التي أحالت الحياة الواقعية إلى مستوى فوق التصور ووراء التصديق لمن لم يشهدها عيانا. ولكني (الإنسان) لم يحفظ توازنه أمام الآلة، حتى ليكاد هو ذاته يستحيل آله؛ ولم يستطع أن يحمل عبء العمل المنهك ثم يمضي قدماً في طريق الإنسانية، عندئذ أطلق للحيوان الكامن العنان؛ ضعفاً عن أن يحمل عبء العمل وعبء (الإنسان)!
وإن الباحث في حياة الشعب الأمريكي ليقف في أول الأمر حائراً أمام ظاهرة عجيبة، قد لا يراها في شعب من شعوب الأرض جميعاً: شعب يبلغ في عالم العلم والعمل، قمة النمو والارتقاء، بينما هو في عالم الشعور والسلوك بدائي لم يفارق مدارج البشرية الأولى؛ بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك!
ولكن هذه الحيرة تزول بعد النظرة الفاحصة في ماضي هذا الشعب وحاضره، وفي الأسباب التي جمعت فيه بين قمة الحضارة وسفح البدائية:
في العالم القديم آمن الإنسان بقوى الطبيعة المجهولة، وصاغ حولها الخرافات والأساطير؛ وآمن بالدين، وغمرت روحه أضواؤه ورؤاه؛ وآمن بالفن وتجمست أشواقه ألواناً وألحاناً وأوزاناً. . ثم آمن بالعلم أخيراً، بعد ما انقسمت نفسه لأنماط من الإيمان، وألوان من
المشاعر، وأشكال من صور الحياة وتهاويل الخيال، بعدما تهذبت روحه بالدين، وتهذب حسه بالفن، وتهذب سلوكه بالاجتماع. بعدما صيغت مثله ومبادئه من واقعية التاريخ، ومن أشواقه الطليقة. وسواء تحققت هذه المبادئ والمثل أم لم تتحقق في الحياة اليومية، فقد لقيت على الأقل هواتف في الضمير، وحقائق في الشعور، مرجوة التحقق في يوم من الأيام، قرب أم بعد، لأن وجودها حتى في عالم المثال وحده، خطوة واسعة من خطوات البشرية في مدارج الإنسانية، وشعاع مضيء من الرجاء في تحقيقها يوماً من الأيام
أما في أمريكا فقد ولد الإنسان على مولد العلم، فآمن به وحده، بل آمن بنوع منه خاص، هو العلم التطبيقي؛ لأنه وهو يواجه الحياة الجديدة في القارة الجديدة؛ وهو يتسلم الطبيعة هنالك بكراً جامحة عتيدة؛ وهو يهم أن ينشئ ذلك الوطن الجديد الذي أنشأه بيده، ولم يكن له من قبل وجود؛ وهو يصارع ويناضل لبناء هذا الوطن الضخم. . . كان العلم التطبيقي هو خير عون له في ذلك الجهد والتنظيم والإنتاج
ولم يفرغ الأمريكي بعد من مرحلة البناء، فما تزال هنالك مساحات شاسعة لا تكاد تحد من الأراضي البكر التي لم تمسها يد؛ ومن الغابات البكر التي لم تطأها قدم، ومن المناجم البكر التي لم تفتح ولم تستغل، وما يزال ماضياً في عملية البناء الأولى، على الرغم من وصوله إلى القمة في التنظيم والإنتاج
ويحسن ألا ننسى الحالة النفسية التي وفد بها الأمريكي إلى هذه الأرض فوجاً بعد فوج، وجيلاً بعد جيل، فهي مزيج من السخط على الحياة في العالم القديم، والرغبة في تحرير من قيوده وتقاليده، ومن هذه القيود والتقاليد الثقيل الفاسد، والضروري السليم، ومن الرغبة الملحة في الثراء بأي جهد وبأية وسيلة؛ والحصول على أكبر قسط من المتاع تعويضاً عما يبذله من الجهد في الثراء
وبحسن ألا ننسى كذلك الحالة الاجتماعية والفكرية لغالبية هذه الأفواج الأولى التي تألفت منها نواة هذا الشعب الجديد. فهذه الأفواج هي مجموعات من المغامرين، ومجموعات من المجرمين؛ فالمغامرين جاءوا طلاب ثراء ومتاع ومغامرات؛ والمجرمون جئ بهم من بلاد الإمبراطورية الإنجليزية لتشغيلهم في البناء والإنتاج
ذلك المزيج من الملابسات، وهذا المزيج من الأفواج، من شأنه أن يستنهض وينمي
الصفات البدائية في ذلك الشعب الجديد، وينيم أو يقاوم الصفات الراقية في نفسه أفراداً وجماعات؛ فتنشط الدافع الحيوية الأولية، كأنما يستعيد الإنسان خطواته الأولى؛ بفارق واحد أنه هنا مسلح بالعلم، الذي ولد مولده، وخطأ على خطواته. والعلم في ذاته - وبخاصة العلم التطبيقي - لا عمل له في حقل القيم الإنسانية، وفي عالم النفس والشعور. وبذلك ضاقت آفاقه، وضمرت نفسه، وتحددت مشاعره، وضؤل مكانه على المائدة العالمية الزاخرة بالأنماط والألوان
وقد يدهش الإنسان وهو يقرأ قصص الجماعات الأولى التي هاجرت إلى أمريكا في أيامها الأولى، ويتصور كفاحها الطويل العجيب، مع الطبيعة الجامحة في تلك الأصقاع المترامية، ومن قبل مع أنواء المحيط الرعيبة، وأمواجه الجبارة، في تلك القوارب الصفار الخفاف؛ حتى إذا رست على الصخور محطمة أو ناحية لقيت النازحين، مجاهل الغابات، ومتاهات الجبال، وحقول الجليد، وزعازع الأعاصير، ووحوش الغابات وأفاعيها وهوامها. . . لقد يدهش الإنسان كيف لم يترك هذا كله ظلاله على الروح الأمريكية إيماناً بعظمة الطبيعة وما وراء الطبيعة، ليفتح لها منافذ أوسع من المادة وعالم المادة
ولكن هذه الدهشة تزول حين يتذكر ذلك المزيج من الملابسات، وذلك المزيج من الأفواج. لقد قابلوا الطبيعية بسلاح العلم وقوة العضل، فلم تثر فيهم إلا قوة الذهن الجاف؛ وقوة الحس العارم، ولم تفتح لهم منافذ الروح والقلب والشعور، كما فتحتها في روح البشرية الأولى، التي احتفظت بالكثير منها في عصر العلم، وأضافت به إلى رصيدها من القيم الإنسانية الباقية على الزمان
وحين تغلق البشرية على نفسها منافذ الإيمان بالدين؛ والإيمان بالقيم الروحية جميعاً؛ لا يبقى هنا لك متصرف لنشاطها إلا في العلم التطبيقي والعمل، وإلا في لذة الحس والمتاع. وهذا هو الذي انتهت إليه أمريكا بعد أربعمائة عام
للكلام بقية
سيد قطب
الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
شهداء:
في يوم الاثنين 15 من أكتوبر 1951 أقر البرلمان المصري التشريعات التي قدمتها إليه حكومة جلالة ملك مصر والسودان وهي الخاصة بإلغاء اتفاقيتي السودان 1899 ومعاهدة 1936، وبذلك تخلصت مصر من القيود التي كانت تحد من سيادتها وحرياتها وتقف في سبيل وحدة الوادي
ولكن الغصب الأجنبي رفض أن يعترف بما قررته مصر، وأعلن تمسكه بالمعاهدة؛ بل زاد فأكثر من قواته البرية والجوية والبحرية
وهنا قام نضال بين مصر التي لا تبغي إثماً ولا عدواناً بين عصابة اللصوص من الدول الاستعمارية فانضمت أمريكا وفرنسا إلى إنجلترا وعملتا على تأييدها وشد أزرها
وكان من الطبيعي أن يظهر المصريون شعورهم وغبطتهم بتحررهم فقامت المظاهرات في جميع أنحاء البلاد تعلن ابتهاج مصر بما قرره البرلمان. وساء الإنجليز ابتهاج المصرين بإلغاء المعاهدة فأطلقوا قواتهم في مدن القنال الهادئة ألوا دعة ثم اعتدوا على الشعب الأعزل بمدافعهم ونيرانهم فسالت دماء الأبرياء من الشهداء المصريين
وأكثر من هذا أنهم منعوا بالقوة تشييع جنازات شهداء مدينة الإسماغعليلية الذين استشهدوا في يوم الثلاثاء 16 أكتوبر وهكذا تعتدي إنجلترا - وهي التي تملقت مصر إبان محنتها أثناء الحرب العالمية الثانية - على الأبرياء من المصريين الذين أنقذوها في أخطر فترة مرت عليها في التاريخ، وكان في يدهم لو أرادوا خنقها وإراحة أنفسهم والعالم من بغيها، ولكنهم صدقوا وعودها وآمنوا بما قررته هي وشريكتها أمريكا في ميثاق الأطلنطي 1941 من احترامهم لحريات الأمم السياسية والفكرية والدينية. فلما انتهت الحرب تبخرت الوعود البريطانية وعادت بريطانيا تعلن ما أخفت وتماطل فيما وعدت وقلبت لمصر ظهر المجن فقتلت أبناءها واحتلت في غمرة بغيها وعدوانها مدينة الإسماعيلية ومكاتب الجمارك في السويس وبورسعيد كما احتلت بلوكات السكك الحديدية في محطة (فرز نفيشة) فليسجل التاريخ وليشهد العالم، وأما أنتم أيها الشهداء الأبرار فإلى جنة الخلد خالدين فيها أبداً
أمس واليوم:
في وسط هذا الخضم المضطرب من الحوادث والعواطف ومن خلال هذه الثورة الوطنية أكتب إليك أيها الأخ المصري معيداً أمامك صورة جهاد آبائك ومسجلاً لك جهادك، فأنا أحدثك الآن عن مصر في ثورتين: الثورة الأولى1919 والثورة الثانية 1951
بدأت ثورة 1919 عقب الحرب الأوربية الأولى 1914 - 1918 فقصد زعماء مصر سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلى شعراوي إلى دار الحماية وطالبوا المعتمد البريطاني باستقلال مصر فأنكر عليهمطلبهم ووعدهم بمخاطبة حكومته انصرف الزعماء من دار الحماية وألفوا (الوفد المصري) ليعمل على تحقيق استقلال مصر والسودان استقلالاً تاماً
بدء العمل:
في 20 نوفمبر 1918 طلب سعد ورفاقه من المعتمد البريطاني أن يسمح لها بالسفر إلى أوربا لعرض مطالب مصر على مؤتمر الصلح المنعقد في باريس، فجاءهم الرد من السلطة بإرجاء الإذن (إلى أن تزول الصعوبات التي تمنع سفرهم في الوقت الحاضر)
احتج سعد ولم يفتر في العمل أو يتوان. أخذ يجمع التوكيلات من الأمة للمطالبة بحقوقها فأقبل الناس عليها بشغف. رأت السلطة في هذا الأمر خطر فقررت منعه وصادرت التوكيلات. احتج سعد على مصادرة التوكيلات وأخذ يواصل نشاطه فوجه نداء لمعتمدي الدول الأجنبية جاء فيه:
(إيماناً بالتصريحات المؤكدة التي أعلنها ساسة الخلفاء عند نشوب الحرب ولازالوا يجاهرون بها في انتصارهم للحق والحرية
واعتماداً على تلك الروح الجديدة التي تدفع أمم العالم وديمقراطيتها نحو ذلك المثل الأعلى مثل الحياة المطمئنة في كنف العدل وبحبوحة السلام
وثقة على الأخص بأن دخول الولايات المتحدة الفاصل في الممترك العالمي لم يكن لها فيه نقصد سوى صيانة حقوق الأمم الضعيفة واستفتاح عصر عدل مجرد عن الهوى تبور فيه إلى الأبد صفة من لا ينظر إلا إلى إرضاء مطامعه الشخصية ولا يهمه غير بسط على بني الإنسان اعتماداً على القوة والجبروت
فمصر التي تعرف واجباتها وتهتم بمصالح نفسها رأت بمجرد عقد الهدنة الأخيرة أنها بعد أن لبثت طول مدة الحرب على أكمل حال من السكينة وحسن الوفاء، قد آن الأوان لتجهر - بما لها من حق في أن تحيا حياة حرة خالصة من القيود والأغلال)
واختتم الوفد النداء بالاحتجاج على الخطة التي اتخذت معه وعلى كل قرار بشأن مستقبل مصر لا يؤخذ رأي الأمة المصرية فيه
وفي نفس اليوم 6 ديسمبر 1918 أرسل إلى رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج برقية جاء فيها:
(تحدث في مصر أمور مخالفة لتقاليد الحرية والعدالة التي هي شعار دولة بريطانيا، وللسياسة الحرة التي لازلتم إماماً لها. . . هل تقبلون سعادتكم أن صوت أمة بأسرها يخفت بينما أرجاء العالم تدوي بأصوات الأمم المطالبة بمالها من الحقوق ومن حرية التصرف بمسقبلها؟. . . بالنيابة عن الوفد المصري أرفع هذه التصرفات لنظركم السامي.)
