المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 961 - بتاريخ: 03 - 12 - 1951 - مجلة الرسالة - جـ ٩٦١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 961

- بتاريخ: 03 - 12 - 1951

ص: -1

‌أمريكا التي رأيت:

في ميزان القيم الإنسانية

للأستاذ سيد قطب

- 3 -

الأمريكي بدائي في ذوقه الفني، سواء في ذلك تذوقه للفن، أو أعماله الفنية.

موسيقى (الجاز) هي موسيقاه المختارة. وهي تلك الموسيقى التي أبتدعها الزنوج لإرضاء ميولهم البدائية، ورغبتهم في الضجيج من ناحية، ولاستثارة النوازع الحيوية من ناحية أخرى. ولا تتم نشوة الأمريكي تمامها بموسيقى (الجاز) حتى يصاحبها غناء مثلها صارخ غليظ. وكلما علا ضجيج الآلات والأصوات، وطن في الآذان إلى درجة لا تطاق. . زاد هياج الجمهور، وعلت أصوات الاستحسان، وارتفعت الأكف بالتصفيق الحاد المتواصل، الذي يكاد يصم الآذان.

ولكن الجمهور الأمريكي مع هذا يقبل على الأوبرا، ويصغي إلى السيمفونيات، ويتزاحم على (البالية) ويشاهد الروايات التمثيلية (الكلاسيك) حتى لا تكاد تجد مقعداً خالياً، ويقع في بعض الأحيان ألا تجد مكاناً إذا أنت لم تحجز مقعدك قبلها بأيام، على غلاء الأسعار في هذه الحفلات.

ولقد خدعتني هذه الظاهرة في أول الأمر، بل لقد فرحت بها في داخل نفسي، فقد كنت دائم الشعور (باستخسار) هذا الشعب الذي يصنع المعجزات في عالم الصناعة والعلم والبحث، ألا يكون له رصيد من القيم الإنسانية الأخرى، وأنا شديد الإشفاق على الإنسانية أن تؤول قيادتها إلى هذا الشعب، وهو فقير من تلك القيم جميعا.

فرحت إذن حين شاهدت هذه الظاهرة، لأن الجمهور الذي يقبل على الفن الراقي غير ميئوس منه مهما تكن عيوبه، ومتى فتحت هذه النافذة في شعوره فالأمل كبير أن تطل منها أشعة أخرى كثيرة

وقد دفعني الاهتمام بهذه الظاهرة إلى أن أتقصى كل شيء عنها، في أوساط مختلفة، وفي مدن متعددة، ولكن تتبعي لسمات الوجوه، ومحادثاتي مع الكثيرين والكثيرات من رواد هذه

ص: 1

الأماكن - من أعرف ومن لا أعرف قد كشفت لي - مع الأسف - عن أن الشقة ما تزال بعيدة بين روح هذا الفن الإنساني وروح الأمريكان. إن مشاعرهم عنها محجبة إلا في النادر، وإنهم إنما ينظرون إلى المسألة من زاوية اجتماعية بحتة. فالأمريكي المثقف لابد أن يكون شهد هذه الألوان وذهب إلى تلك الأماكن، حتى إذا دار الحديث عنها في مجتمع شارك في الحديث. فالعيب الأكبر في أمريكا ألا يشارك الإنسان في الحديث، وبخاصة بالنسبة إلى الفتيات، إذ المطلوب منهن أن يجدن دائما موضوعات جديدة إلى الموضوعات الأمريكية الخالدة وهى: مسابقات الكرة. وأسماء الأفلام. والممثلين والممثلات. وحوادث الطلاق والزواج. وماركات وأسعار السيارات.

وبهذه الروح ذاتها تفد الجموع على المتاحف الفنية، عابرة عبورا خاطفا بالقاعات وبالمعروضات، بطريقة لا تدل على تذوق أو ألفة لهذه الأعمال. كما يذهبون أفرادا وجماعات لمشاهدة مناظر الطبيعة خطفا، والمرور بأقصى سرعة السيارات بالأماكن والمناظر لجمع مادة للحديث، ولتلبية الميل الأمريكي الطبيعي إلى الجمع والإحصاء.

ولقد كنت أسمع في مبدأ وجودي بأمريكا أن أحدهم زار كذا وكذا من المدن والبلاد والمناظر والمشاهد، وقطع كذا ميلا في رحلاته السياحية، وهو يعرف كذا عددا من الأصدقاء، فأعجب بهذه المقدرة على صنع هذا كله، وأود لو أستطيع منه شيئا! ثم عرفت فيما بعد كيف تتم هذه المعجزات. . . يركب أحدهم سيارته وحده أو مع أسرته أو أصحابه في رحلة، فيعدو بها عدوا على آخر سرعتها، مخترقا بها المدن والمسافات، عابرا بالمناظر والمشاهد، وهو يقيد في مذكرته الأسماء والأميال. . ثم يعود فإذا هو شهد هذا كله وأصبح له الحق في الحديث عنه! أما الأصدقاء فيكفي أن يدعي إلى حفلات التعارف، وهناك يلتقي بالوجوه أول مرة، والقائم بالدعوة يعرفه بالحاضرين واحدا واحدا وواحدة وواحدة، وهو يستكتب من شاء منهم اسمه وعنوانه وكذلك هم يفعلون معه. وعلى الزمن تتضخم مذكرته بالأسماء والعنوانات. فإذا هو صاحب أكبر رقم من الأصدقاء والصديقات. وقد يفوز في مسابقة تقام لهذا الغرض. وما أكثر وما أغرب المسابقات هناك!

وهكذا يقاس علمك وثقافتك أحيانا بقدر ما قرأت وما شهدت وما سمعت. كما تحسب ثروتك المادية بعدد ومقدار ما تملك من مال وعقار سواء بسواء!

ص: 2

وليست هذه عقلية الجماهير وحدها، ولكنها كثيرا ما تكون عقلية المفكرين والباحثين. فلقد خطر للمفكرين في أمريكا أنه لا يصح أن تكون دولتهم أغنى دول العالم، وشعبهم أكثر شعوب الأرض حضارة صناعية، وحضارة علمية، ثم لا يكون لهم من الثروة الفنية مثل ما لبعض الشعوب الفقيرة كالطليان والألمان.

ولديهم المال - والمال يصنع المعجزات - وإن هي إلا سنوات حتى كان لهم من متاحف الرسم والنحت أفخمها وأضخمها. وجمعت لها القطع الفنية من كل فج، وعمرت بالنادر والثمين من هذه القطع، التي لم يبخلوا على شرائها بالمال. وكلها قطع أجنبية إلا القليل؛ لأن القطع الأمريكية بدائية وساذجة إلى حد مضحك بجوار تلك الذخائر العالمية الرائعة.

وكذلك كان لهم من الفرق الموسيقية العازفة وفرق (الباليه) الراقصة، أكثرها مهارة وإتقانا، ومن مديري هذه الفرق أعظمهم عبقرية وإبداعا. . وكلهم من الأجانب إلا القليل.

ثم خرجت الإحصاءات الدقيقة تعلن عما تملك أمريكا من الثروات الفنية الضخمة، المشتراة بالمال، ولكن بقى أمر واحد بسيط: أن يكون للنفس الأمريكية نصيب في هذه الثروات؟ بل أن يكون لها مجرد التذوق الفني لهذا التراث الإنساني الثمين!

وخطر لي أن أمتحن هذه الأرقام في متاحف الفن، كما أمتحنها في دور الأوبرا وما إليها.

ذهبت للمرة العاشرة إلى متحف الفن في سان فرنسكو وجعلت مادة امتحاني إحدى قاعات الصور من الفن الفرنسي، ووزعت اهتمامي على ما فيها من الصور، ولكنني ركزته على صورة واحدة بارعة اسمها:(ثعلب في بيت دجاج) ولا تملك الألفاظ أن تنقل إلى القارئ روعة هذه الصورة العبقرية التي صور فيها الرسام جملة مشاعر عميقة مركبة في لوحة ليس فيها وجه إنسان يسهل على الرسام أن يصور هذه المشاعر فيه. . ثعلب في بيت الدجاج، والجو داكن خانق وقد هجم الثعلب أول ما هجم على دجاجة أم مفرخة، بدت مكروبة مجهدة، في مخالب الوحش المكشر؛ وقد فزع صغارها، وتناثر البيض الباقي تحتها؛ على حين تناثرت زميلاتها في فراغ اللوحة، ووقف الديك - رجل البيت - وقفة المغلوب على أمره، الحائر الذي لا يجد مخلصا لزوجه المكروبة وهو حاميها! أما الأخريات فواحدة جازعة مأخوذة، وأخرى قانطة مشمئزة أن يكون في الحياة كل هذه الشناعة، وثالثة حائرة متسائلة: كيف وقع هذا؟ والجو كله والألوان في اللوحة العبقرية

ص: 3

تصور ما لا تدركه الألفاظ.

واسترحت إلى مقعد من المقاعد التي جهزت بها القاعات تجهيزا جميلا بديعا، ليستريح عليها الزائرون عند التعب من المشاهدة والطواف، ورحت أستعرض الملامح والسمات، وأنصت إلى الملاحظات والتعليقات.

وانقضت على في جلستي أربع ساعات كاملة، مربى في خلالها مائة وتسعة، فرادى وأزواجا وجماعات، معظمهم من الفتيات والفتيان الذين يتواعدون على قضاء بعض الوقت في حديقة المتحف، ثم في المتحف ذاته، لأنه ينبغي للفتاة الاجتماعية أن تشارك في الحديث، وأن تجد موضوعات للحديث.

كم من هؤلاء التسعة والمائة بدا عليه أن يحس شيئاً مما يرى؟ واحد فقط تلبث أمام الصورة المنتقاة نحو دقيقتين، وتلبث في القاعة كلها نحو خمس دقائق. . ثم طار.

وكررت التجربة في قاعات المتحف الأخرى، ثم كررته في متاحف أخرى في عدة مدن، ثم انتهيت إلى أن قلة نادرة من هذه الكثرة الكثيرة التي تتضمنها إحصاءات الزائرين تدرك شيئاً من هذه الثروة الفنية الهائلة، التي جمعها الدولار من كل بقاع الأرض، وبقي أن يخلق الحاسة الفنية، التي يبدو أنها لا تستجيب لسحر الدولار!

الفن الوحيد الذي يتقنه الأمريكان - وإن يكن سواهم لا يزال يفوقهم في الناحية الفنية فيه - هو فن السينما. وهذا طبيعي ومنطقي مع تلك الظاهرة التي ينفرد بها الأمريكي: ذروة الإتقان الصناعي، وبدائية الشعور الفني. وفي السينما تبدو هذه الظاهرة واضحة إلى حد كبير.

لا يرتفع الفن السينمائي بطبيعته إلى آفاق الفنون العليا: الموسيقى والرسم والنحت والشعر، ولا إلى فن المسرح كذلك، وإن كانت إمكانيات الصناعة الفنية وإمكانيات الإخراج في السينما أوسع بكثير. وأقصى ما يصل إليه فن الإخراج في السينما من إبداع. هو أقصى ما يبلغه فن التصوير الشمسي. ثم تظل المسافة بينه وبين المسرح مثلاً، كالمسافة بين التصوير الفوتوغرافي والتصوير بالريشة. هذا تتجلى فيه عبقرية الشعور، وذلك تتجلى فيه مهارة الصناعة.

والسينما فن الجماهير الشعبي، فهو فن المهارة والإتقان والتجسيم والتقريب، وهو بطبيعة

ص: 4

اعتماده على المهارة أكثر من اعتماده على الروح الفنية. . يمكن أن تبدع فيه العبقرية الأمريكية. . ومع هذا فما يزال الفلم الإنجليزي والفرنسي والروسي والإيطالي أرقى من الفلم الأمريكي، وإن كان أقل صناعة ومهارة.

والكثرة الغالبة من الأفلام الأمريكية تتجلى فيها بدائية الموضوع، وبدائية الانفعالات، وهي في الغالب أفلام الجريمة البوليسية، وأفلام رعاة البقر. أما الأفلام العالية البارعة من أمثال:(ذهب مع الريح) و (مرتفعات وذرنج) و (ترتيل برنادوت) وما إليها فهي قليلة بالقياس إلى النتاج الأمريكي. وما يرد من الفيلم الأمريكي إلى مصر أو البلاد العربية لا يمثل هذه النسبة، لأن الكثير منه من أرقى الأفلام الأمريكية النادرة. والذين يزورون دور العرض في أمريكا هم الذين يدركون تلك النسبة الضئيلة من الأفلام القيمة.

هنالك فن آخر برع فيه الأمريكان، لأن ما فيه من المهارة في الصناعة والإنتاج، أكثر مما فيه من الفن العالي الأصيل. . ذلك هو فن تمثيل المناظر الطبيعية بالألوان، كأنها فوتوغرافية صادقة دقيقة. ويبدو هذا في متاحف الأحياء المائية والبرية، إذ تعرض هذه الأحياء أو أجسادها المحنطة في مثل مواطنها الطبيعية كأنها حقيقية، وتبرع ريشة الرسام، في تصوير هذه المواطن، مشتركة مع التصميم الفني للمنظر، وتبلغ حد الإبداع

ثم ندع تلك الآفاق العليا في الفن والشعور، لنهبط إلى ألوان الملابس وإلى مذاق الأطعمة.

إن بدائية الذوق لا تتجلى في شيء كما تتجلى في تلك الألوان الصارخة الزاهية، وفي تلك التقاسيم المبرقشة الكبيرة وبخاصة ملابس الرجال. . . ذلك السبع أو النمر الواثب على صدر الصدرية. . وذلك الفيل أو الثور الوحشي الجاثم على ظهورها. تلك الفتاة العارية الممددة على رباط العنق من أعلى إلى أسفل، أو تلك النخلة الصاعدة فيه من أسفل إلى أعلى. . .

لطالما تحدث المتحدثون عندنا عن (فستان العيد) في الريف، أو عن ثوب العروس في القرية، بألوان الزاعقة البدائية، التي لا تربط بينها رابطة، إلا أنها كلها فاقعة الألوان. . ليت هؤلاء يرون معي أقمصة الشبان في أمريكا لا ملابس الفتيات!

ولطالما تحدث المتحدثون عن (الوشم) عند الغجر، أو في أواسط أفريقية، ليتهم يرون الشبان الأمريكان وصدورهم وظهورهم، موشمة بالوشم الأخضر: ثعابين وحيات، وفتيات

ص: 5

عاريات، وأشجار وغابات! في أمريكا المتحضرة. في الدنيا الجديدة. في العالم العجيب!

أما الطعوم فشأنها هو الآخر عجيب.

إنك تلفت النظر، وتثير الدهشة، حين تطلب قطعة أخرى من السكر لكوب الشاي أو القهوة تشربه في أمريكا. ذلك أن السكر محتفظ به للمخلل (والسلاطة)! كما أن الملح يا سيدي محتفظ به للتفاح والبطيخ!

وفي صفحة طعامك تجتمع قطعة اللحم المملحة، إلى كمية من الذرة المسلوقة، وكمية من البازلاء المسكرة وبعض المربى الحلوة. . وفوق ذلك كله المؤلف أحيانا من السمن والخل والدقيق ومرقة العجل والتفاح، والملح والفلفل والسكر. . والماء!

كنا على المائدة في مطعم ملحق بالجامعة حينما رأيت بعض الأمريكان يضعون الملح على البطيخ، وكنت قد اعتدت رؤية هذه (التقاليع) واعتدت كذلك أن أتفكه عليهم في بعض الأحيان. وقلت متجاهلا: أراكم ترشون الملح على البطيخ؟ قال أحدهم: أجل! ألا تصنعون ذلك في مصر؟ قلت: كلا! إنما نحن نرش الفلفل! قالت واحدة في دهشة واستفسار: أو يكون مستساغا؟ قلت: يمكنك أن تجربي! وجربت، وذاقت. وقالت في استحسان: كم هو لذيذ! وكذلك فعل الآخرون.

