المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 960 - بتاريخ: 26 - 11 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٦٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 960

- بتاريخ: 26 - 11 - 1951

ص: -1

‌موقفنا من الاستعمار الثقافي

للأستاذ أنور المعداوي

ما هو موقفنا اليوم من الاستعمار الثقافي؟ سؤال يتردد في الأذهان ومن حقه أن يتردد، ويستقر على كل لسان ومن حقه

أن يستقر، ويوجه إلى معالي وزير المعارف ورجاء السائلين فيه أن يجيب!

إننا اليوم نخوض المعركة؛ معركة الحرية والاستقلال، أو معركة الشرف والكرامة. نخوضها ضد الغاضب المستعمر بكل سلاح من أسلحة الكفاح وكل وسيلة من وسائل النضال، وهدفنا المقدس هو أن نتخلص من كل قيد فرضه علينا الاستعمار وأرغمنا على قبوله، منذ أن وطئت أقدامه المجرمة أرض هذا الوطن. . هناك الاستعمار العسكري وقد وقفنا في وجهه حين ألغينا المعاهدة، وهناك الاستعمار الاقتصادي وقد حاربناه حين قررنا مقاطعة البضائع الإنجليزية، وبقى الاستعمار الثقافي جاثما على الصدور والعقول حيث قدر له أن (يحتل) مكانه (المقدس) في المدارس والجامعات!

هل نحن محتاجون إلى اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية؟ أشهد أن تلك اللغة ليست أشرف اللغات، وأن هذه الثقافة ليست أعمق الثقافات، ولكن منطق القوة وحده هو الذي أضفي عليهما من زيف الطلاء ما بهر العيون وطمأن الظنون، وأحلهما المحل الأول من قاعات الدرس وأفكار الطلاب في كل مرحلة من مراحل التعليم!!

إنها حقيقة لا تقبل الجدل حين نقول إن تلك اللغة قد فرضت علينا منذ أعوام تقرب من السبعين، وأن منطق القوة هو الذي فرضها علينا كما فرض علينا كل قيد من قيود الظلم والضيم والخضوع. . كان هذا بالأمس. أما اليوم وقد قررنا أن نحطم القيود والأصفاد، وأن نكفر بالعهود والوعود، وأن ننتقل من مرحلة العبيد إلى مرحلة الأحرار؛ أما اليوم وقد قررنا هذا كله فيجب أن نقرن القول بالعمل، وأن نهجر الخيال إلى الواقع، وأن نؤمن بأن الإقدام خير من الإحجام. وإننا لنستطيع. . نستطيع أن نفهم المستعمر أننا قادرون على طرد استعماره العسكري لأننا في غنى عن حمايته؛ وسحق استعماره الاقتصادي لأننا في غنى عن بضاعته، ونبذ استعماره الثقافي لأننا في غنى عن ثقافته. .

ماذا ينتظر معالي وزير المعارف بعد أن وقف معالي وزير الخارجية ليتحدث إلى العالم من

ص: 1

فوق منبر الأمم المتحدة، ليتحدث عن دم المصريين الذي أراقته الحراب البريطانية، وعن حقوق المصريين التي هضمتها الهجمة البريطانية، وعن كرامة المصريين التي أهدرتها النذالة البرطانية؟ حسبنا منه هذه الكلمات أو هذه الصرخات وهو يقول: (عندما عقدت جمعيتنا العامة دورتها الخامسة في شهر سبتمبر من العام الماضين كانت أحلك الغيوم التي تلقي ظلها الكثيف على هذا العالم المضطرب هي حرب كوريا، أما في هذا العام فهنالك حربان، حرب في كوريا، وحرب في البلد الذي أتشرف الآن بأن أخاطبهم باسمه. . إنها حرب حقيقية تشنها على مصر دولة لا تزال تدعي بأنها حليف لمصر! لقد تدفقت الإمدادات البريطانية من برية وبحرية وجوية على منطقة قناة السويس لمضاعفة قوات الاحتلال. ولقد استولت هذه القوات على المنطقة بأكملها ووضعتها تحت الحكم العسكري وعزلتها عن سائر أجزاء المملكة ووضعت يدها على المرافق العامة، واعتدت على السلطة القضائية فمنع القضاة من مباشرة مهمتهم المقدسة في هذا الجزء من أرض الوطن، ومنهم من قبض عليه وحرم الطعام يومين كاملين. . ولم يقتصد جنود الاحتلال في إطلاق النار على رجال الجيش والبوليس فضلا عن المدنيين الآمنين، ولم يتورعوا عن قتل النساء ولأطفال!

(لقد أبدي مندوب الولايات المتحدة ووزير خارجيتها في خطابه البليغ عنايته بحقوق الإنسان، وخبرنا عن بعض الحوادث التي وقعت في المجر وتشيكوسلوفاكيا فوصفها بأنها سحق وحشي للحرية، وإني لأسائل نفسي أي وصف يمكن أن يطلقه على الفظائع التي يرتكبها في منطقة القتال أصدقاؤه وحفاؤه البريطانيون؟ أما أنا فلا أتردد في أن أدعوها عدوانا همجيا مخجلا من المملكة المتحدة، وخرقا صارخا للسلام العالمي والأمن الدولى، وامتهانا بالغا لمبادئ الميثاق وأهدافه السامية!!)

ماذا نقول لمعالي وزير المعارف بعد الذي قاله معالي وزير الخارجية؟ نقول إن اللغة التي تهين كرامتنا يجب أن تلغى، وإن الثقافة التي تشين قوميتنا يجب أن تلعن: في كل كتاب توجد، وفي كل مدرسة تلقن، وعلي كل لسان تنطق، وهذا هو أيسر الجزاء وأهون العزاء. . إن تلك اللغة كما قلنا ليست أشرف اللغات وإن هذه الثقافة ليست أعمق الثقافات، فلم لا تستبدل بهما لغة الألمان وثقافة الألمان، أو لغة الروس وثقافة الروس، أو لغة الفرنسيين

ص: 2

وثقافة الفرنسيين؟ لم لانفعل والمعنى البعيد كامن وراء هذه الكلمات؟ المعنى البعيد الذي يتمثل في كرامتنا حين نكون (أحرارا) في اختيار لغة أخرى غير لغة الخصوم؛ وتفضيل ثقافة أخرى على ثقافة الأعداء!

هذا هو المعنى البعيد الذي نهدف أليه. . لقد عزمنا عل أن نكون أحرارا، أحرارا في كل شيء، أحرارا حين نأخذ وحين ندع، حين نقبل وحين نعرض، حين نسالم وحين نخاصم، حين نرفض وحين نختار. وما دمنا قد انتهينا إلى هذا الطريق وارتضينا أن نسير فيه، فلا معنى للتريث ولا مغزى للتردد ولا مبرر لإطالة التفكير، لأنها ستكون حرية مشوهه تلك التي تقضي على لونين من ألوان الاستعمار ثم تبقي على لونه الأخير، ونعني به ذلك الاستعمار الثقافي الجاثم على الصدور والعقول! إننا حين نجهر بهذه الكلمات لا نشك لحظة في وطنية معالي وزير المعارف، وإنما نهيب بوطنيته أن تعجل بالضربة القاصمة وأن تبادر بالخطوة الحاسمة، حتى يتحقق ذلك المعنى البعيد الذي رمينا إليه، والذي لا يغيب عن فطنة الخصوم. . وحول محور هذا المعنى نريد أن نقول: إن تلك اللغة التي فرضت بالأمس بقوة السلاح يجب أن ترفض اليوم بقوة الإرادة؛ وإذا خطر لنا أن نعيدها مرة أخرى في الغد البعيد فلا بأس علينا من ذلك ولا بأس على الكرامة المصرية، ولمن بعد أن يتطهر الوادي شماله وجنوبه من دنس المستعمر أو رجس الشيطان. . عندئذ (نتفضل) أحرارا يمنح هذه اللغة وتلك الثقافة جواز المرور، ويومئذ تزول عن كلتيها نزعة الغرور شأن كل قائد مدحور؛ كل قائد يأخذ مكانه المحدد في مؤخرة الصفوف!!

أنور المعداوى

ص: 3

‌موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية

لحضرة صاحب العزة الدكتور أحمد زكي بك

دعاني الرجال الأكرمون إلى أن ألقي كلمة موضوعها (موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية) ولقد نظرت في هذا الموضوع فوجدت أنه لابد لي من أن أقف وقفة قصيرة عند الفكر العربي أتبين ما معناه، وأن أقف وقفة قصيرة، عند المدنية الغربية أتعرف ما مبناها

الفكر العربي:

أما عن الفكر العربي فإني أنظر إلى العرب والمستعربين جملة فأجدهم يسكنون رقعة من الأرض خطيرة، وهي على خطرها رقعة واسعة تمتد من الأطلسي إلى إيران، ومن تركيا إلى ما يقارب خط الاستواء. وأنظر إلى العرب فأجدهم أمما متباينة الخطوط من التقدم، مختلفة الأنصبة من الحضارة أيا كانت هذه، مختلفة قرونها التي تعيش فيها، فبعضها يعيش في القرن العشرين ويكاد يعيش فيمل بعده، وبعضها يعيش في القرن العاشر، بل في القرن الأول، بل فيما قبل القرون. وأنظر في هذه الأمم فرادى، فأجد في الكثير منها رأسا أطل على هذا العصر الحاضر يرى ما فيه، ويعلم ظواهره ويعلم خوافيه؛ أما سائر الجسم فلا عين له، فهو يتبع الرأس كما تتبع الأحسام، وقد سهل الأمر على الأجسام أ، تتبع لو أن الرأس رأس واحد يتجه إلى غاية واحدة، ولكنه رأس ذو شعب، رأس تشعب إلى رؤوس، منها ما ينظر إلى الوراء فلا يرى من الدنيا شيئاً خيرا من ورائها، ومنها ما ينظر إلى الأمام فلا يرى من الدنيا شيئا خيرا من أمامها، ومنها ما ينظر إلى الوراء ويفضل أن يقعد فوق السور يستمتع بموكب الزمان الجاري.

فأي رأس من هذه الرؤوس يتمثل فيه الفكر العربي الذي يراد لي أن أتحدث عنه.!

أم يراد لي أن أتحدث عن الفكر العربي متمثلا في كتابه؟ فهؤلاء على قلتهم، كأرؤس في أممهم، صنوف وأهواء. منهم المتأثر بالماضي غاية التأثر، ومنهم المتحرر من الماضي غاية التحرر، ومنهم أوساط بين هؤلاء وهؤلاء. وليس في التأثر بالماضي ما يعيب، لأن الماضي بعضنا، ولأنه بعض الحذر، ولأنه الحفاظ الذي فيه بعض الوفاء. والفكر في كل العصور أمزجة، منها المزاج المتحفظ. والفكر على إطلاقه لا يكاد يتحرر أبدا. أنه عمل العقل ولكن تتنازعه القلوب. إن الفكر لا يكاد يخلو من عاطفة، والعاطفة وليدة السنين

ص: 4

الغوابر. كذلك ليس في التحرر غاية التحرر ما يعيب المتحررين. إنهم ضيقون بزمانهم، آسون لحال أممهم، ثائرون على ما يرون من بؤس وجهالة، فهم يريدون أن يقفزوا في الزمان قفزا ليعوضوا على أممهم ما فات

ففي أي هؤلاء الكتاب - وهم مختلفون - يتمثل الفكر العربي.!

وليس في الشرق فكر منظم. . ليس في الشرق جماعات من الناس لها أفكار ولها أهداف إلا في السياسة. وحتى جماعات السياسة لا تجمعها أهداف بينة، إن هي إلا غايات مبهمة كثيرا ما يوحي إلى شيطان بأن أوضح غاية فيها إبهاما. إن الشيء المبهم يجري وراءه الأشتات من الناس، وفي الإيضاح التفرقة. إنهم يطلبون بالإبهام الكثيرة، وتلك عندهم غاية الغايات

ولقد يتحدث الناس عن الفكر العربي الذي لم يتوحد بعد، فيقولون ويطنبون. ويأتون لك آخر الأمر بالشيء الجميل أو غير الجميل، فإذا بهذا الشيء من خلقهم، وإذا به، لا الفكر العربي، ولكن ما يجب أن يكون عليه الفكر العربي عندهم، وما يجب أن تكون في حسبانهم خطة الحياة

إن الفكر فكرهم، وهو عربي شرقي بمقدار ما هم عرب شرقيون. وفي غيبة الفكر العربي الموحد، وعلي تفرقه وتشتته لابد من قبول هذا الفكر، ولوا فكرا واحدا، وهو على الأقل فكر آحاد؛ وهو على الأقل بمثل منحى من المناحي الفكرية الكبيرة

فإنا إذا تحدثت إليكم اليوم عن الفكر العربي، فلا أدعي للذي أقول من التمثيل أكثر من أنه يشاركني في الذي أقول طائفة في الشرق العربي غير قليلة

وبعد فما يجوز أن ننسى أن الفكر انفعال؛ وأن فكر الفرد من صنع البيئة، وصنع النشأة، وصنع الزمان

الحضارة الغربية:

ثم ما الحضارة الغربية التي أبحث عن موقف الفكر العربي منها؟

لقد كان للإنسان حضارات بكل أرض وبكل زمان: حضارة مصرية، وحضارة آشورية وبابلية وفينيقية، حضارة إغريقية ورومانية، حضارة هندية وصينية، وحضارة عربية أثبتت وجودها وفرضت فروضها وشاركت في الحياة على هذه الأرض ألف عام. ولكل

ص: 5

من هذه الحضارات فضل، ولكل منها شيء وأشياء تميزها. . وهي كلها مجهودات للإنسان حميدة في سبيل غاية لا يدريها. والإنسان وهذه المجهودات غير فانية، أو الكثير منها غير الفاني. وهي مجهودات خالدة بحسبانها أشكالا وأنماطاً وأساليب للعيش وقوالب للفكر تتوارث. كما أن الإنسان خالد بحسبانه نطفا تتوارث، ومظاهر الحضارات ومن إظهارها يفنيان جميعا كما قال المتنبي في شعره المعروف

أين الذي الهرمان من بنيانه

ما قومه ما يومه ما المصرع

تتخلف الآثار عن أصحابها

حينا ويدركها الفناء فتتبع

إلا الفكر. . إلا الفكر الذي أنتجها، أو الفكر الذي أنتجته، فهذان يخلدان؛ لأن الفكرة لا تموت. ولقد بقي من الحضارات الماضيات أفكار ترقد في أوراق، لا تزال نجتليها ونسرح البصر البصيرة فيها

والمدينة الحاضرة إنما هي جماع تلك المدنيات جميعا. والمدنية الحاضرة تجد في تلك المدنيات الغابرات فكرة ترضاها فتنتفع منها، أو تجد فكرة لا ترضاها فتتجنب أذاها؛ فهي فكرة تهدي على كل حال حتى برفضها، كالطريق الذي لا تسلكه يدلك على الطريق الذي تسلكه

والمدنية الحاضرة تميزت بصفات وتألفت من عناصر سوف أجتهد في إخراج بعضها وإبرازه، صفة صفة، أو عنصر عنصرا، وأدلي بموقف الفكر العربي، كما أراه منها

الحضارة والعلم:

إن المدنية الحاضرة ميزتها الكبرى العلم. العلم الطبيعي. العلم التجريبي

والعلم ليس كالناس يولد في ساعة. أنه يولد على القرون فلا تكاد تعرف له ميلادا. وأنا إن ذكرت الميلاد، حلا لي دائما أن أتخذ من حياة (لافوازيه) للعلم ميلادا. وهو ولد عام 1743 ومات عام 1794، فحياته استغرقت النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ولافوازيه أبو الكيمياء الحديثة لأنه كشف الهواء وكشف عناصره. وما كانت مدينة مؤسسة على العلم الطبيعي لتكون والناس في جهالة من الهواء الذي منه يحيون، وفيه تحدث الأحداث للأشياء الأخرى والناس. أنه لولا أن تركيب الهواء اتضح، ما أمكن أن يكون علم ولا مدنية علمية. وإذن فإذا قلنا إن العلم، والمدنية العلمية، لم تقف على أرجلها إلا من نحو قرنين نعد

