الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 959
- بتاريخ: 19 - 11 - 1951
أمريكا التي رأيت:
في ميزان القيم الإنسانية
للأستاذ سيد قطب
يبدو الأمريكي - على الرغم من العلم المتقدم والعمل المتقن - بدائيا في نظريته إلى الحياة، ومقوماتها الإنسانية الأخرى بشكل يدعو إلى الدهشة. ولعل لهذا التناقض الواضح أثره في ظهور الأمريكان بمظهر الشعب الغريب الأطوار في نظر الأجانب، الذين يراقبون حياة الشعب من بعيد؛ ويعجزهم التوفيق بين هذه الحضارة الصناعية الفائقة، وذلك النظام الدقيق في إدارة الأعمال، وادارة الحياة. . وبين هذه البدائية في الشعور والسلوك، تلك البدائية التي تذكر بعهود الغابات والكهوف!
يبدو الأمريكي بدائيا في الإعجاب بالقوى العضلية، والقوى المادية بوجه عام، بقدر ما يستهين بالمثل والمبادئ والأخلاق، في حياته الفردية، وفي حياته العائلية، وفي حياته الاجتماعية - فيما عدا دائرة العمل بأنواعه، وعلاقات الاقتصاد والمال - ومنظر الجماهير وهي تتبع مباريات كرة القدم، على الطريقة الأمريكية الخشنة التي ليس لها من اسمها (كرة القدم) أي نصيب، إذ أن (القدم) لا تشترك في اللعب، إنما يحاول لاعب أن يخطف الكرة بين يديه، ويجري بها ليقذف بها إلى الهدف، بينما يحاول لاعبو الفريق الآخر أن يعوقوه بكل وسيلة، بما في ذلك: الضرب في البطن، وتهشيم الأذرع والسيقان، بكل عنف وكل شراسة. . منظر الجماهير وهي تتبع هذه اللعبة، أو تشاهد حفلات الملاكمة والمصارعة الوهمية الدامية. . منظرها في هياجها الحيواني، المنبعث من إعجابها بالعنف القاسي، وعدم التفاتها إلى قواعد اللعب وأصوله، بقدر ما هي مأخوذة بالدم السائل والأوصال المهشمة، وصراخها هاتفة: كل يشجع فريقه: حطم رأسه. دق عنقه. هشم أضلاعه. اعجنه عجنا. . هذا النظر لا يدع مجالاً للشك في بدائية الشعور التي تفتن بالقوة العضلية وتهواها.
وبمثل هذه الروح يتابع الجمهور الأمريكي صراع الجماعات والطوائف، وصراع الأمم والشعوب. ولست ادري كيف راجت في العالم والطوائف، وصراع الأمم والشعوب. ولست ادري كيف راجت في العالم - وبخاصة في الشرق - تلك الخرافة العجيبة. خرافة أن
الشعب الأمريكي شعب محب للسلام!
إن الأمريكي بفطرته محارب محب للصراع. وفكرة الحرب والصراع قوية في دمه، بارزة في سلوكه؛ وهذا هو الذي يتفق مع تاريخه كذلك. فقد خرجت الأفواج الأولى من أوطانها قاصدة إلى أمريكا بفكرة الاستعمار والمنافسة والصراع. قال بعضهم بعضا وهم جماعات وأفواج. ثم قاتلوا جميعاً سكان البلاد الأصليين (الهنود الحمر) وما يزالون يحاربون حرب إفناء حتى اللحظة الحاضرة. ثم قاتل العنصر الأنجلو سكسوني العنصر اللاتيني هناك، وطرده إلى الجنوب في أمريكا الوسطى والجنوبية، ثم حارب المتآمر كون أمهم الأولى إنجلترا في حرب التحرير بقيادة (جورج وشنطن) حتى نالوا استقلالهم عن التاريخ البريطاني. ثم حارب الشمال الجنوب بقيادة (ابراهام لنكولن) تلك الحرب التي اتسمت بسمة (تحرير العبيد) وإن كانت دوافعها الحقيقية هي المنافسة الاقتصادية. ذلك أن العبيد المستجلبين من أواسط أفريقية ليعملوا في الأرض رقيقاً، لم يستطيعوا مقاومة الطقس البارد في الشمال، فنزحوا إلى الجنوب. وكان معنى هذا أن يجد المستعمرون في الولايات الجنوبية الأيدي العاملة الرخيصة، على حين لا يجدها الشماليون، فيتم لهم التفوق الاقتصادي؛ لذلك أعلن الشماليين الحرب لتحرير العبيد!
وانقضت فترة العزلة، وانتهت سياستها، عندما دخلت أمريكا الحرب العالمية الأولى، ثم اضطلعت بالحرب العالمية الثانية. ثم ها هي تنهض بالحرب في كوريا، والحرب العالمية الثانية ليست بالبعيدة! ولست ادري كيف راجت تلك الخرافة العجيبة عن شعب هذا تاريخه في الحروب؟
إن الحيوية المادية عند الأمريكي مقدسة، والضعف - أيا كانت أسبابه - جريمة. جريمة لا يغتفرها شيء. أو كن ضعيفاً فل يسعفك مبدأ، ولا يكون لك مكان في مجال الحياة الفسيح. أما الذي يموت فيرتكب بالطبع جريمة الموت ويفقد كل حق له في الاهتمام أو الاحترام، ليس أنه قد مات؟
كنت في مستشفى (جوج واشنطن) في واشنطن العاصمة وكان الوقت مساء حينما غمرت جوه موجة من الاضطراب غير معهودة، وبدت فيه حركة غير عادية تستلفت النظر. وأخذ المرضى القادرون على الحركة يغادرون أسرتهم وحجراتهم إلى المماشي والأبهاء
يستطلعون؛ ثم جعلوا يتحلقون متسائلين عن سر تلك الظاهرة في حياة المستشفى الهادئة. وعرفنا بعد فترة أن أحد موظفي المستشفى قد أصيب في حادث مصعد، وأنه في حالة خطيرة بل أنه في دور الاحتضار. وذهب أحد المرضى الأمريكان ليرى بنفسه، ثم عاد يقص على المتحلقين في الممشى ما رأى. . وحين يخيم شبح الموت على مكان، لا تكون له رهبة، ولا يكون للموت خشوعه كما يكون ذلك في مستشفى. . ولكن هذا الأمريكان أخذ يضحك ويقهقه، وهو يمثل هيئة المصاب المحتضر، وقد دق المصعد عنقه، وهشم رأسه، وتدلى لسانه من فمه على جانب وجهه! وانتظرت أن أسمع أو أرى علائم الامتعاض والاستنكار من المستمعين. ولكن كثرتهم الغالبة جعلت تضحك متفكهة، بهذا التمثيل البغيض!
لذلك لم اعجب وبعض أصدقائي يقص علي ما رأى وما سمع، حول الموت ووقعه في نفوس الأمريكان
قال لي زميل: إنه كان حاضر مأتم، حيثما عرضت جثة رب البيت محنطة في صندوق زجاجي - على العادة الأمريكية - كيما يرى أصدقاء الفقيد بجثمانه، ليودعوه الوداع الأخير، ويلقوا عليه النظرة النهائية، واحد بعد الآخر في صف طويل. حتى إذا انتهى المطاف وتجمعوا في حجرة الاستقبال؛ ما راعه إلا أن يأخذ القوم في دعابات وفكاهات، حول الفقيد العزيز وحول سواه، تشترك فيها زوجة اهله، وتعقبها الضحكات المجللة، في سكون الموت البارد، وحول الجسد المسجى في الأكفان!
وكان الأستاذ مدير البعثات المصرية بواشنطن مدعو هو والسيدة حرمه إلى إحدى الحفلات - وقبيل الموعد مرضت السيدة حرمه، فأمسك بالتلفون ليعتذر عن الحفلة بسبب هذا الطارئ. ولكن الداعين أجابوه بأنه لا ضرورة للاعتذار، فإنه يملك أن يحضر منفردا، وستكون هذه فرصة طيبة، ذلك أن إحدى المدعوات قد توفي زوجها فجأة قبيل الحفلة، وستكون وحيدة فيها، فمن حسن الحظ أن يكون لها رفيق!
ودخلت مرة بيت سيدة أمريكية كانت تساعدني في اللغة الإنجليزية في الفترة الأولى من وجودي في أمريكا؛ فوجدت عندها إحدى صديقاتها، وكانتا تتحدثان في موضوع لحقت أواخره، وهذه الصديقة تقول: (لقد كنت حستة الحظ، فقد كنت مؤمنة على حياته. حتى
علاجه لم يكلفني إلا القليل لأننيكنت مؤمنة عليه في هيئة الصليب الأزرق) وابتسمت ضاحكة!
ثم استأذنت وخرجت، وبقيت مع ربة البيت. وأنا احسب أن صديقتها كانت تحدثها عن كلبها - وإن كنت قد دهشت لأنها لا تبدي أي تأثر لموته! - ولكن ما راعني إلا أن تقول لي - ولم أسأل! - (كانت تحدثني عن زوجها. لقد مات منذ ثلاثة أيام!)
ولما أبديت لها دهشتي أن تتحدث منذ ثلاثة أيام بمثل هذه البساطة، كان عذرها الذي لا يخالجها الشك في أنه مقنع ووجيه:(إنه كان مريضا! لقد مرض اكثر من ثلاثة اشهر قبل الوفاة!)
عادت بي الذاكرة إلى مشهد عميق الأثر في شعوري، وقد أثار في خاطري في حينه منذ سنوات. . . خاطرة لم تكتب بعنوان:(مأتم الطيور) ذلك مشهد جماعة من الفراخ كنا نربيها في دارنا، وقد وقفت متحلقة صامتة مبهورة مأخوذة، حول فرخ منها ذبيح، لقد كانت مفاجأة شعورية لكل من في البيت، مفاجأة غير منتظرة من طير غير كتقدم في سلم الرقي كالدجاج، بل كانت صدمة لم نجرؤ بعدها منذ ذلك الحين على ذبح فرخ واحد على مرأى من جماعة الطيور!
ومنظر الغربان حين يموت لها مائت، منظر مألوف شاهده الكثيرون. وهو منظر يصعب تفسيره بغير شعور (الحزن) أو (عاطفة) القرابة! فهذه الجموع من الغربان، المحلقة الصافة، الناعقة بشتى الأصوات والأنغام، الطائرة هنا وهناك، حتى تحتمل جثمان الميت وتطير. . . هذا كله يشي برجفة الموت في عالم الطيور. .!
وقداسة الموت تكاد تكون شعور فطريا. فليسست البدائية الشعورية هي التي تطمسها في النفس الأمريكية؛ ولكنه جفاف الحياة من التعاطف الوجداني، وقيامها على معادلات حسابية مادية، وعلى علاقات الجسد ودوافعه، واستخفافها عمدا بكل ما يشتهر أنه من مقدسات الناس في العالم القديم، والرغبة الملحة في مخالفة ما تواضع عليه الناس هناك، وإلا فما مزية الدنيا الجديدة على ذلك العالم القديم؟
وما يقال عن الشعور بالموت يقال عن الشعور بالدين
ليس اكثر من الأمريكان تشييداً للكنائس، حتى لقد أحصيت في بلدة واحدة لا يزيد سكانها
على عشرة آلاف اكثر من عشرين كنيسة! وليس اكثر منهم ذهابا إلى الكنيسة في ليلات الأحد وأيامه، وفي الأعياد العامة وأعياد القديسين المحليين وهم اكثر من (الأولياء) عند عوام المسلمين!. . . وبعد ذلك كله ليس هناك من هو ابعد من الأمريكي عن الشعور بروحية الدين واحترامه وقداسته، وليس ابعد من الدين عن تفكير الأمريكي وشعوره وسلوكه!
وإذا كانت الكنيسة مكانا للعبادة في العالم المسيحي كله، فإنها في أمريكا مكان لكل شيء إلا العبادة. وإنه ليصعب عليه أن تفرق بينها وبين أي مكان آخر معد للهو والتسلية أو ما يسمونه بلغتهم ومعظم قصادها إنما يعدونها تقليداً اجتماعياً ضرورياً، ومكانا للقاء والأنس، ولتمضية وقت طيب، وليس هذا شعور الجمهور وحده، ولكنه كذلك شعور سدنة الكنيسة ورعاتها. .
ولمعظم الكنائس ناد يتألف من الجنسين، ويجتهد راعي كل كنيسة أن يلتحق بالكنيسة أكبر عدد ممكن، وبخاصة هناك تنافسا كبيرا بين الكنائس المختلفة المذاهب. ولهذا تتسابق جميعا في الإعلان عن نفسها بالنشرات المكتوبة وبالأنوار الملونة على الأبواب والجدران للفت الأنظار، وبتقديم البرامج اللذيذة المشوقة لجلب الجماهير، بنفس الطريقة التي تتبعها المتاجر ودور العرض والتمثيل، وليس هناك من بأس في استخدام أجمل فتيات المدينة وأرشقهن، وأبرعهن في الغناء والرقص والترويج
وهذه مثلاً محتويات إعلان عن حفلة كنيسة كانت ملصقة في قاعة اجتماع الطلبة في إحدى الكليات:
(يوم الأحد أول أكتوبر - في الساعة السادسة مساء - عشاء خفيف. العاب سحرية. الغاز. تسلية. . .)
وليس في هذا أية غرابة، لأن راعي الكنيسة لا يحس أن عمله يختلف في شيء عن عمل مدير المسرح، أو مدير المتجر. النجاح أولا وقبل كل شيء - والوسيلة ليست بالمهمة - وهذا النجاح يعود عليه بنتائجه الطيبة: المال والجاه. فكلما كثر عدد الملتحقين بكنيسته وعظم دخله، وزاد كذلك احترامه ونفوذه في بلده، لأن الأمريكي بطبيعته يؤخذ بالفخامة في الحجم أو العدد، وهي مقياسه الأول في الشعور والتقدير.
كنت ليلة في إحدى الكنائس ببلدة جبلى بولاية كولورادو - فقد كنت عضواً في عدة نواد كنيسة في كل جهة عشت فيها، إذ كانت هذه ناحية هامة من نواحي المجتمع تستحق الدراسة عن كثب ومن الداخل - وبعد أن انتهت الخدمة الدينية في الكنيسة، واشترك في الترايتل فتية وفتيات من الأعضاء، وأدى الآخرون الصلاة، دلفنا من باب جانبي إلى ساحة الرقص، الملاصقة إلى قاعة الصلاة، يصل بينهما الباب؛ وصعد (الأب) إلى مكتبته، وأخذ كل فتى بيد فتاة، وبينهم وبينهن أولئك الذين واللواتي، كانوا وكن، يقومون بالترتيل ويقمن!
