المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 958 - بتاريخ: 12 - 11 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٥٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 958

- بتاريخ: 12 - 11 - 1951

ص: -1

‌إلي أخي في الجنوب

للأستاذ أنور المعداوي

(يا أخي؛ يا أخي في الله والدين والوطن. . إن الأرض التي جمعت بين قلبي وقلبك لتجمع بين جراح وجراح، وإن النيل الذي ربط بين روحي وروحك ليربط بين كفاح وكفاح. . أنا هنا وأنت هناك؛ ويا بعد الشقة في منطق الظلم البغيض ويا قربها في منطق الحب المتغلغل بين طوايا الوجدان. . نحن يا أخي في ميدان الجهاد يد تمد إلى يد، وفي معرض التضحية قدم تسعى إلى قدم، وفي مجال الوفاء عاطفة تقبس من عاطفة!

من الحق أن ننعت بالإنجليز بأهم مثاليون في بلادهم؛ مثاليون في قيم النزاهة ومعايير الخلق وموازين الضمير. . ومن الحق أيضاً أن ننعتهم بأنهم مثاليون في غير بلادهم؛ مثاليون في الأنانية والجشع، وضيعة الضمير والخلق، وانحطاط الشعور والإنسانية، وانتفاء العدل والإنصاف. . وتلك هي العناوين الضخمة التي يسطر تحتها التاريخ كلماته الخالدة، حين يعرض للحكم البريطاني في كل أرض سكنها الأحرار في كل زمان ومكان!

يا أخي، يا أخي في الله والدين والوطن. . إن الأنشودة الرائعة التي بدأناها في شمال الوادي، أنشودة الجهاد التي انطلقت من قيثارة الأحرار، قد أذن الله أن ترسل أنغامها في جنوبه، وكل نغم إلى فناء، وكل نار إلى رماد، وكل ذكرى إلى نسيان. . ولكن أنغامنا ستظل إلى الأبد ترن في مسمع الزمن، ولكن نارنا ستظل إلى الأبد تضيء الطريق للحائرين، ولكن ذكرانا ستظل إلى الأبد قصة تروى وعطرا يفوح!

ولا علينا يا أخي من تلك القيود. . إن معدنها الرخيص سيذوب يوما تحت وهج النار المتأججة في حنايا الضلوع! ألا ليت الطغاة قد جعلوا شعار حكمهم هذه الكلمات التي انطلقت من أعماق بطل الحرية إبراهام لنكولن: (إن ضوء الشمس لا يفرق في يد الله بين أحرار وعبيد، فلم يفرق ضوء الحرية في أيدينا بين أنصار وخصوم)؟!

ومع ذلك فسنمضي اليوم وغدا جنبا إلى جنب، وقلبا إلى قلب، وعيوننا أبدا إلى الأفق البعيد)!

هذه كلمات وجهتها بالأمس على صفحات الرسالة، إلى كل سوادني كريم على نفسه وكريم على وطنه؛ كل سوداني أنزله من نفسي منزلة الود الخالص والأخوة المتسامية، الأخوة

ص: 1

التي استروحت أنسام الأرض الطيبة على ضفاف نهر واحد وتحت سماء وطن واحد. . واليوم ومعاول الاستعمار تحاول أن تهدم صرح الوحدة المقدسة، يطيب لهذا القلم أن يقطف من روضة الشعور تلك الكلمات، أو تلك الزهرات التي يدعو الله مخلصا أن يتضرع منها العبير ويعبق الأرج؛ عبير الوطنية المتدفقة وأريج الوفاء الخالد، هناك في أقصى الجنوب حيث تخفق للدعاء قلوب وقلوب. .

إن الشمل لن يتفرق، وإن البناء لن يتصدع، ما دامت هذه القطرات الأبية من الدم المسفوك على ضفاف القناة وفوق ثرى الخرطوم، قد ألقت على الطغاة أروع الدروس في التضحَية والبذل والفداء، وأقلقت منهم المضاجع وهي سارية في العروق وهي جارية على الأرض، وهي في حركة الحياة الطليقة وهي في سكون العدم. . وحسبها من قداسة الوحدة أن يثيرها هناك عدو واحد، وأن يريقها هنا سلاح واحد، وأن ترتد في نهاية المطاف إلى موضعها من هذا الثرى الحبيب!

يا أخي في الجنوب، يا أخي في الله والدين والوطن. . بيننا وبينك هذه الكلمات، أو بيننا وبينك هذه الأبيات، إنها لشاعر لم يعرف في حياته غير الصدق والوفاء، حين يكون الصدق مترجما عن خفقة القلب، وحين يكون الوفاء معبرا عن يقظة الضمير. . ولقد أهداها إليك بالأمس وما أشبهه باليوم، حين مضت طلائع المرجفين تبذر بذور الفرقة بين الصفوف وتترك كلمة الله لتتبع خطوات الشيطان. . إن على محمود طه لا يزال يرفع صوته من وراء الأبد، ليقدم إليك لوعة الشعر في محنة الشعور:

أخي! إن وردت النيل قبل ورودي

فحي ذمامي عنده وعهودي

وقبل ثرى فيه امتزاجنا أبوة

ونسلمه لابن لنا وحفيد

أخي! إن أذان الفجر لبيت صوته

سمعت لتكبيري ووقع سجودي

وما صغت قولا أو هتفت بآية

خلا منطقي من لفظها وقصيدي

أخي! إن حواك الصبح ريان مشرقا

أفقت على يوم أغر سعيد

أخي! إن طواك الليل سهمان سادرا

نبا فيه جنبي واستحال رقودي

أخي! إن شربت الماء صفوا فقد زكت

خمائل جناتي وطاب حصيدي

أخي! إن جفاك النهر أو جف نبعه

مشى الموت في زهري وقصف عودي

ص: 2

فكيف تلاحيني وألحاك. . إنني

شهيدك في هذا. . وأنت شهيدي!

حياتك في الوادي حياتي، فإنما

وجودك في هذي الحياة وجودي

أخي! إن نزلت الشاطئين فسلهما

متى فصلا ما بيننا بحدود؟

رماني نذير السوء فيك بنبأة

فجلل بالأحزان ليلة عيدي

وغامت سمائي بعد صفو وأخرست

مزاهر أحلامي ومات نشيدي

غداة تمنى المستبد فراقنا

على أرض آباء لنا وجدود

وزف لنا زيف الأماني علالة

لعل بنا حب السيادة يودي

أخوتنا فوق الذي مان وادعى

وما بيننا من سيد ومسود!

إذ قال (الاستقلال) فاحذره ناصبا

فخاخ (احتلال) كالدهور أبيد

وكم قبل مناني على وفر ما جنى

بحربين، من زرعي وضرع وليدي

فلما أتاه النصر هاجته شرة

فهم بنكراني ورام جحودي

ألا سله، ماذا بعد سبعين حجة

أأنجز موعودي؟ أفك قيودي؟

يبدلني قيدا بقيد كأنه

مدى الدهر فيها مبدئي ومعيدي

أخي! وكلانا في الإسار مكبل

نجر على الأشواك ثقل حديد

إذا لم تحررنا من الضيم وحدة

ذهبنا بشمل في الحياة بديد

وما مصر والسودان إلا قضية

موحدة في غاية وجهود

سئمنا هتاف الخادعين بعالم

جديد، ولما يأتنا بجديد

وجفت حشاشات وعدن بمائه

فلما دنا ألفت سراب وعود

وطال ارتقاب الساغبين لناره

على عاصف يرمي الدجى بجليد

إذا يدنا لم تذك نار حياتنا

فلا ترج دفئا من وميض رعود

إذا يدنا لم تحم نبع حياتنا

سرى ربه سما بكل وريد

سيجربه ما شاءت مطامع قومه

ويحبسه ما شاء خلف سدود

وكيف ينام المضعفون وحولهم

ظماء نسور أو جياع أسود؟

أخي! هل شهدت النيل غضبان ثائرا

يرج من الشطئان كل مشيد!

جرى من مصبيه شواظا لنبعه

على نفثات من دم وصديد

ص: 3

وجنات نخل واجمات كواسف

وأسراب طير في الفلاة شريد

لدى نبأ قد ريع من حمله الصدى

وضج له الموتى وراء لحود

جنوبك فيه والشمال تفزعا

لتشتيت أهل وانقسام صعيد

أحال ضياء الصبح حولي ظلمة

بها الحزن إلفى والهناء فقيدي

وسعر أنفاسي فأطلقت نارها

على الظالم الجبار صوت وعيد

أرادك مفصوم العرى وأرادني

بهدم إخاء كالجبال مشيد

ليأكلنا من بعد شلوا ممزقا

كطير جريح في الشباك جهيد

يحايل شيطان الأساليب لم يدع

مجالا لشيطان بهن مريد

على النيل يا ابن النيل أطلق شراعنا

وقل للياليه الهنية عودي

وأرسل على الوادي حمائم أيكه

برنة ولهي أو شكاة عميد

وقل يا عروس النبع هاتي من الجنى

ودوري علينا بالرحيق وجودي

وهبي عذارى النخل فرعاء وارقصي

بخضر أكاليل وخمر عقود

ألا يا أخي واملأ كؤوس محبة

مقدسة موعودة بخلود

إذا هي هانت فانع للشمس نورها

وللقمر الساري بروج سعود

وقل يا سماء النيل ويحك أقلعي

ويا أرض بالشم الرواسخ ميدي

وغيضي عيون الماء أو فتفجري

لظى، وإن اسطعت المزيد فزيدي!

يا رحمة الله للشاعر الخالد، أنه في معركة الحرية لا يزال يسمعنا صوته وهو في عالم الفناء. . واليوم حين تبلغ المعركة أوجها يتخلف عن الإنشاد شعراؤنا الأحياء!!

أنور المعداوي

ص: 4

‌3 - الثورة المصرية 1919

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

بين الماضي والحاضر:

في زحام هذه العواطف الوطنية المتأججة في وادي النيل من منبعه إلى مصبه. أكتب إليك أيها الأخ الكريم وأحاول أن أربط بين ماض مجيد وحاضر ليس أقل منه مجدا. ومما هو جدير بالتسجيل ذلك الوعي الكامل الذي يبديه شعب وادي النيل لقضيته وإيمانه بها وضبطه لأعصابه رغم ما تتفجر به نفس كل فرد من أفراده من العواطف الملتهبة. . وذلك إرضاء لحكومته وطوعا لمشيئتها.

وأحب أن أسجل أيضاً أن القوات البريطانية ما زالت مستمرة في عدوانها الوحشي على سكان منطقة القنال العزل، ففي كل يوم قتيل وشهيد وسلب ونهب واعتداء على الحريات واحتلال للأماكن والبلاد وتحكيم للقوة وعسف وظلم وجور؛ فليستمر البريطانيون في عدوانهم فإن ذلك كسب لمصر، وليعلموا أن كل دم يراق إنما يغذي شجرة الحرية في وادي النيل، وليعلموا تماما أن مقامهم في وادي النيل قد أصبح ضربا من المحال.

وقد انضمت فرنسا الفاجرة وأمريكا الآثمة إلى بريطانيا فأبدتا سياستها ووافقتا عليها فانتصرتا للاثم والعدوان، وهكذا أثبتت الدولتان ما لم يكن خافيا علينا نحن الشرقيين من أن هذه الدول لا تريد بنا خيراً، وإنما تريد علينا سيطرة واستعمار. إن هذه الأمم تدعى أنها نصيرة الحرية، ومع هذا تطعن الحرية في مصر والشرق كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً. فليعلم هؤلاء الطغاة أن نهايتهم أقرب مما يتصورون

وقد وقفت الأقطار العربية الشقيقة بجانب شقيقتهم الكبرى مصر مما هز أركان الاستعمار الإنجليزي وزلزل دعائم الاقتصاد الأمريكي

وفي يوم الثلاثاء 23 من أكتوبر 1951 وقفت مصر تحيي ذكرى شهدائها الذين أراق الطغاة دماءهم في يوم الثلاثاء 16 منه فقامت المظاهرات الوطنية في القاهرة والإسكندرية وشتى المدن والبلاد، وأضرب الطلاب عن تلقي دروسهم وأغلق التجار متاجرهم وامتنع المحامون عن مزاولة أعمالهم في جميع المحاكم، ولم يخل شبر في أرض الوطن العزيز من صوت يتقطع في صدر صاحبه. . هو صوت الحزن على ما أريق من دماء الشهداء.

ص: 5

وقد تجلى في هذه المظاهرات جلال الوطنية وجلال الذكرى وإجماع الأمة وتأييدها لحكومتها

وفي السودان قامت المظاهرات تطالب بالحرية وتطرد المحتل الأجنبي والمستعمر الظالم حتى اضطر الحاكم العام الإنجليزي أن يطلب من قائد عام القوات المصرية التدخل لحفظ الأمن وإقرار النظام

لابد مما ليس منه بد:

لقد حاولت مصر أن تقيم علاقتها مع الدول الغربية على أساس الحرية والاحترام المتبادل، ولكن هذه الدول أمعنت في غيها، فلما طالت المفاوضات اضطرت مصر إلى إلغاء معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 التي تربطها ببريطانيا وبدأت معركة التحرير

وقد وقفت فرنسا وأمريكا بجانب إنجلترا، وهنا تقربت روسيا من مصر وطالبت أن تعقد اتفاقا تجاريا واسع النطاق معها على أن تكون لها الأولوية في شراء قطن مصر وعلى أن تعامل معاملة الدول الأكثر رعاية في مقابل أن تصدر إلى مصر ما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر وأخشاب وورق وقمح وبترول إلخ

وقد ذعرت أمريكا، فإن الاستعمار الأمريكي استعمار اقتصادي وتهتم أمريكا بفتح أسواق لتجارتها، ولعلنا جميعا نعلم مدى اهتمام أمريكا بمنطقة الشرق الأوسط إن ذلك يرجع إلى عاملين: أولا هذه المنطقة أغنى مناطق العالم بالبترول - ثانيا. هذه المناطق يمكن أن تصبح أسواقا هامة للتجارة الأمريكية

ولما كانت عداوة أمريكا وإنجلترا لمصر ستؤدي إلى انتشار التجارة الروسية في مصر والشرق الأوسط. فقد اضطرت أمريكا إلى أن تحاول القضاء على الفكرة، وعرضت على مصر وساطتها في حل الخلاف القائم بينها وبين إنجلترا في 24 أكتوبر 1951. ولسنا ندري كيف ينتهي أمر هذه الوساطة

الحماية والمعاهدة:

في سنة 1914 أعلنت إنجلترا الحماية على مصر ولم تكن مصر قد طلبت هذه الحماية، ولذا كانت الحماية باطلة من وقت إعلانها، ومنعا لثورة مصر في وقت كانت بريطانيا في

ص: 6

حالة حرجة - إذ كانت الحرب قد قامت بينها وبين ألمانيا - أعلنت بريطانيا أن الحماية ضرورة حربية تنتهي بانتهاء الحرب. فلما انتهت الحرب وانتصرت طلب المصريون إنهاء الحماية وإعلان استقلال مصر، ولكن بريطانيا رفضت فثارت مصر تطلب استقلالها وحريتها ولم ترهب قوة إنجلترا التي خرجت ظافرة من الحروب العالمية الأولى، وانطلقت بريطانيا تعتدي على المصرين فأسالت دماء الأبرياء ونفت الزعماء، ولكن لم تضعف مصر بل صمدت وانتصرت في النهاية وستحقق جميع أمانيها إن شاء الله.

