الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 96
- بتاريخ: 06 - 05 - 1935
بنك مصر
غداَ في الساعة الخامسة يبدأ الاحتفال القومي بمرور خمسة عشر عاما على مولد بنك مصر. والاحتفال بعيد هذا البنك النامي الخصيب احتفال بالنصر المؤزر في جهاد الأمة لاستقلالها الحق؛ فإن مصر منذ انحسر عن الأرض ذلك الطوفان الدموي الذي غمرها أربع سنين، هبت تقرر في الدول وجودها الطبيعي الحر، فما صغت لها إذن، ولا نهضت بحجتها عدالة. ذلك لأن أوربا الجائعة المجهودة تريد أن تسد فجوات القنابل وحفائر الخنادق وأخاديد القبور بما بقي على الأحداث من أقوات الشرق؛ والشرقي - كما تعلم - يستطيل بالكرم ويستعز بالجاه، فما دمت تحله الصدر، وتبوئه الوظيفة، فلا عليه بعد ذلك أن يكون كرسيه بالاستعارة، ومأكله بالدين، ومسكنه بالأجرة!
حمل المنتجون العجاف من أهل أوربا ثمر نشاطهم الصناعي إلى أسواقنا القاصرة المستهلكة، وقاموا على أرزاقنا مقام القيم يبِضُّون لنا بما لا يكاد يستر الجسم ويمسك الرمق، ثم يحولونها عمرانا في خرائب باريس، وسلطاناً في حكومة لندن، ويسمعوننا نثور في المحابر ونصيح على المنابر، فيقولون اكتبوا ما واتى المداد القلم، وأخطبوا ما أسعف الريق اللسان، فلن ينزع العلق خراطيمه الماصة من الجلد مادامت الجنود مقبورة في الثكنات، والأموال مطمورة في الخزائن! حينئذ قال رجل الساعة محمد طلعت حرب باشا: رويدكم! سنرسلها شعواء بالذهب لا بالحديد!
كانت مصر في العهد الذي أسس فيه بنك مصر في مأزق من مآزق الحياة المشتبهة الخادعة: تنعم في رخاء كاذب وأمن مريب، ووراءها أوزار حرب ضروس، وأمامها لوائح أزمة طاحنة، وشباب البلاد تعصف في رءوسهم نخوة الوطنية والحرية والكرامة، فلا يفكرون إلا في الإحتلال، ولا يعملون إلا للسياسة؛ وأغنياء الأمة جاثمون على أموالهم المكدسة جثوم الدجاجة المرخم على بيضها العقيم، لا يُثمِّرونه بأنفسهم لنقص الكفاية، ولا يكلون استثماره لغيرهم لفقد الثقة؛ ورجال الدولة مشغولون بجباية الخراج، وتحضير الميزانية، واستئناف المفاوضات، وتحرير مشروعات المعاهدة، فلا يملكون حماية التجارة لقيود الجمرك، ولا يستطيعون إنشاء الصناعة لمناوأة المحتل؛ والأجانب عاكفون على منابع الوادي يستنزفونها بالربا، ويكدرونها بالسفه، ثم لا يسمحون للظمآن أن يألم، ولا للمهان أن يغضب
وكانت عناية الله التي ألهمت سعد زغلول أن يخرج شعبه من رق الاحتلال السياسي، هي التي ألهمت في الوقت نفسه طلعت حرب أن يخرج قومه من رق الاحتلال الاقتصادي؛ وكلا الرجلين منذ نشأ ميسر لما قام له: فسعد باشا بطبعه رجل كفاح وخصومه وزعيم برلمان وحكومة، ورسول من رسول الوطنية الروحية، له عصمته وجاذبيته وإيمانه؛ وطلعت باشا بطبعه رجل إنشاء وعمل، وصاحب تدبير وخطة، ورسول من رسل الوطنية المادية، يهذب النفس برفاهة الجسم، ويرفع العمران بوفرة الإنتاج، ويضمن الاستقلال بقوة الثروة، وله كذلك عبقريته ونزاهته وإخلاصه
وثق الناس بالزعيمين الخطيرين فجادوا للأول بالأنفس فشاد بيت الأمة، وكون الرأي العام، وألف الوفد؛ وجادوا للثاني بالأموال، فشاد بنك مصر، وأنشأت شركات مصر، وكوّن ثروة مصر؛ وربى سعد باشا لوطنه شباب جهاد وتضحية، كانوا منه مكان القلب الشاعر، والحس المدرك، والروح الملهم؛ وربى طلعت باشا لشعبه شباب اقتصاد وروية، كانوا منه مكان البصيرة الحازمة، واليد العاملة، والعقل المنظم؛ ثم كان من هؤلاء وهؤلاء دليل ناهض على يقظة هذه الأمة وشعورها بإرادتها لما تفعل، وسيادتها على ما تملك، وحريتها فيما تريد
لا أستطيع بهذا القلم الموجز في هذا المكان المحدود أن اجمل ما أضفاه بنك مصر وشركاته ومنشآته من النعمة على الأمة؛ وإن في تقرير مجلس الإدارة الذي نشر منذ أيام عن السنة الخامسة عشرة من حياة البنك، والخطبة الخطيرة الذي سيلقيها المدير الجليل في احتفال الغد عن حياة البنك، لبلاغاً لمن لم يسمع إلى اليوم ذلك اللحن القومي القدسي الذي يتألف من صريف الأموال المصرية في البنك، وهدير البواخر المصرية في البحر، وأزيز الطوائر المصرية في الجو، ودوي المصانع المصرية في المحلة!
إن نجاح بنك مصر وشركاته هو وحده الحجة الدامغة على نضوج هذا الشعب، لأنه نسق من الضرورة والقدرة والنظام والثقة لا يقوم على الهوى، ولا ينتظم على الطيش، ولا يصبر على الفساد، ولا يتقدم على العجز، ولا يبلغ شيئا وراء الزعامة الرخوة؛ فبينما نجد النهضة السياسية تنتكس فترجع إلى الموت، والحالة الأخلاقية تنحل فتعود إلى المهانة، والحركة الأدبية تضطرب فتنقلب إلى الفوضى، نجد هذا البنك ينمو نمو النبات بَرَكة على
بَرَكة، ويتضاعف تضاعف الحياة شركة بعد شركة، ويجذب الوجود المصري معه إلى السبيل التي يأمن فيها الفناء، ويخرج منها إلى العافية!
أحمد حسن الزيات
الانتحار
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال المسيب بن رافع: وقام الشعبي إلى رجل فأعتنقه فرحا بما آل أمره إليه، بعد إذ رأى النور يجري على لونه ويترقرق في ديباجته؛ كأنما وقع الصلح بين وجهه وبين الحياة. ثم قال له: نِعمَ أخو الإسلام أنت، فاستعذ بالله من خذلانه، فإنه ما خذ لك إلا وضعك نفسك بازاء الله تعارضه أو تجاريه في قدرته، فيكلك إلى هذه النفس، فتنتهي بك إلى العجز، وينتهي العجز بك إلى السخط؛ ومتى كنت عاجزا ساخطا، محصورا في نفسك، موكولا إلى قدرتك - كنت كالأسد الجائع في القفر، إذا ظن أن قوّته تتناول خلقَ الفريسة؛ فيدعو ذلك إلى نفسك اليأس والانزعاج والكآبة، وأمثالها من هذه المهلكات تقدح في قلبك الشك في الله، وتثبت في روعك شرَّ الحياة، وتهدي إلى خاطرك حماقات العقل، وتقرر عندك عجز الإرادة؛ فتنتهي من كل ذلك ميِّتا قد أزهقتك نفسك قبل أن تزهقها!
ولو كنت بدل إيمانك بنفسك قد آمنت بالله حق الإيمان - لسلطك الله على نفسك ولم يسلطها عليك؛ فإذا رمتك المطامع بالحاجة التي لا تقدر عليها، رميتها من نفسك بالاستغناء الذي تقدر عليه؛ وإذا جاءتك الشهوات من ناحية الرغبة المقبلة، جئتها من ناحية الزهد المنصرف؛ وإذا ساورتك كبرياء الدنيا أذللتها بكبرياء الآخرة.
وبهذا تنقلب الأحزان والآلام ضروباً من فرح الفوز والانتصار على النفس وشهواتها، وكانت فنوناً من الخذلان والهمّ؛ وتعود موضع فخر ومباهاة، وكانت أسباب خزي وانكسار. وعزيمة الإيمان إذا هي قويت حصرت البلاء في مقداره، فإذا حصرته لم تزل تنقص من معانيه شيئاً شيئاً؛ فإذا ضعفت هذه العزيمة جاء البلاء غامراً متغشياً يجاوز مقداره بما يصحبه من الخوف والروع، فلا تزال معانيه تزيد شيئاً شيئاً بما فيه وبما ليس فيه.
وللإيمان ضوء في النفس ينير ما حولها - فتراه على حقيقته الفانية وشيكا أن يزول؛ فإذا انطفأ هذا الضوء انطمست الأشياء فتتوهمها النفس أوهاما متباينة على أحوالها المختلفة: كما يرى الأعمى يوهمه؛ لاعينه مع الأشياء تكون في طبيعتها، ولا أشياؤه عند عينه تكون في حقيقتها.
قال المسيب: وكانت الشمس قد طفلت للمغيب؛ فقال الأمام للرجل: قم فتوضأ وأسبغ
الوضوء، وسأعلمك أمرا تنتفع به في دينك ودنياك: فإذا قمت إلى وضوئك فأيقن في نفسك واعزم في خاطرك على إن في هذا الماء سرا روحانيا من أسرار الغيب والحياة، وأنه رمز للسماء عندك، وانك إنما تتطهر به من ظلمات نفسك التي امتدت على اطرافك؛ ثم سمِّ الله تعالى مفيضاً أسمه القادر الكريم على الماء وعلى نفسك معاً، ثم تمثل انك غسلت يديك مما فيهما ومما تتعاطاه بهما من أعمال الدنيا، وأنك أخذ فيهما من السماء لوجهك وأعضاءك؛ وقرر عند نفسك أن الوضوء ليس شيئاً ألا مسحةً سماوية تسبغها على كل اطرافك، ليشعر بها جسمك وعقلك؛ وانك بهذه المسحة السماوية تستقبل الله في صلاتك سماوياً لا أرضيا.
فإذا أنت استشعرت هذا وعملت عليه وصار عادةً لك، فإن الوضوء حينئذ ينزل من النفس منزلة الدواء، كلما اغتنمت أو تكرهت أو تسخطت، أو غشيك حزن أو عرض لك وسواس؛ فما تتوضأ على تلك النية إلا غسلت الحياة وغسلت الساعة التي أنت فيها من الحياة وترى الماء تحسبه هدوءاً ليناً لين الرضا وإذا هو ينساب في شعورك وفي أحوالك جميعا.
قال المسيب: وقمت أنا فجددت وضوئي على هذه الصفة في تلك النية؛ فإذا أنا عند نفسي مستضيئ بروحٍ نجميةٍ لها إشراق وسناء، وإذا الوضوء في أضعف معانيه هو ما علمنا من أنه الطهارة والنظافة، أما في أقوى معانيه فهو إفاضة من السماء فيها التقديس والتزكية وغسل الوقت الإنساني مما يخالطه كلما مرت ساعات وابتداؤه للروح كالنبات الأخضر ناضراً مطلولاً مترطباً بالماء.
ثم صلى بنا الشيخ وأمرني بالمبيت مع الرجل، كأنما خشي البدوات أن تبدو له فتنقض عزمه، أو كأن الشيخ لم يأمن على الرجل أن يكون إنسانه الروحي قد تنبه بأكمله فوضعني كالتنبيه له.
وجاءنا العشاء من دار الشيخ فطعمنا، ثم قام الرجل فتوضأ وصلينا العتمة وجلسنا نتحدث، فاستنبأته نبأه، فقال: مهلاً، ثم نهض فتوضأ الثالثة وقال: تالله ما أعرف الوضوء بعد اليوم إلا ملامسةً بين السماء والنفس. وما أعرف وقته من الروح إلا كساعة الفجر على النبات الأخضر.
قال المسيب: أتصبحنا فغدونا على الامام؛ ثم لزمني الرجل في بعض أموري، ثم وافينا
المسجد صلاة العصر لحضور درس الشيخ؛ وكان الناس كالحب المتراصف على العنقود لا أدري من ساقهم وجمعهم؛ كأنما علمت الكوفة أن رجلاً مسلماً كفر بالله كفرة صلعاء، وأنه سيحضر درس الشيخ وسيحضر الشيخ من أجله، فهبت الرياح الأربع تسوق أهلاها إلى المسجد من أقطارها.
وجلس الشيخ مجلس الحديث فقال:
روينا أن رجلاً كانت به جرأحة، فأتى قرناً له فأخذ مشقصاً فذبح به نفسه؛ فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وترك جنازته مطرودةً تقتحم متلفة الآخرة كما اقتحمت متلفة الدنيا!
روينا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار، والذي يقتحم يقتحم في النار!.
روينا عنه صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة!)
روينا عنه صلى الله عليه وسلم قال: (كان رجلا به جراح فقتل نفسه، فقال الله: بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة!).
قال الشعبي: يقول الله: (بدرني عبدي بنفسه) أي بدرني وتأله في أخر أنفاسه لحظة ينقلب الي، فكان مع ظلمه مغرورا أحمق!.
بدرني وتأله حين ضاق، فهور نفسه في الموت من عجزه أن يمسكها في الحياة، فكان عاجزا مع ظلمه وغروره وحمقه!
بدرني وتأله على جهله بسر الحياة وحكمتها، فلم يستح هذا المخلوق الظالم المغرور في حمقه وعجزه وجهله - لم يستح أن يجيئني في صورة إله!
بدرني وتأله، فطبع نفسه طابعها الأبدي من غي وتمرد وسفاهة، وأرسلها إلى مقتولة يردها علي
بدرني وتأله، كأنما يقول: أن له نصف الأمر ولي النصف، أنا أحييت وهو أمات. . .!
بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة!
قال الشعبي: وإنما تحرم الجنة على من يقتل نفسه، إذ ينقلب إلى الله وعلى روحه جناية يده ما تفارقها إلى الأبد؛ فهو هناك جيفة من الجيف مسمومة أبدا، أو مخنوقة أبدا، أو
مذبوحة أبدا، أو مهشمة أبدا، يقول الله له: أنت بدرتني بنفسك، وجريت معي في القدر مجرى واحدا، فستخلد نفسك في الصورة التي هي من عملك، وما قتلت ألا حسناتك.
قال الشعبي: ولو عرف قاتل نفسه أنه سيصنع من نفسه جيفة أبدية، فمن ذا الذي يعرف أنه إذا فعل كذا وكذا تحول حمارا وبقي حمارا فيرضى أن يتحول ويسرع ليتحول؟
من ذلك نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة ذلك الرجل الذي قتل نفسه كما ينظر إلى ذبابة توجهت بالسب إلى الشمس والكواكب والأفلاك كلها، ثم جاءته تقول له: اشهد لي.
قال الشيخ: ومم يقتل الإنسان نفسه؟ أما إن الموت آتٍ لا ريب فيه ولا مقصر لحي عنه، وهو الخيبة الكبرى تلقى على هذه الحياة، فما ضرر الخيبة الصغيرة في أمر من أمور الدنيا؟
أن المرء لا يقتل نفسه من نجاح بل من خيبة؛ فإن كانت الخيبة من مال فهي الفقر أو الحاجة، وان كانت من عافية فهي المرض أو الاختلال؛ وإن كانت من عزة فهي الذل أو البؤس، وان كانت مما سوى ذلك - كالنساء وغيرهن - فهي العجز عن الشهوة أو التخيل الفاسد
وليس يخيب الإنسان إلا خيبة عقل أو ارادة، والا فالفقر والحاجة، والمرض والاختلال، والذل والبؤس، والعجز عن الشهوة وفساد التخيل - كل ذلك موجود في الناس، يحمله أهله راضين به صابرين عليه، وهو الغبار النفسي لهذه الأرض على نفوس أهلها، ويا عجبا أن العميان هم بالطبيعة اكثر الناس ضحكا وابتساما وعبثا وسخرية؛ أفتريدون أن تخاطبكم الحياة بأفصح من ذلك؟
ليست الخيبة هي الشر، بل الشر كله في العقل إذا تبلد فجمد على حالة واحدة من الطمع الخائب، أو في الإرادة إذا وهنت فبقيت متعلقة بما لم يوجد. أفلا ترون أنه حين لا يبالي العقل ولا الإرادة لا يبقى للخيبة معنى ولا أثر في النفس، ولا يخيب الإنسان حينئذ بل تخيب الخيبة نفسها؟
لهذا يأبى الإسلام على أهله الترف العقلي والتخيل الفاسد، ويشتد كل الشدة في أمر الإرادة؛ فلا يترخص في شيء يتعلق بها، ولا يزال ينميها بأعمال يومية تشد منها لتكون رقيبة على
العقل حارسة له، فإن للعقل أمراضا كثيرة يطيش فيها درجات من الطيش حتى يبلغ الجنون أحياناً؛ فكانت الإرادة عقلا للعقل؛ هل لينة إذا تصلب، وهي حركته إذا تبلد، وهي حلمه إذا طاش، وهي رضاه إذا سخط
الإرادة شيء بين الروح والعقل، فهي بين وجودين؛ ولهذا يكون بها الإنسان بين وجودين أيضا، فيستطيع إن يعيش هو في الدنيا كالمنفصل عنها، إذ يكون في وجوده الأقوى، وجود روحه، وأكبر همه نجاحه في هذا الوجود
وهذا النجاح لا يأتي من المال، ولا تحققه العافية، ولا تيسره الشهوات، ولا ينسيه التخيل الفاسد؛ ولا يكون من متاع الغرور، ولا مما عمره خمسون سنة أو مائة سنة، بل يأتي مما عمره الخلود، ومما هو باق أبدا في معانيه من الخير والحق والصلاح. فههنا يعين المرض بالصبر عليه مالا تعين الصحة، ويفيد الفقر بحقائقه ما لا تفيد الثروة؛ وهنا يكون العقل الإنساني عاملا اكثر مما هو متخيل، وقانعا اكثر مما هو طامع، وههنا لا موضع لغلبة الشهوة، ولا كبرياء النفس، ولا حب الذات؛ وهذه الثلاث هي جالبة الشقاء على الإنسان حتى في أحوال السعادة، وبدونها يكون الإنسان هانئا حتى في أحوال الشقاء
بالإرادة المؤمنة القوية ينصرف ذكاء المؤمن إلى حقائق العالم وصلاح النفس بها، وبغير هذه الإرادة ينصرف الذكاء إلى خيال الإنسان وفساد الإنسان
وإذا انصرف الذكاء إلى حقائق الدنيا كان العقل سهلا مرنا مطواعا، واستحال عليه أن يفهم فكرة قتل النفس أو يقرًّها؛ فإن هذه الفكرة الخبيثة لا تستطرق إلى العقل إلا إذا تحجر وانحصر في غرض وأحدٍ قد خاب وخابت فيه الإرادة ففرغت الدنيا عنده
ولو أن أمرا أتم عزمه على قتل نفسه ثم صابر الدنيا اياما، لانفسخ عزمه أو رك، إذ يلين العقل في هذه المدة نوعا ما، ويجعل الصبر بينه وبين المصيبة مسافة ما، فتتغير حالة النفس هونا ما. فالصبر كالتروح بالهواء على العقل الذي يكاد يختنق من احتباسه في معنى وأحد مقفل من جوانبه. ومثل العقل في هذه الحال مثل القائم في إعصار لفه بالتراب لفاً وسد عليه منافذ الهواء، وحبسه في هذا التراب الملتف حبس الحشرة في جوف القصبة؛ فهو على اليقين أنها حالة ساعة طارئة في الزمن لا حالة الزمن؛ وأن الهواء الذي جاء بهذا الهم هو الذي يذهب بهذا الهم
وكما أن الأرض هي شيء غير هذا الإعصار الثائر منها، فالحياة كذلك هي أمر أخر غير شقائها
قال الإمام: وفي كتاب الله آيتان تدلان على أنه كتاب الدنيا كلها، إذ وضع لهذه الدنيا مثالين: أحدهما المثال الروحي للفرد الكامل، والأخر المثال الروحي للجماعة الكاملة
أما الآية الأولى فهي قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر.)
واما الثانية فهي قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.)