سعد زغلول
موقف الوزراء:
هذا ما قام بع سعد وزملاؤه. ولكنا من ناحية أخرى نجد أن رئيس وزراء مصر في ذلك الحين المغفور له حسين رشدي باشا وزميله عدلي يكن باشا غافلين وكانا يؤمنان تماماً بحقوق مصر، وكان رئيس وزراء مصر 1914 حين أعلنت عليها الحماية - وكان هو الذي قبل الحماية - فرأى أن الواجب يحتم عليه كمصري أولاً وكرئيس للوزراء ثانياً أن يعمل على تخليص مصر من الحماية. لهذا تقوم بدوره يطلب السماح له ولزميله عدلي بالسفر لمباحثة رجال الحكومة البريطانية في المسألة المصرية، فرفضت الحكومة البريطانية طلبهما فقدما استقالتهما في 4 ديسمبر فلم تقبل، فرفعا استقالة ثانية في 23 ديسمبر ولكنها رفضت أيضاً، فأتبعاها بثالثة في 30 ديسمبر 1918. رأت بريطانيا أن تصرح لهما بالسفر ولكن رشدي باشا علق سحب استقالته على التصريح للوفد بالسفر فرفض طلبه فاستقال
موقف رائع:
استقال رشدي باشا واخذ الإنجليز يبحثون عن رئيس للوزارة يشغل مكانه وعن وزراء يتولون الحكم بدل الوزراء، ولكن ذهبت جهودهم أدراج الرياح ذلك أن المصريين على اختلاف ميولهم ومذاهبهم وقفوا صفاً واحداً منهم ليخون الوطن وليتعاون مع الغصب الأجنبي بقبوله الوزارة. وظلت مصر بلا وزارة في الفترة من ديسمبر 1918 إلى مارس 1919 وهكذا تجلت الوطنية المصرية رائعة قوية
هذا ما كان من أمر مصر في 1919. أجمعت الأمة على الوقوف صفاً واحداً في سبيل تحقيق مطالبها وصمدت للعدوان الآثم. وإن مصر 1951 ستكون إن شاء الله أكثر قوة وأشد وطنية، وستدافع عن حرياتها دفاع المناضل المستميت، ولن يخضعها اعتداء أو تهديد، ولن يثنيها وعد أو وعيد. وإلى اللقاء في العدد القادم إن شاء الله
قويسنا
أبو الفتوح عطيفه
لياقات علي خان
للأستاذ صلاح الدين خورشيد
ألا رحم الله لياقت علي خان!
لقد عاش مجاهداً ومات شهيداً، عاش عيشة الأبرار المتقين، ومات ميتة الأبرار الصالحين. فلقد جاهد لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق ورفعة الإسلام وعز المسلمين، وكان لا يدخر في جهاده وسعا ولا يألو جهداً حتى أسلم الروح إلى بارئها يوم غالته أيدي الإثم والعدوان
كان رحمة الله مؤمناً تام الإيمان، صالحاً كامل الصلاح، تقياً ورعاً مخلصاً وفياً. وقد بلغ من سمو فضائله ورفعة أخلاقه أنه لم يعز إليه نقص من تلكم النواقص التي تلازم أكثرية رجال السياسة وأرباب الحكومات، بل وبلغ من حسن سيرته وسلامة سلوكه أنه استجلب الثناء حتى من أشد خصومة لجاجة. ألا رحم الله لياقت علي خان لقد امتدحه حتى خصومة وأعداؤه،
قالت قرينته واساها الله بمصابها وأنعم عليها الصبر والسلوان:
(لقد تمثلت في نفس قريني ما يكنه ثمانون مليون نسمة من عقيدة وعزم للنهوض بباكستان وجعلها دولة إسلامية مجيدة ناهضة، وكان حتى أن لفظ آخر أنفاسه يتمسك بهذه العقيدة ويختلج بها قلبه اختلاجاً. وكانت نفسه رحمة الله تشف عن روح إسلامية حقه ألا وهي الاستسلام التام لمشيئة الله. وكان ذا إيمان راسخ لا يتزعزع فسلك سبيل الواجب سلوكاً مستقيماً إلى أن أدركه الأجل فمات شهيداً. ولقد قال مراراً إنه لا يملك من حطام الدنيا شيئاً وأن ليس لديه إلا حياته وأنه يسخر حياته لخدمة الإسلام وباكستان على شفتيه فكان مثالاً يجدر بكل باكستاني أن يقتدي به
(وإنني لأفشي لأبناء بلادي الآن سراً إذ أقول انه قال لي قبل شروعه بسفر المشئوم إلى راولبندي
(إنه سيلقى أعظم خطاب في حياته. فسألته عم سيتناوله الخطاب فقال إنه يتناول تكوين سياسة البلاد ولكنه قبل أن يدلي بخطابه ضحى تضحيته الكبرى
وإنني بكوني شريكته في الحياة أعلم أن ليس من شئ أحب إليه من رسالة زعيمه القائد الأعظم ألا وهي النهوض بباكستان إلى أعلى ذرى المجد وتمكينها من تبوئ المقام السامي
بين أمم العالم. ثم إنه كان يؤمن إيماناً راسخاً بمقدرة أمته للوصول إلى هذا الهدف بما يبذلونه من مساع حثيثة، وما يبدونه من صبر وأناة في مواجهة الخطوب وتقديم مصلحة الأمة على المصالح الشخصية، ولم تكن المصائب لتوهن عزمه الا الأخطار لتفت في عضده ولا المغريات لتصرفه عن نبيل غرضه)
هذا ما قالته عنه قرينته وأقرب الناس إليه، وبمثل هذا أبنه زملاؤه العالم أجمع، إذ لم يكن من بين قادة الدول وزعماء الأمم وساسة الشعوب من لم يفجع بمقتل لياقت علي خان ومن لم يعرب عن عميق حزنه وأسفه لهذا المصاب الجلل، إذ لم يكن لياقت علي خان ما جبل عليه من خلال حميدة وسجايا نبيلة مجرد أنسى يحيا ويموت وإنما كان أكثر من ذلك. كان رمزاً لأمة حية ناهضة ومثلاً لأخلاقها وسلوكها وعواطفها. لقد تمثلت فيه الأمة الباكستانية فمثلها أصدق تمثيل؛ فمن سجايا الأمة الباكستانية أنها تعتز بدينها الحنيف وتكلف بحضارتها الإسلامية العقيدة، وكذلك كان لياقت علي خان رحمة الله إذ كانت له مواقف مشهودة في الدفاع عن الإسلام والمسلمين لا في ربوع الهند فحسب وإنما في جميع ربوع العالم، فقد نافح عن الإسلام ومبادئه العليا حتى في بلاد الغرب عندما زار أمريكا وكندا قبل نحو عامين. . فقد قال فيما قاله في هذا الصدد إنه إذا كان العالم يحسب اليوم الحساب لكتلتين متناحرتين شرقية وغربية فعليه بعد اليوم أن يحسب الحساب لكتلة ثالثة لا تقصد إلى التناحر أو إلى إثارة الحروب، ألا رحم الله لياقت على خان! كان مسلماً حقاً وكان مؤمناً بالغ الإيمان برسالة الإسلام
صلاح الدين خورشيد
أندريه جيد
الأديب العالمي الكبير
للأستاذ خالص عزمي
إن فكري لا يتجه إلا إلى التنظيم، وإلى البناء. . . ولكنني لا أستطيع بناء أي شئ إذا لم أختبر المواد التي أبني بها الأفكار المعترف بصحتها. . . والمبادئ لا يقبلها فكري ما لم يعترف بصحتها. . . وأنا بعد أعلم أن أكثر الألفاظ رنيناً أكثرها فراغاً. . إنني أرتاب في الخطباء من ذوي الفكر الصحيح، من الرسل الأدعياء. ولا أنفك أهتك النقاب عن مضمون جعجعتهم
(أندرية جيد)
في ليلة الأربعاء العشرين من شهر شباط المنصرم: روع العالم واهتزت الأوساط الأدبية لوفاة الكاتب العالمي الكبير (أندرية جيد) وهو لا يزال جزيناً على موت الأديب الأرلندي الشهير (جورج برناردشو)
وفي هذا المقال نقدم كاتبنا الكبير في صورة صحيحة خالية من الرتوش، مستوحين تلك الصورة من عالمه الذي كان يعيش فيه، ومن مقالاته ومؤلفاته التي كان ينشرها على العالم
في عام 1869 ولد طفل يبدو على سيماء الذكاء وتبرق على جبينه العبقرية والدهاء. كان يعيش كما يعيش غيره من أبناء فرنسا في ذلك العهد: فترعرع في جو يسوده عدم الاستقرار وتطفي عليه أصوات الاضطرابات، ولم تكن الحال هكذا الجو الخانق والحياة المرتبكة راح (الطفل) أندرية يواصل دراسته حتى بذ جميع لأقرانه مما أوجب اهتمام المدرسين الذين كانوا يشرفون على سير دراسته!
وعندما التحق جيد بالمدرسة الثانوية لمواصلة دراسته ظهرت فكرة العبقرية التي كان يتحدث بها أساتذته أكثر وضوحاً وتركيزاً. فقد برزت علامات النبوغ ومخايل الذكاء عليه حتى أصبح مثلاً يضرب فيه!
وبقي جيد ينهل من العلوم المختلفة والآداب قديمها وحديثها ومن اللغات زمناً غير قصير، استوعب خلاله ثقافة واسعة شاملة كان بها عارفاً لفلسفة اليونان وفلسفة العصر، بالإضافة
إلى ما ذكر من العلوم والآداب. ومن الطريف الذي يذكر عن (جيد) أنه هوى الشعر ردحاً من الزمن إذ راح يجول بخياله فيه؛ فنظم قصائد تعد من القصائد الجيدة في بابها
آراؤه:
يعتبر (أندريه جيد) من العباقرة الذين يمكن أن نطلق عليهم (العباقرة الشواذ): إذ لا تراه إلا قلق التفكير لايعرف الاستقرار ولا يطلب الهدوء، ولم تكن هذه الحال بقصيرة العمر عنده؛ بل كانت ملازمة له بالرغم عنه: ولهذا السبب نراه يتخذ من قوله الشهير دستوراً له في الحياة حيث كان ينادي دائماً:
(إن كل توكيد حتى لو صدر عني ينشئ في نفسي على الفور الجواب الذي أنكره) من قوله هذا يتبين أنه حتى على أقواله لايثبت، بل ينقضها متى شاءت إرادته
لقد طلعت آراء (أندريه) ومبادئه على العالم يوم نشر أول مؤلف له. . المؤلف الذي أحدث ضجة في وقته وقد كان عنوان ذلك الكتاب (مذكرات أندريه والتر) وذلك في عام ذ891 إذ ذاع صيته وسطع نجمه في عالم الأدب العالمي. . ثم والى (أندريه) بعد مؤلفه هذا النشر ولم يكن في هذه المرة كتاباً؛ بل كان يمطر الصحف بمقالات وقصص وقصائد تحمل مبادئه وآراءه. . وكان هدفه من ذلك أن يدفع الشباب نحو ما يطلق عليه (بالضمير العقلي والثقافي)!
وقد يكون قوله الشهير الذي سنذكره مبدأ مستقلاً بذاته وفيه يبرز (أندريه) اعتداده فيه أنه لا يكتب إلا إلى فئة قليلة هي التي تفهمه؛ وحتى تلك الفئة قد لا يتصورها جيد بتاتاً. . . إذا يا ترى لمن كان يكتب - جيد)
إنه يجيب على ذلك بقوله الذي تحدثنا عنه (إن الذين سيفهمونني لم يولدوا بعد، وإنني أكتب للأجيال القادمة)!
ومن معتقداته أنه يرى أن عمل هذا الشخص لا يدل إلا على طريقة فاشلة من طرق اغتنام الفرص. وهو يقول بأن مثل هذه الحالة هي الخطيئة بعينها، لأن الشخص سيخضع فكرة وآراءه للظروف التي تصطدم به ولا يحركها هو!!
ولهذا فقد كان (جيد) لا يحب الناس الذين تخلقهم الصدفة والمناسبة، بل كان يحب الذين يعيشون عظاماّ ويموتون عظاماً. . . لا لأن المناسبة قد أوجدت لهم تلك العظمة، بل لأنهم
حقيقيون يعيشون للواقع، ولهذا كان يجل العالم الألماني الشهير (نيتشه) وكذلك الكاتب الروسي اللامع (دستوفسكي) حيث كان يعتقد فيهما أنهما من الأحرار الذين لا يقيدهم خوف أو شفقة أو حياء!!
لقد قلنا إن (جيد) كان شاذاً قلق الفكر لايستقر على مبدأ حتى يخرج إلى مبدأ آخر والدليل على ذلك. . أنه رفع البلشفية بوصفه لها بمقالات عدة نشرها على العالم، إلى طبقة الحرية المثالية أو النظام الأكمل. . .
ولكنه لما دعي لزيارة روسيا وعاد منها بعد زيارته لها ذمها ذماً شديداً وقذفها قذفاً قد يصل إلى أشنع الهجاء، وهذا يدل على عدم الاستقرار الفكري الذي تحدثنا عنه!
ثم هذا دليل آخر على قلق المبادئ عنده؛ وهو أنه مال إلى الرمزيين في إبان شبابه وبدأ يدعو الناس إلى اعتناق مبادئهم، ولكنه ما بين عشية وضحاها تركهم نهائياً لأنه رأى أن عنصر التشاؤم يتغلغل في نفوسهم ويكون عندهم حجاباً حالك الظلام يفصل بين أرواحهم وبين الأمل المنشود
كان جيد يكره التشاؤم ويعتقد فيه الضعف، وأن الشخص الذي يتشاءم من الحياة إنما هو إنسان ضعيف الإحساس حائر الفكر، لأنه يرى في التشاؤم محاربة للواقع واحتقاراً للحياة!
وكان يكره الرمزيين - أخيراً - لأنه وجد فيهم عدم توصلهم إلى مذهب ثابت حقيقي، أو عدم تملكهم الفكرة أو المبدأ الفلسفي الصحيح!
نعم قد يكون له هذا الحق لو كان ثابتاً على مبدئه. . ولكنه راح يناقض نفسه للمرة الثالثة حيث برز هذا التناقض في صورة حبه وتقديسه لمبدأ - شوبنهور - ولشخصه، بينما نحن نعرف أن شوبنهور كان أولئك المتشائمين في الحياة! إذن لماذا كان يقدسه (جيد)؟!
وكذلك نرى أنه كان يكره - هيجل - لأنه كان الشخص المفضل من قبل أصحاب المذهب الرمزي، وجلهم من الشعراء!