كانت الحماية إذن سبب ثورة 1919 الرئيسي، ويحاول المؤرخون أن يكثروا من أسباب الثورات. صحيح كانت هناك عدة أسباب أخرى أهمها المظالم التي عاناها الشعب من السلطة العسكرية ومن الأحكام العرفية، فمن استيلاء على الأقوات، ومن دفع المصريين قسرا إلى ميادين القتال باسم التطوع وتجنيد أكثر من مليون عامل وموت كثيرين منهم بعيدا عن الوطن، وإصابِة الآخرين بأمراض وعاهات إلى حجر على الحريات ورقابة على الصحف وحل الجمعية التشريعية ونفي الوطنيين الأحرار واعتقال المخلصين والزج بهم في السجون والمعتقلات، الخ

ويضاف إلى هذا الوعي القومي الذي أوضح للمصريين حقيقة نوايا بريطانيا، وذلك يرجع من غير شك إلى جهود الوطني الأول مصطفى كامل باشا وخليفته محمد فريد بك، وكذلك ما ارتكبته إنجلترا من فظائع في وادي النيل كان أشهرها من غير شك حادثة دنشواى 1906

وهنا أحب أن أذكر أن إنجلترا حين احتلت مصر قد لجأت إلى الحيلة والخداع: خدعت مصر إذ أعلنت منذ احتلالها مصر 1882 عزمها على الجلاء وأنها لن تقيم بمصر، وخدعت العرب جميعا حين ألبتهم على تركيا في أثناء الحرب الكبرى الأولى إذ وعدتهم بتحقيق استقلالهم إذا عاونوها، فثار العرب ضد الأتراك حلفاء الألمان، وكان لمصر وللعرب فضل كبير في كسب إنجلترا للحرب الأولى وكذلك انتصرت في الحرب العالمية الثانية بفضل مؤازرة مصر لها؛ ومع هذا لم تلق مصر والبلاد العربية إلا شر الجزاء من الإنجليز، فهم الذين مكنوا للصهيونيين من احتلال فلسطين وتشريد العرب وهم أصحاب البلاد الأصليين منذ آلاف السنين؛ وها هي ذي بريطانيا تسفك دماء المصريين ظلما

ص: 7

وعدوانا وترفض الجلاء عن مصر وتقف عقبة أمام وحدة الوادي، وهي بهذا لا تبغي خيرا لنفسها ولا لمصر ولا للسودان ألا ساء ما تفعل!! ولو أن بريطانيا أعلنت حقيقة نياتها منذ الاحتلال وعزمها على البقاء والإقامة في وادي النيل للقيت عنتا شديدا وإرهاقا فظيعا

وقد عبر عن هذا المعنى معالي الدكتور محمد صلاح الدين

باشا في كلمته التي ألقاها في مؤتمر الميثاق الوطني الذي عقد

بالقاهرة في 24101951 أجمل تعبير حيث قال: (إننا خدعنا

طويلا، وجاء علينا الدور لنخدع من خدعنا، ونخضع من

أخضعنا، وأن تكون كلمتنا هي العليا.)

كانت الحماية إذن هي السبب الرئيس لقيام ثورة 1919، وقد أعلن زعماء مصر أنهم يطلبون استقلال بلادهم منذ الساعة الأولى. أعلنوه حين قابلوا المعتمد البريطاني في 13 نوفمبر 1918، وأعلنوه في النداء الذي وجهوه إلى معتمدي الدول الأجنبية في ديسمبر 1918 والذي جاء فيه:

(باسم الوفد المصري أعلن إلى كل أجنبي في مصر من ذوي المصالح أن هذا الوفد الذي يسعى بذمة أهل البلاد يقرن بسعيه للاستقلال احترام المصريين لحقوق الأجانب كل الاحترام)

وأتبع ذلك ببيان في 10 يناير 919 جاء فيه:

1: إن مصر تطلب استقلالها:

أ: لأن الاستقلال حق طبيعي للأمم.

ب: لأن مصر لم تهمل قط أمر المطالبة بهذا الاستقلال، بل هي قد سفكت في سبيله دماء أبنائها

ج: لأن مصر تعتبر نفسها الآن خالصة من آخر رباط كان يربطها بتركيا وهو رباط السيادة الاسمية

د: لأن مصر ترى أن الوقت قد حان لأن تعلن استقلالها التام الذي يؤيده مركزها الجغرافي

ص: 8

وأحوالها المادية والأدبية

2 -

تريد مصر أن تكون حكومتها دستورية

وفي 7 فبراير 1919 أعلن سعد زغلول باشا في خطبة له في دار جمعية الاقتصاد والتشريع بطلان الحماية قانونا حيث قال:

(إن بلادنا لها استقلال ذاتي ضمنته معاهدة لندن 1840 واعترفت به جميع المعاهدات الدولية الأخرى. . إنكم تعلمون أيها السادة وكل علماء القانون الدولي يقررون أن الحماية لا تنتج إلا من عقد بين أمتين، تطلب إحداهما أن تكون تحت رعاية الأخرى، وتقبل الأخرى تحمل أعباء هذه الحماية، فهي نتيجة عقد ذي طرفين موجب وقابل، ولم يحصل من مصر ولن يحصل منها أصلا

في 1914 أعلنت إنجلترا حمايتها من تلقاء نفسها بدون أن تطلبها أو تقبلها الأمة المصرية، فهي حماية باطلة لا وجود لها قانونا. بل هي ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها ولا يمكن أن تعيش بعد الحرب دقيقة واحدة.)

وهكذا كانت الحماية العامل الرئيسي في قيام ثورة 1919 وقد نجحت مصر في إلغائها 1922 وإعلان استقلالها ثم انتهى الأمر بقيام معاهدة 1936 بين مصر وإنجلترا. ربما كانت هناك ضرورات أدت إلى توقيع هذه المعاهدة 1936 ولكن الواقع أن هذه المعاهدة كانت كارثة على مصر فإنها لم تحقق للنيل وحدته بل أكثر من هذا أنها اعترفت بشرعية الاحتلال. وقد وقفت مصر بجانب بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية وانتهى الأمر بانتصار بريطانيا فعملت مصر على مفاوضة بريطانيا لتعديل هذه المعاهدة على أساس تحقيق أهداف مصر وهي الجلاء الناجز عن الوادي وتوحيد مصر والسودان تحت تاج واحد، ولكن ذهبت جهود المفاوضين المصريين عبثا، واضطرت مصر إلى إلغاء هذه المعاهدة وإلغاء اتفاقيتي السودان 1899 ثم وضع نظام دستوري لحكم السودان وقيام دولة اتحادية من مصر والسودان وأصبح جلالة الملك فاروق ملكا لهذه الدولة وأصبح لقبه ملك مصر والسودان

ومما يجدر ذكره أنه كما كانت الحماية باطلة قانونا فإن معاهدة 1936 بدورها باطلة قانونا، وقد سجل ذلك المستر أوبنهايم أستاذ القانون الدولي بجامعة كامبردج في مؤلفه العالمي عن

ص: 9

ميثاق هيئة الأمم المتحدة فذكر أن معاهدة 1936 لا تتفق في شيء ما مع هذا الميثاق فهي باطلة من أساسها، إذ تنص المادة 103 من الميثاق على أنه:(إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقا لإحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي آخر يرتبطون به فالعبرة بالتزاماتهم المرتبة على هذا الميثاق)

قويسنا

للكلام بقية

أبو الفتوح عطيفة

ص: 10

‌رحلة أبي الطيب المتنبي من مصر إلى الكوفة

للأستاذ أحمد رمزي بك

القسم الثاني

تعد رحلة أبي الطيب المتنبي من مصر إلى الكوفة من أروع الرحلات في القرن الرابع الهجري نظرا لما تضمنته من أسماء البلاد والمواقع. وقد كان أبو الطيب حريصا في شعره على أن يسجل الكثير مما رآه في هذه الرحلة، فقرن الأسماء بخياله الشعري، ووصل إلى درجة رائعة في القصيدة التي وضعها حينما دخل الكوفة والتي جاء فيها:

فلما أنخنا ركزنا الرماح

فوق مكارمنا والعلى

وبتنا نقبل أسيافنا

ونمسحها من دماء العدى

لتعلم مصر ومن بالعراق

ومن بالعواصم أني الفتى

وهي أبيات قرأت ترجمتها بالفرنسية شعرا فوجدتها لم تفقد من قوة المتنبي شيئا، بل ظهرت شاعريته بلسان الفرنسيين

ولقد خرج أبو الطيب ليلة عيد النحر بعد أن تظاهر بالاستعداد للتضحية وكان قد اختار لنفسه أن يعلن عن عزمه بقصيدة مدح لزعيم من زعماء قيس النازلة في تلك الأيام بجوار بلبيس، وبالاطلاع على ديوانه نقرأ هذه القصيدة ونعلم شيئين:

الأول: كيف انتشرت قيس في إقليم الحوف الشرقي وكيف كانت لها السيادة في إقليم الشرقية

والمتتبع لتاريخ عروبة مصر يجد أن قبائل لخم وجذام وعاملة وذبيان لها منازل بالأراضي المصرية. ويرى كيف جاء بنو جزى وهم بطن من جزام، وبنو راشدة وهم بطن من لخم، وكيف انحدروا إلى أماكن عرفت بهم بين العريش ومصر، وكيف نزل من نزل منهم بالجزائر من أرض الحوف وهي الرمال البيضاء التي لم تكن تغمرها مياه الفيضان، وكيف هبط قوم منهم بالمناطق بين صان الحجر والزنكلوم وهي التي يطلق عليها اليوم (الزنكلون) فهذه المناطق أصلية في عروبتها، ثابتة في أرومتها؛ فإذا ذكر أبو الطيب قيس عيلان في بلبيس فهو يقصد بمديحه أن يلفت أنظار كافور إلى أن طريقه سيكون إلى الشمال مارا بمنازل عرب الحوف، فيأخذ كافور عليه الطرق والمسالك، ويقيم عليه الحرس

ص: 11

ينقلون من أخباره

ولكن أبا الطيب كان قد اختار طريقا آخر؛ فبدلا من أن يرحل إلى الدلتا نجد أنه قد أخفى السلاح وروايا الماء في الرمال وركب أسرع الهجن البيجاوية وهبط من الفسطاط جنوبا إلى خليج السويس ثم اتجه من هناك إلى الجنوب مبتعدا عن طريق الحاج، فوجد أمامه واديا يسميه المعاصرون (وادي سدر) واسمه الصحيح (وادي الصدر) فإذا قطعه اتخذ سبيله إلى قلعة (نخل) القائمة للآن في شبه جزيرة سينا، قطع هذا على ظهور الهجن في مرحلة واحدة لا تتعدى يومين

فبينما كافور يستعد للاحتفال بعيد الأضحى إذا به يفاجأ بهرب المتنبي فيقيم الدنيا ويقعدها ويسأل الدلاة وقاصي الأثر، فلا جواب لديهم. .

وكان كافور يحكم مصر ويحكم الجزء الجنوبي من بلاد الشام ويسيطر على طرق المواصلات في سيناء، وله الحراس في كل مكان والعيون تنقل إليه أخبار الناس، فكيف فر أبو الطيب من قبضته؟ إن هذه الرحلة جديرة بالبحث وقد حاولت منذ سنتين أن أعرف مكان (نجع الطير) وهو نصف المرحلة الأولى من رحلته. ورجعت إلى كافة المراجع التي بين أيدينا فلم أوفق

وتتبعت هجرة بني إسرائيل من مصر لعلي أجد فيها ما يقنعني بتحقيق بعض الأسماء الواردة بين مصر وبلدة نخل في وسط سيناء، ومع صبري وتحملي الطويل لم يسعفني كل ذلك لنتيجة حاسمة ترضي رغبتي

ويصف أبو الطيب هذه الفترة من حياته بقوله عن الهجن البيجاوية:

ضربت بها التيه ضرب القمار

إما لهذا وإما لذا

فمرت بنخل وفي ركبها

عن العالمين وعنه غنى

ولهذه القصيدة - كما قلت - رنين موسيقي واعتداد بالنفس وسرور بالتغلب على مصاعب الأرض ومتاعب الطبيعة لا يمكن أن ينسى

أرددها ثم أنظر توارد الخواطر بين أبي الطيب ويوليوس قيصر في الشطر الأول: فهو يشبه أقدامه في قطع الفيافي في هذه السرعة في قوله:

ضربت بها التيه ضرب القمار: والتيه هو أرض سيناء والقمار هو مجازفة أمام الحياة

ص: 12

الحرة وأمام الوقوع بين براثن كافور ومعناه الموت وضياع الأماني

ويذكرني هذا المعنى بما أورده يوليوس قيصر في كتابه عن حروب روما في بلاد الغاليين، حينما اشتبك في قتال معهم إذ قال أنه ألقى بآماله بين يدي الأقدار كما يلقي المقامر بالزهر بين يديه، فذهب قوله في اللاتينية مذهب الأمثال. فهل أطلع أبو الطيب على هذا؟ أو نقل إليه حديث قيصر؟ أو هو مجرد توارد خواطر

ومن المدهش أن قيام إسرائيل بين مصر والبلاد العربية قد أثار طائفة من المشاكل: أولها - كيف الوصول إلى فلسطين وأراضي الشام والحجاز؟

ولقد رأينا طول الحروب الصليبية بعض هذه المشاكل، وبعد المتنبي بقرنين من الزمن وثلاث وثلاثين سنه رأى صلاح الدين نفسه في الوقت الذي وقفه المتنبي. . كيف يصل إلى أرض الشام والصليبيون يقطعون الطريق ويحولون دون وصوله؟ لقد كان أبو الطيب يخشى كافورا وعيونه وحراسه، وكان صلاح الدين يخشى الإفرنج ومعاقلهم وحصونهم

والغريب أن صلاح الدين اختار أربعمائة من أشجع فرسان الأسدية من التركمان والأكراد وخيم في شمال القاهرة في بركة الحاج حيث تقوم الآن بلدة المرج. . واتجه إلى بلبيس، كما كتب أبو الطيب إلى زعيم بلبيس فلفت الأنظار إلى حركته في الشمال، ثم في ليلة واحدة قطع المرحلة من بلبيس إلى عجرود ونزل جنوبا بعيدا عن طريق الحاج واخترق وادي الصدر الذي أشرت إليه وعرف كيف يسلك (إلى نخل) ولم يكن صلاح الدين فارا فرار المتنبي. . ولذلك تنبه للمواقع فأنشأ على الرابية التي تطل على وادي سدر (الصدر) قلعة لا تزال آثارها قائمة إلى اليوم، وربط الطرق والمسالك بسلسلة من المعاقل اتقاء هجمات الإفرنج وتسللهم إلى هذه المناطق الحساسة من البلاد العربية

ألا ترى أن رحلة أبى الطيب لم نكن من الأمور التي تسير على غير هدى، بل كانت موضع درس وعناية، فلا تندهش إذن حينما تقرأ في خزانة الأدب للبغدادي صفحة 145 جزء ثان عن المتنبي لما كان في ضيافة عضد الدولة (وكان أبو جعفر وزير بهاء الدولة مأمورا بالاختلاف إلى المتنبي وحفظ المنازل والمناهل من مصر إلى الكوفة وتعرفها منه فقال: كنت حاضره وكان ابنه يلتمس أجرة الغسال فأخذ المتنبي إليه النظر بتحديق فقال: ما للصعلوك والغسال؟ يحتاج الصعلوك إلى أن يعمل بيده ثلاثة أشياء: يطبخ قدرة وينعل

ص: 13

فرسه ويغسل ثيابه، ثم ملأ يده قطيعات بلغت درهمين أو ثلاثة)

ويحدثنا الديوان بأن أبا جعفر أخذ شهرا من الزمن يحادث المتنبي في الطرق والمسالك ليأخذ عنه كيف خرج من الفسطاط وكيف وصل الكوفة في ربيع الأول سنة 531

وبينما أقلب كتاباً عن المتنبي بالفرنسية علمت أن مستشرقاً ألمانياً كرس جزءاً من حياته لدراسة رحلة المتنبي، وأنا الذي اقتطعت القليل من وقتي لكي أتعرف على بعض هذه الرحلة أجد غيري سبقني إليها فلم أقنط وقلت: قبل اطلاعي على ما كتب فلأخرجها كما تشاء نفسي:

وأمست تخيرنا بالنقاب

وادي المياه ووادي القرى

للكلام بقية

أحمد رمزي

ص: 14

‌الشخصية الرومانتيكية والحب الرومانتيكي

حول (رفائيل) للامرتين

للأستاذ محمد عبد الحليم محمود

كان القرن الثامن عشر في أوربا عامة، وفي فرنسا خاصة، عصر (العقل). . . عصر التفكير المنظم المنطقي سواء في العلوم وفي الآداب فلا محل في كتابات الأدباء ورسائل الفلاسفة للعواطف الجامحة والاحساسات الغامضة والمشاعر المختلجة والصبوات المضطربة التي تزخر بها النفس الإنسانية، والتي لا تخضع لمنطق ما. .