ففي رجاء الله واليوم الأخر يتسامى الإنسان فوق هذه الحياة الفانية، فتمر همومها حوله ولا تصدمه، إذ هي في الحقيقة تجري من تحته فكأن لا سلطان لها عليه؛ وهذه الهموم تجد في مثل هذه النفس قوى بالغة تصرفها كيف شاءت، فلا يجيء الهم قوة تسحق ضعفا، بل قوة تمتحن قوة أخرى أو تثيرها لتكون عملا ظاهرا يقلده الناس وينتفعون منه بالأسوة الحسنة، والأسوة وحدها هي علم الحياة
وقد ترى الفقير من الناس تحسبه مسكينا، وهو في حقيقته أستاذ من أكبر الأساتيذ يلقي على الناس دروس نفسه القوية
وفي رجاء الله واليوم الأخر يبطل أكبر أسباب الشرَّ في الناس، وهو نظر الإنسان لمن هو أحظى منه بفتنة الدنيا نظرا لا يبعث ألا الحقد والسخط، فينظر المؤمن حينئذ إلى ما في الناس من الخير والصلاح والإيمان والحق والفضيلة، وهذه بطبيعتها لا تبعث ألا السرور والغبطة، ومن جعلها في تفكيره ابطل اكثر الدنيا من تفكيره؛ وبها تسقط الفروق بين الناس عاليهم ونازلهم؛ كالرحل الفقير العالم إذا قدم على الغني العالم؛ جمع بينهما الاتفاق العقلي وسقط ما عداه
وفي رجاء الله واليوم الأخر يعيش الإنسان عمره الطويل أو القصير كأنه في يوم يصبح منه عاديا على الحشر والحساب؛ فهو متصل بالخلود غير معنى إلا بأسبابه؛ وبهذا تكون أمراضه وآلامه ومصائبه ليست مكاره من الدنيا، بل هي تلك المكاره التي حفت الجنة بها؛ ولا يضره الحرمان لأنه قريب الزوال، ولا يغره المتاع لأنه قريب الزوال أيضا
وفي رجاء الله واليوم الأخر يسود الإنسان على نفسه؛ ومن كان سيد نفسه كان سيد ما
حولها يصرفه بحكمه، ومن كان عبد نفسه صرفه بحكمه كل ما حوله
قال الشعبي: وأما المثال الروحي للجماعة الكاملة، فهو في وصف المؤمنين بأنهم (رحماء بينهم) فهذا هذا، ما أحسبه يحتاج إلى بسط وبيان
إن اكثر ما يضيق به الإنسان يكون من قبل من حوله ممن يعايشهم ويتصل بهم لا من قبل نفسه، فإذا قام اجتماع أمة على أنهم (رحماء بينهم) تقررت العظمة النفسية للجميع على السواء؛ ومن كانوا كذلك لم يحقروا الفقير بفقره ولم يعظموا الغني لغناه، وإنما يحقرون ويعظمون لصفات سامية أو حقيرة. وبين هؤلاء يكون الفقير الصابر أعظم قدرا من الغني الشاكر، وأعظام الناس لفضيلة الفقير هو الذي يجعل فقره عند نفسه شيئا ذا قيمة في الإنسانية
ومتى تصححت آراء الجماعة في هذه المعاني المؤلمة للناس بطل المها واستحالت معانيها، وصار لا يبلي معنى من معاني الحياة في إنسان ألا وضع إيمانه معنى جديدا في مكانه، وتصبح الفضيلة وحدها غاية النفس في الجميع؛ وبذلك يصبر الفرد على مصائبه، لا بقوته وحده ولكن بجميع القوى التي حوله. أفلا ترون إن إعجاب الناس بالشجاعة وتعظيمهم صاحبها يضع في ألم السلاح لذة يحسها لحم الشجاع البطل؟
قال المسيب بن رافع: فقام رجل من المجلس. فقال: أيها الشيخ، وإذا فسد الناس وغلظت قلوبهم، وتقطعت بينهم الأسباب، ولم يعودوا (رحماء بينهم)، وشمتوا بالفقير، وتهزءوا بالمبتلى وطرحوه في ألسنتهم كما يطرح الشاعر في لسانه رجلا يهجوه لا يكف عنه - فما عسى أن يصنع المسكين حينئذ وكل شيء يدفعه إلى قتل نفسه؟
وقال الشعبي: ها هنا الرجاء في الله واليوم الأخر، وهو شعور لا يشترى بمال، ولا يلتمس من أحد، ولا يعسر على من أراده؛ والفقير المبتلى وغيرهما إنما يصنع كل منهم مثاله السامي؛ فالصبر على هذا العنت هو صبر على إتمام المثال، وإذا وقع ما يسوؤك أو يحزنك فابحث فيه عن فكرته السامية، فقلما يخلو منها، بل قلما يجيء إلا بها
قال المسيب: فقام أخر فقال: وكيف يصنع أمرؤ آلت به أحوال الدنيا إلى ما يخيفه، أو بلغ الهم مبلغه من قلبه فهم أن يقتل نفسه؟
قال الشعبي: فليجعل الخوف خوفين: أحدهما خوفه عذاب الله خالدا مخلدا فيه أبدا؛ فيذهب
الأقوى بالأضعف.
وإذا ابتلى فليضم إلى نفسه من هو اشد بلاء منه؛ ليكون همه أحد همين، فيذهب الأثقل بالأخف
إن الإنسان ونفسه في هذه الحياة كالذي أعطى طفلا نزقاً طياشاً عارماً متمرداً، ليؤدَّبه ويحكم تربيته وتقويمه، فيثبت بذلك أنه أستاذ، فيعطي اجر صبره وعمله، ثم يضيق الأستاذ بالطفل ساعة فيقتله. أكذلك التأديب والتربية؟
(لهذا المجلس بقية)
مصطفى صادق الرافعي
عصر الخلفاء في مصر الإسلامية
5 -
الحاكم بأمر الله
للأستاذ محمد عبد الله عنان
ولم تقتصر سياسة الحاكم الدينية على هذه الناحية من اضطهاد النصارى واليهود، ولكنها كانت تتناول الناحية الإسلامية أيضا، بكثير من الأحكام والأوامر الشاذة. وقد كانت الخلافة الفاطمية تحكم في مصر شعبا لا يتبعها من الوجهة المذهبية، وكان العمل على تدعيم هذه الصبغة المذهبية أهم عناصر سياستها الدينية؛ وقد حذا الحاكم في ذلك حذو أبيه العزيز وجده المعز، وعمل لبث الدعوة الفاطمية في قوة وجرأة ولكن في نوع من التناقض أيضا؛ ففي سنة 395هـ، أمر بسب السلف (أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية. . . الخ)، وكتب ذلك على أبواب الجوامع والمساجد والمقابر والحوانيت، وأرغم الناس على المجاهرة به ونقشه في سائر الأماكن. وفي نفس العام انشأ الحاكم دار الحكمة لتنظيم الدعوة وبثها بطريقة منظمة؛ وسنعود للكلام عنها في فصل خاص. وكان سب السلف مظاهرة شيعية عملية، ولكن سخيفة مبتذلة؛ فلم يلبث أن ضج الشعب لهذا الاجتراء المثير، وألغى المرسوم (سنة 97) وشدد في هذا المنع فيما بعد، وعوقب المخالفون بالضرب والتشهير. وفي سنة 398هـ صدر مرسوم يقرر بعض الأحكام الدينية ويفسرها، على أثر ما وقع بين الشيعة وأهل السنة من خلاف وشغب على فهم بعض الأحكام وتطبيقها؛ وهو مرسوم يشف عن روح العصر، ويحمل طابع التوفيق بين المذهبين، وإليك نصه بعد الديباجة:
(أما بعد فإن أمير المؤمنين يتلو عليكم آية من كتاب الله المبين، لا إكراه في الدين. . . مضى أمس بما فيه، وأتى اليوم بما يقتضيه؛ معاشر المسلمين نحن الائمة، وأنتم الأمة. . . من شهد الشهادتين. . . ولا يحل عروة بين اثنين، تجمعهما هذه الأخوة، عصم الله بها من عصم، وحرم عليها ما حرم، من كل محرم من دم ومال ومنكح، الصلاح والأصلح بين الناس أصلح؛ والفساد والإفساد من العباد يستقبح؛ يطوى ما كان فيما مضى فلا ينشر، ويعرض عما انقضى فلا يذكر؛ ولا يقبل على ما مر وأدبر من أجزاء الأمور على ما كانت في الأيام الخالية أيام آبائنا الأئمة المهتدين، سلام الله عليهم أجمعين، مهديهم بالله، وقائمهم بأمر الله، ومنصورهم بالله ومعزهم لدين الله، وهو إذ ذاك بالمهدية والمنصورية؛
وأحوال القيروان تجري فيها ظاهرة غير خفية، ليست بمستورة عنهم ولا مطوية؛ يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون؛ ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون؛ صلاة الخميس للدين بها جاءهم فيها يصلون، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون؛ يخمس في التكبير على الجنائز المخمسون، ولا يمنع من التكبير عليها المربعون؛ يؤذن بحي على خير العمل المؤذنون، ولا يؤذى من بها لا يؤذنون؛ لا يسب أحد من السلف، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف، والخالف فيهم بما خلف؛ لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده، وإلى الله ربه ميعاده عنده كتابه، وعليه حسابه؛ ليكن عباد الله على مثل هذا عملكم منذ اليوم؛ لا يستعلي مسلم على مسلم بما أعتقده، ولا يعترض معترض على صاحبه فيما أعتمده، من جميع ما نصه أمير المؤمنين في سجله هذا، وبعده قوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إلى الله مرجعكم جميعا، فينبئكم بما كنتم تعملون). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ كتب في رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة)
ومن الصعب أن نحدد موقف الحاكم إزاء الشؤون الدينية تحديداً واضحاً؛ فقد نسبت إليه في هذا الشأن تصرفات كثيرة متناقضة؛ وقيل أنه حاول أن يعدل بعض الأحكام الدينية الجوهرية كالصلاة والزكاة والصوم، بل قيل أنه شرع في إلغائها، غير أنه ليس ثمة ما يدل على أنه ذهب إلى هذا الحد، على الأقل في الفترة التي نتحدث عنها، وان لم يكن ثمة شك في أنه عدل بعض الأحكام والرسوم تعديلا يجعلها اقرب إلى الصبغة الذهبية. وأما عن عقيدة الحاكم الدينية فمن المجازفة أن يقطع فيها رأي حاسم، ومن المحقق أنها لم تثبت على وتيرة واحدة، وأنها حسبما تدل تصرفاته وأوامره الدينية، كانت تختلف باختلاف فترات حكمه؛ ونستطيع أن نصف الحاكم طورا بعد أخر، بالتعصب الديني والإغراق المذهبي، واليقين والتشكك، والإيمان والإلحاد؛ وسنرى عند الكلام عن الدعوة الفاطمية السرية أن الحاكم، كان في أواخر عصره يذهب إلى ابعد مدى من الغلو والإغراق، فيؤيد الدعوة السرية إلى نسخ أحكام الإسلام، وإلى الدعوة بألوهيته وقيامه. ويعترض ابن خلدون بشدة على القول بكفر الحاكم وإلحاده وإلغائه للصلاة، ويقول أنه زعم لا يقبله ذو عقل، ولو صدر من الحاكم شيء منه لقتل لوقته. بيد أن هذا المنطق لا يتفق مع الأدلة والوثائق التي
انتهت إلينا عن الفترة الأخيرة عن عصر الحاكم وعن تصرفاته الدينية ومؤازرته للدعاة السريين كما سنبين بعد
- 8 -
ولننتقل إلى ناحية أخرى من تصرفات الحاكم هي تصرفاته المالية. كان الحاكم بإجماع الرواية، جواداً وافر البذل، وكان كثير الزهد بالمال؛ وكانت الخلافة الفاطمية قد حققت في عهدها القصير من الأموال والثروات الطائلة من الجواهر والتحف الباذخة ما يفيض في وصفه المؤرخون المعاصرون بما يدهش ويبهر، وتكدس لدى الحاكم من الأموال والتحف ما يجل قدره ووصفه. ولكن الحاكم لم يغرق في تلك المظاهر الفخمة التي كانت تنثرها الخلافة الفاطمية من حولها؛ وكان يؤثر بطبيعته مظاهر الانكماش والبساطة، وكان خلافا للطغاة يعف عن مال الرعية، فإذا بدا له أن يصادر مال كبير مغضوب عليه فإنه يضيفه إلى الأموال العامة، وقد انشأ لذلك ديونا خاصا يسمى بالديوان (المفرد) تضاف إليه أموال من يقضى عليهم بالمصادرة؛ وقد ترد هذه الأموال إلى أصحابها متى زالت أسباب السخط عليهم؛ وقد تبقى نهائيا وتستعمل في الشؤون العامة
واشتهر الحاكم طوال عهده بالسخاء والبذل، وكان يسرف في العطاء أحياناً إلى حدود تهدد مالية الخزينة، وتثير اعتراض الوزراء ورجال الدولة؛ ومما يؤثر في ذلك أن أمين الأمناء الحسين ابن طاهر الوزان اعترض ذات مرة على إسراف الحاكم في الصلات والعطايا، وبلغ الحاكم اعتراضه وتوقفه في تنفيذ الأوامر، فبعث إليه بخطه في الثامن والعشرين من رمضان سنة 403 بهذه الرقعة المؤثرة:
(بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله كما هو أهله ومستحقه:
أصبحت لا أرجو ولا اتقي
…
إلا إلهي وله الفضل
جدي نبيِّ، وإمامي أبي
…
وديني الإخلاص والعدل
ما عندكم ينفذ، وما عند الله باق، والمال مال الله عزوجل، والخلق عيال الله، ونحن أمناؤه في الأرض، أطلق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام) وكان ذوو الحاجات يقصدون الحاكم أثناء طوافه، سواء بالنهار أو الليل، ويرفعون إليه حاجاتهم وظلاماتهم، فيقضي فيها بنفسه، ويقضي حاجات الكثيرين، ويثير العطايا على المحتاجين. بيد أنه لم يكن يخلو في ذلك من
الشذوذ أيضا فيبخل أحياناً بأقل الصلات
وكان الحاكم يميل إلى التخفيف عن الشعب في أمر الضرائب فكان يرفع عنه أحياناً بعض المكوس حين الأزمات العامة؛ وقد يعيدها طبقا للظروف والأحوال؛ ولما فتحت دار الحكمة كان من رسومها أن يؤدي (المؤمنون) مال النجوى، وهو رسم اختياري ينفق من دخله على النقباء، وكانت تحصل أحياناً وتبطل أحياناً
- 9 -
إلى جانب هذا الجود الشامل، وهذا التعفف عن أموال الرعية، كان الحاكم يتمتع بخلة أخرى اجمع المؤرخون على الإشادة بها، تلك هي زهده وتقشفه في مظاهره العامة وفي حياته الخاصة، ثم تواضعه المؤثر واحتقاره للرسوم والألقاب الفخمة التي كان يحيطه بها ملك قوي وخلافة باذخة. وكان لأول حكمه قد أمر بمنع الناس كافة من مخاطبة أحد أو مكاتبته بسيدنا ومولانا إلا أمير المؤمنين وحده؛ ثم عاد فاصدر أوامره، بألا يقبل أحد له الأرض، ولا يقبل أحد ركابه ولا يده عند السلام عليه، إذ لا يجوز الانحناء إلى الأرض لمخلوق، وإنما هي بدعة من صنيع الروم لا يجمل أن يجيزها أمير المؤمنين؛ ويكفي في السلام الخلافي أن يقال:(السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته)، كذلك يجب ألا يصلى عليه أحد في مكاتبة ولا مخاطبة، بل يقتصر في ذلك على (سلام الله وتحياته ونوامي بركاته على أمير المؤمنين) ويدعي له بما تيسر من الدعاء فقط، وقد كانت الصلاة على أمير المؤمنين من أخص رسوم الخلافة الفاطمية، وكانت الإمامة عنوانها، وكان يصلى على الخليفة كما يصلى على النبي في الخطبة، وفي المكاتبات والمحادثات الرسمية. ولكن الحاكم ابطل هذه الرسوم ولم يقل الخطباء يوم الجمعة سوى:(اللهم صلي على محمد المصطفى، وسلم على أمير المؤمنين على المرتضى، اللهم وسلم على أمراء المؤمنين، آباء أمير المؤمنين، اللهم اجعل افضل سلامك على عبدك وخليفتك. . . الخ)، ومنع الحاكم أيضا ضرب الطبول والأبواق حول القصر، فصار الحرس يطوفون بلا طبل ولا أبواق. وركب الحاكم يوم عيد الفطر (403هـ) إلى المصلى بلا زينة ولا جنائب ولا موكب فخم، واكتفى بأفراس عليها سرج ولجم محلاة بفضة خفيفة، وبنود ساذجة، ومظلة خلافية بيضاء بلا ذهب، يرتدي البياض بلا حلية ولا ذهب، وعمامة دون جوهر، ولم يفرش المنبر، ولم
تتخذ بالمسجد أهبات غير عادية، وركب إلى الصلاة في عيد الأضحى على هذا المنوال البسيط
وكانت هذه النزعة إلى البساطة تسود معظم المواكب والاستقبالات الرسمية. وكان الحاكم يركب في المدينة في ابسط المظاهر الديمقراطية التي تذكرنا بديمقراطية المسلمين الأوائل؛ فيرتدي ثيابا بسيطة، أو يرتدي دارعة صوف بيضاء ويتعمم بفوطة وفي رجله حذاء عربي ساذج، وقد يركب فرسا بلا زينة أو حمارا، وفي أحيان قليلة يركب محفة يحملها الرجال، وعشارية تشق به النيل؛ وكان اغلب طوافه بالقاهرة على الحمير دون موكب ولا ضجة، لا يصحبه من الحشم سوى بضعة من الركابية؛ وكان كثير الاتصال بالشعب فكان القصر مفتح الأبواب للمتظلمين وذوي الحاجات؛ وكان يستمع إليهم أثناء طوافه وينظر في مطالبهم كما قدمنا
وأما عن حياة الحاكم الخاصة فلم تصلنا سوى لمحات ضئيلة؛ ولكن لا ريب أنه كان يعيش بنفس البساطة التي كان يبدو بها في مظاهره الرسمية؛ وقد رأينا كيف اضطلع الحاكم بأعباء الحكم صبيا دون السادسة عشرة، وكيف أن انهماكه بالشؤون العامة منذ حداثته لم يترك له فرصة للانغماس في مجال اللهو والعبث التي يغرق فيها من كان في سنه وفي ظروفه؛ وقد كان الحاكم تحمله بلا ريب نزعة صوفية فلسفية؛ ذلك أنه كان يرى في التقشف مثله، ويحتقر متاع هذه الدنيا الدنيئة؛ ويرتفع عن مفاسد هذا المجتمع وعن غرائزه وشهواته النفسية الوضيعة. ولم يقل لنا أحد ممن كتبوا عن الحاكم، معاصرين أو متأخرين أنه كان يتصف بشيء من الرذائل الاجتماعية، بل تدل أقوالهم جميعا على أن هذا الطاغية الفيلسوف، كان نقيا في حياته الخاصة، بعيدا عن هذا الترف الناعم الذي يفت في الأجسام والأرواح القوية، متقشفا في مأكله وملبسه، حتى قيل أنه لبث أعواما يرتدي الصوف، وأنه امتنع عن دخول الحمام. والخلاصة إن هذه الشخصية العجيبة التي تقدم إلينا من نواحيها العامة في صورة مثيرة مروعة، تحملنا من نواحيها الخاصة على الإعجاب والاحترام بما تشف عنه من سمو ونقاه واحتقار للشهوات الإنسانية
للبحث بقية
محمد عبد الله عنان المحامي
المكتبات المدرسية والمتنقلة بإنجلترا
بقلم الأستاذ محمد عطية الأبراشي
المفتش بوزارة المعارف
ليس في المدرسة الإنجليزية مكتبة واحدة فحسب، بل في كل فصل من فصول المدرسة مكتبة صغيرة للتلميذ، بها كتب مدرسية وأدبية تناسب المستوى العلمي للفصل، وبها مصورات جغرافية، وروايات تمثيلية، وكتب للمراجعة. ويقوم كل فصل بانتخاب أحد تلاميذه للعناية بالمكتبة، وهو مسؤول عن ترتيبها ونظامها، فيحضر الكتب منها وقت الحاجة إلى استعمالها، ويعيدها إلى مكانها بمساعدة بعض إخوانه بعد الانتهاء من الدرس
ولكل تلميذ الحق في أن يستعير من الكتب ما شاء لمدة معينة؛ بأن يذهب إلى دفتر الإعارة فيكتب فيه أسم الكتاب الذي استعاره، وأسم المؤلف، ورقم الكتاب، وتاريخ الاستعارة ثم يمضي. والأمانة سائدة بين التلاميذ، فحينما ينتهي التلميذ من قراءة الكتاب في المدة المعينة يعيده إلى موضعه في المكتبة، فلا يضع رقم (10) مثلا موضع رقم (105). وبهذه الوسيلة يتعود التلاميذ النظام، ويبث فيهم روح التعاون. وإذا لم يستعر أحد التلاميذ شيئا سأله مدرسه عن السبب، وكلفه بالاستعارة، ثم أختبره بعد الانتهاء من قراءة الكتاب في موضوعه، وسأله عن أحسن قطعة قرأها فيه، وأحسن رجل اعجب به؛ وبهذه الطريقة يضطر كل تلميذ إلى أن يستعير ويقرأ، ويشجع التلاميذ على البحث والاطلاع. وإذا اعتاد الفتى أن يقرأ كتابا في الخارج كل أسبوعين مثلا قرأ ما ينيف على العشرين كتابا في السنة، فتكثر معلوماته، ويشعر بحب الكتب من الصغر
وحبذا الأمر لو فكر كل مدرس لدينا في أخذ طلبته إلى مكتبة المدرسة، وشوقهم إلى القراءة والاطلاع، وفهمهم طريقة البحث في الكتب، وحثهم على الاستعارة والمطالعة في أوقات الفراغ
وزيادة على المكتبات المدرسية تجد في كل مدينة إنجليزية مكتبة عامة أو اكثر في المدن الكبيرة. وفي كل منزل إنجليزي مكتبة بها الكثير من الكتب الأدبية والعلمية والصحية، ويهدي لكل طفل إنجليزي كثير من الكتب التي تناسب سنه في يوم ميلاده وفي عيد الميلاد كذلك
وقد تكون للطفل مكتبة خاصة به، وحجرة خاصة بلعبه أو مربى إذا كان من أسرة متوسطة أو غنية. ولا أبالغ إذا قلت إن الطفل في إنجلترا رجل صغير، قوي الملاحظة، كثير الآراء والأفكار الصائبة، فقد يقول لك قبل إن يرى المدرسة: إن هذا الفيل من الهند، ولو فقد هذا الجزء من السيارة لحدث كذا، وهذا الجزء من الطائرة أسمه كذا، ووظيفته (العلمية) كذا، ولقد حدث (لعلي بابا) في ألف ليلة وليلة كيت وكيت
المكتبات المتنقلة بإنجلترا
وهناك أيضا مكتبات متنقلة تنتقل من المدينة إلى القرية مثلا بوساطة سيارة معدة لان تكون مكتبة، تنقسم أربعة أقسام وهي: قسمان للروايات، وقسم للكتب العلمية المختلفة، والقسم الرابع خاص بكتب الأطفال. وتقوم هذه المكتبات بعمل جليل في نشر العلم، وإعطاء الفرصة لسكان القرى النائية الأطراف في أن يستعيروا ما يريدونه من الكتب للقراءة والاستفادة. وهي منتشرة الآن في جميع أنحاء إنجلترا
