الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 962
- بتاريخ: 10 - 12 - 1951
ماذا بعد هذا؟
الأمر بيننا وبين الإنجليز يجل عن الكلام والكتابة وما جدوى اللسان العربي في السمع الأعجم؟ وما غناء القلم الأجوف في الفؤاد المصمت؟ هذه دماؤنا تهرق، وأرواحنا تزهق، وأرزاقنا تنهب، وشوكتنا تستلان، وكرامتنا تمتهن، وعزتنا تستذل، وأرضنا تحتل، فهل يدفع عنا بعض أولئك أن تخطب حتى يجف الريق، وأن نكتب حتى ينفد المداد، وأن نحتج حتى تنقطع الحجج؟ إن الشعب الذي لا يقابل التعدي إلا بالاحتجاج، ولا يعارض التحدي إلا بالشكوى، ساقط من حساب هيئة الأمم المتحدة، لا تقيم له وزناً، ولا تقدر له قيمة
إن الإنجليز في تاريخهم المظلم المجرم لم يصيخوا إلى صوت الضمير، ولم يحفلوا بشرف الوفاء؛ إنما هم قوم نفسيون عمليون لا يقدمون غير المنفعة ولا يسلمون إلا بالواقع. فإذا وصفناهم بما ميزهم به الله من نذالة النفس وسفالة الطبع وبلادة الحس ولؤم السياسة وخبث النية، قالوا في صفاقة الخنزير ودناءة الكلب: ليس هذا في الموضوع! أجيبوا عن العمل بالعمل، وردوا على القوة بالقوة!
كنت في غلواء الشبيبة حين غضبت مصر غضبتها الأولى على هؤلاء البرابرة الحمر سنة 1919؛ وكنت يومئذ مدرساً بالمدرسة الإعدادية الثانوية؛ والإعدادية والحقوق كانتا أول المدارس التي أيقضت وعي الأمة، وأوقدت نار الثورة، وقادت كتائب الجهاد، ومنهما تألفت اللجنة التنفيذية للطلبة. وكانت الحال التي أجدَّنها الحماية المفروضة تقتضي الكلام والكتابة. كان السلطان والحكم والجيش والشرطة والصحافة في أيدي الإنجليز، فلم يكن لنا من سبيل بين الضغط والقهر والإرهاب إلا أن نجتمع في المساجد والمعاهد نقول في العلن ما لا ينشر، ونكتب في السر ما لا يقال. وكان نصيبي من الجهاد المقدس أن أحبر المنشورات السرية لمن يوزع؛ وأن أحرر الخطب العلنية لمن يلقى. ثم زادني الله نفساً في أجلي فأنا أشهد اليوم غضبتنا الثانية تتسعر في الشباب والشيب، وتتنمر في الشعب والحكومة، وتتوغر في المدن والريف، فلم أجد حاجة إلى أن أقول، ولا ضرورة إلى أن أكتب. وماذا يقول القائل والوعي يقظان والرأي جميع؟ وماذا يكتب الكاتب والشعور محتدم والعزم راسخ؟ كل يد تطلب السلاح، وكل نفس ترجوا التضحية! حتى أنا وقد نفيت على الستين أصبحت أجد القلم في يدي هناءة لا تنفع، والكلام على لساني هراء لا يفيد. إنما أود - وما تغني الودادة - لو أكتب بالسنان وأتكلم بالمدفع!
إن اللغة التي يفهمها طغام الاستعمار، جعل الله حروفها من حديد وكلماتها من نار. فدعوا الشعب يا أولياء أمره، يعبر للعدو عن غضبه بهذه اللغة. وإياكم أن تقيموا السدود في وجه السيل، أو تضعوا القيود في رجلي الأسد، أو تلقوا الماء في فم البركان، فإن غضب الشعوب كغضب الطبيعة، إذا هاج لا يُقدع، وإذا وقع لا يدفع
لقد حملنا حتى فد حنا الحمل، وصبرنا حتى ملنا الصبر! والصبر في بعض الأحيان عبادة كصبر أيوب، ولكنه في بعضها الآخر بلادة كصبر الحمار!
أحمد حسن الزيات
موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية
لحضرة صاحب العزة الدكتور أحمد زكي بك
(تتمة)
المساواة في الأصول:
ومن المساواة، المساواة في الأصول؛ أو المساواة رغم الأصول. والمساواة رغم الأصول صرخة في الناس قديمة؛ وهي صرخة في الشعوب العربية قديمة معروفة، بل هي لم تحتج في العرب إلى صراخ؛ ذلك أن هذه المساواة في طبعهم، وهي مستمدة من بدوهم، فالنبي: يا محمد، والخليفة: يا أبا بكر ويا عمر. لم يكن فيهم صاحب العزة أو صاحب النيافة أو صاحب الفضيلة. كانت العزة فيهم وكانت الفضيلة أصلا، فهي لا تحتاج إلى تنويه. وكانت مدارسهم مساجد مفتحة الأبواب لكل طالب، فلم تكن فيهم أكسفورد ولا كمبردج. وكان أصل المرء لا يقف به دون أن يصل إلى أسمى المراتب. فالمجوسي بل من كان أبوه مجوسيا يصل إلى أكبر مراكز الدولة؛ ومن ذلك البرامكة. وبائع الحرير يوجه همه إلى الشريعة فيبلغ بها عند الناس المكان الأرفع، فيحترمونه ويجلونه ويتبعونه، فذلك أبو حنيفة النعمان. والحياك يلد ولداً لا يجد سبيله إلى العيش إلا من سقى الماء يحمله في جامع عمرو، فيصله ذلك بالعلماء فيسمع منهم ويحفظ عنهم، فإذا به الشاعر الكبير الفحل: فذلك أبو تمام. والشعب العربي يألف كل هذا ولسان حاله يقول: الكل لآدم وآدم من تراب
ويبقى هذا الطبع في الشعوب العربية إلى عصرنا هذا، في البدو والريف، وفي أكثر أهل المدن، إلا جماعة من هؤلاء أخذوا عن عهود من الحكم لا يباركها الله، نعرة لا تأتلف والطبع الشرقي العربي أبداً. وإلا جماعة قليلة أخرى رفعها المال رفعاً، وحط بها الجهل، وهي تأبى أن تنحط؛ فاتخذت من الترفع ذريعة إلى الرفعة، وحاطت نفسها بزخرف من زخارف الحضارة كاذب، لعل في بهرة الظاهر ما يغني عن استجلاء الباطن
والشعوب العربية لم تضيق بغير العربي، فتبغ فيهم الكثير من الأعاجم. ولم يضيقوا بغير المسلم، فكان الأخطل من بين المقربين عند خلفائهم: خلفاء بني أمية، والدين جديد وقلوب المسلمين يقظة. واليهود وجدوا بين العرب ملجأ لما ضاقت بهم سبل الأرض. والسود! لم
يضق أحد بالسود ولا بالصفر ولا بالحمر، ويلقى الأبيض الأسود إلى يومنا هذا فلا يكاد على اللسان العربي، أن يلحظ سواده
ففي المساواة بين الناس رغم حقارة الأصل، وعلى اختلاف المولد من الأرض، وعلى اختلاف لون الجلد، ليس في المدينة الحاضرة درس واحد تلقيه على الشرق، بل إن دروس الشرق للغرب في ذلك كثيرة نافعة
المساواة بين الرجل والمرأة
ونوع آخر من المساواة جاءت به المدينة الحاضرة، تلك المساواة بين الذكر والأنثى. وتلك المساواة على المجتمع الغربي طارئة. فحظ المرأة في شرق وغرب كان سواء. والرجل كان دائماً، في شرق وغرب قواماً على المرأة. والمرأة في المجتمع الغربي إلى اليوم، تتعهد عند الزواج على يد القس، بالطاعة لزوجها. ولكن معنى المساواة أخذ يتغلغل إلى كل شيء، فبلغ فيما بلغ علاقة ما بين الرجل والمرأة. وتعلمت المرأة الغربية فوجدت نفسها كفيئه للرجل فرفضت قيام الرجل على المرأة. ومنهن من رفضنه شكلا وانتهين. ومنهن من رفضنه موضوعاً. وخرجت المرأة تعمل كما يعمل الرجل، وتكسب ما يكسب، فأغراها استقلالها في الكسب بطلب استقلالها عند الزواج. والحق أن قومة الرجل على المرأة التي فرضتها الأديان ما كانت ترمي إلى ظلم ولا إجحاف، وما كانت تمنع من تعاون وتفاهم. ولكن البغي في الناس قديم. وقد عصم الحب المرأة من بغي الرجل ما دام، وعصمت الذرية الناتجة منها؛ وعصمت حاجة الأسرة إلى السلام وضيقها بالنزاع الدائم والقلق المتصل. ولكن كان من الرجال بغاة لم يكن للنساء منهم من عاصم. وإني، في هذا العصر الحاضر، وعلى الثقافة المنتشرة في الناس بين رجال ونساء، لا أكاد أتصور رجلاً مثقفاً، تأتيه زوجته، وهي امرأة مثقفة، تقول له بيني وبينك خلاف خطير، لا أرضي لك أن تكون فيه خصماً وحكماً، فأنا أطلب حكم الله فيه على أيدي قضاة الله، في محكمة من محاكم الله، لا أستطيع أن أتصور رجلاً تأتيه امرأة تقول له هذا ويقول: لا. وذلك أكبر ما تطلبه المرأة من مساواة