ص: 6

الصواب. والعلم قبل ذلك لعله كان يحبو، ولعله طال حبوه وطال كثيرا

وصفة العلم هذه هي الغالبة أكثر الغلبة على المدنية الحاضرة، لأن الكثرة الكبرى من نتائج العلم مادية، وهي تتصل أكثر اتصال بما يرى الناس، ويسمع الناس، ويحس الناس، وبما يأكلون ويلبسون ويسكنون، وبوسائل بها ينتقلون على الأرض أو على الماء أو في السماء. وهي تتصل بضرورات الحياة ورفهها. ولو أن رجلا من مدينة غارة نشر ونفض عن نفسه التراب، وأخذ يمشي بيننا كما فعل عيسي بن هشام، لخفي عليه أول الأمر من مدينتنا كل شيء، إلا هذه الظواهر المادية الكثيرة، فهي ستبدهه، وهي ستدهشه، وهي ستدهشه. وهو سيؤخذ بها من أول يوم، أما مظاهر المدنية الأخفى فستتكشف له على الأشهر، ومنها مالا يكتشف إلا على السنين، لأنها لا تتكشف إلا بالدراسة الطويلة والممارسة وهنا نتسائل؟ ما موقف الفكر العربي من هذا الأصل الأول من أصول المدنية الحديثة

والجواب أنه المناصرة بغير شرط، وبغير حد، وفي غير احتياط. ذلك أن العلم وليد المنطق، والمنطق لا يرفضه ويرفض نتائجه ذو عقل. وأحسب أنا جميعا، أهل الشرق العربي،

من العقلاء وسبب آخر لمناصرة العلم، أنه سبب للرفاهية ورغد العيش ولينه، عظيم. وهو لتسهيل الحياة وتيسيرها، وليس بعقل كبير العقل من يريد الحياة خشنة، أو من يريدها عسيرة، في غير ضرورة

وسبب ثالث، أن العلم يجعل الحياة أكثر امتلاء، وهي بامتلائها زمانا، فهي أطول. والذي يعيش اليوم، في بيئة هذه الحضارة العلمية أربعين عاما، فقد عاش أربعين كثمانين من العصور الأخرى. إن سنوات العمر، كورق النقد، تعلو وترخص، ويصيبها التضخم على انحطاط قيمة، ويصيبها التقلص

وسبب رابع لمناصرة العلم، أن الناس، بسبب العلم، ولأسباب غير العلم، زادوا أعدادا، وزادوا فوق ما تسعهم الأرض، وفوق ما تكفيهم غذاء، وفوق ما تكفيهم كساء. وهذا الضيق يقوم بتفريجه العلم، فهو يفرض على الأرض أن تنتج الكفاية من الطعام، والكفاية من اللباس، والكفاية من ضرورات العيش

إن قوما يشكون الفقر قوم لا يأخذون بأسباب العلم. وكذلك قوم يشكون المرض. إن العلم

ص: 7

أسرع ذهاب بالفقر، وأسرع ذهاب بالآلام. أنه ليجتث الآلام من أصولها، باجتثاث أسبابها، وعنده أن الوقاية خير من العلاج

وسبب خامس لمناصرة العلم، ذلك أنه لأسباب خارجة عن العلم، لا يزال الناس يأكل بعضهم بعضا، ويأكلونهم بالعلم، ولا أحسب أن أحدا من الشرق العربي يحب أن يؤكل، والعلم يمنعك من أن تأكلك الذئاب

لقد كدت أحس بشيء من في تعديد ما للعلم من منافع، ومن أسباب مناصرته. ذلك أن بعض السفه تعداد البدائه

والفكر العربي مناصر في كل ما ذكر من هذه الحقول المادية. وهو مناصر له في سائر الحقول، فعلى العلم وعلى نتائجه يجب أن تتأسس معاني الحياة، وعقائد الحياة وما بعد الحياة. إن العلم وحدة لا تتجزأ

وقد نضيق بالعلم وبنتائج العلم، فنطلب الترويح في غيبته، ونطالب للرفه بنفيه وإبعاده. وقديما نفي الناس العقول بالشراب ليتروحوا، ولكن إلى حين، يعودون بعده إلى ممارسة الحياة على العقل الواعي وعلى القلب الصاحي

ونحن نناصر العلم ونعلم أن من الناس من خلطوا بين أشياء أثبتها العلم فهي حقائق، وأشياء خالها العلم فهي ظنون، وأشياء لم يمسها العلم لا بالظن ولا باليقين، فهي من خلق أصحابها

ونحن نناصر العلم ونعلم قصوره وقصور أداته. إن أداة العلم لا تزال الوزن والقياس، ولكن قوماً يريدون أن يقحموه غصباً فيما لا يوزن ولا يقاس؛ لا طلبا لشيء قد يكون وقد لا يكون، ولكن إثباتا لشيء هو في أذهانهم كائن قائم وقد يكون قائما، وقد يكون كائنا، ولكن ليس هو مما يستطيع العلم أن يسير إليه بأداته الحاضرة

فهذا هو العلم، أظهره صفة من صفات المدنية الحاضرة

للكلام صلة

أحمد زكي

ص: 8

‌5 - الثورة المصرية 1919

الأستاذ أبو الفتوح عطيفه

من1 - 8 نوفمبر 1951:

شهدت هذه الفترة عدة حوادث هامة: ففيها واصل الإنجليز عدوانهم على العزل من المصريين وزادوا فاعتدوا بالقبض والاعتقال على ضباط البوليس المصري بمنطقة القنال، وكذلك اعتدوا على رجال التعليم العائدين إلى أعمالهم بمنطقة القناة، فاعتقلوا بعض الأساتذة دون مبرر ثم أفرجوا عنهم والقوهم في الصحراء ليلا!! وكذلك تكون المدنية ويكون احترام الإنجليز للحرية!!

وفيها أيضاً اعتدى الإنجليز على رجال القضاء المصري الكرام وهم في طريقهم إلى عملهم بمنطقة القناة والعريش!! ثم عمدوا إلى تسخير العمال بالقوة. وبدأت كتائب التحرير المصري نشاطها وعمدت (الفرق الخفية) إلى تجريد الجند البريطانيين من سلاحهم وهو عمل يدل على شجاعة المصري التي لا تحتاج إلى دليل، ودب الذعر في صفوف الإنجليز إذ بلغت حوادث خطف الأسلحة نحو 20 حادثة واتهموا رجال البوليس المصري بالتقصير في منع هذه الحوادث، وهدد القائد العام للقوات البريطانية الجنرال أرسكين بإعلان الأحكام العرفية في منطقة القنال وتعيين حاكم عسكري لها. وهكذا وقف الرجل المسلح، يخشى عدوان الرجل الأعزل إن الحق هو الذي أعطي الأعزل قوته، وهو الذي نزع من الرجل المسلح سطوته وهيبته. إن الحق منتصر، وإن مصر لا تطلب إلا حريتها ووحدة الوادي، وهي بالغة إن شاء الله ما تصبو إليه

وتشرشل أيضا:

في 25 أكتوبر 1951 أجريت الانتخابات البريطانية وفاز حزب المحافظين وتولى رئيسه ونستَون تشرشل الحكم. ولم تكن مصر تهتم كبيرا بنتائج الانتخابات لأنها تعرف أن الإنجليز هم الإنجليز، سواء كان تشرشل يرأس حكومتهم أم كان أتلي؛ فالسياسة البريطانية لا تتغير بتغير الوزراء، وإنجلترا هي العدو الأول لمصر لأنها تحتل أراضيها بالقوة، وتمنع وحدة الوادي وتقف سدا حائلا بين سكان الشمال وسكان الجنوب، ألا ساء ما تفعل!

ص: 9

وفي 6 نوفمبر بدأ مجلس العموم الجديد جلساته وألقى خطاب العرش الذي جاء فيه: (إن حكومتي تعد ما عمدت إليه الحكومة المصرية من إلغاء معاهدة التحالف المبرمة في عام1936 واتفاقيتي الحكم الثنائي في السودان المعقودين 1899 أمرا غير مشروع ولا يجيزه القانون) ولسنا ندري أي قانون أباح لإنجليز أن تحتل مصر؛ وأن تفصم الوحدة الطبيعية بيد مصر والسودان، وأن تحكم السودان على رغم إرادة أهله

وألمح إلى أن بريطانيا إذا دعا الأمر إلى ذلك للبقاء في منطقة القنال، وأشار إلى أنها (ستحفظ بموقفها في منطقة قناة السويس طبقا لنصوص معاهدة 1936 وتؤمن سلامة هذا الطريق الدولي دون أن تستخدم القوة أكثر من اللازم.) وبهذا يهدد تشرشل باستخدام القوة ضد مصر لأنها تطلب حريتها وإنهاء احتلال أراضيها، ولسنا ندري هل غاب عن تشرشل الماكر العجوز أن مصر قد فكرت قبل إلغاء المعاهدة وقدرت أنها مقبلة على فترة من فترات الجهاد الشاق والنضال العنيف!! وأنها ستتعرض لتهديد إنجلترا وربما لتهديد أمريكا وفرنسا أيضا!! وهل يعتقد تشرشل أن الإنجليز سيخرجون من مصر دون نضال ودون تضحية!! ليعلم تشرشل أن مصر قد فكرت وقدرت وأنها قد آثرت الجهاد والنضال في سبيل الحرية على الحياة والعبودية. . فليهدد كما يشاء فمصر قد وقفت صفا واحدا تدافع عن حريتها ووحدتها. . ولن يرهبها تهديده أو يخيفها وعيده

هيئة الأمم ومؤتمر السلام:

وفي 6 نوفمبر اجتمع أعضاء مجلس السلام في جميع أنحاء العالم في فينا عاصمة النمسا، وألقى كامل البنداوي باشا خطابا مستفيضا عن مصر وعن موقفها من الدول الاستعمارية استهله بقوله (إن مصر قد بدأت مرحلة جديدة في تاريخها. . ذلك أنها فرغت من عهد التوقيع والإمضاء وبدأت القتال والكفاح. إن الشعب الآن يريق دمه في سبيل الحرية غير متردد ولا يهاب، كل ذلك من أجل الحرية ومن أجل السلام العالمي.)

وقال: (إن هذه الحوادث الدامية التي تجري في مصر ستكون نقطة تحول في التاريخ) واختتم الخطاب قائلا: (سيكون لهذا الصراع ضد الإنجليز والانتصار عليهم نتائج بعيدة المدى) وقد خطبت السيدة سيزا نبراوي في المؤتمر. ونددت بالأعمال الوحشية التي تقوم بها بريطانيا في مصر. . وتحدثت عن أعمال البطولة التي يقوم بها عمال الموانئ الذين

ص: 10

أضربوا عن التعاون مع الإنجليز وأعلنت أن وجود القوات البريطانية ضد إرادة الشعب المصري يهدد السلام العالمي

وتحدث مندوب الاتحاد السوفييتي فطالب بضرورة تأييد مصر واتخاذ قرارات إيجابية لشد أزر الشعب المصري في كفاحه ضد الاستعمار، وأن الاتحاد السوفييتي يؤيد مصر تمام التأييد في كفاحها ضد الغاصب وصراعها من أجل الحرية

وفي 7 نوفمبر أصدر المؤتمر قرارا يدعو بريطانيا إلى سحب قواتها من مصر والسودان فورا لكي يتسني تقرير مصيرهما بحرية تامة، وقرر إيفاد وفد لهيئة الأمم المتحدة لمطالبتها بتوحيد الاهتمام إلى ما يتعرض له المسلم من تهديد بسبب وجود قوات أجنبية في مصر والسودان

وفي باريس اجتمعت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في 6 نوفمبر وحضر الاجتماع وفد مصر برياسة الوطني العظيم الدكتور محمد صلاح الدين باشا، وكذلك حضر الوفد البريطاني برياسة المستر إيدن وزير خارجية بريطانيا، وبدأ صلاح الدين نشاطه فأرسل إلى السكرتير العام للأمم المتحدة مذكرة ندد فيها بالأعمال الوحشية التي تقوم بها القوات البريطانية في مصر، وأعلن ثقته من أن الضمير العالمي وشعوب الأمم المتحدة ستقف إلى جانب مصر وشعبها في كفاحها في سبيل الحق والحرية، وفي سبيل السلام العالمي. وهكذا بدأ النضال بين مصر وبريطانيا في أروقة هيئة الأمم

لا مناقشة:

لجأت بريطانيا إلى التهديد باستخدام العنف والقسوة إذا لم يكف زعماء مصر عن نشاطاتهم، وفي 6 مارس سنة 1919 استدعى قائد القوات البريطانية زعماء الوفد وأعضاءه وأنذرهم (أن أي عمل منكم يرمي إلى عرقلة سير الإدارة يجعلكم عرضة إلى المعاملة الشديدة بمقتضى الأحكام العرفية)

لقد دار بخلد الإنجليز 1919 كما يدور بخلدهم الآن أن التهديد باستخدام القوة كفيل بالقضاء على الروح الوطنية في وادي النيل، وكفيل بإيقاع الرعب في قلوب المصريين مما يقضي على حركتهم وآمالهم، ولكن خاب أملهم، ففي 1919 واجهوا شعبا يقف صفا واحدا خلف زعمائه، فلما هددوا سعدا وزملاءه لم يجبن سعد ولم يجبن زملاءه وقابلوا الإنذار بعدم

ص: 11

الاكتراث، ولم يعبئوا به بل زادوا تمسكا بمطالب الأمة، لقد كان القائد العام البريطاني مسنودا بالحراب والمدافع البرطانية، وأما سعد ورفاقه فقد كانت تحرسه قلوب شعب مصر الأعزل، ولكنه شعب مؤمن بحقه وعدالة قضيته

لم يعبأ سعد بالإنذار البريطاني ومضى في طريقه قدما، ففي نفس اليوم أبرق إلى رئيس الحكومة البريطانية يقول: (تعلمون ضرورة أن وزارة رشدي باشا لما علقت سحب استقالتها على سفر الوفد قبلت استقالتها نهائيا. وليس لذلك معنى إلا الحيلولة بيننا وبين عرض قضيتنا على مؤتمر السلام. وقد نتج فعلا من هذه السياسة أن أعظم رجال مصر. . . قد بدءوا يرفضون بتاتا تأليف وزارة تعارض مشيئة الأمة التي هي مجمعة على طلب الاستقلال. . .