وتعد المكتبة المتنقلة فرعا من المكتبة العامة التي تمدها بما تحتاج إليه من الكتب. ويقوم بإدارتها موظف تابع لمدير المكتبة العامة. وفي (كنت) مثلا - وهي إحدى الضواحي التابعة للندن - مكتبة متنقلة أنشئت في نوفمبر سنة 1921 وبها نحو 150 ألف كتاب للأستعارة، يستعيرها القراء بالتناوب، ويتداولونها بينهم وأحدا بعد الأخر؛ في سنة 1930 قد بلغ المستعيرون من هذه المكتبة 1223000 وهذا العدد يدل على كثرة الإقبال على القراءة، وعلى أن إنجلترا من اكثر الأمم حباً للقراءة، فلا تركب قطارا أو سيارة عامة إلا وتجد في أيدي كل فرد صحيفة، أو مجلة أو كتابا. فالمكتبة المتنقلة قد سدت فراغا كان الناس يشعرون بالحاجة إلى ملئه منذ زمن ليس بالقصير. وفي (كنت) سيارتان تملأن من المكتبة الرئيسية العامة بها، ثم تزوران كل قرية في تلك الجهة مرتين أو ثلاث مرات في السنة، وقبل قيام المكتبة من (كنت) وهي المركز الرئيسي في تلك الجهة يخبر القائم بأمور المكتبة في القرية بوقت وصول السيارتين إليها حتى يستطيع استدعاء عدد كبير من المستعيرين للمساعدة في اختيار المجموعة الجديدة من الكتب، ورد ما يمكن رده من المجموعة القديمة التي كانوا قد استعاروها من قبل. وينتهي الأمر وهو رد الكتب القديمة، وأخذ كتب أخرى بدلها في نحو ساعة من الزمن
وكتب الأطفال في المكتبات المتنقلة اقل من كتب غيرهم من القراء. وحب القراءة مشاهد لدى كل طفل، وبخاصة قراءة القصص والحوادث. ومن الصعب أن تشبع رغبات الأطفال في الحكايات وقراءتها. وليس في هذه المكتبات من الكتب ما يكفي كل الأطفال، ففي (كنت) مثلا 75666 طفلا في المدارس الأولية، وليس في قسم الأطفال بالمكتبات إلا نحو 32 ألف كتاب، ولذا يضطر رؤساء المكتبات إلى جعل الاستعارة خاصة بمن تبلغ سنه 12 سنة. ويقص الرؤساء أحياناً بعض الحكايات المحزنة لرفض مطالب كثيرين من صغار الأطفال، ثمة بأنه كلما كان الكتاب جميل المنظر، جيد الطبع، كثرت عنايتهم به. ولا يزال الكتاب لدى الطفل القروي شيئا ثمينا. فالمكتبات المتنقلة والمدرسية والعامة تقوم بخدمة جليلة للتلاميذ وغيرهم ممن يحبون القراءة، ويجدون مسرة فيها
ودور الكتب العامة مملوءة بالقراء. وهناك نوع من المكتبات التجارية التي تخصص قسما منها للإعارة نظير دفع اشتراك سنوي يسير. فلدى كل فرد صغير أو كبير، غني أو فقير، الفرصة في أن يجد ما يريده من الكتب، من أي نوع من الأنواع
وفي وصف الكتاب وفوائد الكتب، قال نابغة العرب، وأديب العلماء، والعالم بين الأدباء (أبو عثمان عمرو الجاحظ)(الكتاب وعاء ملئ علماً، وظرف حشي ظرفا، وبستان يحمل في ردن، وروضة تقلب في حجر، ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء.) وقال: (. . . . . . ولا اعلم نتاجا في حداثة سنه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان وجوده، يجمع بين التدابير الحسنة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتراخية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمع الكتاب)
ودخل الرشيد على المأمون وهو ينظر في كتاب، فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب يشحذ الفكرة ويحسن العشرة، فقال: الحمد لله الذي رزقني من يرى بعين قلبه اكثر مما يرى بعين جسمه
وقيل لبعض العلماء: ما بلغ من سرورك بأدبك وكتبك؟ فقال: هي إن خلوتي لذتي، وان اهتممت سلوتي، وإن قلت أن زهر البستان ونور الجنان يجلوان البصر، ويمتعان بحسنهما الألحاظ، فإن بستان الكتب يجلو العقل، ويشحذ الذهن، ويحيي القلوب، ويقوي القريحة، ويعين الطبيعة، ويبعث نتائج العقول، ويستثير دفائن القلوب، ويمتع في الخلوة، ويؤنس في الوحشة، ويضحك بنوادره، ويسر بغرائبه، ويفيد ولا يستفيد، ويعطي ولا يأخذ، ونصل لذته
إلى القلب، من غير سامة تدركك، ولا مشقة تعرض لك
وفي الكتب العربية آيات بينات عن الكتب وفوائدها، شعرا ونثرا فليرجع إليها من أراد الزيادة
محمد عطية الأبراشي
قصيدة شوقي
في جلالة الملك فيصل
بقلم الأستاذ حسين الظريفي
لما اعتزم مغني مصر الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب السفر إلى العراق عام 1932، رأى المغفور له شاعر الضاد وأمير الشعراء أحمد شوقي بك، ألا يدع الفرصة تفوت دون أن يملأها بما يريد، فألف قصيدته الخالدة التي أثنى فيها الثناء الجم على أمة العراق وملكه ساكن الجنان فيصل الأول
وقد انشد الأستاذ القصيدة على مسرح المعرض الذي أقيم في بغداد في السنة المذكورة، وانشدها أمام الملك في قصره في حضور رجال الدولة وكبار الساسة وأعيان البلد وجمهور المستمعين من شتى الطبقات. ثم رأينا مكروفون المذياع وأبواق الحاكي تعيد لنا ما أبدع به محمد عبد الوهاب على مسرح المعرض حتى شاعت القصيدة وذاعت على الأفواه. والذي نريد إثباته في هذه الفرصة هو أن مطلع القصيدة وبيتا أخر قد كثر حولهما كلام الناس في بغداد. وأنتقدهما غير واحد من الشعراء، وكان اكثر هؤلاء المنتقدين - على ما اعتقد - يجهلون معنى البيت جهلا تاما، وبهذا الجهل انحدروا إلى التهجم على شاعرية شوقي، وهو الشاعر الفرد الذي أضاف إلى لغة الضاد مادة جديدة من معانيه المبتكرة. وأنتقل بالشعر في بعض مواقفه من عالم الطبيعة إلى ما وراءها، حيث تجتمع الفلسفة والشعر الرفيع في نقطة واحدة
ولذلك أحببت أن اعرض رأيي الخاص فيما يجب أن يحمل عليه البيتان. وأولهما هو مطلع القصيدة:
يا شراعاً وراء دجلة يجري
…
في دموعي، تجنبتك العوادي
وقد رأى كثير من الشعراء والأدباء، أن المخاطب بهذا البيت هو جلالة الملك فيصل، والحقيقة أن الخطاب إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب، لعدم امكان حمله على غيره، ولدلالة الأبيات التي تلي هذا البيت، وهي:
سر على الماء كالمسيح رويداً
…
واجر في اليم كالشعاع الهادي
وائت قاعا كرفرف الخلد طيبا
…
أو كفردوسه بشاشة وادي
وقد شبه الشاعر - محمداً - بالشراع لما شاع وذاع من أمر غنائه في البلاد، وهو تشبيه يمت بصلة قوية إلى التشبيه بالعلم بمعنى الجبل كقول الخنساء في أخيها صخر - كأنه علم في رأسه نار - وأراد بقوله وراء دجلة - بقصد دجلة. وذلك عند اعتزام المغني السفر إلى العراق
ولما كان محمد عبد الوهاب دائم التغريد بما يؤلف له شوقي بك من قطع الشعر والقصائد، وكانت أكثرية هذه القصائد تعج بلواعج الهوى بحيث تحمل دموع الشاعر الغزيرة من أثر الحب فيه، جعل الشراع جاريا في هذه الدموع، بإنشاد المغني قصائد الشاعر. فكأن شوقي يقول: يا من اعتزم السفر إلى العراق وهو كأنه الشراع في الشهرة، مرتلا قصائدي التي هي كالدموع في الهوى، وهو يجري فيها كالشراع - تجنبتك العوادي - وحفظك الله من كل مكروه
وهذا البيت ولا ريب من انبغ الشعر، وهو ابن العبقرية التي اصبح فيها لشوقي الخلود، وللغة الضاد التيه والفخر
وأما البيت الثاني فقوله:
قف تمهل، وخذ أماناً لقلبي
…
من عيون المها وراء السواد
والمخاطب فيه محمد عبد الوهاب أيضا، والسواد هو العراق من قولهم - أرض السواد - ولا يمكن أن يحمل المعنى على أن الظباء كائنة وراء العراق، إذ لا يمكن أن يكون هذا قصد الشاعر، وإلا فسد عليه المعنى، ولأن سائر أبيات القصيدة إنما تبحث عن العراق وملكه وساكنيه، وقد ذهب إلى هذا التفسير الباطل كثير من الشعراء والأدباء، اغترارا بظاهر اللفظ مع أن الواقع خلاف ما يدعون. وزعم قوم أن المراد بالسواد هنا - سواد العيون - وبهذا التفسير يختل معنى البيت ويبقى مهملا لا يشير إلى شيء
وادعى آخرون أن معنى البيت فاسد من اصله، وقالوا في تعليل الفساد أن لفظ البيت يؤدي إلى وصف الظباء خارج العراق، وذكر ذلك لا مكان له في القصيدة، مع أن هذا غير مقصود من الشاعر كما سبق ذكره، وبالنظر لروحية القصيدة ولظروف وضعها ولخواطرها المتسلسلة
وذهب غيرهم إلى حمل البيت على إرادة الحجاب بالسواد، كأن أعين الحساد تستطيع
التأثير على قلوب الناس، وهي متحجبات من وراء النقاب. وهذه مبالغة لم نر لها مثيلا في شعر شوقي، وقد يتجاوز هذا المفهوم حدود المبالغة إلى تكذيب الواقع له والذي أراه في هذا البيت، هو أن القادم إلى العراق إنما يرى منه السواد قبل كل شيء فيه، بالنظر لكثرة ما فيه من خمائل ومزارع ونخيل حتى عرف في التاريخ بهذا الاسم، وبذلك تكون الظباء وراء السواد بالنظر إلى القادم إليه، وهي في أثنائه في حقيقة الأمر الواقع. وهذا البيت ولاشك من وحي العبقرية أيضا، وفيه ابلغ ما تصل إليه رقة الشاعر في شعره
وإننا نجد المبرز في الشعر قد يرتفع في كل قصيدة من قصائده بالبيت أو البيتين أو الثلاثة أو ببضعة أبيات. ولكنه مع ارتفاعه هذا لا يغيب بشعره عن أعين القراء. غير أن شوقي قد شب في الشعر عن الطوق، وبذ زملائه الشعراء في كل بيت يرتفع فيه عن مستوى الشعر حتى يتواري فيه عن الأبصار. فلا تكاد تقع عليه إلا بعد الجهد الجهيد، ولا تنظر إليه إلا من بعيد كما ظهر لقراء الضاد في هذين البيتين، ونحن لا نشك في إن فهمهما يحتاج إلى مجهود عقلي كبير، وتلك ميزة النابغ من الشعر، تفرد بها شوقي عن شعراء جيله، وبها فضل الجميع
وهنا أود أن اذكر ملاحظة العالم النفسي الدكتور ناجي بك الأصيل حول شاعرية أحمد شوقي بك، قال الدكتور: على الجيل الحاضر أن يحدد شاعرية شوقي بك في المدى الذي بلغت إليه، وإلا فإن الأجيال القادمة سوف تخطئ في تقديره. وعلل هذه الفكرة بأن هناك من الشعر لشوقي ما قاله وهو فيما وراء الشعور، ومع ما في هذه الفكرة من العلو والنضوج فإنها لا تأتلف والحقيقة. لان مثل هذه الأبيات التي يشير إليها الدكتور هي من وحي الإلهام، وقد قالها شوقي وهو في غيبوبة العبقرية وبها أستحق كل هذا التقدير من أبناء الضاد واصبح له فيها الخلود، ولا يمكن أن تحمل على أن شوقي قال ما لم يدر، أو أن شاعريته اقل من شعره، لان في ذلك المنطق المغلوط. ولعل الدكتور ينحرف في فكرته قليلا إلى القول بوجوب تحليل أبيات شوقي التي قالها في غيبوبة العبقرية، لئلا تفوت الأجيال القادمة بعض الدقائق النفسية التي يعرفها الجيل
هذا ما عنّ لي ذكره في هذين البيتين اللذين كثر حولهما القيل والقال ومن كان له فيهما شيء يقال فليأت بما عنده، إذ الحقيقة بنت البحث
بغداد
حسين الظريفي
المحامي
بين الدعاية والجد
القديس (تبريها)!!
قد يبدو غريبا أن نترجم لشخص لما يمض شهران على مولده، وأنه لغريب حقا، ولكن الذي دعانا إلى أن نكتب عنه وان نترجم له، هو أنه ولد ولم يلبث أن شب واكتهل وحصل على درجة القديسين، وغشى دور كثير من العظماء والأدباء والعلماء، وان لم يعرفه بعض أولئك الذين دخل عليهم دورهم
ولد القديس تبريها في شهر مارس سنة 1935م. وولد في مصر وفي بيئة عظيمة جدا إلى أقصى حدود العظمة. وهنا نستمهل القارئ برهة وجيزة نخرج فيها إلى موضوع أخر عرض لنا. ثم نعود إلى قديسنا العظيم
قرأت كتاب الدكتور هيكل (حياة محمد) من عنوانه إلى إمضاء الدكتور في أخر صفحة منه، وكنت أجد من السرور لقراءته ما ينسيني نفسي وما يتعلق بها من شؤون الحياة
وكانت تأخذني في كثير من مواقفه تلك الروعة العظيمة التي سورها المؤلف عند وفاة الرسول إذ يقول: (أستعيد الساعة صورة هذا المشهد الرهيب، فأراني شاخصاً له مأخوذاً به ممتلئ القلب من جلال هيبته أكاد لا أجد إلى الانصراف عنه سبيلاً)
فرغت من قراءة الكتاب وفي نفسي من الآثار لكثير من حوادثه ما في نفس الدكتور هيكل لوفاة الرسول
طفقت أقلب الصفحات الأخيرة من الكتاب عن غير قصد حتى وصلت من فهرس الأعلام إلى حرف التاء في صفحة 512 فوقف نظري عند أسم القديس (تبريها) فجعلت أستعيد في ذاكرتي ما قرأت فوجدتني لا اذكر هذا الاسم، ولا لأي شيء ورد ذكره، فأسفت على أن لم أع مما قرأت شيئاً
ثم رأيت أمام اسم القديس في الفهرس أن أسمه ورد في صفحة 43 من الكتاب، فرجعت إليها لأعرف ذلك الذي شرد عن ذهني، فإذا بي أجد في تلك الصفحة هذه العبارة:
(وإن الذين زاروا كنيسة القديس بطرس في رومية ورأوا قدم تمثال القديس تبريها قبلات عبادة المؤمنين، حتى لتضطر الكنيسة إلى تغييرها كلما انبرت ليعذرون أولئك الذين. . . . الخ)
عندئذ فقد عرفت ما شرد عن ذهني، وعرفت ذلك القديس العظيم الذي ولد في مصر وفي مطبعة مصر
وعرفت أنه ولد على يد واضع فهرس الأعلام، وعرفت إن ذلك الواضع هو أبو ذلك القديس العظيم!!
أبو حجاج
دين البادية
عن لامرتين
للأستاذ التنوخي
عضو المجمع العلمي العربي وكاتب سره
وأولئك الملاحون السابحون إلى الأبد على بحار من الرمال، قد أكسبهم الاعتياد أخلاقاً متشابهة، بمشاهدة مناظر متشابهة، وسكنى منازل متشابهة، وبنقلهم المستمر لخطوات متشابهة، في طرق ومسالك متشابهة، فسجاياهم على ذلك مشابهة لسجية البادية. أنهم لمتمسكون بدينهم تمسك اللانهاية بهم، وأحرار كحرية الفضاء المكشوف لهم؛ وجوالون تجوال الجواد الذي يقلهم، والناقة التي تحملهم، والقطيع الذي يتبعهم؛ وهم أجاويد مثل الخيمة المفتوحة أبداً لأخي الأسفار، أضلته مجاهل القفار؛ ومغاوير لهم جرأة المدين بحياته لقوة عضلاته، والمضطر للذود عن حريمه ومأواه، والدفاع عن مائة ومرعاه، من غزوات القبائل والغارات المداهمة؛ وهم بحكم العادة ميالون كالوحدة إلى الصمت، ومولعون بالحديث أحياناً شأن الإنسان الذي يلاقى بعد طوال الوحشة أخاه الإنسان فيحدثه عن كل شيء، ويستخبره عن كل شيء؛ وهم مفطورون على الشعر وعلى التأمل فطرة الليل والنهار، والكواكب والآفاق التي يقع عليها أبصارهم أبداً؛ وهم قصاص بارعون لاضطرارهم إلى قضاء ساعات الفراغ الطويلة في سرد الحكايات والأخبار والعجائب إما تحت الخيام أو حول الآبار تسلية للقلب من البلبال، وتزجية لساعات الفراغ والملال
إن من لم يكتحل بمشاهدة غروب الشمس في ضبابة حمراء من الجحيم يعكس نورها ذلك الرمل المنتشر ما بين النهرين، أو بلاد الكلدان، ومن لم يراقب طلوع الكواكب متهادية، ثم هبوطها في ليالي الشتاء على بحر محيط من الأثير الأزرق، اعمق من الفكرة التي تغوص فيه، وأصفى من ماء البحر في رأس الأرض المنتصب الذي يحول دون لآلائه والتجمد، ومن لم يسمع همس تلك النسمات المتوالية من ريح لم يتم في البادية سكونها، وكيف تهينم بصوت رخمه في المسامع مروره على تلك الروابي والهضاب، وعلى عذبات أوراق الاعشاب، ومن لم يطرح طرفه كل مطرحٍ في ذلك الفضاء الذي لا وراء بعده، والذي
يغيب في الله افقه الرحيب، ومن لم يبصر في تلك الظلال الجانبية من الجمال الباركة كيف ترتسم صورها في أجواز السماء، وهي جامدة جمود تلك الصور الجانبية من ظلال تماثيل أبي الهول الصخرية على سود تلك الرمال المصرية، من كان هذا شأنه لا يحق له أن يحكم على ذلك العربي المنتجع لمواطن الماء والكلأ، ولا على ذلك السحر الذي يستهويه، وبقضاء الله الذي يرضيه
اجل إن تلك الارتسامات والحساسات، وما يعرو الإنسان في البادية من وساوس وهواجس لبعيدة المصدر بعدا يخيل معه للمرء أنها صادرة عن اللا نهاية نفسها، وان تلك الأنوار المنهمرة أمطاراً من النار على الروابي والبوادي، لم تنهمر قط على سطوح المدن والقرى، ولا تلوثت بالدخان المتصاعد من مداخن المساكن، وفي أناء الليل والنهار لا يحول بين الروح وصانعها حائل، فيشعر الإنسان لذلك بيد خفية لكنها ملموسة، هي يد الخالق على خلقه، ويبصر في كل لمحة تجلي الصانع خلال ذلك البحر من الضياء الذي يغمره، وفي حدود ذلك الأفق الذي يكتنفه من الغموض ما يخيل للمرء أن لا وراء بعده إلا المجهول، وفي ظلال الليالي تجوس الأبصار خلال الكواكب فتلحقها أو تسبقها إلى منازلها، فهي تشهد بدون حجاب ذلك النظام المحكم، بل ذلك الإتقان الناطق بكلمة الإيمان!
إن الدين وهذا الإيمان المستقر في الأرض منشؤه علم النجوم في بوادي كلدة، وإن الحروف التي يتألف منها الاسم الإلهي تقرأ بأبهر مبني واعمق معنى، وهي منقوشة على ألواح السماوات، وان المخيلة لتغتذي برؤى السماء ورقى الأضواء؛ وإن التجليات الخارقة الغيبية مع تجسيم الحقيقة بالأوهام، لا تزال منذ بدء العالم على حالها، والرجل المدثر برداء التقوى والإيمان لا يتأثر إلا بالانفعال الذي هو به جدير: اعني به انفعال اللانهاية والخلود
إن جميع العقائد لمنبعثة من تلك الخلوات منذ عهد الإله (الكوكب) مركز عوالم زرادشت، حتى (الله) رب محمد، ومنذ الإله المشرع (يهوه) موسى، حتى الإله (الكلمة) التي يبحث عنها متى سجا الليل رعاة بيت لحم
فالعربي (وهو السر المكنون كالسكون، والمتأمل كالليل، والمستوحش كالوحدة، والمصدق بالمعجزات كرقية السحر الخالدة يستنزل بها الوحي، ويسترق بها السمع)، له من قوة
الحواس ما يدرك بها الله في الصحراء اكثر منا: إن حياته لعبادة أبدية، فهو لا يلهيه عن الخالق شيء، ورحابة البادية التي لا حد لها هي معبده والمحراب، فما كان لهذه الطبيعة أن تلتقي والإلحاد أبدا
أمع مثل هذه الطبيعة يتاح لبدوي أن يلحد يوما؟ خذوا أي زنديق من زنادقة الغرب، واقذفوا به بضع سنين إلى المشرق تجدوه لا يخرج منه إلا معافى من تلك العاهة الروحية: إن الإلحاد لا ينشأ إلا في الظلال، وفي مواطن الحرمان من التأمل والخيال، ومدن الغرب التي يصاب فيها المرء بدوار الرأس والخبال؛ إن الشمس لتستأصل شافة الكفر والإلحاد والشبهات، لان تلك السموم الباردة لا تنمو إلا في الظلمات؛ وإن ذلك الفضاء الرحب، وهو ملك البصر، ليمنح العربي من الشعور بكرامته ما هو اشد من البادية عنجهية، واكثر منها حرية، ذلك إن الجماعة تسحق الأفراد والوحدة تسمو بهم، والمنفرد يشعر بعظمته في كل حين، لأنه إنما يقيس نفسه بالنظر إلى عظمة الطبيعة وسعة سلطانها، لا إلى تلك القيمة العددية الخفية التي يمثلها بكيانه بين ظهراني جمهور لا يحصى من مدينة غاصة بأحيائها، وأمة كبيرة بوفرة أبنائها. إن هذا الشعور بالعظمة الذاتية ليجعل من الإنسان مخلوقا غير خليق بالصغار، وليحمله على آباء الضيم والعبودية؛ اجل إن العربي ليخضع لدينه ولرياسة الأسرة الإلهية، ولعادات السادات شريعة العرف المقدسة؛ ولكنه لا يخضع للقوة الغاشمة أبداً!
التنوخي
عضو المجمع العلمي العربي وكاتب سره
فتح العرب للأندلس
بقلم فريد مصطفى عز الدين
في مدة قصيرة لا تتجاوز عقدين من السنين، ولا تساوي في حياة الأمم فترة من حياة الأفراد تمكن العرب من تدويخ إمبراطوريتين كانتا أعظم دول ذلك العهد. فاكتسحوا الإمبراطورية الفارسية وثلوا عرش أكاسرتها، وسودوا دينهم ولغتهم على سكانها، وكانوا في الوقت ذاته ينتزعون من الإمبراطورية البيزنطية ولاياتها الشرقية الواحدة تلو الأخرى. فدخلت سورية الكبرى ومصر، وطرابلس الغرب، وتونس والجزائر والمغرب الأقصى في دولتهم الفتية، وانضوى سكانها تحت راية القرآن والدين الحنيف
وكأني بالفاتحين وقد جثموا على الشاطئ الأفريقي، ورأوا قبالتهم الشاطئ الأوربي لا تفصلهم عنه إلا شقة ضيقة من الماء أخذتهم نشوة النصر والظفر، ووطنوا العزم الأكيد على تدويخه وان يمثلوا مع الأسبان الدور الذي مثلوه قبلا مع الفرس والرومان
كانت إسبانيا قبل الفتح العربي في حالة اضطراب وفوضى، تتنازعها الثورات والفتن. والعامل الأكبر في هذا التقلقل والاضطراب راجع إلى النظام الاجتماعي الفاسد الذي كان سائدا عندئذ في البلاد. فقد كان سكانها يقسمون إلى أربع طبقات هي:
1) الأشراف - 2) سكان المدن - 3) الفلاحون - 4) العبيد
أما الأشراف فكانوا أصحاب النفوذ والسيادة، غير أنهم انصرفوا في أخر عهدهم عن أمور الدولة إلى اللهو والبذخ والمجون.