كل شيء في هذا العصر حاول المفكرون تقنينه وفلسفته لذلك ازدهرت فنون الأدب التي تحتاج قبل كل شيء إلى (العقل). . فنرى (القصة الفلسفية)، مثلاً، قد بلغت من الكمال حداً بعيداً على يد فولتير ومونتيسكيو وليساج وغيرهم وهذا الفن من القصص لا يحتاج إلى الانفعالات النفسية يصفها ويحللها، بل هو يعتمد قبل كل شيء على (النقد): نقد المجتمع المعاصر بعيوبه ومهازلها، ونقد الحالة الأدبية والدينية والسياسية للبلاد، في أسلوب من السخرية اللاذعة والتهكم الفلسفي الشيق وبسبب هذا الميل إلى التفلسف في القصة وقع المؤلفون، وإن كانوا من أئمة الكتاب، في شيء من الجفاء والإملال، وأبعدوا عن حقيقة الإنسان الحي ونفسه المضطربة العامرة بالمشاعر. .

فقصة (كانديد) للأديب الفيلسوف فولتيرن، وهي تعتبر خير قصة ألفت في القرن الثامن عشر على الإطلاق، لا يجد فيها القارئ سوى شخصيات فلسفية خيالية تمثل أفكاراً وتعبر عن مذاهب، وليس فيها من (الإنسانية) إلا الشيء القليل؛ فهي دمى وعرائس يحركها المؤلف لغرض في نفسه، غير حاسب حساب النفس البشرية بما تنطوي عليه من أسرار ومتناقضات وكان لا بد من رد فعل قوي لهذا النوع من (عبادة العقل) التي سيطرت على أغلب إنتاج القرن الثامن عشر. . . فالإنسان، لأنه إنسان، ليس عقلاً كله، ولا يستطيع أن يخضع القيم الذاتية لميزان المنطق وحساب الفكر الفلسفي المجرد وجاء رد الفعل في صورة المذهب الرومانتيكي

وكما غلا فلاسفة القرن الثامن عشر في تقدير العقل والمنطق والتفكير الفلسفي. . غلا الرومانتيكيون، أو إذا شئت فسمهم (الابتداعيين) في تقدير (الذاتية) والعاطفية، وفي تمجيد

ص: 15

انفعالات النفس البشرية وأسرارها وسيطر هذا المذهب على سائر فنون الأدب زمنا طويلا ويهمنا هنا أن نتبين أثر الرومانتيكية في القصة فقد نشأت فنون جديدة من القصص أبعدت كل البعد عن التحليل الفلسفي الجاف، وراحت تبحث في أعماق الإنسان عن العواطف والاحساسات والمشاعر في شتى صورها واحتل (الحب) مكان الصدارة من هذه القصص لأنه أقوى وأجمل عاطفة في الإنسان واحتلت شخصية (العاشق العذري) المكان الأول من شخصيات القصة وإذا أردنا أن نشهد لهذا الحب الرومانتيكي، وأن نجتلي طلعة العاشق الرومانتيكي، فخير قصة ننظر فيها هي، في رأيي، قصة (رفائيل)، للشاعر لامارتين، التي ترجمها أستاذنا الكبير الزيات بك إلى العربية فهذه القصة تمثل أصدق تمثيل المذهب الرومانتيكي في الأدب. بطلها صورة دقيقة لما كان يرتسم في أذهان القراء والكتاب على السواء، إبان ذلك العصر، من ملامح العاشق الكامل. . والحب فيها هو مثال الحب العذري الصوفي الكامل الذي رأى فيه الرومانتيكيون مثلهم الأعلى. .

لذلك رأيتني، عندما أردت رسم الشخصية الرومنتيكية والحب الرومانتيكي مدفوعاً إلى اختيار رفائيل وحبه لجوليا في رواية ل مارتين الخالدة

وقد اعتمدت كثيراً، إلى جانب الأصل الفرنسي، على الترجمة العربية

رفائيل فتى من أسرة ريفية كريمة الأصل، وأن كانت فقيرة، خبت فيه وقدة القلب وهو في شرخ الشباب، وفقد ثقته بالناس، وملت نفسه عشرتهم وضاع أمله في السعادة، فراح يبحث عن العزلة في قرية آمنة، على شاطئ بحيرة جميلة، بين أحضان جبل شامخ. . وإذا به يلاقي هناك فتاة تحيي في نفسه موات الأمل، وتعيد إلى قلبه حرارة العاطفة، وتجعله يشعر من جديد بجمال الحياة

العزلة النفسية:

إن مثل هذه الشخصية تميل إلى التأمل في نفسها، وفي الطبيعة، وفي الوجود كله، فهي تحتاج من أجل ذلك إلى الهدوء والسكينة. ثم إن رفائيل ليست له أطماع أو أطماح في هذه الدنيا، بل هو يزدري المجتمع ويحتقر الجاه، ويشعر بقيمة نفسه وبسمو ذاته التي لا ترضى إلا بالعزلة النفسية التي تقضى على كل صلة بينه وبين المجتمع، لم تأت عليها عزلته المادية في قريته النائية بمقاطعة سفوا. .

ص: 16

دور الطبيعة في الشخصية:

رفائيل يؤمن بأن الطبيعة يتصل سلكها بحبات القلب ومشاعره، فهي جزء من النفس والنفس جزء منها، وإن ما يجري في عناصر الطبيعة من الحياة هو نفسه ما يجري في عروق الإنسان منها، وهو لذلك يكتئب حينما تتلبد السماء بالغيوم؛ وينشرح قلبه عندما تشرق الشمس، وتهدأ العواصف: وتعود السكينة إلى الطبيعة فتعود أيضاًإلى نفسه. . . وأحب رياضة إليه التجول وسط الحقول، أو التنقل على صفحة البحيرة، أو صعود المرتفعات، أو اجتياز الإحراج؛ والطبيعة عنده، فوق كونها صديقة الإنسان الوفية يبثها آلامه وأفراحه، هي أجل مظهر من مظاهر قدرة الإله

رجل خير:

أنه يحب الخير لغيره، ويعمل جهده على مساعدة المحتاجين: فهو في وطنه يطعم الفقراء، ويعلم الصبيان، ويعين الفلاحين في أعمالهم. وهو عطوف حنون، يميل إلى الضعفاء ويحب كل كائن معذب شقي: وهو لذلك قد عطف على جارته في الفندق عندما علم أنها مريضة متألمة؛ وفي أيامه الأخيرة كان جل همه توفير الطعام لأسراب من طيور السند قد اتخذت منزله ملجأ وحمى

حساسية مرهفة:

هو رجل رقيق الطبع، شاعري المزاج، مثالي النزعة، قد تجرد من الأطماع والأغراض. فهو لذلك يمتاز بحساسية مرهفة، أو قل: إن هذه الحساسية المرهفة هي السبب في رقته وشاعريته ومثاليته وتجرده من الأطماع والأغراض، وهذا الشعور المرهف يجعله ينفعل لكل ظواهر الجمال في الدنيا: جمال الطبيعة وجمال الحب وجمال الآداب والفنون،، ثم بجمال القدرة الإلهية فوق كل جمال. .

أجل! فهو يؤمن بوجود إله خالق خير يهيمن على هذا الكون ويدبر أموره. وهو دائماً يذكر اللًه ويذكر السماء عند ذكر الحب والحبيبة، فهو يمزج بين الحب والدين، أو هو يجعل عبادة الجمال نوع من عبادة اللًه، لأن اللًه هو الجمال المطلق

دور الحب في الشخصية:

ص: 17

كان قبل أن يحب يؤمن بان الحياة بما فيها من شقاء وملل لا تستحق أن يحياها إنسان. فلما أحب، وأيقظ الحب شعوره الراكد، وحرك حسه الجامد، ورفعه إلى أعلى مدارج السعادة الروحية، أصبح يرى أن الحياة، لفرط ما فيها من لذة سامية، يخشى عليها أن يعكر صفوها حدث من الحدثان في عالم الغيب، لذلك يريد أن يموت في أوج سعادته، قبل أن يفاجئه الغد المشئوم، ويفحمه في حبه. . .

رفائيل ولا مارتين:

الرومانتيكية تبحث قبل كل شيء عن (الذاتية). فإذا كتب كاتب فإنما يعبر عن دفين أسراره، وإذا رسم فنان فهو يعبر عن خلجات نفسه واضطرابات حسه. . . ولا مارتين، عندما صور بطل قصته، فقد صور فيه نفسه: نفسه التي تنزع إلى المثالية في العاطفة والزهد في الحياة والتصوف في العبادة. . . وعشق كل ما هو جميل في الكون

السأم، والتألم الهادئ:

الصفة الغالبة على كل شخصية رومانتيكية هي: السأم الفطري الذي لا سبب مباشر له، والتألم الهادئ الرقيق. . . ورفائيل مثلاً في مقتبل العمر وشرخ الصبا لم يصبه من الصدمات ما يبرر عزوفه عن العمل، ويأسه من كل شيء وابتعاده عن الناس في شيء من القسوة على نفسه والى أقرانه. . . ولكن هي الطبيعة الرومانتيكية تأبى إلا أن يكون صاحبها إنسانا يمتاز بالحزن الدائم والتشاؤم وفقدان كل أمل. . .

وليس الحزن الرومانتيكي بالحزن الصارخ القبيح، بل هو ضرب من الألم الوجداني الهادئ. . . ألم شاعري رقيق، يجلب العطف ويمسح على الشخصية صبغة مميزة جميلة. . . وأما الحب الذي ربط بين قلب رفائيل وقلب صاحبته (جوليا) التي هي صورة أخرى من الشخصية الرومانتيكية الممثلة في رفائيل، فقد كان حبا مثالياً اقرب إلى ما يسميه الإغريق بالحب الأفلاطوني، والعرب بالحب العذري

أهم صفات هذا الحب الرومانتيكي:

التفاني:

ص: 18

هو مريض النفس، سئم الحياة ومل المجتمع وعاش وحيدا في دنياه. . . وهي مريضة الجسد تحب العزلة وتنطوي على نفسها في يأس ومرارة. . . (كلاهما طريد هم ووحيد غربة ونضو سقام وأليف وحشة). . . فأحبها لأنها تشبهه إلى حد بعيد. . . بل هو كان يحب فيها نفسه. . . وقد أصبحا فيما بعد، لفرط حبهما كأنهما شخص واحد:(وإنما أنا ظل بشخصك). . . لقد رآها فاحتواها في نفسه، ولم يعد في مقدوره أن ينتزعها من أعماقه، وهما إذ يلتقيان ليسا في حاجة إلى الكلام، لأن كليهما يفهم ما يدور بنفس الآخر، بل لأن روح كل منهما قد حل في روح الأخر:(فأتحول إليها، وتتحول إلي، حتى لا يستطيع الله نفسه. . . أن يفصل ما مزج الحب وأحالته معجزة الهوى)

العطف والاعتراف بالجميل:

لقد بدأ حب الفتى لصاحبته بنوع من الرثاء لحالها والتألم لمرضها. وقد لفته أول ما لفته إليها هزالها البادي وشحوبها، فأدركته لها رقة ورحمة وهي بدأت تحبه عندما شعرت بعطفه عليها، إذ كانت (محرومة نسب القلب وصلة الروح في ربيع شبابها) ثم أفاقت فجأة لتجد إلى جانبها عناية وإخلاصاً وحناناً، فلم تتمالك أن حركت لسانها بهذه الجملة المؤثرة. (لك الحمد يا رب لقد رزقتني أخاً). وقد زاد من حبه لها أنها أيقظت فيه الشعور بالحياة، وجلت لعينيه مسارح الخلود. . . نظرة واحدة منها كفلت له تجديد كيانه، وتغيير وجدانه، وبعثه من رقود، وإمتاعه بأيام سعادة لا مدى لها

العبادة واللانهائية:

المرأة التي يحبها في نظرة إله، أو على الأصح فالإله يتمثل فيها. لذلك فهو يقرن ذكرها بذكر اللًه، ويهم بالركوع أمامها إذا لقيها، ويصلي لها في حرارة وإيمان:(اتحد اللًه وهي في نفسي اتحاداً تاماً). . . (فكأن الهوى والعبادة يمتزجان فيها بمقدار واحد). . . لذلك فهو يقدس حبها ويؤمن بألوهيته، ويتعبد لتلك المرأة التي (جلت بحنانها عن أن تكون إلها، وسمت بقداستها عن أن تكون امرأة)

وما دامت الحبيبة شبه إله فالحب لا حد له: أنه حب أشبه (بسر بعيد الغور شاع في جوانب النفس بالإحساس لا بالكلام فهو نور من غير نار، وسكر من غير خمار، وهو

ص: 19

كمال لا يقدر ولا يفصل، ووحدة لا تجزأ ولا تحلل، يفيض على النفس نشوة لا تجد، ويجلو للقلب عن أسمى المعاني، ويكشف للبصيرة عن وجود الله ذاته. . . والعاشقان يفهمان من الحب:(الخلود تستوعبه دقيقة، واللانهاية تستقصيها إحساسه رقيقة)، ثم هما يؤمنان بخلود النفس البشرية ولا نهائيتها لأنهما يشعران عند اللقاء بذلك الخلود وبتلك اللانهائية. . .

الطهارة:

مثل هذا الحب المقدس لا يمكن أن يكون حبا شهوانياً، إنما هو عشق روحين واتصال قلبين، ورباط بين شخصين مثاليين. إن الفتى لا يحب في صاحبته الجسد الزائل والجمال الفاني، لكنه يحب مثالاً في نفسه يتعشقه، وصورة عليا يصبو إليها وجدانه. . . أنه يحب فيها (طيفا من طيوف الغيب)، ويبحث لديها عن ذلك الشعور بالراحة (الذي يجده من ظفر بحاجة طالما نشدها فما وجدها، ويدركه القلب العابد القانت. . . حتى إذا أدركه علق به علوق الحديد بالمغناطيس، وفنى فيه فناء النفس في الهواء). وهو سواء على القرب منها والمشهد، أو على البعد والمغيب، يراها في نفسه، وما عداها لا يشغله ولا يعنيه. . والحب في نفسه تطهير وتصفية: أنه شعلة اللهب تحرق وتلذع الحس، ولكنها تضيء كوامن الوجدان وتنير للقلب عالم السماء. . . وقد هفا حس الفتى الحيواني في ساعة من ساعات النشوة فوق مياه البحيرة إلى جمال صاحبته الجسدي، ولكنها سرعان ما ردته، بإخلاصها وطهارة نياتها وتفانيها في حبه، إلى صوابه الضائع؛ قالت:(ألا تعتقد أن حبنا يكون أمتع وأرفع وأبقى وأنقى مادام مصونا في خدر العفاف، نازلا في مناحي الخلود، حيث لا يتقلب الحدثان ولا يعدو الموت؟؛)

الحب والحياة:

كان الحب عند بطلي الرواية مثيراً لظاهرتين متناقضتين في نفسيهما: الأولى بعث الحياة في الجسد، والثانية إثارة الرغبة في الموت في أعماق القلوب

فالفتاة عندما أحبت انتعشت نفسها وخفت أمراضها وشعرت بالقوة والحيوية تسريان في شرايينها، وإن كان ذلك إلى حين. والفتى أحس أن العبقرية إنما يستمدها الإنسان من

ص: 20

الحب، ووجد في حبيبته (قصيدة إلهية رائعة) يستمد منها الإلهام، بل يستمد منها الحياة. . . ولكن الحب قد بلغ بهما منتهى ما تصبو إليه الروح من السعادة. . . وهما يخشيان بعد ذلك أن يوقظهما من حلمهما الجميل ما يحيط بهما من واقع أليم. . . وهما لذلك يصبوان إلى الموت قبل أن تحيق بهما الكوارث، ولكي يظلا متحدين اتحاداً روحيا تاماً في الآخرة كما كانا في الدنيا

الطبيعة:

الطبيعة تلعب دوراً خطيراً في مسارح الحب الرومانتيكي، فهي صديقة كل عاشق يبوح لها بعواطفه، ويبثها أشجانه، ويسر إليها بنحواه، ولا يجد الراحة والسلوى إلا بين أحضانها الزاهرة

محمد عبد الحليم محمود

ص: 21

‌عن الظرفاء

محمد إمام العبد

للأستاذ محمد رجب البيومي

يدور حديث الأدباء عن إمام في خفوت وهمس، فآنت تجد من يذكر له النكتة الرائعة، أو البيت الجيد، أو الحادثة الغريبة، دون أن يتعدى ذلك في قليل أو كثير، فإذا أردت من يلم بدقائق أخباره، وينشد روائع أشعاره، ويحلل مواقفه الاجتماعية والأدبية أعوزك أن تهتدي إلى ضالتك المنشودة، وخيل إليك أن إماماً شاعر قديم نشأ منذ قرون بعيدة، وسكتت عنه المراجع التاريخية، فما جاء عليه أحد معاصريه بترجمة وافية تضمن لتاريخه البقاء، مع أن شاعرنا البائس أديب معاصر، لا يزال يوجد بين أدبائنا من سامروه وحفظوا عنه وتغدروا به، ولكن بؤسه الذي صحبه في حياته قد امتد إلى تاريخه، فكاد أن يأتي عليه. والبؤس طاغية جبار، يصاول الأحياء في عنف وطغيان، فإذا لفظوا أنفاسهم بين يديه، عدا على القبور، فمزق الأكفان وبعثر الأشلاء!