وتطلب المرأة المساواة السياسية، وتطلب أن يكون لها صوت كصوت أكثر نساء الغرب، فيقال لها إنك لا تفقهين في السياسة. وينسى القائلون أن السياسة سياسة دولة، فهي إلى
جانب أنها سياسة حكم، هي سياسة مال، وسياسة مجتمع، وسياسة أسرة، وسياسة ضرائب أكثر من يشقى بها المرأة، فلابد أن تقول فيها وأن تقول سديدا. ثم كن من الرجال يفهم تلك السياسة التي يريدها القائلون بحرمان المرأة. إن حقوق الناس فيما يتصل بالسياسة على أوسع معانيها يجب أن يكون مناطها، لا أن هذا ذكر وتلك أنثى، ولكن إن هذا أو هذه يعقلان أو لا يعقلان، وكم حظهما من جهل ومن عرفان
وتطلب المرأة المساواة في العمل. وعمل المرأة لا شك في البيت. وهكذا هي الكثرة الكبرى من نساء الغرب. إن المرأة لا تستطيع أن تلد وتربي أطفالها وتكسب خبزهم في وقت واحد إلا أن تضطر الضرورات. والذي دفع بنساء العرب أن تعمل كما يعمل الرجل إنما هي الضرورة وقسوة العيش. إن المرأة العانس التي لا رزق لها إنما تأكل من عملها أو تأكل بثديها أو بغير ذلك، وليس من حق أحد أن يقول لها لا تعملي إلا أن يضمن لها رزق الحياة. والقول عندي أن تفتح أبواب العمل للنساء جميعاً، ليأخذ كل من الأعمال ما يصلح له، وعندئذ تعمل قوانين الحياة عملها فلا يكون منها إلا الخير. إن الذي يغري النساء يدق الأبواب، ودقها عنيفاً، أن الأبواب مغلقة. وللنساء في جبلتهن ما يكفي لرد الكثرة الكبرى منهن إلى وظائفهن الأولى التي تخصصن لها في الحياة، تلك إيجاد الحياة في ظل الحب ورعرعتها من بعد إيجاد، وإسكان هذه الأرض
وكان من مساواة الرجل بالمرأة في الغرب؛ وأن وجدت المرأة نفسها تهدر من الحرمات ما أهدر الرجل، وهي مساواة في سبيل الشيطان لا يرضاها إنسان، ولكن رضيها الغرب لشدة إحساسه بمعنى العدالة والمساواة حتى في القبيح الأقبح من الأمور؟
المساواة في فرص العيش
ومن المساواة: المساواة في قرص العيش وطلب الأرزاق، وقد نسمي هذه الديمقراطية بالاقتصادية. وللعدنية بالحاضرة فيها أساليب عدة منها الرأسمالية ومنها الاشتراكية وهي صنوف. ومنها الشيوعية. أما الشيوعية فلسنا ندريها، ومن أجل هذا ننحيها. وأما الرأسمالية فشر إذا ما تركت في أيدي فئات من رجال لا يحركهم بحكم الطبع إلا الأثرة وإلا الهوى. وإلا الرغبة في زيادة المال أضعافاً. وزيادة ما يأتي به من جبروت. ويصنع منهم موقفهم من مناهضة الشعب عصابة تقوم فيه، تبيع حقوقه وتشتري وهي بعيدة عن
ريبة الشعب لأنها بعضه، وهي ترضى دائما أن تختفي وراء الحاكمين، ما بقيت في أيديها مقاليد الأمور. وهؤلاء إن كانوا شراً على أمنهم، فشرهم على علاقات ما بين الأمم أكبر.
ولكن الرأسمالية غير ذلك إذا كانت رأسمالية شعوب، وكان لكل فرد من أفراد الأمة فيها نصيب. يعملون جميعاً للإنتاج، ويقفون جميعاً صفاً واحداً عند التقسيم. فهذه هي الاشتراكية وإليها يجب أن يتجه الفكر العربي، وأن يتمسك بها مبدأ. أما إنفاذها فدونه الجهاد المر الطويل
المساواة في التعليم وفرصه
ومن المساواة التي ابتدعتها المدينة الحاضرة، المساواة في التعليم وفرصه. بل هي جعلت التعليم إجبارا لبضع سنين. وسمته إلزاميا، وسمته أوليا. والتعليم على الإجبار لا يكون إلا مجاناً، فجعلته مجاناً
وكان التعليم قبل ذلك في سائر الأمم، وفي سائر المدنيات وعلى القرون، مقصوراً على فئة قليلة من الناس. ثم أراد الله بهذه الفكرة الجديدة؛ فكرة نشر التعليم وتعميمه، أراد لها أن تنبت في الغرب من أوربا، عند انشقاق الكنيسة. رأى المنشقون - البروتستانت - أن خلاص الشعب الديني لا يكون إلا بالوصل المباشر بينهم وبين الله عن طريق إنجيله. وإذن لا بد من القراءة. وإذن لا بد من التعليم، فأخذوا ينشرون التعليم وعن طريقه يبشرون. وقام الكاثوليك يعارضون نشراً ينشر وتبشيراً بتبشير، وفتح المدارس بفتح المدارس. وتألف اليسوعيون جماعات كان لها في هذا الميدان بأس جديد. وجاءت الديمقراطية فرأت أن تنشر التعليم، كما رأت الكنيسة بشقيها، ولكن لغير تلك الأسباب. رأت الكنيسة نشر التعليم بين الشعوب ليكون سبيلهم إلى السماء أهدى؛ ورأت الديمقراطية نشر التعليم لتكون الهداية على هذه الأرض. وتنازع الطرفان أمر التعليم. تنازعته الكنيسة والدولة. وغلبت الدولة آخر الأمر
وجاء القرن التاسع عشر، واكتمل، فإذا التعليم قد عم في أكثر الأمم الناهضة
ولا أظن أن أحداً يريد أن يسألني ما موقف الفكر العربي من هذا الكسب الجديد من مكاسب المدينة الحاضرة
إنه ليس دليل على حاجة الشرق العربي إلى التعليم، يكون إلزامياً، ويكون عاماً، كمحاربة
المستعمرين له في كل أمة يستعمرونها. ودليل آخر، محاربة الرجعيين له، والمستحوذين على السلطان من كل نوع، في الأمة الواحدة. إن ذوي السلطان إذا لم يعصمهم الله يخشون الشعوب، ويخشونها متعلمة. وهم يحاربون التعليم علانية، إن استطاعوا، ولكن أكثرهم يحاربونه خفية. وأنظر لبعض الأمم العربية لأرى كم بها من تعليم فلا أكاد أجد شيئاً. وأنظر لبعضها الآخر لأرى من أي وقت في التعليم بدأت، وإلى أي شيء قد انتهت، فأقف وأعجب. إن التعليم قد يتخذ في تخذله أحسن الدعوات، ومن هذه الدعوة إلى الروية، فإلى البطء، لأن يغيرهما لا يكون إحسان. إن شر ما يخشاه الرجعيون، وأهل السلطان، من التعليم، أن المتعلم يأبى الرجوع، ويأبى العرى، ويأبى العمل إلا مأجورا حسن الأجر. وتتفتح عينيه بالذي يصيبها من نور وتتفتح نفسه للطيبات
إن التعليم عندي مفتاح كل مغلق من مغاليق الحياة، في شرقنا هذا العربي. ولو أني خيرت بين أشياء كثيرة يعطوها العرب، ما اخترت المال، ولا اخترت الاستقلال، وأنما أختار التعليم يشمل ويعم، فهو الوسيلة إلى المال، وهو الوسيلة إلى الاستقلال، وهو الوسيلة إلى فتح كل باب مغلق يتدفق منه الخير كثيراً وفيراً