وكان سكان المدن - ومعظمهم يهود - يتحملون معظم الضرائب التي كانت عبئا ثقيلا على عاتقهم جعلتهم تواقين للخلاص من حالتهم الحاضرة. أما الفلاحون فكانوا وسطا بين الأحرار والعبيد، إذ أن التملك كان محرما عليهم إلا بإذن الشريف الذي يقعون في دائرة نفوذه، ولذا كان القليل النادر منهم ملاكا
وكان العبيد وهم اكثر السكان عددا يباعون كالسلع ويسامون من العذاب أشكالا وألواناً. فليس غريبا إذا أن يهربوا في بعض الأحايين من نير أسيادهم إلى الجبال والقفار، فيعتصموا بها وينعموا بالحرية المفقودة، ويعيشوا في البلاد فسادا انتقاما لحريتهم المسلوبة. وكانت هذه الحالة السيئة كافية لإزاحة الحكم الروماني عن هذه البلاد والتمهيد للقبائل
البربرية الغازية.
كانت القبائل التي اكتسحت إسبانيا عديدة، منها (الفندال) و (الزواف) و (القوط). ولم يمض وقت طويل على تدفق البرابرة في إسبانيا، حتى ترك القوط القبائل الأخرى من البلاد، واستأثروا بالسلطة المطلقة. ثم بدأوا يأخذون بأساليب الحضارة المسيحية، وتمكنت الكنيسة الكاثوليكية من ضمهم إلى حظيرتها سنة 587، فاكتسب الكهنة مكانا ساميا في الدولة لا يقل خطرا عن مكان الأشراف، غير أنهم استثمروه لمنفعتهم الذاتية، فاقتنوا الضياع وبنوا القصور العظيمة ولم يلتفتوا إلى الطبقات الأخرى التي كانت تعاني أمر العيش وأبشعه مذاقا فيصلحوا أحوالها، بل اندفعوا في سبيل مآربهم الدنيوية، فاصبحوا عاملا أخر في زيادة الفساد والاضطراب
وقد خلق أيضا وجود اليهود في البلاد فسادا في الحكم، لأنهم كانوا في إسبانيا كما كانوا في غيرها طبقة مضطهدة مهيضة الجناح تنوء تحت عبء الذل والاحتقار، فكانوا صابرين في مضض على حالتهم السيئة، منتظرين بذاهب الصبر تغير الحال وزوال حكم القوط عن كواهلهم
حدث الفتح أثناء ولاية موسى بين نصير على أفريقية. وكان العرب يعنون بأفريقية تونس الخضراء والجزائر ومراكش، وتمكن موسى من فتح طنجة وهي من أعظم فرض المغرب وولي عليها طارق بن زياد ثم قفل راجعا إلى مدينة القيروان - التي بناها الفاتح العربي الكبير عقبة بن نافع في عهد معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي الأول - تاركاً سبتة وهي المدينة الوحيدة التي لم تخضع لسلطان المسلمين في أفريقية
وكانت الفوضى - كالعادة - ضاربة إطنابها في إسبانيا. فإن أحد الأشراف ويدعي لذريق اغتصب الملك وطرد أبناء الملك غيطشة المتوفى من البلاد، فعبر هؤلاء البوغاز إلى الشاطئ الأفريقي وحاولوا الاستعانة بالعرب عن طريق يوليان حاكم سبتة، الذي كان على وداد مع العرب. فأجابهم يوليان إلى طلبهم وأخذ يحبب إلى العرب حرب لذريق. أما السبب الذي حدا يوليان إلى استنفار العرب على لذريق فشخصي محض، وذلك أنه أرسل ابنته - وكانت آية في الجمال - جريا على عادة أشراف القوط إلى القصر الملكي في إسبانيا لتتأدب، فرآها لذريق واستهواه جمالها الفتان، وما زال بها حتى أوقعها في حبائله
وعبث بها. فلما علم والدها بالأمر استشاط غيظا وغضبا، وعز عليه أن ينتهك عرضه وشرفه على هذه الصورة القذرة، فاقسم على الانتقام من هاتك عرضه وملصق العار بجبينه، وأخذ يشوق العرب إلى فتح الأندلس
ولكن بعض المؤرخين يشكون في صحة هذه الرواية ويقولون إن السبب في قيام يوليان علي لذريق أن غيطشة ملك القوط المتوفى ساعده مرة على العرب فحفظ له يوليان هذا الجميل، ورأى من الواجب أن يساعده أبناء ولي نعمته على مغتصب ملك أبيهم، فطلب مساعدة العرب ظانا أنهم بعد أن يفتحوا البلاد ويوطدوا ملك أبناء غيطشة فيها يرجعون إلى أفريقية
كانت الغزوة الأولى غزوة استكشافية محضة غرضها درس حالة البلاد عن كثب، وذلك لان موسى بن نصير كتب إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك - الخليفة الأموي السادس - يستشيره في أمر هذا الفتح، فأرسل إليه الخليفة العظيم أن يتريث ويستكشف الأحوال قبل الإقدام على أية مغامرة. فأمر موسى طارقا بإرسال قوة صغيرة إلى الأندلس لمعرفة أحوالها الحقيقية، فأنفذ طارق فصيلة مؤلفة من 400 مقاتل بقيادة مولاه طريف فنزلت في جنوبي الأندلس - الجزيرة - فكتب الله لها النجاح في مسعاها الدنيوي الديني، فشجع هذا النجاح موسى ابن نصير وعول على فتح الأندلس وسرعان ما حقق غايته
فأرسل قوة كبيرة بقيادة البطل الفاتح طارق بن زياد مؤلفة من البربر والموالي وقليل من العرب، فعبروا مضيق جبل طارق وفتحوا الجزيرة ثم زحفوا شمالا نحو قرطبة، وكان لذريق عندئذ في الشمال يقاوم حملة من الإفرنج غزت حدود بلاده الشمالية ولكنه أسرع - حالما علم بقدوم المسلمين - وعاد إلى الجنوب على رأس جيش لجب عدده مائة الف مقاتل لصد تيار الفاتحين
فطلب طارق من موسى إمداده بالنجدات فأمده بخمسة آلاف مقاتل. وهناك في مكان جنوبي إشبيلية على نهر غواديلاثا التقى الجيشان فكان النصر حليف العرب، وذلك إن فرقة من الجيش القوطي موالية لأبناء غيطشة انسحبت من ميدان القتال فتضعضعت معنويات جيش القوط وتراخت عزائمهم فظفر بهم العرب وكان نصرهم نصرا مبينا. وتقول بعض الروايات العربية إن لذريق غرق في النهر، غير إن روايات أخرى تقول أنه بقي حيا إلى
أن جاء موسى بن نصير الأندلس فهزمه في معركة فاصلة أودت بحياته
ثم قسم طارق جيشه إلى أربعة أقسام: قسم سار بقيادته إلى طليطلة، وقسم سار إلى قرطبة، وأخر سار إلى غرناطة، ورابع زحف إلى مالقا؛ وكان النصر حليفهم فاستولى كل قسم منهم على البلد الذي زحف عليه، وكانت الطبقات المضطهدة تساعد الجيش الزاحف وتمده بمعلومات قيمة عن جيوش العدو وترشده إلى أسهل الطرق وأقربها، وكان طارق يكافئ أعيان البلاد بتعيينهم حكاما على المناطق المفتوحة، ورأى الإسبانيون عندئذ أن غزوة العرب لم تكن مؤقتة يرجع العرب بعدها إلى أفريقية بل كانت دائمة لأنهم ذهبوا إلى إسبانيا ليبقوا فيها
وكان كثير من الأشراف قد فزعوا إلى الجبال بعد الانتصارات التي أحرزها العرب، فخاف طارق العاقبة وأرسل إلى موسى يستنجده. فعبأ موسى قوة عظيمة وعبر إلى الأندلس سنة 712 بعد ذهاب طارق إليها بسنة، واتبع خطة منظمة في الاستيلاء على البلاد. فكان ينظم كل مدينة يحتلها ويعدها لحكم عربي دائم. فاستولى على قرمونا وإشبيلية وسار توا إلى طليطلة فالتقى بطارق - وكان لقاؤهما جافا - ووحدا جبهتهما وانتصرا على جيش أسباني لجب، يقال إن لذريق كان يقوده، انتصارا حاسما، وافتتحا طليطلة مرة ثانية. وكانت آخرة لذريق في بطون أسماك نهر التاج
وفي سنة 713 سك موسى نقودا عربية في الأندلس، وظل يتوغل في هذه البلاد وينتقل من نصر إلى نصر إلى أن جاءه رسول الوليد يستدعيه إلى دمشق - عاصمة الإمبراطورية العربية - فغادر موسى الأندلس أسيفاً لأنه كان قد عزم على التوغل في بلاد الفرنجة حتى يصل إلى القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية فيفتتحها ويسير منها إلى دمشق بعد أن يكون قد دوخ أوربا وأخضعها للخلافة الإسلامية وسطر أسمه في سجل الخالدين
ثم أستخلف موسى على الأندلس ابنه العزيز وعلى سبتة ابنه الثاني عبد الملك، وعلى أفريقية ثالث أبنائه عبد الله، وسار إلى العاصمة الأموية يصحبه طارق مثقلا بالغنائم، فوصلها بعد وفاة الوليد بن عبد الملك وقيام سليمان. وبالرغم مما قدمه لسليمان ابن عبد الملك من الغنائم لم يلق في عيني الخليفة حظوة، لان أخبار الأندلس وصلت إلى دار
الخلافة مغالى فيها. فوجد سليمان إن ما جاء به موسى قليل رغم كثرته فاضطهده وسجنه. ولم يكن حظ طارق بأسعد من حظ زميله فناله بعض سخط أمير المؤمنين
وبقي موسى بن نصير في محبسه مدة قصيرة. ثم أطلق سراحه بعد أن شفع له القائد الكبير يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فسار إلى مكة المكرمة يحج البيت، غير أن المنية عاجلته وهو في طريقه إلى الديار المقدسة
أما ابنه الأكبر عبد العزيز فقد عمل على توطيد الحكم العربي في الأندلس بتزوجه من أرملة لذريق واستمالة القوط، ولكن مؤامرة دبرت لاغتياله بعد سنتين من ولايته؛ ويتهم بعض المؤرخين سليمان بتدبير المؤامرة، وتحريض أصحابها على الفتك بابن مدوخ الأندلسي. وهكذا كانت نهاية فاتحي الأندلس قتلاً وسجناً وتشريداً
فريد مصطفى عز الدين
12 - قصة المكروب
كيف كشف رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثه
وصل الفائت: أثبت بستور أن الذي يخمر السكر فيحيله إلى كحول إنما هو خمائر كرية صغيرة تتزايد بالانشقاق. وان الذي يحيله إلى حامض اللبن هو مكروبات كالعصى. وأخترع بستور حساء من السكر وملح النشادر تتكاثر فيه هذه الأحياء بدل مرق اللحم ونقيع الحب. وقال للناس أن اللحم يفسد لان المكروب يناله، فتخرج منه بالتحلل روائح كريهة تحمل المرض والموت في طياتها. وأنه سيخوض في سبيل البحث غمار هذه الأوبئة لخير الإنسانية
- 4 -
وبذلك هيأ بستور المسرح لإجراء تجاربه الخطيرة. هيأه قبل إجرائها بزمن طويل. فوضع فيه المناظر ووزع فيه الستائر، ومازج وآلف بين الألوان، وأخفت الأنوار حيث وجب خفوتها، وأسطعها حيث يجمل سطوعها، فأثار بذلك طبيعة العلماء الباردة، فاستمعوا له بآذان مرهفة، وقلوب واجفة، انتظارا لدور البطولة الذي سيقوم به في القريب على أعينهم، حتى لكائني بهؤلاء الأساتذة الموقرين يسيرون في شوارع الحي اللاتيني العتيق، بين ربوعه الغبراء، رائحين في الإمساء إلى منازلهم، وقد ثارت ثائرتهم، والتهب خيالهم، فتمثلوا بستور يودعهم في حرقة وداع الفراق الذي لا أوبة له، ثم يوليهم ظهره، ويسير بقدم ثابتة، وصدر مفتوح، ورأس مرفوع، وانف وسيع، نحو تلك الروائح الكريهة قد حملت في طياتها جراثيم الموت وأسباب الهلاك. . .
في هذا فاق بستور صاحبنا لوفن هوك، وفي هذا آفاق أسبلنزاني كذلك. كان بستور يجيد
التجربة، ولكنه كان كذلك يجيد عرضها على الناس والدعاية لها فيهم. أما العلماء فاضطربوا واشرأبو للمزيد من أنبائه، وأما البسطاء فاغتبطوا بصورة الخمائر التي أحلها واضحة في أذهانهم، تلك الخمائر التي تصنع لهم الخمر الذي هو شرابهم الأول في فرنسا، ولكنهم كذلك ارتاعوا لما تصوروا تلك المكروبات المعفنة ترفرف بها أجنحة الهواء من فوق رؤوسهم في سكون الليل، فتبذر فيهم أسباب الموت، وتفتح لهم أفواه القبور
وأجرى بستور تجارب غريبة طالت سنوات. تناول قوارير ووضع في بعضها شيئا من اللبن، ووضع في البعض الأخر شيئا من البول، ثم غطسها مدة في الماء الغالي، ثم ختم رقابها الدقيقة في النار، ثم أختزنها عدة سنين. وأخيرا فتحها ليثبت إن اللبن لم يتخثر، وأن البول لم يتغير، وان الهواء الذي علاهما في القبابات أحتفظ بكل أكسجنه أو كاد، فلا مكروب ولا فساد.
ثم أعاد التجربة على اللبن والبول مرة أخرى، ولم يغل القبابات، بل أذن للمكروبات أن تنمو وتتزايد فيهما. فلما فتح القوارير لم يجد اكسجينها، فإن المكروبات استخدمته فاستنفذته لتحرق به مادة البول واللبن وتحللهما لتتغذى بها. وعندئذ بسط بستور جناحين عظيمين وطار في سماء الخيال، فتمثل هذه الأرض العظيمة ليس بها مكروب واحد، وتمثل حيوانها يموت، في جو مليء بالأكسجين، ولكنه أكسجين عاجز في غيبة المكروب عن أكسدة هذه الحيوانات والنباتات، عاجز عن حرقها وتحليلها وتطهير الأرض منها. سمع السامعون من بستور ذلك فراعهم ما سمعوا، وجاء الليل، فتمثلت لهم مدينتهم في الأحلام، وقد خلت شوارعها من وقعة قدم أو قرعة حافر، من كل مظهر من مظاهر الحياة، إلا جثث اموات، ورمما سدت الطرقات لما أعوزتها المكروبات. قال بستور: إن عجلة الحياة لا تدور بغير مكروب
ولم يلبث بستور أن جاءه السؤال الذي جاء البحاث قبله، جاءه وجها لوجه يتطلب الجواب بلا مراوغة أو تسويف. ولم يكن بد من مجيئه أما اليوم واما غدا. وهو نفس السؤال الذي جاء أسبلنزاني من قبله فأثار من الفكاهة بينه وبين خصمائه ما أثار.
هذا هو السؤال البسيط، المفرط في بساطته، هذا السؤال المحير المفرط في تحييره: من أين تأتي المكروبات؟
سأل بستور خصومه: (من أين تأتي هذه الخمائر؟ أنها تظهر في عصير العنب فتصيره خمرا أين كان من الأرض، وفي أية ساعة كان من الزمان. وتلك الأحياء الصغيرة الأخرى التي تحمض اللبن، وتفسد الزبد في كل قدر أين وجد من مشارق الأرض ومغاربها، تلك الأحياء كيف مأتاها؟)
اعتقد بستور كما اعتقد أسبلنزاني، أن هذه المكروبات لا يمكن أن تأتي من مادة اللبن أو مادة الزبد، وهي ميتة لا روح فيها. واعتقد أنه لأبد لها من آباء. فترى من هذا أنه كان كاثوليكيا صميما. نعم لقد عاش بين الشكاكين ذوي العقول الراجحة على ضفة (السين) اليسرى في باريس، حيث لم يكن يذكر أسم الله إلا كما يذكر أسم (لينين) في بورصة نيويورك. ولكن هذا الشك لم ينل شيئا من عقيدة بستور. وكانت نظرية النشوء قد بدأت تشيع بين هؤلاء الشكاكين على أنها طراز للتفكير مستحب جديد. كانت أنشودة الكون العظمى تحكي لنا كيف بدأت الحياة مادة لا شكل لها ولا قوام، تخرج من حمأ وبخار، ثم تظل تتحول على ملايين السنين، فتتشكل في عدد عديد من الصور، وتمر في موكب حافل طويل من الاطوار، حتى تصل إلى طور القردة، وعندئذ تتمطى القردة فتصير رجالا تمشى على رأس هذه الخلائق. وقال الفلاسفة في شيء من يقين العلم ووثوق العلماء: أن هذا الاستعراض الهائل ليس بحاجة إلى إله يبدؤه، ولا إله يديره
وأجابهم بستور يقول: (أما فلسفتي أنا ففلسفة قلبي لا فلسفة عقولكم. فلسفتي تأتي من مثل هذا الشعور الذي يأتي بالسليقة إلى قلب المرء وقد جلس إلى سرير ولد عزيز عليه أخذ يجود في عسر بالبقية الباقية من أنفاسه. من مثل هذا الشعور أتعلم فلسفتي عن الوجود. وفي مثل هذه الدقائق الرهيبة أسمع أصداء تأتي من أعماق روحي تقول لي: (من يدريك، فلعل هذه الدنيا أكثر مما يزعمون، لعلها أكثر من مجموعة أحداث تأتي من توازن آلي يخرج من عماء العناصر بفعل قوى المادة وحدها).
لقد كان بستور رجلا تقياً نقياً
ولى بستور للفلسفة ظهره، وتوجه للعمل. واعتقد أن الخمائر، وأن العصى الحية، وتلك الأحياء الصغيرة الأخرى إنما تأتي من الهواء. وتخيل الهواء مليئاً بتلك الخلائق التي لا ترى. بالطبع كان غيره من بحاث المكروب قد أثبتوا أن هذه الأحياء مأتاها من الهواء،
ولكن بستور اصطنع أجهزة مركبة ضخمة لإثبات ما أثبتوه مرة أخرى. حشا أنبوبة من الزجاج بشيء من القطن، ثم أخرج أحد طرفيها من الشباك، ووصل الطرف الآخر داخل الغرفة بمضخة تجر الهواء، وشغلها حتى امتص نصف هواء الجنينة، ثم أنتزع القطن، وحاول أن يعد الأحياء التي احتبست عليه. واصطنع أجهزة أخرى غير أنيقة المنظر ليحمل سدادات القطن هذه بما عليها من المكروب إلى مثل هذا الحساء الذي كان نما فيه الخمائر ليعلم أيتكاثر هذا المكروب فيه. وأعاد تجربة أسبلنزاني القديمة، فأتى بقارورة مكورة، ووضع فيها بعض هذا الحساء وختم على رقابها بإساحتها في اللهب، ثم أغلاها دقائق، وامتحن حساءها من بعد ذلك فلم يجد فيه مكروباً أصلاً.
صاح به من كانوا لا يزالون يعتقدون في انبعاث الحياة من ذات نفسها، من غير آباء وأمهات. صاحوا به يقولون:(ولكنك يا هذا أغليت الحساء فأسخنت معه الهواء، وهذه الأحياء الصغيرة إنما تحيا في الهواء وهو على طبيعته من غير تسخين. وشركهم في صياحهم النشوئيون، والنباتيون المرتابون، والفلاسفة الملحدون، صاحوا من بين المداد والكتاب، لا من بين اللهب والقباب)
فاختلط الأمر على بستور حيناً، وحاول عدة طرائق ليجمع بين حساء مغلي، وبين هواء لم تنله النار بالتسخين، ومع هذا خلو من تلك الأحياء. وجاهد في أثناء ذلك ما استطاع أن يلبس وجهاً مطمئناً للأمراء والأساتذة وأرباب الصحف الذين أحاطوه عندئذ يترقبون المعجزات التي أوشكت أن تقع على يديه.
وكان أولو الأمر قد نقلوه من معمله الضيق ذي الفئران بسطح المكان، إلى بناء صغير يقع على أربع دقائق أو خمس من باب مدرسة النرمال، بناء يضيق بالخنازير الجينية التي تحتاجها معاهد البحث في الأيام الحاضرة. وفي هذا البناء الصغير قام بستور بجهاده الشهير ليثبت أنه لابد لكل حي مهما قل وحقر من آباء. وكان جهاداً بالتجربة الحاذقة، ولكنه كاد يتسفل أحياناً إلى نزاع كالذي ينشأ بين الغوغاء، فلا ينفض إلا بصفع الأقفية ولكم الوجوه. ودار بستور بادئ بدء يحتال للتجارب العديدة وينصب الأجهزة الكثيرة، فأبدل من تجاربه البسيطة الأولى تجارب مركبة، ومن أجهزته اليسيرة الأولى أجهزة صعبة معقدة، فكثر حجاجه وكثر كلمه، وقلت حجته وقل إقناعه. والحق أنه وقع في مأزق
لم يجد منه مخلصاً
وذات يوم دخل عليه الأستاذ (بلارد) وهو في معمله، وكان (بلارد) في مبدأ حياته صيدلانياً، ثم اكتشف عنصر البروم على ذلك النضد البسيط الذي يركب عليه عقاقيره في تلك الحجرة الصغيرة بظاهر صيدليته، فذاع اسمه وكسب مدح العلماء، وتعين من اجل ذلك أستاذاً للكيمياء بباريس. ولم يكن أمالاً طموحاً، فلم يطمع في كشوف الدنيا كلها، فقنع بهذا الكشف الواحد، وهو لعمري نعم النتاج في حياة الفرد الواحد. ولكنه كان يحب أن يتشمم حوله ويتعرف كل ما يجري بجواره من بحوث
دخل (بلارد) الكسول على (بستور) وهو في ربكته فتحدث إليه، وكأني بك تسمعه يقول له:(تقول يا عزيزي إنك مرتبك، وإنك لا تستطيع الجمع بين الحساء المغلي وبين الهواء دون أن تظهر تلك الأحياء في الحساء. إذن فأستمع لي يا صديقي. نحن سوياً نعتقد أن هذه الأحياء لا تنبعث من ذات نفسها في الحساء، بل هي تقع فيه مع ما في الهواء من هباء، أليس كذلك؟)
فيقول بستور: (هذا حق، ولكن. . . .)