ولد إمام من عبدين رقيقين قد جلبا من السودان، وبيعا لبعض الأثرياء، فورث عنهما السواد والدمامة والبؤس، ونشأ في كنفهما يقتات بما يتساقط من فتات الموائد وبقايا الصحاف، وكأن القدر لم يشأ أن يحرمه كل شيء، فمنحه القوة في الجسم، والبلاغة في المنطق، والخفة في الروح، فكان رياضيا ممتازاً يصرع أقرانه لدى الصيال، وشاعراً مطبوعا يحتكم في القوافي والأوزان، وخطيباً تعرفه الحفلات السياسية، والأندية الاجتماعية، وسميراً يؤنس سامعيه بالملحة النادرة، والفكاهة العذبة، وقل أن يجتمع هذا كله لإنسان!!

وكان لونه الأسود موضع التندر بين زملائه وعارفيه، فقاسى من جرائه كثيراً من ألوان التهكم والاستخفاف، وهذا ليس بعجيب، فقد ابتلى كثير من الأدباء قبله ببلواه، فدافعوا عن أنفسهم أبلغ دفاع، وحفظ لنا الأدب قلائد فاتنة لنصيب وعنترة والجاحظ، يلجمون بها من ينتقصونهم في أمر لا يوجب النقيصة بل وجد فيهم من فضل السواد على البياض، ودبج في ذلك الفصول الطوال!!

وكان حافظ إبراهيم رحمه الله أقسى المتهكمين لهجة، وألذعهم سخرية، وكانت فكاهته معه تأخذ طريقها إلى الألسنة في سرعة فائقة، فما يكاد شاعر النيل يرسل تندره العابث

ص: 22

بصاحبه، حتى يتقدم إماماً في كل مجلس يغشاه، وطالما وقعت بين الشاعرين جفوات متقطعة لما يلوكه حافظ من حديث إمام، ثم لا تلبث السحب أن تنقشع، لما بينهما من صلات جمع بينهما الشعر والبؤس والفكاهة وأكدها صفاء النفس، ونقاء الضمير، وقد اشتهر إمام بالشاعرية قبل صديقه، فكان حافظ في صباه يعرض عليه ما يفيض به خاطره من بيان، فيقوم إمام بصقله وتجويده وتزكيته، ثم مضت الأيام فإذا شاعر النيل يطير بشعره في آفاق الشرق العربي، وإمام البؤساء لا يجد من يروى قصائده غير حفنة يسيرة لا يمكن أن تلحق برواة حافظ،! وينظر العبد إلى مكانه من صاحبه، فيوسع عشاق حافظ لوماً وتسفها، كما يعلن أستاذيته له في كل ندوة يدور بها الحديث عن الشعر والشعراء، وحافظ يرد عليه بنكاته العابثة، وفكاهته الساخرة! فينتصر عليه أي انتصار!!

نظم إمام في الخمر أبياتاً رائعة صادفت هوى في الأسماع والقلوب، وأذاعتها الصحف مقرظة مادحة، وانتظر الشاعر من حافظ أن يوفيها قسطها من الإطراء والإعجاب، ولكن شاعر النيل يصيح في ندوة حافلة بالسمار والأدباء (إن مثل إمام في الشعر كمثل (بخيتة) في المطبخ، إذا هي أفلحت في تعمير (اللمبة) شاع عنها بين أهل الحي كله أنها سيدة الإماء، وكذلك يتلقى الناس أبيات إمام فيهللون له لأنه عمر (اللمبة) بنجاح)!!

والواقع أن حافظاً كان مريضاً بمعابثة إمام، فهو لا يرحمه بالسكوت عنه مهما بالغ في التودد إليه، وكان لا يقصر تندره على قصائده وأبياته، وهي أثمن ثروة يعتز بها الشاعر أي اعتزاز، بل ينتقل إلى ملبسه ومأكله وهيئته، فيوسعه سخرية وعبثا،!

لقيه ذات مرة يلبس (كرافته سوداء فصاح به: (أقف قميصك أيها العبد، فصدرك الأسود يضجر الناس!) ووجده مرة يكتب خطاباً، والمداد يتساقط من قلمه فقال (جفف عرقك يا إمام)!! وأمثال هذه المأثورات الحافظية متداولة مشهورة، وكان في طوق إمام أن يؤدب صاحبه ببأسه وصرامته، ولكنه كان في أكثر أحواله ينفق من جيبه، ويقاسمه قروشه ومليماته مما يدعو إلى التسامح والإغضاء!

ولم يكن حافظ وحده يستغل سواد إمام في تندره وسخريته، بل إن إماما نفسه قد اتخذ منه مادة دسمة للحديث عن نفسه، فهو لا يفتأ يردده في قصائده وأزجاله ويستلهمه كثيرا من المعاني الجياد، فإذا تحدث الشاعر عن بؤسه وفاقته دار حول سواده ودمامته، وإذا لفحه

ص: 23

الحب تذكر سواده الفاحم، فأنتزع منه الخواطر المشجية. وهكذا يصبح السواد مركب النقص لديه، يشعر به في ألم ومرارة فيسلمه أزمة القوافي والأوزان

أقرأ إن شئت غزله المطبوع، تجده يدور في أكثر قصائده على ما منى به من حلوكة دلمسة، وهو في كل مقطوعة يبتكر ويجدد، فهو تارة يقع في حوار مع معشوقته البيضاء، فيسألها أن تسدل الليل البهيم على بدر الدجى الساطع، فترفض في إباء واستعلاء، وتتعجب من عبد أسود يطمع في غرام غانية عزت على الأحرار البيض، فيجيبها بما يثبت حريته واستقلاله، ويصور ذلك إذ يقول:

عذبي القلب كما شئت ولا

تكثري اللوم فمثلي لا يلام

وأسدلي الليل على بدر الدجى

فحديث الشوق يحلو في الظلام

همت بالوصل فقالت عجبا

أيها الشاعر ما هذا الهيام

لم ينل منا الرضا حر وما

رام منا سيد هذا المرام

أنت عبد والهوى أخبرني

أن وصل العبد في الحب حرام

قلت يا هذي أنا عبد الهوى

والهوى يحكم ما بين الأنام

وإذا ما كنت عبدا أسوداً

فاعلمي أني فتى حر الكلام

وهو تارة يعلن أن لونه لم يكن مسوداً قبل غرامه، ولكن لهيب الشوق أحرقه في قسوة فأحاله من البياض إلى السواد، ولك أن تتصور الجسم الأبيض وقد اشتعلت فيه النار حتى تركته فحمة سوداء!! وهو تعليل طريف مستملح، ولكنه ادعاء باطل تضحك من الشاعر إذ يصيح به فيقول:

كتمت فأقصاني وبحت فلامني

فهاج غرامي بين سري وإعلاني

وما كان لوني قبل حبك أسوداً

ولكن لهيب الشوق أحرق جثماني

وكأن الشعر لم يتسع ببحوره الضافية لعواطفه (السوداء) فنظم كثيراً من الأزجال المرحة تحوم في مجموعها حول سواده ودمامته، وعشاق الزجل يعجبون ببراعته وإبداعه، ويشيدون بقصيدة (الزنجية الحسناء) وفيها يقول:

الناس لها مذهب في البيض

ومذهبي حب السودان

مرجان متيم ببخيته

وبخيته مجنونه بمرجان

ص: 24

مين اللي قال الحب عذاب

يا ناس وحق الله افتوني

الليل ومحبوبتي أصحاب

إزاي عواذلي يشوفوني

ونلاحظ ونحن نطالع غزله المرح، أنه كان مشبوب العاطفة، صادق الصبوة، فهو يغمرك بفيض من الإحساس الصادق، ونحن لا ننتظر من شاعر مثله أن يثب مع الخيال إلى أجواء عالية، فقد كان في عهد يقتصر فيه الشعراء على التعبير الفطري، والإحساس الأولى؛ دون جنوح إلى التأمل والاستغراق، بل إن إماماً قد سلم مما ارتطم فيه معاصروه من الجناس المستكره، والبطاق الثقيل، واندفع إلى التعبير عن خواطره في سلاسة ونصوع، وحسبك منه أن يسكر لسانك بحلاوة اللفظ، ويطرب سمعك بعذوبة النغم، إذ يقول

أرى لوعة بين الجوانح لا تهدا

أهذا الذي أسماه أهل الهوى وجدا

وما ذلك الواهي الخفوق بجانبي

أهذا هو القلب الذي بحفظ العهدا

أو يقول:

كان هذا الغرام يجري ورائي

في شبابي فصار يجري أمامي

إنما الحب كهرباء عيون

لعيون تسري إلى الأجسام

ما خضعنا لدهرنا وهو ليث

وخضعنا لنظرة الآرام

أو يقول:

أقام الهوى عشرين حولاً بمهجتي

وسار، فمن أوحى له برجوع

كأن الهوى ما أكرمته ربوعها

وصادف إكراماً له بربوعي

ورغم هذه المقطوعات الجياشة بالحنين إلى المرأة، المتشوقة إلى ظلالها الوارفة، وروضها البهيج، قد قضى الشاعر حياته عزباً لم يتزوج، ولسنا نحار في تعليل ذلك؛ فتكاليف الزواج مرهقة لا يحتملها شاعر معدم، تتلوى أمعاؤه في أكثر أوقاته جوعا وسغبا، ويتحرق إلى مسكن ضئيل يقيه برد الشتاء وحر الهجير، وقد كان الأدب مترددا على الأندية والمقاهي دون أن يجد من يدفع به إلى باب يرتزق منه، وكانت الصحف السياسية والأدبية من القلة بمنزلة لا تهيئ لها النهوض بحملة الأقلام، وبخاصة إذا كانوا من طراز إمام ممن يتهالكون على الشراب تهالكاً يستنفد جميع ما لديهم من المال! وتلك حالة جديرة بالرثاء والإشفاق!! وقد نظر إمام إلى الزواج ككارثة مروعة تؤجج اللوعة والحيرة، وصور للقراء ما يعقبه

ص: 25

من تبعات ومصاعب، ونحن لا نؤيده في دعواه، ولكننا نعرض جانبا من أبياته، ليضيء ما يغشاه من اضطراب وقلق، وإن كنا نرجع باللائمة إلى سلوكه المضطرب، وتربيته العوجاء، وزمنه الجحود، اسمعه يقول:

أيها العاقل المهذب مهلاً

هل رأيت الزواج في الدهر سهلا

كل عام يزاحم الطفل طفل

ليتني عشت طول عمري طفلا

ذاك يحبو، وذاك يمشي، وهذي

فوق صدر، وتلك تنشد بعلا

ضاق صدري من الزواج فمن لي

بحياة الخصي قولا وفعلا

كان هذا الشقي جسما فلما

أنهكته الهموم أصبح ظلا

وهكذا يئس الشاعر من الزواج فلم يطرق بابه، وقد ادعى في مقطوعة أخرى أن لديه مانعاً يحول دون زفافه، فهو كالليل الحالك، وكل حسناء شمس منيرة، واجتماع الليل والشمس من ضروب المحال، وهذا ادعاء خطابي، فلكل ساقطة لاقطة كما يقولون

وتسألني عما نظمه إمام البؤساء مصوراً فاقته وعدمه؟ والحق أنه أسهب في تبرمه وتوجعه لحالته، وكان يحز في كبده أن يجوع وتأكل الماشية، ويعرى وتكتسي الأضرحة، ولولا أنه كان يسري عن نفسه بمجالس السمر ومطارح الفكاهة، لاحتراق بما يشتمل في صدره من جحيم، وقد كان ككل أديب بائس - يظن لديه من الحصافة والمرونة ما يؤهل له العيش الرغد، والنعيم الهنيء فإذا صدمه الواقع المرير بالبؤس والمتربة ثار على الوضع الجائر، وندب الحظ العاثر، وتطلب المكانة التي يصورها له خياله، وإنها لبعيدة عنه أشد ابتعاد!! وقد كان من القسوة الغليظة أن يلقبه الناس بالعبد وهو الأديب الحر العيوف، وماذا يصنع في لقب ورثه عن أبيه، ولازمه كالظل فما ينفك عنه أبد الحياة، أنه ليقابله بالعتب المرير، ويصيح كالساخر العابث:

نسبوني إلى العبد مجازاً

بعد فضلي واستشهدوا بسوادي

ضاع قدري فقمت أندب حظي

فسوادي على ثوب حداد

وإذا كان السواد ثوب حداد على حظه الضائع، فإنه في موضع آخر حداد على قلمه الكاسد!! هذا الذي لا يجر نفعا لصاحبه، وهو أحرى أن يملأ يديه بالذهب النضار، لو عاش بين قوم يقدرون فضله، ويحترمون مواهبه، وقد تمنى الشاعر أن يكون قلمه سهما

ص: 26

مسدداً إلى فؤاده، فيريحه مما يكابد من عناء!! وتلك أمنية ترمض الجوانح، وتدمي الجفون، ولكنها في رأيه سبيل الخلاص، ومرفأ النجاة، ها هو ذا يقول:

لبست لأجله ثوب الحداد

ودرت مع الزمان بغير زاد

أمد يدي إلى قلمي افتقاراً

فيدفعني إلى تلك الأيادي

فيا ليت اليراع يصير سهماً

كما أبغي ويكتب في فؤادي

سئمت من الحياة بلا حياة

وضقت من الرشاد بلا رشاد

وكيف يهيم بالدنيا أديب

تسربل بالسواد على السواد

إذا أكل الطعام فمن تراب

وإن شرب المياه فمن مداد

كأن الدهر يغضبه صلاحي

فأفقرني ليرضيه فسادي

وأوجع من هذا أن يقول شاكياً فاقته نادبا مجتمعه الجائر

خلقت بين أناس لا خلاق لهم

فباعني الفضل في الدنيا بلا ثمن

لولا بقية دين أمسكت خلقي

لقلت إن إله العرش لم يرني

أو يقول:

وما قتلتني الحادثات وإنما

حياة الفتى في غير موطنه قتل

وما أبقت الدنيا لنا من جسومنا

على بأسنا ما يستقيم به الظل

وكأن الحظ قد سد أذنيه عن قلم إمام فلم يصغ لحظة واحدة، إلى صرخاته الفاجعة، وما زال يتقلب على أشواك الحرمان حتى دهمته العلة بعد خمسين عاماً من عمره الجديب، وأحس أنه قريب من الموت فلم يأسف من الحياة على شيء غير يراعه العجيب، بصريره فطالما نفث بمداده السحر، وشنف الأسماع، فطفق يودعه في حرقة وتلهف، وينشده الرثاء الباكي الذي ناح به على نفسه، وهو يكابد العلة القاتلة، ويصاول الداء الفتاك، ثم سبحت روحه إلى آفاقها الرحيبة، بعد أن ردد هذه الزفرات الأخيرة

يراعي، لقد حان الفراق وربما

أراك على العهد المقدس باقيا

لبست عليك الليل حزناً وليتني

لبست على نفسي الدجنة ثانيا

مضت بيميني الحادثات جهالة

فلما رأت صبري مضت بشماليا

وكيف يطيب العيش والدهر مدبر

وفي القلب ما يفري الحسام اليمانيا

ص: 27

رمل الإسكندرية

محمد رجب البيومي

ص: 28

‌رسالة المربي

أهمية العلوم - المدرسة والمجتمع - المجتمع العالمي ورسالة

المربي

للأستاذ كمال السيد درويش

يحتاج التوافق الاجتماعي إلى جانب الإعداد التربوي - الخلقي والبدني - إلى الإعداد العقلي أيضاً. وذلك عن طريق العلوم فقد كانت ولا تزال من أهم الوسائل التي يستعين بها الإنسان على إشباع حاجته إلى المعرفة وتوفير حاجته إلى الأمن. والعلوم من أهم الوسائل الإنسان في تذليل ما يصادفه من عقبات وبها يستطيع الحياة في جو مطمئن يساعده على الابتكار والتجديد والتقدم.