وكانت ساحة القص مضاءة بالأنوار الحمراء والصفراء والزرقاء، وبقليل من المصابيح البيض. وحمى الرقص على أنغام (الجراموفون) وسالت الساحة بالأقدام والسيقان الفاتنة، والتفت الأذرع بالخصور، والتقت الشفاه والصدور. . وكان الجو كله غراماًً حينما هبط (الأب) من مكتبه، وألقى نظرة فاحصة على المكان ومن المكان، وشجع الجالسين والجالس ممن لم يشتركوا في الحلبة على أن ينهضوا فيشاركوا، وكأنما لحظ أن المصابيح البيض تفسد ذلك الجو (الرومانتيكي) الحالم، فراح في رشاقة الأمريكان وخفته يطفئها واحداً واحداً، وهو يتحاشى أن يعطل حركة الرقص، أو يصدم زوجاً من الراقصين في الساحة، وبدا المكان بالفعل أكثر (رومانتيكية) وغراماً. ثم تقدم إلى (الجراموفون) ليختار أغنية تناسب ذلك الجو، وتشجع القاعدين والقاعدات على المشاركة فيه
وأختار. . أختار أغنية أمريكية مشهورة اسمها: (ولكنها يا صغيرتي باردة في الخارج) وهي تتضمن حوار بين فتى وفتاة عائدين من سهرتهما، وقد لحتجزها الفتى في داره، وهي تدعوه أن يطلق سراحها لتعود إلى دارها فقد أمسى الوقت، وأمها تنتظر. . وكلما تذرعت إليه بحجة أجابها بتلك اللازمة:(ولكنها يا صغيرتي باردة في الخارج!)
وانتظر الأب حتى رأى خطوات بناته وبنيه، على موسيقى تلك الأغنية المثيرة؛ وبدا راضياً مغتبطاً، وغادر ساحة الرقص إلى داره، تاركاً لهم ولهن إتمام هذه السهرة اللذيذة. . . البريئة!
وأب آخر يتحدث إلى صاحب لي عراقي، قد توثقت بينه وبينه عرى الصداقة، فيسأله عن (ماري) زميلته في الجامعة (لم لا تحضر ألن إلى الكنيسة؟ ويبدو أنه لا يعنيه أن تغيب الفتيات جميعاً وتحضر (ماري)! وحين يسأله الشاب عن سر هذه اللهفة يجيب: (إنها
جذابة، وإن معظم الشبان إنما يحضرون وراءها!)
ويحدثني شاب من شياطين الشبان العرب الذين يدرسون في أمريكا، وكنا نطلق عليه اسم (أبو العتاهية) - وما أدري أن كان ذلك يغضب الشاعر القديم أو يرضيه! - فيقول لي عن فتاته - ولكل فتى فتاة في أمريكا - إنها كانت تنتزع نفسها من بين أحضانه أحياناً لأنها ذاهبة للترتيل في الكنيسة؛ وكانت إذا تأخرت لم تنج من إشارات (الأب) وتلميحاته إلى جريرة (أبي العتاهية) في تأخيرها عن حضور الصلاة! هذا إذا حضرت وحدها من دونه، فأما إذا استطاعت أن تجره وراءها، فلا لوم عليها ولا تثريب!
ويقول لك هؤلاء الآباء: إننا لا نستطيع أن نجتذب هذا الشباب إلا بهذه الوسائل!
ولكن أحد منهم لا يسأل نفسه: وما قيمة اجتذابهم إلى الكنيسة وهم يخوضون إليها مثل هذا الطريق، ويقضون ساعاتهم فيه؟ أهو الذهاب إلى الكنيسة هدف في ذاته، أم آثاره التهذيبية في الشعور والسلوك؟ من وجهة نظر (الآباء) التي أوضحتها فيما سلف، مجرد الذهاب هو الهدف. وهو وضع لمن يعيش في أمريكا مفهوم!
ولكني أعود إلى مصر، فأجد من يتحدث أو يكتب، عن الكنيسة في أمريكا - وهو لم ير أمريكا لحظة - وعند دورها في الإصلاح الاجتماعي، ونشاطها في تطهير القلب، وتهذيب الروح. . .
ولله في خلقه شؤون!
والأمريكي بدائي في حياته الجنسية، وفي علاقات الزواج في الأسرة. ولقد مررت في أثناء دراساتي للكتاب المقدس بتلك الآية الواردة في (العهد القديم) حكاية عن خلق الله للبشر أول مرة وهي تقول:(ذكراً أو أنثى خلقهم). . . مررت بهذه الآية كثيراً، فلم يتمثل لي معناها عارياً واضحا جاهراً، كما تمثل في أثناء حياتي بأمريكا
أن كل ما تعبت الحياة البشرية الطويلة في خلقه وصيانته من آداب الجنس، وكل ما صاغته حول هذه العلاقات من عواطف مشاعر، وكل ما جاهدت من غلاظة الحس، وحهامة الغريزة، لتطلقه إشاعات مرفوفة، وهالات مجنحة، وأشواق طليقة، وكل الروابط الوثيقة حول تلك العلاقات في شعور الفرد، وفي حياة الأسرة، وفي محيط الجماعة. . .
إن هذا كله قد تجردت منه الحياة في أمريكا مرة واحدة، وتجلت ريه عاطلة من كل تجمل.
(ذكر أو أنثى) كما خلقهم أول مرة. جسداً لجسد، وأنثى لذكر. على أساس مطالب الجسد ودوافعه، تقوم العلاقات وتتحدد الصلات، ومنها تستمد قواعد السلوك، وآداب المجتمع، وروابط الأسر والأفراد
بفتنة الجسد وحدها، عارية من كل ستار، مجردة من كل حياء، تلقى الفتاة الفتى، ومن قوة الجسد وضلاعته يستمد الفتى إعجاب الفتاة. ويستمد الزوج حقوقه - هذه الحقوق التي تسقط جميعها في عرف الجميع، يوم يعجز الرجل عن الوفاء بها لسبب من الأسباب
والفتاة الأمريكية تعرف جيداً مواضع فتنتها الجسدية، تعرفها في الوجه: في العين الهاتفة والشفة الظامئة، وتعرفها في الجسم: في الصدر الناهد والردف الملئ وفي الفخذ الفاء والساق الملساء، - وهي تبدي هذا كله ولا تخفيه - وتعرفها في اللباس: في اللون الزاهي توقظ به الحس البدائي، وفي التفصيل الكاشف عن مفاتن الجسد - وهو بذاته في الأمريكية فتنة حية صاعقة في بعض الأحيان! - ثم تضيف إلى هذا كله الضحكة المثيرة، والنظرة الجاهرة، والحركة الجريئة، ولا تغفل عن ذلك كله ولا تنساه!
والفتى الأمريكي يعرف جيداً أن الصدر العريض، والعضل المفتول، هما الشفاعة التي لا ترد عند كل فتاة، وأن أحلامها لا ترف على أحد كما ترف على (رعاة البقر) وبصريح العبارة تقول لي فتاة ممرضة في مستشفى (لست أطلب في أحلامي إلا ذراعين قويتين يعصرني بهما عصراً. . . وقامت مجلة (لوك) باستفتاء عدد من الفتيات من مختلف الأعمار والثقافات والأوساط حول ما أسمته (عضل الثيران) فأبدت غالبية ساحقة إعجابها المطلق بالفتيان أصحاب عضل الثيران!
وما من شك أن لهذه الظاهرة دلالتها على حيوية هذا الشعب وقوة حسه. ولو هذبت هذه الطاقة وتسامت لاستحالت فناً يجمل جهامة الحياة، وأشواقاً تجعل لها في الحس الإنساني نكهة، وتربط بين الجنسين بروابط أعلى وأجمل من روابط الجسد الظامئ والحس الهائج، والجنس الصارخ في العيون، الهاتف في الجوارح، المتنزى في الحركات واللفتات، ولكن طبيعة الحياة في أمريكا، والملابسات التي سلفت في نشأة هذا الشعب، لا تساعد على شيء من هذا، بل تقاومه وتقصيه
وهكذا أصبحت كلمة حيى أو خجول من كلمات العيب والتحقير؛ وانطلقت العلاقات
الجنسية من كل قيد على طريقة الغابة، وأصبح بعضهم يفلسفها فيقول كما قالت لي إحدى فتيات الجامعة مرة:(إن المسألة الجنسية ٍليست مسألة أخلاقية بحال. أنها مجرد مسألة بيولوجية: وحين ننظر إليها من هذه الزاوية نتبين أن استخدام كلمات الفضيلة والرذيلة. والخير والشر، إقحام لها في غير مواضعها، وهو يبدو لنا نحن الأمريكان غريباً، بل مضحكاً. . .) وبعضهم يبررها ويعتذر عنها كما قال لي طالب يشتغل للكدتوراه: (إننا هنا مشغولون بالعمل، ولا نريد أن يعوقنا عنه معوق، وليس لدينا وقت ننفقه في العواطف! ثم إن الكبت يتعب أعصابنا، فنحن نريد أن ننتهي من هذه (الشغلة!) لنفرغ إلى العمل بأعصاب مستريحة)
ولم أرد أن أعلق على هذا الحديث في وقته. فقد كان همي أن أعرف كيف يفكرون في هذه المسألة. وإلا فكل شيء في أمريكا لا يدل على أعصاب مستريحة، بالرغم من كل وسائل الحياة المريحة، وكل ضماناتها المطمئنة، وكل يسر وسهولة في إنفاق الطاقات الفائضة
وبعضهم يسمي هذا تحرراً من الرياء ومواجهة للحقائق. ولكن هناك فارقاً أساسياً بين التحرر من المقومات الإنسانية التي تفرق بين الإنسان والحيوان. والإنسانية في تأريخها الطويل لم تكن تجهل أن الميول الجنسية ميول طبيعية وحقيقية، ولكنها - عن وعي أو غير وعي - كانت تجاهد لتتحكم فيها، فرارا من العبودية لها، وبعداً عن مدارجها الأولى. إنها ضرورة نعم؛ ولكن لماذا تخجل الإنسانية من إبداء ضروراتها؟ لأنها تحس بالفطرة أن التحكم في هذه الضرورات هو شهادة الخلاص من الرق، وأولى مدارج الإنسانية في الطريق، وأن العودة إلى حرية الغابة عبودية مقنعة، ونكسة إلى مدارج البدائية الأولى
سيد قطب
4 - الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
معركة التحرير:
أذاعت وزارة الداخلية في 30 أكتوبر 1951 بياناً باعتداءات الإنجليز في الفترة من 16 أكتوبر إلى 30 منه ويؤخذ منه أن البريطانيين قتلوا أربعة جنود مصريين كما قتلوا 13 رجلاً من المدنيين وامرأة وطفلاً. وبلغ عدد الجرحى من العسكريين والمدنيين 125، وبلغ عدد حوادث النهب والسلب 125 وعدد الجني علهم في هذه الحوادث 2 شخصاً كما بلغ عدد حوادث تعطيل المواصلات 48 حادثة، وحوادث الإتلاف ثمانية، وعدد من ضربوا أو قبض عليهم 38 شخصاً
هذا هو الإحصاء الرسمي الذي أذيع، ولكن هناك إحصاء آخر يعرفه الناس جميعاً: إن منطقة القتال بأسرها تعيش الآن وسط أتون من الضغط والإرهاب البريطاني، وليس هناك مصري واحد في هذه المنطقة آمن على نفسه أو على حريته. إنهم يعيشون تحت أسنة الحراب الإنجليزية، وبلادهم مسرح للعدوان البريطاني
وإني أحب أن أسجل بكل فخار ما قام به العمال الذين كانوا يعملون في المعسكرات البريطانية من عمل وطني رائع، وذلك بامتناعهم عن العمل في تلك المعسكرات، الأمر الذي أقلق الإنجليز وأضجع مضاجعهم؛ كما أخفض قلمي تحية لوطنية عمال شركة قنال السويس وذلك بامتناعهم عن تفريغ أو شحن السفن، مما يهدد بوقف الملاحة في القناة
كذلك يطيب لي أن احيي أولئك الوطنيين من التجار الذين امتنعوا عن توريد الأطعمة والفواكه إلى أعداء الوطن هذا في مصر؛ أما في السودان فقد عقد اجتماع وطني كبير شهد زعماء السودان المخلصون لوطنهم وفيه أعلنوا أن الجمعية التشريعية السودانية لا تعبر عن رأي السودانيين، كما أعلنوا عن عزم السودانيين على الكفاح لإخراج الإنجليز من وادي النيل وإقامة دولة النيل المتحدة تحت تاج الفاروق
إلى الماضي.
هذه صورة من كفاحنا الشعبي في معركة التحرير. . فلنعد إلى الماضي لنرى صورة من
كفاح الآباء. . ولنعرف كيف وقفت مصر وشعبها الأعزل في وجه بريطانيا غداة خروجها ظافرة من الحرب العالمية الأولى. . وكيف اضطرت بريطانيا رغم جيشها وأسطوله إلى التسليم بمطالب مصر
طلب سعد ورفيقاه كما رأينا أن يسمح لهم بالسفر إلى أوربا لعرض قضية مصر على مؤتمر الصلح ولكن رفض طلبه؛ ورأينا كذلك كيف ألف سعد الوفد المصري؛ وفي الوقت نفسه طالب حسين رشدي باشا وزميله عدلي أن يسمح لهم بالسفر لمباحثة الحكومة البريطانية في المسألة المصرية، وقد رفض طلبهما أولاً ثم سمح لهما بالسفر؛ ولكنهما طلبا أن يصرح لرجال الوفد بالسفر أيضاً فرفض الطلب مما أدى إلى استقالتهما. وقد وقف المصريون صفاً واحداً فلم يقبل أحد منهم الوزارة، وظلت مصر بلا وزارة في الفترة من ديسمبر 918 إلى مارس 1919
لم ييأس سعد وظل يواصل جهاده، ففي 11 يناير 1919 أرسل إلى كليمنصور رئيس مؤتمر السلام المنعقد بباريس برقية جاء فبها (بأسم الحركة التي أنت نصيرها، وبأسم العدل المجرد عن الهوى، وبأسم الإنسانية التي تأبى أن تكره الأمم على أن تنتقل من يد كما تنتقل ملكية السلع، نناديك من وراء البحر أن لا تتخذ سكوتنا الإكراهي الذي هو نتيجة الطبيعة لحبسنا في حدود بلادنا دليلاً على رضانا بسيادة الغير، وألا تسمح بالحكم في مصيرنا من غير أن تسمع أقوالنا.)
وفي 13 يناير 1919 عقد اجتماع وطني رائع في منزل حمد الباسل باشا خطب سعد باشا فيه فقال:
. . ليست فكرة الاستقلال جديدة في مصر بل هي قديمة يتأجج في قلوب المصريين الشوق إلى تحقيقيها كلما بدت بارقة أمل. . وتخبو ناره كلما استطاعت القوة أن تخمد أنفاس الحق، ولقد كان الوقت الحاضر أنسب فرصة لتحقيق هذه الفكرة. . . إن الاحتلال الفعلي لا يجد فرصة أنسب من هذه الفرصة ليحقق رجاء اللورد سالسبوري الذي قال في 3 نوفمبر 1886 (نحن لا نبحث إلا عن الخروج من مصر بشرف)
قلب هذا الاحتلال الذي لم يكن له حق في البقاء إلى حماية من بادئ رأي الإنجليز ومن غير اتفاق مع مصر. . ولكنها هي أيضا أمر باطل بطلانا أصليا أمام القانون الدولي
ومخالف للمبادئ الجديدة التي خرجت بها الإنسانية من هذه الحرب الهائلة. . فنحن أمام القانون الإنساني أصبحنا أحراراً من كل حكم أجنبي. . فلا ينقصنا إلا أن يعترف مؤتمر السلام بهذا الاستقلال فتزول العوائق التي تقف بيننا وبين التمتع به بالفعل. لهذا الغرض السامي المطابق لما في نفوس المصريينجميعا ألفت أنا وأصحابي الوفد المصري للسعي في الوصول إلى الاعتراف بهذا الاستقلال وتشرفنا بتوكيل الأمة إيانا. . .