فيقاطعه بلارد: (صبراً، صبراً! أترى لو وضعت شيئاً من الحساء في قارورة، ثم أغليته، ثم صيرت فتحة القارورة بحيث تأذن للهواء بالدخول إلى الحساء، ولا تأذن لما فيه من تراب وهباء بالسقوط فيه. . .)
فيقول بستور: (وكيف ذلك)
فيجيب بلارد: (الأمر هين. خذ قارورة من قواريرك المستديرة، وضع الحساء فيها، ثم سيح رقبتها في اللهب ثم مطها حتى تستدق، ثم لين هذه الأنبوبة الدقيقة وأستدر بها متسفلاً، ثم لين طرفها وأستدر به متصاعداً حتى تصبح رقبة القارورة كرقبة الإوزة العراقية وقد غاصت بمنقرها في الماء لتلتقط منه شيئاً - حتى تصبح هكذا). ورسم بلارد شكلها. بلارد الذي نسي اليوم أمره
فيمعن بستور في الفكرة ثم يقول لما يرى حسن الحيلة في هذه التجربة الصغيرة: (بالطبع. بالطبع. الأمر واضح. فذرات التراب التي تحمل المكروب لا تسقط إلى أعلى. هذا ما تقصد إليه؟)
فيبتسم بلارد ويقول له: (بالضبط. جربها وأخبرني بالذي يكون. وإلى اللقاء!) وتركه وذهب إلى معامله الكيميائية ليتمم فيها دورة يومه
وكان لبستور الآن صبية تغسل له القوارير وكان له أعوان، فأمرهم أن يسرعوا في تجهيز القبابات. وبعد زمن قليل كنت تسمع نفاخات اللهب تصم الأذان. وأقبل بستور على العمل في غير رفق ولا هوادة. فتناول القوارير ووضع بها الأحسية، ثم سحب رقابها ولواها كرقاب الإوز، ثم أغلاها فطرد بخار الماء كل هوائها، فلما بردها رجع هواء الجو فدخل فيها بارداً نقياً
فلما تجهزت القبابات حملها قبابة قبابة إلى محضنه الدافئ وكان تحت حنية السلم الضيقة فلم يصل إليه إلا مكفوءاً على يديه وركبتيه، على صورة يزيدك ضحكاً منها محاولته أن يحتفظ بوقاره فيها. وفي الصباح بكر إلى معمله. وفي لحظة اختفى تحت السلم إلى محضنه. وبعد نصف ساعة كنت تراه خارجاً من هذا الجحر يدب على أربع، وقد برقت عيناه بالسرور من وراء نظارته الندية. وقد حق له السرور، فإن القبابات ظلت جميعها رائقة، ولم يكن بها مكروب وأحد، وظلت على روقائها غداً وبعد غد. لقد نفعت حيلة (بلارد). وقد بطلت نظرية انبعاث الخلائق من ذات نفسها. (تجربتي هذه تجربة في الحق بديعة. وهي تثبت أنك تستطيع أن تترك في الهواء ما شئت من مرق أو حساء، على شريطة أن تغليه، وعلى شريطة أن يدخل الهواء إليه بعد الإغلاء من أنبوبة طويلة ضيقة ملتوية هذا الالتواء)
وعاد (بلادر) وابتسم لما أخذ بستور يصب على رأسه خبر التجربة صبا. قال بلارد: (لقد حسبت أنها تنجح، فإن القبابة عندما تأخذ في البرودة بعد الغلي، يأخذ الهواء يدخل إليها بترابه وهبائه ومكروبه، فتتصيدها جميعاً تلك الأنبوبة الطويلة الرفيعة بما عليها من البلل)
قال بستور: (ولكن كيف تثبت هذا؟)
قال بلارد: (الأمر هين. هات قبابة من هذه القبابات التي بقي حساؤها طاهراً رغم تدفئتها في المحضن أياماً، وأملها حتى يسيل حساؤها إلى الرقبة العوجاء، ثم رد الحساء إلى بطن القبابة حيث كان، ثم أرجعها إلى المحضن، فلن تلبث طويلاً حتى تتعكر بالملايين من المكروبات، هي نسل تلك التي احتبست في عنق القبابة البليل)
فأجرى بستور هذه التجربة، فكانت كما قال صاحبه. وكان بعد هذا اجتماع، تزاحمت إليه بالمناكب علماء باريس وكتابها ومزاحها وفنانوها. وفي هذا الجمع شرح بستور تجاربه، وذكر ما كان لأعناق الإوز من الخطر، وذكر نظرية الانبعاث التلقائي.
ثم صاح: (والآن فلن تستطيع هذه النظرية قياماً بعد هذه الضربة القاتلة)
لو أن بلارد كان في هذا الجمع، إذن والله لصفق تصفيقاً شديداً مع المصفقين. كان بلارد من تلك الأنفس الطيبة السخية النادرة
(يتبع)
أحمد زكي
21 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- ولكن ألست ترى أنك إنما تقرر هذا فعلاً حينما تقول إن الروح كانت موجودة قبل أن تأخذ صورة الإنسان وجسده، وأنها تألفت من عناصر لم يكن لها وجود بعد؟ فليس الانسجام شيئاً يشبه الروح كما تظن، وإنما القيثارة والأوتار والأصوات توجد أولاً في حالة من التنافر، فيجئ الانسجام بعد هذه جميعاً، ثم هو يسبقها جميعاً في الفناء. فكيف يمكن أن نلائم بين هذا الرأي في الروح وبين الرأي الآخر؟
أجاب سمياس: لا يمكن قطعاً
قال: ومع ذلك فينبغي بلا ريب أن يكون ثم انسجام، ما دام الانسجام هو موضوع الحديث
أجاب سمياس: ينبغي أن يكون
قال: ولكن ليس ثم انسجام بين هاتين القضيتين. إن المعرفة عبارة عن تذكر، وان الروح انسجام، فأيهما إذن تستبقي لنفسك؟
أجاب: إني لأحسبني يا سقراط أشد يقينا بأولاهما التي أقيم لي عليها الدليل الوافي، مني بالثانية التي لم ينهض عليها دليل قط، فليست ترتكز إلا على أسس من الظن والأستحسان، وأنا عليم علم اليقين أن هذه الأدلة التي تعتمد على الظنون مضللة، وهي خداعة ما لم يؤخذ عند استخدامها حذر شديد - هي خداعة في علم الهندسة وفي سائر الأشياء أيضا. أما نظرية المعرفة والتذكر فقد أقيم برهانها على أسس من اليقين، والبرهان هو أن الروح لابد كانت موجودة قبل أن تحل في الجسد، لأن الجوهر متعلق بها، ومجرد أسم الجوهر يقتضي الوجود، وما دمت قد ارتضيت هذه النتيجة بحق وعلى أسس وافية، كما أعتقد، فينبغي، فيما أظن، ألا أستطرد في الجدل، وألا أسمح لسواي أن يزعم بأن الروح هي عبارة عن انسجام
قال: دعني يا سمياس أبسط الموضوع من وجهة نظر أخرى: هل يمكن فيما تتصور أن
يكون الانسجام أو أي مركب آخر، في حالة تختلف عن حالة العناصر التي تألف منها؟
- لا ولا ريب
- أم هل هو يفعل أو يعاني شيئاً غير الذي تفعله هي أو تعانيه؟
فوافق سمياس
- لأنه يستحيل على الانسجام أن يكون على شيء من الحركة أو الصوت أو أية صفة أخرى تكون مضادة للأجزاء.
فأجاب: يستحيل أن يكون ذلك
- أو ليس كل انسجام يتوقف على الحالة التي تنسجم فيها العناصر؟
قال: لست أفهم ما تقول
- أريد أن أقول أن الانسجام يقبل التدرج، فهو أكثر انسجاماً، وهو أقرب إلى الانسجام التام، حينما تدنو الأجزاء في تناسقها إلى التمام، إن أمكن لها ذلك. وهو أقل انسجاماً، وأبعد عن الانسجام التام، حينما تكون الأجزاء اقل تناسقاً.
- حقاً
ولكن هل تقبل الروح التدرج؟ أعني هل تكون الروح، ولو إلى أقل حد ممكن، أكثر أو أقل روحانية من غيرها، أو أبعد عن تمام الروحانية، أو أدنى إليه من روح أخرى؟
- لا يكون ذلك قطعاً
- ومع ذلك فقد يقال بحق إن روحاً تتصف بالذكاء والفضيلة وأنها خيرة؛ وأن روحا أخرى تتصف بالغباوة والرذيلة، وأنها شريرة: وحق هذا الذي يقال؟
- نعم هو حق
- ولكن ماذا يقول أولئك الذين يصرون على أن الروح انسجام، فيما رأيت من وجود الفضيلة والرذيلة في الروح؟ - أيقولون إن ثم انسجاماً آخر وتنافراً آخر، وإن الروح الفاضلة تكون منسجمةً، وما دامت هي نفسها انسجاما، ففي باطنا انسجام آخر، وان الروح الرذلة ليست منسجمة ولا يكون في باطنها انسجام؟
- أجاب سمياس: إني لا أحير جوابا، ولكني أحسب أن سيزعم أولئك الذين يأخذون بهذا الرأي شيئاً كهذا
ونحن قد اتفقنا فيما سبق أن ليست روح أكثر روحانيةً من غيرها، وهذا الاتفاق يساوي الموافقة على أن الانسجام لا يزيد في درجة انسجامه ولا ينقص، أي لا يكون أكمل ولا أنقص انسجاما
- جد صحيح
- وما لا يزيد في درجة انسجامه ولا ينقص لا يكون أكثر ولا أقل تناسقاً!
- صحيح
- وما لا يكون أكثر ولا أقل تناسقاً لا يكون فيه من الانسجام أكثر ولا أقل، ولكنه دائماً مقدار متساو من الانسجام
- نعم هو الانسجام متساو
- فإذا لم تزد روح ولم تنقص في روحانيتها المجردة عن غيرها، فهي ليست أكثر ولا أقل انسجاما منها؟
- تماماً
- وعلى ذلك فليس فيها من الانسجام أو التنافر مقدار أكثر أو أقل؟
- ليس فيها ذلك
- ولما كان ما فيها من الانسجام أو التنافر ليس أقل ولا أكثر فلا يكون لروح من الرذيلة أو الفضيلة اكثر مما يكون لغيرها، على فرض أن الرذيلة تنافر، وان الفضيلة انسجام؟
- أنها لا تكون أكثر من غيرها أبداً
- وان توخينا يا سمياس في حديثنا دقة أكثر فلن يكون لروح أية رذيلة، إن كانت الروح انسجاما، لأنه ما دام الانسجام مطلقاً فهو لا يساهم في غير المنسجم؟
- لا
- وعلى ذلك فلا تقع رذيلة من روح هي روح مطلقة؟
- كيف يمكن، وفاقاً لما سبق من حديث، أن تقع منها الرذيلة؟
- وبناء على هذا إذن تكون أرواح الحيوانات جميعاً سواء في الخير ما دامت كلها متساوية ومطلقة في روحانيتها؟
فقال: إني موافقك يا سقراط
فقال: وهل يمكن في ظنك أن يصدق كل هذا؟ أنسلم بهذه النتائج كلها - وهي مع ذلك ناتجة فيما ظهر من الزعم بأن الروح انسجام؟
فقال: كلا ولا ريب
قال: وأيضاً، أي عنصر بين الأشياء البشرية تراه مسيطراً، سوى الروح، والروح الحكيمة بنوع خاص؟ أترى بينها مثل ذلك العنصر؟
- حقاً أني لا أرى
وهل الروح على اتفاق مع رغبات الجسد، أم هي وإياها في خلاف؟ فمثلا عندما يكون الجسد ظمآن ساخناً، أفلا تصدف الروح بنا عن الشرب؟ وعندما يحس الجسد جوعاً، أفلا تصدفنا عن الأكل! وذلك وأحد فقط من عشرة آلاف من أمثلة التضاد بين الروح وبين أشياء الجسد
- جد صحيح
ولكن سبق منا اعتراف بأن الروح ما دامت انسجاماً، فلا يمكنها أن تنطق بإشارة لا تتفق مع الأوتار التي تألفت هي منها، من حيث حالات التوتر والاسترخاء والتموج وسائر المؤثرات، أنها تتبعها فقط، ولا تستطيع أن تقودها؟
فقال: نعم؛ إنا اعترفنا بذلك يقيناً
- ومع ذلك فلسنا نرى الآن أن الروح تفعل الضد تماماً - فهي تقود العناصر التي يظن أنها تتألف منها، وهي في معظم الأحوال تعارضها وتقهرها طيلة الحياة بكل ما أمكنها من سبل
وقد تكون معها أحياناً أشد عنفاً بأن ترغمها على آلام الأدوية والألعاب، ثم قد تعود فتكون وإياها أرق وداعة، وهي في ذلك تتهدد بل وتزجر الشهوات والعواطف والمخاوف، كأنما هي بذلك تتحدث إلى شئ غير نفسها، كما يصور لنا هوميروس أو ذيسيوس في الأوذيسة بهذه الكلمات:
لقد ضرب على صدره لكي يؤنب قلبه:
يا قلب صبراً، فيا طالما احتملت أسوأ من ذلك شراً)
أفتظن هوميروس قد تأثر حين سطر هذا بالفكرة القائلة إن الروح انسجام، وأن رغبات
الجسد قمينة أن تسوقها، وإنه لم يكن يرى أنها هي التي بطبيعتها تسيطر على تلك الرغبات وتقودها، وأنها أمعن في الألوهية من أي انسجام؟
نعم يا سقراط، إني موافق جدا على ذلك
إذن فلن نصيب يا صاح في قولنا أن الروح انسجام، لان في ذلك تناقضا ظاهرا مع هوميروس الإلهي، كما أنه متناقض وإيانا
- فقال: حقا
(يتبع)
زكي نجيب محمود
2 - شاعرنا العالمي
أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
أبو العتاهية وبشار وأبو نواس:
هؤلاء هم الشعراء الثلاثة الذين كانوا أعلام هذه الثورة في الشعر، قضوا فيها على طريقته القديمة التي مضت في عصر بني مروان على جاهليتها العربية، لا تفكر في تجديد، ولا تنظر إلى ما حدث في العرب من أحداث دينية وسياسية واجتماعية، خلقت منهم أمة جديدة، وشعباً يتألف من أجناس مختلفة، وله نظر جديد في الأدب يخالف نظر أولئك العرب الخلص، وذوق أرقى من ذوقهم في الشعر والنثر. وقد بدأت هذه الثورة لينة هادئة في بشار بن برد، شديدة لا تبلغ درجة العنف في الحسن بن هانئ (أبي نواس)، شديدة عنيفة في إسماعيل بن القاسم (أبي العتاهية)
وكان مظهر هذه الثورة في أربع نواح من الشعر:
(1)
ألفاظ الشعر التي انتهت ثورتهم فيها إلى نقل الشعر إلى ألفاظ العربية الحضرية، وهجر ألفاظها البدوية الخشنة؛ وإذا قلنا ألفاظ الشعر فإنا نعني بذلك ما يشمل معانيه، لأن التجديد في الألفاظ يستدعي التجديد في المعاني حتما حتى يتلاءم أمرهما، وتتناسب رقة المعاني وجمالها مع رقة الألفاظ وصقلها
(2)
طريقة الشعر ومذهبهم في ترتيب القصائد من مطالعها إلى مقاطعها
(3)
أغراض الشعر ومقاصده
(4)
أوزانه وقوافيه
فأما ألفاظ الشعر فقد اشترك الشعراء الثلاثة في تلك الحركة التي انتهت بنقلها من البداوة إلى الحضارة، وكان بشار أول من بدأ بذلك وفعله عن قصد إليه يحقق فيه معنى تلك الثورة، فإنها لا تكون إلا عن قصد، ولا تثبت بالاعتباط والمصادفة، ولكنه لم يصل في ذلك إلى غاية هذه الحركة، لأنه نشأ متقدماً على أبي العتاهية وأبي نواس، وقضى شطراً كبيراً من عمره يأخذه بطريقته الجديدة وحده، وشعراء العصر المرواني يحيطون به من هنا
وهناك، ويعيبون عليه تلك الطريقة التي يأخذ بها، ويرمونه بالقصور والعجز عن اللحاق بالفحول، فيؤثر هذا فيه بعض التأثير ويمسكه عن الغلو في طريقته والاندفاع فيها، ويجعله يأخذ أحياناً في تقليد أولئك الفحول، والأخذ بطريقتهم في الغريب، والتشادق بالألفاظ
وقد مدح رُؤبَةُ بن العَجّاج عُقبَةَ بن مسلم بأرجوزة من أراجيزه وبشار حاضر، فاستحسن ذلك من رؤبة. فقال له رؤبة: هذا طراز لا تحسنه أنت يا أبا معاذ. وكان رجزهم في ذلك الوقت غاية ما وصلت إليه طريقتهم البدوية في إيثار الغريب والتشدد في اللفظ، فكان هذا سبباً في إنشاء بشار أرجوزته في مدح عقبة بن مسلم:
يا طَلَلَ الحي بذات الصّمْد
…
بالله خبّرْ كيف كنت بعدي
أحسنت من رعد وتِرْبِ رعد
…
سقيا لأسماء ابنة الأشد
قامت تُرَائيِ إذا رأتني وحدي
…
كالشمس تحت الزِّبرِجِ المنقد
إلى أن قال في مدح عقبة:
أسلم وحييت أبا الْمِلَدّ
…
مفتاح باب الحدث المنسد
مشترك النَّيْل ورِيّ الزند
…
أغر لَبّاس ثياب الحمد
لله أيامك في مَعَدّ
…
وفي بني قحطان غير عد
كل أمرىء رهن بما يُؤَدّي
…
ورب ذي تاج كريم الجد
كآل كِسرىَ وكآل بُردٍ
…
أنكبُ جاف عن سبيل القصد
فصلته عن ماله والولد
وروى الأصمعي أنه قال: كان أبو عمرو بن العلاء وخلف الأحمر يأتيان بشاراً فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان، فأتياه يوماً فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن قُتيبة؟ قال: هي التي بلغتكما، قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب، قال: نعم، إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب فأحببت أن أورد عليه مالا يعرف، قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ، فأنشدهما:
بَكِّرا صاحبي قبل الهجير
…
إن ذاك النجاح في التبكير
حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان (إن ذاك النجاح)(بَكِّرا فالنجاح)
كان أحسن، فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية، فقلت:(إن ذاك النجاح) كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت (بَكِّرا فالنجاح) كان هذا من كلام المُوَلَّدين ولا يشبه ذلك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة، قال: فقام خلف فَقَبَّل بين عينيه. وهذه القصة تعطينا أن طريقة بشار الجديدة (طريقة المولدين) كانت قد تقررت في ذلك الوقت، وصارت واضحة النهج، معروفة الأسلوب واللفظ، وتعطينا أن بشاراً كان لا يعدل عنها إلا لدواع نادرة تجعله يتكلف طريقة الأقدمين، ليثبت لهم قدرته عليها، وأنه يهجرها عن عمد، ويتركها عن اعتقاد بعدم صلاحيتها، بعد انتقال الأمة من البداوة إلى الحضارة، ومن خشونة العيش إلى لينه، ومن ظلمة الأمية إلى نور العلم، ولكنه كما قلنا لم يصل في تلك الطريقة إلى غايتها، ولم يبلغ بها إلى الدرجة التي وصلت إليها في شعر أبي نواس وأبي العتاهية، من تلك السهولة الممتنعة التي تقرب الشعر إلى الناس وتبعده عنهم، وتعتمد في ذلك على القدرة الشعرية الحق، لا على التشدق الذي يخفي وراءه من الضعف الشعري ما يخفي، ويوهم الناس أنهم لا يقدرون عليه، وهم لا يعجزهم منه إلا هذا التشدق وحده
وأما طريقة الشعر فلم يحدث فيها بشار حدثاً، بل مضى على ابتداء القصيد بالنسيب كما مضى عليه من قبله؛ وقد ثار أبو نواس على هذه الطريقة، وأخذ على الشعراء ابتداءهم القصيد بذكر الأطلال في عصر الحضارة والعيش المستقر، وبذكر هندا ودعدا بعد أن امتلأت القصور في عصرهم بمن لا يصح أن يجري معه ذكر لهند ودعد؛ وقد ذكروا لأبي نواس في تنديده بذلك قوله:
صفةُ الطلول بلاغة القِدْمِ
…
فاجعل صفاتك لابنة الكرْمِ
وقوله:
لا تَبكِ ليلى ولا تَطرَبْ إلى هِندِ
…
واشرب على الوردْ من حمراء كالوَرْدِ
وقوله:
سقياً لغير العلياء فالسّنَدِ
…
وغير أطلال مَيّ بالجرَد
وقوله:
يا رَبْعُ شُغلَكَ إني عنك في شُغل
…
لا ناقتي فيك لو تدري ولا جملي
وقوله:
تبكي على طلل الماضين من أسَد
…
لا دَرّ دَرُّكَ قل لي من بنو أسد
لا جَفّ دمع الذي يبكي على حجر
…
ولا صفا قلب من يصبو إلى وتد
وهذه ثورة على القديم حقاً، ثورة تفتن بعض دعاة التجديد في عصرنا، ولكنها عندي ليست هي الثورة الصحيحة التي يجدر بها أسم الثورة، وتستحق أن تدعى تجديداً في الأدب، وإنما هي ثورة شعوبية عابثة، ولا فرق بين ابتداء القصيد بالنسيب وابتدائها بوصف ابنة العنب، بل ربما يكون ابتدائها بالنسيب أروح عند النفس، وأخف في السمع؛ وإنما التجديد في ذلك ما سبق به شاعر بني مروان العظيم: الكميت ابن زيد الأسدي، وهذا في هاشمياته التي أنشأها في مدح بني هاشم والدعاية لهم في ذلك العصر، وكانت أول شعر قاله فسترها ثم جاء الفرزدق فقال له: يا أبا فراس إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسدي، فقال له: صدقت أنت ابن أخي فما حاجتك؟ قال له: نُفِثَ على لساني فقلت شعراً أحببت أن أعرضه عليك، فإن كان حسنا أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً أمرتني بستره، وكنت أولى من ستره عليّ، فقال له الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك فأنشد ماقلت، فأنشده:
طرِبُت وما شوقاً إلى البيض أطرَبُ
قال: فيم تطرب يا ابن أخي؟ قال:
ولا لعباً مني وذو الشوق يلعب
قال: بلى يا ابن أخي - قال:
ولم يُلهني دار ولا رسم منزل
…
ولم يتطربني بَنانٌ مُخضَّب
قال: وما يطربك يا ابن أخي؟ قال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى
…
وخير بني حَوّاَء والخير يطلب
قال: ويحك من هؤلاء؟ قال:
إلى النفر البيض الذي بحبهم
…
إلى الله فيما نابني أتقرب
قال: أرحني ويحك من هؤلاء؟ قال:
بني هاشم رهط النبي فإنني
…
بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
خفضت لهم مني جناحي مَوَدّةً
…
إلى كنفٍ عِطافهُ أهل ومرحب
وكنت لهم من هؤلاء وهؤلا
…
مِجَنَّا على أني أُذَمُّ وأُقصب
وأُرْمَى وأرْمِي بالعداوة أهلها
…
وإني لأْوذَى فيهمُ وأُؤنب
فقال له الفرزدق: يا ابن أخي أذع ثم أذع، فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقى؛ وفي رواية أخرى أنه قال له: قد طربت إلى شئ ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فما نطرب ولا طرب من كان قبلنا إلا ما تركت أنت الطرب إليه
فهذا هو التجديد الصحيح في مطلع القصيد، لا ابتداؤه بوصف الخمر بدل النسيب كما أراد ذلك أبو نواس، فكل منهما غرض مستقل من أغراض الشعر، والتمهيد به لغيره من الأغراض الشعرية تصنع قبيح، وتكلف مسترذل.