ولسنا الآن بسبيل سرد تلك العلوم ولا بسبيل الإشارة إلى أهمية كل منها على انفراد أو الحاجة الإنسانية إليها فذلك كله من الأمور البديهية، وما على الإنسان إلا أن يفكر قليلا ليدرك مدى الخدمات التي تؤديها مختلف العلوم والتي لولاها لما تقدمت الإنسانية في طريقها ولما خطت خطواتها السريعة في سبيل التقدم. وإنما الذي يهمنا الإشارة إليه هو كيفية تدريس هذه العلوم المختلفة بحيث تصبح فعلاً مفيدة للإنسان؛ أي بحيث يستطيع استغلالها واستخدامها كوسائل فعالة، حية، نامية، لا أن تصبح مجرد أدوات لا قيمة لها أو كجثث محنطة لا نفع فيها ولا حياة. وهنا نستطيع أن نتبين أهمية رسالة المربي. إنها تظهرنا على الموقف الذي يجب أن نقفه كمربين من تدريس العلوم على اختلافها؛ من كيفية تعلمها وكيفية تعليمها أيضاً. يجب أن يشعر المتعلم بفائدة العلوم التي يتعلمها؛ يجب أن يشعر أن العلوم وإن كانت قيوداً تزيد في ثروته العلمية وتعاونه على التآلف مع بيئته وتزيد في قدرته على التعامل معها. وما لم يحدث ذلك فعلاً كان المتعلم قد خسر كل شيء ولم يستفد سوى حشو ذهنه بالمعلومات الميتة فلا هو سينتفع من معرفتها ولا سيضره جهله بها، بل سينفعه تركها والتخلص منها

إن للعلوم جميعها أهمية كبرى في تحقيق رسالة المربي، ولعلم النفس من بينها أهمية خاصة لم نشعر بها بعد، لذلك يجب الإشارة إلى الأهمية خاصة لم نشعر بها بعد، لذلك

ص: 29

يجب الإشارة إلى الأهمية الكبرى التي اكتسبها. لقد أصبح علم النفس ضرورة من ضرورات المجتمع الحديث، فبه يمكن حل الكثير من المشاكل الاجتماعية وعلى ضوئه يمكن تفسير السلوك الإنساني المعقد، وبدون ذلك لا يتيسر للإنسان الحياة في وئام. علم النفس الآن هو طبيب، الإنسانية بل خادمها الأول. وهو ينفع المعلم كما ينفع الطبيب وينفع صاحب المصنع كما ينفع العامل. هو علم الإنسان. بل علم النفس الإنسانية، ولذلك يجب علينا معشر الشرقيين أن نحله مكانه الممتاز بين سائر العلوم

ومن بين العلوم التي أخذت تحتل مكانها الممتاز إلى جانب علم النفس بفروعه المختلفة نجد علم الاقتصاد. إن المجتمع الناهض القوي يجب أن يبنى على أسس اقتصادية سليمة، وإلا ذهب الكلام عن إصلاحه وتقدمه أدراج الرياح، وهل يتيسر ذلك إلا بالسير وفق سياسة اقتصادية مرسومة وفق أحدث نظريات الاقتصاد؟! ألم يشترك الكتاب الاقتصاديون مع غيرهم في تقديم الوقود لإشعال نار الثورة الفرنسية وبناء مجتمع جديد على أنقاض الملكية المتهدمة؟!

والكلام عن علم الاقتصاد يقودنا إلى الكلام عن النظم الاقتصادية وما انبنى عليها من مذاهب سياسية يحاول كل منها تنظيم المجتمع أحسن تنظيم. ولقد طبقت هذه النظم في بعض الدول الأوربية مثل الروسيا أو ألمانيا أو إنجلترا حيث نجد الشيوعية والاشتراكية والديمقراطية. ولهذه المذاهب - وإن كانت سياسية - مثلها التربوية وفلسفتها التعليمية. . ولذلك لا يمكننا إغفالها دون التحدث عن موقف رسالة المربي منها. إننا ننظر إليها جميعها كوسائل ضمن الوسائل التي نستفيد بها لتحقيق هدفنا التربوي، فإذا كانت عاملا من عوامل النمو الاجتماعي استخدمناها وإذا سلبتنا حريتنا وشخصيتنا ووقفت عائقا دون تقدمنا تركناها ونبذناها. فليست العبرة لدينا بالأسماء بقدر ما نهتم بحقائق الأشياء. ونحن نقول لأصحابها:(وهي إلا أسماء سميتموها.)

إن لكل مذهب سياسي ظروفه الخاصة التي أدت إلى ظهوره وانتشاره وبخاصة وله بيئته المحلية التي لا يترعرع إلا فيها ولا يزدهر إلا في أحضانها. ولكل بيئة تراثها التاريخي فكيف يصلح في مصر ما يصلح في إنجلترا أو الروسيا؟!

ولماذا لا تكون لنا رسالتنا الخاصة نستمدها من تراثنا القديم والوسيط والحديث، ومن

ص: 30

خيراتنا وتجاربنا، فنحن أدرى بأحوالنا وبما يلزمنا؛ نقتبس من المذاهب شيوعية كانت أو ديمقراطية أحسن ما فيها مما يتمشى مع مقوماتنا ونخرج من ذلك كله بفلسفتنا الخاصة فتكون لنا أكبر البعث والحياة

وفي ميدان المدرسة يجب أن تتركز جهود المربى لتحقيق رسالته، ذلك لأن المدرسة تقوم بدور رئيسي في تربية أفراد المجتمع. وموضوع المدرسة وما يجب أن تكون عليه حتى تنجح في تحقيق رسالة المربي موضوع قد استحق التأليف فيه من كبار فلاسفة التربية في الغرب، وسوف نفرد له بحثا خاصا بإذن الله

وكما يجب أن تتجه همة المربي إلى المدرسة يجب أن تتجه إلى سائر الميادين الاجتماعية الأخرى. . إلى السينما والمسرح وإلى الصحافة والإذاعة، فكل ميدان من هذه الميادين يحتاج إلى نفس الإشراف والتوجيه الذي يكفل ضمان نمو الروح الاجتماعية التقدمية بين جميع أفراد المجتمع. يجب أن يقف المربي من إصلاح المجتمع موقفا إيجابيا بشتى الوسائل كإنشاء المراكز الاجتماعية حتى يشع كل منها الروح الاجتماعية فيمن حوله من السكان. حقا إن إنشاء المراكز الاجتماعية بخبرائها وأطبائها وميادينها وملاعبها ومسارحها وصالات محاضراتها كفيل بتوجيه المجتمع الوجهة الصحيحة التي يجب أن يتجه إليها. إن اهتمامنا لا يزال ينصب على المدارس فقط، وهذا خطأ كبير. حقيقة إن المدارس وإن كانت تعد الإنسان فترة كبيرة من حياته إلا أن ذلك ليس معناه الاعتماد عليها فقط، لأن الفرد قبل التحاقه بالمدرسة يكون إلى حد كبير صورة مصغرة للمجتمع المنزلي الذي عاش فيه، ثم هو بعد التحاقه بالمدرسة لا يقطع صلته أبدا سواء بالمنزل أو الشارع ويكون أثناء ذلك شأن كل صحيح البدن عرضة للإصابة بجراثيم الأمراض لاجتماعية المعدية. وهنا تتبين لنا أهمية رسالة المراكز الاجتماعية. عليها مهمة الوقاية والحماية والتأييد والتعضيد. هي الناصح المخلص والمرشد الأمين والطبيب الذي يأخذ بيد المصابين وقبل أن يزمن الداء يقدم إليهم الدواء فالشفاء

ولكن عن أي مجتمع نتحدث؟! إن المجتمع الذي نقصده ليس المجتمع المصري أو العراقي أو الشامي أو الإنجليزي، وإنما هو المجتمع العالمي. . أي المجتمع الذي يضم أفراد العالم جميعا. وما فائدة إصلاح مجتمع محلي مع إهمال سائر المجتمعات؟ أليس هذا هو سر

ص: 31

التعارض بيد الأمم وبالتالي سبب قيام الحروب وانهيار كل دولة وتأخرها إلى الوراء. إن من بين الأسباب الرئيسية للحروب بين دول العالم هو اختلاف الإعداد التربوي في دولة، عنه في الأخرى، هو في التعصب القومي الأعمى البغيض، هو في اختلاف الاتجاهات العقلية والخلقية بين الدول، حقاً إن الإعداد الاجتماعي كفيل بإيجاد التقارب والتفاهم بين أفراد المجتمع العالمي. إن الأسر على ما بينها من اختلاف تعيش في وتام وسلام داخل حدود الدولة الواحدة، ذلك لأنها تخضع لإعداد اجتماعي واحد يهدف إلى تقوية عوامل الوحدة في الدولة، فلماذا لا ننظر إلى الدول على أنها أسر صغيرة في المجتمع العالمي، ونعمل على إيجاد روابط اجتماعية عالمية تؤدي إلى جعل التعاون العالمي حقيقة ملموسة لا حلما في الخيال؟ إن رسالة المربي تنظر إلى الوحدة العالمية كهدف قريب الوصول سهل التحقيق وهي تراها لازمة لها لزوم الروح للحياة. ورسالة المربى بهذا المعنى تحقق نمو المجتمع الإنساني ورقي العالم وبها يتحقق أكبر قسط ممكن من السعادة الذاتية للإنسان

وهذه النظرة العالمية تؤكد لنا حاجة أمم العالم إن التعاون فيما بينها شأنها في ذلك شأن الإنسان. فكما أن الإنسان مضطر إلى أن يحيا ضمن المجتمع، فكذلك الدول مضطرة هي الأخرى إلى أن تحيى ضمن المجتمع العالمي. وكما أن كل إنسان ينعزل عن المجتمع يكتب على نفسه الفناء والزوال، فكذلك كل أمة تبتعد بنفسها عن غيرها من الأمم تكتب على نفسها - بانعزالها وجمودها - الفناء والزوال. وكما يجب أن تسود الروح الاجتماعية بين أفراد المجتمع يجب أن تسود بين دول العالم جميعها.

وعلى ضوء هذه النظرة العالمية يجب أن تسود بين دول العالم جميعها، وعلى ضوء هذه النظرة العالمية يجب أن تتكيف التربية داخل المدرسة وخارجها فيكون هدفها هو العمل على إيجاد التوافق الاجتماعي بمعناه الخاص وبمعناه العام أيضاً. ولنضرب لذلك مثلاً تدريسنا لعلم التاريخ. هل غرضنا من تدريسه تقديم أداة فعاله تمكن المتعلم من الاندماج مع مجتمعه هو والعمل على رفع شأنه دون الاهتمام بغيره، والتعصف لوطنه والحط من شأن غيره من الأوطان؟! لو فعلنا ذلك لأغفلنا أهم جانب في رسالة المربي. إن التاريخ بهذه الصورة هو سر التعصب القومي. . . هو الزيت المصبوب على حطام العالم لتشتعل فيه الحروب من جديد حتى لا يخمد لها أوار. أما إذا قمنا بتدريس التاريخ على أنه توضيح لما

ص: 32

بين الأفراد والمجتمعات من علاقات عدائية أحيانا وسلمية أحياناً أخرى وما كان لهذه وتلك من أثر في تقدم الإنسانية أو تأخرها؛ فإننا في الحقيقة نكون قد سرنا في الطريق التي توصلنا إلى تحقيق رسالة المربي

كمال السيد درويش

ليسانس الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي

مدرس بالرمل الثانوية

ص: 33

‌4 - على ضفاف القناة:

زفة أللنبي

قد يلفت هذا العنوان نظر القارئ الكريم، ويوقعه في شيء من الحيرة والارتباك، والعجب والدهشة، فمن هو (أللنبي) هذا؟! وما قيمة (زفته) هذي حتى يفرد لها حديث خاص في الرسالة الغراء؟! ولكن سرعان ما يزول هذا الشعور المزيج من الحيرة والعجب والدهشة والارتباك عندما يعمل أن (أللمبي) هو المعتمد البريطاني الذي انزل البلاء بالمصرين عامة أيام الحرب العالمية الأولى. وإن (زفته) هي عادة أصيلة في بور سعيد والإسماعيلية، يدين بها أهل هاتين المدينتين، ويحرصون عليها كل عام حرصا شديدا

والزائر لإحدى هاتين المدينتين ابتداء من منتصف شهر فبراير، يرى نشاطاً عجيباً، ويلفت نظره تماثيل لم يكتمل خلقها بعد، معلقة على أبواب المنازل، أو فوق سطوح البيوت غير المرتفعة، في الأحياء الوطنية بخاصة، وفي الأحياء الأفرنجية كذلك حيث تسكن بعض الأسر المصرية. . تماثيل تكتمل خلقاً يوماً بعد يوم في نظام رتيب وعمل متصل بلا انقطاع. فوق كل بيت تمثال (خواجة) يبدأ جسمة أولاً غفلاً من التصوير، أي بدون رجلين ولا يدين ولا رأس، ولا تكاد تمضي أيام على تعليقه على الأبواب أو فوق سطوح الدور، حتى تصنع له الرأس، ثم تبدو اليدان، ثم الرجلان، ثم توضع القبعة فوق الرأس، ثم توضع في فمه الكبير (بببة) يمسكها بيده كأنما يدخن في نهم وشره، وصفاقة وبرود. . وكلما مر يوم ازداد هذا الخواجة أناقة ووضحت تقاطيع وجهه، وظهر فيه البرود السكسوني المقيت بأجلى صوره، وأوضح معانيه، وبعد مدة يصل الفن المصري (البلدي) إلى رجليه، فيلبسهما حذاء لامعاً، وقد سك في يده مذبة (منشة) وقد يكون واقفا مستندا إلى خشبة خلفه أو بجانبه لئلا يسقط هنا أو هناك، وقد يكون جالسا على كرسي يصنع خصيصاً لهذا الغرض، بحيث يضع رجلاً على رجل، فينبعج كرشه، ويصبح مثال الصلف الوقح، والبرود الحقير. .