وقد تثبت هذه النظرة على (جيد) أكثر تركيزاً في ناحية بغضه للرمزيين وكتابته في الأدب الرمزي ونظمه في الشعر الرمزي. . .
وكذلك نحن نعرف أن - جيد - كان واقعياً بينما نجده في نفس الوقت يكتب في الفلسفة الخيالية. . إذن ما هو سر هذا التناقض؟
أن سر التناقض عند (جيد) هو (العبقرية) ولا نضيف كثيراً على ذلك سوى أن تقول إن المبادئ التي دفعت (جيد) إلى الواقعيات في الأمور هي التي جعلته أقرب الأدباء العالميين إلى نفوس العرب وأكثرهم تحليلاً لمشاكلهم
أسلوبه وكتبه:
كان أسلوب (جيد) رائعاً جزلاً بشهادة الكثيرين، ولم يكن سبب ذلك أن جيد كان يجيد البيان في اللغة الفرنسية فحسب، بل لأنه كان يخلق التعابير الجديدة الرائعة فيصوغها بأسلوب جذاب دقيق
وهو يشبه كل الشبه في لغته وأسلوبه أسلوب معالي الدكتور طه حسين باشا عميد الأدب العربي. . ولذلك كانت نفسيته بالنسبة للأدب والأسلوب والمعنى والبيان مطابقة لنفسية جيد الأدبية ومدى تذوقها للبيان السلس والجذل بنفس الوقت
إن جيد كان يميل في أدبه إلى النثر أكثر من الشعر، وكان يعتقد فيه أنه خير من الشعر بكثير، وهذا ما أوضحه في مؤلفه المشهور (لو كانت بذرة لا تموت)
وأهم ما يوصف به أسلوب جيد ويتميز به أنه رفيع السبك، يحلل الشخصية تحليلاً دقيقاً، وبصور الجانب إنساني منها ثم يصور الحالات الأليمة أبرع تصوير
ولكنه مع كل هذا غامض مبهم لا يفهمه إلا من تعمق في آرائه ومعتقداته، ودرس كتبه ومقالاته درساً وافياً
ولقد كان (جيد) يميل إلى كتابة القصة القصيرة أكثر من ميله إلى القصة الطويلة، ولكنه مع هذا قد قدم إلينا أكثر من قصة طويلة ولو أنها كانت خارج استعداده وميوله (كما يقولون)!
إن أهم مؤلفات (جيد) هي ما كانت تدور حول النواحي القصصية والروائية: وقد تكون أشهر كتبه التي طلع بها على العالم هي:
1 -
السمفونية الريفية
2 -
الباب الضيق
3 -
مذكرات أندريه والتر
4 -
لو كانت بذرة لا تموت
5 -
أوديب وتسيوس
وقد فاز أندريه جيد بجائزة نوبل العالمية لفرع الآداب 1947، فاتحه إليه نظر الأدباء والمثقفين حيث راحوا يوالون درس مؤلفاته ومقالاته. . . حتى أن الدكتور طه باشا حسين وتوفيق بك الحكيم كتبا عنه مقالات شاملة بينا فيها مقدرة (جيد) الأدبية ومنزلته العلمية وعلمه الفريد
ولقد كتب عنه الأستاذ نزيه الحكيم وترجم له كتاب (الباب الضيق) فجاء تحفة نادرة سدت فراغاً في المكتبة العربية وجيد بعد كل هذا بيناه، صريح كل الصراحة. حتى أنه لا يعتر به الخجل وهو يسرد قصة حياته الخاصة عن طريق مؤلفاته، ذاكرا فيها كل شئ عما قام به من مغامرات شخصية وعلاقات دارت حوادثها مع الزمن في إبان شبابه، وبصورة واضحة مع فتيات باريس اللواتي كن ينظرن إليه نظرات الإعجاب والإكبار! أو كما يقول أحد الأدباء في وصف ما قاله جيد عن حياته الخاصة (يجمل بالشباب أن يتجنبوا قراءتها)!!
وجيد مع ذلك كان يكره الحب الجسدي ويعشق الروح لأنه أسمى عنده وأثبت، وشذوذه من هذه الناحية جنى عليه حتى حرمه من دخول الأكاديمية الفرنسية التي تضم أربعين شخصية خالدة
هذا هو أندريه جيد الكاتب الفرنسي الشهير الذي توفى ليلة الأربعاء في العشرين من شباط بعد أن بلغ الحادية والثمانين من العمر. . . قضاها في سبيل الرفع من قيم الإنسانية المعذبة
بغداد
خالص عزمي
المرأة في شعر شوقي
بمناسبة ذكراه للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
تتمة ما نشر في العدد الأسبق
أما الصورة الثانية فترى فيها شوقي يساير روح الإصلاح المنبعثة من قلوب المستنيرين الآخذة في الازدياد. فجاء شعره خالياً من الصناعة الشعرية بعيداً عن التكلف، تظهر فيه روح معنوية صريحة تسمو بالغرض الشعري، فقد استجاب للصيحات التي يبعثها رجال الإصلاح
ونراه يخصص لمشكلة الحجاب والسفور - التي شغلت القوم - قصيدة طويلة تظهر فيها شاعريته القوية وثقافته العالية، ولكنه مع ذلك كان شديد الخشية والحذر من مكاشفة الجمهور برأي صريح، فاستغل خياله الخصب ومعانيه الرائعة فأضفي على القصيدة نوعاً من السحر، أخذ بألباب الناس، المحافظ منهم والمجدد، وصار الكل يتغنون بهذا الشعر الجميل
ففي قصيدته التي بعث بها إلى (مكنونة البادية) يدعوا فيها المرأة إلى نزول ميدان الحياة متسلحة بالأخلاق القويمة والمثل العالية، وأن تكون واضحة الحجة قوية الرهان، وأن تتذرع بالصبر على ما يصيبها في سبيل ما تريد أن تصل إليه، لأن المعالي لا تنال إلا بالجد والكفاح فيقول
صداح يا ملك الكنا
…
ر ويا أمير البلبل
قد فزت منك (بمعبد)
…
ورزقت قرب (الموصلي)
وأتيح لي (داود) مز
…
مارا وحسن ترتل
يا طير والأمثال تض
…
رب للبيب الأمثل
دنياك من عاداتها
…
ألا تكون لأعزل
أو للغبي وإن تعل
…
ل بالزمان المقبل
جعلت لحر يبتلى
…
في ذي الحياة ويبتلى
يرمي ويرمي في جها
…
د العيش غير مغفل
مستجمع كالليث إن
…
يجهل عليه يجهل
أسمعت بالحكمين في ال
…
إسلام يوم (الجندل)
في الفتنة الكبرى ولو
…
لا حكمة لم تشغل
رضى الصحابة يوم ذ
…
لك بالكتاب المنزل
وهم المصابيح السرا
…
ة عن النبي المرسل
رجعوا لظلم كالطبا
…
ئع في النفوس مؤصل
نزلوا على حكم القو
…
ى وعند رأى الأحيل
ففي هذه القصيدة والأبيات الأخيرة منها خاصة يبين أن الأمر للقوة مهما كان وضوح الحق ومهما كانت حجة قائليه، ولكنه كان ذا قوة وذا حيلة فاستطاع أن يظفر بما يريد في آخر الأمر، وهذا شأن الحياة كل شئ فيها يحتاج إلى القوة والحيلة
ثم يطرق موضوعاً أكثر خطورة من سابقه، فهو ينعى على الرجال تعسفهم مع نسائهم وتنكرهم لهن بزواجهم عليهن بعد أن قضين في أكنافهم زمن الصبا، وزبلت منهن زهرة الشباب. وحفظن لهم أعراضهم، وصبرن معهم على حلو الحياة ومرها، وبعد أن رزقن منهم بنين وبنات، فيقول:
ظلم الرجال نساءهم وتعسفوا
…
هل للنساء بمصر من أنصار
يا معشر الكتاب: أين بلاؤكم
…
أين البيان وصائب الأفكار
أيهمكم عبث وليس يهمكم
…
بنيان أخلاق بغير جدار
عندي على ضيم الحرائر بينكم
…
نبأ يثير ضمائر الأحرار
ومنها قوله:
كثرت على دار السعادة زمرة
…
من مصر أهل مزارع ويسار
يتزوجون على نساء تحتهم
…
لا صاحبات بغى ولا بشرار
شاطرنهم نعم الصبا وسقينهم
…
دهراً بكأس للسرور عقار
الوالدات بنينهم وبناتهم
…
الحافظات العرض كالأسوار
الصابرات لضرة ومضرة
…
المحيبات الليل بالأذكار
من كل ذي سبعين يكتم شبيه
…
والشيب في فوديه ضوء نهار
يأنى له في الشيب غير سفاهة
…
قلب ضغير الهم والأوطار
كم ناهد في اللاعبات صغيرة
…
ألهته عن حقد بمصر صغار
يرشو عليها الوالدين: ثلاثة
…
لم أدر أيهم الغليظ الضارى
المال حلل كل غير محلل
…
حتى زواج الشيب بالأبكار
سحر القلوب فرب أم قلبها
…
من سحره حجر من الأحجار
دفعت بنيتها لأشأم مضجع
…
ورمت الصبا والحسن بالدينار
بعض الزواج مذمم، ما بالزنا
…
والرق إن قيسا به من عار
فتشت لم أر في الزواج كفاءة
…
ككفاءة الأزواج في الأعمار
أسفي على تلك المحاسن كلها
…
نقلت من (البال) إلى الدوار
إن الحجاب على (فروق) جنة
…
وحجاب مصر وريفها من نار
وعلى وجوه كالأهلة ورعت
…
بعد السفور ببرقع وخمار
وعلى الذوائب وهي مسك خولطت
…
عند العناق بمثل ذوب القار
وعلى الشفاء المحييات أماتها
…
ربح الشيوخ تهب في الأسحار
في هذه القصيدة يسمعنا رأيه صريحاً، لا يهاب ولا يخشى، فيدعوا أصحاب الأقلام ليستلوها على هؤلاء العابثين الذين لاهم لهم إلا إشباع شهواتهم، وعلى الذين يتجردون من العواطف الإنسانية ويبيعون بناتهم بيع السائمة طمعاً في الأموال. . .