إن السلطة العسكرية أنذرتنا اليوم نضع الحماية موضع البحث وتعرقل تأليف الوزارة الجديدة وتوعدتنا بأشد العقاب العسكري، على أنها لا تجهل أننا نطلب الاستقلال التام ونرى الحماية غير مشروعة كما تعلم بالضرورة أننا قد أخذنا لي عاتقنا واجبا وطنيا لا نتأخر عن أدائه بالطرق المشروعة مهما كلفنا ذلك. وحسبنا أن نذكر لكم هذا التصرف الجائر الذي يجر سخط العالم المتمدن حتى تفكروا في حل هذه الأزمة بسفر الوفد فيرتاح بال الشعب

القبض على زعماء الوفد:

اتخذت السلطة من رفع الوفد هذه الشكوى إلى رئيس الحكومة البريطانية مبررا لتنفيذ ما هددت به، ففي يوم 8 مارس قبضت على رئيس الوفد سعد زغلول وعلى ثلاثة من كبار صحبه وهم محمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي واعتقلتهم في ثكنة قصر النيل ثم نقلوا تحت الحراسة إلى بور سعيد ومنها أبحروا إلى مالطة حيث وضعوا قيد الاعتقال

اعتقد رجال الشرطة العسكرية أنهم بهذا العمل قد قضوا على الحركة الوطنية في مصر وأنهم قد استراحوا وأمنوا واطمأنوا، ولكن خاب ظنهم فإن هذا النبأ قد سرى في مصر كما تسري النار في الهشيم وكان بمثابة شرارة ألقيت على مستودع من البارود مما أدى إلى حدوث انفجار عظيم

بدء الثورة:

ص: 12

نهض المصريون جميعا على بكرة أبيهم دفعة واحدة وفي يوم واحد لإعلان سخطهم وغضبهم على هذا العدوان الغاشم، وكانت للمصريين في احتقار الموت الذي كان يتحداهم في ثورتهم من أفواه مدافع العدو وبنادقه روعة وجلال

وأما رجال الوفد فقد بادروا في نفس اليوم إلى إرسال برقية احتجاج على اعتقال الزعماء إلى المستر لويد جورج رئيس الوزارة البريطانية، وأعلنوا أنهم سيستمرون على الدفاع بكل الطرق المشروعة عن قضية البلاد العادلة

وكذلك أرسلوا برقيات احتجاج إلى معتمدي الدول الأجنبية

وفي 9 مارس وجه على شعراوي باشا بصفته وكيل الوفد كتابا إلى عظمة السلطان يشكو فيه من تصرف السلطة العسكرية مع رجال الوفد جاء فيه:

(. . استدعتنا السلطة العسكرية في 6 مارس. . وأنذرتنا بالعقاب العسكري الشديد إن أتينا عملا يرمي إلى تعطيل سير الوزارة ثم منعتنا من مناقشتها في هذا البلاغ. لم تصب السلطة في رأيها فإن هذه الحماية باطلة ولكل إنسان الحق المطلق في أن يضعها تحت البحث والمناقشة القانونية. .

لم يقف الأمر عند هذا الإنذار بل قبضت السلطة أمس على رئيسنا سعد زغلول باشا وزملائنا محمد محمود باشا وحمد الباسل باشا وإسماعيل صدقي باشا وزجوهم في قصر النيل ثم سيق بهم إلى بور سعيد فإلى حيث لا نعلم. وذنبنا في ذلك أننا نطلب حريتنا السياسية طبقا للمبادئ الشريفة التي اتخذت قاعدة للسياسة المالية الجديدة. . . وبينا أننا لم نتعد حدود القانون، فلم نهج في البلاد طائرا ولم نحرك ساكنا بل قبلنا توكيل الشعب إيانا أن نصدع بأمره ونسعى لتحقيق مشيئته. . .

على هذه الاعتبارات يصعب علينا يا مولاي أن نفهم مبررا لهذه الخطة القاسية التي جرت عليها السياسة الإنجليزية. .

إليكم يا صاحب العظمة وأنتم تتبوءون أكبر مقام في مصر وعليكم أكبر مسئولية فيها. نرفع باسم الأمة أمر هذا التصرف القاسي؛ فإن شعبكم الآن يحق له أن يعتبر هذه الطريقة باردة تخيفه على مستقبله كما يحق له أن يكرر الضراعة لديكم العلية أن تقفوا في صفه مدافعين عن قضيته العادلة)

ص: 13

قويسنا

أبو الفتوح عطيفة

ص: 14

‌أدب الثورة والكفاح

للأستاذ كامل السوافيري

في اليوم الثامن من أكتوبر من العام الحالي أعلنت مصر إلغاء معاهدة الظلم والاستعباد؛ وقالت كلمتها الخالدة مدوية في آفاق المعمورة فرددت الشعوب العربية والدول الإسلامية صرخة مصر، وقامت المظاهرات في دمشق وبغداد وبيروت وطهران والدار البيضاء تضامنها مع مصر المجاهدة، صارخة صرخة الحق في وجه المستعمر الغاصب بأن يجلو عن وادي النيل، ويعترف بحق مصر في الحرية والاستقلال

ثم صدمت مصر الاستعمار مرة ثانية حين أعلنت رفضها لما أسموه مقترحات الدول الأربع للدفاع عن الشرق الأوسط؛ فحطمت آمال المستعمرين وقلبت خططهم رأسا على عقب

ووقفت الشقيقات العربيات أيضاً من مصر المجاهدة موقف التأييد التام والتضامن الكامل ضد أقطاب الاستعمار، كما وقف العالم الإسلامي ينادي بحق مصر في سيادتها على القناة، وحقها في جلاء الجيوش المحتلة عن أراضيها، وحقها في الوحدة، وكان ذلك الموقف الرائع من العالمين العربي ولإسلامي دليلا واضحا على أن العرب والمسلمين قد أكتمل وعيهم، واستوى نضجهم السياسي ولم تعد تنطلي عليهم حيل الدول المستعمرة، بعد أن أخلصوا لها الود، وقدموا المعونة في حربين عالميين فقوبلوا بالتنكر لأمانيهم القومية. والاعتداء على حقوقهم السياسية

وليست الحرب بين الإسلام والاستعمار وليدة اليوم. وليس الصراع بين الشرق والغرب ابن عامة هذا، ولكنه صراع بدا بعد الحرب العالمية الأولى منذ انتصر الحلفاء، فقسموا الشرق العربي بينهم، وجزءوه إلى دويلات ضعيفة لا تستطيع النهوض حتى يتمكنوا بذلك من استعمارها أكبر مدة من الزمن. ولكن الصراع ليس صراعا سياسيا فحسب، بل هو صراع ديني واجتماعي قبل أن يكون صراعا سياسيا، أنه صراع المبادئ ولأفكار، وصراع النفوس والقلوب. ولابد أن تتضافر الجهود وتتعاون القوى ليخرج الشرق من هذا الصراع مرفوع الرأس وضاح الجبين

ولقد راعني أن يكون الأدب بمنأى عن هذا الصراع الحاد الذي يندلع لهيبه يوما بعد يوم.

ص: 15

وكم أسفت حين تطلعت فرأيت الفن لا يسهم في هذه المعركة بين الشرق الإسلامي والغرب، أو بين المسلمين والمستعمرين، وللأدب نفوذه وسلطانه، وللفن عرشه وصولجانه، وللأدباء في الأمة المكانة السامية، والمنزلة العالية، هم النجوم التي ترشد السارين إذا كفهر الجو وأظلم الأفق، وهم المصابيح اللامعة التي تهدي الضالين إذا تشعبت السبل، وتعددت المسالك

إني لا أريد أن أتهم الأدباء بأنهم تنكروا لأمتهم، وتجافوا عن مجتمعهم، حين عاشوا منطوين على أنفسهم، في أبراجهم العاجية، لا يحسون بإحساس أمتهم، ولا يشاركون مجتمعهم آلامه وآماله، فكان إنتاجهم في الكثير الغالب مرآة انعكست عليها حياتهم الخاصة، مما دعا الأمة والمجتمع إلى الانصراف عن هذا الأدب الذي لم تجد شخصيتها، ولم يحس فيها المجتمع بوجوده

وكان الأدباء مسئولين عن هذه الجناية، لأنهم الذين أتاحوا للقراء الانصراف عن إنتاجهم إلى الأدب الرخيص الماجن الذي يغذي الجانب الهابط في النفس

وإلا فما بالنا لا نقرأ - والمحن تتوالى على العروبة، والضربات تتابع على أقطار الإسلام - إلا أدب الضعف والانحدار!! أدب التدهور والانحلال!! كأننا لسنا في صراع مع الاستعمار!!

ألم تكن مأساة فلسطين الدامية، وتشريد مليون من أبنائها من إخواننا وأبناء عمومتنا وهيامهم على وجوههم في المهامه والقفار، يفتك بهم البرد والجوع. . كافية في أن تهز منا القلوب، وتشعل الأفئدة، وتضرم الجوانح؟

لقد نظرت إلى الأدب قبل المأساة وبعدها فلم أجد تغيرا واضحا إلا عند قلة من الأدباء يعدون على أصابع اليد الواحدة

إن المعركة القائمة اليوم بين حق مصر وباطل بريطانيا ليست معركة مصر وحدها، وبريطانيا وحدها، ولكنها معركة الشرق العربي بأسره ضد الدول المستعمرة التي تظاهر بريطانيا في باطلها.

وتناصرها في عدوانها على الشعوب الضعيفة

إنها المعركة التي تغذي القرائح عند أدباء العرب والإسلام، فتدفعهم دفعا إلى المساهمة فيها

ص: 16

قد يقال إن هذا أدب مناسب في كارثة لا يلبث أن يزول. أنه كغمامة صيف عما قليل تكشف. والإجابة عن ذلك أن هذا ليس أدب مناسبات، ولكنه أدب خالد فأدب القوة والكفاح أدب خالد. . لأن الأمة الضعيفة لا وجود لها في عالم تسوده الذئاب والأسود

إن كثيرا من الشعراء الأوربيين قد خلدوا بأسفارهم الوطنية التي أيقنت في نفوس أممهم روح التضحية، وأوقدت في قلوبهم النخوة والحمية، فهذا أرنت في ألمانيا في القرن التاسع عشر يقول لقومه بعد موقعة (يه نا)

(أعطوني وطنا حرا وأنا أرضي عندئذ أن أفقد كل شهرتي فيصبح اسمي منسيا لا يذكر في غير داري ودار جاري

أعطوني بقعة من أرض جرمانية يستطيع فيها العندليب أن يغرد دون أن يرمي بسهم فرنسي

أعطوني كوخا حقيرا يستطيع أن يصبح ديكي فوق حاجزه دون أن يقع فريسة يد فرنسي، وأنا أصيح عندئذ مثل الديك، وأغرد مثل العندليب بكل فرح وسرور، ولو أفقد كل ما ملكته يداي فلم يبق لي شيء يستر جسمي غير قميص بال)

نريد أدبا بعد وثبة مصر الجبارة يختلف عنه قبلها، نريد من أدباء وادي النيل وهم كثر والحمد لله ومن أدباء البلاد العربية أن يشنفوا آذاننا بالأغاني والأهازيج الحماسية الوطنية التي تبعث الثقة في النفوس وتملؤها قوة وبطولة

نريد من الشعراء المشهورين أن يطربونا بشعر القوة والعزة، ومن كتابنا وناثرينا أن يدبجوا لنا المقالات الطويلة عن الإيمان القومي، والوطنية الصادقة، والاستشهاد في سبيل الوطن. . . وبوجه عام نريد من الأدباء والشعراء والمؤلفين وكتاب القصة والمسرحية أن يتخذوا من أقلامهم سيوفا تسل في وجه الظلم، وحرابا تصوب إلى صدور الأعداء

ونريد منهم أن يثيروا أحقادنا الدفينة لدي الدول الاستعمارية، وأن يذكوا جذوة الوطنية في نفوس هذا الجيل والأجيال القادمة، ويشعلوها حربا مستعرة الأوار على الاستعمار الظالم في كل مكان

ولست أريد أن أمنعهم من الأدب الذاتي. . أدب العاطفة والوجدان، ولكني أرى أنه لابد لهم مع أدبهم في الدمعة والابتسامة، والهجر والوصل، والفراق واللقاء. . من الأدب الذي يمجد

ص: 17

الوطن، ويؤجج الوطنية، وينفخ في الشباب روح الرجولة والقوة، والعزة والكرامة، والحرية والاستقلال، ولا نريد أن يقف الأمر عند أدب الوهم والخيال. . أدب الهمهمات والشطحات بل يضيفوا إليه أدب البطولة والمجد والرفعة والعلاء

هذه صرختي أوجهها إلى الأدباء، وأنا وطيد الأمل في أنها ستجد منهم آذانا صاغية. وأختتم هذه الكلمة بأبيات للشاعر المهجري ميخائيل نعيمة:

أخي ما الصبر؟ إن الصبر كفران وخذلان

أخي ما نحن بالأحرار لكن نحن عبدان

لقد ضاقت بنا الأوطان ما للعبد أوطان

أخي ما السجن هل في السجن آلام حرمان؟

وهل يجدي مع الأحرار قضبان وسجان؟

سوانا يرهب القضبان أو تثنيه جدران

إذا كنا شرارات فنحن اليوم بركان

كامل السوافيري

ص: 18

4. على ضفاف القناة:

وجوه كالحة

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

مساكين أبناء مدن القناة الثلاث - بور سعيد والإسماعيلية والسويس - وبخاصة أبناء مدينة الإسماعيلية. . التي كتب الله على أبنائها أن يتجرعوا الغصص أليمة حادة، ذلك لأنهم يرون دائما وجوه أعدائهم الألداء، هذه الوجوه الكاحلة، التي سئم كل مصري النظر إليها، وضقنا بها وبأبنائها ذرعا، وكدنا نيأس حكومة وشعبا من معرفة طريق الخلاص والقضاء على هؤلاء الاستعماريين (الكلاب) - كما يدعوهم آية الله كاشاني - وأدركنا إلى أي حد يجحد هؤلاء الغاصبون حقوقنا، ويعبثون بمصالحنا وآمالنا، ويسخرون بأمانينا الوطنية التي يجب أن نبذل في سبيل تحقيقها، والحصول عليها، كل مرتخص وغال، فأينما سرت في هذه المدينة البائسة لا تجد غير هؤلاء الإنجليز، يروحون ويجيئون في كل وقت من الأوقات ليلا ونهارا، يتسكعون هنا وهناك في برود وصفاقة، وكأنهم يسيرون في أوطانهم، ويجوبون رحابها آمنين مطمئنين، هادئين وادعين. كأنه ليس بيننا وبينهم عداء مستحكم الحلقات، ولا قضية مطروحة في المحافل الدولية إلى الآن؟ ولست أدري لماذا يأمن الإنجليز جانب المصريين إلى هذا الحد العجيب، فنراهم يعيشون في أحيائهم الإفرنجية بالمدينة، ويشاركون المصريين في الأحياء الوطنية، ويسيرون بين المصريين كأنهم من أبناء جلدتهم؟ فهل معنى ذلك أنهم يعتقدون أننا هازلون في مطالبنا، غير جادين في قضيتنا وجهادنا؟!

إن منظر الجندي الإنجليزي يسير في مدينة الإسماعيلية بالذات يؤلمني إلى حد كبير، كما يؤلم كل وطني غيور، لأنه يحمل معني التحدي الجارح لكرامة المصري، وشعوره وعزته، فهو يسير مترفعا متعاليا، في صلف وكبرياء، مقيتة لعينة، شأنه في ذلك شأن العملاق المتغطرس الذي ينظر في ازدراء وضيع إلى أقزام هزيلة الجسوم، جائعة البطون؛ عارية الأبدان، وهو لهذا لا يأبه بمن أمامه من المصريين، ولا يبالي بما يأتي من جرائم، ويقتل من أرواح، فقلما يخلو يوم من حوادث السيارات الإنجليزية التي تجوب المدينة على الدوام، وبلا انقطاع، والتي تقف أمام دور السينما والمحلات العامة وفي الحدائق، وتزدحم

ص: 19

بها الشوارع في كل مكان، والتي يذهب ضحية إهمال سائقيها المخمورين كثير من المصريين الأبرياء. . وماذا يضيره ما دام يخرج دائما هو وأمثاله المجرمون بسلام، ولا تنال منهم سطوة القانون المصري شيئا، لأن الإنجليزي لا يزال في هذه البلاد عنوان السيادة الذي يخضع له الجميع. . وقاتل الله الإنجليز فإنهم لا يزالون يعيشون في أواخر القرن العشرين بعقلية القرون الوسطى، ولا يزالون يؤمنون إيمانا عميقا بسياسة الدس والتفرقة بين مختلف الطوائف وقادة الشعوب، وزعماء البلاد، ولا يكاد يستجيب لهم، ويحقق أمانيهم غير المصريين من الذين لا يعيشون لبلادهم، وإنما يعيشون لتحقيق أغراضهم، ومصالحهم الذاتية. . ولكن الإنجليز في هذه المرة لن يصلوا إلى ما يصبون إليه، وسيفوت عليهم الوعي الجديد للشعب المصري أغراضهم السافلة، ويحطم آمالهم الاستعمارية الوضيعة، ويكشف حيلهم الدنيئة، ويسجل عليهم الفشل الذريع، والحظ المنكود. .!!