إن إيماننا بقواعد الحق والعدل هو عدتنا وكفى به عدة، وإن إجماع أمتنا على الاستقلال حجة قائمة، وما ينقصنا إلا أن يسمع مؤتمر السلام صوت الأمة، ولكن سيصله ولو من بعيد، يصله على رغم ما يقال من أن مؤتمر السلام الذي يعقد اليوم أشبه ما يكون بما سبقه من المؤتمرات، هذا هو النحو الذي ننحوه في قضيتنا)
ثم أعلن أن مطالب الوفد تشمل السودان (وإن من الفضلة أن تقرر بأن كل ما نقوله عن مصر ينسحب على السودان لأن مصر والودان كل لا يقبل التجزئة، بل إن السودان كما قال المستشار المالي في تقريره 1914 (ألزم لمصر من الإسكندرية)
ويقول الجود وهو إنجليزي معاصر في كتابه (انتقال مصر) ما ترجمته:
(وفي خلال شهري ديسمبر ويناير كان قلق المعتمد البريطاني يتزايد يوما بعد يوم، فقد كان يشاهد بعيون متعبة العداوة للبريطانيين تنمو يوماً بعد يوم آخر. لم يكن زغلولاً خاملاً، كان أسمه على شفتي كل مصري وأنتخب زعيماً للوفد بإجماع الآراء. لم يكن في مصر إلا حزب واحد، وزعيم، ومنهج واحد)
وفي 21 يناير غادر السير ونجت الأراضي المصرية بناء على استدعاء من لندن
أستمر الوفد في نشاطه، وعزم على عقد اجتماع عام في بيت الأمة في 31 يناير، ولكن قائد القوات البريطانية منعه
مقدمات الثورة:
في أول مارس 1919 قبل السلطان أحمد فؤاد استقالة رشدي باشا التي ظل أمرها معلقا منذ شهر ديسمبر 1918، وطلب إليه الاستمرار في إدارة الأعمال إلى أن يتم تأليف الوزارة الجديدة
تحرجت الحال بقبول استقالة الوزارة وأوجس الوفد خيفة من محاولة تأليف وزارة جديدة،
ذلك لأن رشدي باشا كان متعاوناً مع زعماء الوفد. وقد أدى ذلك إلى هياج قي الأفكار والى تحمس في النفوس، وأضطر الوفد إلى أن يلجأ إلى السلطان عاتبا عليه قبول استقالة الوزارة التي وقفت بجانب الأمة تطالب باستقلالها، وطالباً أن يكون السلطان العون الأول للبلاد على نيل استقلالها
وفي 4 مارس أرسل الوفد إلى معتمدي الدول الأجنبية احتجاجاً قوياً على السياسة الإنجليزية التي تمنعه من عرض قضية بلاده أمام مؤتمر الصلح بباريس وأهم ما جاء فيه:
جناب المعتمد:
قضى الأمر وبلغ العسف غايته، لم ينفع مصر أن كانت مشركاً لأقدم مدنية في العالم، ولا أنها ما زالت دائبة يوما بعد يوم من عهد محمد على الكبير إلى الآن على أن تستعيد المركز الذي لها حق الوجود فيه بين الأمم، لم ينفعها تقديمها لقضية الحلفاء أثناء الاقتتال أفيد أنواع المعونة تأثيراً، وقيامها بذلك في نفس الساعة التي افتتحت بريطانيا العظمى فيها الحرب بأشد ضروب التصرفات السياسية ظلماً وهو إعلانها الحماية، لم ينفعها مالها من وحدة العنصر، ونبوغ الطبقة الراقية فيها، وما عليه أهلها من الشغف بالنظام وتعشق الحرية والتسامح العظيم، تلك الخصائص التي تجعلها جديرة بالاستقلال
إذن فكل شيء يجب أن يتواري أمام مطامع الاستعماريين اللامتناهية! إن المصريين دون جميع الأمم التي غيرت الحرب مركزها السياسي هم وحدهم الذين بطشت بهم القوة. .
ها نحن أولاء محكوم علينا بالبكم، نعلك فيه شكيمة الغيظ، وبالحزن المبرح نلبس ثيابه حدادا على حريتنا المسلوبة.
إن الأدلة التي ما زالت تسومنا الخسف ما لبثت أن قررت نهائياً قطع الطريق علينا إلى المؤتمر ساخرة بوعودها. .
إن الوزارة التي اندفعت بوطنيتها إلى إتنهاج ما يوافق القضية المصرية قد اضطرت إلى الاستقالة. . ونحن نعتقد أنه لا يوجد مصري واحد جدير بأن يدعى مصرياً يستطيع أن يؤلف وزارة. . والذي نقصد الآن إنما هو أن نشهدكم على المعاملة الجائرة التي ترزأ بها مصر لكي تقولوا لحكومتكم إنه على رغم العهود التي التزمت بها إنجلترا على رؤوس الأشهاد، وعلى الرغم من المبادئ التي أقرها الحلفاء بالإجماع، لا زال في العالم أمة تتحكم
فيها القوة الغاشمة لخدمة مصالح لا اتفاق لها من دواعي المدنية، وهي أقل اتفاقاً مع دواعي العدل والإنصاف
ولم تكن السلطة العسكرية تسمح بنشر هذه النداءات في الجرائد، فكان الوفد يقوم بطبعها وتوزيعها على الأهالي، فأحدثت هياجاً كبيراً في نفوس المصريين وأثارت حماسة وطنية عظيمة
فضاقت بريطانيا من حملات سعد ومن تشهيره بها، ومن نداءات الوفد إلى معتمدي الدول، ومن كتبه إلى السلطان، فقر رأيها على سياسة الشدة في قمع الحركة. وبعد ظهر يوم 6 مارس استدعى قائد القوات البريطانية رئيس الوفد المصري وأعضاءه ووجه إليهم الإنذار التالي:
(علمت أنكم تضعون مسألة الحماية موضع المناقشة، وأنكم تقيمون العقبات في سير الحكومة المصرية تحت الحماية بالسعي في منع تشكيل وزارة جديدة، وحيث أن البلاد تحت الأحكام العسكرية، لذلك يلزمني أن أنذركم أن أي عمل منكم يرمي إلى المعاملة الشديدة بموجب الأحكام العرفية)
وقد أراد أعضاء الوفد التعقيب على هذا الإنذار، ولكن القائد العام رفض سماع أي كلام قائلاً (لا مناقشة)!
أبو الفتوح عطيفة
بمناسبةالذكرىالثانية
علي محمود طه في شرقياته
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
- 1 -
لا أريد أن أتحدث في هذا المقال عن شاعر مصر الكبير المرحوم علي محمود طه كسيد شعراء الغناء العربي منذ أمرؤ القيس حتى الآن، ولا أريد أن أُبين مواطن الجمال والإبداع في دواوينه النفيسة التي أصدرها والتي تضمنت الشيء الكثير عن شعره في وصف الطبيعة والمرأة، ولكنني أود أن أُقصر كلمتي هذه على شعره السياسي الذي قاله في مناسبات عديدة، والتي أوحت به إليه أحداث الشرق العربي المتطلع إلى الحرية والثائر على ظلم الظالمين، لأبدد تلك الفكرة التي تطغى على الأذهان وهي أن المرحوم شاعر الجندول لا يجيد غير وصف الطبيعة والغزل بدليل قوله:
حياتي قصة بدأت بكأس لها غنيت وأمرأة جميلة، وأنه لم يشارك الشعب آلامه وأحزانه، ولا العربية جمعاء في ثورتها التحرريةالكبرى، وأنه لم يكن في جمال هذه المشاركة كأميره شوقي بك الذي يقول:
كان شعري الغناء في فرح الشر - ق وكان البكاء في أحزانه
وأن ما قاله في هذا المضمار لا يتعدى الأبيات التي مجد بها مصر، أما الشرق فقد تركه وراء ظهره. .
هذا ما يقوله عندنا بعض المغرورين الجاهلين الذين لم يقرءوا للشاعر غير ديوان واحد أو ديوانين، ولو كانوا من المتتبعين لقراءة نفائس الشعر العربي الحديث لعلمواأن لصاحب (أرواح شاردة) ديواناً فخماً يضم طائفة صالحة مختارة من شعر الملاحم والحروب، والدم والثورة، والجهاد والاستقلال، وهو (شرق وغرب) الذي أصدره المرحومسنة 1947 إلى الوجود، وبصدوره أضاف إلى ذخيرة الشعر العربي الحديث ذخيرة أُخرى جديرة بالدراسة والحفظ والإعجاب.
يقع هذا الديوان في 182 ص ويقسم إلى قسمين: القسم الأول باسم (أصداء من الغرب) والقسم الآخر باسم (أصوات من الشرق) ونحن نترك الغرب لعشاق الغناء والمرأة والألحان، لنأخذ بالتحدث عن الشرقيات وخصوصاً في هذه الظروف التي يمر بها الشرق؛
وبعد نكبة العرب بالديار المقدسة على رغم أنف الجامعة العربية ذلك المخلوق الكسيح الهزيل.
وأول قصيدةمن شرقيات شاعر زهر وخمر هي (إلى أبناء الشرق) ومطلها هذا
دعوها منى، وإتركوه خيالاًفما عرف الحق إلا النضالا
ينبيك بنصيحة الشاعر المخلصة المرجوة إلى أبناء الشرق الإسلامي الذين كانوا يتطلعون إلى قضية فلسطين تطلع الخائف، مرتقبين مصيرها في حذر وفرق، وهل يعرف الحق إلا الكفاح؛ إذن إلى حمل السلاح على لسان الشاعر
بني الشرق ماذا وراء الوعودتطل يميناً وترنو شمالا
وما حكمة الصمت في عالمتصيح المطامع فية إقتتالا
زمانكمو جارح لايعفرأيت الضعيف فيه لايوالى
ويمومكمو نهزة العاملينومضيعة الخاملين الكسالى
ولكن أبناء الشرق الذين فتحوا العالم، وأدبوا الغرب وكسروا شوكة الصلبيين؛ لايلبون النداء الحار، فيهتف الشاعر مذكراً
ألسنا بني الشرق من يعرب أصولاً سمت وجباهاً تعالى
أجئنا نسائل عطف الحليفونرقب منه الندى والنوالا؟
ولكن الشرقيين كما عهدناهم في هذا العصر لايغضبون لأن الحاكمين تحت إمرة الأجنبي علمهم الخنوع والكسل، ولكن الشاعر يذكرهم ويذكر الحلفاء
فلسطين مالي أرى جرحهايسيل ويأبى الغداة إندمالا
وأفريقيا ما لإسلامهايسام عبودية وإحتالا
على تونس وبمراكشتروح السيوف وتغدو إختيالا
ويسترسل الشاعر في وصفه حتى يختم تلك الملحمة الرائعة بهذا الدعاء المضطرم بالإخاء والإيمان
بني الشرق كونوا لأوطانكم قوى تتحدى الهوى والضلالا
أقيموا طدوركمو للخطوب فما شط طالب حق وغالى
وقد كان الشاعر في سرير مرضه عندما بدأ بإثارة شعور إخوانه العرب عامة والمصريين
خاصة في سبيل طردهم المستعمر الغاشم ورد حقهم السليب، فقال في الختام
فزعت لكم من وراء السقام وقد جلل الشيب رأسي إشتعالا
وما أن بكيت الهوى والشبابولكن ذكرت العلى والرجالا
نعم لقد بكيت الرجال، وحق لك أن تبكي الرجال في مواطن خلت إلا من أشباه الرجال. .
وفي (يوم فلسطين) وهي القصيدة الثانية من الشرقيات؛ يصور الشاعر غضب الأمة العربية في إضرابها العام الذي صدر في اليوم الثاني من نوفمبر سنة1954 حداداًوإحتجاجاً على وعد بلفور المشئوم. ويكبر البطرلة والشجاعة في الفلسطينيين الأحرار الذين إستشهدوا في سبيل بلادهم وبمجد الشعب الفلسطيني المناضل، في جهاده الطويل وصبره على الشدائد، وإبائه وعدم خنوعه إلى الآجنبي طيلة أيام الثورة، فيهتف من صميم قلبه
فلسطين لاراعتك صيحة مغتالسلمت لأجيال، وعشت لأبطال
ولاعزك الجيل المفدى ولا خبتلقومك نار في ذوائب أجيال
صحت باديات الشرق تحت غيارهم على خلجات الروح من تربك الغالي
فوارس يستهدي أعنة خيلهمدم العرب الفادين والسؤدد العالي
ثم يتطرق إلى وصف الشرق صبيحة التقسيم بهذا الوصف الرائع
هو الشرق لم يهدأ بصيح ولم يطبرقاداً على ليل رماك زلزال
غداة أذاعوا أنك اليوم قسمةلكل غريب دائم التيه جوال
قضى عمره رجم المواطن - وإسمهمواطنها - مابين حل وترحال
وماحل داراً فيك يوماً. . ولاهفتعلى قلبه ذكراك من عهد إسرال
أي والله ياصاحب الملاح التائه!! إن النكبة التي مني بها العرب في فلسطين يوم سلط عليها الإنكليز والأمريكان شذاذ الآفاق، المناجيس الرعاديد، ستبقى مطبوعة في كل قلب حر ما دام للوطن العربي الكبير بقاء؟ وإن الأرض المقدسة التي حلها أوباش اليهود التائهين كي لاتتطهر إلا بظهور عظيم كبخت نصر؟ وبطل كصلاح الدين وفارس كإبن الوليد، لكي يعيد مجد فلسطين كما كانت في عهد عمر، ومعاوية، والرشيد.
ثم يختتم قصيدته مخاطباً الغرب بقوله
ويا أيها الغرب المواعد لاتزدكفى الشرق زاداً من وعود وأقوال
شبعنا وجعنا من خيال منمقومنه إكتسينا، ثم عدنا بأسمال
فلاتعذب الضعفى وتغصب حقوقهم فتلك إذا كانت. . شريعة أدغال
وهل فات الشرق أن الغرب لايعرف إلا الظلم والدم والنار، وأن ماسفه من حقوق لايتعدى حبراً على ورق ولاتطبق عنده إلا شريعة الغاب. وقانون الرجل الأول؟!.