ثم يكون في قصيدة أخرى أبعد صراحة وأكثر تأييداً للمجددات من نساء مصر، ممجداً مقام المرأة، ضارباً الأمثال بالرسول الكريم في معاملته للنساء. وبأمهات المؤمنين في العزة والكرامة والعلم والمعرفة، وكيف أنهن حملن تراث الشريعة الإسلامية وشاركن الرجال في التجارة والحرب والسياسة، فيقول في قصيدته (مصر تجدد مجدها):
قم حي هذي النيرات
…
حيى الحسان الخيرات
واخفض جبينك هيبة
…
للخرد المتحفزات
زين المقاصر والحجا
…
ل وزين محراب الصلاة
هذا مقام الأمها
…
ت فهل قدرت الأمهات
خذ بالكتاب وبالحدي
…
ث وسيرة السلف الثقات
وارجع إلى سنن الخلي
…
قة واتبع نظم الحياة
هذا رسول الله لم
…
ينقص حقوق المؤمنات
العلم كان شريعة
…
لنسائه المتفقهات
رضن التجارة والسيا
…
سة والشؤون الأخريات
ومنها قوله:
أرع الرجال لينظروا
…
كيف اتحاد الغانيات
والنفع كيف أخذن في
…
أسبابه متعاونات
لما رأين ندى الرجا
…
ل تفاخراً أو حب ذات
ورأين عندهمو الصنا
…
ئع والفنون مضيعات
والبر عند الأغنيا
…
ء من الشؤون المهملات
أقبلن يبنين المآ
…
ثر للنجاح موفقات
مصر تجدد مجدها
…
بنسائها المتجددات
النافرات من الجمو
…
د كأنه شبح الممات
لما حضن لنا القض
…
ية كن خير الحاضنات
غذينها في مهدها
…
بلبانهن الطاهرات
وسبقن فيها المعلم
…
ين إلى الكريهة معلمات
يهوين تقبيل المهن
…
د أو معانقة القناة
وبرين حتى في الكرى
…
قبل الرجال محرمات
قصيدة مامرة تنطق بأجل المعاني وأسمى الأغراض، لولا ضيق المقام لك لترى قدرة الشاعر واتساع ثقافته
وفي قصيدة (هلال والصليب الأحمران) لا يفرق فيها بين السافرات والمحجبات في الأعمال الإنسانية، والعمل على تخفيف آلام جرحى الحرب ومنكوبي الحوادث والأرزاء؛ ويشبههن بالمسلمات العربيات الخالصات في غصور الإسلام الزاهرة حيث كن يقمن بنصيب وافر مع الرجال في ميادين القتال يضمدن جراح المصابين ويخففن آلامهم، ويدفعن بالمحاربين إلى ساحة الوغى. . . فيقول:
جبريل أنت هدى السما
…
ء وأنت برهان العناية
أبسط جناحيك للذي
…
ن هما الطهارة والهداية
إلى أن يقول:
ومحجبات هن أط
…
هر عند نائبة كفاية
يسمعن ريا أو قوى
…
كنساء طى في البداية
إن لم يكن ملائك الر
…
حمن كن هو حكاية
يا أيها الباغون ركا
…
ب الجهالة والعماية
الباعثون الحرب حبا
…
للتوسع في الولاية
المدعون على الورى
…
حق القيامة والوصاية
المتكلون الموتمون
…
الهادمون بلا نهاية
كل الجراح لها التئا
…
م من عزاء أو نسايه
إلا جراح الحق في
…
عصر الحصافة والدارية
ستظل دامية إلى
…
يوم الخصومة والشكاية
والأم هي المدرسة الأولى يتلقى فيها الابن عاومه ويتزود منها بالمعارف التي تعده للحياة، وفي استطاعتها أن تخلقه كما تشاء إن شاءت جعلته جبانا رعديداً،
وإن شاءت خلقته أسداً هصورا. وهي القديرة على أن تخلق منه رجلاً مثالياً كاملاً يمشي في الناس بالهدى والرشاد، أو تخلق منه شيطاناً رجيماً يبعث في الأرض الفساد. فيقول مخاطباً المرأة:
أنت شعاع من عل
…
أنزله الله هدى
كم قد أضاء منزلاً
…
وكم أنار مسجداً
وكم كسا الأسواق من
…
حسن وزان البلدا
لولا التقى لقلت لم
…
يخلق سواك الوالدا
إن شئت كان العير أو
…
إن شئت كان الأسدا
وإن ترد غيا غوى
…
أو تبغ رشداً رشدا
يأخذ ما عودنه
…
والمرء ما تعودا
هذه نظرة سريعة لما حفل به ديوان شوقي عن المرأة غير ما تفرق في رواياته المتعددة
التي تصور حياة المرأة النفسية والخلقية والعاطفية التي كان يلحظها شوقي، وفيها نرى كيف كان شوقي يعالج هذه الموضوعات بحكمة وتدبر، وأنه كان يستلهم بيئته الخاصة، العامرة بالعنصر النسوي المهذب الذي يدين بالحرية المقيدة بالقيود الخلقية والاجتماعية، وكيف أخذ على نفسه مناصرتها في الدعوة إلى التقدم الاجتماعي الذي كانت تسعى دائبة في الحصول عليه، وكيف كان يعمل على الأخذ بيدها في الحياة المنزلية والزوجية، والصلة بينها وبين الرجال
كما عرف مقدار خطوها في تربية أبنائها الذين تقدمهم للوطن رجالاً عاملين، يسعون إلى رفعة الوطن وترقيته ليساير أرقى الأمم في العالم
رحم الله شوقي وبلل ثراه، فقد ترك لنا تراثاً ضخماً قل أن يجود الزمان بمثله
أسبوط
عبد الموجود عبد الحافظ
أحمد سامح الخالدي
للأستاذ نجاتي صدقي
هذا الموت الذي لا يرحم. . قد اختطف نفس مرب فلسطيني كبير، ومؤرخ يشار إليه بالبنان، وصاحب فضل عميم على الشبيبة الفلسطينية المثقفة، ألا وهو المرحوم أحمد سامح الخالدي
والأسرة الخالدية في فلسطين هي من الأسر العربية الحجازية العريقة، أسرة قضاء وعلم، أسرة أدب وشعر، أسرة تربية وتاريخ وطب
مارست القضاء على التوالي خلال ثمانمائة سنة، فرحل قسم منها إلى مصر واشتغل مناصب القضاء. وقبور الديرى الخالدي في القاهرة تشهد لي ذلك، ثم عادت إلى فلسطين لتمارس القضاء والعلوم على شتى أنواعها
ومن أعلامها الذين توفاهم الله العالم الكبير، والحجة الثقة المرحوم الشيخ خليل الخالدي مؤسس المكتبة الخالدية الموجودة في القدس حتى أيامنا هذه. وليس من متعلم فلسطيني إلا لجأ إلى هذه المكتبة العامرة طالباً مكتبة الأسرة تركها السلف إلى الخلف؛ ثم أصبحت مكتبة قومية لعرب فلسطين كافة
وعميد الأسرة الخالدية اليوم هو العالم المجتهد الشيخ راغب الخالدي، رجل هيبة ووقار، وحجة من البقية الصالحة وبالرغم من تخطية سن التسعين. . هو والد الدكتور حسن، والدكتور حسين، وأحمد سامح، وغالب، ويعقوب، وإسماعيل
ولد فقيدنا في القدس سنة 1896، وتلقى علومه الابتدائية في مدرسة الأمير كان، ثم في مدرسة المطران، ثم التحق بالجامعة الأمريكية ببيروت حيث درس الصيدلة ونال شهادتها سنة 1916 وهو في العشرين من عمره، ولما أعلنت الهدنة عاد إلى فلسطين حيث عين مفتشاً للمعارف في يافا، وتابع في الوقت ذاته دراسته إلى أن تم له الحصول على درجة أستاذ في التربية
وتمر فترة من الزمن فيعين مساعداً لمدير معارف فلسطين، ويتبع ذلك تعيينه مديراً للكلية العربية في القدس سنة 1925 وظل في منصبه هذا إلى أن حلت النكبة بعرب فلسطين
ومن المشاريع الجليلة التي حققها المرحوم مشروع لجنة اليتيم العربي لأيتام الثورات
العربية في فلسطين، فأنشأهم معهداً في دير عمرو. أذكر وقت أن دعاني الفقيد الغالي لزيارة هذا المعهد سنة 1946، فأقلتنا السيارة بين الوهاد والتلال إلى أن بلغنا قمة جبل، وقد انتصبت عليه أبنية حجرية جميلة. . . وراح رحمة الله يحدثني عما لاقاه من متاعب جمة لإقامة هذا المعهد للبنين، وعن عزمه على إقامة معهد آخر للبنات. فقلت له: وكم كلفكم بناء هذا المعهد؟. . قال: حوالي مائة وخمسين ألف جنيه فلسطيني، توليت تنظيم جمعها بنفسي
ولما بدأت الغيوم القائمة تتبلد في سماء فلسطين أسرع رحمه الله واستحصل من الحكومة المنتدبة على مبلغ مائة ألف جنيه لتتميم بناء مدرسة بيت حنينا وتجهيزها في قضاء بيت لحم، وتخصيصها للتلاميذ العرب في حالة تقسيم فلسطين، وقد عينت الحكومة لجنة أمناء لتحقيق هذا المشروع مؤلفة من الفقيد، والأستاذين نافذ الحسيني، وأنطون عطا الله، ثم أودعت اللجنة المبلغ مودعاً فيه
كانت مدرسة بيت حنيناً هذه تشغل حيزاً كبيراً من تفكير الفقيد إبان إقامته في لبنان. كان يمنى النفس بالعودة إلى وطنه ليعيد للعلم صرحه، لكن الأوضاع العمة لم تسعفه فانتظر وطال انتظاره
وفي العشرين من شهر إبريل سنة 1948 لجأ رحمة الله مع قرينته الأديبة الفضلة السيدة عنبرة سلام الخالدي إلى وطنهما الثاني. . . وكأن إبان حياته في هذا البلد الشقيق عاملاً فعالاً من أجل تعليم أبناء اللاجتين، فأسس في جنوب لبنان مدرسة نموذجية قريبة الشبه بمعهد دير عمرو، وقد أعانه في تحقيق هذا المشروع ساكن الجنان رياض الصلح
لم يكف الفقيد لحظة واحدة عن الكتابة والتأليف عن لبنان، فكان يعقد الفصول في مجلتي (الأديب)، و (الرسالة) ونشر المقالات في جريدة (بيروت المساء) بعنوان - فلسطين في نصف قرن رأيتها تنهار -، وقد استخلص مقالاته هذه من كتابه الكبير الذي يحمل هذا الاسم والذي لم ينشر بعد
وأكب مؤخراً على وضع كتاب (التعليم عند العرب) وقد أنهاه وشرع في تنقيحه. . وورد ذكر هذا الكتاب في رسالته لقرينته التي كانت تقوم برحلة استجمام في ربوع إنكلترا مع شقيقها معالي صائب سلام، فقال فيها. (لقد بلغت يا عزيزي في تنقيح الكتاب حتى عهد
المماليك. . . وإنني أتابع عملي دون انقطاع)
وضع فقيدنا أثنين وعشرين مؤلفاً، طبع منها ستة عشر، وستة منها هي مخطوطات فقط، وتعالج هذه المؤلفات مواضيع شتى في التربية، والتاريخ، وعلم النفس، وقد اشترك مع قرينته أديبتنا الكبيرة السيدة عنبرا في وضع كتاب (تأثير النساء في المدينة العربية) ولا يزال هذا الكتاب بين المخطوطات التي لم تطبع بعد
أما كتبه هذه فمنها ما قد تمكن من إخراجه من فلسطين، ومنها - وهو هام جداً - ظل في بيته في القدس، ومن حسن الطالع أن يقع البيت والكلية العربية تحت إشراف ممثلي هيئة الأمم المتحدة
وفي شهر يناير سنة 1951 تعين المربى الكبير في شركة (ألبان أمير كان للطيران) بمثابة مدير معاون لصائب بك سلام ولم يثنه عمله الإداري هذا لحظة واحدة عن تأدية رسالته التربوية التي كرس حياته من أجلها
كان المرحوم خصب الإنتاج طيلة حياته بالرغم من الصدمة الخاصة التي ألمت به بفقد قرينته الأولى أم الوليد؛ لكن الله قد أراد أن يهئ له السبيل إلى تأدية رسالته الكبرى فكافأه بالسيدة عنبرا سلام الخالدي وهي علم من أعلام السيدات العربيات في القرن العشرين
كانت السيدة عنبرا خير زوج ومعين للمرحوم، ولم يقعدها أمر الإشراف على بيتها وأولادها من تبادل الآراء مع قرينها في شتى المواضيع، ومن الانصراف إلى ترجمة (الإلياذة)، و (الأوديسى) إلى العربية وقد طبعا وأقرتهما حكومة فلسطين، ومن ترجمة (الأنياد) المعدة للطبع الآن
وأنجب فقيدنا ثلاثة بنين زابنتين، وهم: سلافة (27 سنة) تطلب العلم الآن في كمبردج وهي قرينة الأستاذ عاصم بك سلام المهندس المعماري، ووليد (26 سنة) وهو يسعى للحصول على الدكتوراه من أكسفورد وأطروحته فيها (البكرى الصديقى)، ومساعد المستشرق البروفسورجب في تحقيقاته، وأسامة (19 سنة) وهو يدرس الكيمياء في إنجلترا وقد نال درجة البكلوريا فيها، ويعمل للحصول على درجة أستاذ فيها أيضاً، ورندة (16 سنة)، وطريف (13 سنة)
كان الفقيد دائم التفكير بفلسطين، ومما ألت إليه أحوال الفلسطينيين، وقد تركت النكبة
وأوضاع اللاجئين أثراً عميقاً في نفسه، ومضت الأيام دون أن يرى ثرى وطنه حراً مستقلاً، ودون أن يرى هؤلاء المشردين في كل صقع أحراراً كرماء في ديارهم، فلم يقو قلبه الكبير على احتمال الكارثة وسكت. . . بعد ظهر الخميس 27 أيلول سنة 1951 الموافق 25 ذي الحجة سنة 1370 وشيع جثمانه في يوم الجمعة إلى مقره الأخير في مقام الأوزاعي بالقرب من بيروت
كنا نتوقع إبان حياة الفقيد أن تستدعيه الحكومة الأردنية الهاشمية ليشغل المنصب الذي يستحقه. . . وكنا نتوقع أن يعمد أصدقاؤه ومحبوه وهم الآن وزراء، ونواب، وسفراء أن يثيروها حملة صاخبة لدعوة عميد المربين الفلسطينيين إلى مواصلة جهاده التربوي في القدس التي أحبها وأحبته. . . لكن شيئاً من ذلك ويا للآسف لم يحدث، فتوفاه الله وفي نفسه حسرة رحمك الله يا أبا الوليد، ونفعنا بعلمك وفضلك
نجاتي صدقي
أصحاب المعالي
(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها
(حديث شريف)
للأستاذ محمد محمود زيتون
هذا وقد نسب الشيعة إلى الإمام على أنه (كان يعرف السماء زقاقا زقاقا) فهل أريد بذلك الغلو في علم الأيام أم هل أريد به أن السماء لم تعد مجاهل فامتدت إليها يد الإصلاح بالتنظيم والتعمير حتى صارت بها الشوارع والأزقة والدروب؟.
ولا ينبغي أن نغفل شأن أهل السماء وروادها من أصحاب الفلك، الذين جعلوا علما ثابت القواعد مأمون المناهج معروف الغايات. . .