وفي يوم آخر جاء فيه البطيخ، ومعظم من يأكلون على المائدة هم، قلت: وبعضنا في مصر يستخدم السكر أحيانا لا الفلفل. وبدا أحدهم ففعل وقال: كم هو لذيذ! وكذلك الآخرون!

وباختصار فكل ما يحتاج إلى قسط من الذوق فالأمريكاني ليس فيه حتى الحلاقة! وما من مرة حلقت شعري هناك إلا وعدت إلى البيت لأسوى بيدي ما شعث الحلاق، وأصلح ما أفسده بذوقه الغليظ!

إن لأمريكا دورها الرئيسي في هذا العالم، في مجال العلم التطبيقي، وفي مجال البحوث العلمية، وفي مجال التنظيم والتحسين، والإنتاج والإدارة. . كل ما يحتاج إلى روح وشعور فهنا تبدو البدائية الساذجة.

وإن البشرية لتملك أن تنتفع بالعبقرية الأمريكية في مجالها فتضيف قوة ضخمة إلى قواها. ولكن هذه البشرية تخطئ أشنع الخطأ، وتعرض رصيدها من القيم الإنسانية للضياع، إذا هي جعلت المثل الأمريكية مثلها في الشعور والسلوك. .

ص: 6

إن ذلك لا يعني أن الأمريكان شعب بلا فضائل، وإلا لما أمكنه أن يعيش، ولكنه يعني أن فضائله هي فضائل الإنتاج والنظام، لا فضائل القيادة الإنسانية والاجتماعية؛ فضائل الذهن واليد، لا فضائل الذوق والشعور.

سيد قطب

ص: 7

‌موقف الفكر العربي من الحضارة العربية

لحضرة صاحب العزة الدكتور أحمد زكي بك

الفكر العربي والديمقراطية:

(تابع)

ثم إلى الديمقراطية، تلك الصفة الثانية من صفات هذه المدنية.

ونحن نعني بالديمقراطية هنا معناها الحرفي يدل عليه لفظها، وتدل اشتقاقاته، ذلك حكم الشعب بالشعب. إنها الديمقراطية السياسية.

إن العصور الغابرة لم تعرف الديمقراطية إلا حكمة في القول عابرة، وإلا نصيحة يأخذ بها من يأخذ ويدع من يدع، وإلا حثا للحكام على الشورى لم يبلغ حد الفرض، ولم يكن له أثر يطول.

ولقد عدوا أثينية البلد الديمقراطي الأول الذي عرفه التاريخ، وكانت أثينية مع هذا مدينة من مدائن الإغريق أكثر أهلها العبيد. كانت ديمقراطيتهم ديمقراطية للقلة فيها من الأحرار. وكانت ديمقراطية محدودة مشروطة. وهي ديمقراطية ضاقت بالذي قال سقراط، بالذي صرح به من آراء، فقضت عليه بالموت. وهي الديمقراطية التي قام فيها فيلسوفها الثاني أفلاطون يقول في جمهوريته بحصر الحكم في فئة من خيار الناس، هي وحدها الصالحة، وهي وحدها المسئولة، وسائر الناس لها تبع.

وجاء من بعد الإغريق الرومان فما عرفوا الديمقراطية في الحكم. كانت الديمقراطية بينهم اسما في عهود الجمهورية، ثم زال حتى اسمها في عهود الأباطرة. ولقد جهد الرواقيون الرومان في إبراز معنى المساواة بين الناس. سنكا وأضراب لهؤلاء. ولكن لم يكن لهذه الفئة من الخطباء والكتاب من أثر في أسلوب الحكم، إنما كان أثرها في القانون من حيث تخفيفه وترقيقه لا سيما على العبيد الأرقاء.

وجاءت المسيحية فحاولت ما حاولته الأديان من قبل ومن بعد، أن تجعل الناس سواسية. وحاولت أن ترفع حظ الفقير، وأن تجعل الثراء أمانة في عنق صاحبه يرعى فيه، وبه، صوالح الناس. ولكن لم تلبث المسيحية أن صارت دين الرومان، ولم تلبث الكنيسة أن

ص: 8

صار لها وجود ذاتي، وصار لها استقلال وقوة، وصار لها ثروة، وصار حكم، وصاحب الحكم لا يزال عن حكمه طوعا ليقسمه بين الناس.

وجاء الإسلام فقال بالذي قالت به الأديان وزاد. وجعل الحكم شورى. والرق جعله كفارة لشتى الخطايا، تفريجا له وتكريها فيه. وقال سلمان منا آل البيت. وقال: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وجعل للفقير حظا في مال الغني. وفعل وفعل. . . ولكن لم يلبث الإسلام أن صار ملكا عضوضا، ولم يلبث الخلفاء أن صاروا حكاما مطلقين، يصلح منهم من يصلح، ويفسد منهم من يفسد، والناس تتلقف الخير وتتلقف الشر جزافا كما يأتي به الزمان.

وجرى الحال على هذا المثال في الأمم قرونا، لم يطمئن الناس فيها على ما في جيوبهم من مال، ولا على ما فوق أكتافهم من رؤوس حتى جاء القرن السادس عشر، وبدأت بوادر الديمقراطية بين أمم الأرض في أوربا. وبدأت بانشقاق الكنيسة على نفسها. ودافع المنشقون عن عقائدهم. والنقلة من الدفاع عن الحقوق الدينية إلى الدفاع عن الحقوق الدينية نقلة يسيرة. وجاء القرن السابع عشر فهب الإنجليز يوطدون دعائم السلطة في الشعب بالدفاع عن برلمانهم. فكانت الثورة. وكان أن طاحت الرأس الذي دار به خمر السلطان المطلق فأساءت حكما.

وجاء القرن الثامن عشر فقامت الثورة الفرنسية، مهد لها الكتاب الذين أسموهم بالفلاسفة، روسو.

وقبل الثورة الفرنسية بأعوام وقعت حرب استقلال أمريكا، وباستقلالها توطد الحكم الديمقراطي فيها.

وأنفسح المجال أمام الشعوب بعد ذلك لأن يتخذوا الديمقراطية عقيدة، وأن يتخذوها أسلوب حكم. وتعددت الأساليب إلى يومنا هذا، والغاية واحدة.

والفكر العربي يقف من الديمقراطية، من حكم الشعب بالشعب، موقف المناصر الشديد المناصرة. وهو يشتد في مناصرته لها بمقدار ما أعوزه منها وهو يناصرها ويعلم أنها لم تبلغ الغاية مما آمل الناس منها، ولكنه يناصر لأنها إلى اليوم خير ما ابتدع الإنسان من أسلوب. والفكر العربي يناصرها وهو يعلم أن حكم الشعب يقابله حكم الشعب بالشعب وهو جاهل، وخيم العواقب؛ ولكنه يناصر لأن حكم الطغاة، وهو أوخم عاقبة، وهو أعون على

ص: 9

دوام الجهل ودوام العجز، ودوام الفقر ودوام الذل والمسكنة، وكثيرا ما يسول لي الشيطان أن أرى أن الطغاة يأتي منا وإلينا؛ أرحم منه الطغيان الذي يأتي من الأعاجم، لأنه مع طغيان الأعجمي في هذا العصر الذي قد يأتي العلم، وقد تأتي الحضارة، وقد تأتي نسائم للحرية لا تهب والأبواب مغلقة: والأجنبي الطاغية قد يكون أسهل إقالة، وأنت أجدر معه، إن قلت لهم، أن تستجيب لك القلوب، أو تستجيب الحناجر، وإن كنت حسن الظن فقد تستجيب السواعد.

العلم والديمقراطية:

فهذا هو العلم وهذه هي الديمقراطية، أظهر صفات هذه المدنية الحاضرة، وأضخم صفاتها. وقد جاءا الإنسانية معا. متواقتين كأنما كانا على ميعاد.

وإلى جانب هاتين الصفتين صفات أخرى، اتصفت بها المدنية الغربية، بعضها تقدم العلم في الزمن، وتقدم الديمقراطية، فكان من خوالقها. وبعضها تأخر في الزمن عن العلم وعن الديمقراطية، فكان من مخلوقاتها. وبعضها امتزج بها فلا تدري أهو خالق أم مخلوق وسأصيب من ذلك طرفا.

المدنية وحرية الفكر:

وأول هذه حرية الفكر، وهي صفة من صفات المدنية الحاضرة أصيلة. بدونها لا يكون علم ممكنا، وبدونها لا يكون حكم الشعب بالشعب ممكنا، وعلى بداهة هذا فقد ضاق بالحرية صدر الزمان. والعرب يستطيعون أن يفخروا بأنه جاءت عليهم حقبة من الدهر كانوا فيها من أكثر أهل الأرض رحابة صدر.

لقد كان من أسبق صنوف الحجر على حرية الرأي في الذي نعرف من التاريخ، الجحر على الرأي الديني المخالف أن يشيع. والعرب اختلف في أحكام دينها الغالب، وجعلته مذاهب استقرت على أربعة، يستحكم بينها الخلاف أحيانا إلى حد التناقض، ومع هذا تجمع بين أهل هذه المذاهب الصلاة وتجمعهم سائر الشعائر، ولا يخطر على بال أحد أنه ومن على يساره أو على يمينه مختلفان. واتسعت صدور الشرق لمثل هذا القرون التي ضاقت فيها صدور الغرب، فكان الاضطهاد من أجل الرأي في الدين، وكان الطرد من الكنيسة،

ص: 10

وكانت محاكم التفتيش، وذلك في دين عيسى الذي إن أخذ عليه شيء في هذا الصدد فهو الزيادة في الرحابة، ومقابلة العداوة بالصداقة، والكراهية بالحب، والإساءة الزائدة بالإحسان الزائد.

ومع هذا فقد أساء العرب إلى حرية الفكر إساءة لا تغتفر أبدا، ذلك أنهم أغلقوا باب الاجتهاد في الدين، ليفرضوا رأى قرن على سائر القرون. فحجروا بذلك على العقول، وحجروا عليها لما كسبت على الزمان الرجحان، واتسع أفقها بالعلم، واجتمع عندها الكثير من الخبرة ومحاصيل الأجيال.

على أن الحرية الدينية أصبحت في أغلب أمم الأرض اليوم عادة تكاد أن تكون شائعة. وما كان ذلك عن رحابة، ولكن عن قلة خطر الأديان عند من بيدهم سلطان الحظر والإباحة. وقام مقام الحجر على الحرية الدينية الحجر على الحرية السياسية. وأخيرا جاء الحجر على الحرية الاقتصادية، فهي اليوم أشد أنواع الحريات كراهة إلى ذوى الحكومة والسلطان. ولقد تميز العصر الحديث بقيام دكتاتوريات من صنوف وأنواع، كان أول شيء خشيته فأهدرته، حرية الرأى، يجهر بها الفرد أو تجهر بها الصحافة، وهي اللسان الذي إذا استمعت له ألوف الألوف من الآذان.

والرأي العربي يقف من حرية الرأي موقف المظلوم الذي كلما قيل له الخير في السكوت. ومن أمم العرب اليوم، أمم لا يستطيع بها الرجل المواطن أن يقول إلا همسا. ومنها أمم أكثر مجالا في القول، ولكن بها السياسة احرص ما يكونون على حرية القول وهم في معارضة، فإذا ولوا الحكم فتلوا الحبل الذي يلتف على أعناقهم عندما يعودون فيعارضون.

إن حرية الرأي والجهر به، كسائر الحريات، لابد لها من تحديد وتنظيم، وإلا كان منها الجور من الفرد على الفرد. ولكن الجهر بالرأي فيما يمس حقوق الناس حق من حقوق الشعب لا مماراة فيه ولا مهادنة. وبهذا يأخذ الفكر العربي، فيعطى أكبر مجال، ولا يقف بها إلا حيث يختل الأمن وتهدر الأرواح.

المدنية والمساواة.

إن المعاني الإنسانية، مثل الناس، بينها أواصر وأرحام، والمعاني التي تتصل بالتحرير يولد بعضها بعضا، ويأخذ بعضها عند الذكر برقاب بعض. وكذلك المعاني التي تتصل

ص: 11

بتقييد الحرية ونفي الإرادات الإنسانية، يولد بعضها بعضا، ويأخذ بعضها برقاب بعض.

والمساواة معنى نشأ مع الزمرة الصالحة من المعاني. فنشأ مع الديمقراطية، ونشأ مع الحرية الفكرية، إذا ما كان يعقل أن يكون حكم الشعب بالشعب ممكنا إلا أن تكون مساواة في الحقوق السياسية. وما كانت حرية الفكر ممكنة إلا أن تكون مساواة في الحرية الفكرية، ومن هذين هدفت فكرة المساواة بين الناس إلى كل شيء من شؤون الحياة.

وإذا نحن نظرنا إلى الوراء البعيد والوراء القريب، وجدنا أمما قام مجتمعها على الطبقات، أعاليها الأشراف، وأسا فلها الأنجاس أو أشباه الأنجاس، وأمما أخرى كانت المساواة فيها مساواة عند الله لا عند الناس، وأمما أخرى كانت المساواة فيها أملا تحقق أقله وأهدر أكثره، ثم ذهبت الأيام بالبقية الباقية منه. والمدنية الحاضرة لها معان في المساواة جميلة؛ إلا أنها لا تزيد جمالا على معاني القدماء، ولا عن معاني جليلة جاءت بها الأديان. ولكن الفرق واسع بين المعنى الجميل يسكن صدرك، والمعنى الجميل تجعل منه أسلوبا قائما من أساليب العيش.

وفضل المدنية الحاضرة على أكثر المدنيات الغابرة أنها فصلت ما كان قد أجمل، وأنها خلقت وابتكرت لتنفيذ معنى المساواة أساليب. وسأفصل بإيجاز هذا. ولكن لا ضرر من أن أسبق فأقول، إن المدنية الحاضرة لم تبلغ في المساواة بين الناس الغاية، ولا اقتربت منها، ولكن خطت إليها الكثير الواسع من الخطوات ،

المساواة أمام القانون.

وأول المساواة المساواة أمام القانون. وهي لا يمكن أن تكون في أمة والحكم فيها مطلق. ذلك أن الحكم المطلق يقوم به رجل له بطانة تسنده. والبطانة لها ثمن، والسند له ثمن. وهي بطانة وهو سند أكثر ما يكون للشيطان، فهو أفدح ثمنا. والقانون الذي يثغر مرة بثغر مرارا، ثم يكون كالثوب الذي تهلهل حتى ما تنفع فيه الرقع. والشعوب عانت في دفاعها عن القانون من نفوذ ذوي الإمرة وذوي المال عناءً كبيراً. وقد قضت المدنية، حيث توجد مزدهرة، على نفوذ ذوي الإمرة يقف رجل البوليس السيارة في الطريق وقد اندفعت بما لا يريد لها القانون من سرعة فيقضي، بغرامة صاحبها. فيحتج هذا بمكانة له أو جاه، فيبستم البوليس الصغير الفقير، وترتفع الغرامة ضعفاً أو أضعافاً. ولم يستطيع القانون بعد أن

ص: 12

يقضي على نفوذ المال. ومن بعض أسباب ذلك إن استصراخ القانون نفسه يحتاج إلى المال.

والمساواة في العدالة تحتاج مع القانون إلى رجال ينفذونه وينقذونه. وهؤلاء أعز مطلباً. من أجل هذا كان الدفاع عن استقلال القضاة بضروب الحمايات، وكان الحق في رد القاضي إذا اتصلت به ريبة، وكان نظام المحلين زعما بأن الكثرة أعسر أن يتطرق إليها الفساد.

وما أحوج أمم الشرق إلى بعض ما وصلت إليه أمم الغرب من مساواة أمام القانون!