أجل فالوعي القومي بين طبقات الشعب قد ارتفع مستواه، ونأمل أن يؤتي ثماره اليانعة في القريب العاجل إن شاء الله. وإنه لمن الظلم أن تظل هذه الجنود تتمتع بالأحياء الجميلة النظيفة في المدينة وتستنفد خير الأطعمة. وتستولي على جميع ما تصل إليه من طيبات الرزق، بينما يحرم من هذا كله أهل المدينة والقاطنون فيها، فتتلظى نفوسهم غيظا، وتتميز كمدا وحقدا على هؤلاء الدخلاء الذين ينتزعون خير أقوالهم، وأطيب أرزاقهم، وغزوهم في مساكنهم، حيث استأثر الإنجليز بأحياء خاصة، ثم طغي منذ شهور سيلهم الجارف، وتدفقوا في منطقة القناة زرافات زرافات، حتى ضاقت بهم مناطقهم العسكرية في منطقة القناة، كما ضاقت بهم مدينتهم الكبيرة الجميلة المنسقة، التي بنتها لهم القيادة العامة على أحداث طراز إنجليزي، حتى لتتشابه البيوت إلى حد كبير، والتي تقع في الجنوب الغربي من الإسماعيلية. . أجل ضاقت بهم هذه الأماكن كلها فنزحوا إلى الأحياء الوطنية، وزحفوا عليها زحف العقارب الشائلة، والوحوش الضارية، وسكنوا في عمائرها الجديدة النظيفة، كما نزح إلى هذه الأحياء كثير من الأجانب من اليونانيين والأرمن، وغبر هؤلاء بقصد الربح والكسب، تاركين مساكنهم في الحي الأجنبي للإنجليز نظير مبالغ كبيرة من المال، إما بصفة (خلو رجل) أو عن طريق الإيجار من الباطن، فيترك الواحد منهم مسكنه

ص: 20

النظيف الذي يسكن فيه نظير إيجار شهري قديم لا يزيد عن خمسة جنيهات لشقة متوسطة، مكونة من ثلاث حجرات مثلا، بعد أن يؤجرها للجنود الإنجليز نظير ثلاثين جنيها على الأقل بواقع عشرة جنيهات للغرفة الواحدة، ويؤجر هو في الحي العربي شقة تماثلها بعشرة جنيهات. فيكون ربحه من هذا كله خمسة عشر جنيها، دون أن يبذل في ذلك أي جهد، أو سعي له قدم. .!!

على هذا المنوال تسير الحياة في الإسماعيلية فتنكمش على الدوام مساكن المصريين الوطنيين، وتنمو مساكن الإنجليز باستمرار، حتى في هذه الأيام التي ارتفعت فيها العاطفة الوطنية، والتي استعدت فيها النفوس للثورة القومية، والجهاد النبيل، والتي كاد يخمده زعمائها بتعلقهم بالوعود البريطانية الخلابة، فلا يزالون يثقون بهؤلاء الخونة الأنذال، وكأنهم لا يزالون يجربون مع طول التجارب المريرة السابقة. .!!

وليس من الغريب أن ترى أسرة إنجليزية صغيرة تعيش في دكان صغير ليس فيه مياه، ولم يعد ليكون مسكنا لشخص أو عدة أشخاص. . إي والله لقد رأيت هذا المنظر الغريب العجيب في حي جميل من أحياء الإسماعيلية. . وليس من الغريب كذلك أن ترى الأسر الكثيرة تسكن بيوتا من الطين لا تختلف في قليل أو كثير عن بقية بيوت الفلاحين المصريين التي حولها. . وليس بعجيب أن تمتلئ الفنادق الإفرنجية في المدينة كلها بعائلات الجنود الإنجليز، تعيش العائلة في حجرة صغيرة أعدت في الأصل ليكون بها شخص واحد أو شخصان، كما أن بعض الفنادق المصرية قد اكتظ بهذا النوع من الوجوه الكاحلة، حتى أن من العسير أن يجد المسافر مكانا في الفندق يبيت فيه ليلة أو بضع ليل. .!!

أجل ليس من الغريب أن ترى هذه المناظر. ولكن كلمة الحق التي يجب أن نسجلها في هذا المكان، هي أن النظافة تشيع في كل مكان يقطن فيه هؤلاء، كما يسوده النظام والهدوء، حتى في تلك الأماكن المتناثرة في أنحاء الأحياء الوطنية، بحيث يخيل إلى أن المصريين لو انتقلوا جميعا إلى الأحياء الأجنبية النظيفة، وانتقل الأجانب إلى الأحياء الوطنية القذرة، لعمت الفوضى بعد أيام في الأحياء الأولى، ولساد النظام والنظافة والهدوء والسكينة في الأحياء الأخرى.!

ص: 21

ومهما يكن من شيء فإن كل إسماعيلي يشعر من أعماق نفسه بكراهية عجيبة لهؤلاء الغاصبين. ويرى فيهم العدو اللدود لبلاده، سواء في ذلك الذين يستفيدون من الإنجليز بالعمل في معسكراتهم، أو الذين يتعاملون معهم بغير ذلك من أنواع المعاملات. وهي كثيرة في الإسماعيلية، حيث يوردون لهم اللحوم والخضر والفاكهة والألبان وغير ذلك، ويبنون لهم المساكن ويشيدون العمائر الضخمة الكبيرة، التي تضارع في ضخامتها وعظمتها عمائر القاهرة. .

وإن الأمل لكبير في أن تسيطر الوطنية المصرية على هؤلاء الإسماعيليين الذين تربطهم بالإنجليز صلات المادة، وتتغلب عليهم روح التضحية الخالصة، فيلبي كل منهم نداء الواجب المقدس، ويفصم ما بينه وبين هؤلاء من عري وثيقة، وصلات قوية، مهما بلغت أرباحه المادية

ولكن المخلص تتغلب عليه ناحية التشاؤم حينما يتصل من قريب بهؤلاء الذين يتعاملون مع الإنجليز من غير أبناء الإسماعيلية الخلص، وأعني أولئك الذين نزحوا من الصعيد لا يملكون شيئا، فأصبحوا بعد أعوام قلائل أثرياء أغنياء، لا تعرف كيف وصل إليهم المال، وأي الطرق سلكوا حتى أصبحوا يشار إليهم بالبنان في كل مكان. . أعني بهم هؤلاء الذين تغص بهم العربات الخاصة (البولمان) في قطر السكة الحديدية، وتضيق الشوارع في مدينة الإسماعيلية بسياراتهم الفارهة التي لا تكاد تسمع لها صوتا حينما تسير. . هؤلاء الذين يرتدون في الغالب الجاباب البلدي المصنوع من الصوف الجميل، و (الطاقية) الوبر الناعمة، الغالية الثمن، عليها (شال) ناصع البياض، وتتكون منها عمامة لا أثر للذوق فيها، ولا تصيب للوقار منها. . ويلفت نظرك خواتم كبيرة ذهبية في أصابع اليدين، منها الكبير والصغير، والفصوص الحمر والزرق، وتعجب لما بين ذلك كله من تنافر، مع ارتفاع قيمتها، وغلو ثمنها، ولكنه المال المزيف الذي يتدفق على هؤلاء من خزائن الإنجليز فيملأ منهم الجيوب، ويخرب الضمائر، ويفرغ العقول.!

إن قطع علاقاتنا بالإنجليز يوم أن يتم إلغاء المعاهدة اختيار للبطولة الوطنية، وامتحان للقومية المصرية، ويوم ذاك تبارك مصر كل من يفهم كنه هذا القرار، ويدرك حقيقة ذاك الاتجاه، وينفض يده من ذلك الوباء الماحق، والشر المبير، ويحاول سحق هذه القوة

ص: 22

الغاشمة، والقدرة الضائلة الطاغية، التي نمدها نحن بمقومات حياتها. . وتبارك هذا النوع من أبنائها، وتلعن كل من أعرض عن نداء الواجب. ولم يصخ لصوت الضمير، ونداء الوطنية العادل. .

وإن في إمكاننا وحدنا أن نقطع شرايين الإنجليز ونحبسهم في حيز ضيق لا يستطيعون منه فكاكا، ونكرههم على الفرار من وادي النيل كله، وذلك حين نقطع ما بيننا وبينهم من صلات وعلاقات، فلا نطعمهم ولا نسقيهم ولا نتعاون معهم ولا نسكنهم ولا نشتري بضائعهم، وننظر إليهم نظرة احتقار وازدراء، ونعامل من يتعاون معهم معاملة الخائن لوطنه، ونضيق عليهم الحصار حيث يثقفون.!

ولقد علمتنا الحوادث أن الإنجليز لا يجدي معهم الأخذ والرد، والجدل والنقاش، والمباحثات والمعاهدات، فذلك باب أتقنوه، وبرعوا في سياسة اللف والدوران، وسياسة كسب الوقت. . وإنما تغلبهم القوة القاهرة، ويخضعهم العزم الصارم، ويذلهم التصميم الحازم، ولقد عرفت إيران كيف تصفع الإنجليز صفعة هزت كيانها، وزلزلت بنيانها، وحطمت أعصابها، وأكرهتها على الخضوع لرغبات الإيرانيين الأبطال. . فمتى نفهم هذه الحقائق ونعلم أن تحقيق الأمل، ونيل الأماني، هو بالكفاح والنضال، وندرك أنه لا قيمة لما ينتهجه الزعماء الآن من أقوال مجلجلة، وتصريحات جريئة، وخطب طنانة، وهتافات مدوية، وتصفيق جاد. . فمتى أدركنا ذلك أمكننا أن نقضي على هؤلاء الغاصبين، وأن نتخلص من شرهم، وأن تختفي من منطقة القناة هذه الوجوه الكالحة، كما اختفت من قبل من القاهرة والإسكندرية

عبد الحفيظ أبو السعود

ص: 23

‌الدكتور لوتس

بمناسبة ذكراه:

1867 -

1931

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

كان الدكتور لوتس عالما من علماء التناسليات في المقام الأول، فقد كان عالما مجربا في عالم التناسليات والنباتات وانتقال الصفات من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر. وقد نظر الدكتور (لوتس) فرأى بثاقب فكره وبعد نظره، أن مصر ذات الجو الدافئ والسماء الصافية والشمس المشرقة، تحقق له ما يصبو إليه من بحث في التناسليات وتتيح له فرصا لا تتوفر له في غيرها من بلاد العالم. ولذلك كثيرا ما أبدى رغبة شديدة في إنشاء منصب أستاذ في كلية العلوم، لعلم التناسليات، وأنه يجب أن تلحق بعمل هذا المنصب حدائق للتجارب العلمية فقد قال:(إن إنشاء منصب أستاذ لعلم التناسليات في كلية العلوم لمن أعظم الأعمال في مصر البلد الزراعي، وذا خطر عظيم في تقدم مصر وتقدم العلم في العالم أجمع)

ولد جون بول لوتس سنة1867 من أسرة هولندية معروفة، ولما بلغ مبلغ الصبيان التحق بمدارسها، وكان في أثناء ذلك يبدي اهتماما زائدا بفصائل النباتات وأنواعها، ويحاول معرفة كل شيء عنها. فلما أتم دراسته ولي وجهه شطر ألمانيا ليشبع رغبته في دراسة علم النبات، وهناك في مدينة (ستراسبورج) توجه نحو أعظم أساتذة علماء النبات، للتتلمذ عليهم وعلي رأسهم العالمان (ولنباخ) و (لدوباري) وبعد دراسات طويلة وأبحاث كثيرة، رحل إلى جاوة ليتوفر هناك على درس النباتات الكثيرة؛ وخاصة نباتي (الجنيتيوم) والطفيلي المعروف (بلأنوفورا) في الدور الجنيني. حتى إذا انتهى من أبحاثه هناك عاد إلى هولندا، فيعين مدرسا لعلم النبات في جامعة ليدن، ونظرا لجهوده وأبحاثه عين سكرتيرا عاما لأكاديمية العلوم الهولندية

ولكنه في سنة 1911 استقال من منصبه، وأنشأ في بلدة (قلب) حديقة ومحطة الأبحاث والتجارب في علم تناسل النباتات، وكان غرضه إتمام أبحاث العالم (مندل) وتحقيقها، وما

ص: 24

زال يواصل الليل بالنهار مجدا مكافحا في البحث والتنقيب حتى بلغ فيه مقاما علميا عاليا، وقد أنشأ لذلك مجلة سماها (جنتيكا) أي التناسليات

ولم يكتف بذلك بل دفعه حبه البحث والوصول إلى الجديد من الآراء إلى تحمل المشاق وتجشم الأسفار والاغتراب عن وطنه، فزار أفريقية الجنوبية وزيلندا الجديدة واستراليا، ليدرس الأحوال التي تنشأ فيها النباتات الهجنة في الطبيعة، ثم زار إيطاليا في ربيع سنة 1931 لإتمام بحثه عن نبات (مهجنات البرميولا) وهو من النباتات التي تنبت في الربيع، وهناك قضي نحو شهرين أتم فيهما عمله الذي بدأه قبل ذلك بسنوات في منطقة البحيرات الإيطالية

لقد كان الدكتور لوتس وافر النشاط خصب الإنتاج يسعى بجهد متواصل لا يكل ولا يسأم، لا تثنيه الصعاب ولا تعوقه العقبات في سبيل ما يسعى إليه وتحقيق ما يريد. فإذا تجاوزنا عن مؤلفاته العلمية والفنية جدنا له مؤلفات أخري ذات قيمة عظيمة في دراسة تناسل النباتات منها:(النشوء) وهو كتاب دون فيه آراءه الخاصة، و (تاريخ نشوء المملكة النباتية) وهو مؤلف عظيم اشتمل على دراسة تسلسلية للنباتات وتطورها، وكتاب (نظريات التسلسل) وقد ضم فيه محاضراته وغيرها. وقد كانت كتبه موضوعا للبحث والمناقشة؛ وذلك لأن العلماء كانوا يجدون فيها مجالا للبحث والإنتاج لما كان لصاحبها من ملكة نفاذة

وقد ظل عدة سنوات يحرر مجلة (سنترابلت) ويبسط فيها آراءه الخاصة ونتائج أبحاثه الكثيرة، وقد بلغ لوتس مقاما علميا عظيما فكان يدعي إلى كل المؤتمرات النباتية الدولية، وتهافتت على طلبه الجامعات الكبيرة في مختلف أنحاء البلاد، فسافر إلى الولايات المتحدة وزيلندا الجديدة واستراليا وجنوب أفريقيا ثم انتهى إلى مصر. . ومن خصائصه أنه كان لغويا بارعا ناضج الفكر، ومحدثا لبقاء حاضر البديهة. . يحفظ عددا من النوادر التي جمعها من رحلاته الكثيرة. وكان يروي ما شاهد في رحلاته بطريق شائقة جذابة يظهر فيها الظرف والسخرية من الحياة

وأضاف الدكتور لوتس إلى عالم التناسليات مذهبا يقول بأن أنواعا جديدة تنشأ من مناسلة الأشكال المعتمة، لأنها إذا تناسلت اجتمعت منها مجموعات مختلفة الصفات عن النسل

ص: 25

الأول، وهذه المجموعات لا تلبث أن تنفصل وتبدو في أشكال جديدة مميزة، وعلى هذا الأساس تنوعت النباتات وغيرها في الزمن الماضي وفي الحاضر وستتنوع في المستقبل

وفي 17 نوفمبر سنة 1931 أذيع نبأ وفاته، فكان له وقع أليم في دوائر مصر العلمية. . لأنه كان إلى شهر إبريل من تلك السنة يقوم بعمله في جامعة فؤاد الأول كأستاذ زائر لعلم التناسليات على أحسن وجه وقد كان لكرم خلقه أثر كبير في إحكام أواصر الصداقة بينه وبين كثيرين من أبناء البلاد المهتمين بالتقدم العلمي؛ ورغم قصر المدة التي قضاها في مصر فإن اهتمامه بالمسائل النباتية الخاصة بمصر كان ذا أثر عظيم في هذا الميدان

أسيوط

عبد الموجود عبد الحافظ

ص: 26

‌رسالة الشعر

من صوت الشعراء:

على طلقات المدافع

للشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن

توجه أستاذ فاضل في العدد (959) من الرسالة الغراء بنداء إلى أربعة من الشعراء ذكر أسمائهم، وذكرني في عدادهم، وكان نداؤه قويا مجلجلا لأنه ظن - سامحه الله - أننا نحن الشعراء نعيش في المريخ. . فقد لا نسمع نداءه ما دمنا لم نسمع أصوات الشهداء في (القناة)

والحق أن الشعراء قد سمعوا أنباء القناة محبرة محررة. . حتى لقد كاد السأم من العبارات والخطب، والمقالات والكتب يزهدهم في قيمة الكلام. . فنحن اليوم إلى سلاح صوال، أحوج منا إلى لسان قوال. .