والتنجيم في جوهرة استجابة صادقة للنزاعات الطامحة في الأجيال إلى كشف مجاهل السماوات العلا، وإهمال هذا الجانب ليس إلا نقصاً في المعرفة الإنسانية الكاملة، لهذا كانت الدعوة الإسلامية حريصة على الحث عليها لما لها في تحرير العقل، وتعريفه بقدرة الله العلي الأعلى
والكواكب سيارة وثابتة. أما الأولى فهي السبع المشهورة: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر، وهي مرتبة تنازلياً من السماء العليا إلى الدنيا، لهذا كان القمر أقرب السيارات منا، وزحل أبعدها، أما الثانية فكلها في السماء الدنيا
ويتناول علم النجوم أفلاك الكواكب ومنازلها بالبروج وأدوات الرصد وغير ذلك، مما يجعل الباحث فيه من أصحاب المعالي
وإذا تتبعنا نشأة التفكير الحر في الأوساط الإنسانية نرى أن الفلسفة اليونانية هي التي تمثل تطور الفكر من مهده إلى رشده، فقد بدأ الطبيعيون الأولون ينظرون إلى الوجود في حرية واستقلال بعد أن خلعوا عن كاهلهم نير الأساطير والتعاويذ، واتجهوا بأنظارهم إلى أصل الأشياء
وانتقل الفيثاغوريون بعدهم إلى الأعداد والأنغام غير ناظرين إلى المحسوسات وتخطاهم (بارمنيدس) إلى الوجود من حيث هو الوجود، واهتدى إلى (الله) واستنتج صفاته على نمو
من التنزيه والتجريد لم نرلها مثيلاً من قبل
ولما شاعت الفوضى على يد السفسطائيين قام (سقواط) بحملة موفقة على موجة الادعاء والغرور، وطلب الحقيقة فوجدها كامنة في الكليات لا في الجزئيات، فاصطنع الاستقراء للوصول إلى غاية، وأخذ في توليد المعاني من النفوس كما كانت أمه تفعل في توليد الأجنة من البطون، وبالحوار السقراطي بلغ الفكر إلى حيث ينبغي أن يكون وجاء تلميذه (أفلاطون) فكان أحرص على تراث الفيلسوف الأثيني، فابتدع منهجاً فريداً هو الجدل وجعله صاعداً ونازلاً أي أنه ارتفع بالنظر من المحسوسات في عالم التغير إلى المقولات في عالم الثبات، وانتقل بالفكر الخالص من الأرض إلى السماء أي من الأشباح إلى الحقائق، من الموجودات إلى (المثل) حيث كانت النفس قديماً في صحبتها، وإذا بأفلاطون بعد هذا التحليق ينزل بجدله هذا إلى أمور الدنيا لتفسيرها وتعليلها، ومعه قبس من السماء كأنه كبير الآلهة (زوس) الذي هبط إلى الأرض وفي عقب عصاء جذوة العلم
ولم يقف أفلاطون عند فكرة طارئة، بل أوصل فكرته إلى غاياتها البعيدة بأن رسم الحدود العليا لكل من الفرد والمدينة في دقة وعلى نحو رفيع، ولا ننس مع ذلك أسطورة الكهف الأفلاطوني التي ترمز بالكهف إلى الانحطاط في المستوى الإنساني من حيث الرضى بالأشباح الزائفة التي لا تغنى عن الحقائق شيئاً
ولقد خلع أفلاطون على تلميذه النابغة (أر سطو) أرفع وسام إذ سماه باسم (العقل) أو (عقل المدرسة) وذلك لما كان يمتاز به من سمو في التفكير وتوخ لصوت العقل
أنزل أر سطو الفلسفة من السماء إلى الأرض ليبدأ من الأرض وينتهى إلى السماء فهو من أميز أصحاب المعالي في انتقاله من العدم إلى الكمال، وبينهما درجات تصاعدية على أساس من (العقل)، فالهيولى أو المادة الأولى عدم أو شبه عدم، ويليها تصاعدياً الجماد فالنبات فالحيوان فالإنسان ثم تعلوه الكواكب ومن فوقها جميعاً (الله) باعتباره (عقل العقل) والذي هو الكمال المطلق والمحرك الأول الذي يحرك ولا يتحرك. وتحريكه للعالم إنما يكون عن طريق الجذب، والموجودات كلها تتحرك نحوه بالعشق لأنه كمالها، والناقص يطمح دائماً إلى الكامل
وعنى أر سطو كذلك بالنفس وميز الأخلاق الرفيعة من الوضيعة، بأن جعل الفضيلة وسطاً
عادلاً بين طرفين متنافرين هما التفريط والإفراط، ويسمى المعلم الأول: التهور شجاعة البهائم، وهو الذي ينسب إلى الله الحكمة الإلهية (بينما على المرء أن يتحلى بالحكمة الإنسانية). وعلى العموم فأن آفاق أر سطو كلها بعيدة الأقطار عالية الأبعاد رفيعة الأهداف، مما جعله ينفرد بالقمة دون السابقين واللاحقين من فلاسفة الشرق والغرب على السواء
وجاء من بعده عشاق اللذة وطلاب المنفعة، وتذرعوابمبدأ (ولك الساعة التي أنت فيها)، وما كان ذلك ليمنع من ظهور أصحاب الأخلاق العالية في شتى العصور، وقد أجمعوا على طلب (المثل الأعلى) والتسامي بالنفس عن سفاسف الأمور، وكان الإسلام كالمنارة بين الخير والشر في ظلمات الحياة، وذلك بقول العلي المتعال (ولله المثل الأعلى)
وقدم الأحيائيون لعلماء النفس ثمرات طيبة أفادت كثيراً في المجال السيكولوجي بل في الأخلاق. وأكثر من هذا كله في النظرة الكونية العامة، فإن أصحاب النشوء والارتقاء إنما يدعون إلى التفاؤل، ويحثون على التقدم
وبناء على نشوء الكائنات الحية وارتقائها في سلم الحياة نراها تهدف إلى تكامل الجهاز العصبي، وذلك لا يتم إلا إذا انتهى هذا الجهاز إلى المراكز العليا للمخ، ومقتض هذا التطور تترتب الكائنات من الدنيا إلى العليا
تأثر السيكولوجيون بهذه الروح التقدمية العامة ففرقوا بين الإدراك والوجدان والنزوع، كما وقفوا على خصائص الغريزة، وقالوا بأنها لا يمكن القضاء عليها، بل الباب مفتوح على مصراعيه للتقدم الإنساني تبعاً لإمكان إعلائها، وتعلية السلوك
ونرى هذه الروح العالية تسود بقية العلوم بما لها من مبادئ عليا، ففي المنطق يعتبر المحسوس سافلاً والمجرد عاليا، وفي المقولات ما هو عال ومنها ما هو سافل وفي علم الفيزيقا تمييز واضح للأشعة فوق البنفسجية. وهناك (ما بعد الطبيعية) وهي الفلسفة العليا، وفي الجغرافيا دراسة للطبقات العليا من الجو
وفي علوم الرياضة اصطلاحات خاصة مثل: الترتيب التصاعدي والتنازلي، والبسط والمقام، وأكبر وأصغر. وكان اليونان قديماً يعتبرون العدد عشرة أكمل الأعداد. على أن البساطة هي غاية الرياضة، لهذا فهي ارتفاع من الأعداد والأشكال إلى الرموز؛ أي من
الحساب والهندسة إلى الجبر، ومن ثم إلى الهندسة التحليلية
والفن لن يكون خالداً إلا إذا تلمس معالي الأمور، وعندئذ يسمى (الفن الرفيع)، أليس من ذلك هذا لا لتمثال اليوناني الذي يصور نسراً قص جناحاه كرمز على المجد الذي لا يريدونه أن يغادر بلادهم، ولا شك أن تمثال نهضة مصر إنما يمثل قطعة من طموح مختار حتى لقد أقام أبا الهول على يديه، ونهض بمصر عالياً، إذ جعلها تشرف ببصرها ورأسها، وصدرها إلى العلا
وفي الحرب يعتبر المكان العالي مفتاح الغزو، ولذلك يرفع العلم في ذاره كرمز على النصر المبين. وبخفض كرمز على الذل المهين
وتنطبع هذه النزعة في شتى مواقف الحياة فيقال: المصادر العليا، والقيادة العليا، والرئاسة العليا، والمجلس الأعلى والرئيس الأعلى والقائد الأعلى والمركز العام. وكذلك في الألقاب: صاحب الجلالة، والسمو والمجد والفخامة والمقام الرفيع، وصاحب المعالي وصاحب العزة، وكذلك الباب العالي والجناب العالي والصدر الأعظم. وفي مصر نقول في الوظيفة: ترقية، رتبة، علاوة، وفي العراق يقولون ترفيعة
وإذاً صدق أر سطو في حث الإنسانية على التماس الشرف في التفكير إذ يقول (شرف العقل من شرف موضعه) فهذه دعوة رسول الإنسانية عليه السلام (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها) وبهذا كان في الطليعة من (أصحاب المعالي)
ممنوع النقل والنشر والترجمة إلا بأذن من مجلة (الرسالة)
محمد محمود زيتون
رسالة الشعر
حيران
للأستاذ صبحي محمود سعيد
(مهداة إلى الأستاذ أنور المعداوي)
حيران يا قلبي وأين
…
النور في هذا الظلام
أين النجوم تضيئ لي
…
مسرى أماني العظام
مهما سعيت فلا أرى
…
ألا قتاما في قتام
ملأ الظلام سكينتي
…
حتى ذعرت من الزحام
حيران لا خل يعين
…
على الحياة ولا سلام
حيران أسأل عن وجودي
…
أي معنى في وجودي
أخلقتني يا رب للأقدار
…
كالهدف القعيد
تتضاحك الأقزام من
…
وقع السهام على زنزدي
أين السبيل لقد ضلك
…
وتهث في دنيا العبيد
أخلقتني للقيد يا ربي
…
فقد صدئت قيودي
ألأنني أعتقت روحي
…
من قيود الظالمين
ألأنني ألقيت جسمي
…
للذئاب الجائعين
ألأنني أطلقت أفكاري
…
صدى للناقمين
مكنت لي قيداً وغلاً
…
في الشمال وفي اليمين
لكنني ما زلت حراً
…
بالعقيدة واليقين
ظمآن في بيداء عمري
…
للحقيقة والمنا
طال الطريق ولا أبالي
…
بالمشقة والضنا
أجهدت نفسي في طريق
…
من ضحيتها أنا
في الشوك سعيي ما سعيت
…
ووجهتي ذاك السنا
أين المفر أخا العذاب
…
وأنت من هذي الدنا
حيران بالطين الذي
…
منه الخليقة والعباد
والطين طين واحد
…
من داف بالطين الفساد
من علم الطين التفاخر
…
والتباهي والعناد
عجبي لمن خشى القتاد
…
وراح يمشي بالقتاد
كالنار تأكل بعضها
…
كي تستحيل إلى رما
حيران لا أدري لمن
…
أعنو وأسجد في صلاتي
أأليك يا ربي فها
…
أناذا أهمهم في شكاتي
وأسارق النظر الكليل
…
إليك من خوف الوشاة
والقائمين على النخاسة
…
والمتاجر في حياتي
وأنا مكب مائل
…
بين الدعاية والدعاة
أنت الذي بينت أصل
…
الخلق من طين وماء
كانوا تراباً آسنا
…
لما جبلت على الهواء
أنزلتهم أرض الخصا
…
صة واستوبت على السماء
تنهى وتأمر بالعباد
…
كأنهم بعض الإماء
وإذا عصوك نسفتهم
…
نسفاً هباء في هباء
من ذلك الخوف امتثلنا
…
للعبودة صاغرين
فاستأسد الباغي القوي
…
على الضعيف المستكين
هذا يدوي بالزئير
…
وذاك يهمس بالأنين
من كان يؤمن بالقوى
…
فأنا بذلك لا أدين
ديني السماحة والحجى
…
والخلق من ماء وطين
كم مرة حطمت
…
آمالي وحطمت المرايا
كي لا أرى أحلامي
…
الثكلى شظايا في شظايا
كي لا أرى شبح النبوغ
…
يطل من بين الضحايا
حطمت كل سجية
…
أوراه من تلك السجايا
إلا بقايا حسرة
…
أبقيتها خلف الحنايا
حيران في خلقي وخلقي
…
واحتمالي للهوان
لو كنت أعرف من أنا
…
أأنا طليق أم مدان
إني أسير وما برحت
…
أسير مبهور العنان
فإلى متى أمشي وأمشي
…
والزمان هو الزمان
وإلى متى أنعى وجودي
…
ثم يخذلني الأوان
ببيروت
صبحي محمود سعيد
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
اللغة الأجنبية الأولى: د
لا تزال اللغة الإنجليزية هي اللغة الأولى في بلادنا، نعلمها للناشئة من السنة الثالثة الابتدائية، وتوشك أن تفرض على جميع المصريين بعد تنفيذ قرار التعليم الإجباري في مرحلة أولى موحدة
لا شك أن ذلك من أثر الاستعمار الإنجليزي في مصر، وأعني بذلك جعل الإنجليزية هي اللغة الأجنبية الأولى في التعليم، ولولا ذلك الاستعمار لكانت لغة مثل الفرنسية هي الأولى، أو لكنا وزعنا اهتمامنا باللغات الأجنبية على عدد من اللغات الحية ولم تكن الإنجليزية على أي حال الأولى
ومن الواضح أن سواد المتعلمين حين تفرض عليهم لغة أجنبية بعينها من البدء يضطرون إلى توجيه عنايتهم إليها أكثر من غيرها، فيقل اهتمامهم باللغة الثانية - كما هو الواقع بالنسبة إلى الفرنسية النتيجة هي الاستعمار اللغوي، وما أبغض الاستعمار بجميع أنواعه! والسؤال الأول: هل هناك - غير الاستعمار الإنجليزي في مصر - ما يدعو إلى أن تكون الإنجليزية اللغة الأولى في المدارس والمعاهد والجامعات المصرية؟ ولا أحسب أن لدى أحد من أحرار العقول جواباً عن هذا السؤال
فلو قارنا بينها وبين اللغة الفرنسية لخرجنا من هذه المقارنة بأن اللغة الفرنسية أولى منها بهذه المنزلة. فاللغة الإنجليزية لا تنتشر إلا في إنجلترا ومستعمراتها، على خلاف الفرنسية التي يسود التفاهم بها في أكثر البلاد الأوربية إن لم يكن في جميعها حتى إنجلترا نفسها وكذلك في أمريكا، والفرنسية هي اللغة الأولى في المحافل والمجامع والهيئات الدولية، وهي العالمية للآداب والفنون، ما من أثر أدبي أو فني ذي قيمة في البلاد الأخرى إلا وهو مترجم إليها
والسؤال الثاني: ما الذي يحملنا إذا على الرضاء بذلك الاحتكار اللغوي الذي أصبح أهله أبغض الناس إلينا، ولماذا لا نزيح عنا هذا الكابوس في جملة ما نعتزمه؟
إن الإنجليز من غير شك - يحبون نشر لغتهم ويحرصون على إذاعتها، وقد تضمن
الاتفاق بينهم وبين الباكستان أن يبقى تعليم الإنجليزية فيها إجباريا بجميع التلاميذ، ولم ننس بعد الدعوة التي وجهتها الحكومة الإنجليزية في العالم الماضي إلى الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف إلى زيارة إنجلترا0وجامعاتها وإلقاء محاضرات فيها، والحفاوة التي لقيها معالية هناك. نعم إن المكانة والصيت اللذين أحرزهما معالية في ميدان الفكر العالمي جديران بأن يحتفي به من أجلهما في أي مكان، ولكن لم يكن خافيا أن الإنجليز - وهو الإنجليز - كانوا يرمون من وراء ذلك إلى غرض آخر، هو كسب الوزير المصري الخطير، كي يرعى جانبهم ولو بعض الشيء في المجال الثقافي الفرنسية - أن تطفي على الإنجليزية في مصر
ونحن نعلم رأي معالي الدكتور طه حسين باشا في تعليم اللغات الأجنبية في مصر كوسيلة للمشاركة في الثقافة العالمية، فهو يرى عدم قصر الجهود على لغة واحدة، ويقول بوجوب التنويع في ذلك بين المواطنين، ليتاح للثقافة المصرية أن تقطف خير الثمار من مختلف الجهات
وعلى ذلك تحرير المسألة في أمرين، الأول أن الإنجليزية ليست خير اللغات حتى نجعلها اللغة الأجنبية الأولى في بلادنا، فيجب أن نستبدلها بغيرها ولتكن الفرنسية، والأمر الثاني أن الإنجليزية في وضعها الحالي بمصر من آثار الاستعمار الإنجليزي الكريهة، وأن الإنجليز يسوؤهم أن نزحزحها عن مكانتها، فيجب إذن أن نزيل ذلك الأثر المنتن. . وأن نسوء إنجليز في لغتهم كما نسوؤهم في غيرها
والوقت الحاضر هو أصلح وقت لهذه الضربة القاصمة، التي ترضى الشعور الوطني، وتنال من الأعداء، وتنفع البلاد
فهيا أيها الرجل العظيم، اضرب الضربة. .