المدنية وشئون من الحياة أخرى:
بقيت أشياء أخرى من أشياء هذه المدنية الحاضرة، تتعلق بأسلوب العيش: أسلوب الغذاء، وأسلوب الكساء، وما شاكل ذلك. فهذه أشياء لا تقدم كثيراً، ولا تؤخر كثيرا، وللعربي أن يأخذ منها أو يوع. وأشياء أخرى تتعلق بالطباع والعادات وهذه ما لا تستطيع المدينة أن تفعل فيه شيئاً
معارضة المدنية الحاضرة:
هذه هي المدنية الحاضرة، وهذه أصولها. هذه هي المدنية التي أكره أن أسميها غربية، لأنها مدنية إنسانية، هدفت، لا إلى إسعاد غرب دون شرق، ولكن إلى إسعاد الإنسان أينما كان. وهدفت إلى تعريف حقوق الفرد والجماعات، وإلى تعيين الحقوق والواجبات، في أي قوم وبأي أرض. وهي مدنية، رغم يد نشأتها في الغرب، لم تصطبغ كثيراً بصبغة دينها الغالب. وأكثر مفكريها، السابقون فيها واللاحقون، وقفوا بعيدا عن الدين، تعمداً وقصدا،
وهم يفكرون
والمدنية الحاضرة، ككل المدنيات، لها محاسن ومقبح. وقد تركزت على محاسنها، وتركت القبيح. لأن القبيح قبيح في كل فكر وكل عصر، وقد تتسم المدنية بقبيح لا ترضاه، ولكنه تعلق بأذيالها فحملته معها فيما تحمل من طبائع الناس
ومن أهل الشرق من يتصلب عوده تعصبا كلما سمع بالمدنية الغربية. وحق له أن يتعصب؛ لأن الشرق شقي بالغرب أكبر شقاء ولا يزال يشقى. وسوف يشقى
ولكن الشرق إن شقي بأهل الغرب، فهو لم يشق بمدنيتهم إنه شقي بالذي في طبائع أبناء آدم من أثرة من ظلم ومن إجحاف وأحياناً من سفه وغباء. وهو قد شقي بمثل هذه الطبائع في عقر داره، ومن أهله وعشيرته وأهل السلطان فيه، فكيف بالغرباء. والشرق ينسي أن هذه المدنية تجربة يمتحن بها أهلها كما يمتحن مقتبسوها، وأن أهل الغرب في محنة منها، بالذي تأتي به من ضائقات وأزمات، ومن حروب، لأنها مدنية لم تبلغ بعد الغاية منها، وبعض أهدافها قد تحقق، وسائر أهدافها ينتظر التحقيق
ومن أهل الشرق من تباغ به كراهية الغرب إلى حد أن يرى أن يقاوم الغرب، لا ظلمه وإجحافه، واستبداده واستعباده، ولكن أن يقاومه كذلك فكرة ومدنية. وهيهات. إن المدنيات القديمة أخذ بعضها من بعض، إذا تعادلا قوة، وقام بعضها على أنقاض بعض. ولم يكن في تلك الأزمان من تقارب الناس واتصالهم كما بين أهل الأرض اليوم من قرب اتصال. إن الطائرة وهي تطوف حول الأرض اليوم، تكاد تجارى الشمس سرعة التفاف حول الأرض فكيف يقاوم الشرق العربي، على ضعفه، مدنية عارمة واقعة تحت عينيه وعند سمعه، وأخبارها أسرع إليه من بعض أخبار قومه
وما لي أقول في هذا، والواقع يقول عني فيغني؟
أليست المدنية في وصلت إلى أبعد ما خال المرء أن تصل، إلى الصحراء. ألا يوجد في صحارى العرب اليوم بقاع نحلها، فتحسب أنك حللت بحلولها من المدنية في الصميم؟ وفي المدن، في بعضها، ألست تلقى المرأة محجبة من قمة رأسها إلى قدمها، تنظر إلى الدنيا من ثقوب، فإذا خلعت ذاك الحجاب تجلت تلك من تحته آخر أزياء باريس؟ وفي مدن الشرق العامة، هل تركت هذه المدن شيئاً من المدنية لم تأخذه عنها، من أسلوب بناء، إلى نظام
مصارف، إلى برامج مدارس، إلى قوانين حكم؟
إن المدنية الحاضرة فيض غمر لا يقف في سبيله شيء إلا اقتلعه ولست أقول هذا عن تخاذل، ولا أقوله عن تسليم، ولكن أقوله لأنني أرى أن أية مقاومة مجهود ضائع، لا يكون منه إلا تأخير اليوم الذي ينتفع فيه الشرق بما أنتج الغرب، لا من مدنية غريبة، ولكن من مدنية إنسانية عالية أساسها تحرر الفكر الإنساني من قيوده، وغايتها ورفاهية الإنسان وإسعاده. وليس بها مالا يمكن تأليفه ومطالب الشرق ودينه وعاداته. والمقاومة يكون بديلا منها المساهمة. المساهمة في تخطيط طرق الحياة لأجيال من الناس مقبلة
أحمد زكي
7 - الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
دماء ودماء:
اتسم طابع الاحتلال البريطاني منذ دخول الإنجليز مصر بميل البريطانيين إلى سفك دماء المصريين
ففي دنشواي 1906 أعدم المصريون شنقا في وسط قريتهم دنشواي
وفي عام 1919 جرت دماء المصريين أنهارا. لماذا؟ لإن المصريين طالبوا بإلغاء الحماية وإعلان استقلالهم
وفي 17، 18 نوفمبر الحالي سفك البريطانيون دماء المصريين في مجزرة الإسماعيلية، وإليك البيان:
ص15 - 22 نوفمبر 1951:
في 15 نوفمبر افتتح جلالة الملك فاروق ملك مصر والسودان الدورة الثالثة للهيئة النيابية العاشرة، وألقى رفعة مصطفى النحاس باشا خطاب العرش الذي جاء فيه أن مصر قد أَلغت معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 بعد أن ضاقت ذرعا بالمفاوضات مع بريطانيا، وأن إنجلترا بدلاً من أن تسلم بالأمر الواقع (آثرت العنف والالتجاء إلى القوة الغاشمة، وقد صدمت الحكومة والشعب لهذا العدوان وان تتراجع حكومتي عن خطتها. . . ولن تلين لها قناة تحت أي ضغط أو إكراه.)
وقد تفضل جلالة الملك فوجه إلى أعضاء لجنة الاستقبال البرلمانية عند تشرفهم بالمقابلة الملكية النطق الملكي الكريم: (إن البلاد تمر الآن بمرحلة شبيهة بمرحلة 1919، إن لم تكن أشد منها وأكبر، وسنجتازها بأذن الله وتوفيقه بسلام
وإني لأهنئكم بهذا النضال، واعلموا أنه بالنضال وحده تنضج الأمم وتصل إلى المستوى اللائق بها
وإني أوصيكم بضم الصفوف، وتوحيد الجهود، وأضع يدي في يدكم أفراداً وجماعات، رأويد كل من يعمل لمصلحة الوطن. إننا نقف صفاً واحداً في بيوت الله فلا معنى لأن
نتفرق خارجها
وفقكم الله لما فيه الخير، وأسبغ من رحمته على من استشهد من أبناء الوطن في هذا الكفاح، والجنة المستشهدين.)
وهكذا وقفت مصر ملكاً وشعباً تناضل في سبيل حريتها وهي لابد بالغة ما تريد إن شاء الله
وفي يوم الجمعة 16 نوفمبر وقف معالي الوطن العظيم الدكتور محمد صلاح الدين باشا يتحدث في الجمعية العامة للأمم المتحدة ففضح سياسة الإنجليز في وادي النيل وكشف مناوراتهم الخبيثة لإطالة احتلالهم لمصر وفصل السودان عن مصر وندد بالوحشية والفظائع التي ارتكبها الإنجليز في منطقة القتال ووصفها قائلا إنها (عدوان همجي مخجل من المملكة المتحدة، وخرق صارخ للسلم العالمي والأمن الدولي، وامتهان بالغ لمبادئ الميثاق وأهدافه السامية.)
وانتقل إلى الحديث عن السودان وتحدى الإنجليز أن يخرج المصريون والإنجليز من السودان ثم يجري فيه استفتاء حر على يد هيئة الأمم المتحدة وأشار إلى مندوبهم كمن يقول (اقبلوا هذا التحدي إن كنتم مخلصين.)