وتكون هذه التماثيل في الغالب في حجم الإنسان الطبيعي الذي يميل إلى النحافة قليلاً، حتى إذا جاء يوم شم النسيم تكون هذه التماثيل قد اكتملت خلقاً وزينة، وظهرت معالمها، وبرزت خصائصها، لأن هناك مجالا واسعاً للتفاخر والتباهي بين الأهلين، فمن كان تمثاله أكبر

ص: 34

وأضخم، وأدق وأفخم، وأظهر وأعظم، كان بالوطنية أجدر، وبطعن الأجنبي الغاصب أحق وأولى، واستحق بذلك تقدير زملائه وجيرانه، وتهنئة أهله وأحبابه وخلانه، ونال الشرف الذي ليس من السهل أن يناله إنسان، أو يحصل عليه مخلوق كائناً ما كان.!

أما من أي شيء تصنع تماثيل هؤلاء (الخواجات) فهذا موضع العجب والدهشة، أو بمعنى أدق هو الوطنية الحقة، الكامنة في نفوس هذا الشعب المصري العجيب الذي لا تزيده الحوادث مهما اشتدت، والخطوب مهما ادلهمت، إلا شدة وقوة، وصرامة ووطنية. . إن هذه التماثيل تصنع من القماش الرخيص أو الملابس القديمة. وتحشى بأقذار ما في البيوت من ثياب رثة. وملابس مهلهلة، وجمعي ما يستغني عنه الكبير والصغير من أحذية وغيرها، لتحمل معنى الإهانة الصارخة، والسخرية اللاذعة، والاحتقار الشائن، والثورة الحانقة. .

ولا يكاد ينبلج الضوء صبيحة يوم شم النسيم من كل عام، حتى تحمل هذه التماثيل على عربات صغيرة من عربات اليد، وتدفع إلى الأمام في إهانة بالغة، واحتقار كبير. . وبعض الأهليين يفتنون في ذلك، فيحملونها على (نعش) ويسيرون بها في هيئة جناز، إلا أنه غير صامت، بل صاخب ثائر، حيث يردد الكبير والصغير هذه العبارات التقليدية اللاذعة:(يا أللنبي يا بن حلنبوحة. .؟. . أمك، ملآنه ملوحة) ويصاحب ذلك الترديد تصفيق منتظم حاد، يشيع في الجو لوناً رهيباً من ألوان الثأر المكبوت، والعاطفة المكفوفة التي يفرج عنها هذا الهرج والصخب والتشفي، ولا تزال هذه الزفة الصاخبة الحادة، تخرج من كل بيت، وتتلاقى هنا وهناك، طائفة بالشوارع الكبيرة والصغيرة، حتى تصل إلى كل رجا من أرجاء المدينة، فإذا انتهى الأهلون من هذه الزفة، ألقوا بما يحملون من تماثيل، في إهانة صارخة، وثورة جامحة، وأشعلوا فيها النيران التي تندلع ألسنتها في وحشية وجبروت طاغ، يذهب بتماثيل الشر الماحق، ويمحو آثار الطغيان والضلال المبين إلى أعماق الجحيم. .!!

ومرجع هذه الزفة كما أعتقد إلى فكرة وطنية متمكنه، وعقيدة عدائية خالصة، نحو الإنجليز العدو الأول لمصر والمصريين. . ذلك أن اللورد أللمبي كان مندوباً سامياً في مصر أيام الحرب العالمية الأولى، وكان هذا الداهية سوط عذاب على المصريين جميعا، وبخاصة على العمال المصريين، وكان عنوان الصلف الإنجليزي، والطغيان المروع، وتجلي ذلك

ص: 35

العداء الصارخ في وضوح وجلاء، حينما ساق العمال المصريين سوق الأنعام إلى بلاد الشام، حيث عاملهم كما تعامل السائمة، لقتال الترك والألمان.

والمصريون في ذلك الحين يحنون حنيناً كبيراً عجيباً إلى الأتراك، ومرجع ذلك الحنين البالغ إلى الصلة الدينية التي تجمع بينهما. . صلة الإسلام التي جمعت بينهما وأدت إلى المصاهرة، حتى لا يكاد يخلو حي من أحياء القاهرة، ولا مدينة من مدن القطر من أسر تركية، أو أسر مصرية تنحدر من أصل تركي، حيث كانت مصاهرة الأتراك في ذلك الوقت من دلائل العظمة، وعنوان التقدم والرقي، وعراقة الأصل، وطيب المحتد. وقد كان الترك كذلك إلى عهد قريب زعماء المسلمين، وقبلة الأنظار في يوم ما، فيهم الخلافة ظل الله في الأرض، وإليهم تتجه القلوب في أرجاء العالم الإسلامي بأسره، ونواحي الوجود بعامة. .

ثم هم - أعني المصريين - يحترمون الألمان، ويحبونهم بالغ الحب، ويرون فيهم مظهراً من مظاهر الرجولة الكاملة، والاستقامة الرائعة، والجد الصارم، والعزم الحازم، كما يرون فيهم صورة حية من صور العبقرية الملهمة، وأنهم أئمة العلم والاختراع في القرن العشرين بلا مراء، ويعتقدون أنهم في حربهم مع الإنجليز وحلفائهم، إنما يحاولون القضاء على الخطر الاستعماري الأكبر، رمز الظلم والعدوان، والغدر والغش، والبرود السكسوني اللعين، وكيف كانوا يستولون على بضاعة الألمان، ثم يضعون عليها علامات تجارية إنجليزية، ويبيعونها على أنها إنتاج إنجليزي بأغلى الأثمان وأفدح الأسعار، ولا يبالون بما يفتضح من أمرهم في السوق المصري بخاصة. .!

ولهذا كان من العسير على نفوس العمال من المصريين أن يساقوا سوق السائمة لحرب من يحبون، وقتال من إليهم يميلون، وإذا كانت الدعاية المارقة قد استغلت مظاهر الحزن والنقمة، حين يجند أبناء المصريين، وجعلت من هذا الحزن والصوت المتعالي دليلاً على عدم الوطنية المصرية، والفرار من ميادين القتال، وأن أمة هذا شأنها لا تستحق الحياة بين غيرها من الأمم عزيزة مرهوبة الجانب، بل تستحق حماية غيرها من الدول القادرة الناهضة، حتى تنهض على ساقين، وتفهم حقيقة الأمور كما يجب أن تفهم. . أقول إذا كانت الدعاية الإنجليزية المغرضة قد استغلت ذلك، فإنما هو استغلال سيئ لأغراض

ص: 36

سافلة، والمصريون معذورون في نقمتهم على ذلك التجنيد الذي لم يكن في سبيل مصر والمصريين، وإنما كان لخير الإمبراطورية العجوز الشوهاء، التي تربط مصر والمصريين بعجلتها، وتدفع بالعمال والجنود المصريين إلى أتون الحرب المستعمرة، حيث تلتهمهم خطوط النار الأولى، وتقضي عليهم القضاء الأخير. .

وإن هؤلاء الإنجليز لا يجهلون وطنية المصريين، ولكنهم يتجاهلونها ويشيعون عنهم في المحافل الدولية غير الحق والواقع، ولو أنصف هؤلاء الطغاة لأنصفوا هذا الشعب الذي يقدر العاملين. .!!

هذا هو اللورد أللنبي الذي جند من المصريين جيشا يحارب على غير رغبته الأتراك والألمان، وكانت أكثر المناطق المصرية تضحية بأبنائها وبنيها هي مدن القناة دون ريب، ولطالما فجع أهلوها بفقد من ذهب إلى الميدان. . ومن الغريب أن الظروف ساعدت هذه الدولة العجوز، حيث قامت الثورات في ألمانيا فاضطر الألمان إلى الانسحاب، خشية تفاقم الخطر. . وقد انتهز أللنبي هذه الفرصة. فخرج على رأس جيش لقتال الألمان والأتراك في الشام، وادعى أنه هزمهم وطردهم وتعقبهم، بينما الظروف وحدها هي التي دفعتهم إلى العودة والرحيل. .!!

وإذا كان أللنبي قد فجع كل بيت مصري في عائلة أو أحد أفراده، فإنه هو الذي سيطر على الحياة السياسية المصرية حيناً من الزمن، ولا يجهل أي مصري أن أللنبي هو الذي منع الملك فؤاد عليه رحمة الله أن يلقب بملك مصر والسودان، ضناً باتحاد أبناء الوادي أن يتخذ له كيانا تترتب عليه نتائج لا يرضى عنها الإنجليز وحرصا على تفريق الكلمة، وتوزيع الجهود. .

وأما بعد: فقد آن الأوان لأن يحطم المصريون هؤلاء الإنجليز، ويقضوا عليهم القضاء الأخير، ويتخلصوا نهائياً من هذه التماثيل. . تماثيل الشر والفساد، ليتخلص الوطن من أعدى أعدائه، ويتنفس الجميع في جو من الحرية والاستقلال. .

عبد الحفيظ أبو السعود

المدرس بالمدارس الثانوية الأميرية

ص: 37

‌الحرب الاقتصادية أضر

لندع الألسنة التي لا هي مصرية ولا عربية تدور في أشداقها تشيد

بقوة الإنجليز وضرورة بسط سلطانهم على هذا الشرق المنكوب

بالجهل والفقر والمرض

لندع أصحاب تلك الألسنة الذين لا هم مسلمون ولا شرقيون، يثرثرون في مجالسهم يجرحون الوعي القومي في هذا الشرق الناهض، ويلطخون أخلاق قومه بكل شائن مزري معيب

لندع الحكة الآكلة تنهش صدورهم، لأن في نهضة الشرق، ووعي قومه، وقيامتهم دفعة واحدة يدفعون عن عواتقهم أضرار الاستعمار وصلف المستعمرين وأذاهم تكذيباً صريحا للتقارير التي يرفعونها إلى سادتهم المستعمرين عن موات الشرقيين وسدورهم الملذات والشهوات وإنكارهم الوطن والوطنية

لندع جانباً أصحاب تلك الألسنة المأجورة والضمائر المسخرة لأنها صارت قاب قوسين أو أدنى من القبر، ولأنها الحالة الراسبة، والنفاية المرذولة، والبقية الباقية من جيل لا رده الله عاش بنوه في ذل الاستعمار، وفقدان الثقة بالنفس، وفي جماعة ليسوا من الإسلام والشرقية والعروبة في شيء، وإنما هم مخاليق ضمائرهم خربة، لا دين لهم إلا الجنيه ولا غاية لهم سوى الجنيه

لندع هذه الحفنة من الرجال الفانين ينفثون سمومهم في محيطهم الضيق، لأن الأمم في نهضاتها لا تستمع إلى حشرجات المرضى، ونزع الموتى، ولننظر فيما يجب علينا علمه إزاء موقفنا الراهن

صحيح أن الحكومة درست أو هي تدرس، ووضعت أو هي تضع خططاً لمحاربة أعدائنا ومحتلي بلادنا، ولكن الواجب يقضي بمعاونة الحكومة في إبداء الرأي الذي قد يكون غرب عن بالها، ولذلك أقترح أن نكون عمليين في حربنا أي نسعى إلى كسب كل معركة نخوضها بعد درس وتدبر

الاستعمار والانتداب والاحتلال إنما هي أسماء مترادفة لمعنى (الكسب المالي)؛ والإنجليز إنما هم تجار قبل كل شيء، وأن حكوماتهم وأساطيلهم وسلطانهم رهن خدمة التاجر

ص: 39

صاحب المعمل أو المصنع، فما ضرنا لو صوبنا قذائفنا إلى صدر هذا التاجر الإنجليزي وعرقلنا دواليب مصنعه عن الدوران وعطلنا أيدي العمال عن الحركة؟

المسألة بسيطة جدا، وإن تنفيذها ليتوقف على معيار وطنية التاجر المصري، وعلى إيمانه بحق بلاده وقومه في الحياة المستقلة، وعلى رغبته الصادقة في محاربة الاستعمار والانتصار على المستعمر، فإذا توفرت الرغبة وجاش الإيمان والوطنية في صدر التاجر المصري، فما عليه إلا إبلاغ التاجر الإنجليزي أو الوسيط (القومسيونجي) إلغاء جميع ما طلب من بضائع وإيقاف تصديرها

وزيادة في الإيضاح أقول: إن التاجر المصري الذي يستورد بضاعته من إنجلترا واحد من أثنين:

الأول يستورد من صاحب المعمل رأساً بغير وسيط

والثاني يشتري أو يوصى على طلبه بواسطة (القومسيونجي)

معلوم أن معظم رجال القومسيون إما من الغربيين وقد أبدوا لرئيس الحكومة عطفهم على قضيتنا، وإما من المتمصرين وهؤلاء لا شك في معاونتهم إياها وشد أزرنا في حربنا، فما ضر هؤلاء أن يتحدوا مع التاجر المصري فيبلغوا التاجر أو صاحب المعمل الإنجليزي إلغاء جميع الطلبات وإبطال جميع الصفقات وإيقاف جميع التوصيات التي قامت بين التاجر المصري والتاجر الإنجليزي؟

لمثل هذا الاقتراح سوابق كثيرة في أسواق التجارة، ولا معنى مطلقاً للقول. بأن (التجارة حرة) في موقف مثل موقفنا من الإنجليز اليوم، ولا اعتراض ألبتة على الغرف التجارية إذا توسطت في إقناع الوسطاء (القومسيونجية) ليقفوا إلى جانب التاجر المصري المحارب في سوق الاقتصاد، ولا ملامة على وزارة التجارة إذا ضغطت على التجار والقومسيونجية وأجبرتهم إجباراً على إلغاء طلباتهم من البيوتات الإنجليزية

إن إلغاء طلباتنا من إنجلترا لا يصيب تجار التجارة الإنجليزية بخسارة تقدر بخمسين مليوناً من الجنيهات فقط، بل يكسب مصر ضجر التاجر الإنجليزي وصخبه وتحامله على حكومته لأنها أقفلت أبواب سوق من أسواقها الغنية في وجه تجارتها

ومعلوم أيضاً أن الإنجليزي في بلاده يقتر في معيشته كل التقتير، ويعيش على الكفاف

ص: 40

تلبية لطلب حكومته الراغبة في استرداد مكانتها في سوق المال؛ فكيف يكون حاله إذا صفعته مصر بإلغاء طلبات تجارها وهي تقدر بعشرات الملايين؟ لا شك عندي في أن مصر ستجني من وراء هذه الخطورة الاقتصادية المشروعة تبرم التجار الإنجليز الذين يتململون من تعطل معاملهم وكساد تجارتهم والذين سيحدون ولا شك من جموح الرجال العسكريين ومن غطرسة رجال السياسة

إن معركة واحدة نربحها في سوق الاقتصاد لهي عند الإنجليز أشد وأنكى من خسارة موقعة كموقعة دنكرك. . ولي عودة إلى هذا الموضوع

تاجر

ص: 41

‌رسَالة الشعر

من الشعر الرمزي:

أفعوان. . .!

للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر

(من وحي: هبي يا رياح الخريف هبي لشيخ الكتاب الأستاذ

أحمد حسن الزيات بك)

يلتوي والسم يسري في دمائه

(أفعوان) داؤه يشفي بدائه!

يبعث الشر الذي فيه اصطلي

كل خير، وانثني بعد اصطلائه

إنه الخداع. . يمشى. . معجباً

في خداع منطو طي. . ردائه!

عاش يشقى قلبه من حقده

ما شقاء القلب إلا في شقائه.

صار يمشي في ضلال غامض

ليس في الدنيا سبيل لاهتدائه

أي أمر يرتجيه. . ذاهب

حقده. . فيه مزيل. . لرجائه!

يحسب الأقدار. . في قدرته

والقضاء الفصل آت من قضائه!

(أفعوان)(زاحف) تحت الثرى

سوف يبقى فيه رمزا لفنائه

غادر لا ينثني عن غدره

يلبس التعزيز ثوباً من ريائه!

أي شيء يبتغيه. . . عندنا

غير بغي ينطوي تحت ابتغائه!؟

مخلف في وعده مستضعف

مسرف عند (التقاضي) في جفائه

يدعي دعوى وفاء خالص

وانتكاث العهد يحكي عن وفائه!