وفي مساء يوم الخميس المصادف 20 يونيه سنة 1946 تفاجأ مصر والعالم العربي قاطبة مفاجأة سارة بظهور مفتي الديار الفلسطينية السيد أمين الحسيني قي قصر عابدين العمر لاجئاً إلى ساحة البيت العلوي الكبير الكريم بعد خروجه خفية من باريس بنحو إسبوعين، وقد أمنه الفاروق العظيم على حياته وأكرم وفادته. ألخ) (1) فما كان من الشاعر الإ أن حياه بقصيدة رائعة تعد من عيون الشعر الحديث يفتتحها بهذا المطلع الجبار
حيتك في الشرق آمال وأحلام
…
وقبلتك جراحات وآلام
الذي يصف به أجمل وصف شعور الشرق باستقبال المجاهد الكريم؛ وكذلك وصف الديار المصرية التي ترحب بكل طريد عربي. . يا ليتنا كنا أحد الذين يقضون البقية الباقية من حياتهم فيها وبين أهلها الأحباء الكرام. . فيقول
ديار (فاروق) من يلجأ لساحتها
…
فقد حمته من الأحداث آجام
يطيب للعربي المستخير بها
…
معاشة ويرق الماء والجام
ويحطم القلم العاني بحومتها
…
أصفاده، وبفك القيد ضرغام
وحسب مصر، أن أرباب الفكر، وأصحاب العقائد، وحملة مشاعل الحرية والأدباء والشعراء لا يضطهدون أو يعذبون، وحسب الفارق شرفاً أنه أصل هذا الكرم العتيد والمجد الرفيع والبناء الضخم الموطد الأركان. . ولا أريد أن أسترسل في وصف هذه الأبيات الرائعة أو أثرها في النفس والشعور؛ وقيمتها في ميزان الشعر السياسي من ناحية الديباجة والإصالة والقوة، ولكنني أكتفي بأنها خير ما قلت في هذه المناسبة. وحسب الحسيني قول الشاعر
وأنت، يا أيها الفادي عروبته
…
أسلم فديتك لا غبن ولا ذام
جهادك الحق مظلوما ومغترباص
…
وحي لكل فتى حر و ' لهام
وحسب المرحوم الذي إختطفه يد الغادر الغاشم وهو في أوج نضوجه الفتى وحسب
عبقريته المتفتحة عن أكمام الخلود والمعطرة بأريج البيان المشرق واللغة السليمة والعربية الكريمة والتراث الشرقي النبيل بما فيه العروبة والإسلام، وأنه كان من المدافعين عن حريته وسلامته من المؤمنين به وبحقوقه، وبحضارته العريقة ومجده الخالد التالد. وشبابه المنافح المكافح وشيوخه الحكماء
وحسب مصر الوادي المبارك أنه أطلع للعربية والشرق عملاقاً مثل شوقي. . ونسر أضخم الهيكل في الشرق كعلي محمود طه المهندس. . .
والبقية من هذا الحديث ستأتي في القريب إن شاء الله والى الغد المأمول
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
خواطر في كتاب الله
النضال في سبيل الإستقرار
للأستاذ محمد عبد الله السمان
لا حياة لأمة من الأمم بغير إستقرار، ولا إستقرار لها بغير بغير نضال، فالنضال في حياتها دعامة قوية يرتكز عليها إستقرارها، والأمة التي تستعذب الركود، وتستجيب لدواعي الدعة والخمول، وتتذرع بأوهى الأسباب لتظل أمة ضالة في مجاهل النسيان، مودعة في زوايا الإهمال، أو متلاشية في مهاب الأعاصير، ضائعة في زوابغ الغوغاء - هذه الأمة لن يقدر لها التربع فوق هامة المجد، ولا وقوف بين صفوف الأمم الحية، ولا التمتع بحياة العزة والهدوء، ولا الظفر بعيشة الرضا والسلام
والإسلام في ظل تطوراته، كان حريصا على إيجاد أمة قوية مهيبة الجانب، مسموعة الكلمة، ذات مكانة يعتد بها، وكيان يعترف به، وجاه تعيش في ظله مرفوعة الرأس، مصونة الكرامة، ولما لم يهب الإستقرار لأتباع الإسلام، بين ربوع مكة في المرحلة الأولى، فرض عليهم أن يهاجروا منها، راغبين عن مسقط رؤوسهم، وديارهم وأموالهم، زاهدين في أرض لم تغدق عليهم غير الذلة والمسكنة، والنت والضطهاد، فكانت هذه الهجرة أول مرحلة من مراحل النضال، وأول لبنة في بناء الأستقرار، وحرم عليهم أن يسكنوا أرضا لم تكرم وجودهم، ويعيشوا فيها أذلاء مستضعفين، حتى يفلتوا من أسوأ جزاء، وأشد عقاب:
(إن الذين توفيهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا)
والعدة الزم شيء للنضال، ولا يعتبر النضال نضالاً واقعياً الإ بها. والأمة التي ترغب في حياة حية ناهضة، يحتم عليها أن تكون على إستعداد للنضال في أية لحظة، فإن لحظات الغدر ليست ذات مواعيد محددة. والإسلام الذي أوجد أمة مجيدة من العدم، لم يقته أن يوجهها إلى إقتناء العدة، وإيجاد القوة، فهما حليفتا الأبطال في ميادين النضال. وخليقتان بأن تدفعاهم إلى كسب الشرف والفخر لأمتهم، وذود العار والبلاء عن وطنهم. والإسلام لم يفته أن يلفت أنظار المسلمين إلى الحديد، وأه مصدر من أهم مصادر العدة والقوة:
(واعدوا لهم ما أستطعتم من قوة، ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين
من دونهم لا تعلمونهم. الله يعلمهم. وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف اليكم. وانتم لا تظلمون - وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله لقوي عزيز.)
والإسلام لم يحتضن النضال إلا وهو يهدف إلى إيجاد الإستقرار الذي لا غنى عنه لأمتهن وإيجاد السلام العالمي الذي تعيش الإنسانية والبشرية في كنفه وتحت رعايته آمنتين، ولم يكن من اللائق به - كدين صاحب أسمى دعوة - أن يحتم على أمته الركون والهدوء، وكتائب البغي والعدوان تأبى إلا النيل منها والكيد لعا، ولا أن يلزمها الصمت والسكون - وجحافل العناد تأبى إلى السطو عليها، والتخلص منها، والإسلام لم يقصد من إلزام أمته النضال وإعداد العدة له، بغيا أو بطرا أو عدوانا، ولكنه قصد منهما تهيئة حياة مستقرة لها، حتى تؤدي رسالتها التي من أجلها أوجدها الحق تبارك وتعالى
وقد أعتبر الإسلام بالنسبة لأمته دعامة قوية، يرتكز عيها كيانها، وتستقر حياتها، ولذلك حرضها عليه، وأعتبره جهادا في سبيل الله الذي يحق الحق ويبطل الباطل، ومن أجل حياة دائمة باقية، تنال فيها النفوس المجاهدة الصابرة أنعم ما أعده الله لأوليائه:
(فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما - فقاتل في سبيل الله. لا تكلف إل نقسك. وحرض المؤمنين. عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا. والله أشد بأسا وأشد تنكيلا - إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيانا مرصوص - وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين - فإن إعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا اليكم السلم؛ فما جعل الله عليكم من سبيلا)
ولما كان النضال دائما في مسيس الحاجة إلى المادة، لإعداد الأسلحة وما اليها، وللانفاق على الجيوش المناضلة، فقد حرص الإسلام على الإنفاق في سبيل هذه الغية، واعتبر البخل والتقتير مما يدفع بالأمة إلى الهلاك بأيديها، وقد أخذ الله على نفسه ألا يضيع جزاء الباذل. بل يضاعف له أضعاف مضاعفة:
(وانفقوا في سبيل الله. ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. وأحسنوا إن الله لا يحب المحسنين - مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل. في كل سنبلة مئة حبة. والله
يضاعف لمن يشاء. والله واسع عليم)
والجندي المناضل في نضاله دائما إلى نيل إحدى الحسنين: إما فوز يكسب أمته العزة والشرف والفخار، ويسبغ عليها نعمة العزة والحرية والمجد، وأما إستشهاد في سبيل الحق، يخلد في الحياة الدنيا ذكراه أجمل تخليدا، ويجعله في الحياة الأخرى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا:
(ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون - ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم. ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون. وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن. ومن أوفى بعهده من الله، فأستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به. وذلك هو الفوز العظيم - والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم. ويدخلهم الجنة عرفها لهم.)
أما المتخلفون عن ميدان النضال، المتنكبون طريق الشهامة والمروءة والرجولة، فقد ندد بهم الإسلام كل التنديد، لأنهم رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، ولأنهم بخلوا بأنفسهم، وأدخروها لحياة فانية تعبث فيها وتلهو، وآثروا القبوع في مساكنهم على إدراك البطولة، وإرتداء تاج التضحية والتفاني، كانوا إذا دعوا إلى النضال تثاقلوا مزريا، وأنتحلوا أوهى الأعذار، ليقعدوا عن ركب المجد المزمع إلى الكفاح في سبيل أسمى الغاليات:
(ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم إنفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا مت الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذابا اليما، ويستبدل قوما غيركم، ولا تضروه شيئا، والله على كل شيء قدير - فرح المخلفون بمعقدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا بفقهون - فليضحكوا قليلاً، وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون - إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف. وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون. يعتذرون اليكم إذا رجعتم اليهم، قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم، قد نبأنا الله من أخباركم، وسيرى الله عملكم ورسوله، ثم تردون إلى
عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون. سيحلفون بالله لكم إذا إنقلبتم اليهم لتعرضوا عنهم، فأعرضوا عنهم، إنهم رجس، ومأويهم حهنم جزاء بما كانوا يكسبون - وقالوا: ربنا كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب. قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن أتقى، ولا تظلمون فتيلا)
وأما أولئك المثبطون للهمم، الذين كانت مهمتهم أن يضعوا الأشواك في طريق النضال، وأن يشنوا حرب الأعصاب على ضعفاء الإيمان، ويثيروا الروع والفزع في نفوسهم، فقد كشف الله نواياهم، وفضح مخازيهم، لأنهم خليقون بأن يحرموا قيم الرجولة، وتتبرأ منهم صفحات المروءة والبطولة، وما أكثرهم في أيامنا هذه، يعيشون كالجراثيم، وينفثون السموم في روع المناضلين، ويعز عليهم أن يناضل غيرهم، وهم لا يرغبون في النضال، وأن يكسب الشرف سواهم، وهم ليسوا جديرين به، ويتسلحون بمنطق أعرج، وأسلوب ملتو، وحجة واهية، ليبرروا مسلكهم، ويواروا صغارهم:
(. . يقولون لو كان لنا من الأمر شيئا ما قتلنا ها هنا، قل لو كنتم في بيوتكم ابرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، وليبتلي الله ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، والله عليم بذات الصدور - يا أيها الذين أمنوا لا تكونوا كالذين كفروا، وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانواعندنا ما ماتوا وما قتلوا، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، والله يحيي ويميت، والله بما تعملون بصير - وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لا تبعناكم، هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان، يقولونبأفواههم ما ليس في قلوبهم، والله اعلم بما يكتمون، الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا، قل فأدرءوا عن أنفسكم إن كنتم صادقين)
محمد عبد الله السمان
في موكب الخالدين
ذكرى الملامح التائهة
للأديب عبد الرحيم عثمان صارو
طاف بالدنيا. . كما طاف الربيع
…
بحنايا الأرض بعثا مرسلاً
ساحر ينفث مل بين الضلوع
…
لهب الحب شهى المصطلى
في يديه معزف الفن الرفيع
…
يرسل اللحن طروباً مثملا
يزدهي الأرواح بالكأس البديع
…
ريق الخمرة. . لماح الطلى
قد تزول الشهب أو تبلى الشموع
…
وسناه فوق أطواق البلى
ما؟ له والكون نشوان الربوع
…
يتساقاه رحيقا سلسلا؛
ونداماه احتشاد وولوع
…
فارق الروض وولى معجلا
ما؟ له والكون يشدو بحلاه
…
راقص النشوة فياض المرح؛
والليالي مفعمات بهواه
…
مد للغيب جناحا. . ونزح؛
أهي الأيام قد آدت خطاه
…
بالذي يحمل عن دنيا البرح؟
أهو (الأولمب) نادى بفتاه:
…
أيها المتعب: آن المطرح؟
أهو الدهر الذي أترع فاه
…
خمرة الشهد وصهباء الملح؟
طاش منه العقل واستلت نهاه
…
غمرات من أفاريق الفرح؛
فتولى في تهاويل رؤاه
…
ينهل الراح، ويلقى بالقدح
أيها النازح عن تلك الديار
…
أيها الغائب: قد طال الغياب
ما عهدناك على رغم السفار
…
ممنعا في هجر هاتيك الشعاب
ضفة النيل حنين وإدكار
…
تمزج الأدمع بالوجد المذاب
طالعت بالشوق آفاق البحار
…
تسأل الموج. . وتستهدي العباب
وتنادي الريح: هل حان المزار
…
وحلا الوصل على جمر العتاب
ويحها! لم تحظ من طول إنتظار
…
وإرتقاب مستهاب بجواب
يا نجوم الليل. . ياشمس النهار
…
فتشي عندك عن ذال الشهاب
أيها التائه في بحر الحياة
…
عد تأمل كيف بات الشاطئان
أيها التائه. . إلا عن حماه
…
كيف أنسيت هوى تلك الجنان
كيف تزوي السمع عن غالي نداه
…
والجوى يزخر فيه والحنان
لم تطلب بعدك أقداح السقاه
…
للندامى. . لا ولم تحل الدنان
يا حيارى الشوق: لا تلحوا هواه
…
فهو لا يسلو هواكم حيث كان
لا تلوموه بهجر ما جناه
…
وسكوت ما له فيه يدان
إنها الأقدار ألوت بخطاه
…
وجهة المجهول من قبل الأوان
عبقري الفن. . رب الملهمين:
…
هذه ذكراه حب وثناء
وتراث لك وهاج الزنين
…
زامق الذروة مرفوع اللواء
وصلاة في محاريب الحنين
…
جءت أقريها (على) الشعراء
إن عدتها نفحة الشعر الرصين
…
لم يجزها لك مشبوب الولاء
أنا من ذكرك في غل ثمين
…
أجمل الأغلال في الدنيا الوفاء
كيف أنساك؟ معاذ الخالدين
…
وصبايا جوار في الدماء
خالد أنت على مر السنين
…
في فم الأجيال في سفر البقاء
عبد الرحيم عثمان صارو
الأدب والفن في إسبوع
للأستاذ عباس خضر
ساعة مع الحكيم:
أقبلت على الأستاذ توفيق الحكيم بك في غرفة مكتبه بدار الكتب المصرية، بعد أن فرغ من تصريف مسألة من مسائل الدار، وقد خرج الأستاذ الكبير عن مكتبه، وجلسنا على مقعدين متقابلين، فطالعت منه وجه الفنان، وأحسست إني في محراب من محاريب الفن، لا في حجرة من حجرات أصحاب المناصب الكبيرة
وقضيت معه ساعة تناولنا فيها بعض شئون الأدب والأدباء، وقد تحدث إلي منطلقا مستفيضا، وأصغيت إليه مستوعبا مستعذباً، ويرف أصدقاء أديبنا الكبير ما في حديثه من متعة وعمق، لأنه يمزج فيه الفكر بماء من الفن كما يصنع في كتابته
وكان يلقي إلي الحديث على طبيعته المرحة الهادئة الوادعة، وهو لا يعلم إني سأنقله إلى قراء الرسالة. . فلما علم بهذه النية ظهرت عليه البغتة وأبتدرني قائلاً: إذاً فأنت تريد أن تعمل حديثا وسكت وكأنما يقول في نفسه: الأمر لله
بدأ الحديث بالسؤال عن الأستاذ الزيات بك، ثم ذكر (الرسالة) لا سائلا عنها فهي لا تغيب عنه، إذ هي معه وهو معها كل ' سبوع، بل قال: الرسالة يتنسم منها الإنسان عبير الأدب في هذه الآونة التي قطعت الصحف والمجلات الأخرى علاقتها بلأدب ومسحت آثاره من صفحاتها. . حتى ما تنشره أحيانا من قصص تراه حكاية لحوادث لا فن فيها ولا تشعر بأن كاتب القصة يسوق إليك من خلال كتابته خواطر أديب
وتحدثنا في إنصراف أكثر الناس عن القراءة الأدبية، وقلت أن القصة باعتبارها فنا من الأدب تستطيع أن تنافس الكتابات غير الأدبية في إجتذاب جمهور القراء. قال: على شرط أن تكون أدباً. . فأن بعض من يكتبونها كما - قلت - يسوقون وقائع لم تعاشرها نفوسهم ولم تتمثلها خواطرهم، فالفن لا ينتج من وحي الساعة، بل لا بد أن يمضي على الأحداث من الأنظار وقت كاف لنضجها وهضمها. ولهذا أرى ألا يفرض على الأديب أن يكون لونا معينا من الأدب وإنما يترك لشعوره وإستجابته
وعدنا إلى حديث المجلات الأدبية وقلة الأقبال على قراءة الأدب، فقال الأستاذ الحكيم:
الواقع أن المجلات الأدبية هي البقية الباقية. وما زلت أذكر الحديث الذي أدلى به إليك معالي الدكتور طه حسين باشا ونشر بالرسالة منذ شهور والذي أعرب فيه عن عمل وزارة المعارف، وإستعدادها للعمل، على تشجيع الأدباء والأخذ بكل ما يغذي الحركة الأدبية والثقافية في البلاد. إن وجود طه حسين على رأس وزارة المعارف فرصة ذهبية عظيمة ينبغي أن تنتهز لإحياء الأدب وإزدهاره عن طريق مساعدة الدولة وإثابتها للجهود الأدبية
ومال الحديث إلى الناحية العملية في الموضوع، فقال الأستاذ الحكيم:
إن وزارة المعارف بإعانها للمجلات الأدبية تسدي الصنيع، لا لهذه المجلات فحسب بل للأدب والأدباء بوجه عام، فإن ذلك سسيبعثها ةعلى الإجادة والإكثار من إستكتاب الأدباء المجيدين. ويا حبذا أن تخصص الوزارة لهذا الغرض مبلغا من الإعتماد المخصص لكتب المطالعة الإضافية، فالمجلات الأدبية نفسها تعتبر من هذه المطالعة
قلت: إن الدولة تتبع سياسة تعويض المنتج وتشجيعه على الإنتاج الذي لا يجزيه الجمهور جزاءه الحق، أو بتعبير إقتصادي، لا يغطي نفقاته، كما تصنع مثلا في الخبز والسكر، أفليس لغذاء العقول مكان؟
ثم جر الحديث لتكوين جمعية الأدباء، فقال الأستاذ الحكيم: أذا اراد الأنسان أن يلقى إخوانه الأدباء فأين يجدهم؟ أليس إجتماع الأدباء وتحدثهم مثلاً فيما يجد من الأفكار أو في كتاب جديد قيم وما ينشأ من إحتكاك الآراء من تنشيط العقول وإثارة القرائح - اليس ذلك خيراً وأبقى من أن يذهب الإنسان إلى قهوة يجد فيها موظفين يقتقلون الوقت بالحديث عن الدرجات والعلاوات؟
ثم قل لي: إذا جاء إلى مصر أديب من الخارج وأراد أن يلقى أدباء مصر فأين يلقاهم إذا لم يكن لهم ناد يقصد إليهم فيه؟
وختمت حديثي مع الأستاذ الكبير بسؤاله عن جهده الأدبي في الفترة الأخيرة أو ما يعتزمه من الإنتاج في مجال الأدب والفن، قال: إنه ينوي أن يخرج كتابا أدبيا ولكنه لم يعرف بعد إسمه ولا موعد ظهوره. لأنه يحلو له دائما أن يكون هو المفاجأ بظهور كتابه فبل أن يكون المفاجئ. .