وأسقط في يد الإنجليز فحاولوا منعه من الكلام فلم يستطيعوا كما لم يستطيعوا على بيانه تعقيباً
وفي يوم السبت 17 نوفمبر جاء الرد الإنجليزي على مصر ووزير خارجيتا: ففي الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم انتشرت فجأة عدة دوريات مسلحة في مختلف أرجاء مدينة الإسماعيلية ثم بدأت تطلق نيرانها في وقت واحد فقلبت أمن المدينة جحيماً مستعر النيران؛ ولم يميز الإنجليز في هذا بين المدنيين وبين رجال البوليس فسقط من الشهداء كثيرون
وفي يوم الأحد 18 نوفمبر عاود الإنجليز هجومهم الوحشي على المدينة وبالغوا في إجرامهم إلى أبعد مدى يستطيع العقل البشري أن يتصور فظاعته، فقد ظلوا يطلقون النيران على المدينة من الساعة الثالثة مساء حتى الساعة العاشرة
وفي هذه المجزرة استشهد عشر مواطنين: خمس من المدنيين وخمس من الجنود وجرح سبعة وعشرون
وقد فقد الإنجليز ضابطين وسبعة جنود وجرح أكثر من ثلاثين جندياً. ولكن أكثر من هذا:
لقد اشتركت مدمرة بريانية في ضرب الإسماعيلية وشاء ربك أن تسقط القنابل في معسكر إنجليزي وتفتك بجنوده. ويتكتم الإنجليز أنباء عدد القتلى منهم ولكن في كل يوم يعثر على جثث طافية لهم في ترعة الإسماعيلية وفي بحيرة التمساح
وفي مساء الاثنين 19 نوفمبر وقف إيدن وزير خارجية بريطانيا يتحدث في مجلس العموم البريطاني فقال (إن القومية العدوانية أو التعصب الديني أو الاثنين معاً وحاولاً إثارة الحقد والكراهية والبغضاء بين فريقين كان ينبغي أن يكونا صديقين. نعم ينبغي أن تكون مصر صديقة لبريطانيا لأن بريطانيا تقتل كل يوم من المصريين من تستطيع وتهتك أعراض المصريين وتسلب أموالهم وحرياتهم وتعتدي على استغلالهم ووحدتهم. هذا هو منطق الإنجليز!! وقال (إن بريطانيا على استعداد الآن لإعادة النظر في معاهدة 1936 والاستعاضة عنها باتفاق مع الدول الأخرى لحماية قناة السويس. وكأنه يريد أن يقول إن سبع سنوات من المفاوضات لم تكن كافية لتعديل معاهدة 36 البائدة ويزيد فيريد أن يفرض حماية دولية على قناة السويس مع أن مصر قد ضاقت ذرعاً بإنجلترا وحدها
وقال (إذا أريد نجاح أية محادثات بين مصر وبريطانيا يجب الكف عن النشاط الإرهابي الموجه ضدنا في منطقة القناة. فالموقف هناك لا شك خطير.) وكأني به يريد أن يقول إن تبعة مجزرة الإسماعيلية تقع على عاتق المصريين إذ هي رد على الاعتداءات الفدائيين. لا يا مستر إيدن! إنها رد على صلاح الدين. ولكن اعلم أن مصر قد وقفت تناضل عن حريتها، ولن تضعف مهما ارتكبتم من إثم أو اقترفتم من جرم. إننا لا نريد احتلالا فاخرجوا من ديارنا وكفى
ووقف مستر موريسون وزير خارجية إنجلترا السابق يؤيد إيدن، إنجليزي يؤيد إنجليزياً! أمر معروف ولن نبأ بإيدن أو بموريسون
ويختم إيدن حديثه طالباً أن يعود ألمانيا وإيطاليا من جديد وأن تصبحا عضوين في هيئة الأمم. هذا هو جزاء الإنجليز للأعداء. أما مصر الصديقة فيقتل أبناؤها جزاء لها على صداقتها!
وإني أحب أن أبعث بالتحية إلى الفدائيين من إخواننا فقد أقلقوا مضاجع الإنجليز بأعمالهم الجريئة، وبشجاعتهم وحسن حيلهم من استخدام القطط المشتعلة إلى إطلاق الثعابين
والأفاعي
وفي 20 نوفمبر 1951 قدم الدكتور مصدق رئيس وزراء إيران وبطل تحريرها إلى مصر فاستقبلته مصر استقبالا حماسيا رائعا. ولا عجب فمصر شقيقة إيران وكلتاهما تناضل العدو المشترك بريطانيا
مارس 1919:
رأينا كيف بدأت الثورة المصرية ثورة سلمية هدفها إلغاء الحماية وإعلان الاستقلال، ولكن الإنجليز أبوا على المصريين حقهم المشروع في الحرية والاستقلال وانطلقت قواتهم الغاشمة تعتدي على العزل الأبرياء وتسفك دماء الشهداء، دون ذنب إلا إخلاصهم لوطنهم. وبلغ الجنون بالإنجليز أقصاه فانطلقوا يطلقون الرصاص على المصلين وهم خارجون من المشهد الحسيني بعد قضاء صلاة يوم الجمعة 14 مارس. وقد حسبوا أن تجمع المصلين مظاهرة، ولكنهم في عدوانهم هذا لم يميزوا أيضاً بين رجل وامرأة فقتلوا بعض النساء
إضراب المحامين:
في 11 مارس أضرب المحامون عن العمل احتجاجاً على موقف إنجلترا من مصر ومنعها للوفد من السفر والتجائها إلى سياسة الإرهاب والشدة إزاء المصريين وقبضها على زعماء مصر وطلبوا نقل أسمائهم إلى جدول غير المشتغلين
وقد وافق مجلس نقابة المحامين على قرار الإضراب ونفذ المحامون القرار في 11 مارس، وكان لهذا القرار أثر كبير في نجاح الثورة (فقد كان بمثابة دعوة عملية إلى طوائف الشعب للإضراب العام).
وفي 15 مارس انضم المحامون الشرعيون إلى زملائهم وقرروا الإضراب أيضاً. وقد اقتحم المتظاهرون المحكمة الشرعية العليا وطلبوا إلى رئيسها أن يسير على رأس مظاهرتهم فقبل. وركب عربة جاء بها المتظاهرون، ولكن البوليس هاجم المتظاهرين وأصيب منهم اثنا عشر غلاماً في أرجلهم
وفي هذا اليوم أيضاً أضرب عمال عنابر السكة الحديد ببولاق، وألفوا مظاهرة تأييد للطلبة فوقفت حركة السكة الحديدية
وقد اضطرت الحكومة إزاء هذه الإضرابات أن تنشر جنودها في جميع أحياء القاهرة واضطرت إلى احتلال محطة القاهرة والعنابر والورش بحي السبتية
محاكم عسكرية:
أنشأت السلطة محاكم عسكرية في القاهرة أولا ثم في الإقليم لسرعة البت في قضايا المظاهرات والمتظاهرين. وقد قضت هذه المحاكم بأحكام مختلفة على كثير من المتظاهرين وكان من بين أحكامها: الحكم على حسن عبد الباقي النمرجي بجنيه غرامة أو السجن أحد عشر يوماً لأنه مزق منشوراً للسلطة العسكرية!
مظاهرة السيدات:
أبت المرأة المصرية أن تترك الرجل المصري ينفرد بشرف الجهاد، ولهذا الغرض اجتمع عدد كبير من فضليات السيدات والآنسات في يوم الأحد 16 مارس وخرجن في مظاهرة كبرى سارت في شوارع العاصمة تنادي بالحرية والاستقلال لمصر، وبسقوط الحماية والظلم والاستبداد، والاحتجاج على ما أصاب الأبرياء من القتل والتعذيب
وقد أخذت المتظاهرات يطفن في حشمة ووقار بدور معتمدي الدول الأجانب ويقدمن إليهم منشوراً:
(جناب المثتمد:
يرفع هذا لجنابكم السيدات المصريات أمهات وأخوات وزوجات من ذهبوا ضحية المطامع البريطانية، ويحتججن على الأعمال الوحشية التي قوبلت بها الأمة المصرية الهادئة لا لذنب ارتكبته سوى المطالبة بحرية البلاد واستقلالها تطبيقا للمبادئ التي فاه بها الدكتور ولسن وقبلتها جميع الدول محاربة كانت أو محايدة.