وقد سلم أبو العتاهية من هذا العبث في مطلع قصيده بعد أن أقلع فيما يأتي عن سنة شعراء عصره، وأخذ نفسه بالجد في الشعر وترك العبث واللهو فيه.
وأما أغراض الشعر فإن أبا العتاهية هو حامل راية التجديد فيها، وصاحب القدح المعلى في تذليل ذلك الشعر العربي الجامح للآداب الإسلامية العالية، والأخلاق الكريمة السامية، والمواعظ الحسنة النافعة، وما إلى ذلك مما يدخل في نشر الثقافة الإسلامية، واستخدام الشعر في الدعاية إليها، وأخذ الناس جميعاً بها، حتى تعلو كلمة الشعر عليهم أجمعين، ويكون الشعراء الحكام على الملوك والعظماء، ولا يكون الملوك والعظماء الحكام على الشعراء، ولقد نجح أبو العتاهية في ذلك أيما نجاح، وذاع شعره في الشرق والغرب، وطار به صيته عند الأدباء والعلماء والعظماء في سائر الأمم واللغات، وأدى بهذا كله رسالة الشعر في عصره أحسن تأدية. ولم يكن لبشار ولا لأبي نواس في ذلك أثر يصح أن نذكره، اللهم إلا بعض أبيات نادرة تأتي في أثناء القصيد على عادة غيرهما من الشعراء، وإلا قصيدة بشار في الدعاية لابراهيم بن عبد الله بن حسن حينما خرج على المنصور، وكان بشار من أشياعه، وهي قصيدة جليلة نعى فيه على المنصور قيام حكمه على الاستبداد بالرعية، ونصح إبراهيم أن يقيم حكمه على الشورى بأبياته المشهورة فيها:
أبا جعفر ما طول عيش بدائم
…
ولا سالم عما قليل بسالم
على الملك الجبار يقتحم الردى
…
ويصرعه في المأزق المتلاحم
كأنك لم تسمع بقتل متوج
…
عظيم ولم تسمع بفتك الأعاجم
تقسم كسرى رهطه بسيوفهم
…
وأمسى أبو العباس أحلام نائم
ومروان قد دارت على رأسه الرحى
…
وكان لما أجرمت نزر الجرائم
فأصبحت تجرى سادراً في طريقهم
…
ولا تتقي أشباه تلك النقائم
تجردت للإسلام تعفو سبيله
…
وتعرى مطاه لليوث الضراغم
فما زلت حتى أستنصر الدين أهله
…
فعاذوا عليك بالسيوف الصوارم
أقول لبسام عليه جلاله
…
غدا أرحياً عاشقاً للمكارم
إذا بلغ الرأي المشورة فأستعن
…
برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
…
فإن الخوافي قوة للقوادم
وما خير كف امسك الغل أختها
…
وما خير سيف لم يؤيد بقائم
وخل الهوينا للضعيف ولاتكن
…
نؤوما فإن الحر ليس بنائم
وقد صرف بشار وأبو نواس شعرهما في العبث والمجون، وهتك الأعراض، والخروج على الدين والآداب، حتى ضج منهما الناس في عصرهما، وساءت في الناس سيرتهما. وأما أوزان الشعر وقوافيه فلم يكن لبشار ولا لأبي نواس أثر يذكر فيها، وأبو العتاهية هو الذي جدد في تلك الناحية أوزاناً ظريفة، واخترع فيها قوافي جديدة، ومضى فيها على نحو لم يسبقه إليه أحد من الأوائل، ولم يكن يدخل في العروض الذي عرف لعهده؛ وقد سئل من بعضهم هل تعرف العروض؟ فقال: أنا أكبر من العروض. وهذا جزاب له قيمته في بيان اعتداد هذا الشاعر بنفسه، وفي الدلالة على أنه كان يذهب في الثورة على القديم مذهباً لم يصل إليه بشار ولا أبو نواس ولا غيرهما من شعراء عصره.
وإنا نسوق له قولًا آخر له دلالته في ذلك أيضاً: روى أنه اجتمع مع سلم الخاسر فأنشده بعض أشعاره ثم قال له: كيف رأيتها؟ قال سلم: لقد جودتها لو لم تكن ألفاظها سوقية، فقال له أبو العتاهية: والله ما يرغبني فيها إلا الذي زهدك فيها.
فإذا قسنا أبا العتاهية إلى بشار وأبي نواس فيما أحدثوه من التجديد في هذه النواحي التي هي أهم نواحي الشعر، وجدناه يربى فيها عليهما، ووجدنا أنه كان موفقاً فيما أحدثه من التجديد فيها كلها، ووجدنا أن بشار وأبا نواس لم يكن لهما تجديد يذكر إلا في الناحية الأولى وحدها، وخرجنا من ذلك كله بأن أبا العتاهية أولى منهما باسم الشاعر المجدد في
هذا العصر.
عبد المتعال الصعيدي
الرَّبيعْ
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
كل شيء هنا يغني ويحيا
…
نغما ممتعا وشدواً عجيباً
يا حبيبي أفِقْ فقد ضحك الرَّو
…
ضُ وأبدى جمالَهُ المحجوبَا
واستعادَ الوادِي الأنيسُ سَنَاهُ
…
وبَنى الطيرُ عُشَّهُ المخروبَا
طربَ القلبُ فانتشى وَتغنّى
…
وَمن الحبِّ أن أعيش طروبَا
وأنا الشاعرُ الذي يَغْمُرُ الأرْ
…
واحَ ضحكا وما يريم كئيبا
في فُؤَادي اللهيف دَاءٌ قد اسْتَعْ
…
صى وَجُرْحٌ يُمِضُّني تعذيبا
يا حبيبي دُنياكَ تَطْفَحُ بالحسْ
…
نِ فَخُذْ للفُؤَادِ منها نصيبا
هاتِ نايَ الهوى وَقُمْ نَملأ الأك
…
وانَ من سَكْرَةِ الغِنَاءِ ضُروبا
لا تُرَعْ فالحياةُ يومٌ وَيمضي
…
لَيْسَ يُرْجى لطَيِفْهِ أن يَؤُوبَا
نَحن شَدْوُ الطُّيورِ يُصْغِي لنا الدَّهْ
…
ر فَيُغرى باللحنِ حَتى يطيبا
يَذَرُ الهائمينَ في فرحةِ الحبِّ
…
وَيصْفِيهمُ الوِدَادَ الخصِيبا
يحتَسونَ الحياةَ خمرةَ وَجْدٍ
…
وَيَرَوْنَ الدُّنا من السُّكْرِ كوبَا
لهمُ الليلُ في حواشيهِ يحيَوْ
…
نَ وَيَطْوُونَ جنحَهُ تشبيبا
نَهَبوا العُمْرَ واستباحوهُ لَهْواً
…
واستطابوا الأسى وَلَذوا اللُّغوبَا
ضحِكُوا والحياةُ بِنْتُ التَّلَهِّي
…
مَنَعَتْ مُحْجِماً وأعطَتْ طَلُوبا
يَسأمُ العَيشَ مَنْ يَبيت خَليَّا
…
والشَّجِىُّ العميد ينسى الكُرُوبا
رُبَّ صَحْرَاَء طَوَّفَ الحبُّ فيها
…
أزْهَرَتْ رَبْوَةً وَرَوْضاً عشيبا
نَضِرَ الغابُ ساحةً وتَجَلَّى
…
رائعاً فِتنةَ العُيُونِ قَشيبا
هُوَذَا موكبٌ لآذارَ حُلوٌ
…
يَتمشى على السُّهولِ لَعوبا
ملأ الأرضَ والسمَوات عِطراً
…
وَنَفى الهمّ والضَّنى والشُّحُوبا
وعلى معطَفِ المُروجِ تراءتْ
…
قُبَلٌ للرّبيعِ تَنْفَحُ طِيبا
تَجِدُ النفسُ في شذاها الأماني
…
صُوَراً تُتْرِعُ الجَنانَ لَهيبا
تَغْمُرُ الرُّوحَ بالهَناَءةِ والصَّف
…
وِ كما يَغمرُ الحبيبُ الحبيبا
اليَواقيتُ في النَّواظرِ ذابت
…
وَجَرى السِّحرُ بالضِّيَاءِ مَشوبا
جدولٌ يُلهِب القلوبَ غِناءً
…
ظلَّ من موجهِ السنيِّ سكوبا
ألْمُسُ النُّورَ في تلاميعهِ الزُّهْ
…
رِ وأشْتَفُّ روحُه المحبوبا
وأرَى العِطْرَ وهو هَيمْانُ في الدوْ
…
حِ يُناجي في غصنهِ العندليبا
وأُحسُّ الحياةَ تَرْكُضُ في العُش
…
بِ وتسرِي بينَ الحقولِ دبيبا
نَفَسٌ هامِسٌ وآخرُ شادٍ
…
وَرُؤىً هَمَّ سحرُها أن يُجيبا
كلُّ شيءٍ هُنَا يُغَنِّي وَيحيا
…
نَغماً ممتعاً وشدْوا عجيبا
هَاهُنا تَسْمَعُ الأناشيد أُذْني
…
وترى العينُ في كَراها الغُيُوبا
ها هنا يَرْكنُ المحِبُّ إلى الأُن
…
سِ وَيُغفى الفُؤَادُ إلا وجيبا
يا حبيبي أَفِقْ فَهَاذَاكَ طَيْرُ الْ
…
حُبِّ قد أسْكَرَ الرُّبا تَطرِيبَا
تَترَاَءى له السمواتُ ألْحا
…
ظاً وتبدُو الأرضُ الفضاءُ قلوبا
يا حبيبي طابَ الهوَى فاغْتَنِمْهُ
…
لستَ عن جُرْحِهِ النَّدِيِّ غرِيبَا
لكَ من هذه الدِّغالِ ألِيفٌ
…
يَتَصَبَّاكَ مُؤْنِساً وَرَقيبَا
غَنِّ في مِسْمَعي نشيداً رقيقاً
…
وَاسْرِ في مُهجتي شُعاعاً رَطيبَا
وَدَعِ الحبَّ يَأْتَلِقْ في خيالي
…
أُفُقاً ساحراً وَكَوْناً رَحيبَا
اطْعَنِ القلبَ يَنْفَجِرْ بالأغارِ
…
يدِ ويملأُ هذا الفضاَء طُيُوبَا
لا تُضَمِّدْهُ يَذْكُ شوقاً وشَجواً
…
وَاتَّرِكْ نارَه تشبُّ شُبُوبا
أوْقِدِ الحبَّ بالمدامعِ تَنْهَلُّ
…
وبالوجدِ صارِخاً وَمُهيبا
لا تَخَفْ أنْ يَضِجَّ بالحبِّ مَأْوًى
…
وَاخْشَ إمَّا أحْسَستَ منه نُضُوبا
صاغَهُ اللهُ للعَذابِ وللحبّ
…
وأحياهُ بالدِّماءِ خَضِيبا
وَرياضٍ فيها العِشَاشُ تُغَنِّى
…
فيذُوبُ الغِنَاءُ خمراً صَبِيبا
إن هذا الجمالَ يا قَلبُ نَهبٌ
…
فابْتَدِرْ نخطَفِ السَّنا المنهوبا
إحْىَ لِلنُّورِ، للمسَرَّةِ، لِلشَّد
…
وِ، وَخَلِّ الأسى وَخَلِّ النَّحِيبا
أنور العطار
وحي عصفورة
أسطورة الخلود
بقلم أمجد الطرابلسي
مِلتُ إلى روضتي صَباحا
…
مُضْطَرمَ الفِكرِ والشجُونِ
ألتمِسُ البِشْرَ والمِراحا
…
في مَعرِضِ الحُسنِ والْفُتون
جلَستُ في ظِلِّها ونفْسي
…
يَلهو بها جامِحُ الخَيالِ
أُسطِّرُ الحزْنَ فوْقَ طِرْسي
…
مُستَوْحِياً رَوْعَةَ الجمالِ
سمِعتُ إذ ذاك صَوْتَ هَمْس
…
أتْرَع نَفْسي أسًى وَشَكَّا
عُصفُورةٌ تلكَ فوْقَ رَأْسي
…
تمعِنُ بينَ الْغصونِ ضِحكا
تقولُ: هيّا اغْنم الزَّمانا
…
فما مَضى منْه لا يَعودُ
قُلتُ: أرَى عَيشَنا هَوانا
…
وإنما هَمِّيَ الخلودُ
قالت: بلِ امْرَحِ وَعِشْ طَروبا
…
ترجو خلوداً؟ وَما الخلودُ؟
قَصِيدةٌ تَسحَرُ القُلوبا
…
أبدَعها شَاعِرٌ مَرِيد
كفَاكَ يا شَاعِري بُكاءً
…
لا النَّوْحُ يُغْني ولا الغِنَاءُ
كيْفَ تُرَى تَفْهَمُ البَقاَء
…
في عَالَمٍ رَمزهُ الفَناءُ؟
واعجباً! كلهمْ سكارى
…
سعَوا إلى الخُلدِ في الفَيافي
وَطَوّفوا فَوْقَها حيَارَى
…
وقبْرُهُم غايَةُ المطافِ
رأَوْا ظلاماً أزَالَ صبْحاً
…
والدَّهر عفَّى على الجديدِ
والموتْ منْ خلْفهمْ مُلِحّا
…
فأبدعوا فِتْنةَ الخُلودِ
أبعدَ أن تأْلفَ الرُّغاما
…
وَتَبْتَلي وَحشَةَ اللحُودِ
وتَغْتدي في الثَّرَى رِمَامَا
…
تَنعمُ يا صَاحِ بالخُلودِ؟
تَهْزَأُ بالموْتِ والفَناءِ؟
…
وهكذا الجدوَلُ الصغِيرُ
يَحلُمُ بالخُلدِ وَالبْقَاءِ
…
وإنما طَبعُه المسِيرُ
يُرَتِّل اللَّحْنَ والنَّشيدا
…
في مَوْلدِ اللَّيْلِ أو رَدَاهُ
يَرْجو لألْحَانِهِ خُلودا
…
لا الَّلحْنُ يَبْقَى وَلا صَداه
أَمعَنَ في سجْنِهِ أَنينَا
…
وَوَدَّ لوْ يَغْمرُ الهضابا
وَضَجَّ في قَيْدهِ جنُونا
…
يرِيدُ أنْ يُغْرِقَ السَّحابا!
سلْ زَهْرَةَ الأمسِ يا صَديقُ
…
كيفَ خبا عِطْرُها الذَّكِيُّ؟
وأيْنَ منْ خدِّها بَرِيقُ
…
مثل بَرِيقِ المَنى، بَهِيٌّ؟
أيْنَ أغانِيَّ في الغُصونِ
…
أُرْسلُها في الفَضَاءِ وَهْنا؟
هَل حفِظَ الرَّوْضُ منْ لُحوني
…
يا شَاعري مذْ هَتَفْتَ لَحْنا؟
أَيُّ بقَاءٍ وَأَيُّ خُلدٍ
…
في عالَمٍ كنْهُهُ الزَّوَالُ؟
سَيمَّحِي الكَوْن بعدَ عَهدِ
…
كما أمَّحَى واختَفَى خَيالُ. . . .
وَانْطَلَقت في الفَضَا المديدِ
…
مُمعِنةً بالخُلودِ سُخْرا
تُنْشدُ أُسطورَةَ الخلودِ
…
تُسمِعها العالَمينَ طُرّا
رَجعتُ من رَوْضتِي مهَاناً
…
مضْطَرِمَ الفِكْرِ والشُّجُونِ
عُصفُورَةٌ تَفْهمُ الزَّمَانَا
…
وَنحْنُ في غَمْرَةِ الظنُونِ
أمجد الطرابلسي
من أدب السودان
فجرٌ في صحراء
بقلم التيجاني يوسف بشير
إملأِ الرُّوح من سناً قُدُسيِّ
…
مبهَمٍ كالرُّؤى وَديعٍ رَضِيِّ
قمريّ كأنما سَكَبَ البَدْ
…
رُ عليه من فيضهِ القَمرِيِّ
وَاغْمِرِ القَلْبَ في مُفاضٍ من الفْج
…
ر وضيءٍ جَمِّ النَّدَى عبقرِيِّ
يَثِبُ الحُلْمُ حَوْلَ مَشْرَعِهِ السَّا
…
جي وَيجري مع الضُّحى في أتيِّ
كم تَظَلُّ الرؤى به شارِعاتٍ
…
في يَنابيعَ من جلالٍ ندِيِّ
يتلفَّفْنَ في جوانحَ بَيضا
…
َء وَيَسحبْنَ من رِداء وضِيِّ
ويحومن سوما باسمات
…
يتخففن من هموم العشي
ساحبَاتٍ على الكَنهوَرِ أصباَ
…
غاً رقاقاً من واضحٍ وخفيِّ
ناسجاتٍ شَفَائفَ الأفُقِ الزَّا
…
هِي بُروداً على الصباحِ السَّنيِّ
ذاب في الأفْقِ رافقاً فوق هامِ ال
…
بيدِ يَهْمي على تُرى بدويِّ
يغسل النوْمَ من مضاجعٍ رُعيا
…
نِ الصَّحاري ومضربِ القَرَوِيِّ
عجباً للجلالِ والحُسنِ ماجا
…
في إطارَينِ فاتِرِ وقويِّ
ينسُجانِ الهوى من الفجر بُرْداً
…
عُلُويَّا لشاعرٍ علويِّ
صَاحَ منْ رُوحهِ وكبَّرَ في أع
…
مَاقِ دُنيَاهُ صَارِخاً كالصبيِّ
أفَهذَا الجَمَالُ يا رَبّ، هذَا الس
…
حرُ، منْ أجلِ ذَلكَ الآدَميِّ؟
أم درمان - السودان
التيجاني يوسف بشير
في الأدب الفرنسي المعاصر
رومان رولان
بقلم كامل
يطلع علينا رومان رولان بين وقت وآخر من أعماق عزلته في سويسرا بعيداً عن وطنه فرنسا بكتاب أو مقال جديد فيشعر من قرأ هذا الأديب العظيم بحنين زائد إلى قراءة هذا الكتاب أو هذا المقال. ذلك أن رومان رولان كاتب عالمي الفكر والعاطفة لا يكتب لأمة معينة ولا لشعب خاص، بل يكتب للعالم أجمع ناظراً إليه كأسرة إنسانية واحدة لا تمزقها حدود، ولا تفرقها لهجات، ولا تبذر بذور الحقد والضغينة في قلوب أعضائها فكرة الأجناس. لذا كان رومان رولان من أحب الكتاب المعاصرين إلى كل قلب رحيم ونفس واسعة الآفاق. وكتابه عن (مهاتما غاندي) يقربه إلى قلوبنا نحن الشرقيين لأنه وقف فيه موقف المدافع القوي عن الحركة الهندية وشعبها المجيد المهضوم، كاشفاً القناع عن فضائح الغرب وآثامه في قتل أمة عظيمة بلغت مئات الملايين والوقوف في وجهها بالالتجاء إلى البطش الخسيس حين تنهض مطالبة بحقها في الحياة
ولا عجب أن يبدو ذلك من رجل مثل رومان رولان لم تكد تعلن الحرب الكبرى - وكان وقتذاك في جنيف بسويسرا - حتى أخذ يكتب سلسلة مقالات ملتهبة بالعاطفة الإنسانية، مطالباً فيها بالمبادرة بحقن الدماء وعودة السلام وإنقاذ أرواح الشباب البريء الذي يلعب بعقله خطباء الشوارع مستغلين حرارة قلبه وسمو نفسه في سبيل جشع أصحاب مصانع السلاح ودجل رجال الحكومات. ولقد آثر رومان رولان عداء الرجعيين من أبناء وطنه والصحافة المادية المغرضة التي أثارت عليه الرأي العام الساذج في كل أمة مهما بلغ رقيها، آثر ذلك عن أن يتنازل عن حريته في الفكر والقول، عن إنسانيته التي هي ثروته الكبرى
ولد رومان رولان في بلدة كلاميسي في اليوم التاسع والعشرين من شهر يناير عام 1866 من أسرة ريفية برجوازية عريقة القدم. وتعلم أولاً في البلدة التي ولد بها. ثم أنتقل إلى
باريس عام 1886 حيث التحق بمدرسة النرمال العليا وفي عام 1889 نجح في امتحان (الأجريجاسيون) في التاريخ والفلسفة، وفي عام 1895 حصل على شهادة الدكتوراه في الآداب برسالة قدمها عن (أصول المسرح الغنائي الحديث) وعين بعد ذلك أستاذاً لتاريخ الفن في مدرسة النرمال العليا، ثم عين أستاذاً في السربون حيث أدخل مادة (تاريخ الموسيقى) وبقي فيها حتى عام 1911.
ابتدأ رومان رولان حياته الأدبية بكتابة عدد كبير من القصص المسرحية، ولم يكن ذلك منه عفواً بل كان تنفيذاً لفكرة مختمرة في نفسه عن وجوب تجديد الفن المسرحي بالطريقة التي شرحها في سلسلة مقالاته التي كتبها بعنوان (مسرح الشعب)(1900).
كتب رومان رولان من هذه القصص المسرحية (1897) - (1898) - (1898) - (1899) - (1900) - 14 (1902) - (1902) - (1904)(1905)(1917) - (1919).