لحن فصيح!
كتب الأستاذ محمد أحمد بريري في جريدة الأساس
(3111951)
مقالا عنوانه (خطأ مشهور) أجرى فيه الكلام -
على طريقته - حوارا بينه وبين (شيخه) نتاول فيه تعريب
إسم (هانس أنور) ثم شبك الكلام بمسألة أخرى هي التي تهمنا
ألآن
قال الأستاذ وهو ينقل مسألة تعريب ذلك الأسم إلى مسألتنا: (قلت إذا أردتم أن تغفلوا الحرف الأخير من الكلمة فتنادون. .
قال - صه. . فقد أقلقت سيبويه، رحمه الله حين قلت فتنادون. . قل فتنادوا. . أفنسيت فاء السببية.؟
قات - فما قولكم، دام الله فضلكم، في قول الحطيئة:
الشعر صعب وطويل سلمه
…
إذا إرتقى الذي فيه لا يعلمه
زات به إلى الحضيض قدمه
…
يريد أن يعربه فيعجمه
بضم الميم في قوله (فيعجمه)
وفي قول الدكتور طه حسين عن بعض العابثين من الشباب: (يريدون أن يضحكوا من الصحف ورؤساء التحرير فيدخلون عليها فصولا نشرت على إنها لم تنتشر. . ألخ) دون حذف نون يدخلون
قال - أما عن شعر الحطيئة فالفاء ليست سببية. . وهذا واضح لأن إرادة الأعراب ليست علة الإعجام أو سببه. . فالشاعر لا يعجم الشعر بسبب إنه أراد إعرابه. . ومتى إنتفت فاء السببية إنتفى النصب
وأما كلام الدكتور طه حسين فالنصب فيه محقق. . فالسببية واضحة بين ضحك هؤلاء الشبان من الصحف ورؤساء تحريرها، وبين إدخال الفصول التي نشرت على إنها لم تنتشر. .
وإني لأنبه الدكتور طه حسين إلى إنه يلحن كثيرا في مثل هذا الحرف فيرفعه وحقه
النصب
قلت - وغير الدكتور طه حسين من المؤلفين والكتاب ألا يلحنون في مثل هذا الحال.؟
قال - قلت لك إني لا أحصى لحن غير العلماء. . وإن شهرة الخطأ إنما تستمد من شهرة المخطئ بالدقة على المحافظة على سلامة اللغة. .
قلت - فما حاصل حديثنا اليوم.؟
قال حاصله أو حاصلاه إن شئت الدقة أننا عربنا السيد. (هانس أوتو) فقلنا (هنسوت) ثم رجونا إلى الدكتور طه حسين أن يعطف على فاء السببية فينصب المضارع بعدها متى تقدم مسوغ النصب. . والله الموفق إلى الصواب)
سبحان الله يا أستاذ! ويا عجبا لك ولشيخك!! كيف غاب عنكما أن فاء السببية التي ينصب المضارع بأن مضمورة بعدها هي التي تسبق بطلب أو نفي؟ وأين الأمثلة التي سقتها من ذلك. .؟
إن الفاء في هذه الأمثلة فاء العطف، أما عبارتك التي خطأك فيها الشيخ فما هي علينا! وأما قول الشاعر (يريد أن يعربه (فيعجمه) ففيه الفعل (يعجم) معطوف على (يريد) وكلاهما مرفوع، وأما كلام الدكتور طه حسين (يريدون أن يضحكوا. . . ألخ) ففيه الفعل (يدخلون) معطوف على (يريدون) وكلاهما مرفوع ايضا، وليس فيه نصب محقق أو غير محقق. . وإذا كان الدكتور طه حسين يلحن كثيرا في مثل ذلك. . فما أفصح هذا اللحن! وبعد فأرجو أن تكون هذه المسألة من الأستاذ بريري (هفوة عالم) ولعل خجلته منها تدعو إلى التبين والتحقق فيما بعد
رسالة الشباب في الكفاح:
ألقى الأستاذ كامل الشناوي بك يوم السبت الماضي بجمعية الشبان المسلمين، محاضرة قيمة موضوعها (رسالة الشباب في الكفاح الشعبي) تناول فيها الموضوع تناولا أثار الأعجاب والحماسة في نفوس المستمعين
حث الأستاذ الشباب على الغضب لكرامة الوطن، وقال: إن واجبكم أيها الشباب أن تحاربوا الرضا وأن تحاربوا القناعة ايضاً، فالقناعة في طلب المال غبى ولكنها في طلب الحق فقر وفاقة!
وعرض للتحالف الذي يطلبه أعداؤنا. فقال: لماذا تنحالف ألنحارب أم لندافع؟ إننا لا نطمع في غزو ولا في إستعمار حتىنحارب. أما الدفاع فإن الشعوب تدافع عن حريتها، وحريتنا هم غاصبوها، فلن يكون دفاعنا إلا موجهاً أليهم. إنهم يخيفوننا بالخطر والروسي، فعلى أي شيء نخاف عليها. . ولكنا ستأخذها بأيدينا، وبعد ذلك نعرف من نعادي ومن نصادق، سنعادي الدولة التي تعتدي علينا ولو كانت روسيا القوية، وسنصادق الدولة التي ترعى حقنا ولو كانت تركيا الضعيفة!
وناقش الحلف الرباعي الذي رفضته مصر هكذا: تبت في أمريكا فكرة تدعو إلى نفض يد أمريكا من مساعدة بريطانيا من منطقة الشرق الأوسط. وفرنسا التي إستسلمت في الحرب الماضية من أول طلقة مدفع، ستسلم في الحرب القادمة عند أول صفارة إنذار. . وتركيا متاخمة لروسيا، لروسيا، فهل ستحمي نفسها أم ستحمينا. .؟ سنبقى إذن مع بريطانيا وحدها، وبريطانيا لم تعد إلا قوة ذهبت ولن تعود، فهل نتحالف مع الذكريات. .؟
وضرب الأستاذ الشناوي مثلا - لوجوب مواجهة العدو القوي ولو بقوة أقل من قوته - أبا أيوب الأنصاري، إذ خرج إلى القتال وهو شيخ هرم، فأراد أصحابه منعه، فقالوا له: إن الله تعالى يقول (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فقال لهم: لا تفسروا كتاب الله على هواكم. . إنما هذه الآية نزلت فينا معشر الأنصار لكي لا نقعد عن الجهاد فنهلك، فما التهلكة إلا القعود عن الجهاد. .
عباس خضر
السلام العالمي والإسلام
للكاتب الداعية الأستاذ سيد قطب
للأستاذ محمد فياض
بينما تتصارع الشيوعية والديمقراطية من جهة، وبينما تتصارع شعوب تدين بالإسلام مع كلتا الكتلتين من جهة أخرى؛ يقفز من بين الشعوب الإسلامية دعاة إسلاميون وهيئات إسلامية، فيتقدمون الصفوف، ويمسكون بدفة التوجيه في محاولات جبارة ليحولوا وجهة الكفاح الشعبي في القعة الإسلامية، إلى كفاح إسلامي يستعصي على الفكرة الشيوعية، ويتمرد على دعاة الديمقراطية، ويتجه إلى الإسلام. . ليكون القوة الإسلامية الأولى، التي إنبعثت من بطن الصحراء، لتديل دولة الفرس الوثنية، وتزيل دولة الرومان الظالمة، فتبلغ رسالتها، وتؤمن رقعتها، وترفع الظلم عن كل إنسان
وفي غضون ذلك كله، ومن بين صفوف قادة الفكر، ودعاة الفكرة، ومن بين أبراج الأدباء والكتاب في بلادنا؛ رأينا صاحب قلم جريء، ينزل من بين الأبراج، ليبرز خلال الصفوف الشعبية، متجرداً، مخلصا، للكفاح. . الكفاح المرير بثمنه وقيوده، فيضرب هنا ويضرب هناك، ضربات متتالية، متواليات، في ميدان الفكرة الإسلامية، وفي ميدان الفكرة الإشتراكية. وفي ميدان الشعوب. . لتأكل. . لتلبس. . لتعي. . لتتحرر. لتعيش عيشة الإنسان!