البقية في العدد القادم

أحمد زكي

ص: 13

‌6 - الثورة المصرية 1919

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

من 9 - 15 نوفمبر 1951:

مسجد وكنيسة:

فقد البريطانيون صوابهم وطاشت عقولهم، فأمعنوا في الإثم والعدوان. لم يكفهم قتل العزل الأبرياء من الرجال والأطفال والنساء؛ ولم يكفهم الاعتداء على المنازل والحرمات ومصادرة الأملاك والاستيلاء على أقوات الشعب. لم يكفهم هذا كله فضاقوا إثما ليس هناك أفضع منه، وجريمة ليس بعدها إجرام إذ اعتدوا على بيوت الله:

ففي 8 نوفمبر اقتحمت قوة مسلحة بريطانية مسجد نفيشة وجعلوا يطئون بنعالهم فرشة الطاهر المعد للصلاة ثم جمعوه وحملوه إلى قطارهم الحربي بعد ما ارتكبوا من الأعمال المنكرة ما تستنكروه أفحش النفوس إفحاشا في الإجرام والوحشية

وفي يوم الأحد 11 نوفمبر قامت قوة بريطانية مسلحة بمهاجمة الكنيسة المسيحية بشارع الإسكندرية أثناء الصلاة واعتدوا على من فيها، ولم يكتفوا بذلك بل تربصوا بالمصلين فلما خرجوا بعد صلاتهم انهالوا عليهم بالضرب وراحوا يطاردونهم في الشوارع.

وهكذا لم تبق هناك جريمة إلا ارتكبها الإنجليز في منطقة القنال.

عزبة فاروق وفايد:

وعزبة فاروق هذه منطقة من مدينة الإسماعيلية وقد طلب الإنجليز إخلاءها من سكانها لأنها مثار قلق نظرا إلى موقعها المواجه للمعسكرات البريطانية والخوف من أن تتخذها كتائب التحرير وكرا تثب على القوات البرطانية، ولكن السلطات المصرية رفضت إرغام الأهالي على إخلاء العزبة فقامت قوة بريطانية في 12 نوفمبر بمحاصرة العزبة وطرد سكانها منها. وهكذا يكون احترام البريطانيين للحريات وللملكيات.

وفي فايد قام الإنجليز بهدم أربعة آلاف منزل من منازل العمال المصريين. ولعلهم يحسبون أنهم بقيامهم بهذه الأعمال الإجرامية يطيلون بقاءهم بمصر. ألا فليعلموا أن كل جريمة يرتكبونها إنما هي مسمار في نعش الاحتلال.

ص: 14

كتائب التحرير:

قوات قليلة العدد والعدد، ليست مزودة بالأسلحة، ولكنها مع هذا تقلق بال الإنجليز وتشغل أذهانهم. يرهبونها إذا أقبل الليل لأنهم إذا ناموا فإن (شياطين الليل) و (الفرق الخفيفة) لا تنام، وإذا أقبل النهار لم يستطع الاطمئنان أن يصل إلى قلوب الإنجليز المسلحين فإن رجال الكتائب لا يغفلون. إن كتائب التحرير مزودة بسلاح أقوى من جميع الأسلحة. أنه سلاح الإيمان!

وفي ليلة 13 نوفمبر هاجم ثلاثة من الفدائيين بعض المعسكرات المجاورة للسويس ونسفوا وابوراً للمياه فأطلق عليهم الإنجليز نيرانهم وسقط أحدهم شهيدا هو محمد إبراهيم جعفر، فإلى جنة الخلد:

لبيك يا مصر:

العرب أمة واحدة وجسم واحد، وإذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، ومصر قلب العروبة النابض تناضل الممثل الأجنبي، والغاصب البريطاني، ويلقى أبناؤها من مسلمين ومسيحيين أذى وتعذيبا. وهم في كفاحهم صابرون، ولما يلقون من عنت مستعذبون، وقد وقف العرب جميعا بجانب مصر في محنتها:

ففي سوريا سقطت وزارة حسن الحكيم، أسقطها الشعب لأن رئيسها كان يريد أن يقبل مشروع الدفاع الذي عرضته عليه إنجلترا وأمريكا وفرنسا وتركيا، وقد بلغ من غضب الشعب السوري أن حسن الحكيم اضطر إلى حبس نفسه في داخل منزله خوفا على حياته.

وأما المملكة العربية السعودية فقد أعلنت أنها لا تستطيع دراسة أي مقترحات للدفاع عن الشرق الأوسط قبل أن تجاب مصر إلى مطالبها كاملة.

وأما لبنان فقد أرسلت حكومتها إلى مصر مذكرة تؤيد فيها موقف مصر إزاء بريطانيا، وقد اتخذ البرلمان اللبناني كذلك قرارا بتأييد مصر.

واليمن أرسلت مذكرات ثلاث إلى القاهرة تؤيد مصر تأييدا مطلقا.

وأما العراق فقد أرسل رئيس وزرائها إلى ممثلي حكومات إنجلترا وأمريكا وفرنسا وتركيا مذكرة هذا نصها:

ص: 15

(إن الحالة الراهنة في مصر والقلق الذي يسود المصريين وارتقاب العرب في أقطارهم ما يجري في البلد الشقيق ومشاركتهم شعور إخوانهم سيؤدي إلى مشاكل في الشرق الأوسط ليست في مصلحة شعوبه ولا تحفظ الأمن والسلام الدولي في هذا الركن من العالم؛ فلابد من النظر في المطالب المصرية وحسم قضيتها بما يضمن حقوق مصر وسيادتها الكاملة، إذ سيتعذر في الجو الذي يسود البلاد العربية الآن البحث في المقترحات الخاصة بميثاق الدفاع عن الشرق الأوسط؛ فلابد من حل الأزمة المصرية البريطانية قبل ذلك. على أن البت في المقترحات يحتم التشاور مع البلاد العربية!!

وكذلك وقفت الهند والباكستان تؤيدان مصر فأعلنتا بلسان صحافتهما (أن استمرار وجود البريطانيين في منطقة قناة السويس وفي السودان هو في نظر المصريين اعتداء وأي اعتداء) وأن (بريطانيا باستخدامها قواها المسلحة قد ارتكبت خطأ فاحشاً قد يكلفها فقدان البقية الباقية من نفوذها المضعضع في الشرق)

13 نوفمبر 1951:

احتفلت مصر بعيد الجهاد الوطني من أقصاها إلى أقصاها: ففي الإسكندرية قامت مظاهرة صامتة اشتركت فيها جميع الهيئات والطبقات، وكان عدد المشتركين يزيدون عن ربع مليون نسمة من رجال وسيدات، وكان المتظاهرون يحملون لافتات تعبر عن مشاعرهم الوطنية وعزمهم الوطيد على الجهاد والتضحية في سبيل إخراج المحتلين الغاصبين من أرض وادي النيل.

وفي القاهرة احتفلت الأحزاب جميعا بعيد الجهاد: فأعلن الوفد المصري بلسان زعيمه مصطفى النحاس باشا استمساكه باستقلال وادي النيل وحريته وجلاء الغاصب عن أرض الوطن بجيشه المحتل، ووحدة الوادي تحت تاج الفاروق المفدى، وأن مصر قد أقدمت على إلغاء معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 وهي تعلم أن في وسع الإنجليز أن يعتدوا وأن يرتكبوا ما ارتكبوه من إثم ومناكر، ولكنا مؤمنون مع هذا بأن للحرية ثمنا يجب أن تدفعه وفدية لابد من تقديمها (ودعا الشعب إلى الكفاح) فالكفاح الكفاح، والجلاء الجلاء، والصبر الصبر، والمقاومة المقاومة، فلا تردد بعد اليوم ولا مسالمة، ولكن إقدام دون إحجام، إلى الأمام إلى الأمام)

ص: 16

واحتفل مكرم عبيد باشا بعيد الثورة فألقى خطابا رائعا اختتمها بقوله (نحن إخوان بلادا، ولكن الأخوة الحقة هي التي تجمعنا اليوم جهادا، وقد تجمعنا غدا استشهادا، وإذا ذكرتم فاذكروا على الدوام الدرس الذي علمتنا إياه الثورة، وهو أن النار التي تحرق، هي النور الذي يشرق، فليزدهم الشيطان نارا وفجورا، ليزيدنا الله فوق نورنا نورا).

واحتفل الأحرار الدستوريون بعيد الجهاد، وأعلن رئيسهم الدكتور محمد حسين هيكل باشا تأييد للحكومة في موقفها قائلا:(فلنعاهد الله والوطن على الاستعانة بكل تضحية. . وأن الوزارة هي المسئولة فيجب أن ننفذ أوامرها جميعا لمصلحة البلاد)

وهكذا تجلت وحدة الشعب المصري في وقوفه أمام الغاصب الأجنبي، وأن الوحدة الرائعة ستكون العامل الأكبر في انتهاء الاحتلال وتحقيق وحدة وادي النيل إن شاء الله.

14 نوفمبر 1951:

إذا كان يوم نوفمبر هو عيد الجهاد فإن يوم14 نوفمبر هو عيد الشهداء، وقد احتفلت به مصر في هذا العام فكان احتفالها به أروع احتفال. لقد سجل التاريخ هذا اليوم من أيام مصر في أبرز صفحاته.

أرادت مصر أن تحيى ذكرى شهدائها الأبرار فقررت القيام بمظاهرة صامتة يشترك فيها المواطنون على اختلاف طبقاتهم وهيئاتهم وأحزابهم. ومنذ الصباح الباكر أخذ طوفان من البشر يتجمع في ميدان الإسماعيلية ليشترك في هذه المظاهرة، وقد بلغ عدد من سار في المظاهرة نحو مليون نسمة، ومن شهدها نحو مليون آخر، فكانت أكبر مظاهرة شهدتها مصر.

وقد كانت هذه المظاهرة استفتاء صادقا لشعب مصر؛ وواقعا ملموسا تراه العيون وتبصره وتلمسه وتحسه. وزاد في روعة المظاهرة اشتراك المصريين جميعا فيها، إن لم يكن بأجسامهم فبأرواحهم وقلوبهم، وكذلك اشتراك الزعماء ووقوفهم صفا واحدا: مصطفى النحاس. مكرم عبيد. محمد حسين هيكل، وغيرهم.

وكذلك كان سير شيخ الجامع الأزهر بجوار غبطة البطريرك والعلماء ورجال الدين المسلمين والمسيحيين، دليلا ماديا على وحدة شعب وادي النيل.

وقد كانت المظاهرة صامتة ومع هذا فقد كان صمتها أقوى من قصف المدافع، وكانت

ص: 17

اللافتات التي يحملها المتظاهرون تعبر في صدق عما تجيش به صدور شعب من معان وأماني، كان من بين هذه اللافتات ما يقول:

إرادة الشعب تسحق الاستعمار - ماء النيل حرام على الإنجليز - العرب أمة واحدة - الوادي صف واحد ضد الغاصب - النيل على رقاب الإنجليز، هذا في مصر؛ ولكني أحب أن أثبت أيضاً أن الأقطار الشقيقة قد احتفلت بيوم الشهداء احتفالا رائعا أيضا؛ فعطلت المتاجر وقامت المظاهرات في دمشق وفي بغداد وفي بيروت وفي سائر البلاد العربية، وكلها تعلن تأييدها لمصر. إن هذا اليوم لم يكن يوم مصر فقط؛ ولكنه كان يوم العروبة الصادقة.

حيا الله العرب!

9 مارس 1919:

اعتقل سعد وأصحابه في 8 مارس فسرى نبأ اعتقالهم في البلاد سريان البرق فشبت نيران الثورة المصرية 1919

بدأت الثورة بمظاهرات سلمية قامت في القاهرة نظمها بعض طلبة المدارس والأزهر الشريف، فأخذ يطوفون الأحياء وكانوا يسيرون بكل نظام تتقدمهم الأعلام المصرية منادين بحياة مصر والحرية، وبسقوط الحماية وطلب إعادة المنفيين.

وقد تصدى رجال البوليس للمظاهرة وفرقوا شملها وقبضوا على 300 طالب وحبسوهم بالمحافظة، ونقلوهم ليلا إلى القلعة.

كان يوم 9 مارس إذن بدء الثورة.

وفي 10 مارس أضرب جميع طلبة المدارس الثانوية والعالية وطلبة الأزهر عن تلقي دروسهم وأعلنوا الإضراب العام وألفوا مظاهرة كبرى وشاركهم فيها أفراد الشعب، وقد سار الجميع في روعة ومهابة ينتقلون من شارع إلى شارع، مارين بدور المعتمدين السياسيين، هاتفين بحياة مصر وحريتها واستقلالها ومنادين بسقوط الحماية.

وقد حدث من بعض المتظاهرين اعتداء على قطار الترام وعلى بعض المحلات المملوكة للأجانب وحطموا بعض مصابيح الشوارع. وقد أدى هذا إلى استياء الطلبة فأذاعوا على مواطنيهم نداء طلبوا منهم فيه الإقلاع عن هذا العدوان؛ وأبدوا أسفهم لما حدث.

ص: 18

وقد سقط في هذا اليوم أول شهيد في الثورة. . سقط نتيجة لطلقات نارية أطلقها الجند الإنجليز على المتظاهرين.

وفي 11 مارس استمر إضراب الطلبة وأضرب عمال الترام وسائقو السيارات بل والحوذية، فتطلعت المواصلات في سائر أنحاء القاهرة، وأغلق التجار متاجرهم وتجددت المظاهرات وكثرت في جميع أنحاء المدينة.

وأصدر القائد العام للقوات البريطانية قرارا بمنع المظاهرات (وكل شخص يخالف هذا الأمر يحاكم بصفة مستعجلة.)

وتعقب الجند الإنجليز المتظاهرين وأطلقوا عليهم النار، وكان أول اصطدام بين الفريقين فوق جسر شبرا وفي شارع عماد الدين.

على أن هذا العدوان لم يزد المتظاهرين إلا ثباتا وحماسا، وكان أروع ما شوهد في هذه المصادمات أنه إذا سقط حامل العلم في مقدمة الموكب مضرجا بدمائه برصاص الإنجليز تقدم من خلفه طالب وتسلم العلم من يد القتيل مناديا بأعلى صوته:(ليحيى الوطن! لتحيى مصر! نموت وتحيا مصر!) فيردد إخوانه هذا النداء؛ وكان هتافهم يدوي في عنان السماء فتخر له القلوب سجدا وينهمر الدمع تأثرا.

وكان ثبات الطلبة وتضحياتهم في سبيل الوطن مثلا من أروع الأمثلة ودليلا من أقوى الأدلة على حب المصري لوطنه واستعذابه للتضحية في سبيله. كان آخر هتاف للشهداء (نموت وتحيا مصر.) كان الضحايا يسقطون ولكن المظاهرة تستمر في سيرها ولا تلقى بالاً إلى العدو ولا تهتم برصاصه، وهكذا يكون الثبات وتكون التضحية. وقد سقط في هذا اليوم ستة من الشهداء حسب بلاغ السلطة، وكان عدد المصابين واحدا وثلاثين منهم 22 إصابة بنيران البنادق.

وفي هذا اليوم 11 مارس أضرب المحامون عن مزاولة أعمالهم بناء على قرار أصدره مجلس نقابتهم.

ورغم إنذار السلطة ورغم استخدام القوة الغاشمة ضد المتظاهرين ظلت المظاهرات قائمة: فقامت مظاهرات في يومي 14 ، 13 مارس في أنحاء القاهرة المختلفة: في الحلمية والغورية.

ص: 19

وفي يوم الجمعة 14 مارس تجددت المظاهرات وتجدد اعتداء والظاهر وشبرا والأزهر.

الجنود الإنجليز على المتظاهرين، وكان أكبر العدوان فظاعة ما وقع في حي الحسين، فبينما كان المصلون خارجين من مسجد الحسين جاءت سيارتان مدرعتان وأطلقا النيران على المصلين من غير تحقيق أو إنذار، وبلغ عدد القتلى أثنى عشر قتيلا، وأما الجرحى فبلغ عددهم أربعا وعشرين.

ووقعت مظاهرتان أخريان في شارع الملكة وفي حي السيدة زينب، وقتل فيهما ثلاثة عشر قتيلا وجرح سبعة وعشرون وهكذا نجد قصة الاحتلال في مصر. عدوان في عدوان، وإثم في إثم، ودماء تسفك دون ذنب.

أبو الفتوح عطيفة

ص: 20

‌المجد العلمي

كلمة حضرة صاحب المعالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف في الاحتفال الذي أقيم يوم الخميس 22 نوفمبر سنة 1951 بوزارة المعارف، لمنح الدكتوراه الفخرية في القانون لزعيم إيران الدكتور محمد مصدق من جامعة فؤاد الأول.