إن الشعراء يعيشون بينكم - أيها اللائمون - ويحسون بمثل ما تحسّون وبأكثر مما تحسون. . . ولكني أرجو أن تحمد في أمتنا الأفعال. . لا الأقوال

فمتى؟ متى يا رب نرى العمل الجدي قد بدأ؟ ونحن حينئذ نكون في طليعة الصفوف، وفي وسط الحتوف؟

أيها اللائم أسرفت الملاما!

وتجنيت على الشعر اتهاما!

رب صمت ملأ النفس لظى

ساعة الجد وأذكاها ضراما

قد شبعنا يا أخي فيكم نداء

وشعبنا يا أخي فيكم كلاما. .

وحسبنا سئمتم خطبا

وشبعتم بالعبارات هياما. .!

ما الذي يصنعه الشعر إذا

لم يجد رمحا، ولم يلق حساما؟

هذه الأقوال لا تحمي شهيدا

من ضحايا الحق، أو تشقى أواما

أطلقوا المدفع. . . لا حنجرة

وارجعوا للسيف في الحق احتكاما

إننا نقدر أن نتحفكم

بالقوافي نملأ الصحف ازدحاما!

إننا نقدر أن نتحفكم

بالنشيد الحلو فردا، وتؤاما!

ص: 27

أترى نقدر أن نسعفكم

بصليل يملأ الجو اهتزاما؟

أترى نقدر أن نسعفكم

بالذي يقطع أوصالا وهاما؟

خبرونا اليوم ما موقفنا

أحروبا قد أردنا أم سلاما؟

كل يوم صفعة مخزية

فعلام الصبر يا قومي علاما؟

لا يرد الشر إلا مثله

فادفعوا الشر، وردوه كراما

لا تردوا عنكموا غدر الأعادي

بالعبارات نثارا ونظاما. . .

الكلام اليوم لا يحمي حقوقا

والبيان اليوم لا يرعى ذماما. .

أطلقوا المدفع من معقله

واملئوا الجو دخانا وقتاما

(القناة) اليوم من روعها

بالخطوب السود غدرا وانتقاما؟

أطلق الغاصب فيها طبعه

كوحوش الغاب فرسا واهتضاما

ملئوا بالسلم أشداقهمو

ثم راحو يستفزون السلاما

منطق تفضحه أفعالهم

كشف الصدق عن الزور اللثاما

مهج الأحرار سالت أنهرا

وعلى الصحراء قد طافت غماما

شهداء الحق في موكبه

والبواكير إلى الله اختصاما

في (القناة) اليوم أجسامهم تهاوى

وعلى الضفة فيها تترامى

صرعتها كف جبار تناسى

أمسه المملوء خزيا وانهزاما. .

القناة اليوم صارت صفحة

لمخازيكم، وللشعب وساما

إن صوت الحق قد أفقدكم

جانب الإنسان وفقا واحتشاما

قد سمعنا وعدكم سبعين عاما

فاسمعوا تصميمنا - يا قوم - عاما

محمد عبد الغني حسن

ذكرى 13 نوفمبر:

يوم الجهاد

للأستاذ على متولي صلاح

في صبحك الضاحى صحا الوسنان من طول السبات

ص: 28

وتمرد العاني الأسير على الشكيمة والعصاة

وتأجج الحقد الدفين على القراصنة الغزاة

شبت ضرامات الجهاد فألهبت ظهر الطغاة

وتسعرت نار على الشطين تأكل كل عات

وغدت أناشيد الرعاة زئير آساد الغلاة

. . . فترنج العادي الأثيم وخر مغلول الشباة

بوركت يا يوم الجهاد المر. . . . . يا بدء الحياة

قيل للدخيل - وقد غدا يمشي على جمر الغضاة -:

ارحل لدارك واغتنمها فرصة قبل الفوات

اذهب وخلفك لعنة تنصب من كل الجهات

لا تتخذ لك منزلا فينا. . . . ودع شط القناة

لا تلتمس أمناً ولا ترفع قواعد للنجاة

لا ترس آساساً ولا تحلم بهذي الترهات!!

قسماً نزلزلها.:. وإن تك كالجبال الراسيات. .

علي متولي صلاح

إلى روح أمي:

الظل المنحسر

للأستاذ حسن كامل الصيرفي

(الأم هي واهبة الحياة بعد الله؛ فإذا فقدها أصحاب الشعور أصبحت حياتهم أقباسا من وهج اللوعة، وفنونا من عبقرية الألم، وخريفا لا يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس. . كلمات تجد أصدق التعبير عنها في هذه الأبيات)

ذهب الظل الذي كان هنا

نعمة من رحمة الله بنا

ذهب الظل وعمري لم يزل

ظاعنا يشكو الصدى والوهنا

طاويا في كل يوم رحلة

تنشر الغيب وتطوي الزمنا

ص: 29

الوداع المر أسقاه بها

وأنا أقتات منها الحزنا

كم عزيز في ثناياها مضى

كان دمعي غسله والكفنا!

الصحاري الصفر حولي قصة

أنا أدري منّهاها المحزنا

مد راويها مداها، ولقد

أرهق النفس وأوهي الأذنا

ملها السمار حتى انتبهوا

ونداء الفجر فيهم أعلنا. . .

ما مسيري في طريق عبرت

تربة قبلي دهور ودنى!

فنيت من قبل أن تدركه

وخبا في ليلها كل سنا

أنظر الأشباح فيه ذرة

من هباء في فضاء شحنا

لست أجني من ثراه ثمرا

غير كد وشجون وضنى!

رحلتي طالت، وطالت غربتي

فمتي يا روح ألقي الوطنا؟!

كان لي ظل إذا اشتد اللظى

آوت الروح إليه فحفا. . .

كان لي ظل إذا إمتد الدجى

وجد القلب لديه المأمنا

كان لي ظل إذا عاصفة

زمجرت أسمعني لحن المنى

كان لي ظل إذا اليأس طغى

ردني بعد ضلالي مؤمنا

ذهب الظل فلا مأوي هنا

لغريب ليس يدري السكنا

الهجير المستبد استعرت

ناره تشوي وهبت ألسنا

وأنا تلفحني النار ولا

أجد الظل الذي كان هنا

حائر الطرف، أداري حيرتي

بالسكون الجهم حتى تسكنا

وأري موكب ليلي زاحفا

أسود الجبهة يطوي الحزنا

قاسيا يقصف في خطوته

كل عود كان مأمول الجنى

موحشا تزحف في ظلمته

أرجل الوهم غلاضا خشنا

عابسا أوشك من سحنته

أن أراه ناقماً مضطغنا

غارت الأنجم إلا خادعا

حير العقل وأعشى الأعينا!

عبد الناس حياة ضلة

وأنا أجحد هذا الوثنا

حيرت طالت على أصحابها

كل من فيها ينادى: من أنا؟

ص: 30

ذهب الأمل فيها يائسا

وذوي المأمول فيها وانحنى

يهدم اليوم وفي سخرية

ما أقام الأمس فيها وبنى!

ذهب الظل ولما أستريح

من عناء السير إلا موهنا

ذهب الظل إلى بارئه

فقضت أمي وودعت المنى

جنتي كانت. . ولكن ذهبت

من أمامي مثلما يخبو السنا

لم تكن إلا جفوناُ أغمضت،

ورؤى قرت، وروحاً سكنا. .

ثروة كانت. . وما اغبنني

في تراب الأرض واريت الغنى!

لم يعد أثمن عندي من ثرى

دفنت فيه أحبائي هنا. . .

حسن كامل الصيرفي

ص: 31

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

محنة الأخلاق في الجامعة:

(بين عينيك دفء عطره أريج الشهوة الفاغم، فمن لي باسترواحه!

أيامي مطيرة، والثلج الناصع يجلل الصنوبر ويزحف من القمم إلى مشارف الوادى، وليس ينمو غير الوحشة من حولي فأين مني الآن تلك الحرارة المشبوبة بين نهديك؟!

وحنايا عطفيك وردفيك، بين اختلاج اللمسة الحائرة وانكسار عينيك اللعوب، نفسي الفداء لمن يهبني رنوا إليها واستمتاعا بها!

أتلمس في الوردة المجلة بأنداء الفجر، خديك الناعمين يوم الوداع المشئوم ترف عليهما الدموع من نوافذ القطار، وفي الحسون المستضحي على أفنان الصفصاف الجاف، يدني المنهوك وقد ارتمي متناعسا على صدرك العامر متدثرا بشعورك الزاهية المسترسلة، أيّها الشقراء!

وفي الصرختين الذهبيتين النافرتين النانئتين في صدر اليم، نهديك المنطلقين بنداء الأنوثة الخالدة في صمت صارخ. ولقد قيل عن هاتين الصرختين إنهما تغريان العشق الخائب بالانفلات من طريق الحياة، وكم أتمنى أنا لو انتحرت بين نهديك!

طعم الحلال تعافه نفسي، وعلى شاطئ الحرام ألقيت مرساتي!

نعتوني بالحماقة، وفي الحماقة وجدت عقلي! وصفوني بالضلال، وفي الضلال تلمست هداى!

تناول الناس من قرباني، وأنا عند نفسي دنس الأدناس، فقدس الأقداس عند الناس هو عندي دنس الأدناس!

أنا موحد، وفي توحيدي حيوية الوثنية!

بل أنا وثنى، وفي وثنيتي صفاء التوحيد!

توحيدي حرية الخالق بازاء المخلوق، أما غيري فتوحيده عبودية المخلوق للخالق، والخالق والمخلوق سواء!

وثنيتي تقدس اللمس، وتفزع من طغيان البصر!

ص: 32

وثنيتي تمجد الجسد، وتهزأ بدعوى الروح!

أجل، في كياني عصارة حياة لن أبتاع بها كوثر الأوهام!

هذه الكلمات (النظيفة) يوجهها أستاذ جامعي (فاضل) إلى حبيبته، أو إلى عشيقته. وأنقلها إليك من آخر كتاب أصدره الأستاذ (فاضل) الذي يشعل كرسي الأستاذية (الموقر) في جامعة إبراهيم، ويشرف بمثل هذه الأخلاق (العالية) على تربية جيل من الشبان والفتيات. . الفتيات آلائي دفع بهن الآباء إلى الجامعة، وتركوهن وديعة بين يدي الأستاذ (الجليل)!

إن القلم ليتعثر في يدي وأنا أنقل إليك مثل تلك الكلمات المخزية المخجلة، الداعرة الفاجرة، الهابطة الساقطة، التي تتمرغ في الوحل وتستقر في الحضيض. . وما كنت أحب والله أن ألطخ بمثل تلك الكلمات صفحات الرسالة ولكنه الحرص على سمعة الجامعة؛ ولهذا نقلت كلمات الأستاذ (فاضل) لأقدمها مع الأسى والأسف إلى معالي وزير المعارف، وإلى مدير جامعة إبراهيم، وإلى عميد كلية الآداب بتلك الجامعة، وإلى الآباء الذين تركوا فتياتهم كما قلت وديعة بين يدي هذا الأستاذ الذي يصور للناس طبيعة تكوينه الخلقي والنفسي في صفحات كتاب! إنني أقرأ مثل تلك الكلمات وما هو أكثر منها هبوطا ومع ذلك لا أعترض؛ على أصحابها لأنهم ليسوا أساتذة في الجامعة. . إن الأستاذ الجامعي بحكم منصبه وطبيعة مكانه مسئول عن تقويم الأخلاق وتهذيب المشاعر، قبل أن يكون مسئولا عن تثقيف العقول وتوجيه الأذهان. وهو بعد ذلك يجب أن يكون مثلا طيبا وقدوة حسنة لجيل يترسم الخطى ويقتفي الأثر وهو على أهبة الخروج إلى الحياة، خطى المشرفين عليه وأثر الموجهين له من الناحية الخلقية قبل الناحية العقلية!

ماذا يكون شعور جيل من الطلبة والطالبات نحو هذا الأستاذ الجامعي؟ وماذا تكون نظرته إليه وتأثيره به، إذا كان هذا الأستاذ ينسى واجبه ومسئوليته، ويتخلى عن حياته ووقاره، ويهبط في تصوير خواطره ومشاعره إلى مستوى السوقة أو مستوى الصبية المراهقين؟! وماذا يقول مدير جامعة إبراهيم وعميد كلية الآداب بتلك الجامعة، ماذا يقول كل منهما الآباء والقراء عن هذا الأستاذ (المراهق) الذي يريد أن يستمتع بالأعطاف والأرداف، ويحب أن يستروح أريج الشهوة الفاغم، ويود أن ينتحر بين النهود، وتعاف نفسه طعم الحلال وتشتهي طعم الحرام، ويرمي الناس بأن قيمهم المقدسة هي عنده قيم مدنسة، لأنه

ص: 33

يستشعر الدنس في أعماق ذاته ويعترف به غير حياء، ثم ينتهي إلى أن الخالق والمخلوق في نظره سواء؟! إنني أود أن يتفضل أحدهم فيقنعني بأنه لا ضمير على الجامعة من أن يكون فيها أساتذة من هذا الطراز؛ يخرجون كتبا من هذا الطراز، ويشرفون على توجيه جيل يواجه الحياة بسلاح الخلق قبل أن يواجهها بسلاح العلم ليطمئن إلى المصير. .

أود أن يقنعني مدير جامعة إبراهيم أو عميد كلية الآداب بأن السمعة الخلقية للجامعة لا يمكن أن ينال منها أستاذ كالدكتور عبد الرحمن بدوي، وأن السمعة العلمية لا خوف عليها من كتاب ككتابه (الحور والنور)!. هذا إذا لم تكن هذه السمعة قد اهتزت بعد فضيحة (الإشارات الإلهية)!!

شعراء في الميزان:

لقد ظهر في عالم الأدب كتابك الأول يحمل بين دفتيه ألوانا من الفن، وأقباسا من العلم، وأفانين من الأدب اللباب. ولقد قرأت فاستمعت، وفكرت فاقتنعت، وأحسست فعشت بين النجوم لحظات. أعيدها كلما دفعني القلب، وأحسست يداي إلى عناق الكتاب، وطالما سرت معك في كتابك جنبا إلى جنب، ويدا في يد، وروح مع روح، غير أنك في نهاية الطريق تركتني لأسير وحدي في طريق آخر، وإن كنت ما أزال أراك!