وما نظننا بعد في حاجة إلى الإشارة لصاحب هذه الضربات الحرة السافرة، فنحن نعرف فيها الأستاذ سيد قطب، كما نعرفه بها والجدير بالإشارة: أن الفكرة الإسلامية تحت ذبابة قلمه بدت لنا مكبرة ضخمة، واضحة، في كلياتها وجزئياتها، في مباحثها وأقسامها؛ وهذه حالة جديدة، وظاهرة فريدة، في (الفهم الإجتماعي) للفكرة الإسلامية، منذ نشأت إلى الآن. . فكل ما كان من فهم لفكرة الإسلام، لم يعد تناول بعض جنباتها في شطحات مفككة، بين خطأ وصواب؛ أما سيد قطب فكان من الإسلام في عصرنا الحاضر، بمثابة العدسات المجمعة المكبرة. . المفرقة الموزعة، أو كان بمثابة المرآة الضخمة التي إنعكست لنا فيها الفكرة الإسلامية، واضحة ناطقة صافية معقولة، جذابة منطقية
ولعلني لا أعدو الواقع، حين أقول إن سيد قطب لو قدر له في إسلوبه، طبيعة السخرية
والتورية، والإيماء والكناية؛ لفاق تأثيره تأثير (فولتير) في هزه للنفس البشرية، من داخل لا من خارج، وفي إشعاره لها بالكبت والضغط. . وإذن لأحتل سيد قطب في حيلته وفي عصره مكانة لا تقل عن مكانة (فولتير) في التاريخ. . ولدى المؤمنين بالحرية والإخاء والمساواة بعد مماته. ولكنني أعتقد أن سيد قطب ينأى بنفسه عن ذلك الجانب، ليوائم بين كتابه وحقيقة ما يكتبه عن الفكرة الإسلامية، التي لا تعرف الألغاز والمعميات، والتي لا تهرب من الضوء. وأعتقد أيضا أن الجامع مع ذلك بينه وبين (فولتير) هو أن كليهما في عصر ويلد مليء بالقلق، مليء بالتطلع، وأن كليهما خلص لفكرته، مؤمن بها في ميدنه، وأن كليهما متأثراً بعصره، شديد التأثر بزمانه وما بعد زمانه. . ورغم ما بينهما من تفاوت في المنهج والمنحى والطريقة، ورغم ما بين فكرتيهما من تباين في الأسس والأصول
وقد لا يقصر بي التعبير عن الواقع حين أقول: أن طبيعة الأستاذ سيد قطب ككاتب، طبعة مرنة لينة، تستجيب وتعي. . وتتأثر وتؤثر. في إسلوبه بساطة محببة أليفة، وسلاسة طبيعية غير كتكلفة، وفي إدائه دقة الكليات والجزئيات. . وفي تصويره براعة التناسق والتوازن، والتعادل والأنسجام. وإنك لا تكاد تقرأ الصفحة من كتابه، أو النهر من مقاله، حتى زتقسم بكل مقسم، أنك قد لمست من خلال السطور، رفرفة الروح، وحرارة العقيدة، وتظارة الفكرة، وأن سيد قطب يكتب حين يكتب، بكل جوارحه ومشاعره وأحاسيسه؛ وأنه يفنى فيما يكتب ويخلص لما يسطر، وأنه يتكلم من خلال السطور، في قسوة وفي رحمة. . بيديه ورجليه، وعقله وعاطفته
وهذه واحدة أخرى نذكرها في إجمال عن طبيعة مؤلفاته الإسلامية، وطريقة عرضها: بعد أن قدمنا طبيعته ككاتب، في إسلوبه، وفي تصويره، وفي إدائه:
قرأت للأستاذ سيد قطب في ميدان الفكرة الإسلامية، خمسة كتب: التصور الفني في القرآن. والعدالة الإجتماعية في الإسلام، ومشاهد القيامة في القرآن، ومعركة الإسلام والرأسمالية، وأخيرا هذا الكتاب الذي بين يدي (السلام العالمي والأسلام) وقد عرفت عن هذه المؤلفات عدة أشياء؛ تتركز في دقة التقسيم، وجودة العرض، والقدرة على الإستنباط والإستنتاج وعمق البحث وجدته؛ وتتمثل في بساطة وسهولة وسلاسة توائم سائر القراء من جميع الطبقات، رغم ما بها من تجنيح وتحليق، في تقسيماته واستنباطاته وإستنتاجاته؛ على
جعبة مليئة بالعديد الدقيق من مألوف ألفاظ الإقتصاد والمنطق والطبيعة. كالسطح الساكن، وأخراهما متأججة ثائرة لا تلوي على شيء. . الطرف الأول في كتابه العدالة، والثاني في كتابه المعركة، وبن الكتابين وبين الطريقتين، أوساط عديدة تقف بين الوجه الهادي للنفس المتأججة، وبين الوجه الغاضب للنفس الثائرة، في مكان خاص بين الوجهين والطريقتين، وكتاب المؤلف الأخير أرب إلى الهدوء وإلى العدالة منه إلى المعركة، وإن كان الباب الأخير فيه، يميل إلى أن يكون وسطا متوازيا في عرضه وأدائه بين الكتابين، وبين الطريقتين
وقد كان بودي أن أتحدث عن كتبه كلها، ولما أكنه لها ولنتاجه وطريقته من تقدير وحب، لولا إنني في مجال الحديث عن كتابه الأخير، أو هذا هو ما فرضه علي الإعجاب والحب. ولا أعتبر أن ثمة إعتبارا من حبي وإعجابي يقف بيني وبين أن أقول للأستاذ سيد قطب على رؤوس الناس ما يود سائر القراء قوله له: لقد وضعت لبنات جديدة في (مكتبة القرآن) حتى كتابك (مشاهد القيامة في القرآن) رغم أن جودة العرض وحسن التقسيم قد هربا منه هروبا لم يخلف ورائه سوى مستنبطات ومستنتجات. . الحق إنها تستأهل الإعجاب والتقدير. والحق إنها تستأهل أن يكون بجوارها جودة العرض وحسن التقسيم، لتكون لها القيمة النشودة، والفائدة المرجوة
وعسير على الباحث، كما يقول المؤلف في كتابه (السلام العالمي والإسلام) - (البحث عن أي حقل من حقول الإسلام، دون الإلمام بفكرة اٌسلام الكلية عند الكون والحياة والإنسان. . فهذا الدين لا يعالج مشكلات الحياة أجزاء وتفاريق. . إنما هو يرجعها كلها إلى نقطة إرتكاز واحدة. . مردها إلى فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان) وفكرة السلام في الإسلام (تتصل إتصالاً وثيقاً بطبيعته وبفكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان) ومن أجل هذا يعقد المؤلف باباً خاصة بعنوان (طبيعة السلام في الإسلام) ويؤكد فيه أنه يجب أولاً وقبل كل شيء، ربط فكرة السلام بفكرة الإسلام الكلية عن الكون والحياة والإنسان رغم إنها ليست موضوع كتابه هذا كما لم تكن من موضوع العدالة. والؤلف يستهل ذلك الباب بقوله: (من هذا التناسق في طبيعة الكون، وفي ناموس الحياة وفي أصل الإنسان. تستمد طبيعة السلام في الإسلام. . فتيتند إلى أصل أصيل عميق، ويصبح السلام هو
القاعدة الدائمة، والحرب هي الإستثناء). ولكن الإسلام (يستبعد الحروب التي تثيرها العصبية العنصرية) أو (العصبية الدينية بمعناها الضيق. . كراهية الأديان الأخرى) كما (يستبعد الحروب التي تثيرها المطامع والمنافع: حروب اإستعمار والإستغلال والبحث عن الأسواق والخامات، وإسترقاق المرافق والرجال) ويستبعد أيضا تلك (الحروب التي يثيرها حب الأمجاد الزائفة للملوك والأبطال، أو حب المغانم الشخصية والأسلاب). . فما هو ذلك النوع من الحرب، الذي يستثنيه الإسلام من قاعدته الدائمة: السلام؟
نترك ذلك للمؤلف في كتابه، كما نترك ما يطوف حول موضوع السلام والحرب في الإسلام من شبهات وظنون، ومخاوف وأقاويل
قد يسأل القارئ، لماذا وضع المؤلف ذلك الكتاب. .؟ ولمن يقدمه من الناس.؟ ونعتقد أن الجواب يدلي به المؤلف نفسه في أخريات الفصل المعقود بعنوان (العقيدة والحياة) الذي جعله مطلعا لكتابه، حيث يجيب في أخرياته من ثنايا قوله (ولقد كنا نتجنى على عقيدتنا الضخمة. . أنها لا تسعفنا بالحلول العملية امواجهة الحياة العصرية ومشكلاتها وبخاصة في الحقل الإجتماعي والحقل الدولي. فأما الحقل الإجتماعي فقد صدرت فيه عدة مؤلفات تكشف الحلول العملية التي يملك الإسلام أن يوجه بها الحياة. . وأما الحقل الدولي، فربما كان العمل فيه قليلاً، ولم تشرح هذه الناحية بعد شرحاً كافياً، وأمامنا اليوم مشكلة السلام العالمي التي تواجهها البشرية جميعاً. ونواجهها نحن ضمناً. فهل للإسلام فيها رأي؟ ولها عنده حل؟
هذا الكتاب كله هو الإجابة التفصيلية على هذا السؤال. . وفي سبيل هذه الإجابة، وفي سبيل تحديد (طبيعة السلام في الإسلام) وتفصيلها، يقيم المؤلف هذه الطبيعة، ويشيد ذلك السلام، ويبني كتابه على عمد أربعة (سلام الضمير، وسلام البيت، وسلام المجتمع، وسلام العالم) فبدون واحد من هذه العمد لا يتحقق اللام في نظر الإسلام، بل ولا يستقيم للآخر موقف، ولا يستقر له مكان (فالإسلام يبدأ محاولة السلام أولا في ضمير الفرد، ثم في محيط الأسرة. . ثم في وسط الجماعة. . وأخيرا. . يحاوله في الميدان الدولي بين الأمم والشعوب)
وفي سبيل (سلام الضمير) حيث (لا سلام لعالم ضمير الفرد فيه لا يستمتع بالسلام) وفي
سبيل (سلام البيت) حيث أن (الفرد الذي لا يستمتع بالسلام في بيته) لن يعرف للسلام قيمة، ولن يتذوق له طعماً، ولن يكون عامل سلام، وفي أعصلبه معركة، وفي نفسه قلق، وفي روحه إضطراب) وفي سبيل (سلام المجتمع) حيث (تتشابك المصالح، وتتزاحم الدوافع، ويكثر الشد والجذب، والأخذ والعطاء) وفي سبيل (سلام العالم)
. . . في سبيل كل ذلك
يستعرض المؤلف الوسائل والأسباب، ويستكشف السبل المؤدية في الإسلام إلى (سلام الضمير، وإلى سلام البيت، وإلى سلام المجتمع، وإلى سلام العالم) على قيود النظر الإسلامية إلى الفرد والجماعة (فالفرد والجماعة في الإسلام ليساعدوين ولاندين، إما هما خلية واحدة في صورتين: الفرد فرداً، والفرد مشتركا في جماعة، وقد نشأت هذه الصورة من طبيعة الإسلام وإستمداد شريعته من الله لا من إنسان، فالفرد لا يشرع للجماعات في الإسلام، والجماعة لا تشرع للأفراد، إنما يخضع افرد، وتخضع الجماعة، لذلك القانون الألهي الذي يرعاهم جميعاً، وحينما يتقرر ذلك يصبح أمن الفرد الشخصي هو أمن الجماعة الكلي، وأمن الجماعة العام هو أمن الفرد الخاص، بلا تعارض بينهما ولا إنفصام
ثم يعقد المؤلف فصلاً آخر أو باباً ختامياً بعنوان (والآن. . .) يتساءل فيه عن طريقنا نحن الأمة المسلمة.؟ وكيف نواجه مسألة السلام العالمي بعقيدتنا اٌسلامية. وكيف نتصرف في المجال الدولي طبقاً لهذه العقيدة، وما واجبنا تجاه الحياة. . وتجاه الإنسانية. . . وتجاه أنفسنا؟ وقبل أن يجيب الأستاذ يأخذ في إستعراض الحالة الدولية، بما يقوم فيها من صراع، وبما يشتجر فيها من مذاهب، حتى يخلص بنا إلى الإجابة عن هذه الأسئلة، وإلى (طريق الخلاص) الذي نترك كتابه يتحدث عنه في واقع منطقي يعلو على الشك وعلى الجدال
ذلك هو كتاب الكاتب الداعية الأستاذ سيد قطب، حاولت جاهداً أن أجمل فكرته للقراء في تلك السطور
وبعد فالكتاب يقع في 180 صفحة من القطع المتوسط، ويتمتع بكل الخصائص الممكنة لمؤلفه، أما ما حدث فيه من تكرار لبعض ما ورد فيه من كتابه العدالة، مما قد يؤدي إلى إذهاب بعض جدته، فلعل السبب هو التشابك والتماسك في كليات الفكرة الإسلامية وجزئياتها، تشابكا يرغم الباحث على التطرق لكل ما يجاور مبحثه المطروق. والكتاب
أيضاً كتاب فريد في شموله وتكامله، وما نزال في إنتظار كتابه التالي (نحو مجتمع إسلامي) متحضر، لأنه (كمحاولة للقيام بدراسة وافية لمقومات المجتمع الأسلامي ودستوره كما يمكن أن تكون في القرن العشرين) يعد أقرب الخطوات الفكرية والكشفية لطريق العمل الجدي المنتج. وللوقت السانح للوحدة الإسلامية، فإلى ذلك الحين. . . وإلى ذلك الحين
محمد فياض
مسمار جحا
تعقيب على نقد
للأستاذ علي أحمد باكثير
أطلعت في العدد الفائت من هذه المجلة الغراء على المقال القيم الذي كتبه الصديق الكريم الأستاذ أنور قتح الله في مسرحية (مسمار جحا) فرأيت من واجبي أن أعقب على بعض المآخذ التي أخذها على المسرحية، شاكراً للناقد الفاضل جميل عنايته وأهتمامه
المأخذ الأول: أن المؤلف قد أذاع سر مؤامرة جحا وحماد قبل عرض قضية المسمار، وبهذا قضى على عنصر التشويق في أهم أحداث المسرحية. ألخ. . .
وأنا أوافق حضرة الناقد على أن في الإمكان طي مدة المؤامرة وإخفاءها حتى تعرض القضية في الديوان، وإذا لكان عنصر التشويق إلى معرفة جوهر المؤامرة أقوى، ولكني أخالفه في زعمه أن هذا قد أضاع الأثر القوي لهذا المشهد الذي يرمز لقضية البلاد، وذلك لأن جوهر المؤامرة ليس هو الأمر المهم الذي يريد المؤلف أن يوجه إليه أنتباه المشاهد للمسرحية، فأهم من ذلك الكيفية التي تم بها تنفيذ هذه الخطة. ولا شك أن في هذا الأمر الأخير من الجدة والطرافة ما لا يؤثر معه إنكشاف جوهر الخطة في خطواتها الأولى. وحيث أن مشهد الديوان الذي عرفت فيه هذه القضية يكاد يكون رمزياً كله فلا بأس من التمهيد لذلك في الصورة التي تعرض بها المسرحية على خشبة التمثيل، حتى لا يكتنفه الغموض فيضيع بذلك من الأثر القوي لدى المشاهدين أكثر مما يضيعه هذا التمهيد، أما الصورة التي تطبع بها المسرحية في كتاب فسيرى الناقد أن المؤلف قد إقتصر في إبراز سر المؤامرة على بعض التلميحات بحيث يجلو الغموض ولا يجور على عنصر التشويق
المأخذ الثاني: يرى الناقد أن دخول إمرأة جحا في مشهد القضية قد أخمد من حرارة الأثر النفسي. . فأبطل فعل الأحداث السابقة لدخولها. . . ألخ. . .
للرد على هذا أقول إن دخول إمرأة جحا كان أساسيا، ولا غنى عنه لعدة أسباب
1 -
أن أم الغصن طرف ثالث في هذا النزاع لا يمكن إغفاله؛ وإلا لتسائل المشاهد ما موقفها بعد خروجها من الدار، فضلاً عن إن ذلك يجلو جوانب شخصيتها، فهي لا تستحي أن تبرز إلى الناس وأن تسفه زوجها أمامهم، ولا تقيم وزناً للهدف القومي الذي يرمي إليه
زوجها، والذي إهتم به الشعب كله؛ إذ ما كان يعنيها إستياؤها من إنتقالها من دار كبيرة إلى دار صغيرة، فهي هنا رمز لذلك الصنف من الناس الذين يؤثرون المغنم الصغير إذا كان خاصاً بهم؛ على المغنم الكبير إذا كان عاماً للوطن كله
2 -
أن ذلك أيضاً يجلو جانباً من شخصية جحا، فهو أيضاً لا يستحي من شيء ولا يرى بأساً من أن يكشف دخائل بيته للناس، لثقته أن ذلك لا يغض من قيمته عند نفسه شيئاً ولأعتقاده في قرارة نفسه أنه هو وأهله وعياله ملك الشعب، وهذا عنصر هام في تكوين هذه الشخصية
3 -
أن دخول أم الغصن قد خدم غرضاص هاماً في سير حوادث المسرحية، إذ تم من خلاله تحول غانم (صاحب الدار) من التشدد إلى التسامح البالغ لما رشاه الحاكم محاولاً بذلك أن يئد القضية في صورتها الواقعة، وأن يحولها لصالحه ويجعلها تؤيد حجتها في رمزها الكبير
4 -
فلا ينبغي لهذا الحادث أذا أن يبطل فعل ألاحداث السابقة له كما زعم الناقد. وقصارى الأمر أنه يحبس الأثر مؤقتا عن صعوده في الخط الرأسي ليتسع ويتمدد في خط أفقي ثم يستأنف الصعود إلى الأوج في كتلة أعظم وأضخم
المأخذ الثالث: أن مشهد مقابلة الحاكم لجحا في السجن كان طويلاً حتى أصبح الحوار مباشراً بعد أن كان رمرزيا، ومال إلى النغمة الخطابية. . . ألخ. .