سيدي صاحب الدولة الرئيس

يسعدني أن أستقبلك في هذا المكان باسم جامعة فؤاد الأول ويسعدني أن أستقبلك عضوا في جامعتنا، فقد شرفت جامعتنا بانضمامك إليها. لأنك خليق أن تشرف كل هيئة تنضم إليها لأشياء كثيرة.

أولها أنك تمثل الشعب الإيراني العظيم، وللشعب الإيراني العظيم مكانته الممتازة بين الشعوب، فهو من هذه الشعوب القليلة جدا التي استطاعت أن تقهر الزمان وأن تقهر التاريخ. كان لها حظها من تشييد الحضارة حتى بلغت من ذلك أرفع درجات المجد. ثم كان لها حظها من مقاومة الخطوب حتى أصبحت مثلا يضرب للشعوب الحديثة. اختلفت عليها الخطوب الخطيرة الشديدة، وتعاقبت عليها المحن المهلكة المضنية، ولكنها صبرت وصابرت، وثبتت وقاومت وانتصرت آخر الأمر على كل خطب، وتغلبت آخر الأمر على كل صعوبة. وذلك آخر الأمر كل عقبة، واستردت سيادتها في قوة وعظمة ومجد خليقة بالفخر والإكبار.

هذه الشعوب التي قاومت وانتصرت وقهرت التاريخ قليلة؛ أذكر منها شعبك العظيم، وأذكر منها شعبنا هذا المصري الذي تشرفه بزيارتك في وقت من أشد أوقاته خطورة وصعوبة. فلو لم يكن بين شعبك وشعبنا إلا هذه الخصلة خصلة الصبر والاحتمال والمقاومة والظفر والانتصار آخر الأمر، لكنت خليقا أن تشرفنا بانضمامك إلى أسرتنا. ثم إنك تمثل هذا الشعب الإيراني العظيم الذي شارك بأعظم قسط ممكن في تشييد الحضارة حتى حار المؤرخون أي الشعبيين أعظم خطرا في تكوين هذه الحضارة. . أهو الشعب العربي الذي أهدي إلى العالم لغته العربية، وبشر العالم بالدين الإسلامي الحنيف؟ أم هو الشعب الإيراني الذي تلقى هذه الهدية فتقبلها راضيا مسرورا، ونماها مجاهدا في سبيل تنميتها والدفاع عنها، حتى كان هذان الشعبان العظيمان صاحبي الفضل الأول في تأسيس هذه الحضارة

ص: 21

وبناء مجدها. فلو لم يكن لشعبك إلا هذا الفضل؛ فضل المشاركة الخطيرة في تشييد الحضارة الإسلامية وخدمة اللغة العربية ونشر هذه الحضارة والغة، لكان ممثله خليقا أن ينضم إلينا في أسرتنا الجامعية فيضيف إلينا شرفا ومجدا. ثم إن انضمامك إلينا يشرفنا لأن شخصك خليق أن يشرف كل من ينضم إليه، يمثل الجهاد في أروع صوره وأقوى مظاهره، يمثل الجهاد في سبيل مجد الوطن، وفي سبيل حريته واستكمال سيادته، ويمثل جهاد النفس في سبيل التغلب على المصاعب، وقهر المشقات، وتذليل العقبات، وتيسير ما لم يكن سبيل إلى تيسيره لولا هذه الإرادة القوية التي تستمد من إرادة الشعب الإيراني، والتي لا تعرف قهرا ولا خضوعا للخطوب. إنك يا سيدي الرئيس قد تعلمت في إيران ثم سافرت إلى أوربا فدرست في فرنسا، ثم عدت إلى إيران، ثم سافرت إلى أوروبا فتخرجت في سويسرا، ثم عدت إلى إيران، وفي كل هذه الرحلات كنت تقاوم الأعباء والجهد، وكنت تقاوم مصاعب الحياة. ثم إنك لم تطمئن إلى ما حصلت من علم، ولم تقنع بما أدركت من مجد، ولكنك تركت العمل الرسمي لاستئناف الدرس في بعض أوقات الشباب. ثم لم يكفك هذا كله ولكنك أبيت إلا أن تكون صورة ناطقة لشعب حر، فقاومت البغي والطغيان، وأبيت أن تذعن للاستبداد مهما يكن مظهره ومهما تكن صورته. واحتملت في ذلك آلام النفي كما احتملت في ذلك آلام السجن كما احتملت في ذلك العزلة القاسية المضنية. والشعب في أثناء ذلك ينظر إليك، محبا لك عطوفا عليك، مكبرا لجهادك ومقاومتك. وها أنت هذا الآن وقد ارتقيت إلى أرفع منصب من مناصب وطنك، وها أنت هذا الآن وقد ارتقيت إلى أرفع منصب من مناصب وطنك، تنطق باسم الوطن وترفع صوته عاليا يملأ الدنيا بكلمة واحدة هي التي تشرف بها الشعوب الحرة الأبية، وهي التي تفرض على الدنيا احترام هذه الشعوب الحرة الأبية، وهذه الكلمة هي كلمة (لا). قلتها للقوة الضخمة التي لم تتعود أن نسمع هذه الكلمة. . قلتها وأصررت عليها واضطرت القوة الضخمة لأن تسمع لها إذعانا. فنصرت شعبك الذي تعود النصر وأضفت إلى صفحاته الخالدة صفحة جديدة. فمن الحق أن نشرف بان نضمك إلى أسرتنا الجامعية من اجل هذا كله.

ولكننا قوم لا نتأثر بالمجد السياسي وحده، نحبه ونكبره ولكنا نحب قبل كل شيء شيئاً آخر هو هذا المجد العلمي. وأنت يا سيدي الرئيس عالم قبل أن تكون سياسياً. درست السياسة

ص: 22

والفقه والحديث في أوربا، ودرست العلوم الحديثة المختلفة في وطنك، ولم تضع عزلتك ولا عملك في السياسة وحدها؛ ولكنك شاركت في العلم على اختلافه. . شاركت في العلم القديم وشاركت في العلم الحديث. الست قد الفت في اللغة الفرنسية كتابا عن الوصية على مذهب الشيعة؟ فقد الفت أذن كتابا في الفقه الإسلامي القديم. ثم انك قد الفت في الفقه الدستوري المقارن؛ قارنت بين الفقه الدستوري العربي في أوربا وبين الفقه الدستوري الحديث في إيران. ثم الفت في الفقه العالي فقارنت بين التشريع العالي الحديث في أوربا وبين التشريع العالي في إيران، ثم شاركت في الفقه القانوني عامة فالفت في تبعات الموظفين أثناء تأدية وظائفهم، والفت في الشركات المساهمة، والفت في مبدأ تسليم المجرمين السياسيين فأنت فقيه قديم، وأنت فقيه مدني، وأنت فقيه سياسي أداري. فإذا جمع شخص من الأشخاص علم الفقه على اختلاف عصوره ومعانيه ومذاهبه وأنواعه إلى هذا الجهد السياسي الضخم والى هذه المقاومة السياسية الهائلة. . . كانت جامعة فؤاد الأول التي أنشأها فؤاد العظيم لتضرب ارفع المثل لأبناء مصر فيما يرفع الحضارة ويعلي شأنها، وينشر الأخلاق ويحبها إلى الشعوب، ويجيب إلى الشباب البحث العلمي، كانت هذه الجامعة خليقة أن تشرف بضمك إليها. . . سعيدة بان تعدك اليوم أحد أعضاء أسرتها.

طه حسين

ص: 23

‌الأدب وطلقات المدافع!

(إلى صديقنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن)

للأستاذ علي متولي صلاح

من أبعد الأشياء عن الصواب أن نفهم الأدب على أنه كلام! وان نفهمه على أنه مواكب ألفاظ رنانة جميلة، ومعارض بلاغة تأخذ بالسمع وتخلب اللب، ويرقص لها الإنسان كما يرقص الزنوج - مثلا - على دقات الطبول!

ذلك فهم للأدب بعيد عن الصواب! كثر من البعد الذي بين المشرقين! وقد نسمعه من بعض الجاهلين فلا نلتفت إليه، أو نسمعه من غير رجال الأدب فنعده من باب الخطأ في فهم شيء لم تخذلوه ولم يدرسوه. أما نسمعه من رجال الأدب أنفسهم الذين قضوا في الأدب حياتهم، والذين نالوا حظاً من دراسة الأدب وفهمه، ومارسوا ممارسة عملية طوال حياتهم، فذلك خطر على الأدب شديد، وذلك انحراف للأدب عن منهجه الصحيح القويم، أو هي نكسة بالأدب إلى الوراء يوم كان سداه ولحمته اللفظ ولا شيء سوى اللفظ!

والذي يقرأ ما كتبه صديقنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن في العدد الفائت من مجلة (الرسالة) عن المفاضلة بين (السلاح الصوال) وبين (اللسان القوال) لا يحسب مثل هذا الكلام يصدر إلا عن أحد اثنين: إما جاهل بطبيعة الأدب ووظيفته ومدى اتصاله بالحياة، وأنا أعيذ الأستاذ الصديق أن يكون ذلك الرجل. وأما عدو للأدب متحامل عليه ويحرف الكلم في وصفه عمدا لينال من مكانته، وليس الأستاذ الصديق ذلك الرجل بطبيعة الحال!

يقول الأستاذ (. . . ولكنني أرجو أن تحمد في امتنا الأفعال لا الأقوال) ويقول (فنحن اليوم إلى سلاح صوال، أحوج منا إلى لسان قوال)، ويقول:

هذه الأقوال لا تحمي شهيدا

من ضحايا الحق، أو تشفي أواما

أطلقوا المدفع. . . لا حنجرة

وارجعوا السيف في الحق احتكاما

ويقول:

لا تردوا عنكمو غدر الأعادي

بالعبارات نثارا ونظاما. . .

الكلام اليوم لا يحمي حقوقا

والبيان اليوم لا يرعى ذماما. . .

وهذه دعوى خطيرة جداً على الأدب، ويزيد خطورتها هنا أنها صادرة عن أديب!

ص: 24

فالأدب ليس كلاما لا طائل وراءه ولا نفع فيه، لأنه لا يحمي شهيدا ولا يرد غدرا ولا يحمي حقوقا ولا يرعى ذماما، بل أن الأدب يصنع كل ذلك واكثر جدا من ذلك. والكلمات كما يقول هازلت:(إنما هي أفعال فإذا تكلمت فقد فعلت!) والكلمات - كما يقول جان بول سارتر زعيم الوجودية - هي (أسلحة نارية مشحونة بالقذائف، وان الإنسان إذا تكلم فقد أطلق!) وليست الكلمات - كما يقول سارتر أيضا - (نوعا من النسيم يتوهمه أصحاب نظرية الأسلوب البحث يجري على سطح الأشياء فيسميها خفيفا دون أن يغير شيئا فيها) وأنا أسأل الأستاذ لماذا يكتب الكاتب؟ أيكتب ليسجل خواطره الخاصة لنفسه حتى يمكنه استعادتها كلما عن له ذلك؟ لو كان الأمر كذلك لكفاه أن يخط بضع ملاحظات سريعة على الورقة يسترجع بها خواطره المستقرة في أعماق نفسه كلما شاء! لأنه سيذكر هذه الخواطر في يسر وسهولة كلما رجع إلى هذه الملاحظات السريعة، ولكن هذه الملاحظات السريعة ليست من الأدب في شيء، فلماذا أذن يكتب الأدباء؟

أن الأدباء يكتبون ليدعوا القراء - والقراء هم الحياة - إلى عمل من الاعمال، وليهيجوا في نفوسهم عاطفة من العواطف، وليؤججوا في قلوبهم الحقد والكراهية - مثلا - للأعداء، والحب والمودة للأصدقاء، والحقد والكراهية يؤديان بصاحبهما إلى عمل، والحب والمودة يؤديان بصاحبهما إلى عمل آخر! ألم تر إلى العرب الأقدمين كيف كانت القبيلة منهم تقيم الأفراح إذا ظهر فيها شاعر! لأن الشاعر في اعتبارهم هو حامي الذمار، والمدافع عن شرف القبيلة، والمتصدي بلسانه للاعداء؟ الم تر إلى الأوربيين كيف ماتت فيهم اليوم فكرة الفن للفن - مع أن الأدب عند أصحاب هذه النظرية ليس كلمات وألفاظا فقط؛ بل أنه ذلك وأشياء أخرى غير ذلك! - ماتت هذه الفكرة عند الأوربيين اليوم، وأصبحت كلمة (الفن للفن) عندهم - وهي ما يطلقون عليها (الفن الخالص) - مرادفة تماما لكلمة (الفن الفارغ)!!

أن الأدب يا سيدي هو كل شيء في الحياة الآن، أو على الأصح، هو كل شيء الآن، وعلى هذا الأساس يحمل مارنز الأدباء مسئولية ما يوجد في الحياة من رذيلة وقبيح واستعباد وظلم واستغلال وما إلى ذلك، ويجعلهم أول المسؤولين عن جميع هذه المفاسد قبل كل إنسان آخر؛ لأنهم الموجهون للدولة، والمرشدون للناس، والكاشفون للسوء، والدالون

ص: 25

على الخير، والمنبهون إلى الشر، والفاضحون الأشرار، والمادحون الأخيار، والمنشطون عزائم الناس، والمستحثوهم على الذود عن الوطن، والمستفزون إلى الحرب والضرب والدفاع عن بلادهم. . .

يقول برناردشو: (كان الإنسان في الأزمان الغابرة سلاحه السيف، وظل هذا السيف يصغر ويصغر حتى ظهر القلم!)

أما الدعاية وقوة تأثيرها واعتبار الدول لها الآن في المحل الأول من الأهمية في الحرب والسلم على السواء، فعندي أن الحديث في ذلك معاد مكرور لأنه لا يخفى على إنسان.

أن الكلام يا سيدي ليس بهذا الهوان والضعف الذي وصفته به وأنت الأديب القوال! أنه شيء أحظى جدا من هذا وابعد اثر في الحياة من هذا!

وحيا الله الأستاذ العقاد حيث يقول هذا البيت الحكيم: -

ما دام في الكون شيء للحياة يرى

ففي صحائفه للشعر ديوان

علي متولي صلاح

ص: 26

‌شذرات في الحياة:

1 -

عبقرية الكذب!. .

للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر

أقبل صاحبي وعلى وجهه تجهم الغضبة، وتكثر الوثبة؛ فقلت: حسبك!، ماذا دهاك؟

قال: أحسبك تعمق في التحليل كعادتك، حتى يكاد التكلف يلحق بتفكيرك

قلت أني أكلف بالمعرفة، وابغض التكلف، ويشفعني إحالة المظهر إلى المنطق، فإذا كنت مغيظا، ساكون دائما غائظك!

قال: مادمت تحلل نفسية الكاذب، فلا أجند حبيباً إلى قلبي سوى إغاظتك لي!

قلت: وما الإصر الذي اثقل نفسك حتى جعلك مثقلا بالهموم؟

قال: أن الكذوب يسخر مني، ويحسبني في غفلة!

قلت: في مقدورك أن تحيله إلى غفلته؛ فيكون هو المغفل!

قال: ها أنت ذا تعمد إلى الإيهام حتى تغمض عين أسلوبك!

قلت: ليس ثمة غموض ولا إغماض؛ فالأمر ايسر من أن تملأ به تفكيرك السليم؛ فالكذب (تعمية)، ولا يعمي الأمور بسوي الضعيف المتهافت على الخداع، لأنه يرى في أعماقه (غموضا)، ويخشى أن ينكشف هذا الغموض الذي يستقل به إحساسه. فما أشبهه بالمتلصص الذي يريد السرقة على ضوء مصباحه، لأنه يسرق نفسه، ويغش حسه، في حين يعتقد أنه موهم وهو واهم!