هناك حيث تحدثت عن (وميض الأدب بين غيوم السيلسة) لإبراهيم دسوقي أباظة باشا، وهناك حيث امتد الحديث إلى الشاعر محمود غنيم. . لقد أنكرت شاعرية هذا الشاعر وأسرفت في الإنكار مما دفع بي لأن أقول لك: شيئا من الرفيق ليجمل النقد، وكثيرا من العدل ليستقيم الميزان! ترى هل يكون ذلك بعض الشرر من ثورتك المنادمة على (وميض الأدب)؟ أم هو عدم ارتياحك لشاعر يخالف مذهبك في (الأدباء النفسي)؟ إنني آمل أن تضع الشاعر في مكانه من شعراء، العصر، وإن تضع شعره في مكانه من موازين النقد

مصطفى محمود أحمد

مليج منوفية

أشكر للأديب الفاضل جميل رأيه في الكتاب وحسن ظنه بمؤلفه، وأشكره مرة أخرى أو أشكر القراء في شخصه لإقبالهم على كتابي الأول هذا الإقبال الذي قلت عنه مرة أنه

ص: 34

أخجل القلم في يدي، القلم الذي ظلمهم يوما حين نعتهم بأنهم لا يقرئون. . بعد هذا أبادر فأقول له: إن رأيي في الشاعر محمود غنيم ليس بعض الشرر من ثورتي المندلعة على (وميض الأدب)، لأنه رأي قديم يسبق ظهور هذا الكتاب الذي هيأ له الفرصة لأطلع به على جمهرة القراء! وإذا كان هذا هو رأيي في شعر الأستاذ غنيم، فأود أن أؤكد للأديب الفاضل أنني لن أتحول عنه في يوم من الأيام إذا تحول هذا الشاعر عن فهمه لحقيقة الشعر: واستطاع على هدى هذا الفهم أن يسير في ركب الشعراء المحلقين. . ولقد كفاني الأديب صاحب الرسالة مشقة التفسير والتبرير، حين أصاب الهدف في الشق الأخير من سؤاله وأشار إلى مذهب الأداء النفسي تلك الإشارة التي تحمل بين طياتها الجواب!

وما دمنا ندور حول هذا الأداء في الشعر وننكر كل ما عداه، فمن الطبيعي أن نعترف بشعراء من طراز على محمود طه وإيليا أبي ماضي ومحمود حسن إسماعيل؛ وألا نقيم وزنا لغيرهم. . لأن ممن يرى أن الشعر كل (كلام) مقفى وموزون! هذا رأي أقدمه خالصا لوجه الله والفن، وإن القراء ليعرفون أنني لا أتحامل على الخصم ولا أجامل الصديق، بل ما أكثر الأصدقاء الذين أغضبهم رأيي في أدبهم فضنوا على بودهم وانتقلوا إلى معسكر الخصوم. . ومع ذلك فإنا كما قلت غير مرة لا أحب أن أتحكم في أذواق الناس، لأنه لا يدهشني أن يوجد مثلا من يفضل محمود غنيم على أمير الشعراء؛ بعد أن فضل عليه الرصافي فريق من الناس يجيد النكتة كما يجيدها بعض الظرفاء!

أنور المعداوي

ص: 35

‌رسالة النقد

مسمار جحا

رد على تعقيب

للأستاذ أنور فتح الله

في العدد الماضي من الرسالة، تفضل الصديق الكريم الأستاذ علي أحمد باكثير بالتعقيب على نقدن لمسرحيه (مسمار جحا) المنشور في العدد رقم957

ونحن إذ نشكره على اهتمامه بالتعقيب على النقد، سنتناول التعقيب بالرد، لتوضيح رأينا في القضايا الفنية التي أثارها

. . . استهل المؤلف تعقيبه بالرد على المأخذ الأول، الخاص بإذاعة مؤامرة جحا وحماد قبل عرض قضية المسمار؛ فاتفق معنا على أن إخفاء المؤامرة يقوي عنصر التشويق. . وخالفنا في أن كشف المؤامرة قد أضاع الأثر القوي لهذا المشهد، لأنه يرى أن كيفية تنفيذ المؤامرة وما فيها من جدة وطرافة لا يؤثر معها انكشاف المؤامرة في خطوطها الأولى. . .

. . وجوابنا على ذلك أن هذا المنطق يستقيم لو أن المؤامرة أحبطت ولم تنفذ، إذن لما كان هناك قضاء على عنصر التشويق. أما والمؤامرة قد نفذت من خطوطها الرئيسية، فإن الكشف عنها قد قضى على التشويق في أهم أحداث المسرحية، وأضاع الأثر النفسي لهذا الحادث، ولا تغني الجدة والطرافة شيئاً في هذه الحالة ليست بذات أهمية بالنسبة لهذا الحادث الرئيسي. . بل إن في الكشف عن هذه المؤامرة قضاء على الرمزية في مشهد قضية المسمار، فأصبح مباشراً وفقد بذلك مضمونه الرمزي.

فبدلا من أن يترك المشاهد يتبين نفسه، ويلمس قضيته من خلال المشهد الرمزي، جاءه المؤلف بمرآة صريحة وقال له (أنظر في هذه المرآة لترى وجهك). وكنا نرجو أن يبدو مشهد المؤامرة على المسرح، في نفس الصورة المطبوعة من المسرحية، إذ لا فرق في البناء المسرحي بين المسرحية المعروضة والمسرحية المطبوعة، فعنصر التشويق يجب أن يتوفر في كل منهما

وقد رد المؤلف على المأخذ الثاني، الخاص بدخول امرأة جحا في مشهد القضية فقال. . إن

ص: 36

دخولها كان أساسيا. . لأنها طرف ثالث في النزاع، وأنها لا يعنيها هدف زوجها القومي. . وأن ذلك يجلو جانبا من شخصيتي جحا وامرأته وهو عدم استحيائها من كشف دخائل بيتها. . وإن دخول أم الغصن قد تم في خلاله تحول غانم من التشدد إلى التسامح عندما رشاه الحاكم. . وسنحاول الرد على هذه الأسباب الأربعة.

أما السببان الأولان فلا ضرورة لهما لأن المؤلف أغنى المشاهد عن التساؤل عن موقف أم الغصن بعد خروجها من الدار. . وأبرزها في الصورة التي أرادها لها في نهاية المنظر الثالث عندما أرادت طرد حماد من الدار فأجابها بأنه لن يخرج من داره. . وكذلك في أول المنظر السادس عندما جعلها تلعن حمادا لأنه كان السبب في إخراجها من الدار. . أما من حيث جلاء ذلك الجانب من شخصيتي جحا وأم الغصن فكان في مقدور المؤلف إبراز ذلك في غير مشهد القضية. . ومن حيث تحول غانم بعد ما رشاه الحاكم فكان من السهل إبراز ذلك في صورة أوضح ودون الحاجة إلى دخول أم الغصن. . وذلك بأن ينتحي الحاكم بغانم في أحد جوانب المسرح ويسر إليه ببضع كلمات. . وإذن، فلم تكن هناك ضرورة لدخول أم الغصن في مشهد القضية. وليس من شك في أن دخولها لم يحبس الأثر النفسي مؤقتا عن صعوده - كما يقول المؤلف - بل أنه قضى عليه لتحول انتباه المشاهد ونفوره من هذه المرأة الثقيلة الظل

. . أما قول المؤلف بأن العرض على المسرحية قد جاء مصدقا لوجهة نظره؛ فجوابنا عليه، أننا إنما استقينا وجهة نظرنا هذه من العرض على المسرح، فسحلنا الأثر الذي انطبع في النفس؛ وأعتقد أن نظرة الناقد أكثر تجردا من نظرة المؤلف، لأنه إنما ينظر إلى عمله الفني كقطعة منه، عزيزة عليه!

. . . وفيما يخص بالمأخذ الثالث الخاص بمشهد السجن، وما أخذناه عليه من طول، وتحول في الحوار من الرمزية إلى المباشرة الخ. . فقد قال المؤلف أنه لم يعد للرمزية مكان فيه بعد ما صار الصراع بين جحا والحاكم صريحا، وإنه احتفظ بقدر كبير من رمزية التعبير. . ونحب أولا أن نلفت النظر إلى أننا نقصد الرمزية بين واقع المسرحية، والواقع الحاضر. . والذي نلاحظه أن المؤلف جعل الواقع المسرحي مطابقا للواقع الذي نعيش فيه، وبهذا مزج المشاهد من واقع المسرحية إلى واقعه الحي ولم يعد مندمجا في

ص: 37

الحياة التي يراها على المسرح. . وكان على المؤلف أن يخالف الواقع في بعض الخطوط ليخدع المشاهد، ويجتذبه إلى المسرح. . أما القول بأن النغمة الخطابية كانت في مواضع خاصة لا تصلح فيها غير هذه النغمة لتساوق الحالة النفسية، فذلك ما تخالف فيه المؤلف، لأن الصدق في تصوير الحالة النفسية يؤدي إلى الطبيعة، أما النغمة الخطابية فتميل إلى المبالغة، وفي المبالغة افتعال وخروج على الطبيعة

وقد ورد المؤلف على المأخذ الرابع، الخاص بانتهاء المسرحية دراماتيكيا في نهاية المنظر الخامس، بأن هناك من يخالفني في هذا الرأي الخ. . وإيضاحاً لوجهة نظرنا نقول أنه وإن كان خط الصراع بين جحا وامرأته هو الخط الرئيسي في بناء هيكل المسرحية، إلا أن هذا الخط يعتبر خادماً لخط الصراع الرئيسي، ولما كانت وظيفة إبراز هذا الخط، فيجب أن ينتهي حيث ينتهي الصراع الرئيسي

. . ومن حيث المأخذ الخامس الخاص باقتصار المؤلف في تصويره لشخصية أم الغصن على إبراز اللون الواحد. . والشخصية المحورية تكون دائما مكتملة النضج من بدء الرواية. . نقرر أننا لا نعارض هذا الرأى، ولكنا نعارض ذلك التكرار في عرض اللون الواحد في كل منظر ظهرت فيه أم الغصن، وكان على المؤلف أن يوزع تصويره لجوانب هذه الشخصية على المناظر التي ظهرت فيها، لا أن يعرض الجوانب المختلفة لهذه الشخصية في كل منظر ظهرت فيه، وذلك دون مساس بموقفها من الصراع الذي تمثل أحد طرفيه

. . . أما شخصية الغصن، فقد عقب المؤلف على نقدنا لها بأنها تنطويع لى سيكلوجية دقيقة، وأن هذا البله شديد التعقيد، فهو واسع الخيال جامحه، وهو يجمع بين المتناقضات من ذكاء وبلاهة في وقت واحد، والاقتصار على اللون الواحد وهو الاهتمام بديكه أمر ضروري لبيان مراحل التطور النفسي لهذه الشخصية، ثم راح المؤلف يسرد علينا قصة التطورات النفسية. .

. . . وجوابنا على ذلك من ناحيتين. . الناحية السكلوجية. . والناحية الفنية. . أما عن الأولى. . فنلاحظ التناقص في تصوير شخصية الغصن لجمعها بين البله والذكاء وسعة الخيال. . فالبله كما هو معروف علميا درجة منخفضة من درجات الضعف العقلي. . ولا

ص: 38

يمكن بحال أن يتصف صاحبه في نفس الوقت بالذكاء. . لأن الذكاء درجة مرتفعة من القوة العقلية. . وسعة الخيال تستلزم قدرة عقلية تسمو على درجة البله. والشخصية التي تجمع بين البله والذكاء وسعة الخيال غير موجودة أصلا في الحياة من الوجهة العلمية، وبهذا يكون التصوير السيكلوجي لهذه الشخصية متناقضا

. . . ومن الناحية الفنية، فإن تصوير هذه الشخصية كان قاصرا على إبراز البله في دائرة واحدة هي قصة حب عرجون لديكه، وهذه الدائرة تعاد وتكرر في لون واحد

وأخيراً. . فنحن نرى أن هذه الشخصية زائدة، ولا ارتباط بينها وبين أحداث المسرحية، ولو حذفناها لما تأثرت الأحداث

بذلك

وبعد. . لعلي أكون قد أخلصت في نقدي لمسرحية المؤلف الصديق، ليصل بفنه إلى الكمال الذي أرجوه له

أنور فتح الله

ص: 39

‌الكتب

النيل

تأليف اميل لودويغ

ترجمة الأستاذ عادل زعيتر

الآن أنجزت قراءة كتاب ضخم! أنه كتاب النيل، وكفى به تعريفا أن نقول: ألفه أميل لودويغ وترجمه عادل زعيتر!

أنه يقع في (745) صفحة، أنيق الطبع، صقيل الورق، شأن ما تطبعه دار المعارف بمصر

هذا الكتاب العظيم، قضى لودويغ في تأليفه ست سنوات وقام من أجله بثلاث رحلات، درس في أثنائها جميع النيل الأبيض في أوغندة والسودان والنيل الأزرق في الحبشة حيث بلغ منابعه، وفي السودان. ومما يذكر أن المغفور له (الملك فؤاد) قد وضع باخرة تحت تصرف المؤلف تيسيراً لمهمته وعرفانا بأهميتها ولاح النيل للودويغ كعظماء الرجال فاستنبط من طبيعته تسلسل حوادث حياته، وأبان كيف أن الوليد وهو يتفلت من الغابة البكر ينمو مصارعا ثم تفتر همته ويكاد ينفد ثم يخرج ظافراً، والنيل في تمام رجولته يقاتل الإنسان فيقهر ويروض ويوجب سعادة الناس ولكنه قبل ختام جريته - يسبب من المآسي أكثر مما في شبابه، فقارئ الكتاب إذن إنما يقرأ وصف حياة، لا كتاب دليل، وإنما يقرأ مغامرات النيل لا مغامرات لودويغ

وأول ما يأخذك في الكتاب هذا الوصف الذي امتاز به لودويغ وتلك الملاحظة الدقيقة التي أثرت عنه، فيبهرك وصفه للطير وللبعير وللفيل، ويبهرك وصفه للتمساح والحوت والنعامة والزرافة والبقر الماء. . ويبهرك كذلك وصفه للشعوب وعاداتها وطبائعها، وهو ينقلك من أقزام الباكوا إلى الزنوج إلى أكلة لحوم البشر إلى شعب الباهيما في أوغندا إلى الحبشة ليعرفك بقساوستها وبشركك في أعيادهم وطقوسهم ويجمعك بمسلميها وبهودها ثم ينتقل بك إلى النوبيين

هذا الوصاف البارع والملاحظ النبيه لا ينتقل بك في وصفه انتقالا جغرافيا ليطلعك فيه على دقائق شعوب الوادي ونباتاته وحيواناته فقط، وإنما يطوي بك الزمن القهقري ليريك

ص: 40

بعينيك حياة الفراعنة، ثم يعرض عليك رقا سينمائيا يريك فيه بسرعة الرق السينمائي. تتابع الأحداث في مصر، فترى الفرس والأغارقة، وترى إنشاء الإسكندرية - وهو أهم حادث في تاريخ مصر - وتجتلي طلعة كليوباترة التي عني المؤلف بسيرتها (وله كتاب مشهور)، وترى المسيحية تدخل مصر، وترى الإسلام، حتى إذا انتقل بك إلى الفاطميين والمماليك رأيت عجبا ورأيتك في زفة العرس أو في موكب الختان أو في صميم خناقات الأزهريين، وينتقل بك إلى العهد النابليوني فالعلوي ويجمعك بإسماعيل ويسرد لك قصة قناة السويس وينتهي بك إلى القول الفاصل الذي تردده اليوم في ثورتك الراهنة على الإنجليز؛ أنه يقول:(والحق أن العالم بأجمعه اسفاد من فتح البرزخ وإن مصر وحدها هي التي خسرت به. . . وكان إسماعيل رلغبا في إنشاء القناة من أجل مصر لا أن تكون مصر خادمة للقناة) ثم يهمس في أذنك: (إن الملك فؤادا قد أخبرني بأن إسماعيل كان عازما على التخلص من متبوعة الضعيف بأن يعلن في افتتاح القناة في خطبه مدوية استقلال مصر وينادي بنفسه ملكا، ولكن هذا المشروع قدمني بالإخفاق في الدقيقة الأخيرة لما كان من اعتراض دولة أجنبية)

وإذا ما وصل بك إلى عرابي وحركته أخذ عليه فقدانه حزمه في الساعة الحاسمة، ولكنه أنصفه، ونقل إليك قول الجنرال غوردون الإسكتلندي فيه:(ومهما يلعب به عرابي فإنه سيبعث قرونا في ذاكرة الشعب الذي لن يقول ثانية: خادم الخاضع) وقد يزدهيك قول لودويغ في الحديث عن ضرب الإسكندرية والغزو البريطاني: (إن الذي لا ريب فيه هو أن المصريين قاوموا ذلك الغزو الأجنبي في أسابيع بحمية لم يبدوا مثلها في ألوف السنين، كما أنهم أظهروا من العزم والشعور القومي ما لم يظهروا في تاريخهم الطويل) ويروي لودويغ أن يعرفك بكرومر على تقدير روحه العلمية ونزاهته وعطله من الزهو وإشعاره الفلاح المصري أنه مساو للباشا أمام الله والقانون، ولكنه يحملك كذلك على استنكار رعاية كرومر للامتيازات الأجنبية، ويثير فيك النقمة من سياسة التعليم في عهده، وأخيرا ينقلك إلى الثورة المصرية ويعرفك بسعد زغلول:(ويسأل مكدونالد رئيس الوزارة البريطانية زغلولا عن المكان الذي يود أن ترد إليه كتائب الإنجليز قائلا: إلى إنكلترا يا سيدي الوزير. . .)