وردي على هذا أن الطول والقصر نسبيان، والطول لا يعاب إلا إذا لم يأت بجديد، وما أحسب المشاهد يمل تلك الصور المتنوعة من نكات جحا التي يجمعها - على إختلافها وتنوعها - سلك واحد أمكن من خلاله عرض الخطوط البارزة في في مراحل الصراع بين الحكم الدخيل والشعب، أما الرمزية فالواقع أنه لم يعد لها مكان في هذا المشهد بعدما صار الصراع بين جحا والحاكم صريحا مكشوفا، ومع ذلك فقد إحتفظ المؤلف بقدر كبير من رمزية التعبير بحيث تتسع العبارات لأكثر من الصورة الواحدة التي هي صورة الواقع، فكانت دلالتها بذلك أعم وأشمل، وأما النغمة الخطابية فلم تكن إلا في مواضع خاصة لا تصلح فيها غير هذه النغمة لتساوق الحالة النفسية التي عليها جحا أو الحاكم في تلك الحظات؛ وإلا كانت إفتعالاً غير سائغ ولا مقبول
المأخذ الرابع: يرى الناقد أن تنتهي المسرحية في نهاية المنظر الخامس، إذ بخروج جحا من السجن وجلاء المستعمر عن البلاد تنتهي الأحداث الرئيسية للمسرحية
وهذه النقطة أختلفت فيها آراء النقاد. . فمنهم من ذهب مذهب الأستاذ أنور، ومنهم من خالفه، ومن هؤلء الأستاذ زكي طليمات مخرج المسرحية الذي يرى أن ختامها ختاماً قومياً سيكون أقل روعة - من الناحية الفنية - من ختامها الإنساني الذي يصور في بيت جحا أفراح الشعب بعد إنقشاع ظل الإحتلال البغيض، كما يصور كيف إنتهى الخط الثاني وهو الصراع بن جحا وإمرأته في مسألة زولج ميمونة
وخاصة إذا أستحضرنا في أذهاننا أن هذا الخط وإن أمكن إعتباره ثانوياً بالنسبة إلى خط الصراع بين السعب والمحتل الدخيل. . إلا أنه هو الخط المستمر في بداية المسرحية إلى نهايتها فهو - بهذا الأعتبار - الخط الرئيسي في بناء هيكلها ومن خلال حوادثها تولد خط الصراع الآخر. أما أنا فقد ترجحت زمنا بين هذين الرأيين إلى أن إستقر رأيي في النهاية على أنه لا باس في الصورة التي تعرض بها الرواية على المسرح من هذا الختام القومي الذي يقترحه الناقد، وذلك مراعاة للظروف الراهنة فقط
أما في صورتها كتاباً يخرج للناس فلا غنى عندي من المشهد السادس
المأخذ الخامس: أخذ الناقد على شخصية أم الغصن على إنها قليلة التطور وإنها على لون واحد. وجوابي على ذلك أن أم الغصن الشخصية المحورية في المسرحية. والشخصية المحورية تكون في الغلب مكتملة وناضجة في بدء الرواية، وقلما تتطور كما نص على ذلك صاحب كتاب وإني أخالف الناقد في قوله إن ذلك أدى إلى ركود في الحركة المسرحية. والذي خبرته بنفسي أن المشاهد بعدما عرف أم الغصن من المشهد الثاني كان دائما يستطيع أن يتنبأ بما ستتصرف به في مختلف المواقف والأحداث اللاحقة ولكن دون أن يفقد تشوقه إلى مشاهد ذلك. وتلك طبيعة الشخصية المحورية التي بغيرها لا يمكن أن توجد مسرحية على الإطلاق
المأخذ السادس: أن المؤلف أبرز أبن جحا (الغصن) أبله في أقواله وأفعاله، وأقتصر على إبراز هذا اللون الواحد في كل مشهد ظهر فيه، فهو يبحث عن ديكه ثم يتخيل أنه ذبح فيبكيه، وهو ينقلب ديكاً. وبهذا التكرار أبطل المؤلف الأثر الذي أراده لهذه الشخصية وهو
إثارة الضحك
وردي على هذا المؤلف لم يخلق هذه الشخصية لمجرد إثارة الضحك، بل إنها تنطوي على سيكولوجية دقيقية تجعلها طرازا جديدا في الشخصيات، فهذا البله الذي يتصف به الغصن بله معقدا أشد التعقيد، فهو قد ورث عن أبيه خيالاً خصبا واسعا ولكنه لم يرث عنه عقله وحصاته، فلم يكن لخياله الجامح من شكيمة تكبحه وتجعله ينتفع به في معالجة شؤون الواقع، فكان ذلك المسخ العجيب الذي يجمع بين النقيضين من ذكاء وبلاهة. والأمثلة على ذلك كثيرة في الرواية. وهذا الأقتصار على اللون الواحد وهو إهتمامه بديكه الضائع (عرجون) أمر ضروري لمراحل التطور النفسي لهذه الشخصية العجيبة. ثم إن هذا اللون الواحد لم يلزم صورة واحدة، بل مر بأطوار سيكولوجية مختلفة. وبيان ذلك أن هذا الأبله المغفل - فيما يرى الناس - قد أحس - لا شك - مرارة السخرية ممن حوله، فلم يكن بدعا أن يألف ديكه عرجون ويعتبره حبيبه الوحيد في هذه الدنيا لأنه هو الوحيد الذي لا يسخر به. . هذا هو الطور الأول، ثم أتفق أن ضاع الديك فحزن عيه وتخيله ما أصابه من اللصوص الذين سرقوه. . من سلخ وذبح وطبخ وأكل كأنما يرى ذلك بعيني رأسه فبكاءه أشد البكاء وشغله همه بالديك عن كل ما يضطرب حوله من الأحداث الكبيرة كعزل أبيه من منصبه وكقدوم الجراد، وهذا هو الطور الثاني. ثم إنتقل أبوه إلى بغداد وصار قاضي القضاة فسلا الغصن ديكه بعض السلوان، غير أن حزنه على الديك العزيز ما برح مستكنا ً في أعماق نفسه ينتظر أي سبب ليثيره من جديد. وقد جاء هذا السبب لما خرج ليلعب مع رفاقه في الشارع؛ إذ جره هؤلاء الرفاق إلى دخول الحمام ليحتالوا عيه فيكلفوه دفع أجرة الحمام عنهم جميعاً، فأوهموه بتلك الحيلة الطريفة أنهم قد أنقلبوا دجاجاً. وهنا يحار الغصن ويقع في ورطة لأن أمه قد حذرته من إخراج الفلوس التي معه لأي سبب من الأسباب، وإذا خياله الجامح يسعفه بالمخرج إذ خيل إليه حين وقف إلى المرأة أنه أنقلب ديكاً فهو مثلهم لا يستطيع الآن أن يدفع الأجرة. ولا شك أن لعقدة الديك المستكنة في نفسه أثراً في ذلك. . فها هو ذا عرجون رجع إلى الحياة في شخصه هو فهو إذن سعيد. وهذا هو الطور الثالث طور الناقص الذي لم يدم طويلا إذ جاء حماد فحله
ثم يحبس أبوه فيحزن لذلك لأن أباه كان شديد العطف عليه، ولم يسخر منه قط، فأتحدت
صورة أبيه في نفسه بصورة الديك. ومن ثم رأى تلك الرؤيا العجيبة التي قصها على أبيه في سجنه. إذ رأه كأنه أنقلب ديكا ً كبيراً وكأنه ضمه بين جناحيه وقال له: لا تخف يا غصن. أنا ديكك عرجون قد هبطت من الجنة لأراك، فهذا هو الطور الرابع
وبئس الغصن من عودة عرجون إلى الحياة: سواء في شخصه هو أو في شخص أبيه، فأوحى له خياله أنه يصنع تمثالاً ليجسده فيه. وهذا هو الطور الخامس والأخير الذي إنتهت عنده المسرحية. على أن الغصن بالرغم من هذا التعقيد قد أضحك الناس فيما أرى خلافاً لما زعمه الناقد
وفي الختام أشكر لصديقي الجليل أن أتاح لي الفرصة لكتابة هذا التعقيب
علي أحمد باكثير
البريد الأدبي
اللغة الأجنبية في مرحلة التعليم العالي بمصر:
يجبنا دائما ما نقرئه للأستاذ (عباس خضر) بالرسالة الغراء في توجيهاته القيمة ونقداته الهادئة في كل إسبوع. . وقد كانت كلمة (اللغة الأجنبية الأولى) برسالة 29 نوفمبر سنة 951 موفقة كل التوفيق في غرضها وموضوعها - وحسبها تهايتها التي نصها: (. . إن الإنجليزية في وصفها الحالي بمصر من آثار الإستعمار الإنجليزي الكريهة. . وإن الإنجليز يسوءهم أن نزحزحها عن مكانتها فيجب إذن أن نزيل ذلك الأثر المنتن، وأن نسوء الإنجليز في لغتهم كما نسوءهم في غيرها. . والوقت الحاضر هو أصلح وقت لهذه الضربة القاصمة التي ترضى الشعور الوطني وتنال من الأعداء وتنفع من البلاد. . فهيا أيها الجل العظيم إضرب الضربة)!. .
ولقد عملنا نحن معلمي المرحلة الأولى للتعليم في مصر كل ما في استطاعتنا حتى تهيأ لوزارة المعارف أن توحد المنهج في التعليمين الأولى والأبتدائي سنة 1948 ما عدا اللغة الأجنبية البغيضة التي إنفرد بها الأخير!! - ثم أراد الله أن نضرب هذا التعليم الضربة القاصمة أو بالأحرى ندحر اللغة البغيضة بأبناء الفلاحين الحفاة العراة الذين لم تلوثهم رطانة الأعجمية بتفوقهم الباهر في إمتحان الإبتدائية سنة 1950 - فقد تفوق أطفالنا في بطون القرى وبين ثنايا الكفور على زملائهم في عواصم المدن وأقاصي الثغور!! مع الفارق الكبير بين إعداد هؤلاء وهؤلاء في جميع النواحي الفنية والإجتماعية. . والوطن واحد وامواطن واحد!!
ولقد آمن معالي الوزير الخطير طه حسين باشا بالمعلم الأول في مصر وأصدر منذ إسبوعين قراراً وزارياً بتسمية المدارس الأولية الحالية (مدارس إبتدائية) - ولكن القانون الجديد للمرحلة الأولى أبقى اللغة الأجنبية في تلك المدارس. . مع أننا قرأنا في معظم الدول المتمدنة لا يتعلم الطفل في المدارس الإبتدائية غير لغته الوطنية. . وأما تعليم لغة أجنبية فيبدأ عادة بالمدارس الثانوية، وذلك مراعاة لمدارك الطفل في سنيه الأولى وعدم ' رهاق ذهنه. .
فهل ستكون لكلمة الأستاذ (عباس خضر) لدى معالي الوزير الوطني صداها؟
خورشيد عبد العزيز
إلى الشعراء:
إلى الأستاذ محمود غنيم، ومحمود حسن إسماعيل، ومحمد عبد الغني حسن، ومحمد الأسمر. إلى هؤلاء أولا ثم إلى بقية شعرائنا ثانياً. . إلى هؤلاء جميعاً أسوق هذه الكلمات لعلهم لم يسمعوا لأنهم يعيشون في المريخ، أو لعلهم قد سمعوا ولكنهم قد شغلوا عنا بروعة المناصب وسمر الليالي الملاح
يا شعراء النيل: إريقت في (القنال) دماء، وأزهقت في (الأسماعيلية) أرواح، وتمزقت في (بور سعيد) قلوب وأكباد، فثارت نفوس الشغب وفارت الدماء في عروقه وشرايينه، وسلت السيوف في أغمادها لحماية الأرواح الغالية والدفاع عن الحق المهضوم والعرض المنتهك، ونزل إلى ساحة الإستشهاد أبطال وأبطال، وهتف كل باللغة التي يعرفها، وتكلم الشعب بالمنطق الذي يجب أن يكون. . وفي غمار هذه الثورة المندلعة، والحماسة المتدفقة، والأصوات المجلجلة الرهيبة، أرهفنا آذاننا نريد أن نسمع صوت شاعر منكم. قد تجاوبت أصداء هذه المحنة في أنحاء نفسه وحنايا ضلوعه فهزت شاعريته بنشيد يردد أو قصيدة تغنى. . فما وجدنا غير الصمت والصمت العميق. .! إذن فأين تقال القصائد وفي أي مجال تلقى وتنشد؟. ياشعراء الوادي! إذا كان كفاح هذا الشعب في سبيل حريته غير كفيل بإثارة الشاعرية في نفوسكم وإلهاب عواطفكم ووجدانكم. فلا نطقت ألسن الشعراء في غير ذلك. .! ألا حيا الله صاحب (الرسالة). . لشد ما يرجع قلمه صدى صوت الجماهير الكادحة. والنفوس الأبية المكافحة. فيرسل كلمات صارخات تبض بالقوة وتفيض بالإيمان. . وبارك الله في أستاذنا (سيد قطب) مسعر هذه الثورة بقلمه، ومذكي أوارها بعزيمته وإخلاصه. . ورحم الله (علي محمود طه) ذلك الشاعر الخالد الذي إنبعث صوته في الأسبوع الماضي من العالم الآخر يبارك حهاد الأمة، ويمجد كفاح الشعب. . وصدق الأستاذ المعداوي حين قال: (واليوم حين تبلغ المعركة أوجها يتخلف عن الإنشاد شعراؤنا الأحياء. . ترى هل أنتم كما قال المعداوي!؟
هارون لمنيفي
كيف نشأ إمام المعبد
بينما كنت أتجول في صفحات الرسالة الغراء في العدد 958 وقع نظري على مقال للأستاذ (محمد رجب البيومي) تحت عنوان (محمد إمام العبد) ولما كنت أعهد في الأستاذ الفاضل رونق العبارة، وسلاسة الأسلوب، جعلت أمتع نظري بين سطور المقال مستهاماً بنفثة قامه البارعة
ونحن نشكره على هذه النفثة الجليلة التي أحيا بها تاريخ هذا الشاعر الحزين، الذي أرخى الدهر عليه ستاراً من النسيان
ولكن فاته شيء كان لزاماً عليه أن يذكره، كان يجب عيه أن يذكر نشأته الأولية، وهل هو أكتسب الأدب من طريق التعليم؟ أو بطريق آخر؟ أو ألهم هذا الفن، أو هل هذا في عرف الأدباء ليس بالشيء. .؟
ولما كان (إمام العبد) يكاد يكون مجهولاً، كان الأولى أن يكون المقال حافلاً بتاريخه مبتدئاَ من نشأته إلى نهايته. ليكون القارئ ملماً بتاريخه وأدبه. . .
وللأستاذ الفاضل شكري وإعجابي
محمد فتحي الجعلي
شوقي والرصاقي أيضاً
تحت هذا العنوان وفي تعقيبات صديقنا المعداوي بعدد الرسالة (953) أدهنا مقارنة أدباء العراق بين شوقي والرصافي وتقديم الثني على الأول كما أورد ذلك صديقنا الناصري
أنجبت مصر شوقي وحافظ ومع أنهما شاعران مصرييان فقد كاد الإجماع يكون منعقداً في مصر والأقطار العربية كلها على تقديم شوقي على حافظ ولم يشذ عن ذلك إلا فئة قليلة في مصر
وعندما رثي الزيات صديقه الرصافي - برد الله ثراه - في الرسالة الغراء غداة منعاه؛ أذكر أنه أعتبر خامس خمسة تكونت منهم (قيثارة الشعراء العربي الحديث) وإذا خانتني الظروف فعز علي أن أ ' ثر على ذلك العدد من الرسالة فلن تخونني الذاكرة في إستذكار ما قرره الزيات آنذاك. . حيث شبه أولئك الشعراء الخمسة الراحلين بأوتار القيثارة. فقارب
بين شوقي والزهاوي، وشابه بين حافظ والرصافي، وأفرد المطران، وتقسيم أستاذنا الزيات أدنى الأنصاف بحيث تكون المقارنة بين شوقي والزهاوي أكثر مناسبة منها بين شوقي والرصافي. نقول ذلك وإن منا لا نجد مبرراً لهذه المقارنة ولا مجال لها إلا لإذا وضعنا في الكفة المعادلة لكفة شوقي شاعراً كالمتنبي والمتنبي فقط، لا إبن الرومي ولا أبا تمام الذين زكاهما للمقارنة صديقنا المعداوي - مع تقديرنا لآرائه في النقد - ورحم الله شوقي القائل: -
ولي درر الأخلاق في المدح والهوى
…
وللمتنبي درة وحصاة
ثم لماذا ينجح إخواننا العراقيون إلى هذه الإقليمية البغيضة ويتهمون الرسالة وعهدنا بها منذ أن عرفناها لا تفرق بين أوطان العروبة، بل بعكس ذلك، فإن كتابها ينادون دائماً بإزالة هذه الفوارق الوهمية القائمة في بعض الأذهان! حبذا لو اعتبر العراقيون شوقي شاعرهم وشاعر الأقطار الشقيقة الأخرى قبل أن يكون شاعر مصر. . لأن الشوقيات تغنت بأمجاد تلك الأقطار أكثر من تغنيها بمجد مصر. ولعله من القوق لشوقي الذي أنكر الإقليمية في وطنه العربي الكبير أن ننظر إليها من زاويتها الضيقة المظلمة
جعفر حامد البشير
الدم القدس
للقصصي الشاب محمد أبو المعاطي أبو النجا
كان (صلاح) يستخفه الزهو أحياناً وهو يقطع الطريق من المدرسة إلى بيته، فيقفز في مرح طافر، أو يضرب بقدمه حجراً صغيراً في الطريق، أو يصفر بصوته اللين الغض لحن أغنية سمعها من (الراديو). . .