قال: أغريزة الكذب؟ أم خليقة مصنوعة؟

قلت: لقد قرأت عنه، لكن لم يرضني ما قرأت. وليس ذلك غروراً؛ فإن المنطق أساس المعرفة في عقدي، والكاتبون لم يطلوا إلا من نوافذ نفسية ضيقة محيلين الواقع إلى الافتراض، والتخيل، والوهم، مع أن الحقائق الإنسانية يمكن استقاؤها من أسلوب السلوك، والكذب مظهر من مظاهره؛ فلابد أن يكون هناك ارتباط بين حياة الكاذب وطبيعة إعداده، وتكوينه، وتنشئته، والحياة لم تمنح الأفراد منحها على غرار واحد؛ فنشأ (الحرمان) الذي يوجد في النفوس المحرومة ثغرات تتسع كلما تقدمت الأيام بهذه النفوس؛ والمنطق الطبعي يجعل سلوك المحرومين ذا شذوذ نؤاخذه عليهم في الوقت الذي نضني فيه ولا نؤاخذ أنفسنا

ص: 27

عليه.

قال: أتظن (الكذب) قدراً مشتركا بين الأفراد؟

قلت: لا أقول مقولي على الإطلاق، وإنما أسوقه في مساق التحليل الإنساني كوحدة مرتبطة الأجزاء في كل نفس بشرية؛ فأنت قد تأخذك شهوة الكذب إلى التوريط في أمر لا تحبه؛ وقد يخلصك من مأزق تأزمت به نفسك!

قال: لكني أسألك عن الكذوب الذي يهوي الكذب لذاته.

قلت: أن التهافت على الرغبات منذ تحبو الغرائز في مصدر الإنسان لا تجد من يحد من حدتها، فتقود صاحبها إلى تحقيق هذه الرغبات في الواقع أو التوهم لإشباع التهافت، وتحقيق الكيان الوجودي!

وقلت: لا تحسب الكاذب يصطنع الحقائق، وإنما تصورها (أحلام يقظته) فيريد تحقيقها بحسب ما ترى هذه الأحلام، وهو يجد لذة عجيبة تعزيه عن الحرمان، وتدنيه من المتعات البعيدة. .!

قال: كأنك تحبذ الكذب، وتوجه الكذابين. . .

قلت: رويدك!. . . أما تعرف من نطلق عليهم أسم (الفشارين)

إني أتجه بتحليلي إلى هذا الصنف من الناس؛ فهم ظراف، لطاف، بحابيح يرفهون عنا بأكاذيبهم أعباء الحياة، ويحلقون بأجنحة أخيلتهم حتى يرتفعوا عن دنيا الحقائق المرة إلى الرؤى الحالمة، والمرئيات الوهمية، فهم يشبعون على مسغبة، ويبلون الريق على ظمأ، ويمتعون مع حرمان!

قال: لكنهم يضايقوننا في اصطناع ما ليس حقيقة.

قلت: أسائلك بحقك. ألم تأخذك (البحبحة) في بعض أمرك، فتترك نفسك على السجية، فتدعى أنك أكلت (الديك الرومي) وأمعاؤك تكذبك.

وتقول: لقد أغرقتنا في شراب العدس؟!

قال: ليس التفكه مقام بحثنا، فصور لي مدى سخرية الكاذب من سامعيه.

قلت: إن الكذب على الأسلوب الذي صورته لك هو القدر المشترك بين سائر الناس، والكذاب (العبقري) هو الذي يمكنه قيادة العقول إلى تصديق ما يقول، ولست محبذا خلقية

ص: 28

الكذب على الإطلاق، لأنها قائدة كل رذيلة من الرذائل، ومدعاة إلى النفور، وعدم الثقة، وشناعة السمعة.

لكني أقول: إن الكاذب (المتعمد) في كذبه الذي يبغي الإضرار بالناس، والاستخفاف بهم، والنيل منهم، وإلغاء عقولهم، يجب أن تلطم أكاذيبه بالتسفيه، والزجر، والتحقير، والتزييف، وقد نعتوا الكذب قديما بأنه لا ذاكرة له، والصدق يتبع الأسلوب المنطقي في صحة نتائجه ومقدماته، والكذوب مضطرب القول يذكر الشيء ونقيضه في وقت واحد، لأن الزمن لا يسع السلب والإيجاب مرة واحدة، فالواقع أن الكذاب (مغفل كبير) لكنه يغفل كثيرا عما يسوق من حقائق ملفقة، وأحاديث موهومة، فيثبت آنا، وينفي ما أثبته آنا، وهو في الحالين مضطرب النفس، معذب الإحساس، يود في قرارته أن يفصح عن الحق، ولكن تمنعه (رغبته) في الكذب من الانحياز إلى الوقائع الصحيحة السليمة.

قال صاحبي: وكيف ننسبه إلى التغفيل؟

قلت: الأمر سهل! كر على قوله بالزيف، وذكر ذاكرته الغافلة عما يسوق من تخالف، وتباين، وتناف، فتسخر من سخريته وتريح نفسك؟

قال: كم أنا مغيظ من الكذاب الأشر!

قلت: هون عليك!. . . ثم قل لي: أليست حياتنا أكذوبة كبيرة؟!

بور سعيد

أحمد عبد اللطيف بدر

ص: 29

‌رسالة الشعر

الشعور المكبوت

للأستاذ عبد اللطيف النشار

الشعور المكبوت في مصر ثارا

فانفثي يا جوانب الأرض نارا

واقذفي بالطغاة في كل صوب

واجعليهم حول اللهيب شرارا

دأب مصر من عهد نشأتها

الأولى توالى سكينة وانفجارا

الشياطين والملائك منا

واختيارا سلوكنا لا اضطرابا

أخرجوا الآن لا اصطبار عليكم

وابتغوا غير هذه الدار دارا

أخرجوا الآن لا مكان بمصر

لغير يسطو جهارا نهارا

مستخفا بكل ما قدس الناس

خسيسا في فعله استهتارا

أخرجوا الآن ما دام الناس ماء

حسبنا منكمو جنون السكارى

إن عهدا ما بيننا خنتموه

ليس يحمي مخادعين حيارى

استندتم إليه من بعد أن

أصبح ظلا وخلتموه جدارا

فهوى الظل والذي أتخ

ذ الظل وقاء لظهره منهارا

وتحركتمو كأن حياة

بقيت فيكمو تعاني احتضارا

رمق خافت بنفس الذي يقتل

طفلا ولا يرى ذاك عارا

قتلت (أم صابر) بيد أضعف

نفسا من أن تواجه نارا

أو يحمي القنال أمثال هذا؟

حسبكم ذلة ويكفي صغارا

خطر ما أثرتموه عظيم

خطر أن تواجهوا الأخطارا

بنفوس تظن في قتلها المرأة

فوزا لجيشها وانتصارا

ألجأتم إلى السكينة والمسجد

خوفا من مثلها وفرارا

أرأيتم عجائزا في الطريق؟

هن أمثالكم فخوضوا الغمارا!

أم تبولون في المساجد ذعرا

أم أردنا للأرذلين اعتذارا

أيها الحمر اوجها ستزيدون

بما قد سفكتموه احمرارا

ضرجوا هذه الخدود بأرض

قد قتلتم صبيانها والعذارى

ص: 30

يا بني البحر في السفين نجاة

لكمو اليوم من رمال الصحارى

وإلى حيث شئتمو من قرار

فابتغوا غير رمل مصر قرارا

زعموا مصر جنة قلت كانت

فانظروا الآن تبصروا وأمصر نارا

بالحديد المحمي نرمي ونرمي

أتريدون للحديد انصهارا

صهرته عداوة هجتموها

وعلى مستثيرها ما استثارا

ما البراكين تغتلي النار فيها

كقلوب جرى تحاول ثارا

كان نورا ما أسفرت مصر عنه

فكساه مقت الأراذل قارا

حمم فوق أرؤس القوم تهوي

ليس تبقى من العدى ديارا

لعنة في ضمائر القوم أودت

بعظيمين يصرعان انتحارا

رأيا مسلك اللصوص عجيبا

فأثارا من الجوى ما أثارا

أبيا أن يكون قوتهما المسروق

من مصر قوة واقتدارا

أبيا أن يطوف جيشهما الباسل

في السوق خائفا يتوارى

ألهب القائدان رأسيهما يأسا فكانا

عن الطغاة اعتذارا

ذهب اثنان من ربابنة

الأسطول في أمة تسود البحارا

وتلا الهالكين منهما ثالث

جن فهل رد عقله المستعارا

ليس يخلو من الضمائر شعب

يشمل الصالحين والفجارا

جيش إنجلترا بمصر تخير

إجلاء أردته أم بدارا

فيكمو الصالحون قد آثروا

الموت وفيكم وقاحة لا تبارى

كل باق بمصر منكم فلص

فليحاسب ضميره كيف صارا

قيل أخلاق لندن قلت مرحى!

قد رأينا جيشا لها جرارا

يسرق الزاد تحت راية ملك

كان فيما مضى يتيه افتخارا

خادع العالمين عصرا طويلا

وأزاح الزمان عنه الستارا

يا بني مصر أن في مسلك

الحمر ازدراء لشأننا واحتقارا

وبدأنا فلا رجوع فأنا

قد ملأنا الأسماع والأبصار

ولغتنا العيون في الشرق والغرب

إلينا فهل نطيق اعتذارا

ص: 31

ابذلوا المال قبل أن تبذلوا النفس

ففي المال فتنة لا تمارى

عبد اللطيف النشار

من الأعماق

للأستاذ عبد العزيز مطر

من الأعماق نبعثها غضابا

مدوية نشق بها السحابا

عقدنا العزم أن نحيا كراما

ولو ذقنا الشدائد والصعابا

ونحبي عهد أجداد أباة

لنجدر بالفراعنة انتسابا

ونسطر في سجل الخلد أنا

وثبنا الوثبة الكبرى خبابا

نلبي دعوة الوادي إذا ما

أشار إلى الشبيبة أو أهابا

من الأعماق نبعثها تدوي

سننزل بالقراصنة العقابا

ونطعمهم كراهية وبغضا

ونسقيهم حميما بل عذابا

ونعطي (للعجوز) الغر درسا

فنلزمه المحجة والصوابا

وما للغرب عتب لو فعلنا

فان الحق لا يرضي العتابا

صبرنا صبر (أيوب) عليهم

فأحصينا جرائمهم كتابا

رأينا الصبر لا يجدي فتيلا

(ولكن تؤخذ الدنيا غلابا)

فألغى (مصطفى الوادي) صكوكا

بها اغتصبت أراضينا اغتصابا

وصفقنا من الأعماق بشرا

ونادينا نداء مستطابا

تحررنا من الأغلال فأنهض

سليل المجد مرموقا مهابا

فلا حلف ثنائي أثيم

يجر لنا المذلة والتبابا

ولا حلف رباعي بغيض

يعود إلى الوراء بنا حقابا

ويربطنا بقرصان لصوص

ويجعل ما بنيناه خرابا

هو الذل المقنع قدموه

وسموه (مشاركة) كذابا

فهبوا فتية الوادي اسودا

واجلوا عن عرينكم الذئابا

وكونوا حول عرشكم المفدى

كما لا تهابون الحرابا

ص: 32

عبد العزيز مطر

المحرر بمجمع فؤاد الأول للغة العربية

إلى روح صالح الشرنوبي

للأستاذ كامل أمين

صرت وحدي بغير كأس وساقي

وخوت حانتي وبانت رفاقي

أيه يا جار والغبوق على الد

ن كأن الطلى دموع الفراق

أرأيت الذي هنا كان بالأمس

يريق الحياة غمر الزقاق

بعد أن كان ملء كأس الندامى

اصبح اليوم ملء دمع المآقي

مر بالأرض كالغريب ليرثي

رأيه الحر بين أهل النفاق

وجرى كالدم النبيل على الشو

ك وفي قلبه شذى الورد باقي

أي قبر نزلت يا مسرب الخ

ير وأنت الرباب وهو اليباب

أي قبر نزلت يا مطلع الفج

ر وأنت الشعاع وهو التراب

أي قبر نزلت حتى أرى هل

عزه الشعر أم رواه الشباب

أهنا نترك الأكاليل تذوي؟

ولمن؟ للذي حواشيه غاب

ينبت الزهر معانيه ما ينب

ته الخلد لا الربى والشعاب

طالما قال لي تجلد وقلبي

خلبه الهم غلفته الحراب

وثوى الصابر المصبر حقا

إنما هذه الحياة سراب

ثم قربوا فلن ترى بعد هذا ال

يوم نذلا ولن تلاقي لئيما

في التراب الذي نزلت ثوى الخل

ق فضم الحصى وضم النجوما

عادل الموت لا يكرم في الح

ق خبيثا ولا يذل يتيما

كل شيء به سيبعثه الل

هـ كما كان سافلا أو كريما

بين ذكرى تفوح كالمندل الرط

ب وذكرى تهب ريحا سموما

والذي صارع الخطوب عظيما

ستواريه في ثراه عظيما

رب فجر كشعره ضاحك الس

ن رطيب الندى صبوح القوافي

ص: 33

لمست إصبع الحياة حواشي

هـ فسالت دموعه كالسلاف

تستقي الطير منه وهي النشاوي

وتغني به الشجا وهو خافي

كنت أرجو بان أريق قريضي

لا ليرثيك بل ليوم الزفاف

آه يا من نهضت في الصخر كالور

دويا من قطفت قبل القطاف

وتفجرت في الحجارة كالنبع

طروب الحيا سخي الطواف

عشت ما عشت في العفاف وور

يت فووريت في التقى والعفاف

طف بعرش الكريم واشك له

الناس وقل ما لقيته في حياتك

لا تركت الضياع تورثها الغف

ل ولا في شك يديمك حقد عداتك

بل فقير كما ولدت وإن ك

نت غنيا بثروة من صفاتك

تحمل الحب والدموع على الأر

ض كما تحمل الحياة لذاتك

أقفرت حولي الحياة فما لي

لا أرى اليوم غير وجه نعاتك

يرسلون الأسى واقسم (يا صا

لح) لم يرسلوا سوى عبراتك

كنت معني الوجود حتى إذا ما

مت مات الوجود يوم مماتك

كامل أمين

ص: 34

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

أنه لحن فصبح

كتبت في العدد الأسبق من الرسالة ردا على الأستاذ أحمد محمد بريري في تخطئته - بصحيفة الأساس - الدكتور طه حسين في قوله بأحد مؤلفاته (يريدون أن يضحكوا من الصحف ورؤساء التحرير فيدخلون عليها فصولا نشرت على أنها لم تنشر) إذ رأى الأستاذ أن الصواب (فيدخلوا) لا (فيدخلون) متوهما أن الفعل منصوب بعد فاء السببية. . وقلت ما مجمله أن الفعل مرفوع لا منصوب.

وقد تناول الأستاذ بريري هذا الرد، برد عليه في (الأساس) (21 - 11 - 1951) قال بعد أن أورد ما كتبته:

(ولقد علمني (شيخي) أن مسوغات النصب بعد فاء السببية هي: الأمر، والنهي، والدعاء بفعل أصيل، والاستفهام، والنفي، والعرض، والتحفيض، والتمني، والرجاء على خلاف، وغير عند الكوفيين، والتشبيه الواقع موقع النفي.

فما غاب عن شيخي أن النصب بأن مضمرة بعد فاء السببية لابد له من مسوغ، وإنما غاب عن الأستاذ عباس خضر كثير من المسوغات. . فإن تعبيره غير جامع ولا مانع، لأن النفي والطلب - إذا روعيت الدقة - بعض من كل، في حين أن من يقرأ كلام الأستاذ يفهم أنهما كل شيء في هذا الباب، كما يفهم أن ثمة تضادا بين فاء العطف وبين فاء السببية. . فالفاء عنده إما أن تكون عاطفة، وإما أن تكون سببية. . والواقع أنه لا تضاد، وأن فاء السببية عاطفة في أكثر الصور، قاطعة في بعضها. . وأن بعض النحاة ليعيدها عاطفة دائما حتى إذا انتفت المشاكلة بين الجملتين. . ومع هذا لنعد عن هذا الأمر، فنحن متفقون على أنها في قول الدكتور طه حسين (يريدون أن يضحكوا من الصحف ورؤساء التحرير فيدخلون عليها فصولا على أنها لم تنشر. . الخ) عاطفة. . وإنما وجه الخلاف في المعطوف عليه. . فالأستاذ عباس خضر يرى أنه (يريدون) وبهذا يسلم قول الدكتور طه حسين من اللحن. . أو يصبح، على حد عبارة الأستاذ خضر، لحنا فصيحا. بينما يراه شيخي لحنا قبيحا، لأن الفاء عاطفة على (يضحكوا) لا على (يريدون) وأن الأستاذ عباس

ص: 35

خضر يتحكم. ونحن نحتكم إلى القواعد العربية. . وأنها لتقرر أن فاء العطف تفيد الترتيب والتعقيب على خلاف الواو. فأنت، إذ تقول جئت فسمعت فتكلمت. تعني أن هذه الأفعال وقعت متعاقبة كما رتبتها الفاء فإنها تربط ما قبلها بما بعدها ربطا مباشرا. . .