ص: 41

أما معاهدة سنة1936 فقد يروقك أن تعلم - وأنت الذي صفقت اليوم لإلغائها - أن لودويغ قال فيها: (إنها اتفاق لا يحقق جميع آمال المصريين لأن الإنجليز سيقضون سنين طويلة لإنشاء بضع ثكن، ولأن الجلاء عن القاهرة لا يؤدي إلى الجلاء عن قناة السويس. ومع ذلك تسير مصر لتستقل هي والسودان، ويتوقف كل شىء في السنوات الآتية القليلة على أحد البلدين يظهر فيه القطب السياسي الأعظم اقتدارا، وسيعرف هذا السياسي كيف ينتفع بالحرب القادمة لحل تلك المسألة) لقد قدمت للقارئ لودويغ وصافا مبدعا للحيوان والنبات، للشعوب والعادات، للأحداث والأحوال، ولكنني أحب أن أقول أنه وصف السدود - كسد أسوان - وقارن بينها وبين سدود العالم، ووصف الأقنية والري وحقا لا يستطيعه غير مهندس ري قدير. . .

وفي أثناء ذلك كله يحرص لودويع على استيفاء عنصر المقارنة والتشبيه، فيقارن بين محمد ونابليون مثلا، ويقارن بين زغلول وعرابي، ويحرص فيما يحرص على عنصر الحكاية الشائقة فيلذ لك أن تقرأ قصة بلقيس وملوك الحبشة، وتروقك حكاية الفرعون أمازيس الذي يعزل القضاة اللذين برءوه في فتائه لأنهم صدقوه مثبتا جهلهم. . . ويكافئ من حكموا عليه في شبابه لما أبدوه من فطنة. . . ويأمر بصب طشت من ذهب كان يغسل فيه رجليه وأن يصنع منه تمثال للرب. . . ويبجل الندماء هذا التمثال ويخبرهم أمازيس بأنه صنعه من الطشت الذي كان يبصق فيه. .) وتروقك حكاية النصرانية في مصر ودور القديسين بولس وأنطوان. . . وقد يدهشك أن تعلم أن ملك الحبشة عرض الزواج من الملكة فيكتوريا، وأن حربا نشبت على أثر الرفض، وأن تيودور ملك الحبشة لم يلبث حتى انتحر. . . وسيأتيك في الكتاب حديث النجاشي منليك في معركة عدوى، وحديث شامبليون الدءوب، وطرائف عن محمد علي في السودان ومقتل ابنه وما كان من أمر محمد المهدي والتعايشي ومقتل غوردون وحملة كتشنر ومقتل الخليفة ونبش قبر المهدي وقصة مارشان وفاشودة

وتروقك كثيرا وأنت تقرأ الكتاب لفتاة للودويغ بارعات وتعليقات طريفات وأحكام تشفي الصدور، فإذا تحدث عن الزنوج قال. (إنهم يجهلون أن الرجل في أوربة لايحق له أن يتزوج أكثر من امرأة واحدة ولكنه ينال زوج جاره بلا جزاء على حين يمكن الزنجي هنا

ص: 42

أن ينكح عدة أزواج ولكن من غير أن يأخذ زوج الجار بلا عقاب)

وحين يكون منبع النيل في بلد آخر وتنافر الفريقان فصرف ساكن المجري الفوقاني منبع الماء وجهته عن خبث فإن الاشتراع الدولي في أمور الري لا ينفع (إنه اشتراع وهمي ككل حق دولي) وإذا تحدث عن الحكم الثنائي في السودان قال: (إن هذا النظام يثير الجميع لتوزيع الحقوق بين الفريقين توزيعا غير متساو يمكن أن يقال إن هذا قران شرقي تقدم به الزوج ما لها وتضع أولادها من غير أن تنال في مقابل ذلك غير حق الحياة، أي ماء النيل، وهي مع ذلك زوجة شرعية تمر في الأحوال العظيمة تحت أقواس نصر، راكبة حصانا بجانب بعلها، مغمورة بالحلي محجبة تماما. . .)

ولودويج إذا ما تحدث عن دخول مصر في الإسلام ووصف ما سبق ذلك من فوضى قال: (ولكن القضاء على تلك الفوضى كان يتطلب أمة جديدة لم يقدر على استعبادها الآشوريين والفرس والمصريون والبطالسة والرومان)، ولودويع يتحدث عن هوان المرأة لدي المسلمين وما رافق ذلك من عادات، ثم يقول:(ومن المحتمل أن تكون هذه العادات قد عاقت تقدم الإسلام الذي هو أكثر الأديان رجولة، ومن المحتمل أن يكون هوان المرأة قد أفقده العالم بعد أن كان في قبضته)

وسوف يعجبك قوله في محمد علي وما يراه من خير للبلد في ذبح المماليك وأنه قد قام بأول تجربة لاشتراكية حكومية؛ وأن حكمة نظام استبدادي في صلاح إداري وأنه أول من ضمن حرية الأديان وسلامة جميع طبقات المجتمع وأموالها

وإذا انتقل بك حديث الحشيش وأطرفك بأنبائه وقارن بينه وبين الغازات السامة قال لك كذلك (إن العدالة التي تحكم على متعاطي المخدرات بالسجن سنوات ولا تقضي بحبس تاجر المخدرات التركي غير بضعة أشهر لعدالة عرجاء)

ولعله من أبرز ما لحظه المؤلف تأثير الإقليم في الشعب المصري وقد سمي الشمس والنيل إلهي ذلك الإقليم. والشعب المصري مدين للشمس بالقناعة ومرح، الحياة ومدين للنيل بروح النظام والطاعة (وهنا قامت دولة فجعلت من فرعون إلاهاً وجعلت من العمل ضرورة ومن الري فنا ومن العقلي والجلي مبدأ. . . وفي هذا البلد يظهر أن الشمس خفضت إرادة التمرد بما فرضه من حساب، ومع ما كان من اختراع هذا الشعب أموراً

ص: 43

كبيرة قبل الشعوب الأخرى بألوف السنين - حاشا ما تم في وادي الفرات - ومع ما كان من عظمة هذا الشعب بعلمه وآثاره التي تنطوي على حسابات بادية حتى في أقدم التماثيل، كان هذا الشعب العملي، المقدام. عاجزاً عن إيجاده لنفسه عالما علويا، فلم يكن العالم المنوع الذي تصوره عما بعد الموت غير صورة عن حياتهم في هذه الدنيا، فقد جعلهم خوفهم من العنصر، من النيل، أتقياء، اجتماعيين، محافظين)

وظاهرة الكتاب الأولي هذا العطف الذي يثيره في نفسك على الفلاح المصري، وذاك الرثاء البليغ لحاله والوصف الأليم لمعاشه وطرز حياته منذ أقدم العصور حتى اليوم، وتكاد صفحات الكتاب تدعو إلى تحريره وإلي النهوض به

وأما الجهد الذي بذله الأستاذ الجليل عادل زعيتر في التعريب فجبار. وأنت إذا لمست قدرته على إيجاد الأسماء العربية للمئات من النباتات والحيوانات، وأنت إذا أمعنت في تعريبه للمصطلحات العلمية وفي إشتقاقاته أنعمت أن جهده الفردي هو جهد مجمع علمي كامل الأدوات؛ وأيقنت أنه في وفرة نه في وفرة إنتاجه السنوي وفي صحة لغته وقوة بيانه مؤسسة قائمة بذاتها. وما تقول في من أتحف العربية بعشرين مجلداً ضخما من نفائس القرائح العالمية في بيان ناصع وأسلوب متين؟

وقارئ كتاب النيل وعيره من معربات عادل زعيتر يدرك أنه الرجل الذي أعلى راية اللغة العربية وذلل أمامها كل صعب وأخضع لشوكتها أرقى اللغات؛ وبرهن على أن اللغة التي وسعت آي الله بها كتاب العظيم لن تضيق عن كتاب في هذه الدنيا ما توفر على التعريب عالم نابغ، دءوب، ضليع كعادل زعيتر

هذا وقد تطغي على الأستاذ زعيتر أحيانا الناحية اللغوية فتظن أن الكتاب كتاب لغة، فتراه يطعم اللغة مقدارا من الكلمات الغير المألوفة، وتراه كثيرا ما يشكل الكلمات وكثيرا ما يؤثر غير الشائع على الشائع، وقد يكون هذا مأخذاً عليه في رأي البعض ولا سيما في كتب تكون في أصلها غامضة الفكر والتعبير ككتب لودويغ. وقد يكون في جنوحه إلى ذلك مقدارا في رأي البعض الآخر من رواد الفوائد اللغوية

ولعل من مبتكرات المعرب الموفقة اجتنابه تكرار النسبة في الكلمات المعربة خلافا لما اعتمده كتابنا فهو يقول: دبلمي وكلاسي وميكاني وبلجى. . بدلا من دبلماسي وكلاسيكي

ص: 44

وميكانيكي وبلجيكي. . والمترجم حين يقدم لكتابه يرجو أن يكون قد قدم إلى إخوانه أبناء النيل هدية صغيرة ليعرب لهم بها عن مودته لوادي النيل، البلد الكريم الذي أحبه كثيرا

وفي الحق أن نقول للأستاذ زعيتر: إنها هدية كبيرة، ومن الحق أن نعيد القول:

هذا كتاب. . كفي به أن يكون عن النيل وأن يؤلفه أميل لودويغ وأن يعربه عادل زعيتر

القاهرة

مطالع

ص: 45

‌البريد الأدبي

جمال الدين أباظة بك:

من هذا المكان يا عمي الذي طالما أحببت أن تقرأ لي فيه، والذي كنت تقرأ فيه ما سمعته قبل أن ينشر. .

من هذا المكان الذي رأيتني فيه منذ بدأت أكتب حتى اليوم. . من هذا المكان أحب أن أكتب. .

ولكن أتراني أستطيع؟ أحاول كلما فكرت في ذلك أن أنفي عنك فكرة الموت ولكنها تلاحقني فيك فأبعدها. . هي الحقيقة الثابتة. وأنا الجازع منها لا أستطيع أن أصدق. ولا أستطيع أن أكذب، فماذا أقول لك؟

أحقا انتهي الأمر؟ أحقا لم يعد في استطاعتي أن أذهب إلى الضاحية التي أشرقت بك حينا من الزمان، والتي بها لاقيت أو لاقينا نحن فيك المصاب؟ أحقا لن أخاطبك بعد الآن لأسألك رأيك وأطلب مشورتك؟ أحقا لن نلتقي في تلك الأماكن التي طالما التقينا بها؟ أحقا لن تراعيني بعد اليوم كما كنت تفعل. . أحقا لن تفرح بي كلما فرحت بنفسي وكلما فرح بي أبواي؟ وحقا لن تألم كلما ألمت لنفسي أو ألم لي أبواي؟ أحقا لن نذهب بعد اليوم في كل يوم سبت إلى الندوة المعهودة؟ أحقا لن تطلب مني أن أنتظرك في المقصف الملاسق لباب اللوق. . أحقا لن أقرأ عليك هذا الكلام. . أحقا خلت كل هذه الأماكن منك؟ أو لتخل هذه الأمكنة المادية. ولتقفر المناضد التي جلسنا إليها ولينضب الورد الذي نهلت منه. ولكن مكانك في النفس لن يخلو. . سأنظر إليه كلما أقدمت على أمر. . سأظل أنظر إليه ألتمس العون وأسأل المشورة. ولن يبخل. وهل بخلت أنت يوما. . وهل بخلت أنت بشيء. . كنت الصفاء في هذه الحياة العكرة. . كنا كلما فكرنا في شخصك تمثلت لنا القمة التي ترتقي إليها الإنسانية. بل تمثلت لنا الملائكة. كنت تثبت لنا بوجودك أن هذه المعاني السامية التي قد نسمع بها ولا نراها موجودة قائمة رائعة. سامية. جليلة. كانت إياك في تسامحك حتى لتنزل عن نفسك، وكانت إباك في رقتك حتى ليخجل محادثك من ماديته. ثم أنت لا تشعره بأرتفاعك. . وكانت إباك في تواضعك وترفعك. . في بساطتك وكبريائك. . وكانت إياك في كل خلقك. . وبعد. . عساه. . ماذا أقول. . أأقول ألمنا. .؟

ص: 46

ما أهون! أأقول جزعنا. . لا يكفي. . أأقٌول فقدنا فيك إيمانا بالسمو مع التواضع والزهد مع العظمة. . أأقول فقدنا فيك إيمانا بإنسانية الإنسان. . لا. . إن شيئا من هذا لا يجرؤ أن يعبر عما فقدنا. كل ما نستطيع أن نقول إننا فقدنا جمال الدين أباظة بك. . فقدناه لراحته هو فنحن لم نفقده. . وإنما نفتقده ولا نجده. .