نقدم لجنابكم هذا ونرجوا أن ترفعوه لدولتكم المبجلة لأنها أخذت على عاتقها تنفيذ المبادئ المذكورة والعمل عليها؛ ونرجوكم إبلاغها ما رأيتموه وما شاهده رعاياكم المحترمون من أعمال الوحشية وإطلاق الرصاص على الأبناء والأطفال والأولاد والرجال العزل من السلاح لمجرد احتجاجهم بطريق المظاهرات السلمية على منع المصريين من السفر للخارج لعرض قضيتهم على مؤتمر السلام أسوة بباقي الأمم وتنفيذا للمبادئ التي اتخذت
أساساً للصلح العام، ولأنهم يحتجون أيذا على اعتقال بعض رجالهم وتسفيرهم إلى جزيرة مالطة
لنا الأمل يا جناب المعتمد أن يحل طلبنا هذا نحن السيدات المصريات محل القبول ولا زلتم عونا لنصرة الحق مؤيدين لمبادئ الحرية والسلام.)
وقد أثار منظر السيدات والآنسات في المظاهرة الحماسية في النفوس ووقفت الناس على جوانب الطرق يحيون المتظاهرات وشاركتهن زميلاتهن بالزغاريد من داخل المنازل فأحفظ ذلك الإنجليز وأخذوا يتعرضون لهؤلاء السيدات. وحينما وصل الموكب إلى شارع سعد زغلول ووجهته (بيت الأمة) ضرب الإنجليز نطاقاً حول المتظاهرات ومنعوهن من مواصلة السير وصوبوا بنادقهم نحو صدورهن، ومع هذا فإن المتظاهرات لم يرهبن التهديد وتقدمت إحداهن وقالت لجندي شهر عليها بندقية:(نحن لا نهاب الموت، أطلق بندقيتك في صدري لتجعلوا في مصر مس كافل ثانية.)
قالت هذه العبارة بالفرنسية ففهمها الضابط فخجل وتنحى لهن عن الطريق بعد أن وقفن في حرارة الشمس أكثر من ساعتين
وقد كتب المتظاهرات احتجاجاً ثانياً على هذه المعاملة ورفعوا مع الاحتجاج الأول إلى معتمدي الدول الأجنبية. ولقد كان منظر الجند المدججين بالسلاح وهم يتعرضون للسيدات الكرام مدعاة إلى احتقارهم
وقد حيا شاعر النيل حافظ بك إبراهيم مظاهرة السيدات في قصيدة رائعة:
خرج الغواني يحتجج
…
ن ورحت أرقب جمعهنه
فإذا بهن تخذن من
…
سود الثياب شهارهنه
فطلعن مثل كواكب
…
يسطعن في وسط الدجنه
وأخذن يجتزن الطريق
…
ودار سعد قصدهنه
يمشين في كنف الوقا
…
ر وقد أبن شعورهنه
وإذا بجيش مقبل
…
والخيل مطلقة ألاعنه
وإذا الجنود سيوفها
…
قد صوبت لنحورهنه
وإذا المدافع والبنا
…
دق والصوارم والأسنة
والخيل والفرسان قد
…
ضربت نطاقا حولهنه
والورد والريحان في
…
ذاك النهار سلاحنه
فتطاحن الجيشان سا
…
عات تشيب لها الأجنه
فتضعضع النسوان والنس
…
وانليس لهن منه
ثم انهزمن مشتات الشم
…
ل نحو قصورهنه
فليهنأ الجيش الفخو
…
ر بنصره وبكسرهنه
فكأنما الألمان قد
…
لبسوا البراقع بينهنه
وأتوا بهندنبرج مخت
…
فيا بمصر يقودهنه
فلذاك خافوا بأسهن
…
وأشفقوا من كيدهنه
أبو الفتوح عطيفة
موازنة وتحليل:
بين شوقي وولي الدين يكن
سقوط عبد الحميد
للأستاذ محمد رجب البيومي
بين شوقي وولي الدين مشابه كثيرة، فكلا الرجلين تركي الأصل، وكلاهما نشأ في ظلال الترف والنعمة، وذللت دونه طرق المجد والجاه، فاتصل بالأسرة الحاكمة، وتقلب في المناصب المرموقة. وكلاهما شاعر مبدع يصوغ القلائد الساحرة، ويصرف أعنة البيان حيث يريد. وكلاهما ينتقل به هواه فوق ضفاف البسفور، وعلى شواطئ النيل، فأنت تسمع لهما الروائع المبدعة في وصف الآستانة، كما تقرأ لهما الحنين الدائب إلى مطارح النيل، حيث قدر لهما أن ينزحا عن القاهرة مغتربين، ذاك إلى الأندلس، وهذا إلى سيواس، وفي غياهب المنفى السحيق تتأجج العاطفة، ويجيش الخاطر بالروعة والإبداع
ورغم هذه المشابه العديدة فقد افترق الشاعران في وجهة نظريهما إلى السلطان عبد الحميد افتراقاً شاسعاً، وقد وجد كلاهما من ظروف حياته، وطبيعة شخصيته، ما يدفع به إلى التمسك برأيه والدفاع عنه مما يملك من بيان. وقد كان لعبد الحميد في كثير من الأذهان صور متناقضة متضاربة، فهو - من ناحية - أمير المؤمنين الرسمي، وقائد الإسلام الرمزي، وظل الله في أرضه، وخليفته في تنفيذ أوامره وتحريم نواهيه! وهو - من ناحية ثانية - طاغية مستبدة، يعذب الأبرياء، ويغتال النصحاء، وينصب الدسائس والشباك، ويجمع الحور والغانيات في قصوره المترفة الناعمة، ويصل إلى أهوائه الجامحة في طريق من الأشلاء والدماء! وتلك أمور تدعو إلى الثورة وتدفع إلى العصيان، فانطلقت الألسنة بالعراق والشام ومصر تندد ببغيه وعدوانه، وقام الزهاوي والرصافي وولي الدين بتجريحه وهجوه، فأظهروا للملأ فضائحه ومثالبه. ومن المدهش الغريب أن يقوم إلى جانب هؤلاء الثائرين شعراء مبدعون بكيلون المدح كيلا للسلطان الجائر، ويرسلون القصائد الرزنة تلهج بالثناء عليه، وتحيل ظلماته الدامسة إلى نهار ضاح! وأنت تسأل عن سبب ذلك فنجد هؤلاء المادحين يهيمون بالوحدة الإسلامية، ويخافون أن تتصدع الخلافة بمهاجمة
السلطان، فتتفرق كلمة المسلمين، ويصبحون طعاماً سائغاً للمتربصين من الأعداء. وخير عندهم أن يتغاضوا عن أفعال هذا الطاغية، من أن تدور الدوائر على الكلمة الجامعة والشمل المتماسك، فتنحدر الخلافة إلى المهوى السحيق! هذا ما كان يعتقده محرم والكاشف والرافعي وحافظ والقاياتي وغيرهم ممن أحالوا البساطل حقاً بمدائحهم المموهة، ووقفوا من ولي الدين وشيعته على طرفي نقيض!
وقد كان أمير الشعراء مدفوعاً إلى مدح السلطان الجائر بهذا الدافع من ناحية، وبدافع أقوى منه من ناحية أخرى، فهو شاعر القصر، وترجمان البلاط الخديوي، يأتمر بأمره، وينطق بلسانه. وكان النفور القائم بين الاحتلال الإنجليزي، والخديوي الشاب يدفع الباب العالي بالأستانة إلى العطف على عباس وتحييذه، كما يدفع الأمير الغيور إلى الاعتزاز بالسلطان والتطلع إليه. وطبيعي أن يعبر شوقي عن ذلك بمدائحه المسهبة في كل مناسبة تحين، وتمضي هذه القصائد إلى أسماع عبد الحميد فتأخذ مكتنها من نفسه، وتميل به إلى الشاعر المادح، فإذا زار شوقي الأستانة نزل ضيفا على السلطان، ونال من الحفاوة والتجلية ما يضاعف حبه وينعى إخلاصه، فيشدو بعظمة عبد الحميد، ويطلق لخياله العنان في تهنئته ومديحه! مع أن فظائعه الدامية لا تطاق بحال! هذا الوضع السياسي الذي جذب شوقياً إلى ساحة عبد الحميد، قد قابله وضع مضاد لولي الدين، حيث أتيح للشاعر أن يمكث مدة غير قصيرة بالأستانة. فرأى بعينه ما يسمعه الناس من فضائع السلطان، وشاهد الظلم والدسيسة والخيانة في أبشع صورها، فلم يطق صبراً على ما شاهد بعينه وليس بيده، فرجع إلى القاهرة وأنشأ جريدة الاستقامة، وأعلن الثورة على السلطان في جبروته، ورسم بقلمه المؤثر صوراً حزينة للضحايا الأبرياء الذين تجرعوا الغصص القاتلة بالأستانة، فأصبح من أعلام المعارضين للسياسة العثمانية. وقد حوربت جريدته محاربة شديدة، وتصدى لها الحكام والولاة تصدياً ماحقاً، حتى لم تعد تصل إلى قرائها في مختلف الأمصار. ورأى الشاعر من الحزم أن يقطع صدورها، ولكنه لم يغمد قلمه بل شهره في الصحف اليومية التي تميل إلى رأيه، وجعل من جريدتي المقطم والمشير منبراً يذيع حملاته من فوقه. وشاءت السياسة العثمانية أن ترشوه كغيره من المعارضين، فعين عضواً بمجلس المعارف الأعلى في الأستانة. وكان الظن به أن يقنع بمنصبه الساحر، ولكن واصل الهجوم العنيف
دون مبالاة، فصدر الأمر بنفيه إلى سيواس! وقضى سبع سنوات في مكان موحش مقفر، لا يرى غير الغيوم والصخور والأمطار والهضاب. وكلما اشتعل الغيظ في صدره أرسل قر يضه مندوا هاجياً، ولم يذق طعم الراحة حتى صدر الدستور العثماني ثم عزل السلطان بعد ذلك فهوى إلى الحضيض!