فإذا نظرنا في كلام الدكتور طه حسين مع مراعاة حكم القاعدة، تعين العطف على (يضحكوا). .

وأحب أن أقول للأستاذ عباس خضر إن بين النحاة من لم يرضه تعطيل الرفع في قول الحطيئة (يريد أن يعربه فيعجمه) لأن ابتغاء السببية لم ينف العطف بالفاء. . وهو بها إنما يكون على أقرب الفعلين كما تقضي قاعدة الترتيب والتعقيب. وما صح كلام الحطيئة إلا لأنهم تجوزوا وتوسعوا في الشعر، فرفعوا ما حقه أن ينصب، كما في رجز الحطيئة، ونصبوا ما حقه أن يرفع كما في قوله:

سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

وإن كان بعضهم يرى جواز النصب بأن مضمرة بعد فاء السببية دون اعتماد على نفي أو طلب أو غيرهما.

ورفعوا ما حقه أن يجزم كما في قوله:

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنك إن يصرع أخوك تصرع

وقد يكون الأستاذ عباس خضر ممن يرون أن كلام الدكتور طه حسين كله شعر. . وأن من حقه في التجوز والتوسع هو هو حق الشعراء جميعا سواء أقبل النحاة، أم رفضوا. . وسواء أغمضوا أم رضوا.)

أقول مرة ثانية: سبحان الله يا أستاذ. . ويا عجبا لك ولشيخك! كيف غاب عنكما في هذه المرة أن (المسوغات) التي ذكرتها، من الأمر والنهي. . الخ، هي نفسها أنواع الطلب وليست شيئا مغايرا له. . كما غاب عنكما في المرة الأولى أن المضارع لا ينصب بعد فاء السببية إلا إذا سبقت الفاء بنفي أو طلب. . .؟ وإذا كنت تعتقد أن هذه (المسوغات) التي غابت عني أشياء أخرى غير الطلب فما هو الطلب إذن. .؟ هل أطمع أن تذكر لي مثلا من أمثلته؟ وكيف علمك (شيخك) أن هذه الأشياء التي تسبق فاء السببية فينصب الفعل بعدها اسمها (مسوغات) وما هي إلا شروط. .؟ ولعلك عرفت الآن أنه لا داعي لمراعاة

ص: 36

(الدقة) في التعبير. . إلى آخر ما طلب لك في هذا المقام. .

وأنا يا سيدي الأستاذ لم أنف السببية عن الفاء العاطفة، فقد قلت إنها فاء العطف وأنا أقصد أنها ليست فاء السببية التي يعدها النحاة من الأدوات التي ينصب المضارع بعدها بأن مضمرة إذا سبقت بطلب أو نفي، فالذي يهمنا من الفاء في موضوعنا إنما هو أثرها في الإعراب.

ولنعد عن كل ذلك، على ما فيه. . لنصل إلى محور الموضوع، وهو نصب الفعل (يدخلون) في كلام الدكتور طه حسين على ما ترى، ورفعه. على ما أرى. إنك خطأت رفعه في مقالك الأول لأنه - كما توهمت - واقع بعد (فاء السببية) فلما عرفت أن فاء السببية لا ينصب بعدها الفعل إلا إذا سبقت بنفي أو طلب (بغض النظر عن فهمك للطلب من حيث أنه غير جامع لما ذكرت من الأمر والنهي. . الخ).

لما عرفت ذلك من ردى أو من شيخك بعد أن قرأت هذا الرد. . حورت المسألة إلى وضع آخر، إذ قلت إنك متفق معي على أن الفاء عاطفة وإنما الخلاف في المعطوف عليه ورجحت العطف على (يضحكوا). . فأنت إذن قد رجعت عما قلت أولا بعد أن عرفت خطأه وإن كنت لم تعترف بذلك. . ثم حاولت أن تتمادى في التخطئة على وجه آخر أو على (قفا) شيخك. . واحتكمت إلى أن فاء العطف تفيد الترتيب والتعقيب وليكن، أليس إدخال الفصول على الصحف واقعا بعد الإرادة وعقبها؟ أما إذا جعلنا (يدخلون) معطوفا على (يضحكوا) فإنه لا يتصور الترتيب والتعقيب بينهما لأن الإدخال يسبق الضحك لا العكس.

ولا أكتم عنك يا سيدي الأستاذ شعوري بأنني أوضح أمورا واضحة، ولكن ما حيلتي؟ ونسبت يا سيدي الأستاذ إلى بعض النحاة مالا ينبغي أن ينسب إلى نحاة، إذ قلت إن هذا (البعض) لم يرضه تعليل الرفع في قول الحطيئة (يريد أن يعربه فيعجمه) لأن العطف يكون على أقرب الفعلين. . كأن هذا البعض يريد أن يعطف (يعجمه) على (يعربه) فيكون المعنى أو (اللا معنى) يريد إعرابه فإعجامه. . أي يريد الضدين معا! ومن أين أتيت يا سيدي بهذه القاعدة:(العطف يكون على أقرب الفعلين) وماذا تقول في هذا المثال: (يريد الكتاب أن يخطئ غيره فيخطئ هو) هل (يخطئ) معطوف على (يخطئ) فيكون المعنى

ص: 37

يريد تخطئة غيره وخطأ نفسه. . أو معطوف على (يريد) مع السلامة التي لابد لها من التنازل عن قاعدة العطف على أقرب الفعلين؟

وأراد الأستاذ بريري أن يقحم أشياء أخرى غير ما تعرضت لمناقشته فيه، فقال:

(وقد أسلم للأستاذ عباس خضر هذا الذي يراه إن كان يراه. . ولكن ما رأيه في أن الدكتور طه حسين قد تجاوز في النثر ما أجيز في الشعر. .؟ فما علمنا شاعرا نفى الفعل المثبت (بقد) فقال (قد لا يكون) كما فعل الدكتور طه حسين، ولا نفي المسوف بسوف فقال (سوف لا يكون) ولا أكد بإضافة المؤكد إلى المؤكد فقال (نفس فلان) بدل (فلان نفسه) ولا استعمل كاد كما يستعملها الدكتور طه حسين حين يقول - مثلا - ما كدت أفعل كذا حتى حدث كذا، يعني (ما فعلت) أو (ما أن فعلت). . إلى آخر ما كتبنا، وغيره مما سنكتب في الأساس

وإذا سلمنا - جدلا - للأستاذ عباس خضر أن لحن الدكتور طه حسين فيصبح. . أو أنه لحن ما أفصحه في حكاية الضحك من الصحف ورؤساء التحرير، أفيراه كذلك لحن ما أفصحه في حكاية النفي بعد قد وغيره مما كتبناه، أم يسلم لنا أنه لحن ما أقبحه. .؟

هذا على أني ما أردت أن أنكر على الدكتور طه حسين مكانه في الأدب عامة، وفي اللغة العربية وأدبها خاصة، وهل في وسعين لو أردت، أن أقول. .؟

ولكن أحد تلاميذ الدكتور طه حسين روى عنه أنه قال: أنه ثالث ثلاثة لا يلحنون أو أنهم معصومون من الخطأ. . فرأيت أن أقيم الدليل على أنه كغيره من العلماء، قد يلحن. . وقد يخطئ. . وأن الخطأ لا ينقص من قدره، ولا يذهب بشيء من فضله. . فإن حظ بني آدم أن يخطئوا حينا. . وأن يصيبوا حينا. . وإذا شاء الأستاذ خضر أن ينكر على الدكتور طه حسين آدميته فما أحسبه يريدني على أن ألتزم معه الإنكار

وبعد، فإني أعتب على الأستاذ خضر أنه يحسبني أخجل من الخطأ. . فهل ادعيت العصمة فأستحي أن أرد إلى الصواب. .؟

كلا. . فأنا على أتم استعداد لتلقي الإرشاد من الأستاذ عباس خضر. . بل لعلي أحق بعونه من الدكتور طه حسين. .

وثمة شئ أخجل - حقا - لو شاء الله أن أقع فيه: ذلك أن أقول غير ما أعتقد في نحو اللغة العربية أو غيره من أنحاء الحياة).

ص: 38

وإني أعتب على الأستاذ الفاضل، وأحيى فيه روح المجدين للوصول إلى الصواب، وأقول: إني لم أبذل عونا إلا للحق الذي قصدت أن أنفض عنه ما علق به من غبار، ولهذا أسأل الأستاذ بربري: لماذا حورت الموضوع من المناقشة في نقطة معينة إلى الكلام حول الدكتور طه حسين وما وهمته من أخطاء له. .؟ وأتى مع ذلك أجيبك إلى هذا الذي نقلتنا إليه.

(قد لا يكون) لم لا يكون؟ نعم قال بعضهم إن (قد) إنما تدخل على الفعل المثبت، ولكن أي (قد)؟ إنها تكون للتحقيق ولتقريب الفعل الماضي من الزمن الحالي، وهذا فيما أرى مرجع التعليل لجعل (قد) للإيجاب، فإن النفي لا يتفق مع التحقيق والتقريب، أما (قد) التي تدخل على المضارع للتقليل أو التوقع - كما في (قد لا يكون كذا) فلا تتعارض مع النفي، وهي في هذا تجري مجرى (ربما) وربما تدخل على المنفي والمثبت، فلا فرفق بينهما؛ وعلى ذلك أسأل: ما المانع من دخول قد التقليلية والتوقيعية على المنفي؟ وما هو تعليل هذا المنع إن قيل به؟

(سوف لا يكون) أسأل هنا أيضا: ما المانع من هذا التركيب؟ وإذا كنا نسوف في وقوع الفعل فلماذا لا نسوف في عدم وقوعه؟ وهل للكاتب الفاضل أن يأتي بنص صريح بمنع دخول سوف على المنفي؟

(نفس فلان) ليست (نفس) هنا للتوكيد المصطلح عليه عند النحويين، وإنما هي بمعنى (ذات) وإذا كنا نقول ذات فلان فلم لا نقول نفس فلان؟

(ما كدت أفعل كذا حتى حدث كذا) في هذه المسألة رأيان، فكاد معناها قارب ولم يفعل تفيد النفي، والمتقدمون يرون أنها تفيد الإثبات إذا دخل عليها النفي، طبقا للقاعدة المعروفة (نفي النفي إثبات) وعلى هذا يكون التعبير (ما كدت أفعل كذا حتى حدث كذا) سليما، وقد خطأ بعض العلماء - بناء على هذا الرأي - ذات الرمة الشاعر، فسلم لهم ذو الرمة بذلك. ولكن بعض المتأخرين ذهب إلى خلاف ذلك الرأي بأن نفي كاد نفى لمقاربة الفعل، وهذا هو الذي استند إليه الأستاذ بريري في تخطئة التركيب (ما كدت أفعل كذا حتى حدث كذا) ومن العجيب أن ينكر كاتب في هذا العصر رأيا للمتقدمين ليخطئ تركيبا على رأى للمتأخرين يخالفه.!

ص: 39

هذا هو يا سيدي جواب ما قلت إنك كتبته في (الأساس) من أخطاء (موهومة) للدكتور طه حسين ولست أدري ما ستكتبه، وهل هو من هذا القبيل؟

إن الدكتور طه حسين كسائر البشر ليس معصوما من الخطأ، ولكن هات الخطأ. .

عباس خضر

ص: 40

‌المسرح والسينما

المسرح المصري

في خدمة العقيدة الوطنية

للأستاذ زكي طليمات

يختلف شيوخ الأدب وأئمة الفن في رسالة الأدب والفنون فيما يجب أن تهدف إليه في جوهرها

فبينما يقرر بعضهم، أنه واجب أن تكون رسالة الأدب والفن طليقة حرة غير مفيدة بهدف معين أو غاية مرسومة. أي أن تكون رسالته لمجرد الأدب والفن، إشراقات تصفي الذوق وتصقل الروح. وتنمي حاسة إدراك الجمال. وسبحات في آفاق المعاني والخيال المشتهي. ولمعات ترقي بالنفس إلى أعلى مدارك النور. . .

بينما يقررون هذا، يهب بعضهم الآخر يدعو إلى أن رسالة الأدب لابد أن تكون أولا وأخيرا لمعالجة ما يشغل أذهان الناس تبعا لمشكلات حياتهم. ولتناول ما يعنيهم في كفاحهم مع العناصر التي تحيط بهم. ابتغاء تيسير أسباب الحياة الاجتماعية في ناحيتها الإيجابية، ومعاونة الشعوب على التقدم والارتقاء.

ثم هم يقررون فوق هذا، أن رسالة الأدب إذا انحرفت عن هذا فما أتفهها رسالة وما أقلها منفعة.

ولسنا في هذا المقام لنصرة فريق على الآخر. فللفريق الأول الذين يعيشون في (أبراج عاجية) إذا فرضت عليه القيود في مباعث إلهامه وفي مواطن وحيه، خرج نتاجه ضحلا قلقا قريب الغور، وقلما يكتب له البقاء والخلود، لارتباطه في جوهره بفكرة قد تتغير مع الزمن، أو بحالة ليس لها من البقاء إلا مدى حياة الأزياء المتقلبة والطقوس العابرة.

وللفريق الآخر بدوره ما يؤيد ما يذهب إليه، إذ لابد، لكي يكون الأدب حيا، أن يخاطب ما يعصف بأذهان الناس، وأن يعمل على معاونتهم في معترك الحياة الواقعية، وأن يشاركهم في نضالهم مع ما ينزل بهم من أحداث.

وفي نظرنا، أن الأدب أو الفن، إنما هو هزة وانفعال بتأثير ما يدخل على النفس، وأن

ص: 41

الأديب الحق والفنان الأصيل، في النتاج رهينة بعمق امتلائه مما يهزه، وبمعالجة هذا معالجة إنسانية طريفة.

إلا أن هناك فترات في حياة الشعوب نرى لزاما على الأدب والفن أن يكونا خالصين متوفرين، لخدمة المجتمع في أهم ما يشغله، سواء كان هذا الشاغل عرضا إلى زوال، أو مبدأ قد يغير من جوهره على مر الأيام.

وأهم هذه الفترات - ولا شك - تلك الفترة التي يعبر بها شعب مرحلة تقرير المصير، واستخلاص كيانه الذاتي، وفرض إرادته لمسايرة ركب الحياة في دنيا الحرية والكرامة.

وما أظن أن هناك فترة في تاريخ مصر أدق وأخطر من تلك التي فيها الآن، فهي فترة النضال الحاسم من أجل الحرية، وساعة الكفاح الأخير في سبيل العزة والكرامة، فإن تخلف المسرح - وهو أدب وفن - عن مؤازرة الفكرة العاصفة السائدة، فكرة الكفاح، إذا لم يسخر المسرح المصري قواه لتغذية الوعي القومي، ومساندة عقيدة النضال، وذلك بتذكير الناس بما يجب أن يذكروه، وتبصيرهم بما يجب أن يكون مائلا في أذهانهم، إذا لم يؤد المسرح هذا الواجب فقد كتب على نفسه وبيده، أنه عالة على الحياة، وأنه مختلف عنها، وأنه غافل لا يحس نبض الواقع، والغافل والمتخلف غير جديرين بالحياة.