حذار من الوعظ والتهريج:
تطور النزاع بيننا وبين الإنجليز تطروا خطيراً عقب إلغاء المعاهد وما تبعه من اعتداءاتهم المنكرة المتكررة، وصارت البلاد إلى حال تستوجب بذل جميع الجهود وتوجيه الكفايات المختلفة نحو معركة التحرير القائمة، ولا يد للأدب والعلم والفن أن تساهم في هذه الحركة إن لم تقدها. وقد نشر أن هيئة التدريس بجامعة فؤاد الأول اجتمعت بقاعة الاحتفالات في
الجامعة ودار البحث في هذا الاجتماع حول أحسن الوسائل التي ينبغي اتخاذها لخدمة القضية الوطنية في الخارج والداخل، واستعرض المجتمعون بعض الوسائل التي تتخذ في هذا السبيل، ومنها الاتصال المباشر بهيئات التدريس في الجامعات الأجنبية، ومنها قيام الأساتذة بإلقاء محاضرات تذكى الحماسة الوطنية في المدرجات الجامعية وغيرها
ويقال إن محطة الإذاعة المصرية تعمل الآن على تغيير برامجها وإعداد برامج تناسب الحركة الوطنية الحاضرة وقد بدأنا فعلاً نسمع منها شيئاً من ذلك، أقله جديداً، وأكثره قديم، وكل ذلك حسن، ولكن الذي تخشاه أن ينقلب الأمر إلى وعظ ممجوج، وخطابة يذهب أثرها مع الريح، وتهريج مسف مبتذل
نريد أن تستغل المواهب الممتازة والعقليات الناضجة في تقديم إنتاج جيد، في محاضرات تقوم على الحقائق وتبصر بدقائق الأمور، وفي فن يستميل القلوب ويعرف الطريق إلى مداخل النفوس
إن هذا الحشد من الأناشيد التي تحفظه الإذاعة لتعيده على الأسماع في كل مناسبة، لم يعد صالحاً للعمل، لأنه سخيف في تأليفه وتلحينه وإلقائه وقد مجته الأسماع من كثرة التكرار والترديد، وقد بدأت الإذاعة تلقيه على رؤوسهم كالحجارة، ونرجو أن تسبدل بهذه البضاعة المملولة جديداً موفقاً
وكم أود أن أتعلق بالتفاؤل ورجاء الخير فيما ستقدمه الإذاعة من جديد، وإن كنا نرى فيما بدأت تذيعه بعض الإسفاف الذي رجونا أن نبتعد عنه، فقد سمعت في إحدى تمثيلياتها أخيراً، رجلا قروياً يقول لزوجته:
(وبعدين يا مبروكة في الجماعة الإنجليز أولاد الـ. . . . دول!)
الحرية في الأدب العربي:
ومن أحسن ما سمعته من الإذاعة في هذا الظرف، حديث للأستاذ محمد رفعت فتح الله عن (الحرية في الأدب العربي) بدأه قائلاً:(الحرية وما هيه؟ فتنة القرون الخالية، وطلبة النفوس العالمية، غذاء الطبائع، ومادة الشرائع، وأم الوسائل والذرائع، بنت العلم إذا عم، والخلق إذا تم، وربيبة الصبر الجميل والعمل الجم. . .)
وقد استرعى انتباهي هذا الأسلوب الأدبي المحتفل له، وأعجبني منه قوته مع سهولته،
وكان نبر الأستاذ في الإلقاء يوضح مقاصده
وبعد تلك المقدمة ساق طائفة من أقوال العرب - شعراً ونثراً - في الحرية وتمجيدها، ثم ختمها هذا الختام الطريف:
(ولقد استطاب اللسان العربي هذه الحرية وتخيرها، واستعارها للشيء الفاخر المختار الخالص من الأقدار، فيقال (حر الفاكهة): للمختار منها، و (حر الشعر) للفاخر الرائق منه، و (الحر من الفعل): ما كان حسناً خالصاً، و (الحر من الأرض): الطيب الجيد، و (حرية القوم): أشرفهم. ومن الطريف في الأدب العربي أن (حرية المرأة) لها معنى في الأدب القديم. ومعنى آخر في العصر الحاضر، فحرية المرأة - بالمعنى القديم -: شرفها وكرامتها، فإذا قيل (المرأة الحرة) فالمراد الشريفة الخالصة من أغلال العار، وأما (حرية المرأة) في عصرنا فالمراد بها تخلصها من قيود اجتماعية كانت عليها من قبل
القاموس الجغرافي للبلاد المصرية:
هو كتاب وضع أصوله المرحوم محمد رمزي بك، وقضى في تحقيقاته زهاء أربعين سنة، معتمد على مشاهدته، وعلى مراجع تاريخية وجغرافية، وعلى وثائق في المصالح الحكومية، فجاء شاملاً لجميع البلدان المصرية من مدن وقرى، سواء القديم منها والمستحدث
وقد أشرت إلى هذا الكتاب في أوائل العام الحالي، وذكرت أن دار الكتب المصرية قد اشترت جزازات هذا القاموس وأصوله من ورثة المؤلف بعد وفاته، وتسلمتها في فبراير سنة 1949 على أن تطبع الكتاب في خلال سنة على الأكثر ولكن الدار تراخت في تنفيذ ذلك
وعلى أثر كتبناه إذ ذاك، اهتم ورثة المؤلف الفقيد حرصاً منهم على بقاء هذا الأثر الخالد وإخراجه للناس، واستحثوا دار الكتب في ذلك، فعنيت الدار بالأمر، وعهد الأستاذ توفيق الحكيم بك عقب تعيينه مديراً لها إلى وكيلها الأستاذ أحمد رامي في أن يشرف على إعداد هذا الكتاب للطبع وندب لمعاونته الأستاذ أحمد لطفي السيد الموظف بالقسم الأدبي في الدار، والذي زامل المرحوم رمزي بك زهاء خمسة عشر عاماً وفهم منه نظام العمل في هذا القاموس
وفي خلال الشهور الماضية قام الأستاذ لطفي السيد بمراجعة بطاقات القاموس وتحقيقها وترتيبها وتهيئتها للمطبعة، وأصبح الكتاب الآن معداً للطبع، والمرجو أن يبدأ طبعه في أقرب وقت، وألا يلتفت إلى المعوقين الذين يريدون تعطيل هذا العمل النافع. . .
عباس خضر
الكتب
الدين والتاريخ
تأليف الأستاذ عباس كرارة
للأستاذ منصور جاب الله
هذا واحد من الكتب التي يضعها الأستاذ عباس كرارة بين الفينة والفينة مصدرة بكلمة الدين، وله قبل هذا الكتاب مؤلفات دينية أخرى منها الدين والأدب، والدين والحرم، والدين والحج، والدين والصلاة، والدين والصحة إلى غير ذلك من الموسوعات التي يحتسبها المؤلف الورع لوجه الله تعالى ابتغاء مرضاته
وهو قد كسر مؤلفه الأخير على تبيان مراحل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحدث عن مولده وبعثته وهجرته وغزواته ووفاته، وقسم الكتاب ثلاثة أقسام: اختص الأول منها بالدور الأول من حياة النبي الكريم ويبتدئ من ولادته وينتهي ببعثته وقدره أربعون سنة، واختص القسم الثاني ببعثة الرسول في مكة إلى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم
فالكتاب إذن من كتب السيرة النبوية العاطرة، وهو لا يعدو في جوهرة تلك الكتب التي وضعت في حياة الرسول، ولكن المتأمل في هذا السفر لا يتلبث إذ يمضي في المطالعة حتى يجد نفسه حيال مؤلف جديد لم يسبق أن وقع عليه، ذلك أن الأستاذ عباس كرارة لا يكتب لمجرد شغفه بالكتابة، فالذي يبدو أن الكتابة ليست هوايته المفضلة، ولا مهنته الأصلية، وإنما هزة لهذا القصد حبه لرسول الله وشغفه به وحبه لنفع المسلمين إذ يتدفق الإخلاص من بين تدفقاً، وهو يروي في مقدمة كتابه ما دعاء إلى إمساك القلم والتحدث إلى الناس عن هذا النبي العربي العظيم (هنالك تجردت الروح من الشواغل الدنيوية والأفكار المادية، وانصرفت عن المطامع، وخلصت من الأغيار، وجالت جولة في عالم الشهود، فتم التجلي والصفاء، وتوجهت إلى الله بقلب سليم، ودخلت الروضة بشوق عظيم، وفرح جسيم، فحالما تمت مواجهتي لصاحب الشريعة الإسلامية والملة الحيفية، نسبت نفسي وجلت في عوالم الصفاء، وتجردت عن الحس والمادة، فاغرورقت عيني من الفرح بالدموع، وخفق قلبي من السرور بين الضلوع) إلى آخر ما قال المؤلف المتصوف الورع
في هذا المجال
فكتابة وليد تشوق ولهفة رجب لرسول الله وأهل بيته، ومن ثم ينهى مقدمة الكتاب بهذه الكلمات (كان الفراغ من تبييض هذا الكتاب بمكة المكرمة. وببيت الله الحرام بجوار الكعبة المعظمة)
ولا يقتصر الكاتب على ما نقله من كتب السيرة، فإنه أزجى في كتابه الفريد مقالات مما كتب المسلمون في الذكريات الإسلامية المجيدة، فوضع كل مقال في بابه، فجاء منسجماً كالعقد نضدت جواهره ولآلئه في سمط محبوك الأطراف، وإن كنا نأخذ على المؤلف الفاضل انه أسرف في الاقتباس بإيراد ومقالات الصحف السيارة، ولكنه يعزز ذلك بقوله (وإلى جانب ما قمت باختياره ووضعة، وتلخيصه وجمعه، اخترت بضع مقالات دبجتها يراعه بعض الكتاب الأفذاذ في العصر الحاضر، رأيتهم أخلصوا النية فيما كتبوه بأقلامهم وسطروه في صحفهم لله ولرسوله، واستجابوا فيها لوحي إيمان العميق، ونور الإسلام المشرق الوضاء، وجدتها مبعثرة هنا وهناك في الجرائد والمجلات، فجمعت شملها وألفت بين المتفرق منها ليعم الانتفاع بها)
فالرجل قد بذل جهداً في جمع الأشتات والتأليف بين النظائر، وانتقاء المحاسن، ولم يقصر مؤلفه على مجرد السرد والقصص واستخلاص العبرة من حياة خاتم المرسلين، ذلك لأنه أراد من مؤلفه وجه الله ولم يرد الكسب المادي كما سلف الكلام والكتاب فوق هذا وهذا تحفة فنية جميلة، إذ وشاه صاحبه بنقوش جميلة للآيات القرآنية الجميلة، مكتوبة بأيدي كبار الخطاطين، ورسوم للأماكن المقدسة لا تكاد تقع عليها العين حتى تفيض لما عرفت من الإيمان وبعد، فإن الحاج عباس كرارة يستحق تقدير كل مسلم لهذا الجهد الذي يبذل في خدمة الإسلام وتفقيه المسلمين بدينهم. وفقه الله وأثابه
منصور جاب الله
فلسفة المعتزلة
تأليف الدكتور البير نصري نادر
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب ببغداد
للدكتور إبراهيم مدكور بك
كنت أومن دائماً بأن للمعتزلة مذهباً فلسفياً متصل الحلقات مكتمل المعالم، وإن بدت آراؤهم في صورة لمحات متفرقة لا تكاد تلحظ بينها صلة. وكنت أومن كذلك بأن في الإمكان تكون هذا المذهب قطعة قطعة وضم أجزائه بعضها إلى بعض، على الرغم من إبادة معظم ما خلقه هؤلاء المفكرين الأحرار
وازداد إيماني يقيناً يوم أن نشر كتاباً (مقالات الإسلاميين) و (نهاية الأقدام)؛ ولقد دعوت منذ عشرين سنة تقريباً في ' إلى تحقيق هذه المحاولة، ولبى دعوتي - وإن يكن في أفق محدد - أبو ريدة في كتابه عن (النظام)
وها هو الدكتور البير نصري تارد اليوم يعالج في مؤلفه القيم (فلسفة المعتزلة) الأمر عاجلاً في مشمل فيجمع من المتفرق وحدة، ويكون من الشعت انسجاماً، ويبرهن علماً على أن الاعتزال مذهب فلسفي في أدق ما يدل عليه هذا التعبير
وقد كلفه ذلك عملاً مطرداً؛ وجهداً متصلاً، واطلاعاً وقراءة مصادر قد يعز أحياناً استنفاذها والوقوف على كنهها - وكان نجاحه واضحاً في التعبير عنها وتقريب ما فيها للقارئ العادي؛ ولم تقنع بعرض أفكار المعتزلة زحدها بل شاء ردها إلى أصولها، فكان له في هذا اجتهاد ملحوظ
وقد يكون هذا الاجتهاد محل أخذ ورد أحياناً، ولكن من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر اجتهاده. وقد يعيب عليه بعض المستشرقين أنه لم يستوعب ما كتبوا، ولم يسر إلى ما ألفوه في هذه الناحية، وهو جد كثير. ويظهر أنه آثر المصادر الإسلامية على ما اتصل بها من مؤلفات أجنبية
فأني أهنئ حضرة المؤلف تهنئة خالصة على هذا البحث الرزين الهادئ. وأرجو أن يتابع هذه الناحية بحثاً وتفصيلاً
ابراهيم مدكور
المسرح والسينما
نقد مسرحية
مسمار جحا
للأستاذ أنور فتح الله
افتتحت فرقة المسرح المصري الحديث موسمها التمثيلي هذا العام بمسرحية (مسمار جحا). واختيار هذه المسرحية يعد نقطة تحول في اتجاه هذه الفرقة، فقد بدأت تتجه نحو المسرحية التي تستجيب لواقع الحياة المصرية، فتعالج مشاكلها، وتصور آمالها وآلامها
فالمسرحية تدور حول قضية البلد الأولى. . . قضية الحرية والاستقلال. وقد اختار المؤلف جواً أسطورياً ليبرز فيه الموضوع، ولجأ إلى الرمز للقضية المصرية، بقضية (مسمار جحا) الساخرة ليعبر بلسانها عن آلام المجتمع وأمانيه، وليبين بمنطقها القوى الساخر وجه الحق ووجه الباطل في قضية الحمل والذئب
ولم يتخير المؤلف شخصية معينة لجحا. . بل اختار شخصية خيالية ليتحرر من النطاق التاريخي الضيق. ومع هذا فإن شخصية جحا التركي كانت أقوى الشخصيات الجحوية تأثير عليه
ويجدر بنا - قبل أن نعرض للمسرحية - أن نبادر فنسجل للأستاذ باكثير فضل السبق في إبراز شخصية جحا الساخرة في عمل فني. وكذلك نسجل له توفقيه في اختيار الموضوع الحي الذي تتحرك فيه هذه الشخصية، وبهذا توافر له ما لم يتوافر من عوامل النجاح، وهو الشخصية الروائية المحبوبة من الشعب، والموضوع الحي الذي يشغل الأذهان، وخاصة في هذه الأيام
والمسرحية تصور حياة جحا من جانبين: الجانب العام، والجانب الخاص
أما الجانب العام، فيصور الصراع بين جحا والشعب من ناحية، وبين المستعمر ممثلاً في الوالي والحاكم من ناحية أخرى. وأحداث المسرحية الرئيسية تسير في هذا الخط لتحقيق الغرض الأول الذي يهدف إليه المؤلف؛ وهو علاج القضية التي تتصل بصميم الواقع المصري
أما الجانب الخاص، فيصور الصراع بين جحا وامرأته، ومن وراء جحا ابنته ميمونة، وابن أخيه حماد. وتسير أحداث هذا الخط لتحقيق الغرض الثاني من المسرحية، وهو تصوير الجانب الإنساني في حياة جحا. ويبدو لنا أن المؤلف قد اعتمد على هذا الجانب ليستغل هذه الشخصية المرحة الساخرة في أثار الضحك وسنستعرض المسرحية، ونتتبع المؤلف في هذين الخطين لنرى إلى أي حد وصل إلى تحقيق غرضه
. . . ففي مدينة الكوفة. . . نرى (جحا) يعظ الناس أمام أحد المساجد. . وعندما يتبين للوالي أنه يبصر الناس بما هم فيه من بؤس، يغزله من عمله. . ويعود جحا إلى داره خائفاً من زوجته السفيهة. . . السليطة اللسان. . فيقابله ابن أخيه حماد ويشير عليه بأن يعمل في زراعة الأرض، وعندما يوافق جحا على ذلك، يسمع دق الطبول. . . وإذا بالجراد قد سندت أرجاله الأفق. . . وأني على زرع البلاد!