والواقع أن (صلاح) لم يشعر بالزهو مثلما شعر به اليوم. . لقد كان يتحرق شوقاً إلى مغادرة المدرسة منذ إنتهاء الحصة الأولى، أو بعبارة أدق منذ سجل الأستاذ في كراسته بقلمه الأحمر تلك العبارة الخالدة (حسن جداً). . . ولكنه لم يتمكن من الخروج. . ذلك أن عمي (متولي) البواب لا يسمح لأي تلميذ بالخروج قبل إنتهاء الحصة الأخيرة. . ولأن جسمه الغض اللين لا يساعده على تسلق سور المدرسة المرتفع. . . فكان عليه أن ينتظر ساعات وساعات حتى يدق الجرس الأخير. ولكن. . . ولكن جلبة تسمع في فناء المدرسة، وهتافات تخترق النوافذ المقفلة وتصل إلى إذنيه: يسقط الإستعمار الغاشم! يسقط الإنجليز الخونة. . . فيعرف بحكم العادة أنها مظاهرة. وبحكم العادة أيضاً يقفز فوق القماطر نحو باب الفصل الذي ضاق إذ ذاك بالتلاميذ المتزاحمين حياله. . . ثم يمضي في الفناء تجاه باب المدرسة المفتوح، ثم يلقي نظرة كلها تشف وشماتة إلى عمي (متولي) الذي لا يملك من أمر نفسه شيئاً أيام المظاهرات. . ثم يخرج إلى الشارع لا يلوي على شيء. . وما له هو وهؤلاء الطلبة المتجمهرون إزاء النصب التذكاري بالمدرسة؟ إته لا يكاد يفهم الكثير مما يقوله الطلبة الكبار وهم يخطبون، فهو لا يزال في الثانية الأبتدائية. . ثم ماذا يهمه من اإنجليز ما داموا لا يأخذون منه شيئاً ولا يحولون بينه وبين رغبة من رغباته، ولا بين أمنية من أمانيه؟
هو لا يفهم لماذا لا يفهم الطلبة بسقوطهم ما داموا لا يتعرضون لنا بالأذى؟ إنه يراهم يقطعون طرقات المدينة أحياناً في عرباتهم لا يكادون يتعرضون لأحد! ومهما يكن من شيء فهذا كله لا يهمه من قريب أو بعيد، حسبه أنه ألآن في الطريق إلى بيته. . وأنه ذاهب إلى أبيه. . وأنه سيقف أمامه مزهواً ويعرض عليه كراسته مشيرا ً في إعتزاز إلى تلك العبارة الحمراء التي تدفع به إلى صفوف التلاميذ النجباء. . وإذ ذاك يجد أن من حقه
أن يطالب أباه ببذلة جديدة؛ فهذا (الشورت) الأصفر وذاك القميص (الكاكي) لا يصلحان مطلقاً لطلبة السنة الثانية الأبتدائية، ثم هذه الريشة. . شد ما يسره أن يجد مكانها قلما من الأبنوس، فهذا وحده هو الذي يلائم السترة الجديدة. . ثم هذه الحقيبة التي صنعتها أمه من القماش ليحمل فيها الكتب. . إنها تكاد تكون الوحيدة بين حقائب التلاميذ الجلدية الفاخرة!
يا له من يوم ذلك الذي يلبس فيه السترة الجديدة وقد ظهر من جيبها طرف القلم الأبنوس وهو يحمل في يده الحقيبة الجلدية الفاخرة ويسير في خطوات مدلة بين التلاميذ!
وأسرع في خطواته حين رأى في الطريق رجلاً يشبه أباه إلى حد كبير حتى لقد ظنه إياه. . وحين إقترب منه أدرك أنه ليس أباه. . وتأكد من الفارق بين هذه الرجل وبين أبيه. . إن أباه يتميز بتلك الأبتسامة الحنون المشرقة التي ترف على ثغره حين يرى وحيده (صلاح)، وبتلك النظرة الحانية الرفيقة التي تزف إلى قلب صلاح أبهج المشاعر وأنضر الأحاسيس. .!
وشعر بسعادة خفية تتسرب إلى وجدانه حين تذكر أباه. . وراح في شرود لذيذ يستعرض بعض الصور في كتاب الذكريات. .!
أنه يذكر أن أباه أخذ مرة إلى المصنع الذي يعمل به، وأن مدير المصنع إستدعاه يومذاك إلى مكتبه، وأنه إصطحبه إلى المكتب. وحين خرجا معاً من مكتب المدير بادر صلاح أباه:
- أرأيت مكتب المدير يا أبي؟ إنه جميل. أرأيت صورة الملك المعلقة على الحائط؟. إنها كبيرة وأنيقة. . .
ويذكر أن أباه رد على تساؤله في صوت حنون حالم. . . أرجو أن أعيش حتى أتمم تعليمك وأراك موظفاً كبيراً تجلس إلى مكتب كبير. . . ثم تابع وهو يربت على كتفه. . . وفوق رأسك صورة للمليك! وهل في مقدوره أن ينسى تلك السهرات الجميلة في مقهى الدنيا الجديدة في أمسيات الجمع. . . لقد كان أبوه يصطحبه في تلك الأمسيات ليسهر معه؛ وإذ ذاك يشتري له من أنواع الحلوى وطرائف اللعب ما يشيع في نفس صلاح الغبطة والمسرة. . . حقاً إن أباه يحبه وأنه سوف يسر كثيراً حين يقرأ تلك العبارة الحمراء التي يحس صلاح كأنها تاج غير منظور يتألق على جبينه. . . وأسرعت خطواته حين إقترب من البيت. . . وقرر في نشوة خفية أن يقرأ تلك العبارة الحمراء إذا كان أبوه لم يحضر
بعد. . . لا شك هي الأخرى تسر ذلك. . . ولاشك أيضاً أنها سوف تكون عوناً له حين يطلب إلى أبيه ما يرغب من حاجات!
وأستغرقه شعور سعيد جعله يسير في هدوء كأنه يحلم. . . وأخيراً قدر له أن يستيقظ من حلمه. . . حلمه الجميل الذي حلق في سمواته بجناحي أبويه. . . كان ذلك حين تناهى إلى سمعه صوت صراخ وعويل. . . وحين تنتبه إلى أن هذا الصراخ والعويل إنما ينبعثان من داره. . . وحين أدرك في هذه الأصوات الجازعة صوت أمه!
جمدت قدماه فلم يستطيع أن يدرك ماذا حدث، ولا أن يفهم ماذا هناك!!
كانت هناك جموع حاشدة من الناس تهرع نحو الدار، وكان بين تلك الجموع رجال الإسعاف والبوليس، ومع ذلك فلم يستطيع صلاح أن بنقل قدميه خطوة واحدة تجاه البيت. . . كان بشعر بإعياء شديد يتسرب إلى حناياه وأوشكت جموع الناس المتزاحمة أن تلقي به إلى الأرض لولا أن يداً رفيقة تمتد إليه، ووجهها رحيماً يعطف عليه. . ويأخذ بيده من وسط الجموع المتدافعة. . . ولم ينظر إلى صاحب الوجه الرحيم حتى عرف فيه عم (فهمي) زميل أبيه في المصنع وجليسه في المقهى. . . لقد أنتحى به مكاناً خالياً وأنهى إليه في إشفاق بالغ أن أباه قد مات. . . قتله الإنجليز برصاصهم حين كان يهتف مع العمال المتظاهرين. . . ليسقط الإستعمار. . . لتسقط إنجلترا. . . وأنه كان معه حين لقى ربه. . . وأنه أوصاه عليه قبل أ، يلفظ النفس الأخير. . وراح يؤكد له وهو يجفف دموعه بمنديل أنه سيكون له مكان أبيه!
أما (صلاح) الصغير فقد لفه الصمت في غلائم الوجوم، وأنتابه ذهول غريب جعله لا يدرك الأشياء من حولهإلا
بالقدر الذي أدركها بها محموم أمضه المرض وأنهكه الألم، وقضى شهوراً طريح الفراش. . .!!
وظل هذا الذهول الحاد الذي كان له بمثابة المخدر الذي يحقن به المريض قبل إجراء جراحة له. . . ظل هذا الذهول مهيمناً عليه. . . إلى أن ترامى إلى مسمعه صوت مألوف لديه. . . صوت زملائه الطلبة وقد توافدت جموعهم نحو بيت الشهيد المصري الأول وهم يهتفون بصوت رهيب (إلى الجنة يا روح الشهيد الطاهرة. . وإلى الجحيم يا أوباش
الأرض وحثالة الأمم)
ألم تكن محموماص يوماً وأفقت من هذيان الحمى حين لامست أنامل الطبيب الباردة جبينك المحرور. . . وكانت تلك هي حال صلاح حين أفاق من ذهوله الحاد وصوت زملائه الكبار يعلو كالزئير. . .! وبدأ يشعر بالأشياء كما هي. . أدرك أن أباه قد مات. . . وأنه كان يهتف لمصر حين إنطلقت رصاصة غادرة تحاول بصوتها البشع أن تسكت صوت أبيها الجميل. . .!
وبدأ قلبه الصغير يستقبل المشاعر والأحاسيس ظاهرة واضحة لا يكتنفها الذهول والغموض. . . أجل كانت ظاهرة واضحة كأنها النار. وكانت لاذعة حارة كأنها الشوك. . .
وبدأ جسمه الصغير يتلوى في قبضة المشاعر، والأحاسيس. .!. . . أوه. . . إنه الآن يشعر شعوراً مريراً بأن هؤلاء الأنجليز. . . وحوش قذرة. . . أجل لأنهم قتلوا أباه في حين إن الوحوش الأخرى الكثيرة التي تملأ الحقول والصحاري والكهوف لم تحاول أن تقتله! وبأنهم لصوص حقراء. . لأنهم سرقوا منه البذلة الجديدة والقلم الأبنوس والحقيبة الجلدية الفاخرة. . وسرقوا منه أيضاً. . السهرات الجميلة في مقهى الدنيا الجديدة، والأمل الحلو النضير الذي أنعشه أبوه في خياله. . الأمل الذي يرى فيه نفسه موظفا ً كبيراً يجلس إلى مكتب كبير
إن هؤلاء اللصوص لم يسرقوا منه كل ذلك فحسب؛ بل سرقوا شيئاً آخر. وهنا إرتجفت أنامله الصغيرة وإرتعش جسده الغض. . شيئاً آخر لا يدري كيف يعيش بدونه هو تلك الإبتسامة الحنون المشرقة التي كانت ترف على ثغر أبيه حين يلقاه، وتلك النظرة الحانية الرفيقة التي كانت تزف إلى قلبه أبهج المشاعر وأنضر الأحاسيس
أجل تلك الأبتسامة وتلك النظرة التي ألفها منذ أن كانت طفلاً في المهد. . ألفها حتى إقترن شكلها الخاص وطابعها المتميز بكل ما يحسه من ألوان الغبطة والسعادة. .!
أجل تلك الأبتسامة وتلك النظرة لا هذه البسمات ولاهاته النظرات التي يحاول عمي (فهمي) أن يخرجه بها عن أساه المرير. .!
وأحس (صلاح مع تلك المشاعر كلها بشعور آخر ليس بمقدوره أن يتجاهله. . بل ليس في
مقدور مشاعره الأخرى أن تطغى عليه. . شعور بالخجل من نفسه ومن أفكاره التي صحبته بعض الطريق عن الإنجليز
وأخيراً تختلط تلك المشاعر كلها وتندمج وتستحيل إلى شعور آخر. شعور بالحقد المدمر والغيظ الخانق والكراهية الطاغية لتلك الوحوش القذرة واللصوص الحقراء الذين يسمونهم الإنجليز!
هذا الحقد الذي برق في عينيه الصغيرتين حاداً كأنه الشرر. . وتلك الكراهية التي أحالت ملامح وجهه الطفلة إلى غضون وشجون! وتمنى من أعماقه لو يكبر فجأة. . يصير رجلاً كهؤلاء الناس قوي الساعد مفتول العضل. . إذن لذهب من فوره وذبح الإنجليز واحداً واحداً كما تذبح الأرانب. .!
ومن جديد يضعف الجسد الصغير أمام المشاعر الثائرة التي عصفت به فيعتريه ذهول رهيب، ويلفه الصمت في غلائل الوجوم!!
وفي صباح اليوم التالي وفي فناء المدرسة يتجمهر الطلبة لدى النصب التذكاري ليقرروا الخطوات العملية التي يجب أن يخطوها تجاه المجد المنشود! وفجأة يغرق اللغط والضجيج في موجة الصمت التي إكتسحت فناء المدرسة حين فوجئ الطلبة بتلميذ صغير يقف حيث تعود خطباؤهم أن يقفوا. . وأرهفت الطلبة آذانهم حين إرتفع صوت صلاح. وقد إنبعث من عينيه ذلك البريق الحاد الذي يشبه الشرر، وشاعت في وجهه تلك الكراهية الطاغية التي تحيل ملامحه الطفلة إلى غضون وشجون. . حين إرتفع صوته بهذه الكلمات. . - إخواني. .: إن الإنجليز الوحوش قتلوا أبي. . قتلوه بالرصاص. . وأنا أريد اليوم أن تأتوا معي لنقتلهم كلهم. . . كلهم. . . وشرقت نبراته بالدموع ولم يعد في مقدوره أن يقول شيئاً. . وسالت دموعه لا على وجهه فحسب بل على مئات الوجوه التي كات تتطلع إليه في لهفة وجنون!!
وفجأة تجمدت تلك الدموع في العيون ولم تعد تنهمر. . وإنما إستحالت إلى حقد مدمرعنيف. . وتحد قوي صارخ. .!
ألم تذهب يوماً إلى حديقة الحيوان وترى (نمراً) ألح عليه أحد الزوار بما يستثير الغضب. .؟ لقد إستحال مئات الطلبة إلى نمور متوثبة تشع عيونهم بما يشبه الشرر. وتغي صدورهم
بما يشبه النار. . وكان ذلك الشرر المدمر أو تلك النار المحرقة هي النبات الطيب الذي تفتحت عنه أرض مصر حين إرتوت من ذلك الدم الذي أريق بالأمس. . ذلك الدم المقدس. .!!
محمد أبو المعاطي أبو النجا