إن الحياة في مصر، والمسرح من عناصرها، تجري الآن متدفقة في مجرى واحد حفرة تاريخها المجيد وحاضرها الزاهر، وكرامتها وعزتها، فإذا لم تجند جميع عناصر هذه الحياة لهذه الغاية فما أقلنا جدارة بالحياة، وما أحرانا بأن نبقى نتطوح بين العبودية المقنعة وبين الذل السافر.

من أجل هذا، نقدم فخورين (مسرحية دنشواي الحمراء) دنشواي، الجرح الدامي في كرامة مصر منذ عام1906، نقدم هذه الصفحة القائمة من حياة مصر في ظل الاستعمار، ولا نبالي أن يقال عنا إننا تركنا (الأبراج العاجية) إلى أديم الأدب المكافح، أدب الساعة الراهنة، ما دام ما نقدمه يحمل من السلامة والطرافة ما يحمل.

نقبل هذا، إذا ادعاه المدعي، فه أحرى بنا وأكرم من أن نتخلف عن الصف وهو يسير بين السويس، والإسماعيلية، وبور سعيد متعثرا بأشلاء مواطنيه الشهداء، وكل واحد في الصف قد حمل قلبه على يده، ونسي يومه وغده.

ص: 42

زكي طليحات

هوليود بين الخوف والأمل

بدأ التلفزيون يسير بخطى واسعة نحو الانتشار وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وأصبح تهديده عظيما للسينما. ولقد لاحظ المراقبون لشؤون الفن أن ثلاثة آلاف دار للسينما قد أغلقت أبوابها نظرا للمنافسة الشديدة للتلفزيون (في الثمانية عشر شهرا الأخيرة) ويقول هؤلاء المراقبون إن تكاليف الفيلم في التلفزيون يبلغ عشرين ألف دولار ويستمر عرضه ثلاثين دقيقة أي أن ثلاثة أفلام تكلف ستين دولارا لمدة ساعة ونصف، وهذا ما يعادل مدة الفلم السينمائي إلا أن تكاليف أرخص الأفلام التي تقدمها إحدى الشركات السبع الكبرى في أمريكا يبلغ مائة ألف دولار، والفلم المتوسط بين ستمائة ألف ومليون دولار.

ويقول المدافعون عن صناعة السينما إن السينما تعطي صورة حقيقية لحجم الأشياء وفي ذلك متعة للمتفرجين لا يمكن لهم أن يجدوها في التلفزيون، كما أن هناك من الأفلام مالا يجوز للنشء رؤيته، وهذا مالا يمكن منعه في حالة التلفزيون، وخاصة بعد أن أصبح في كل قهوة في نيويورك والمدن الكبرى في أمريكا آلة للتلفزيون. وقد بلغ عدد آلات التلفزيون خمسمائة ألف آلة، 137 محطة. . .

ولقد ظهر انتشار التلفزيون في تعدد حوادث الإجرام بين النشء حتى أن جماعة الأساتذة والآباء ف (لوس إنجلز) قد احتجت على البرامج التي يقدمها التلفزيون، ذاكرة أن في المدة بين 1 - 7 مايو سنة 1951 حوت برامجه:

227 حادثة قتل 357 شروع في قتل

46 سرقة 39 حوادث خطف

ورغم هذه الانتقادات فالتلفزيون آخذ في الأنتشار، وإن السنوات القادمة ستبرهن لنا عن مدى صلابة صناعة السينما أمام هذا المنافس الخطير. . بينما تمسك هوليود بلقبها بين الخوف والأمل. .

باريس

سالم عزام

ص: 43

‌البريد الأدبي

على طلقات المدافع:

قرأت القصيدة الجميلة التي نشرها الأستاذ الألمعي محمد عبد الغني حسن بالعدد الأخير من مجلة الرسالة تحت عنوان (على طلقات المدافع) وقد أعجبت بإشراقها الناصع، ودفاعها البليغ عن صمت الشعراء، ولما كنت أعهد شاعرنا المبدع ناقدا دقيقا يعني بتصحيح الأوضاع الخاطئة، رأيت أن أوجه إليه هذا التعقيب البريء.

لقد لاحظت أن الشاعر لم يلتزم القواعد العروضية في شعره، إذ أنه

نوع العروض في السطور الأولى تنويعا مخلا، فجاء بها تارة على

وزن (فاعلا) وتارة على وزن (فاعلاتن) ومن المقرر أن العروض

تلزم واحدة إلا عند التصريع فتتبع الضرب، ولكن الشاعر لا يسير

على هذا الرأي فبينما هو يقول جاعلا العروض على وزن (فاعلا)

أطلقوا المدافع من معقله

واملأوا الجو دخانا وقتاما

القناة اليوم من روعها

بالخطوب السود غدرا وانتقاما

أطلق الغاصب فيها طبعه

كوحوش الغاب فرسا واهتضاما

إذا هو يقول جاعلا العروض على وزن فاعلاتن

قد شبعنا يا أخي فيكم نداء

وشعبنا ي أخي فيكم كلاما

هذه الأقوال لا تحمي شهيدا

من ضحايا الحق أو تشفى أواما

الكلام اليوم لا يحمي حقوقا

والبيان اليوم لا يرعي الذماما

وأمثال هذه الأبيات من النوعين كثير في القصيدة مما يؤدي إلى الانكسار وخروجها عن القواعد الصحيحة

فما رأى الشاعر المبدع والناقد الألمعي الدقيق؟

محمد رجب البيومي

حول الاستعمار الثقافي:

ص: 45

في رأيي أنه لا استعمار في الثقافة كما ينادي بذلك الأستاذ المعداوي في حديثة عن (موقفنا من الاستعمار الثقافي) بالعدد (960) وكما نادى به الأستاذ عباس خضر في عدد سابق من الرسالة الزهراء، فلسنا في دراستنا للغات ومنها الإنجليزية مقهورين عل إرادتنا. ولا أفهم أن تتركها إلى حين ثم نعود إليها بعد (متفضلين) ثم لا أفهم للغة الألمانية أو الروسية أو الفرنسية فضلا على الإنجليزية، وكلها شعوب استعمارية لا خير من ورائها لشعوب الشرق،. هي ولا شك عاطفة وطنية يشكران عليها، ولكنها لا تمنعنا من التسلح ضد المستعمر الغاصب ومن ذلك حذق لغته لتكون مخلبا نزهق به روحه بجوار التسلح المادي والأدبي، ولا علينا من الظروف التي أملت علينا تعلمها. فالوعي قد نضج، واختلطت كراهية الإنجليز بدماء الشعب، وهب الجميع يمحون وصمة الاستعمار. . لم يأخذني العجب حين سمعت هذا النداء من تلاميذنا في المدارس الثانوية، فقد صدروا في ذلك عن عقيدة نفسية تخلفت عند أكثرهم من رسوبهم في امتحانها، لأنهم لم يكدوا ذهنا ولم يقرحوا جفنا في سبيل تحصيلها. . وإني أسائل الأستاذين الفاضلين هل سيبدأن فيمحوانها من صدريهما! أم أن هذه حماسة وطنية يشكران عليها. . . فقط

محمد محمد الأبشبهي

(نسبة أبيات)

أطلعت في العدد 960 من مجلة الرسالة الغراء على مقال للأستاذ كامل السوافيري تحت عنوان (أدب الثورة والكفاح) نسب فيه الأبيات الآتية إلى الأستاذ ميخائيل نعيمة:

أخي ما الصبر أن الصبر كفران وخذلان

أخي ما نحن بالأحرار لكن نحن عبدان

لقد ضاقت بنا الأوطان ما للعبد أوطان

أخي ما السجن هل في السجن ألام وحرمان

وهل يجري مع الأحرار قضبان وسجان

سوانا يرهب القضبان أو تثنيه جدران

إذا كنا شرارات فنحن اليوم بركان

ص: 46

والحق أنها للشاعر كمال الحقوقي من قصيدته (إصرار) التي نشرها في أول عدد يناير من مجلة (أم درمان) سنة 1946

أما أبيات مخائيل نعيمة فهي:

أخي أن ضج بعد الحرب غربي بأعماله

وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله

فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن داتا

بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشع دام

لنبكي حظ موتانا الخ

هذه الأبيات تجدها في ديوان (همس الجفون) تحت عنوان (أخي) ومعذرة للأستاذ فإن وحدة الموسيقى والثورة في القصيدتين هي أوقعته في هذه الهفوة وللأستاذ إعجابي وتقديري.

أبوه حمد حسب الّله

ص: 47

‌القصص

قانصوه الغوري

سلطان مصر الشهيد

الفصل السادس

في بركة الرطلي

للأستاذ محمود رزق سليم

بقية ما نشر في العدد الماضي

الشاعر: صدقت! ولكن الشعراء يعيشون بعواطفهم أكثر مما يعيشون بعقولهم، ويتأثرون بالحوادث أكثر مما يتأثر بها سواهم. هم يشاركون المؤرخين حب الاستطلاع، والوقوف على كنه الحوادث. ولكن المؤرخين يقيدونها فحسب، أما الشعراء فيتأثرون بها ويثورون لها. . وهذا هو الفارق بيني وبين فقيهنا الهمام مولانا ولى الدين. .

ولي الدين الفقيه: كيف لا يتأثر المؤرخون بالحوادث، إذا كانت تتصل بهم في الصميم؟ ومن ذا يرى بلاده يطغى عليها الشر فلا يحزن لها ويكافحه، أو يعمها الخير فلا يهنأ معها أو يأخذ من خيرها بنصب؟

التاجر فرس الدين: إذن! مولانا الشيخ معجب بما في البركة من زينة وملهى، ويدعونا إلى أن نقبس من لهوها بمقباس. . وقد قيل:

منذا يرى الغيد تهفوا

برقة ودلال

ولا يميل إليها=ولا يلين بحال. . .

ولي الدين الفقيه: وقانا الله وإياكم شر المنكرات، إنما أقصد بالخير ما تشهده البلاد الآن من الرخاء. . وذلك يدعونا إلى أن نتحدث بنعمة الله، فقد قال تعالى:(وأما بنعمة ربك فحدث) وقال جل شأنه: (ولئن شكرتم لأزيدنكم) وها هو ذا النيل يفيض وبقى كعادته، وها ذى الأرض تبسم لنا عن زرعها النضير. وقد قيل:

النيل فاض وفي راحاته ذهب

والأرض دون نداءكم تلبينا

ص: 48

هذا يثير عليها التب آونة

فتنفث التبر زهرا أو ريحانا

وهذا من حسن طالع سلطاننا، وفأل حسن لعهده. ومن العجيب أن النيل أبطأ مرة عند الوفاء فعجل السلطان إلى مقياس الروضة، وصلى لله هنا ودعا، وأمر القضاة الأربعة أن يبيتوا الليلة بالروضة ويقرءوا القرآن، فتأذن الله للنيل فوفى.

الشاعر: لقد كان في هذا الرخاء إغراء للسلطان، فأمعن في نعيمه وملاذه، وبالغ في إظهار عظمته ومجده. وشغل الناس بمواكبه وأسفاره. لست أنسى ما حييت من لياليه وأيامه، ليالي المقياس وأيام الأهرام. . كم من يوم فيه أرض الروضة وزار المقياس وأقام ردحا في قصره هناك. لكن كل ذلك لا يقاس بيومه في جمادى الآخرة من العام المنصرم، يوم انحدر إلى المقياس وطلع إلى قصره، ودعا إليه أمراء السلطنة على بكرة أبيهم، مع جم غفير من الجند، واستقدم قضاة الشرع الأربعة، وعددا من أعيان الدولة، وموظفيها، واجتمع بأمر منه، عشرات من القراء والوعاظ. فقرءوا لهم. - أما القصر فقد بدا شعلة من ضوء، انتشرت قناديل الزيت وضيئة مضيئة، وحمائل الشموع ألاقة براقة، بين حجرات وردهاته وشرفاته، ومن حوله. وأوقد مسجد المقياس ومنارته وأرسى (الغيليون) وعلى صواريه علقت أمشاط القناديل. - هذا في الروضة، أما الشاطئان تجاهها، وما قاربهما من دور، فقد فاضت فيهما الأنوار، حتى اتصل الضوء بالضوء، واختلط الشعاع بالشعاع. وعلى الشاطئ تجاه الجيزة ضربت قبب للأمراء، وخيام للجند، وبسط القاضي محمود بن أجا كاتب السر مأدبة حافلة للسلطان وأضيافه، أنفق في إعدادها سبعمائة دينار. وهناك في أرجاء الروضة وعلى مقربة من القصر، وبعد أن أدى السلطان صلاة العشاء جلس فوق سطح القصر، وانطلقت أسهم النفط في الفضاء، وبدأت ألعابها النارية الرائعة تملأ الجواء، - وكان النفط قد جئ به من القاهرة مزفوفا. . - كانت الليلة ليلة البدر، وشعاعه الفضي مشفق على قناديلنا وشموعنا لهذا التحدي. وكل ذلك تنعكس صورته في مرآة الماء فتتضاءف بهجته ورعته في العيون. ولا تسل عن الألوف الحاشدة من الجماهير على الضفتين. . . كانوا سطورا سطوراً على صفحيتهما، ونقطا نقطا بين أقواس الزوارق في رقعة اليم. .

أما أيام الأهرام فقد استطعت خلالها أن اندمج في عداد حاشية الأمير الكبير (طومان باي) الدوادار، وأن أصحبه أثناءها في رحتله مع السلطان، فشهدت عن كثب نزوله ورحيله.

ص: 49

والأمير طومان باي بقية صالحة من خلاصة الأمراء الشجعان الذين شهدت البلاد منهم مواقف نبيلة جليلة. ألا رحم الله، ازدمر الدوا دار، وقرقماش الأنا بكي، وطرا باي رأس نوبة النوب، وبارك لنا في طومان باي الدوا دار الكبير، وسودون العجمي أتابكي الوقت. . . إنه رجل طيب كريم. .

المستوفي: أجل! إن سودون رجل طيب القلب كريم. . ولهذا استضعفه السلطان وأنقص من إقطاعه مائتي فدان. وقبل ذلك سلخ منه أراضي يقدر ثمنها بنحو عشرين ألف دينار. وكذلك صنع مع بعض الأمراء. . .

الشاعر: ربما. .! وقد أقمنا طيلة أيام الأهرام كأننا نسبح في أحلام. . في أواسط ذي القعدة نزل السلطان من القلعة في ركب حافل يتقدمه الأمير طوماي باي، وعدد كبير من الأجناد بخيولهم ذات السروج الذهبية، وكثير من الأمراء، منهم أقباي الأمير أخور الثاني، وكرتباي وإلى القاهرة الجديد، وجم غفير من الخاصكية والسلاحدارية. وغطى السلطان رأسه بتخفيفته الصغيرة. ولم يلبس التخفيفة الكبرى ذات القرون. واتجه ركبه إلى اطفياس مارا بالصليبة، ثم يمم شطر الأهرام فنصب له هناك وطاق فخم. وشمر الطهاة ومدت الموائد الحافلة، ثم غنى المغنون بأصوات تشيع الطرب في النفوس البائسة، ومعهم آلاتهم وأعوادهم، ومنهم محمد بن عوينة وجلال السنطيري والبوالقة وأبن الليموني.

كان الجو رائعاً والسماء صافية، والهواء جافاً معتدلاً لا يغري بالتمتع، وبعد يومين رحل السلطان إلى الفيوم لتفتيشها ولإصلاح جسورها، وبخاصة جسر اللاهون، وفرض على المقطعين بها ضرائب للإصلاح، واختار لمباشرة هذا العمل الأمير أرزمك الناشف. .

أما نحن فقد أقمنا في سفح الأهرام ريثما يعود السلطان وقد عاد محملاً بهدايا لا تحصى قدمها إليه مشايخ العربان واعيان البلاد منها آلاف الدنانير، ومئات من الضأن والخيل والبقر وأقفاص الدجاج والأوز، ولا قاه الخليفة المتوكل على الله، بدهشور لأنها بلدته وقدم إليه كثيراً من عتاق المهار، وسمين الغنام والأبقار والأطيار، وقدوراً من العسل وجراراً من اللبن. . .