. . . ويثور الفلاحون على الملاك، ويقود حماد الثورة، ويفاوض جحا الحاكم المستعمر، فيخلص الثوار من ظلم الملاك، ويعينه الحاكم قاضياً لقضاة بغداد. . ونرى زوجته (أم الغصن) وقد صارت أخلاقها أسوأ مما كانت، وأفسدها البطر، وقد جمعت الخاطبات لابنتها عن زوج ثرى. . . ويأتي حماد، فيخبره جحا بأنه قد عزم على أن يقوم بعمل خطير من شأنه أن يجلى المستعمر عن البلاد، وذلك بأن يهيئ السبيل لتعرض أمامه قضية تشبه قضية البلاد، فيشغل بها الرأي العام، ثم يفصل فيها بما يبطل حجة الغاصب الدخيل، ويتفقان على أن يهب جحا داره لحماد، فيبيع حماد الدار، ويشترط على مشتريها أن يبقى له حق التمتع بمسار في جدارها!. . . .
وتعرض على جحا قضية المسمار، ويشهد الحاكم الأجنبي المحاكمة. . . ويثور الشعب على صاحب المسمار، وينتصر لصاحب الدار فيصبح حماد في الناس قائلاً (ويلكم، ترون المسمار الصغير، ولا ترون المسمار الكبير!. هذا صاحبه فيكم، مروه بنزعه أو فانزعوه بأيديكم!.) وهنا، يأمر الحاكم بالقبض على حجا، ويفر حماد
. . . . ويذهب الحاكم إلى السجن، ليطلب من جحا إخماد الثورة، ودعوة الشعب إلى السكينة، فيطلب منه جحا أن يجلو وجنوده من البلاد، فيأتي الحاكم. . .
وتشتد ثورة الشعب، فيضطر المستعمر إلى الجلاء، ويخرج جحا من السجن، ويزوج ابنته
من حماد، رغم أنف امرأته
هذا هو الخط الرئيسي للأحداث الذي يصور الصراع الأول في المسرحية
ويتتبع هذا الخط نرى أن المؤلف قد أذاع سر مؤامرة جحا وحماد قبل عرض قضية المسمار، وبهذا قضى على عنصر التشويق في أهم أحداث المسرحية. فأضاع الأثر القوي لهذا المشهد الذي يرمز لقضية البلاد
كذلك أخمد دخول امرأة جحا في مشهد القضية من حرارة الأثر النفسي، فأبطل فعل الأحداث السابقة لدخولها، وحول انتباه المشاهد عن قضية المسمار، وهي قضية، إلى شكوى أم الغصن من زوجها، فقضى المؤلف بهذا على التركيز الذي يجب أن يوجه انتباه المشاهد إلى القضية
ولقد كان مشهد مقابلة الحاكم لجحا في السجن طويلاً، فطال بذلك حديثهما عن الجلاء حتى أصبح الحوار مباشراً بعد أن كان رمزياً إلى النغمة الخطابية، فقد بذلك الضباب الذي يكسو العبارات الرمزية التي تلمح للواقع فتجذب انتباه المشاهد ليتبين نفسه من وراء هذا النقاب الخفيف
هذا. . وبخروج جحا من السجن، بعد أن جلا المستعمر عن البلاد، تنتهي الأحداث الرئيسية للمسرحية، وبذلك تنتهي المسرحية دراماتيكيا. ولهذا فلا تأثير للأحداث اللاحقة. وكان من الخير أن تنتهي المسرحية في نهاية المنظر الخامس، وذلك لأن الحركة في المنظر السادس بد بطيئة مملة لانعدام ما يشوق المشاهد أو يجذبه
. . . أما الخط الثاني، الذي يصور الصراع بين جحا وامرأته، والذي أراد المؤلف من ورائه أن يثير الضحك فيتلخص في إبراز سفاهة أم الغصن وشراستها في معاملة جحا، وكراهيتها لحماد، واستعانتها بالخاطبات ليبحثن لابنتها عن زوج ثري. وقد استنفذ إبراز هذه النواحي جزاءا كبيراً من المنظر الثاني، والثالث، والرابع، والمنظر السادس بأكمله تقريباً. وقد أدى هذا التكرار في تصوير اللون الواحد في هذه المناظر إلى ركود الحركة المسرحية، وانعدام التأثير على المشاهد، فبدت هذه الأجزاء مملة إلى حد الضيق. وقد خلا أغلب هذه الأجزاء من المفارقات الطبيعية التي تشيع المرح وتثير الضحك، وذلك لأن المؤلف اقتصر على تصوير الشجار بين جحا وامرأته، وتكرار هذا الشجار في صورة
واحدة تقوم على الشتائم من ناحية أم الغصن، وردود جحا الفلسفية من الناحية الأخرى
أما شخصية ابن جحا (الغصن) فقد خلقها المؤلف ليثير الضحك أيضاً، وأورد على لسانها بعض نوادر جحا المعروفة، كترغيبه الخاطبات في أخته بقوله إنها حامل في شهرها السادس. . . وقد أبرزه المؤلف أبله في أقواله وأفعاله واقتصر على إبراز هذا اللون الواحد في كل مشهد ظهر فيه، فهو يبحث عن ديكه، ثم يتخيل أنه ذبح فيبكيه، وهو ينقلب ديكاً وبهذا، التكرار أبطل المؤلف الأثر الذي أراده لهذه الشخصية وهو إثارة الضحك
أما النوادر التي أوردها المؤلف على لسان جحا وابنه، والتي استعارها من نوادر جحا التركي. فقد وقف في وضع بعضها في الأحداث التي تجعل لها دلالة واقعية لقضية المسمار، وخطبة اليد، وحديثه عن الجمال، أما قصة القدور، وانقلاب الغصن ديكا، وغير ذلك من النوادر التي فقدت تأثيرها الضاحك لأنها أصبحت (قديمة) بالنسبة للشعب؛ فكنا نرجو أن يستبدلها المؤلف بنوادر أخرى من خلقة تتصل بالأحداث وتسخر من بعض أمراضنا الاجتماعية
وبعد. فقد دفعنا تقديرنا وإعجابنا بهذه المسرحية أن نعدد مآخذها وهي قليلة بالنسبة لمحاسنها. . . وأغلبها يقع في الخط الذي يصور الصراع الثانوي. . أما الخط الذي يصور الصراع الرئيسي فقد كان أغلبه كاملاً من حيث البناء، وإنا لنحمد للمؤلف اتجاهه القومي في عمله الفني. . . .
وقد قام بإخراج هذه المسرحية الأستاذ زكي طليمات. . . وسار في إخراجه على المذهب الإيحائي الذي اتجه إليه في السنوات الأخيرة. . . فكان موافقاً في خلق الإطار المادي. . . وبرزت رمزيته في منظر السجن القائم، الرهيب. . . وقد نجح في تحريك المجموعة، وأحسن استغلالها في إحياء الجو النفسي وخاصة في منظر المحكمة
. . . وقام الأستاذ سعيد أبو بكر بدور (جحا). . . فاستطاع بفهمه العميق لهذه الشخصي، وأدائه الطبيعي، أن يصور الألوان العاطفية المختلفة التي رسمها المؤلف. . . . وقام الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني بدور الحاكم المستعمر فأفصح بحركاته الهادئة الرصينة عن غطرسة الغاصب وتبلد إحساسه وموت ضميره. . . وعبر بعبارته القوية العميقة عن منطق الظالم الذي يصم أذنه عن سماع صوت الحق القوي. . . وقام الأستاذ عبد المنعم
إبراهيم بدور (الغصن)، فبعث الحياة هذه الشخصية الخفيفة، واستطاع تجسيم خطوطها الدقيقة بأدائه الطبيعي
أنور فتح الله
البريد الأدبي
هو سماع الحديث. لا سماع الغناء:
يعثر الإنسان أحياناُ أثناء مطالعاته على أشياء تستدعي النقد أو تستوجب التصحيح فيتجاوزها. ولا يعني بها لأنه إذا تولى نقد أو تصحيح كل ما يعثر عليه فإنه لا يجد من الوقت ما يسعه، ومن هدوء البال ما يعنيه. وقد ينشط أحياناً فينهض لبيان ما يجد من خطأ وبخاصة عندما يقف على أمر لا يصح السكوت عليه أو الإغفاء عنه
ومن ذلك أني كنت أقرأ في الجزء الثاني من كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ الذي خرج بتحقيق وشرح الأستاذ الفاضل عبد السلام هارون فإذا بي أجد في الصفحة 322 من هذا الجزء: (وقال ابن عون: أدركت ثلاثة يتشددون في السماع، وثلاثة لا يتساهلون، فالحسن والشعبي والنخعي، وأما الذين يتشددون محمد بن سيرين والقاسم ابن محمد ورجاء بن حيوه)
وقد حسب الأستاذ هارون أن السماع في هذا الجزء هو سماع الأغاني! فآثر كلمة (المغاني) بالمعجمة التي وجدها في بعض نسخ الأصول؛ على لفظها بالمهملة التي جاءت بأصول أخرى، وأخذ يفسرها على ما ظن تفسيراً لا أدري إن كان يرضي أئمة اللغة أم يغضبهم!