أحمد عبد اللطيف بدر

ص: 42

‌تذكري

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

تذكري أن ربيع الهوى

مر عليه من جفاك الخريف

وأن زهر الحب لما ذوى

جعلت أرويه بدمعي الذريف

وأن عمري في هواك انطوي

كما انطوي في القيظ ظل وريف

ولم يعد لي من غرامي سوى

نار من الذكرى. . بقلب لهيف

تذكري أنك أنت التي

دعوتني للحب يا ساحره

فجئت واللهفة في مهجتي

وملء عيني الرؤى الباهره

حتى إذا أوشكت يا جنتي

أستاف أزهار الهوى الناضره

غدرت بي! أواه من لوعتي

وآه من غدرك. . يا غادره

تذكري قلبي، ربيب الألم

وابن الأماني الخرد الرائعه

تذكري شعري، وشعري نغم

أرسلته من روحي الضارعه

كم ناح بالأشعار قلبي، فلم

ترحم أساه روحك الخادعه

لو عرفت روحك لذع الندم

أعدت لي أحلامي الضائعه

لكن تمنيت الذي تشتهين

من وقدة الحس، ونار الجسد

وحين حادت بهوانا السفين

عن مرفأ النار التي تتقد

نأيت عن قلبي الوفي الأمين

سعيا وراء اللهب المفتقد

هذا هو السر الخفي الدفين

سر افتراقي عنك حتى الأبد

أردتني نارا، وحبي وقود

فكنت نورا، وغرامي شعاع

وشئتني جسما أسير القيود

فكنت روحا كالأثير المشاع

لو عشت بالروح وراء الحدود

هناك إذ يخبو لهيب الصراع

إذن لنلنا في هوانا الخلود

وما فقدنا فيه. . حتى الوداع!

مخدوعة أنت وسر الجمال

فيما تريدين، وما تعشقين

لو أبصرت روحك سر الوصال

وانكشف الغيب الذي تجهلين

رأيت شيئا قد كساه الخيال

عز الأماني وهو شيء مهين!

ص: 43

لو مزق النور رداء الظلال

لبان ما لا ينبغي أن يبين

روحك ما زالت تريد الضياء

لأنها من نبعه آتيه

فلا تروضيها على الانزواء

في حجرة مغلقة داجيه

وأطلقيها في رحاب الفضاء

تصعد إلى قمته العاليه

هناك تحيى في نعيم الصفاء

وراء تلك اللذة الفانيه

تذكري أن ربيع الشباب

غدا سيطويه خريف المشيب

فتهدأ النار هدوء العباب

إذا تهادى فيه سحر المغيب

وتبحث الروح قبيل الذهاب

عما لديها من ضياء حبيب

أطفأ نور الروح عصف التراب

إذن فعيشي في الظلام الرهيب

تذكري أيتها الهاربة

إنا غدا قد نلتقي في طريق

فتنزوي عن شمسك الغاربه

شمسي التي ما زال فيها بريق

ويذكر القلب المنى الذاهبه

مع الليالي في الزمان العميق

أحرقتها في نزوة صاخبه

ولم أنل. . حتى رماد الحريق!

تذكري أنك قد تندمين

يا من تناسيت الهوى والحنان

وحينما تكويك نار الحنين

إلى زمان قد طواه الزمان

سوف تعودين وتسترحمين

قلب الذي لم ينس طعم الهوان

فيهتف القلب: ألا تعلمين؟

لقد مضى الوقت، وفات الأوان!

إبراهيم محمد نجا

ص: 44

‌سمراء

للأستاذ محمد محمود عماد

سمراء كالعصفور حيرى

قد غازلتها الشمس جهرا

لما تعرت عن ضيا

ء، للضياء، تريد بحرا

جاءت إلى كما يج

يء الحلم في ساعات إسرا

أو كالمنى زفت الـ

ي على جناح يوم بشرى

وسألتها: ما بال شق

رائي بدت للعين سمرا

اللون غير اللون ل

كن ما يزال السحر سحرا

خمرية الخدين إن

ي منهما وفيت سكرا

سكوان بالعينين ما

بالي إذا جرعت خمرا

وتعطفت فتركت فو

ق ذراعها المكشوف سرا

وشوشته، فأسر لي:

ما قد سمعتن فهات أخرى!

ماذا ترى أختار من

لونيك إني حرت أمرا

كوني لي السمراء أو

كوني إذا ما شئت شقرا

أغنيتني في حالتي

ك عن الحسان الغيد طرا

محمد محمود عماد

ص: 45

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

رسالة من الهند:

أنا يا سيدي واحد من المعجبين بك، وإني لأخشى أن يخذلني القلم إذا ما حاولت أن أعبر عن هذا الإعجاب الذي أخذ يشتد على مر الزمن وينمو في نفسي ويترعرع. وهل في ذلك غرابة وأنت الذي تتحفنا على الرسالة بين حين وآخر بروائع من الأدب الحديث؟

وكيف نستطيع أن ننسى (التعقيبات) التي تشرف بها - كما أعتقد - من ربوة عالية على ما يستجد في الأدب العربي، وتزنه بموازين عادلة وتميز بين غثه وسمينه! إنني لأبارك فيك روحك الوثابه يا سيدي، وأسأل الله أن يكثر من أمثالك في هذا الجيل العربي الحديث!

إن (الرسالة) الغراء هي مدرستي الأولى التي استطعت بفضلها العميم أن أتفهم الأدب الخالد وأتذوق روائعه وأنا في هذا البلد الأجنبي. . وبفضل (الرسالة) استطعت أيضاً أن أكتب مقالات متنوعة وقصصاً قصيرة. ولما لم يكن لي حظ من التعليم العربي العالي ولم أتخرج على أيدي أساتذة عرب، فإني لم أجد في نفسي الشجاعة الكافية لكي أنشر تلك المقالات التي كتبتها، بل ظلت حبيسة في الأوراق المتناثرة بين ثنايا مكتبي هنا وهناك، حتى خطر لي أن أرسل شيئاً منها إليك لأعرف قيمته وأطلع على رأيك الحكيم فيه. وسوف تجد ضمن هذه الرسالة مقالاً تحت عنوان (العالم المرائي) فإذا رأيت أنه صالح للنشر على صفحات (الرسالة) فافعل، وإلا فأرجو أن تطلعني على رأيك في المقال وماذا ينقصه ليكون صالحاً للنشر!

وإنني إذا أختتم هذه الكلمة أتوسل إليك أن تسدي إلي من نصائحك الغالية على صفحات (الرسالة) ما يعينني على تحسين كتابتي لأنني لم أتخط العشرين، ولا يزال أمامي متسع من الوقت لكي أحاول إصلاح كتابتي وجعل موادها مقبولة لدى الأوساط الأدبية. . ولك مني خالص الشكر وأصدق التمنيات

(بومباي - الهند)

أحمد علي عوبس

ص: 46

شاب لم يتخط العشرين من عمره، يعيش في بلد غريب، ويتلقى دروس الأدب والفن عن مدرسة (الرسالة). . ومن قال إن المدارس والجامعات تخرج الأدباء وتصنع المثقفين؟!

ما أكثر الأدباء الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم وما أكثر الذين استمدوا الثقافة من جهودهم الذاتية. . ومن هنا كان سروري الذي لا يحد وأنا أقرأ هذه الرسالة فألمح وثبات الطموح تطالع عيني من وراء السطور!

إن الطموح وحده كفيل بتحقيق الهدف وبلوغ الغاية في كل ميدان من ميادين النشاط الإنساني. . كفيل بأن يجعل من الخطوة المتعثرة وثبة بعيدة المدى على مر الزمن ومضي الأيام! ولهذا أحب أن أطمئن الأديب الفاضل على مستقبله الأدبي، مادام الطموح هو الرائد الأول الذي يأخذ بيده ويسدد خطاه ويهديه إلى معالم الطريق. . ولا يزال أمامه متسع من الوقت كما يقول، ليبلغ في ميدان الأدب هدفه المرجو وغايته المنشودة، وليحقق لنفسه ما يتطلع إليه أمثاله من الطامحين!

وإذا كان الأديب الفاضل يسألني شيئا من النصح أو شيئا من التوجيه، فإنني أحب له أن يكثر من القراءة في الأدب العربي قديمه وحديثه، وأن يتزود من الثقافة الغربية ما شاء له التزود والاطلاع. . أما الأدب العربي فجدير بأن يصقل من قلمه أداة التعبير، وأما الأدب الغربي فخليق بأن يلهب في نفسه شعلة التفكير، وكلا السلاحين من ألزم الأمور لكل أديب يريد أن يقتحم المعركة وهو ثابت القدم مطمئن إلى النهاية!

هذا هو ما أنصح به الأديب الفاضل على صفحات (الرسالة) أما بقية النصائح فسأبعث بها إليه في رسالة خاصة، بعد أن يطلعني على نماذج من آثاره القلمية في محيط أدب القصة القصيرة. . عندئذ أستطيع أن أوافيه برأيي حول ما ينقصه من وسائل الأداء الفني، حتى يستطيع مع الجهد والمثابرة أن يبلغ مرحلة النضج والأصالة، ويواجه مشكلة النشر وقد اكتملت بين يديه الأدوات، ولست بذلك أريد أن أثبط من عزيمته أو أحد من طموحه، وإنما أريد له أن يبدأ حياته الأدبية وهو واثق من نفسه مطمئن إلى مصيره، وإن مقاله الذي بعث به إلي ليضع البذرة الأولى في تربة الأمل المرجو إن شاء الله!

معالي وزير المعارف وقضية الأدباء:

ص: 47

من حق وزير المعارف علي أن أشكره. . لقد تفضل معاليه فأمر بنقل الأستاذ السيد أحمد صقر من مدرسة كوم امبو الابتدائية بالصعيد، إلى مدرسة الأمير فاروق الثانوية بالقاهرة. ولقد صدر هذا الأمر عقب ظهور عدد (الرسالة) الذي أثرت على صفحاته مشكلة الأديب الصديق، فكان لذلك وقعه الجميل على نفسي ونفوس الأدباء! هذا حق، ومن الحق أيضاً أن أقول إن معالي الوزير قد حل مشكلة هذا الأديب حلاً جزئياً لا يرضي العدالة المطلقة التي أنتظرها من رجل مثله؛ رجل يفهم حق الفهم واجب الدولة نحو الأدب، ويدرك كل الإدراك أثر وضع الأدباء في أماكنهم ليقوموا بواجبهم نحو الدولة!

إننا نريد أن يوضع كل أديب في مكانه، حتى نتيح للمواهب أن تحلق في جوها الطبيعي وتعمل في ميدانها الأصيل. . وأنا أعرف أن معالي الدكتور طه حسين باشا يعطف كل العطف على التراث العربي القديم، وألمس أن نشر هذا التراث نشراً علمياً سليما يحفظ له هيبته من أثر المتطفلين عليه، جدير بأن يحتل من نفسه كل عناية وتقدير. . ولهذا طالبت ومازلت أطالب، بأن يأخذ الأستاذ صقر مكانه في تلك الإدارة التي أنشئت لهذا الغرض بوزارة المعارف، ثم أغلقت منها الأبواب في انتظار الطارقين! وإذا شاء وزير المعارف أن يقبل مني رجاء اليوم ورجاء الأمس، فإني أؤكد لمعاليه أن وزارة المعارف لن تخسر شيئاً حين يحذف اسم هذا الأديب من قوائم التعليم، لأنها ستكسب كثيراً حين تنتفع بجهوده في خدمة التراث العربي القديم!!

وليست المشكلة هي مشكلة الأستاذ صقر وحده، فلا يزال هناك أدباء ينتظرون عطف وزير المعارف على حقوقهم المهضومة. . وإنه ليسعدني أن يتفضل معاليه فيطلب إلي أن أقدم إليه أسماءهم وأن أقص عليه أنباءهم، لأنني لا أحب أن يكون هناك أديب واحد يشعر أنه مظلوم في عهد طه حسين!!

أنور المعداوي

ص: 48

‌البريد الأدبي

أوهام الخاملين!

يرزأ السباق برزيئة المتخلفين، ويصاب اللامع بعتمة أوهام الخاملين؛ فيرى العجائب شاهدة على فساد الطوية، وسوء النية، وقبح السجية، لكنه ينصرف إلى أناة حلمه، وتؤدة حكمته، وزنة تجربته؛ ثم يحتمل الغضاضة بالإغضاء، ويقوي سخرية التجاهل بالكتمان وعدم الإفضاء!

إن الخاملين تعزيهم في نكبة التخلف والمحمول أوهام باطلة، يصور لهم ظلامها رعونة الحقد في مأتى المكيدة، وإعمال الحول الضعيف باستعمال أتضاع الحيلة!

ترى القمامة لا تقدير معه؛ فهو إما ذيل أو إمعة، إذا انفتحت الأفواه فتح فاه، وإذا أهل الأمر الأجل أعرض عنه وأعطى له عرض قفاه!

إن الخمول داء وبيل، يعرض مضناه بأساه، وحسرته، ولوعته إلى الحقد الأصيل

كم مجد لاحق بجده جده، حتى استوى أمره، وبلغ مجده؟

وكم خامل قعدت به همته؛ ثم نشطت حتى قوت غضبه وحقده؟

الحياة واد تضرب فيه نفوس الأحياء، وما يقر اضطرابها سوى قطنة الأريب الذي يطل من علياء حقيقته ليطارد أوهام الخاملين

لقد جاءني صاحبي بتهالك على إحساسه المرهف، وقد اكتنفت نفسه مشاعر السخط على من (وضعه) الزمن معهم في قرن واحد؛ فهو يرى شرارات الحقد تكاد تحرق أهداب العيون، والتفاهات تزيف كيانه في وهم الظنون

قلت: يا صاحبي. إن من يتحاشاك يرهبك، فهو يعرف قدرك في قرارة نفسه؛ ثم ينكرها بعماوة حسه؛ وكلما ألمت بك نكبة من نكبات العقوق عملت على تجاهلها لأنها صنيعة الخمول

كن حيث شئت، ليكون لك المجد حيث يشاء

بور سعيد

أحمد عبد اللطيف بدر

ص: 49

من الأستاذ ميخائيل نعيمة إلى صاحب الأعماق:

سلام عليك، وبعد فقد كان أول عهدي بك يوم أطلعني أحدهم على الكلمة السخية التي توجت بها فصلا نقلته إلى المصري من كتابي (جبران خليل جبران)، وتكرر من بعدها وقوع اسمك في مسمعي من غير أن أعثر على شيء من نتاج قلمك، إلى أن جمعتني الظروف في أواخر هذا الصيف بصديقنا محيي الدين رضا وإذا به يسلمني النسخة التي تلطفت بإهدائها إلى من كتابك الأعماق، وإذا بي، وقد طالعت (أعماقك) أخرج منها بأكثر من درة، وأنفسها أنت

قيل من زمان - والقول حق - إن الكتاب ينم عن كاتبه، وقد تبينتك من فصول كتابك أديبا بالطبع لا بالتطبع، فرشاقة في العبارة، وصفاء في اللغة، وبراعة في وصف الظواهر، ودقة في تحليل البواطن، ونزعة قوية إلى الابتكار في الأسلوب والموضوع، وذوق لطيف في مزاوجة الأفكار، وتلوين الرسوم، وعرض المشاهد، وتوزيع النبرات، والسكنات والظلال والأنوار دون ما إسراف في المادة أو تبذل في المرمى

والذي استهواني في قصصك بنوع أخص هو روحك الإنساني المهيمن عليها، وحماستك للغاية التي من أجلها تكتب، وإيمانك بقدرة القلم على تقومي ما اعوج من مسالك الناس، ثم لباقتك في عرض ما بلى ورث من عاداتهم ومعتقداتهم عرضا لا يشتم منه القارئ لجاجة (المصلح) ولا ادعائه بأنه أشرف طينة من الذين يريد إصلاحهم فأنت تكتب لبيئتك لا تتنكر لها ولا تجلدها بالسياط، بل تماشيها كواحد منها؛ ولكنك إذ تماشيها تحاول الانحراف بها هن طرقها القديمة إلى طرق جديدة من غير أن تثير شكها وعنادها. أنت تكتب للناس حبا لهم لا سخطا عليهم، ولا شماتة بضعفهم

من كانت تلك عدته للكتابة كان لنفسه خير محاسب وموجه، وكان في غنى عن نقد الناقدين؛ وتوجيه الموجهين؛ ثم كان في مأمن من الآفة الكبرى التي تفتك بالكتابة في الكتاب الناشئين وهي الغرور. . . فسر يا أخي في طريقك، وليكن الحق هادياً لقلمك

ميخائيل نعيمة

توضيح:

ص: 50

تحية من عند الله مباركة طيبة

وبعد فقد كنت أمليت على الأستاذ الصديق أحمد مصطفى حافظ مقالاً بعنوان (أدبنا القومي) ومقالا آخر بعنوان (مع شوقي الخالد)، وآخر بعنوان (أعلام السويس). .