هذه عجالة تاريخية توضح لنا البواعث التي حدت بشوقي وصاحبه إلى موقفهما المختلف من السياسة العثمانية. والباحث المنصف يعجب كل الإعجاب ببسالة ولي الدين وشجاعته، فهو لم يشأ أن يذعن للباطل في أمر مهما قبض الثمن غالياً، وكان يغيظه من شوقي أن يبالغ في مدائحه مبالغة تدعو إلى الدهشة والاستغراب، فهو يعلم تمام العلم ما يجري بالأستانة من محن ونكبات، ولكنه لا يقتصر على الثناء الرسمي والدعاء بالتوفيق والهداية كما يفعل مادحو السلطان، بل يزعم أنه أعاد سيرة الفاروق، وأنه كلل البائسين والأيتام بتاج من عطفه وإخلاصه، وأن الخصب والنماء والغمام هبات تتناثر من كفه، يا إن البيت العتيق ليشكر ربه من أجله، وعرفات يسعى هاتفا به، وأن الرسول يهنأ في قبره بحياته، فهي حياة الدين واليتامى والمساكين! إلى غير ذلك مما يراجعه القارئ في الشوقيات!
وبعد جهاد متواصل كادح من الشعب والجيش كان ما لا بد أن يكون، فقد حاق المكر السيئ بأهله؛ ودارت على الباغي الدوائر، وتقدمت الجيوش زاحفة إلى (يلدز) فسقط السلطان من عليائه، ونزل الجبار عن عرشه. وطار الخبر إلى ولي الدين فصفق شعره في خاطره، ونظم قصيدة شامتة يذكر فيها السعادة الذاهبة، والمجد البائد، ويتصور الأسير المهيض وقد كبل بالأغلال وتجرع غصص الحرمان متيقظا، فإذا أغفت عينه نغصته الأحلام بأطياف خاطفة لكلكه الزائل، وبدره الآفل! إنه ليقول في تشف ساخر وتهكم مرير:
عزاء أيها النافي الرعايا
…
ولا تجزع فخالقهم نفاكا
حرمت كراك أعواما طوالا
…
وليتك بعد ذا تلقى كراكا
تفارقك السعادة لا لعود
…
وقد عاشت خطاها في خطاكا
فدع صرحا أقمت به زمانا
…
وقل يا قصر لست لمن بناكا
نعم عبد الحميد ما ندب زمانا
…
تولى ليس يحمده سواكا
تولى بين أبكار حسان
…
تعلق في غدائرها نهاكا
جعلت فدائها الدنيا جميعا
…
ولو ملكتها جعلت فداكا
وطال سراك في ليل التصابي
…
وقد أصبحت لم تحمد سراكا
ستحيا في سلانيك زمانا
…
ستحسد فيه عن بعد أخاكا
وتعلم أن ملكا ترتضيه
…
ولعت به، ولكن ما أرتضاكا
فإن زار الكرى عينيك ليلا
…
وعادك تحت طيته أساكا
تمثل في المنام لديك ناس
…
تخبر عن دمائهمو يداكا
رما هم بالأفول دجاك لما
…
تبدوا كالكواكب في دجاكا
وتمضي القصيدة إلى قراء العربية ومعها أخوات قالها الأحرار من الشعراء في شتى بقاع الهالم الإسلامي، فتعبر عن السرور الدافق وتنطق بما تكن المشاعر الساخطة على الأسير المعزول. ويجرف التيار بطوفانه الجائش جميع الشعراء، فيستقبلون الخليفة الجديد مهنئين ويشيعون الراحل المستبد لائمين معيرين، ولكن شوقا وحده يظهر الأسف على سقوط السلطان واندحاره، ويفيض خاطره الحزين بقصيدته الشهيرة (سل يلدزا ذات القصور) غير مستطيع أن يكبت عواطفه الملتاعة، بل ينسى الشعور العام في العالم الإسلامي ويقول عن عبد الحميد:
خطب الإمام على النظيم
…
يعز شرحا والنثير
شيخ الملوك وإن تضعضع
…
في الفؤاد وفي الضمير
نستغفر الله له!
…
والله يعفو عن كثير
ونراه عند مصابه
…
أولى بباك أو عذير
ونصونه ونجله
…
بين الشماتة والنكير
ولكن ولي الدين لا يرضيه هذا الإغضاء الخاطئ، ويخاف أن تجد قصيدة شوقي مكانها في النفوس، فتميل ببعض العواطف نحو السلطان الذاهب، وتطفئ ما سطع من بريق الفرحة والابتهاج، فيلجأ الشاعر إلى مناقضتها مناقضة حارة في قصيدته التي مطلعها:
هاجتك خالية القصور
…
وشجتك آفة البدور
وقد وقف بها أمام شوقي وجها لوجه، فدحض حججه، وناقض أدلته، وأفسح لنا مجال الموازنة والتحليل، وكلتا القصيدتين بعد ذلك تعلن شعور قائلها واتجاهه، وتصور تفكيره
وأسلوبه، وهاأنذا أفصح عنهما بعض الإفصاح
بدأ أمير الشعراء قصيدته كما يبتدئ قصائد الرثاء والتأبين، فهو يسأل يلدز عن نيراتها الثواقب، ويعلن عجزها عن الإجابة المقنعة، فقد أناخ عليها الدهر كما أناخ - في البعيد الغابر - على قصور النعمان بالحيرة، فأصبح الخورنق والسدير أطلالا دارسة، وكما أنماخ - في القريب المائل - على الجزيرة وقصر إسماعيل فغاب عنهما الأنس والبهاء! وروح الشاعر في مطلع قصيدته هامسة كئيبة تعلن عن ذاتها إذ تقول:
سل يلدزا ذات القصور
…
هل جاءها نبأ البدور
لو تستطيع إجابة
…
لبكتك بالدمع الغزير
أخفى عليها ما أنا
…
خ على الخورنق والسدير
ودها الجزيرة بعد
…
إسماعيل والقصر الكبير
ذهب الجميع فلا القصور
…
ترى ولا أهل القصور
فلك يدور سعوده
…
ونحوسه بيد المدير!!