كنت هنا في الأرض تشيع حولك جوا ملائكيا، ساميا، طاهرا. رفيعا. وكنت تنعم بما تشيع وينعم به الجالسون إليك؛ ثم ما تلبث هذه الأرض النكدة أن تذكرك أنك ما زلت عليها ليشتبك الحديث في ماديات أنت أزهد الناس فيها. وإذا انتهت الجلسة وانصرف أصحابها واضطربوا مع الحياة أذلتهم وأذكرتهم بأنهم هنا. . هنا ما زالوا أبناءها وعبادها. وكنت وحدك تترفع عن عبادتها فلا تتجه بوجهك لغير الله. ولا تذكر في نفسك غير هذه الملائكية الرقيقة التي أنشأتها على الأرض. . أما الآن فاهدأ ولنجزع نحن. . اهدأ فقد أصبحت في المكان الذي طالما تمنيت أن تكون فيه، وها نحن أولاء ما زلنا ننظر إلى مكانك فترتفع معك بأفكارنا لنهدأ وترتاح جوانينا أن أصبحت أنت في أهنأ مقام ثم نهبط بأنفسنا إلى هنا. . إلى حيث نحن الآن، فتلتاع النفس حسرات وشوقا، ونريد أن نهرب من هذه الحياة إلى سمائك التي كنت تنشئها على الأرض فإذا هي قد ارتفعت إلى السماء التي أعد الله فيها جنات لك وللمتقين. . وهكذا نهرب من الحياة إلى الحزن عليك، ثم هي تحاول أن تلهينا ولكن عز فيك التلهي وجل فيك العزاء

وبعد فيا عماه. . ماذا أقول؟. أينتهي هكذا مجال القول فيك؟ أقسم أنه ما ضاق إلا لسعته وما عجزنا إلا لمصابنا. . فما أنت بالراحل الذي يكفي فيه البكاء؟ ولكنه من هذا المكان الذي أحببت أن تقرأ لي أحببت أنا أكتب إليك مما كنت تسمع وتقرأ. . ولكنني اليوم وا مصيبتاه. . لن أستطيع أن أسمعك. . فإذا قرأته فلن أعرف رأيك فيه. . وما أحتاج الرأي اليوم، فما هي إلا عبرات شاء بها القلم أن يجاري تلك العبرات المنهمرة من صاحبه. وكلانا العاجز الذي يعلم عجزه ولا يستطيع أن يواريه. بل هو يرى في الظهور به بعض التخفيف مما يلاقى. . وحسبنا الله ونعم الوكيل

ثروت أباظة

كيف نشأ إمام العبد؟

ص: 47

سؤال طريف وجهه إلينا الأديب الفاضل الأستاذ محمد فتحي الجعلي بعد أن قرأ مقالنا السالف عن الشاعر المسكين. وقد لاحظت أن الإجابة عن أكثره تتضح من مقالنا عنه، فقد ألمعت إلى نشأته المضطربة، وتربيته العوجاء، لأحلل الدوافع النفسية التي أضرمت في شعره جذوات الأسف والاكتئاب. ولعل الناقد الفاضل ممن لا يقنعون بالتحليل الأدبي الذي يتخذ من تاريخ الأديب دعامة يستند إليها في فهم الدوافع والأسباب، فهو يريده تاريخيا محددا باليوم والشهر والمكان قبل كل شيء

ومن الإنصاف أن نقول إن سؤال الأديب عن الحياة إمام لتعليمة، يحتاج إلى إجابة لا توجد في المقال، وقد جاء في كتاب (تاريخ أدب الشعب) للأستاذين حسين مظلوم رياض ومحمد الصباحي:(أن إماما مكث في مدرسة ابتدائية مدة قصيرة، ثم انقطع فجأة عن التعليم دون أن يتم المرحلة الأولى) ولعله فعل ذلك ليلقي دراسته الواسعة في ساحة الحياة، بين صفحات الكتب، وفي الحلقات الأدبية التي كان يعقدها المتأدبون لعهده بالأندية والمقاهي الشعبية، وفيها تخرج أكثر أدباء العهد الماضي من كتاب وشعراء

وإني لأشكر الأديب الفاضل شكرا جزيلا، راجيا أن أكون عند ظنه الكريم

(الرمل)

محمد رجب البيومي

حول كلمة (سائر)

من الاطلاع على كثير من كتابات ومقالات الكتاب الذين يوردون كلمة (سائر) في كتاباتهم، روي أنهم يضعون هذه اللفظة للدلالة على (الكل والجميع) والحقيقة أنه لا يصح معنى هذه اللفظة إلا بمعنى (البعض أو البقية) فقد جاء في (القاموس المحيط) في مادة (السؤر): وفيه سؤرة، أي بقية شباب، وسؤرة من القرآن، لغة في سورة، والسائر الباقي لا الجميع. وضاف أعرابي قوما فأمروا الجارية تطييبه، فقال بطني عطري وسائري ذرى. الخ. انتهى

وجاء أيضاً في (الشعر والشعراء) لابن قتيبة عند ذكر الشارح لبيت (الشنفرى) من قصية:

إذا حملوا رأسي وفي الرأس أكتري

وغودر عند الملتقي ثم سائري

ص: 48

سائري، أي باقي جسدي، وسائر كل شيء باقيه وليس جميعه، نبه عليه الحريري في درة الغواص

شرق الأردن

محمد سعيد الجنيدي العلوي

في كتاب (المهدي والمهدوية):

قرأت ما كتبه حضرة المفضال الدكتور أحمد أمين بك في سلسلة (اقرأ) تحت عنوان: (المهدي والمهدوية)، وهو بلا ريب في الذروة من الطرافة والفائدة، ككل ما يطلع به علينا الأستاذ من مقالات ومؤلفات في مختلف الموضوعات

وقد استوقف نظري أثناء المطالعة بيت من الشعر في أسفل الصفحة الرابعة والستين من الكتاب المذكور وهو:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن (جسمان) حللنا بدنا

وقد استعصى على ذهني معني الشطر الثاني، إذا الجسم والبدن مؤداهما واحد. والذي دعاني إلى كد الذهن في فهم هذا الشطر أنه من أقوال الصوفية، وللصوفية في تفسير الألفاظ مذاهب شتي ملتوية، وقد وقعت أخيرا على كتاب حديث يبحث في (الشعر الصوفي) للأستاذ نسيب الاختيار، فعثرت في الصفحة التاسعة والستين منه على هذه الأبيات مروية على هذا النحو:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن (روحان) حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

وهذه هي نزعة الحلاج الحولية والواحدة المطلقة التي يدين بها في حياته واضطهد من أجلها ومات في سبيلها، وهي تظهر أجلى ما يكون لفهم هذين البيتين على ضوء هذه الأبيات:

سبحان من أظهر ناسوته

سر سنا لا هوته الثقاب

ثم بدا في خلقه ظاهرا

في صورة الآكل والشارب

حتى لقد عاينه خلقه

كخطة الحاجب بالحاجب

ص: 49

وقد استعمل الأستاذ لفظه (كافة) مضافة إلى ما بعدها في الصفحة الثانية بعد المائة من هذا الكتاب وذلك:

(وأن من حق الصوفي أن يتخطى (كافة) النواميس الخلقية وأن يخرج على العرف الاجتماعي) - وإنما لفظه (كافة) كلفظه (قاطبة) تكون دائما ملازمة للنصب على الحالية لا تتغير بأي حال، وقد وردت هذه اللفظة بهذا الاستعمال في عدة مواطن من القرآن الكريم

هذا: ومن دواعي الغبطة وبواعث السرور أن يتفضل حضرة الدكتور الأستاذ الكبير أحمد أمين بك بقبول احترامي الفائق مقرونا بأطيب تحية، وإلى صاحب الرسالة اللامعة أرفع تحيتي الخالصة وتحيتي الباقية -

طرابلس المغرب

محمد مهدي أبو حامد

ص: 50

‌القَصَصٌ

سلطان مصر الشهيد

الفصل السادس

في بركة الرطلي

للأستاذ محمود رزق سليم

كانت بركة الرطلي! إحدى منازه القاهرة، وكان الخليج المصري يجري حولها. ومنذ أن جرى حولها هذا الخليج، بني الناس فيها الدور والقصور، وامتلأت بالقطان. وزرع بعض نواحيها. فأنبتت نباتا حسنا. فاكتملت مباهجها بالزرع النضير والمياه والخرير، وأخذت الزوارق تغدو من حولها وتروح، تحمل المرتاضين وطلاب السلوة وعشاق السمر. وبخاصة عندما يحل الأصيل أو يقبل الليل. وعلى حفافيها أضواء منتشرة. ومحال للهو معدة، تستقبل الوافدين إليها ببشاشة وترحاب، وتودع الراحلين عنها على أمل وإياب. .

وعاش في هذه البركة، وارتادها، كثير من شياطين العبث وأبالسة الفساد، وعشاق المنكر، فالتاثت بذلك سمعتها حينا. وأتى عليها حين من الدهر آخر، ابتني حولها كثير من العلية بيوتهم، فعجت بالرؤساء منهم والأعيان، وطلب فيها لهم اللقاء الجميل، والتأم الشمل في المجلس الحافل. وتلاقي منهم الأحباء والخلصان. ونافست البركة في كل ذلك؛ الأزبكية وبساتينها. وقبة يشبك وحدائقها

وفي بعض ليالي عام 919 هـ كنت تشهد هذه البركة، وقد تحولت إلى قطعة من نور لكثرة ما أضىء بها من قناديل. فقد نادي محتسب القاهرة (الزيني بركات بن موسى) بين سكانها بأمر من السلطان، أن يقيموا ضروب الزينة ومعالم الأفراح على جبهات دورهم وصفحات محالهم، ابتهاجا بشفاء السلطان مما ألم بعينيه، وكان السلطان قد بارتخاء في جفنه، وحار في علاجه. ثم عكف عليه أطباؤه وكحالوه - أطباء العيون - حتى من الله عليه بالشفاء، وكان الناس خلال مرضه قد أرجفوا، ودبت بينهم الإشاعات عنه دبيبها المسموم، حتى قال قائلهم: إن السلطان قد عمى، وأصبح لا يصلح للسلطنة، وصاروا ما بين متوجع له، وبرم به، ولاه عنه، وقد داخل أمراءه ومماليكه الريب فيه وحدثتهم النفس

ص: 51

بالخروج عليه والغدر به، ابتغاء سلطان جديد يسخو عليهم ويجود، بدل هذا الشحيح الضنين، وقد بلغت أبناؤهم مسامع السلطان فاضطر إلى جمعهم وتوبيخهم حتى أقسموا له يمين الولاء على المصحف العثماني. . . ومن ثم أخذ يسترضيهم بشتى ضروب الاسترضاء

فلما بريء السلطان من مرضه، أحب أن يشيع خبر برئه بين الناس حتى يعلم به القاصي والداني، ويهيئ لهم، رغم أنفسهم وقتا للهو، ويفتح بابا للتمتع والابتهاج، فرحا بشفائه. .

لي سكان القاهرة نداء محتسبها، وازدانت بركة الرطلي وبدت في أجمل حلة، وتوجهت الطيقان بقطع الأقمشة الحريرية الملونة الجميلة، وعلقت حمائل القناديل وأمشاطها، واجتمعت كل معدات الهو ودواعيه، من طعام شهي، وشراب طلى، وغناء جديد، وألعاب نارية يحرق فيها زيت النفط

ومادنا الليل حتى كان اللهو قد نادي ببوقه، واستوي على سوقه. وأخذت الزوارق تذهب وتؤوب في الخليج، مرة ينفرج عنها ظلام الليل البعيد، كأنها ابتسامات العبيد، ومرة تنساب عائدة إلى ظلالته، فيطوي عليها حفافي ملاءته. وهكذا لبثت البركة في تبرجها وزينتها ثلاثة أسابيع متوالية، وهي مراد اللاهي وروضة الحائر، ومراح المرتاض، وموعد العشاق، حتى قال فيها الشاعر:

إلي بركة الرطلي أني ميمم

لأبرئ كبري أو أزيل سقامي

ففيها لمعمود الفؤاد لبانة

يطب برياها من الأسقام

إذا ظمئت نفسي من الوجد والهوى

ذهبت إليها كي أبل أو أوامي

وأهفو كما أهوى إليها كريمة

بغير عتاب عندها وملام

بها الراح تسقي في الكؤوس وتارة

تدار بلحظ مرة وكلام

بها متع للعين والسمع والنهى

وليست لعشاق الهوى بحرام

ولم تكن البركة وحدها منفردة بهذا التبرج - حينذاك - بل كانت كذلك، القلعة والقاهرة وأسواقها، وهناك كانت مصر العتيقة، وبولاق وغيرها وتبارى الأمراء وكبار الموظفين والقضاة والأعيان والخليفة في إظهار سرورهم، وبالغوا في مشاركة سلطانهم فرحة بهذا الشفاء: فجعلوا دورهم بالأعلام والثريات والأقمشة النفسية، وكانت أنواع الموسيقا تعزف

ص: 52

في مختلف النواحي، حتى لتحسب القاهرة وضواحيها قد لبست ثياب العيد وحدها دون سائر البلاد بهرت الزينة الأنظار، وخلت الأفئدة، وجذبت إلى البركة مئات من الرواد، كان من بينهم شاعرنا (شهاب الدين) فجاس خلالها، وأشبع نفسه من مباهجها، وملأ فجاج قلبه من مرائيها، وعذى عواطفه المهتاجة بالجميل الرائع من مفاتنها

وبينما كان يلج في رياضته إذ التقى عرضا بصديقه الفقيه (ولي الدين) فحياه، وفي تحيته شيء من الإنكار والعجب. وقال له:(ويحك أيها الصديق! ألا تزال في نفسك بقية من شباب؟ ما الذي جذبك إلى بركة الرطلي؟)

ولي الدين: ما أحوج الشيب إلى متعتها! إنها لتجري ماءه، وتحي دماءه، وتطلق حياءه. . .

شهاب الدين: ألا تتركها لنا معشر الشعراء. . . يلهينا انسجامها مع عواطفنا، واتساقها مع احساساتنا عن البحث وراء حلالها وحرامها؟

ولي الدين: معاذ الله أن يغرينا دنسها أو يقربنا نجسها. والله يا بني! إن الحق أن لي ذوق المؤرخ الذي يجب أن يعرف كل شيء ويدون في صفحة فكره عن كل واقعة سطوراً، ويرسم في رقعة ذهنه لكل حادثة صوراً. لا يعنيه منها غير تسجيلها، قبل البحث في حرامها وحلالها. ثم هو بعد ذلك لا يصيبه من حلالها قلامة، ولا يصيبه من حرامها ظلامة

شهاب الدين: أما تزال تتأول أيها الشيخ كعادتك، وتهيئ لنفسك من كل حرج مخرجاً حسناً؟ أليس خيراً لك من بركة الرطلي، جزيرة بولاق حيث يقام مولد سيدي إسماعيل الأنبابي؟. . . أين صديقنا علم الدين الخياط؟

ولي الدين: هو هنا في عقر حانوت، ومعه أصدقائنا، وأنا منهم على ميعاد

(يؤمان الحانوت ويقابلان الأصدقاء، ومنهم علم الدين والتاجر والمستوفي وغيرهم. ويجلسان بين ترحيب حافل وفرح شامل ثم تدار على الجميع طاسات السكر والليمون، ثم يدبرون أكواب الأحاديث)

علم الدين الخياط يوجه الحديث إلى الشاعر شهاب الدين، قائلا - وكان لم يره منذ حين -:

حمام الأيك ما ألهاك عنى

ومنذ أبعد الأطيار مني

شهاب الدين:

ذهبت وراء آمالي أغنى

وعلمني الغنا طول التمني

ص: 53

وما أنا بالغ منها قليلا

وإن أك تحت شرفها أغني

لقد شغلتني - أيها الصديق - مباهج القاهرة ومفاتنها. وهي جديرة بأن تلهي وتشغل. وقد قيل:

سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا

جبال حنين ما سقوني لغنت

لقد اعتاد القاهريون الترف، وأخذوا بأسباب الرفاهة منذ عم بينهم الرخاء وازداد الخير، ومنذ وجدوا في سلطانهم وعاداته وتنقلاته وأوامره ما يدعو إلى اللجاج في الترف والرفاهة، فلجوا وأترفوا ولو كارهين. . . فحضت في الذي خاضوا. . . ما دمن نرى في كل آونة موكبا وحفلا، وفي كل يوم انتقالا وسفرا، وفي كل التفاتة حشدا وركبا. . .

علم الدين الخياط: هل هذا هو ما شغلك عنا؟ وما نصيبك أنت من كل هذه البلهنية والنعيم؟ إذا لم يكن إلا نصيب المتفرج بهما المشاهد لهما فحسب، لا نصيب المتمتع اللاج في غمراتهما، فنحن إذن متساوون. .!

للقصة بقية

محمود رزق سليم

ص: 54