فقال في شرح الكلمة (المغاني جمع مغنى مصدر ميمي من غنى يغني! ل والتيمورية. المعاني بالمهملة تحريف) أي أن هذه الكلمة قد جاءت في نسخة مكتبة كوبرلي والنسخة التيمورية بالمهملة والذي قال عنه الأستاذ أنه تخريف هو الصحيح، وأن صحة الكلمة المعاني بالمهملة كما جاءت بهاتين النسختين، والسماع هو السماع الحديث النبوي لا سماع الأغاني
وقد جاءت عبارة ابن عون هذه لأن نقل حديث رسول الله على حقيقة لفظه أو بمعناه كان موضع خلاف بين الصحابة ثم امتد هذا الخلاف إلى التابعين ومن بعدهم فكان من الصحابة الذين يجوزون رواية الحديث بالمعنى: على وابن عباس وأنس وجماعة معهم، وكان الذي يمنع ذلك ابن عمر، أما التابعون فكان الذين يتشددون في رواية الحديث على لفظه، محمد بن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة، والذين يتساهلون في ذلك الحسن والشعبي والنخفي، ومن هنا جاءت كلمة ابن عون التي رواها الجاحظ
هذا وللأستاذ هارون خالص تقديري لعنايته بتراثنا الدبي ونشره، وبخاصة لنشره آثار شيخنا الجاحظ وعنايته بتحقيقها وشرحها
المنصورة
محمود أبو ريه
الأستاذ الناصري ولسان العرب:
نشرت الرسالة في العدد 955 ص 1215 من السنة التاسعة عشرة رداً للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري ارتكب فيه خطأين وفاته أمران
فالخطأ الأول أنه ذكر مؤلف لسان العرب باسم ابن منصور (بالصاد المهملة) الأندلسي، والصواب أنه ابن منظور بالظاء المعجمة، ولم ينسب إلى الأندلس ولكنه إفريقي الأصل مصري المولد والوفاة، ولذا ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة باسم محمد ابن مكرم الأنصاري الإفريقي ثم المصري
والخطأ الثاني أنه قال عن ابن منظور أنه أقدم مؤلفي المعاجم بعد ابن دريد المتوفى سنة321. مع أن ابن منظور نفسه ذكر في مقدمة مؤلفة لسان العرب في الجزء الأول ص 2، 3 أنه جمع مؤلفه لسان العرب من الأصول الآتية:
أ - تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري المتوفى سنة 370 والتهذيب لا يزال مخطوطاً
ب - المحكم لابن سيده - بكسر المهملة وسكون آخر الحروف وفتح الدال المهملة بهدها هاء ساكنة المتوفى سنة 458 - ولا يزال مخطوطاً - أما مؤلفة الآخر المخصص فطبع في بولاق في 17 سفرا بين سنة 1316 وسنة 1321
ج - صحاح الجوهري المتوفى سنة 393 - والصحاح طبع في بولاق سنة 1292 في جزء ين
ء - حواشي ابن برى المتوفى سنة 582
هـ - النهاية في غريب الحديث لابن الأثير المحدث المتوفى سنة 606 وهو شقيق المؤرخ المتوفى سنة 620. والنهاية طبعت في مصر سنة 1322 في أربعة أجزاء
هذا ما ذكره ابن منظور وفي ترجمته زيدت الجمهرة لابن دريد. والجمهرة طبعت في الهند
في ثلاثة أجزاء والرابع للفهارس بين سنة 1344 وسنة 1352 - فالقول بأن مؤلف لسان العرب هو أقدم مؤلفي المعاجم بعد ابن دريد قول خاطئ يرده ابن منظور نفسه في صدر مؤلفه
وأول الأمرين - أنه قدم تاج العروس في الذكر على القاموس وذكرهما بطريقة توهم انفصالهما. وكان الأولى أن يقول: ذكر الفيروزبادي المتوفى سنة 817 في القاموس كذا وذكر الزبيدي في شرحه على القاموس المسمى تاج العروس كذا وكذا
والثني أنه ذكر عن مختار الصحاح ما يل على أنه فرع للسان العرب مع أن الرازي المتوفى سنة 760 اختاره من صحاح الجوهري الذي هو أحد أصول لسان العرب كما سلف الذكر وراعى في اختياره ألفاظ القرآن العزيز واجتناب عويص اللغة وعربيها، كما حرص على اختيار ألفاظ الأحاديث النبوية، فهو على صغره جليل الفائدة جزيل النفع ويعتبر تهذيباً لصحاح الجوهري. فالمختار من أصول اللغة وإن صغر حجمه. لذا أرجو تفضلكم بنشر هذا
عبد السلام النجار
كلام مردود:
يقول الأستاذ الناصري مخاطباً الأستاذ سيد قطب (قرأت تعقيبك على مقال السيد سامي أمين، فاستغربت من كاتب كبير له مكانة في العالم العربي أن يتصدى للرد على أديب لم نسمع به عدا هذه المرة) وهذا كلام مردو، إذ أن أدباءنا الكبار أساتذة مرشدون، ومن واجبهم أن يسعفوا القراء بالتوجيه والتصويب، ثم ما معنى قول الكاتب (لم نسمع به عدا هذه المرة!!) أفيعتقد أن النشر المطبعي أساس (أولى) للنقاش العلمي بين الأدباء!! أفلا يعلم أن كثيراً ممن ينشرون القصائد والمقالات، بالصحف والمجلات، يقابلون بالإعراض والاستخفاف؟! على أني سمعت بالسيد سامي أمين قبل ذلك بمجلة الثقافة الغراء، أفيكون هذا وحده شفيعه لدى الناصري فيبيح للأستاذ قطب ن يرد عليه بما شاء!!
هذا وفي تعقيب الناصري - على قصره - أخطاء نحوية وإملائية وذوقية نكشف عن بعضها للقراء
1 -
يقول الكاتب (لأنك أثبت أنك وأخوك!) والصواب وأخاك
2 -
ويقول (وأرجو أن لا تكون في المستقبل إلا في المكان المرموق) وهو تركيب متهافت، ولا يستقيم إلا بحذف النفي والاستثناء، وبه خطأ إملائي، وصوابه إلا تكون
3 -
ويقول (وأما عن آرائك في النقد فيكفي أن تكون صاحب كتاب العادلة الاجتماعية في القرآن) وكتاب العدالى الاجتماعية في الإسلام لا يمت إلى النقد الأدبي بسبب من الأسباب
(وبعد) فهل للأستاذ الناصري أن يصحح أخطاءه قبل أن يتعقب الكتاب
(الرمل)
محمد رجب البيومي
1 -
إيضاح:
أخذ على الأستاذ الكريم أحمد عبد اللطيف بدر المدرس بثانوية بور سعيد، في العدد (951) من الرسالة بعض المآخذ، وأنا بعد شكري له على تنبيهي أود أن أذكره بأنني ما كنت أود عندما تكلمت عن بيت أبي نواس
عندها صاج حبيبي يا معلم، لا أعود أن أذكر البيت إلا من ناحية العروض، لذا فإن تنبيهه لي كان في محله من ناحية القاعدة النحوية، أما قوله عن أنني أخطأت في كتابة (إن شاء الله) على هذه الصورة (إنشاء) فأرجو أن يعلم أن اندماج الحرف بالفعل جاء بسبب الطبع والتبعة في ذلك تقع على عاتق مصحح (الروفات) وأنا أعتذر له. .
2 -
اعتذار:
أشكر للشاعر الرقيق الأستاذ عبد الرحيم عثمان صارو حسن ظنه بأخيه وأعتذر له لأنني لم أقرأ كلمة (قطف) بالتضعيف في حينه، لذا فقوله
وأهاً لأزهاري التي (قطفتهن) لتفرحي سالم من كل عيب عروضي، وأخيراً يسرني أن تكون هذه الكلمة بدء صداقة بيننا وله مني خالص الود لإعجاب
3 -
ديوان (العاصي):
المرحوم أحمد العاصي شاعر مات في ريعان شبابه منتحراً سنة 1930م وقد طبع ديوانه
سنة 1926هـ وبما أنني في صدد كتابة بحث مفصل عنه وقد كتبت إلى كثير من مكتبات القاهرة قلم أوفق للحصول على نسخة منه؛ أرجو من إخواني في مصر ومن جميع قراء الرسالة ممن يعثرون على هذا الديوان أن يبعثوا لي بنسخة منه بعنوان المدون أدناه. . وأنا على استعداد لإرسال ما يطلبون من ثمن. . . وله خالص شكري
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري
القصص
فراق
للكاتب الإنجليزي أيان تومسون
للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
كانا يسيران في شارع أوكسفورد، ثم توقفا عن السير. وقال جورج ويده على ذراعها (هذا هو المكان أحسب أنك ستجدين هنا ما تودوين الحصول عليه)
وأطرقت هيلين، بيد أن عينيها كانتا ترنوان إلى نافذة الحانوت. لقد كان هو الذي اقترح شراء القبعة
وأشار صوب النافذة قائلاً - ها هي ذي القبعة السوداء. ما رأيت قيها؟ إنها تناسب رداءك
وارتجفت شفتاها. إن أشد يحبها فيه هو اهتمامه الزائد بملابسها. . لطالما ولد لها ذلك شعوراً بدوام الشباب، ولو أنها تعرف من صميم فؤادها بأن شبابها قد ولى وراح
وأجابت قائلة وقد تجنبت أن تلتقي عيناها بعينيه، فقد كان في عينيها الكثير مما لا تود أن يلاحظه مطلقاً. (أجل. إنها مناسبة)
ودلفا إلى الحانوت. وبرزت أمامها إحدى العاملات فوصفت لها هيلين القبعة. وفي هذه اللحظة ودت لو لم تأت إلى الحانوت بيد أن جورج كان لحوحاً. فقد كان يود أن يهديها هدية ما، هدية فراق كما يقول
إنه يبتسم الآن، ابتسامة صادرة من عينيه الزرقاوين الصافيتين فأثار ذلك دهشتها. ومع ذلك، لماذا تدهش؟ وكانت تسأل نفسها هذا السؤال في الوقت الذي أخذت القبعة من يد العاملة ووضعتها فوق شعرها الذي تخلله الشيب. لقد كانت تفخر دائماً بأنها عصرية. إن من دواعي المدينة أن نواجه مثل هذه الحوادث في شجاعة عندما تقع، فإذا وقعت. . .
وعادت بها كرتها إلى الماضي. ورأت نفسها أمام المرآة ترفل في ثياب العرس، لا في رداء أسود كما هو حالها الآن. ولم تفكر في المستقبل إذ ذاك، ولم تهتم به مطلقاً، فقد كانت غارقة في منتهى السعادة
ومرت خمس دقائق قبل أن يخرجا من الحانوت ويسيراً تحت الشمس المشرقة. ثم اقترح جورج بعد أن ألقى بنظرة إلى ساعته أن يحتسيا الشاي، وقال وقد بدت في عينيه لهفة
مكبوتة لم تستطع أن تسبر غورها (إني أعرف مقهى هناك. .
وجلسا في مقهى صغير عادي. وطلب جورج الشاي، ثم اتكأ على مقعده دون أن يتفوه بكلمة، ولكن يده أقبلت تعبر المائدة ثم أمسكت بيدها
وصاحت في أعماق نفسها - يا إلهي، لا تجعلني أبكي لا أود ذلك وهو معي - أقبل الشاي، واحتسى قدحه في سرعة، ثم أشعل لنفسه لفافة وأخيراً قال (أواثقة أنت أنك تودين الإقامة وحيدة في تلك الدار؟ أعني. . حسن، إني لأشعر بالضيق من جراء هذا الأمر، إذا كان هناك ما أستطيع أن أفعله. . .)
نعم كان هناك شئ واحد، ولكنه يعتبر ضعفاً لو اقترحته. وهزت رأسها بالنفي. إنها لا تود مطلقاً أن يشعر نحوها بشيء من وخز الضمير. حسبها أن كان لها طوال الأعوام المنصرمة
وقالت - كلا في الواقع سيكون كل شئ على ما يرام
ولكنه كان يبدو عليه أنه لا يزال متردداً في الأمر. ثم قال: هناك شئ واحد أود أن أشير إليه. إني لم أتحدث عنه من قبل لأني أعرف - حسن، أعرف أن شديد حساسيتك في مثل هذه الموضوعات -) ثم صمت لحظة استطرد بعدها يقول في سرعة وعينيه تتحاشيانها) إنها مسألة النقود. لقد اتفقت مع البنك -)
والتهبت وجنتاها. وتلمثمت قائلة - أوه. جورج. لا ينبغي لك أن - فقاطعها قائلاً في رنة يشوبها الغضب - ولم لا؟ إن هذا ما ورد أن أفعله. وساندرا -) وتردد قليلاً بعد أن أشار إلى اسم الفتاة ثم قال - إنها وافقتني على ذلك. فقد كنا نتحدث عنه ليلة أمس
ساندرا. . كنا. . . وجعلت هيلين تفكر في ألم، إنه يتحدث عنها في سهولة وبغير كلفة، مع أنه لم يلتق بها إلا منذ شهرين. شهران. . هل كانا في الواقع شهرين منذ أن ذهب إلى لندن بسبب أعماله؟
لقد أدركت بالطبع بعد أن عادت أن هناك شيئاً ما على الرغم من أنه لم يشر إليه بأنة كلمة. وأنباتها غريزتها النسائية أنه لم تعد لها كلمة بعد الآن. لقد شاركتها الأخرى فيه. شاركتها فتاة، شابة، نضرة، حسناء، وولدت لها الصورة التي تخيلتها شعوراً من الفلق والفزع. لقد استبدل عمله بعمل آخر في لندن. وذهب ليعيش هناك. ولم تره منذ شهر، ولم
تلتق الفتاة مطلقاً
ساندرا. . لقد كانت ذكية جداً كما حدثها. ولكن هذا لا يهمها في شئ. فإذا كنت تحب بكل جارحة في قلبك فإنك لا تفكر في ذكاء تلك التي جعلتك تفقد من أحببت. هل هي لطيفة حقاً؟ وهل ستحاول إسعاده كما حاولت هي من قبل؟
ساندرا. . . كان للاسم رنين خاص في أذنيها. إنك لا تستطيع أن تتصور أي فرد يحمل ذلك الاسم - وانجذبت عينا هيلين إلى فتاة دلفت إلى المقهى وجعلت تتطلع حولها في تردد - حسن لعلها تحمل مثل هذا الاسم
واستدارت الفتاة. كانت باهرة الحسن. ساخرة، في حياء يجذب القلوب. وتأملتها هيلين بلا شعور. ثم اتسعت عيناها في دهشة مباغتة عندما هب جورج واقفاً وأسرعت الفتاة صوب مائدتهما
واستمعت إلى صوت في ذهول وهو يقول (إذن فقد استطعت المجيء يا عزيزتي)
ثم التفت إليها وقد أشرفت الابتسامة على وجهه وقال (مفاجأة صغيرة. هذه ساندرا يا أماه. . . عروس الغد السعيدة!
محمد فتحي عبد الوهاب