وفي مقالاته عن (مسرح الشعب) نادى رومان رولان بان يكون المسرح متحرراً من برجوازيته أي من اقتصاره على رسم ألوان الحياة الدائرة بين الطبقات الوسطى والغنية، لأن هذه الطبقات لا تكون إلا جزءاً ضئيلاً من الأمة. فاقتصار موضوعات الكتاب المسرحيين عليها يحرم المسرح من أن يكون معبراً عن روح الشعب الحقيقية وآماله التي لا نلمسها إلا في الطبقات الفقيرة وهي الكثرة في كل شعب. كذلك هاجم رومان رولان المسرح الكلاسيكي والمسرح الرومانتيكي داعياً إلى أن يكون الفن المسرحي صدى لتفكير العصر الذي نعيش فيه، وأن يكون ممهداً الطريق لمجتمع جديد. وبرغم أن رومان رولان بقي حتى الحرب الكبرى لا يعلن فكرته السياسية المحددة، فإن كل كتبه كانت تفيض بتمجيد الحرية والأحرار وبنزعة إنسانية عظمى. ولقد كان هذا المجتمع الجديد الذي يرمي إلى التمهيد له هو ذلك الذي تحيا فيه الطبقات الفقيرة المهضومة حياة حرة كريمة، ونجد بين أحضانه أكبر قدر من الحنان والتقدير.
على أننا ونحن في انتظار ذلك اليوم المطوي في ثنايا الغيب يرى رومان رولان وجوب أن نعد الشعب لنقبل ذلك المجتمع الجديد، وما ذلك إلا بأن نهيء الفرد لبلوغ أعظم درجة مستطاعة من الكمال الإنساني حتى يقابل كل تطور جديد بقلب مفتوح وصبر جميل. ولذا
نرى رومان رولان (أخلاقيا) يطالب الفرد بأن يكون قوي الخلق عظيم النفس، حنون القلب محبا لكل الناس، راغباً في معرفة كل شيء، مستعذباً التضحية في سبيل الفكرة السامية. فبهذا وحده نستطيع أن نقبل راضين مجتمعاً جديداً مترفعاً عن الدنايا كارهاً لضروب الرياء الذليل، بعيداً كل البعد عن الأنانية الحيوانية. ولهذا أيضاً كان رومان رولان يهيم بحياة الأبطال الذين يرى فيهم مثلا أعلى لما يجب أن يكون عليه الفرد من الفضائل. فنراه يكتب - كما ذكرنا - قصتيه المسرحيتين (سان لويس) و (دانتون). ثم نراه بعد ذلك يكتب ثلاث تراجم بعنوان (حياة الرجال المشهورين) أولاهما عن (حياة بيتهوفن)(1903) والثانية عن (حياة ميشيل آنج)(1906) والثالثة عن (حياة تولستوي)(1913)، ثم أخيراً يصدر كتابه الشهير عن (مهاتما غاندي)(1926).
ويرى رومان رولان أننا في عصرنا الحاضر أحوج ما نكون إلى دراسة أولئك الأبطال (لأن أوربا الآن يغشاها جو خانق مفعم بالرذيلة. إذ طغت المادية الوضعية على الفكر. . . . إن العالم يختنق. فلنفتح النوافذ حتى يدخل الهواء الطلق العليل. فلنستنشق نفثات الأبطال) وما هؤلاء الأبطال إلا أولئك الذين نرى فيهم - كما يقول رومان رولان - (روح البطولة. ورجاحة العقل والابتسامة الدائمة، وشهوة النور والمعرفة. تلك الصفات التي نراها في فرنسا في رابليه وموليير وديدرو، وبين الموسيقيين نستطيع أن نقول بيرليوز وبيزيه لأنه لا يوجد خير منهما).
على أن رومان رولان يرى في بيتهوفن وفي ميشيل آنج وتولستوي عبقريةً لم يجدها في أبناء وطنه. فيرى في بيتهوفن الشخص (الذي منه تنتقل عدوى الشجاعة الخارقة. والإحساس بالسعادة في الكفاح، وتغلب الضمير الذي يشعر في نفسه بأنه إله). ويرى في تولستوي (ذلك النور الذي انطفأ، والذي كان لأبناء جيلين أطهر نور أضاء شبابهم) وهو يجد فيه أيضاً (الصديق الحقيقي الوحيد بين كل رجال الفن المعاصر). ولسنا في حاجة إلى تأكيد الصلة الوثيقة بين تولستوي ورومان رولان، إذ أن تولستوي هو الكاتب الوحيد بين الكتاب الحديثين الذي طالب بأن تكون رسالة الفنان أخلاقية ودينية. وهذا هو اظهر ما يميز فن رومان رولان ودعوته.
ونحن إذا نظرنا الآن إلى هؤلاء الثلاثة الذين يمجدهم رومان رولان رأينا أن أولهم ألماني،
والثاني إيطالي والثالث روسي. فكأنه لم يجد بين أبناء وطنه مثله الإنساني الأعلى. لذا كان ذلك داعيا إلى أن يجد رومان رولان عددا ليس بالقليل من النقاد الفرنسيين يتهمونه بانتقاص العبقرية الفرنسية والطعن فيها. والواقع أن رومان رولان كان دائم اللوم لأبناء وطنه على (شدة تأثرهم بالأوهام الخداعة التي تصوغها الخطب الرنانة) وكان يصرح دائما (بكرهه لذلك النوع الجبان من المثل الأعلى الذي يدير العيون عن بؤس الحياة وضعف النفس. إن البطولة الكاذبة جبن ونذالة. فليس هناك إلا نوع واحد من البطولة. تلك هي التي ترى الحياة كما هي وتحبها).
والعجيب أن رومان رولان عندما أراد أن يرسم صورة خيالية تتجمع فيها فضائل أبطاله السابقين لم يجعل بطلها فرنسياً بل ألمانيا. فكتب قصة (جان كرستوف)(1904 - 1912) وبطلها جان كرستوف - موسيقي ألماني (تغلغلت فيه نفس بتهوفن العظيمة. فصلبت أعضاءه ونفسه وبدت كأنما جعلت حجمها ضخما هائلاً. لقد كان يتجه نحو العالم. كان كجبل شامخ تدوي بين أرجائه العواصف، عواصف الحرارة والحماسة، عواصف الهم الدفين، آه! ياله من هم! على أن ذلك لم يؤثر بشيء! كان يحس بنفسه وافر القوة!. . . العذاب! العذاب أيضاً!. . . آه! ما أجمل أن يكون المرء قوياً ما أجمل أن يتعذب المرء عندما يكون قوياً!. . .).
وقصة (جان كرستوف) تقع في عشرة أجزاء، وهي في نظر الناقد أندريه بي أقرب إلى أن تكون ترجمة لشخصية خيالية من أن تكون قصة؛ وهي - كسائر أعمال رومان رولان - تفيض بالضمير الحر والحب النبيل والموسيقى الرائعة
وليس إعجاب رومان رولان ببتهوفن قاصراً على كونه نموذجاً للبطل الذي ينشده مما دفعه لأن يرسم شخصية (جان كرستوف) ماثلة له، بل أيضاً لأنه (إمام الموسيقيين)، و (الموسيقى الآلهية) عند رولان كأبطاله بمثابة (الضوء الذي ينير حياته) ولقد رأينا كيف كان له الفضل في إدخال مادة (تاريخ الموسيقى) في السوربون حين عين أستاذاً فيها. كما أنه كتب فضلا عن دراسته الخالدة عن بتهوفن عدة دراسات أخرى في الموسيقى. منها ` (1908) و ` ` (1908) و (1915) ذلك أن رومان رولان يرى - ككاتب أخلاقي - أن الموسيقى خير مهذب للنفوس المريضة، وأعظم حافز للعواطف الخامدة، كما أن
الموسيقيّ العبقري يستطيع أن يجعل موسيقاه خير تعبير عن روح العصر وآماله وظروفه الملموسة.
(البقية في العدد القادم)
علي كامل
القصص
من أساطير الإغريق
أجنحة ديدالوس
أول محاولة للطيران عرفها التاريخ
للأستاذ دريني خشبة
لم يكن في أثينا القديمة على ما اشتهرت به من روعة الفن وكثرة الفنانين، من هو أمهر من ديدالوس العظيم في نحت الدمى وصناعة التماثيل، وهندسة المباني الضخمة. ولقد كان يتنقل بين المعاهد اليونانية، وخاصة بين إقريطش وقبرص وأثينا، لكثرة الدعوات التي كانت تصله من ملوكها، ليقوم على بنايتهم وليتعهد تماثيلهم، وليشرف بنفسه على هياكلهم، ليقال في مواضع الفخر، إن هذا التمثال، أو تلك الدمية، أو هذه الزخرفة من عمل ديدالوس
واستفاضت شهرته، وذاع صيته، وملأ الخافقين أسمه، ولاسيما بعد إذ شاد اللابيرنث (التيه) لمينوس ملك إقريطش، واللابيرنث عمل من أجل الأعمال الهندسية القديمة، إن لم يكن أجلها جميعاً. ذلك أنه كان لمينوس وحش هائل مخرب يسمى (المينوطور)، نصفه الأسفل نصف عجل جسد، ونصفه الأعلى نصف رجل له أنياب الأسد، وغدرة الذئب، وقوة التنين العظيم
وكان لا ينفك يقتل كل من اقترب منه، ولو كان من خاصة الملك. فلما استطار شره، وعظمت بليته دعا مينوس الملك، ديدالوس المهندس، ليشيد هذا البناء الرائع، ذا المنعرجات والحنيات، والشعاب المتداخلة، التي لا يستطيع أحد أن يفلت منها، إذا انفتل فيها. وقد بناه ديدالوس على شكل دائرة عظيمة محيطها هذه الشعاب والمنعرجات، وفي وسطها فضاء فسيح يربض فيه المينوطور أو يركض
ولندع الآن ذاك المينوطور الرهيب جاثما في اللابيرنث، لنرى ما كان من أمر ديدالوس بعد ذلك
ظل الناس يتحدثون عما وهب ديدالوس من عبقرية، وما أوتي من حذق ونبوغ، وظلوا يتهافتون على آياته الفنية التي كساها إلهامه ظلالا كظلال السحر، وموهها بأمواه القداسة
والخلود، حتى كبر الفتى بردكس، ابن أخي ديدالوس؛ وكان شاباً ممتلئ الجسم، مفتول العضل، قوي الملاحظة، دقيق الفهم، سريع التصور؛ ما كاد يتتلمذ لعمه حتى بلغ شأوه، بل هو قد فاقه بمزج الشعر والموسيقى بفن الحفر والمثالة، ولاءم بين روحها جميعاً، فكان يبرز تحفه في مظهر دقيق وطراز أنيق؛ ثم هو يضفي عليها من شبابه الغض، وروحه العطرية الشاعرة، ظلال الحب، وسمات الفتنة، ويحرك فيها عواطف الآلهة!
ولهج الاثينيون باسم هذا الفنان الشاب، وتناسوا عمه الذي هو أستاذه وملهمه. وضاق ديدالوس بابن أخيه ذرعاً، وساءه أن تكسف شمسه الوضاءة المتلألئة، نجمه الذي لبث زماناً يسلسل نور الفن في أرجاء هيلاس
وما فتئ العم يحنق ويحنق، وما فتئ بردكس يسمو بفنه إلى الذروة، حتى لسعت عقارب الغيرة قلب الشيخ الفنان، ونفثت فيه سمها، فلم يعد يطيق هذا الخصم الذي صنعه لنفسه بيديه، ولم يعد يحتمل أن يرى نفسه كماً مهملا بجانب الفتى العبقري، فأقسم ليزيحنه من طريقه، ولو بتجريعه كأس المنون، وزين له أن يحتال عليه، فيذهب وإياه إلى شعاف جبل شاهق، ذي مهاو تنتهي إلى اللج الجياش في اليم، حتى إذا كانا فوق القنة المشرفة على البحر المصطخب، نهز منه غرةً ودفع به إلى الأعماق، حيث ينشق له قبر من الموت. . . والنسيان!
وأنفذها ديدالوس المسكين!
ولكن الآلهة كلها كانت تنظر، وتستعد للمعجزة! وكيف؟!
لقد أستجمع الشيخ كل قوته، ووضع في يديه كل منته، ودفع بابن أخيه من فوق القنة، فتردى الفتى على حدور الجبل، حتى إذا كان بينه وبين الموت قاب قوسين، هبطت منيرفا سيدة الأولمب، وصاحبة أثينا، من عليائها، فأنقذت بردكس من قتلة محققة، ثم نفثت في إذنه نفثتين، كان بهما فرخاً حزيناً من أفراخ القطا، راح يرف في السماء مدوماً فوق عمه، حتى كاد يصعقه من حيرة وعجب!!
وانقلب ديدالوس إلى بيته أسوان أسفاً، ووقر في نفسه أن الآلهة التي سحرت بردكس لتنقذه من تدبيره السيء، لأبد أنها تترصده، ولابد أنها ستأخذه بأوزاره في القريب، غير متجنية ولا ظالمة؟
ثم مضت سنون وولد لديدالوس طفل جميل الصورة، طلق المحيا، مشرق الغرة، سماه إيكاروس. ولكن الطفل لم يستطع أن يخفف من الروع الذي كان ينتاب أباه، أو يذهب بسورة الهم التي كانت تجثم على قلبه، وتثقل على نفسه، كلما تصور الهامة المفزعة التي يضطرب بها نومه، فتقض مضجعه وتزلزل كيانه
لقد كانت القطاة تتمثل له كلما أغمض طرفه، كأنها روح ميت ترنق على خصمها تكاد تصعقه. وازداد الشيخ خبالاً حينما ألحف عليه الأثينيون يسألونه عن بردكس أين قضى وأيان ولى! وأخذ الغوغاء يلغطون، وشرع الخاصة يتسقطون أخبار الفتى الفنان، ودأبوا على عمه يسألونه عنه، وهو يضلل بهم ويخترع لهم، حتى أوجس أن ينكشف سره، فينكل الناس به. فآثر الهجرة عن أثينا المحبوبة، إلى صديقه مينوس ملك إقريطش، مصطحباً معه ابنه الطفل إيكاروس
وتطامن الدهر، وشب إيكاروس وترعرع، وأخذ عن والده من الفن ما أخذ بردكس من قبل، وحسب ديدالوس أن الزمان قد غفل عنه، وأن أعين الآلهة قد غفت واستنامت، وأن الأيام قد ابتلعت إثمه الكبير في تضاعيفها القاتمة المظلمة، فأستيقظ الغرور في قلب الفنان الشيخ، ولم يتقبل ما غمره به مينوس الملك من النعم بالشكر الواجب على لاجئ طريد مثله، بل بطر وأستكبر، وكفر بأنعم مولاه وآلائه، ومد له هواه فولغ في إناء الملك، بعد أن أختلط بأهل بيته اختلاطاً شائناً أدى إلى كثير من القيل والقال
وعلم الملك بما كان من خيانة ديدالوس فأمر بالقبض عليه، واعتقاله في إحدى غرف القصر حتى يقضى في شأنه؛ فأُلقي به في حجرة منفردة في طرف القصر، مشرفة على الماء، متصلة بالسماء
وطالت عزلت الفنان الشيخ في معتقله هذا، وضاق ابنه بالحيز الضيق الذي يحبس أنفاس روحه، ويحسر مرامي مقلتيه، ويشيع الهم في حنايا ضلوعه، فقال لوالده وهو يحاوره:(أهكذا قضى علينا أن نموت هنا صبراً يا أبتاه!) وكانت كلمات إيكاروس المبللة بالدموع تذهب كالصدى في أذان الشيخ، وكان الغلام يجتذب اللفظة المفردة من فم أبيه، فما كاد يفوز إلا بلا. . . أو بنعم. . .
وكانت للغرفة التي اعتقلا فيها شرفة صغيرة تطل على البحر الأبيض المتوسط، وكان
منظر السفائن الماخرة كالأعلام، والطير صافات من فوقها كأنها تسبح بدورها في لج من زرقة السماء، يثير في نفس الفتى أحلاما وأخيلة وأمنيات. وأنه لفي أصيل جميل يناجي الطبيعة من شرفة سجنه الصغيرة، إذا به يذهب إلى والده مستبشرا متهللا، ويقول:(أبي! أعجزنا أن نصنع لنا أجنحة كهذه الطير. فنفلت بها من هذا المكان الرهيب؟.)
وكان الشيخ جالسا في زاوية مظلمة من زوايا الغرفة يجتر أحزانه، ويتغنى آلامه، فلما سمع ما خاطبه ابنه به، افتر فمه العجوز عن ابتسامة منقبضة مغضنة، وشاعت في أساريره بوارق أمل جديد!
وقال لابنه: (أجنحة وأنى لنا بالريش يا إيكاروس؟)
فقال الولد: (لا عليك يا أبي، أن غرفة الدجاج قريبة من هنا!)
وعبس الفنان الشيخ، وقال:(والحارس الفظ؟. . .)
فتضاحك إيكاروس قائلا: (الحارس!؟ أمره أهون مما ترى. . . سنرشوه يا ابتاه، فيحضر لنا ما نشاء من الريش، وسنخدعه أننا صانعان له لباسا لا تحلم الملوك بمثله!)
ولكن العبوسة التي رفت على جبين الشيخ أنشبت فيه جميع مخالبها، وقال:(دعني أفكر يابني، دعني أفكر يا إيكاروس. . .)
وهكذا كانت العبقرية البكر، الكامنة في هذا الفتى الصغير، لقاحا بعيد الأثر في عبقرية الشيخ الفاني المتهدم، وهكذا بدأ الفنان الأكبر، باني اللابيرنث، ومشيد هياكل الآلهة، يفكر في هذا المقترح الشارد الذي اقترحه عليه الفنان الصغير!
(أجنحة. . . دجاج. . . ريش. . . الحارس الفظ. . . مينوس. . . بردكس. . . فرخ القطا. . . الطير. . . إيكاروس ابني. . .!) وهكذا انبطح الشيخ على وثيرته تتداعى هذه الخلجات في رأسه الساخن المتأجج، تذكى فيه الذكريات والماسي!
وأحتال الفتى على الحارس حتى حصل على مقادير هائلة من ريش البط والإوز والديكة؛ وفكر الشيخ كيف يثبت الريش في مكانه من عضد الجناح، فادخر الشموع التي كانت تترك له يضيئها في الليل، ليتضاعف بلهيبها الخافت حزنه؛ حتى إذا كان لديه قدر كبير منها، عمد إليها فصهرها، وثبت بها ما شاء من الريش، وبذلك صنع زوجين من الأجنحة الكبيرة، يكفي أحدهما لحمل فيل!
وجلس يمحض ابنه النصح فقال:
(أي بني! أي إيكاروس العزيز! سنطير من هنا يا ولدي! إلى أين؟ لست ادري! ولكننا سنفلت من هذا السجن على كل حال! وهاأنذا قد صنعت الأجنحة التي تخيلها املك الصغير الذي هو أكبر من جميع آمالي! ولقد رأيت إلى كيف كنت أذيب الشمع قريبا من النار يا ولدي، فأوصيك إذا طرنا ألاَّ تترك سمتي، وأن تكون دائما قريبا مني، فإني أخشى إذا علوت علوا شاهقا أن تصهر الشمس شمع جناحيك، فتهوى في البحر، فتتردى في أعماق الموت! وكما أخشى عليك من العلو الشاهق، فكذلك لا أرى لك أن تدنو من الماء، فإنه إن وصل إلى الشمع أيبسه، ولم يعد يصلح لمهمة الطيران، إذ يساقط قطعة فقطعة، ويتناثر الريش، وتسقط، إما في البحر فتغرق، وإما في الأرض فيندق عنقك. فلا تنس يا بني أن تتبعني أبداً، وأحذر أن تعلو فتدنو من الشمس، أو أن تسفل فيصيبك رذاذ الماء ورشاشه. إليَّ يا ولدي اثبت لك جناحيك، ولنمض على بركة ز. . . ز. . . زيوس!!)
وتلجلج لسانه حين أراد أن ينطق باسم الإله الأكبر، لأنه يثق أنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو محيط بعباده، لا ينسى أن ينتقم من الظالمين للمظلومين!
وانطلقا من الشرفة، والقيا على القصر، وما أحاط به من حرس وعسس، نظرات كلها نقمة وتغيظ. . .
ومرا بشطوط كثيرة ومروج كبيرة، وكان الصيادون والزراع والبحارون وأهل القرى كلما رأوا هذين الطائرين الكبيرين، ذوي الهيئة الآدمية، خروا للأذقان سجدا، يحسبون أنهما إلهان من آلهة السماء، هبطا يباركان الناس والخلق، فيهللون ويكبرون!!
فهذا شيخ يطلب إليهما أن يباركا في عقبه ويمدا في اجله، وهذه شمطاء تدعو أن يردا عليها جمالها الضائع وشبابها الذاهب، وتيك رؤوم تناجي ابنها في قبره فتطلب إليهما أن ينفضاه من الثرى! وهؤلاء فلاحون يصرخون أن يمنا عليهم فيخلصاهم من الفقر والمتربة. . .
وشاع الزهو في أعطاف إيكاروس، فكان يرتفع قليلا، أو يهبط قليلا عن سمت أبيه؛ ثم تشجع وتشجع، وبهرته زرقة السماء وأديمها الصافي، فجازف وارتفع ارتفاعا شاهقا، ونسي وصية أبيه، فعلا وذهب في السماء صعدا، وكان يغريه أن يصغر العالم الأرضي
في عينيه، فيعلو ويعلو
وا أسفاه!! لقد دنت ساعة الانتقام لك يا بردكس! فلقد صهرت الشمس شمع الجناحين، وهوى إيكاروس إلى الأعماق! ولما دنا من والده صرخ صرخة هائلة دوت في إذن أبيه، فتلفت الشيخ ليرى ولده يغوص في اليم، يبتلعه مرة ويلفظه أخرى!
فأسرع الوالد المسكين إلى البحر، وأنتشل ولده من الماء جثة هامدة! وكان هو بدوره قد أذاب الماء شمع جناحيه، فعالج الموج معالجة، وسبح بفلذة كبده إلى جزيرة قريبة، بلغها بعد جهد وعناء!
وجلس يبكي ولده. . .
ثم شق له قبرا صغيرا في رمل الشاطئ، وما كاد يسره فيه، حتى رأى قطاة حزينة تدوم في السماء، ثم تهبط قليلا قليلا، حتى تكون بمقربة من القبر، فتقف كاسفة مشجونة وتنظر إلى الجثة والدموع تنهمل من عينيها. . عبرة، فعبرة. .
ويفرغ الشيخ من مواراة ولده في التراب! وينته! فيرى القطاة! فينشج نشيجا مؤلما، ويقول:(بردكس!! أتيت تبكي إيكاروس!! سامحني يا بردكس!)
فتزقو القطاة كأنها تنتحب! ثم تدنو من القبر حتى تكون فوقه، فتذرف عبرتين غاليتين، وترف في الهواء حتى تغيب عن عيني ديدالوس!!