وتفضلت (الرسالة) - مشكورة بنشر المقالين الأولين. . ولكني لسوء الحظ، لم يقدر لي الاطلاع على هذين المقالين، بعد نشرهما، إلا منذ يوم واحد فقط.! وذلك لأنني كنت، ولا زلت، مشغولا بالطب لمرض الانفصال الشبكي بعيني. . وإن الذي دفعني إلى الكتابة الآن يتلخص في أنني حين اطلاعي على مقالي (أدبنا القومي) استوقفني به شيء لم أرض عنه. . وذلك أن الأستاذ الصديق أحمد حافظ قد سمح لنفسه بأن ينسب إلى الشعر الذي ورد بهذا المقال، برغم أنه ليس من مقولي، بل من مقوله هو. . وبرغم أنني حين أمليته المقال أوردت الشعر منسوبا إليه هو. . إلا أنه صمم فيما بينه وبين نفسه على أن (يخرج) المقال بالصورة التي نشر بها. . وفي ذلك مجانبة للحق والصدق. . ومن ثم احتاج الأمر إلى توضيح وتصحيح. . وأستحلفكم بالله أن تنشروا هذه الكلمة، لتمكيني من القيام بواجبات الصدق والحق والأمانة العلمية. . وبخاصة وقد فعلها الأخ أحمد حافظ لكي يهرب من تبعة نشره مداعبة لصديقه الذي ألهمه قول هذا الشعر الظريف (على قفاي).! إذ يوهمه أنني قائل هذا الشعر في الحقيقة. . وليس هو. . بينما العكس هو الصحيح

السويس

حسين كامل عزمي

وقفة عند بيت شعر:

بينما كنت أتصفح مجلة الرسالة الغراء العدد (955) لفت نظري بيت شعر في مقال للأديب محمد محمود زيتون عنوانه (أصحاب المعالي) ذكر الكاتب أن البيت:

فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدما

قاله شاعر في رثاء الأحنف بن قيس والحقيقة - فيما أعلم - أن قائل هذا البيت الشاعر (عبده بن الطبيب) قاله في رثاء قيس بن عاصم المنقري وليس في رثاء الأحنف كما ذكر الأديب.

ص: 51

ويشهد بهذا صدر البيت لأن فيه قيساً وليس الأحنف، ويرشد لذلك أيضاً بيتان قبل هذا البيت هما:

عليك سلام الله قيس بن عاصم

ورحمته ما شاء أن يترحما

تحية من غادرته غرض الردى

إذا زاد عن شحط بلادك سلما

فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدما

وللأستاذ تحياتي وإكرامي

أم درمان: المعهد العلمي

محمد الأمين صبيه

الفيروز أباذي:

في كلمة الأستاذ النجار في عدد (الرسالة) 957 وردت نسبة (الفيروز أبادي) بالدال المهملة، والصواب بالذال المعجمة كما في معجم (اللباب في الأنساب لابن الأثير) المطبوع بمصر. وضبطها يقول: بكسر الفاء وسكون الياء وضم الراء وفتح الزاي وفي آخرها ذال معجمة

أبو الفضل محمد

إن شاء الله

مع تقديري للكاتب القدير السيد عبد القادر رشيد الناصري أقول: إن من يكتب (إنشاء الله - بإدماج الحرف في الفعل) إنما يقلد سيدنا عثمان (ض) وكذلك كتبها جمع من الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الفقه والنحو واللغة، في المصحف وفي غيره من كتب أصول الدين. . وإذن فلا تبعة على كاتبها ولا على (مصحح النماذج) ولا خوف على الفهم من اختلاف الرسم - وتحيتي للأستاذ الجليل

المصحح بدار الرسالة

ص: 52

‌القَصصُ

الطفل. .

للقصصي الأمريكي: ف. باركوس

ترجمة الأستاذ عبد القادر حميدة

طرقت السكرتيرة الحسناء باب المكتب وقالت تخاطب المستر مارتان مدير الشركة. .

- بالباب سيدة تود - في إلحاح - مقابلتك

فرفع وجهه عن الأوراق المتراكمة أمامه وقال في صوت أجش تبدو فيه الصرامة والغلظة. .

- تود في إلحاح مقابلتي؟

- أجل وقد أبديت لها العذر في أن لديك أعمالا هامة تشغل كل وقتك. . وأنه يجب لكي تقابلك أن يكون هناك موعد سابق محدد. بيد أنها لم تزد إلا إصرارا وإلحافا.

وأخبرتني أنها آتية من بعيد وليس في استطاعتها أن ترجع مرة أخرى. .

فضرب مارتان بيده على المكتب في غضب وقال:

كان في مقدورك أن ترغميها على الانصراف بشيء من اللباقة

فأجابت السكرتيرة في عناد.

- لقد حاوت فلم أوفق فهي شديدة الرغبة في أن تقابلك. .

وإنه ليبدو لي من خلال صوتها أنها تستحق الشفقة والعطف. .

فقال مرتان هازئا:

- امرأة تدافع عن امرأة. . آه لو أن سكرتيري كان رجلا لعرف الآن كيف يحملها على الانصراف. وعلى أي حال. . هل أخبرتك عن اسمها؟

- لقد رفضت أن تذكره لي. .

- أئتيني بها. . وليكن ما يكون

وبعد برهة. . كانت تقف على عتبة الباب امرأة في العقد الثالث من عمرها. وقد رانت على معالم وجهها مسحة من الصمت الجامد وتنطق مشيتها بالكبرياء والاعتزاز.

ص: 53

وبعد أن أغلقت السكرتيرة الباب. . رفع مارتان وجهه عن الأوراق مرة أخرى. . وأخذ يتأمل وجه الزائرة خلال منظاره المكبر. . برهة. . ثم بدا عليه أنه يعرفها فقد رفع حاجبيه في شيء من الدهشة وقال: (روث. .؟

بيد أن الدهشة التي صاحبته كانت تدل على أنه غير مرتاح إلى لقائها. . وانفرجت شفتا روث عن ابتسامة رقيقة وقالت:

- أجل، - أنا - روث

- لقد انقضى أمد طويل منذ التقينا لآخر مرة. . سنوات كثيرة. . سبع على ما أذكر. .

فأجابت في صوت هادئ وكأنها تحاول ألا تستعيد تلك الذكريات:

- نعم. . سبع سنوات كاملة. .

- لقد أسعدني لقاؤك كثيرا. . . ولكن. . كيف حالك اليوم أنت. . و. . روي.؟

فصمتت وقتا. . ثم قالت:

- لقد كان الحال على ما يرام. . ولقد منحنا القدر طفلا جميلا. . غير أن روي يعاني مرضا شديدا. . وقد أشار عليه الطبيب بأن يرحل إلى الخارج. فيقضي عاما لا يزاول فيه عملا من الأعمال. . ليتسى له استعادة صحته - وإلا. . .

وكفت روث عن الحديث فسألها مارتان في تحفز:

- وإلا ماذا؟

- وإلا كان مآله القبر

- فقال مارتان متسائلا:

- وطبعا أطاع روي استشارة الطبيب واعتزم السفر. .

- كلا!

- ولماذا؟

- إن السفر يتطلب نفقات. . وليس لدينا مال. . ولذلك زرتك اليوم أطلب منك أن ترد إلى روي الألفي جنيه اللتين سرقتهما منه. . منذ سبع سنوات. .

وكان صوتها جافا قاسيا. . فقال مارتان ثائرا:

- يا لك من حمقاء! كيف تجرئين على توجيه هذه الإهانة إليّ؟

ص: 54

ولكن روث لم تتحرك من مقعدها. . وإنما قالت في هدوء)

- إهانة! هل تنكر أنك سرقته.؟

فكظم مارتان غيظه. . وقال:

- إن سلوكك هذا يدهشني. . لا شك أنك تعرفين أن زوجك قد استثمر آلفي جنيه في الشركة. فإذا أفلست الشركة. . وأخفقت الأعمال. . أتيت هنا ترمينني بالتهم. . وتزعمين أنني سرقت أموال زوجك.

- ولكنك يا صاحبي لا تجهل أن الشركة كانت على شفا الإفلاس. . بل كانت مفلسة فعلا. . في الوقت الذي ساهم زوجي فيها. . والأدهى من ذلك أنك دعوته إلى المساهمة وأنت مديرها. . وعالم بحالها. . والذي آسف له أنك لم تكتف بذلك. . بل ضاعفت من مرتبك ونفقاتك. . فلما أفلست الشركة. . غادرت البلدة. . واختفيت. خبرني. . في أي شريعة يحق لمدير شركة مفلسة أن يضاعف مرتبه ونفقاته. . وأنت الذي حرضتني على أن أدفع بزوجي ليشترك وإياك في الشركة المزعومة. .

فقال مارتان في دهاء:

- إذن كان لك عليه نفوذ كبير. .

- بلا شك. . إنني لا أجهل ما ترمي إليه من وراء هذا السؤال. . لقد كنت تعتقد يا مارتان أنني أعشقك ولكن الحقيقة أنها كانت أيام نزق وطيش. . ولو لم أكن طائشة لما اشتركت في تدبير المؤامرة التي سلبت بها زوجي ألفي جنيه. . والآن. أتريد أن تعيد إليّ ذلك المال.؟

- كلا بالطبع. . فإن الخسارة قد لحقتني كما لحقت زوجك. . بإفلاس الشركة. .

- هذا بهتان. .

فنهض مارتان واقفا وقال في ثورة جائحة:

- اغربي عن وجهي أيتها الماكرة. . إن هذه الإهانات لا أحتملها منك. . غادري مكتبي حالا. .

- حسنا. . سأغادر مكتبك الآن. . ولكن أرجو أن تفسح لي صدرك لأصارحك بشيء قبل أن أغرب عن وجهك يا مستر مارتان. إن الشيء الوحيد الذي يقض مضجع روي هو أن

ص: 55

صحته تحول بينه وبين إعانتنا على السير في ركب الحياة. أي لا تمكنه من أن يعولنا. . أنا وابني. . وهو دائما شديد القلق علينا. . ولك الذي أخشاه أن يدفعه اليأس إلى التخلص من تلك الحياة. . ولكن الذي عزمت عليه هو أنني إذا عدت إلى البيت سأحدثه بشيء يصرفه عن الاهتمام بأمرينا. .

فقال مارتان يسألها:

- أفصحي فإن في كلامك غموضا

هذا الشيء الذي سأدلي به إلى زوجي. . هو أن الطفل الذي يظنه ابنه ليس في الواقع إلا ابنك أنت. وحين سمع مارتان هذه الكلمات امتقع وجهه. . وامتدت عليه ظلال من الأحاسيس والانفعالات. . واستطردت روث تقول:

- ماذا حدث يا عزيزي مارتان؟ إنني أراك شديد الاضطراب. . منذ سبع سنوات. . عقب ساعات الطيش التي عشنا فيها معا. . وعقب سلبك زوجي الألفي جنيه. . خرجت من المدينة. . والآن بعد شهور قليلة سيبلغ الطفل سبع سنوات. . فهل أدركت أنه ولدك؟

فأجابها مارتان في حدة:

إني لا أصدق حرفا مما تقولين. .

فهزت روث كتفيها بلا اكتراث وقالت:

- إن هذا لا يضيرني. . تصدق أو لا تصدق. . ولكن. . ثق تماما أن زوجي سيصدق هذا القول وسوف لا ينكر منه شيئا. . فليس من المعقول أن تعترف زوجة لزوجها زورا بأنها عبثت بشرفه وأن من يظنه ابنه ليس إلا ابن عشيقها. . ثم إن الطفل شديد الشبه بك. . وسأدل روي على مواضع الشبه بينكما. . وعندئذ سيعرف قطعا صدق حديثي

فقال مراتان محاولا أن يصرفها عن هذا الرأي:

- ولكنك بهذا سوف تثيرين حول نفسك الشبهات. . وستقضين على نفسك وعلى سمعتك

- نفسي وسمعتي؟. . ليكن!. لقد لوثت شرف روي. . وبددت أمواله وأغريته على أن يلقي بها إلى السارق. . والآن. . أرى صحته تتقهقر. . وأصبح مفلسا. . فهل تظن أن قيمة الدنيا ستأخذ حيزا من تفكيري بعد هذا؟. . أنه ليحزنني أن أراه دائم القلق والاضطراب لا يفكر في شيء سوى مصيري ومصير الطفل الذي هو طفلك. . ولا شك

ص: 56

أنه حين يقف على حقيقة الأمر. . سوف لا يهتم بأمرينا. . نعم سيكرهني. . سيمقت الزوجة التي عبثت بشرفه. . وكذلك الطفل. . حين يدرك أنه ثمرة السفاح. .

وقال مارتان صائحا:

- يخيل إليّ أنك جننت. .

- جننت. .! لست على أي حال أعير قولك اهتماما. . لقد كان روي شهما وكريما معي. .

- إن زوجك مريض. . وفي أزمة مالية. . فهل تريدين أن تزيدي من همومه. . وتثقلي من آلامه بإفضائك إليه ذلك السر الخطير؟

- لقد قررت فيما بيني وبين نفسي الإدلاء إليه بهذه الحقيقة

فقال مارتان متهكما:

- يا لك من زوجة مخلصة. .! زوج متقاعد مريض. . فتأتي زوجته الوفية المشفقة فتضاعف أحزانه وهمومه!

- تهكم ما شئت. . فإنني على يقين من أن روي لا يألم من أجل نفسه. . وإنما يألم من أجلي أنا والطفل. . وأن الذي أنشده من وراء هذا التصريح. . هو هدوء ضميره. . وذلك هو السبيل الوحيد لإنقاذه. .

- السبيل الوحيد. . كيف؟؟

- أجل. . لقد أمن روي على حياته لقاء مبلغ كبير. . ولقد لاحظت عليه في الأيام الأخيرة اهتمامه في البحث عن مستندات التأمين. . وقرأت ما يجول في عينيه. . وإني لا أستبعد أنه ينوي الانتحار. .

فقال مارتان منفعلا:

- ولكن ألا تدركين يا حمقاء. . أن وقوفه على السر سيدفعه إلى التخلص مني لا محالة.؟

فقهقهت روث قهقهة صاخبة وقالت:

- وماذا يهمني من أمرك إذا هو قتلك.؟ إنني لم أعد أحفل بك أو أحبك

وجلس مارتان إلى مكتبه وتناول دفتر الشيكات وهو يتمتم:

- ولكنني لا أود أن أموت. .

وكتب لها شيكا بألفي جنيه. . وأخذته روث. . وانصرفت وفي طريقها قالت تحدث نفسها:

ص: 57

- يا له من غبي أبله! لقد خدعته وقلت له إن الطفل ابنه وإنه يبلغ من العمر سبع سنوات. . ولن أنه أدرك الآن أن ابني الوحيد الذي رزقته عمره عام واحد لطار صوابه. . .

عبد القادر حميدة

ص: 58