أما ولي الدين فيعجب لشوقي كيف تهيجه القصور الخالية من الأنيس، وتشجيه البدور الآفلة بعد السطوع، وكيف يذكر أصحاب الترف والنعيم، وينسى المقابر المليئة بالضحايا، الآهلة بالأبرياء، وكيف يكسب الدمع الغزير على طاغيه طالما أثار المدامع وأبكى القلوب، ونهب الأموال، وبدد الضياع! ويعلن أن دثور يلدز غنيمة كبرى للشعب الجريح، فستأهل بعدها الدور الموحشة، وستضئ المنازل الخربة، ويحيا المعذبون أعزة سعداء! والقارئ يلمس صدق العاطفة، وسلامة المنطق إذ يسمع وليا يقول:
هاجتك خالية القصور
…
وشجتك آفلة البدور
وذكرت سكان الحمى
…
ونسيت سكان القبور
وبكيت بالدمع الغز
…
ير لباعث الدمع الغزير
ولواهب المال الكثير
…
وناهب المال الكثير
إن كان أخلى يلدزا
…
مخلى الخورنق والسدير
سيتأهلن من بعدها
…
الآف أطلال ودور
بعض النجوم ثواقب
…
والبعض دائمة المسير
وكما بدأ البحتري قصيدته في رثاء المتوكل بوصف قصره المنيف، وما منى به من ذله بعد عزة، ثم انتقل إلى أوانس القصر وظبائه، ومقاصره وستائره، فكذلك ابتدأ شوقي قصيدته يتحدث عن القصور في يلدز ثم ينتقل إلى غانياتها الساحرات، ولشوقي سلاسة وعذوبة حين يتحدث عن هؤلاء المترعات من النعيم العاثرات من الدلال، الناهيات الآمرات على الولاة، الطيبات الأريج، الذاهلات عن الرمان بما هن فيه من خفض ونعيم، المشرفات على الممالك، بين المشارف والرفارف والزخارف! الآمنات في مسكن فوق السماك بين المعاقل والخيول والرماح وفوق غارات المغير، أجل! إن لشوقي براعة في رسم هذه الصور الفاتنة الخلابة، وإنها لتتجلى لعينيك حين تسمعه يقول:
أين الأوانس في ذراها
…
من ملائكة وحور
الترعات من النعيم
…
الراويات من السرور
العاثرات من الدلا
…
ل الناهضات من الغرور
الآمرات على الولا
…
ة الناهيات على (الصدور)
الناعمات الطيبات
…
العرف أمثال الزهور
الذاهلات عن الزما
…
ن بنشوة العيش النضير
المشرفات وما انتقلن على
…
المسالك والبحور
أمضى نفوذاً من (زبيدة)
…
في الإمارة والأمير
بين الرفارف والمشارف
…
والزخارف والحرير
والدر مؤتلق السنا
…
والمسلك فواح العبير
في مسكن فوق السماك
…
وفوق غارات المغير
بين المعاقل والقنا
…
والخيل والجم الغفير
وهؤلاء الآمرات الناهيات لا يقام لهن وزن في منطق ولي الدين، بل إنهن في نكبة السلطان ومحنته، فقد صرفنه عن التعقل والتدبير، واستلبن أموال الدولة فيما يطلبن من لآلي وعقود وحلي! فعكف على أسرابهن الفاتنات يعتصر الخدود، ويهتصر الخصور، مستمدا من فتور عيونهن فتوراً في همته وانكسارا في عزيمته. . . كل ذلك وجيش الدولة ساغب جائع لا يحد ما يقيم أوده من العيش، فأجناده صفر الوجوه، خمص البطون، يشكون
المتربة والفاقة، رغم ما يمهد للحسان من أسباب الترف والنعيم، فأي مغنم عاد على الدولة من هؤلاء الفاترات الناعسات؟ وأي متربة جلبنها على الرعية بما يستنزفن من أموال وثروات! إن ولي الدين ليعكس صورتهن الخلابة في مرآة شوقي فتنقلب من مرآته دميمة مقيتة ويصور جنايتهن الكبيرة إذ يقول
ضاءت عقود الملك
…
ما بين الترائب والنحور
والشيخ بات فؤاده
…
في أسر ولدان وحور
ما زال معتصر الخدود
…
هوى ومهتصر الخصور
وإذا انقضت ليلاته
…
وصلت بليلات الشعور
أهدى الفتور لقلبه
…
مابا للواحظ من فتور
واستنفرته عن الرعا
…
يا كل آنسة نفور
نختال من حلل الصبابة
…
في الدمقس وفي الحرير
والجند عارية مناكبها
…
مقصمة الظهور
خمص البطون من الطوى
…
دقت فعادت كالسيور
إن الزمان يغر ثم
…
يذيق عاقبة الغرور
ثم ينتقل شوقي إلى مناجاة السلطان الأسير، فيغمره بفيض من عطفه ومعذرته، وكأنه ينظر إلى أفضاله عليه، فيأبى أن يخصه بلوم أو تقريع، فهو أرفع من أن يشمت فيه شامت، وأولى أن تراق الدموع حزنا على سقوطه!! وإذا كان قد أسلف بعض الجرائر فالله يعفو عن كثير، فلا داعي أن نطيل حسابه في محنته العسيرة. وما كان عبد الحميد - في رأي شوقي - إلا خليفة كالمنصور أو الرشيد في سالف العصر، وهما قد حفظا جلال الملك، وأبهة الخلافة، وإن استبدا مثله بالأمر، ولم يخضعا لدستور أو مشورة، ثم لا يقتصر شوقي على ذلك بل يصف السلطان بالروية والأناة وحكمه العاقل الخبير، وأي حكمة تلك التي تبطش بالناس، ومصب الدسائس وتستلب الأموال! وبمعنى أمير الشعراء في وصف العظمة الغابرة، والسلطان السالف، كأنه يتعزى بذكراها عما أَصاب سيده من سقوط؛ فهو يقول
عبد الحميد حساب مثلك
…
في يد الله القدير
سدت الثلاثين الطوال
…
ولسن بالحكم القصير
تنهى وتأمر ما بدا
…
لك في الصغير وفي الكبير
لا تستشيروا في الحمى
…
عدد الكواكب من مشير
كم سبحوا لك في الروا
…
ج وألهوك لدى اليكور
خفضوا الرءوس ووتروا
…
بالذل أقواس الظهور
ماذا دهاك من الأمو
…
ر وأنت داهبة الأمور
أين الروية والأنا
…
ة وحكمة الشيخ الخبير
دخلوا السرير عليك
…
يحتكمون في رب السرير
أسد هصور أنشب
…
الأظفار في أسد هصور
قالوا اعتزل قلتاعتز
…
لت الحكم لله القدير
ظنوا بضائع حقهم
…
وضننت بالدنيا الغرور
وهذا منطق لا يعجب ولي الدين في شيء، فهو يرى السلطان أهلا للوم والتفريغ ويجب أن ينال جزاء ما أسلف للناس من مَحن وأزراءَ، بل أنه ليذكره بالمجد البائد تهكما وتشفيا، ويعجب لغفلته وبلاهته، وكيف صم أذنيه عن النصيحة، وسدر في غوايته مع أن الشيب قد وحظ لحيته ورأسه وقضى من الزمن ما يتيح له العبرة والعظة، لو رزق قليلا من الحكمة والروية. ويصف المعركة الدامية التي انتهت بسقوطه وأسره، ويضحك منه إذ ضرع أمام الجند ذليلاً باكياً وأخذ يستجير بمن أعرض عنه، حتى ذاق عاقبة ختوره وغدره، فسقط من عليائه دامي القيد، منحني الظهر، إلى حيث يقضي أيامه الأخيرة في محبسه الذليل!! وللقارئ أن يلمس هذا كله من قول ولي الدين
وعظتك واعظة القتير
…
ورأيت منقلب الدهور
وربيت في مجد الأمير
…
ولم تمت موت الأمير
لما سلبت الحكم قلت
…
الحكم لله القدير
ورآك جندك ضارعا
…
لهمو ضراعات الأسير
لقد استجرت بمعشر
…
ما كنت فيهم بالمجير
هي غارة لكنها
…
دارت على رأس المغير
من ذا استشرت لها ولم
…
تك في الحياة بمستشير
لقد استطرت بشر
…
يومك كل شر مستطير
وخترت يا عبد الحميد وما
…
استحيت من الختور
من عاش يستحلي الشرور
…
يموت من تلك الشرور
إن الثلاثين التي
…
مرت بنا مر العصور
وهبتك تجربة الأمو
…
ر فعشت في جهل الأمور
من كان يدعوك الخبير
…
فلست عندي بالخبير
وقد كان مجال القول ضيقاً أمام شوقي فترك عبد الحميد في منتصف القصيدة، ولجأ إلى تهنئة الخليفة الجديد باسم الإسلام ومصر، وأسهب في مديح الجيش الذي أسقط السلطان منوها بأبطاله وكماته، وقد يحس القارئ شيئاً من التناقض بين الناحيتين، وذلك هين مقبول من شاعر مجامل يودع راحلاً أسيراً ببعض ما يجب في رأيه من الإغضاء والتسامح!! والمجاملة في بعض أحوالها توقع في الحيرة والتناقض دون معابة أو مؤاخذة. على أن ولي الدين يؤاخذ شوقا مؤاخذه عنيفة، فهو - في رأيه - يتحسر على المال المبذول، والخير الدرير. إذ يتحسر على عبد الحميد، وكان عليه أن يقدر فرحة العالم الإسلامي بسقوط الخليفة دون نظر إلى عواطفه الذاتية! وكأني بشوقي وقد حز في نفسه أن يعرض به ولي الدين أعنف تعريض إذ يقول
لما أدبل من السر
…
ير بكاه عباد السرير
نذروا النذور لعوده
…
هيهات يرجع بالنذور
أسفوا عليه وإنما
…
أسفوا على المال الدرير
والبعض كان جريره
…
فسمايتيه على جرير
طلبوا له عفو الغفور
…
وشذ من عفو الغفور
وقد سكت شوقي عن هذا التعريض المرير. إذ كان يلزم الصمت إزاء ما يوجه له دائماً من تجريح، وقد يكون السكوت من ذهب في بعض الأحوال. . وأظنه كذلك الآن
ونحن بعد ما تقدم من العرض السريع نستطيع أن نحكم على القصيدتين معا بسلاسة الأسلوب، وغزارة المعاني، وتنوع الأغراض، واستقامة التعبير؛ إلا أننا نلمس بين
القصيدتين فوارق متعددة من عدة نواح
1 -
فقصيدة شوقي أشبه ما تكون بخطبة رسمية تلقى في حفل عام، فيها أولاً من الخليفة السابق، ومدح الجيش المنتصر ثانياً ثم هنأ السلطان الجديد بالخلافة ثالثاً، وأعلن اغتباط مصر والعالم الإسلامي به رابعاً! وليس ذلك بمستغرب من شاعر يعبر عن روح القصر الخديوي، ويتلقى وحيه الشاعري من الحاشية والبلاط. أما قصيدة ولي الدين فهي ترجمة أمنية لعواطفه، وتصوير شامل لابتهاج المخلصين، بزوال العهد الغاشم، دون أن يتقيد فيها بوجهة نظر خاصة، والشاعر الطليق يجد من اتساع المجال ما لا يحده المرهق بالقيود والأثقال. . .