دريني خشبة
البريد الأدبي
سان ماركو
قامت إيطاليا في ظل الفاشستية بكثير من الأعمال العلمية والفنية العظيمة؛ ومن ذلك اكتشافات أثرية عظيمة في ضواحي رومة وفي جنوب إيطاليا، وإصلاح لكثير من الآثار الشهيرة، وإصدار موسوعة إيطالية كبيرة، ووصل ثغر البندقية بالأرض بجسر عظيم يبلغ طوله نحو كيلومترين. وأخر الأعمال الفنية العظيمة التي أتمتها الحكومة الإيطالية، هو إصلاح كنيسة سان ماركو (القديس مرقس) الشهيرة في البندقية؛ وتعتبر هذه الكنيسة التي يرجع بناؤها إلى نحو ألف عام من أعظم التحف الفنية في إيطاليا، وتعتبر الثانية من حيث عظمتها الفنية بعد كنيسة القديس بطرس في رومة. وتمتاز بالصور والنقوش الرائعة التي صنعت كلها من الفسيفساء الملون، في جدرانها السفلية وأروقتها العليا. وهي تجاور قصر الدوجات وتقع على يساره، وأمامها ميدان سان ماركو الشاسع الذي كان خلال العصور ميدان الاحتفالات والاجتماعات العامة أيام الجمهورية؛ وقد بدأت أعمال الإصلاح فيها منذ ثمانية وعشرين عاما، وذلك بعد أن قرر الخبراء أنها في خطر، وأن أسسها قد اضطربت وتشققت جدرانها؛ وذلك على أثر سقوط برج (الكامبنيلي) الشهير في سنة 1902؛ وهو يقع أمام قصر الدوجات على مقربة من الكنيسة، وقد جدد، وهو يرتفع إلى علو شاهق، ويشرف على ثغر البندقية وجميع الجزر (اللاجون) التي تقوم عليها. وبدئ الإصلاح بتقوية أسس الكنيسة وأعمدتها، وعهد إلى المهندس والفنان الكبير الأستاذ لويجي مارانجوني بالأشراف على أعمال الإصلاح الفنية. وقد بذل هذا الفنان مجهودات فادحة لإنقاذ زخارف الفسيفساء التي كاد بعضها يتلاشى، واستطاع بمعجزة حقيقية أن يعيدها إلى بهائها الأول. ولم تمضي أسابيع قلائل حتى ترفع الأعمدة والحواجز الخشبية التي حجبت بعض واجهات الكنيسة عن النظارة زهاء ثلاثين عاما، ويستطيع الزائر أن يمتع الطرف بمشاهد الصور والنقوش البديعة التي صنعت كلها من فسيفساء ملون، وبينها صور القديسين ومناظر من الكتاب المقدس
ويعتبر إصلاح هذه الكنيسة من أعظم الأعمال الفنية التي قامت بها إيطاليا في هذا العصر؛ ويرجع إلى عزم الحكومة الفاشيستية وسخائها في تعزيز الأعمال الفنية والأثرية، الفضل
في سرعة إنجاز هذا العمل العظيم
حول أزمة السياحة
تتحدث الصحف الفرنسية منذ حين عن (أزمة السياحة)، لان السياحة مورد من موارد فرنسا العظيمة، وقد لوحظ أن الإقبال على زيارة فرنسا قد أخذ يتناقص في الأعوام الأخيرة، وتأثرت جميع الجهات والمصالح التي تتصل بموسم السياحة، وأخذت تفكر في ابتكار الوسائل لمكافحة هذه الأزمة وترغيب الأجانب في زيارة فرنسا. وقد درس كثير من الخبراء والباحثين أسباب هذه الأزمة في الصحف، ونسبها بعضهم إلى ارتفاع الفرنك وغلاء الأسعار في فرنسا لدرجة فاحشة؛ ونسبها البعض إلى الأزمة العالمية التي أصابت كل الموارد؛ ولكن كاتبا مطلعا وعضوا في مجلس الشيوخ، أدلي برأي جديد في أسباب أزمة السياحة، فقال أنها ترجع قبل كل شيء إلى تغير النفسية الفرنسية، وتحول الفرنسي من مضيف رقيق الطبع كريم الوفادة، إلى تاجر جاف الخلال، تغلب لديه فكرة الكسب على كل فكرة أخرى، فجميع الجهات والأفراد الذين يشتغلون بموسم السياحة كوكالات السفر والفنادق، والسكك الحديدية، وأصحاب المطاعم والملاهي وغيرها، يعمل كل لصالحه فقط، ولا تجمع بينهم رابطة مشتركة وكل يحاول أن يقتضي من السائح أوفر غنم؛ واليوم يلقى السائح في الجمارك الفرنسية موظفين جامدين، وتستقبله في فرنسا قوانين وإجراءات شديدة، ولا يكاد يلقى الابتسامة على ثغر أحد؛ ومن رأي الكاتب أن الاستقبال الحسن هو أهم عنصر لتشجيع السياحة، ويجب أن يشعر الزائر بهذه الخاصة، منذ دخوله البلد حتى خروجه منها، ويجب أن يحسن استقباله أين سار: في الجمارك وفي الفندق، وفي المتاجر والمصالح، وكل ماله مساس بتجواله أو درسه أو متعته. وعلى هذا الأثر الحسن يتوقف مستقبل السياحة اليوم؛ وقد فرنسا في الأعوام الخيرة كثيرا من هذا الأثر الحسن الذي كانت تشتهر به فيما مضى
حول الراغب الأصبهاني
. . . طالعت في العدد السابع والثمانين من مجلة الرسالة الغراء كلمة الأستاذ الباحثة علي الطنطاوي في الراغب الأصبهاني، فأستغربت كثيرا عدم عثوره على غير المصادر التي
أشار إليها، ولهذا أرى أن من حق الأدب عليّ وخدمة للتاريخ أن ادله على المصادر التالية التي أفردت للكلام عنه بحثا ضافيا، وهي:
(1)
كتاب هدية الأحباب للشيخ عباس القمي المطبوع في النجف
(2)
كتاب روضات الجنات للشيخ محمد باقر الخونساري المطبوع في إيران
وسأتقدم بمقال ضاف عما قريب إلى (الرسالة) الزهراء عن المشار إليه، والأمل أن يتفضل صاحب الرسالة بنشره
النجف - العراق
محمد كاظم كمونة
جامعة مشيغن الأمريكية وشباب الشرق
على أثر عودة الدكتور أغا أوغلو أستاذ الفنون والصنايع الإسلامية في جامعة مشيغن إلى أمريكا، بعد زيارته إيران وحضوره حفلات الفردوسي، رفع إلى إدارة الجامعة تقريرا مفصلا بلزوم تعهد الجامعة بنفقات عشرة طلاب من طلاب الممالك الإسلامية ليدرسوا فيها فروع الصناعات الإسلامية والفنون الجميلة الشرقية. وبعد مداولات كثيرة بين الأستاذ اغا أوغلو وبين أعضاء إدارة الجامعة، وافقت الجامعة على طلبه، أما الطلاب العشرة فقد وزعتهم الجامعة على الوجه التالي:
طالبان من العراق، طالبان من ايران، طالبان من تركيا، طالبان من مصر، طالبان من سوريا وفلسطين.
تأليف مجمع للغة الإيرانية
بالنظر إلى اتجاه الأوساط الأدبية والصحفية نحو إحلال اللغة الإيرانية محل الفارسية وتطهيرها من الكلمات والتعبيرات الأجنبية التي قد دخلت عليها واعتبارها أن مثل هذه الحركة إذا تركت بلا توجيه يخشى أن تضر بجمال اللغة - قررت الحكومة أن تنشئ قريباً مجمعاً للغة الإيرانية. وسيضم هذا المجمع نخبة الكتاب وعلماء اللغة الوطنيين، وستكون مهمتهم أن يضعوا معجماً لاستبدال الكلمات الأجنبية الكثيرة، ولاسيما الكلمات المشتقة من العربية والتركية في اللغة الإيرانية الحالية بكلمات إيرانية بحتة
وقد أرسلت وزارة المعرف تنفيذا لهذا القرار وتجنبا لأي اضطراب في أعمال المجمع منشورا إلى جميع الوزارات والمصالح يحرم استعمال الكلمات الجديدة التي تذيعها الأوساط الأدبية التي ليست لها السلطة ولا الخبرة التامة المطلوبة لهذا العمل؛ والكلمات المستعملة سيستمر استعمالها إلى أن تستبدل تدريجياً كلما انتهى مجمع اللغة الإيرانية الملكي إلى اتخاذ قرارات في بعض البحوث
مؤتمر القلم الدولي
يجتمع المؤتمر الدولي الثالث عشر لنوادي القلم في ثغر برشلونة عاصمة قطلونية (أسبانيا) في العشرين من شهر مايو الجاري، ويستمر انعقاده إلى يوم 25 منه. وقد وضع البرنامج النهائي لأعماله واجتماعاته. ففي الساعة العاشرة من يوم الاثنين 20 الجاري تفتح مكاتب المؤتمر في (كازال ولايتجي) وفي الظهر يطوف الأعضاء ثغر برشلونة، ويزورون متاحفها ومشاهدها، وفي اليوم التالي يفتح المؤتمر بصورة رسمية، وتلقى خطب الافتتاح وتصرف بقية اليوم في حفلات نظمتها لجنة المؤتمر؛ وفي اليوم الثالث يستقبل الفنانون في برشلونة أعضاء المؤتمر في معرض للصور والتماثيل أقيم تكريما لهم. وفي الأيام الثلاثة الباقية يعقد المؤتمر جلساته في صباح كل يوم، ويشهد المؤتمرون بقية اليوم بعض الحفلات والاستقبالات التي نظمت لهم، ويختتم المؤتمر بمأدبة غذاء رسمية في فندق (رتز) أعظم فنادق برشلونة؛ وقد نظمت رحلات أثرية للمؤتمرين في بعض أنحاء قطلونية ورحلة إلى جزائر البليار؛ وستعنى لجنة المؤتمر بأن تعرض على المؤتمرين جميع النواحي الفنية والثقافية الأسبانية والقطلانية بنوع خاص
في الجامعة المصرية
وأخيرا صدر المرسوم الملكي بتعيين زعيم النهضة الفكرية الحديثة الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك مديرا للجامعة المصرية. والتعيين هنا معناه إعادة الأستاذ إلى منصبه بعد أن ظل باستقالته منه شاغرا أربع سنين كابدت فيها الجامعة من الأحداث الجسام ما كابدته الأمة كلها في سيادتها ومرافقها وأخلاقها من عبث الطغيان المسرحي الأحمق. استقال الأستاذ استقالته المثلية النبيلة حين رأى عبث العهد البائل ينال حرم الجامعة فيعدو على
استقلالها، ويعتدي على حقوق رجالها، وينقل عميد كلية الآداب فيها إلى منصب أخر من غير رأيه ولا علمه. ثم هيمنت على إدارة الجامعة وإرادتها سلطة متجنية كانت تدفع الحق دفعاً عن أهله، حتى انجلت عن السياسة المصرية غشاوة الزيغ وسحابة الباطل، فوجد المظلوم العدل، وابصر التائه الطريق
ولم يكن من السهل حتى في ذلك العهد الذي أنكر الكفاية، وجانب المنطق، أن تظفر الجامعة بخلف للطفي بك، فإن ثقافته الشاملة، وعقليته المنطقية، ونزعته الحرة، وطبيعته المعلمة، وخلقه الفيلسوف، جعلته اصلح الناس لهذا المنصب، وأحزم العلماء بهذا العمل
في الجامعة الأزهرية
كذلك صدر مرسوم ملكي أخر بتعيين صاحب الفضيلة العالم الجليل الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخا للجامع الأزهر. ومسألة الأزهر كانت كمسألة الجامعة عقدة من عقد العهد البائد، فقد رضى فيه شيخ الأزهر المستقيل أن يكون مطية ذلولا من مطاياه تخب في الزور، وتخبط في الباطل، حتى غضب الناس للدين، وضح العلماء للعلم، وثار الطلاب للكرامة، ووفق الله الوزارة القائمة فعالجت هذه الحال بإقصاء الشيخ الظواهري وتعيين الأستاذ المراغي. والأستاذ المراغي من العباقرة الآحاد الذين يفهمون القرآن بالأدب، ويطبقون الدين على الخلق، ويوفقون بين المدنية والفقه، وينهجون في الإصلاح منهج الإمام محمد عبده
وفاة الشيخ عبد المحسن الكاظمي
في يوم الخميس الماضي استعز الله بالشاعر العربي العراقي الكبير الأستاذ عبد المحسن الكاظمي عن سنة عالية وشهرة مستفيضة؛ وهو من الذين ساهموا في نهضة الشعر الحديثة بقسط وافر من السليقة الخالصة، والقريحة الطيعة، والبديهة التي ترتجل القصيدة المطولة عفو الساعة. هبط الأستاذ مصر منذ خمس وثلاثين عاما، فطابت له فيها الإقامة، ولاذ بكنف الإمام محمد عبده، وهو يومئذ موئل العلم والأدب، فظاهر نعمه عليه كما ظاهرها على الشنقيطي وحافظ والمنفلوطي، حتى اتصل سببه وأثمر أدبه في حماه وتحت عينه. ولم يبتغ الكاظمي الوسيلة إلى الحياة إلا بالشعر - والشعر في هذا الزمن رحم قطعاء وأداة
عاجزة - لذلك نكد عيشه قليلا بعد الإمام، فرضى بميسور الكفاف من الرزق، وبالإنتاج القليل من القريض، وأقعده ضعف القلب وكلال البصر وتقدم السن عن غشيان المجالس والأندية، حتى أختاره الله إلى جواره. وسنعود إلى تفصيل أمره وتحليل شعره في عدد مقبل
الكتب
كتاب المواقف والمخاطبات للنفري
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
الأستاذ نيكلسون أستاذ الأدب العربي بجامعة كمبردج، أحد العلماء الأوربيين الذين عنوا بدراسة التصوف الإسلامي، وبلغوا في درسه والعلم بتاريخه درجة عالية
وللأستاذ نيكلسون أياد مشكورة في ترجمة كتب التصوف الفارسية والعربية إلى الإنكليزية، ونشر نصوصها، والكتابة في كثير من مباحث التصوف. وأعظم مآثره في ذلك ترجمته الكتاب الخالد، كتاب المثنوي إلى الانكليزية، ونشره الاصل الفارسي في طبعة مرتبة مصححة، لا تقاس بها طبعة أخرى؛ ولا ريب أن الأستاذ بعد اليوم من أئمة هذا الشأن في المشرق والمغرب
- 2 -
وللأستاذ نيكلسون تلاميذ نهجوا نهجه واقتفوا أثره في العناية بالتصوف الإسلامي، والاهتمام بأحياء كتبه ونشرها
ومنهم صديقنا النابغة العلامة اربري الذي سعدنا بصحبته حينا في كلية الآداب، ثم شقينا بفراقه هذا العام، إذ ولى منصب في المكتبة الهندية بلندن
وكان صديقنا اربري، زمان إقامته بالقاهرة، دائب البحث عن المخطوطات الصوفية، يواصل الجهد في تصحيحها ومقابلة بعضها ببعض، ونسخها بخطه العربي الجميل، وقد يسر له أن يجمع جملة نادرة من رسائل التصوف وكتبه، منها: رسائل المحاسبي والسلمي من متقدمي الصوفية
ثم بدأ ينشر ما جمعه وصححه، فطبع في القاهرة كتابي المواقف والمخاطبات اللذين نكتب عنهما اليوم، وترجمهما إلى الإنكليزية، ثم نشر الأصل والترجمة في كتاب واحد، وكتب له مقدمة نفيسة
- 3 -
محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، أحد صوفية القرن الرابع الهجري، توفي سنة 354 أو بعدها بقليل. وينسب إلى قرية نفر إحدى قرى العراق، وهي مدينة نبور البابلية القديمة
ويقال إن أبا الشيخ كان جوالا في البراري لا يستقر في مكان، ولا يسكن إلى إنسان، وأنه توفي بإحدى قرى مصر
ولم ينبه ذكر الشيخ بين رجال الصوفية، ولم تذع كتبه بين الناس. وقد ذكره محي الدين بن العربي في كتاب الفتوحات، والشعراني في الطبقات الكبرى، ولكن المأثور من أخباره قليل
وللشيخ النفري كلمات في التصوف، طائفة منها تبدأ بقوله: أوقفني على كذا، والأخرى تبدأ بقوله: خاطبني. وقد جمع ابن بنته كلماته في كتابي المواقف والمخاطبات اللذين نشرهما صديقنا العلامة اربري
وخير تعريف للكتابين أن اعرض على القارئ بعض كلماتهما، فهذه شذرات من المواقف، وفي العدد الآتي ننقل شذرات من المخاطبات
وسيرى القارئ إن هذا الكتاب بدع من كتب التصوف، وأنه من الأدب الصوفي الذي لا يعرف نظيره:
موقف العز
أوقفني في العز وقال لي:: لا يتسقل به من دوني شيء، ولا صلح من دوني لشيء، وأنا العزيز الذي لا يستطاع مجاورته، ولا ترام مداومته. أظهرت الظاهر وأنا اظهر منه، فما يدركني قربه، ولا يهتدي إلى وجوده. وأخفيت الباطن وأنا أخفى منه، فما يقوم عليّ دليله، ولا يصبح إليّ سبيله
وقال لي: أنا اقرب إلى كل شيء من معرفته بنفسه، فما تجاوزه إليّ معرفة، ولا يعرفني أين تعرفت إليه نفسه
وقال لي: لولاي ما أبصرت العيون مناظرها، ولا رجعت الأسماع بمسامعها.
وقال لي: لو أبديت لغة العز لخطفت الإفهام خطف المناجل، ودرست المعارف درس الرمال عصفت عليها الرياح العواصف
وقال لي: لو نطق ناطق العز لصمتت نواطق كل وصف، ورجعت إلى العدم مبالغ كل حرف
وقال لي: إن من اعد معارفه للقائي لو أبديت له لسان الجبروت، لأنكر ما عرف، ولمار مور السماء يوم تمور مورا
. . . وقال لي: طائفة أهل السماوات وأهل الأرض في ذل الحصر. ولي عبيد لا تسعهم طبقات السماء، وتقل أفئدتهم جوانب الأرض. أشهدت مناظر قلوبهم أنوار عزتي فما أتت على شيء إلا أحرقته. فلا لها منظر في السماء فتثبته، ولا مرجع إلى الأرض فتقر فيه. الخ
موقف البحر
أوقفني في البحر، فرأيت المراكب تغرق، والألواح تسلم، ثم غرقت الألواح
وقال لي: لا يسلم من ركب
وقال لي: خاطر من ألقى بنفسه ولم يركب
وقال لي: هلك من ركب وما خاطر
وقال لي: في المخاطرة جزء من النجاة
وجاء الموج فرفع ما تحته وساح على الساحل
وقال لي: ظاهر البحر ضوء لا يبلغ؛ وقعره ظلمة لاتمكن، وبينهما حيتان لا تستأمن
وقال لي: لا تركب البحر فأحجبك بالالة، ولاتلق نفسك فيه فأحجبك فيه
. . . وقال لي: الدنيا لمن صرفته عنها، وصرفها عنه، والآخرة لمن أقبلت بها عليه وأقبلت به علي
موقف المطلع
أوقفني في المطلع وقال لي: أين اطلعت رأيت الحد جهرة، ورأيتني بظهر الغيب
وقال لي: إذا كنت عندي رأيت الضدين والذي أشهدتهما فلم يأخذك الباطل ولم يفتك الحق
وقال لي: الباطل يستعير الالسنة، ولا يوردها موردها. كالسهم تستعيره ولا تصيب به
وقال لي: الحق لا يستعير لسانا من غيره
وقال لي: إذا بدت أعلام الغيرة ظهرت أعلام التحقيق
. . . وقال لي: يا عالم اجعل بينك وبين الجاهل فرقا من العمل وإلا غلبك. واجعل بينك وبين العلم فرقا من المعرفة وإلا اجتذبك
وقال لي: اليقين طريقي الذي لا يصل سالك إلا منه
وقال لي: من علامات اليقين الثبات. ومن علامات الثبات الأمن في الروع
وقال لي: إن أردت لي كل شيء علمتك علماً لا يستطيعه الكون، وتعرفت إليك معرفة لا يستطيعها الكون
وقال لي: يا عارف أرى عندك قوتي، ولا أرى عندك نصرتي. أفتتخذ إلهاً غيري؟
وقال لي: يا عارف أرى عندك حكمتي، ولا أرى عندك خشيتي. أفهزئت بي؟
وقال لي: يا عارف أرى عندك دلالي ولا أراك في محجتي
وقال لي: من لم يفر إلى لم يصل إلى. ومن لم أتعرف إليه لم يفر إلي
وقال لي: إن ذهب قلبك عني لم أنظر إلى عملك
وقال لي: إن لم أنظر إلى عملك طالبتك بعلمك. وإن طالبتك بعلمك لم توفي بعملك
وقال لي: من عبدني وهو يريد وجهي دام، ومن عبدني من أجل خوفي فتر، ومن عبدني من أجل رغبته أنقطع
وقال لي: العلماء ثلاثة، فعالم هداه في قلبه، وعالم هداه في سمعته، وعالم هداه في تعلمه
وقال لي: القراء ثلاثة فقارئ عرف الكل، وقارئ عرف النصف، وقارئ عرف الدرس
وقال لي: الكل الظاهر والباطن، والنصف الظاهر، والدرس التلاوة
وقال لي: إذا تكلم العارف والجاهل بحكمة واحدة، فاتبع إشارة العارف؛ وليس لك من الجاهل إلا لفظه
موقف الموت
أوقفني في الموت فرأيت الأعمال كلها سيئات. ورأيت الخوف يتحكم على الرجاء، ورأيت الغني قد صار نارا ولحق بالنار. ورأيت الفقر خصما يحتج، ورأيت كل شئ لا يقدر على شئ. ورأيت الملك غروراً. ورأيت الملكوت خداعا. وناديت يا علم فلم يجبني. وناديت يا معرفة فلم تجبني. ورأيت كل شيء قد أسلمني، ورأيت كل خليقة قد هربت مني. وبقيت
وحدي. وجاءني العمل فرأيت فيه الوهم الخفي والخفي الغابر. فما نفعني إلا رحمة ربي. وقال لي أين عملك؟ فرأيت النار
وقال لي: أين عملك؟ فرأيت النار
وقال لي: أين معرفتك؟ فرأيت النار، وكشف لي عن معارفه الفردانية فخمدت النار
وقال لي: أنا وليك فثبت
وقال لي: أنا معرفتك فنطقت
وقال لي: أنا طالبك فخرجت
عبد الوهاب عزام