ولما بلغ السلطان وطاقه خف إليه كثير من الأمراء والعلية والقضاة فاحتفوا بمقدمه، ومن ثم أخذ يعيد عهد الأندلس مرة أخرى. .

ص: 50

ثم أذن بالعودة إلى القلعة، فمرر ركبتيه بالمقياس أولاً، ثم نظم هذا الركب نظاماً حافلاً لم يرزقه ملك سواه. مشى رءوس النوب، وجمع حاشد من الخاصكية. وعلى مقربة منهم الأمراء المقدمون وغيرهم، وأعيان المباشرين. وقاضي قضاة الحفية عبد البربن الشحنة. ركب هؤلاء جميعاً جياداً مطهمة مسرجة بالحرير مزدانة بالذهب، ومعهم بعض الضيوف من أمراء العثمانيين وغيرهم، وركب أربعة من الأمراء هجناً، وعلى جانبيهم أفيال كبيرة كانت قد أهديت إلى السلطان وعليها البركستوانات - السروج - المخملة الحمراء، وسار الركب تصحبه ألوان من الموسيقى، ناسلاً من شاطئ النيل عند مصر العتيقة إلى الصلببة، حتى بلغ القلعة. . والناس فيما بين هذا وذاك تخب في بحر من الأنس لا ساحل له، وتموج في يم من الفرح لا يعرف مداه، وهي تضج للسلطان بالدعاء. . .

في تلك الأيام ملأت عيني منه، وشاهدته بنفسي، طويل القامة غليظ الجسد ذو كرش كبير. . أبيض اللون مدور الوجه، مشحم العينين، ضخم الصوت مستدير اللحية، هيب أنيق الملبس يحب الطيب ويؤنس جليسه. . . ويقال إنه أهدى إلى أمرائه ومماليكه وأصدقائه أثر وصوله كثير من الهدايا.

التاجر: لقد كدت تصبح من حزب السلطان يا شهاب! لقد أغرتك منه تنقلاته اللاهية وفتنتك أسفاره الماجنة، ما بالك تقص قصته وأنت بها لهج، وعليها حدب، وبحديثها معجب تياه. . .؟ ألا إن صلات الأمراء وهبات العظماء لتعمى الوطني أحياناً عن أن يبصر آلام أمته. . .

الشاعر: إن أسفار سلطاننا إلى أطراف مملكته لتفتيشها أو تفقد أحوالها، وإصلاح مرافقها، سياسة رشيدة، ولعل الغوري أراد أن يبدو في ثوب من العظمة البالغة في سفره إلى الأهرام والفيوم، لأنه أول أسفاره، وذلك أيضاً لكي يبهر عيون الرعية ويكبر في قلوب الأعداء. .

أما أنا فأحب المتعة والأنس، فلا تستكثرهما مرة على رجل مثلى عاش طول حياته كليم القلب، معمور الفؤاد. .

التاجر: لا تنسى يا شهاب الدين أن ذلك المال الذي ينفقه السلطان على ملاذه، ويفرقه على أمرائه وأصدقائه، ويغدق منه على مماليكه، هو عرق الأمة المتصبب وتجمع تبرا وتجمد

ص: 51

ذهباً. وهو نتيجة مصادارته الظالمة لأموال الناس. احتازه أعوانه منهم عنوة. . . وتركوهم صادين شاكين باكين يكتمون الشكوى في صدورهم، وتكتبون البكاء في مآقيهم. . . وإن يكن اللهو ضرورياً فبمقدار، وماذا يجدينا نزول السلطان إلى قبة يشبك، أو مواكبه في الميدان، أو سموه بالمقياس، أو لعبه الكرة على الخيل، أو تفرجه وبصراع الفيال ونطاح الثيران وسباق الكلاب ونهاش الصقور، وسماع البلابل، إذا كان العثمانيون والصفويون واقفين له والمصريين بالمرصاد. .؟

ألا تحفظ قول الشاعر:

ملك يعيش كحالم في نومه

لاه بطيب العيش في أحلامه

والبؤس خيم في الرعية لا ترى

فيها مكانا كف من آلامه

وغدا يرى أعداءه من حوله

فيفيق رعباً بعد طول منامه

لهفان يبحث عن بقية حلمه

ويد العدو تحول دون مرامه

لهفان يبحث ثمالة كأسه

محطومة كرها على أكمامه

والملك يمحوه النعيم وإنما

يبقيه هذا من صمصامه

الشاعر: صدقت! وقد خاطبتني من الناحية التي تهتاج قلبي؛ غير أني رأيت لسلطاننا الغوري محاسن أحببت أن تشاركوني فيها وفي تسجيلها، على طريقة شيخنا ولي الدين.

ولي الدين: الغوري سلطان كريم القلب جم المحاسن يميل إلى إحقاق الحق، حسن الإيمان، أديب عالم؛ يناقش العلماء والفقهاء. بر متواضع آمر بالمعروف ناه عن المنكر، يهش للعظة ألم تسمعوا بنزوله إلى قبر الأشرف قابتباي، والعادل طومان باي، وغيرهما، فقرأ الفاتحة وفرق الصدقات. .؟

علم الدين الخياط: وأين هذا يا مولانا من جلوسه بالميدان، وقد تفتح ورده الأبيض الجميل، فطفق يرمي كل أمير بوردة، فيلثمها ويقبل له الأرض. .؟

ولي الدين الفقيه: هكذا يا أخي تكون حياة السلاطين والعظماء. لابد فيها من هذا النبل في المعاملة، وهذا التعاطف السامي والأدب الرفيع، وإلا أصبحت هي وحياة السوقة سواء بسواء، حياة جافة جافة يابسة لا تشرف أمة ولا ترفع شعباً.

الخياط: ألا تشعر يا مولانا الشيخ أن مثل هذه الحوادث غفلة عن الزمان وتقلباته وبطأ عن

ص: 52

الحيطة له؟

المستوفي: كثير من الناس يظنون في السلطان الغفلة، والواقع غير ذلك. فإننا نراه دائماً على علم بكل صغيرة وكبيرة يقظاً لكل ما يدبره الأمراء في الخفاء، محتالاً على الجنود وفتنهم. ويقال إن له عيونا خفية منبثة في كل مكان، تنهي إليه أخبار الحوادث، ومنهم محمد بن سعيد الذي حظي عنده وصار يجالسه على مرتبته ويلعب معه الشطرنج.

التاجر: لو بذل السلطان جهده في تهذيب جنوده، وتوحيد قلوب أمرائه، وتجديد آلات حربه، والاستعداد لكل طارئ لحمدنا له بذله ويقظته وكبنا ألسنة له لا عليه. لقد سمعت أن بعض الأحكام عطل تنفيذه لعدم توقيع السلطان عليها لعكوفه على اللهو واللعب.

ولي الدين الفقيه: أنا لا أمقت من أعدائنا إلا هؤلاء الفرنجة أما الصفويون أو العثمانيون فمهما يكن من شيء فهم مسلمون، وقلوبهم - يغير ريب - أدنى إلى الرحمة والعطف. أما الفرنجة الصليبيون فلا تجمعه بنا جامعة جنس ولا تجمعه بنا جامعة جنس ولا لغة ولا دين، فأحرى بالسلطان أن يوجه جهوده ضدهم.

الشاعر: يا مولانا الشيخ! العدو عدو، ولو كان مسلماً مثلك، ما دام معتديا على وطنك. يا مولانا! إن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. هذه أحاديث شريف هجر المسلمون اليوم العمل بتعاليمها ولهذا أصبح بعضهم لبعض عدواً، فسواء لدى أعز الصوفي البيرة أم أغار العثماني على حلب، أم عبث الفرنج بتجارتنا في بحر الهند. فكل هؤلاء أعداء الداء ينبغي أن يكافحهم السلطان، ما داموا يقتلون منا ويثخنون فينا ويطمعون في ديارنا.

المستوفي: لقد أرسل السلطان قريبه (محمد بيك) إلى ناحية (الجون) ليدبر أخشاباً لصناعة السفن ليمد بها تجريدة الهند، ومعه جماعة من الجنود، فوقعت بينه وبين الفرنجة هناك وقائع حالفه فيها النصر، وغنم ما كان لديهم من السفن. ولكنهم تربصوا به حتى قتلوه وأبادوا جنده وغنموا سفنه. وكانت ملأى بالذخيرة - أما تجريدة الهند فإن السلطان لا يفتأ يبعث إليها المدد تلو المدد، رغم ما تصاب به من هزائم، مستحثاً ملوك الهند وأمراءها على معونتها. وقد عاد (حسين) أمير الحملة وقص على السلطان أنباء الفرنجة وعبثهم، وما سواحل الحجاز وبلاد العرب والهند من قلاع وأبراج لتأمين السفن. وكان في صحبته قاصد

ص: 53

من الملك المظفر شاه أبن الملك محمود شاه صاحب كنباية، فقدم إلى السلطان هدايا لا تعد ولا تحصى، وطلب إليه أن يكتب له الخليفة العباسي المتوكل على الله (تقليدا) بولاية سلطانه مكان أبيه، بعد وفاته.

الخياط: وإسماعيل الصوفي؟ ألم يبلغكم شيء من أخباره؟ لقد توالت قصاد هذا الماكي على بلادنا. ولا أخاله إلا يزداد قوة، وطمعا بعد طمع.

المستوفي: لقد أغار جنده مراراً على البيرة، وانتصر على (أزبك خان) ملك التتار، ثم أرسل رأس هذا الملك، إلى السلطان كأنه يهدده. واستعدى الفرنجة سراً على ممتلكات السلطان. ولما استيقن السلطان من سوء نيته، أخذ الحيطة لنفسه، ومنع قاصده مدة من الاختلال بالناس، وأخيراً جاءه من لدن قاصد جديد يخمل هدايا نفيسة، فلم يأذن له السلطان ولا سيما أنه قدم إليه رسالة من ملكه بها أحاديث لا توجه إلى السلاطين. وقد أغلظ له السلطان في الرد، ولبث يترقب الفرصة من بعد حتى وافته الأخبار بهزيمة. . منكرة، مني بها الصوفي على يد أعدائه من ملوك التتار.

الشاعر: من أعجب ما حدث بمناسبة الحديث عن الصوفي أن أرسل هذا الشاه إلى السلطان ومعه رأس أزبك فأن ومكاتبه فيها هذان البيتان:

السيف والخنجر ريحاننا

أفِ على النرجس والآس

مدامنا من دم أعدائنا

وكأسنا جمجمة الرأس

ففهم السلطان مغزاهما وما ينطوي تحتها من تهديد ووعيد ونشط كثير من شعراء مصر للرد عليه فقال الناصري محمد بن قانصوه بن صادق:

العلم والحلم لنا حلة

حيكت مع القوة والباس

وسنة المختار طرز لها

وذكرنا تاج على الرأس

وقال على الغزي من أبيات:

نحن أسود الحرب غابتها

رماحنا للطعن والباس

وخيلنا تسرع في سوقها

شدت لحرب المعتدي القاسي

وقال ناصر الدين بن الطعمان:

أسد الوغى فرساننا كم سقت

كأس المنايا باغيا قاسى

ص: 54

ومن يزغ عن أمرنا طاغياً

نذقه مر الباس والكأس

وهكذا تبارى نحو مائتي شاعر في معارضته بيتي الصوفي، ويقال إن السلطان لم يعجبه شيء من شعرهم. فرد ببيتين للصفي الحلي، هما:

ولي فرس للخير بالخير ملجم

ولي فرس للشر بالشر مسرج

فمن رام تقويمي فإن مقوم

ومن رام تعويجي فأني نعوج

ولي الدين الفقيه: إن هذا السلطان الجركسي، غريب في بابه، فهو - فضلاً عن مميزاته - محب للآداب عربية وتركية وفارسية، على ما قيل. وينظم الشعر بالعربية، ومنذ أمد أمر بترجمة الشاهتامة الفارسية شعراً تركيا.

التاجر: غير أننا نلاحظ أنه، حتى اليوم، لم يخرج في غزاة. بخلاف ما اعتادته البلاد من سلاطينها السالفين.

الشاعر: وهل - إذا خرج السلطان الغوري في غزاة - تقدم إليه ما يحتاج إليه جنده من المعونة؟

التاجر: إن الرعية اليقظة تقدم لسلطانها في جهاده أعداء البلاد ما يحتاج إليه من معونة. وينبغي لها أن تؤدي ما يفرض عليها وقت خروجه إلى الجهاد، وحسبه وحسبها أن الأقدار ألقت إليه زمام الدفاع وعن حياتها، ومع هذا فلو قيض لي أن أكون جندياً في صفوف جيشه، لكان في ذلك بلوغ الآمال وإدراك المنى. . . وأنا الرجل العامي الذي لم يرزق مهارة الأتراك وفتك العربان. . ما أحبها إلى القلب فرصة وما أشهاها، تلك التي تتيح لي أن أذود عن حياض بلادي. . أي صديقي! أقرأ التاريخ وقلب صفحاته، فقد علمت مما تهادي إلى من أخباره أن هذا الشعب المصري الوديع المتغافل، وثار وهب، ووقف وقفات حاسمة مروعة بجانب سلاطينه. . .

الشاعر: لا أدري لماذا يحدثني قلبي بأننا سنساق في يوم قريب إلى قتال، وأنه سيكون بين المقاتلين موقف. .

المستوفي: أخشى ما نخشاه، هو هؤلاء العثمانيون، قوم خلقوا من المكر والدهاء، ورزقوا الحيلة وبعد النظر، وولى أمرهم منذ أمد قريب سلطانهم سليم، ويقال إنه أصغر أخوته، ولكنه عجول إلى الفتك، طموح إلى توسيع ملكه، شديد الحيلة محكم التدبير. وقد بدأت

ص: 55

الوحشة بينه وبين الصوفي، ولكنه يصانع سلطاننا بالكثير من الهدايا القيمة، ولقد عاد من لدنه الرئيس حامد المغربي، وهو السلطان إليه، ومعه عدة مكاحل - مدافع - نحاسية، وكميات كبيرة من الحديث والخشب والحبال وغيرها لصناعة السفن. فبعث إليه سلطاننا الأمير أقباي الطويل ليهنئه بالملك وليدعم بينها أواصر المودة. . والعاقبة يعلمها الله.

الفقيه: وعلى ذكر المكاحل والسفن، بلغني أن السلطان مني بإنشاء جملة منها، وذهب مراراً إلى مدفن الملك العادل ليجرب هناك مكاحله الجديدة.

الشاعر: يعجبني منك يا مولانا ولي الدين، وأنت رجل فقيه اهتمامك بالشئون العليا، وهذه الروح الحماسية القوية الوثابة حتى لأخالك في سن العشرين. .! وكان أحرى بمثلك أن يعني بمجالس الفقه والحديث، ويتردد على المساجد ليسمع من شيوخ العلم أو يفيد طلابه أو يجمع أخبار العلماء، أو يلوذ بأبواب القضاة. . .!

ولى الدين: حق يا بني ما تقول. إلا أن امرأ يصحب قوما مثلكم، لجدير أن يكون على طرازي. ومع هذا فلا زلت أحقد أقعد بين طلاب العلم فأفيد وأستفيد. وأعود إلى مجالس العلماء ومحافل القضاة ومن على شاكلتهم، ولكن أشهى المجالس إلى نفسي مجلسكم، وأحلى الأحاديث إلى قلبي حديكم. .

الشاعر: وعلى ذكر القضاة. . هل جاءك نبأ ما حل بقضاتنا الأربعة، من جراء حادثة (المشالي) وما تم في هذه الحادثة؟

ولي الدين: لدى أخبار منها متقطعة، وأنباء يشيع فيها الكذب. فهل لديك منها نبأ صادق يا شهاب الدين؟

علم الدين الخياط: لقد كدت أعرف تفاصيل هذه المسألة أمس. لولا عارض عرض. . .

غرس الدين التاجر: لو أنصفت لأخبرتنا بدخائلها.

شهاب الدين الشاعر: إن الرواية لم تتم فصولاً. . وسأحدثكم عن أسرارها في لقائنا القادم، فقد طال بنا المقام، فيها. .

محمود رزق سليم

ص: 56