2 -
كان شوقي يسير على القتاد في قصيدته فهو يدعو إلى التسامح والإغضاء عن مستبد جارم لا يعقل أن يتسامح معه الناس ويلتمس الأعذار لطاغية سقطت أعذاره، وشاعت في الملأ مثالبه ومخالبه. وطبيعي ألا يجد من الحجج ما يسعفه ويقوي دفاعه، وعلى النقيض منه كان ولي الدين ممتلئ اليدين بأداته وبراهينه، هذا غير شعوره المبهج بانتظار آرائه، وتحقيق آماله وأشواقه
3 -
بلغ شوقي القمة حسين تكلم عن الفانيات في قصر الخليفة، وما كان لهن من عظمة ودلال، وما أسدل فوقهن من بهجة وبهاء، ورسم ألواحاً بديعة للسرور الزائل والنعيم السالف، بينما بلغ ولي الدين القمة في ناحية مضادة، إذا استسلم لخواطره الحزينة فأسمعنا إحسانا مشجية تدمع على الضحايا الأبرياء، والصرعى الشهداء، وطاف بخياله على الأجساد الثاوية بين الجنادل والصخور، والزهور المضرجة بدماء شبيبتها الزاهرة، واليتامى البائسين من الصبية والأرامل. ولأنه ليستنزل الدموع الحبيسة من المآقي الشحيحة إذ يقول:
لله أجساد ثوت
…
بين الجنادل والصخور
كانت زهور شبيبة
…
لهفى على تلك الزهور
سقيت مياه دمائها
…
والروض رقراق الغدير
كم خلقها من صبية
…
يتمت ومن شيخ كبير
يترقبون مآبها
…
إن المآب إلى النشور
وممنعات في الخدو
…
ر تموت حزناً في الخدور
ترجو زيارة حبها
…
نبت الزيارة بالمزور
لم يجدها نصح القبيل
…
ولا تسلت بالعشير
أودي الردى بنصيرها
…
فقدت تعيش بلا نصير
لا بالعشي تضيق من بث
…
ولا عند البكور
وأنا أجد لهذه الأبيات وأشباهها في قصيدة وأي الدين مربراً، ولذعاً دامياً، وجودة الشعر تتوقف على ما يثيره في النفس من كوامن الأحاسيس، وما يهيجه من حرق الوجدان (أما بعد) فاقد كان لهاتين القصيدتين الخالدتين دوى ورنين، عند نشرها لأول مرة في الصحف السيارة، إذ فويلنا بكثير من الاهتمام والاحتفال، وتطلقت إليهما عقول المثقفين من الأدباء. وقد رأيت أن ألفت إليهما الأنظار من جديد، فجلوت هذه الصفحة من تاريخ غير بعيد، ولله شوقي إذ يقول:
وإذا فانك التفات إلى ألما
…
ضي فقد غاب عنك وجه التأسي
محمد رجب البيوسي المدرس بأبي تيج الثانوية
الأدب وطلقات المدافع
(إلى الصديق الأستاذ علي متولي صلاح)
للشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن
ما كنت أحسب أن شهوة الكلام تبلغ عند صديقي الأديب الرقيق الأستاذ على متولي صلاح حداً يحرف به الكلم عن مواضعه ويؤول قصيدتي (على طلقات المدافع) تأويلاً يبعد بها عن المعنى الذي أريدت له وقصدت به
وأنا أشكر الأخ على هذا الدرس الذي ألقاه علي في عدد الرسالة الفائت ليدني على قيمة (الأدب) وخطره ورسالته في هذا الوجود العجيب الذي نشهد فيه بأعيننا ونسمع بأبصارنا على مدى قريب صوت القوة العارمة وهي تكتسح الحق في طريقها اكتسحاً. . . ثم لا تزال بعد ذلك نتملل بالألفاظ الفارغة، ونستند إلى العبارات الجوف، واهمين أو متوهمين أن ذلك هو طريق الكفاح لبلوغ الأهداف، وبلوغ المطاف
وأشكر الأخ مرة أخرى لأنه نقل إلي في كلمته الحماسية كلمات (هازلت) في وصف الكلمات بأنها (أفعال فإذا تكلمت فقد فعلت). ونقل إلي كلمات (سارتر) بأنها - أي كلمات - أسلحة نارية مشحونة بالقذائف، وأن الإنسان إذا تكلم فقد أطلق. . ونقا إلي - فوق ذلك - كلاماً لبرناردشو، ولغير برناردشو في الموازنة بين السيف والقلم. . .
وهي موازنة أخشى أن تكون موضوعاً إنشائياً جميلاً لطلاب المدارس، تصول فيه أقلامهم النحيلة الهزيلة، وتجول حين يحلق الخيال بعيداً بعيداً، مستسلماً إلى لذائذ الأحلام، الموشاة بتفويف الكلام. . .
وهي موازنة - فوق سحر الخيال فيها - قد قال فيها أنصار منطق القوة حين نادى أبو تمام - منذ أكثر من ألف عام - برأيه المشهور:
السيف أصدق أنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
ولا يعنيني هنا أن تكون الكتب هنا من تأليف الكرام الكاتبين، أو من وضع السادة المنجمين. . .
على أن أبا تمام لم يغفل شأن (القلم) الذي جاءنا الأستاذ على متولي صلاح بنصوص منقولة عن (هازلت) و (سارتر) و (برناردشو) ليدلنا على خطره وفتكه وشحنه بالقذائف.
أو القنابل الصاروخية، أو القنابل الذرية أو الهيدروجينية أغير ذلك من آلات الدمار والهلاك. . نعم! لم يغفل الشاعر أبو تمام، خطر القلم والكلام حين قال:
لك القلم الأعلى الذي بشباته
…
تصاب من الأمر الكلي والمفاصل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
…
وأرى الجني اشتارته أيد عواسل
وأنا - شهد الله - لا أنكر خطر (كلمة) وفعلها في النفوس، وأثرها في العواطف، وخطرها في إثارة في العواطف، وخطرها في إثارة الانفعال، بل في زلزلة الجبال. .
أليست (الكلمة) هي التي أوحت إلى النحل أن تسلك سبل ربها ذللاً، فتأكل من كل الثمرات ثم تلفظها شهداً شهياً فيه شفاء للناس؟
فمن قال للصديق الكريم أنني هونت من شأن الكلام، أو أصغرت من قدر الأدب والبيان حين ضننت بالأدب أن يبتذل بالاستجلاب، أو يمتهن بالدعاء المجاب أو غير المجاب؟
إن الشعراء الصادقين - أيها الصديق - قد استجابوا لأصوات الشهداء في معركة (القتال) بالقدر الذي لا يخرج بشعورهم الغالي إلى رخص التمثيل، وهو أن التدجيل. . فقد نشر بعضهم في الصحف، وأذاع بعضهم في الإذاعة المصرية، ولم يشاءوا أن يجعلوا من (معركة التحرير) مناجاة حامية ترتفع فيها الأصوات الحارة يلب السلاح، وبالرغبة الخالصة في الكفاح، فيقال لهم: انتظروا حتى يتم الإشراف على الكتائب المحررة. . وما أشق الانتظار، على المجاهدين الأحرار!
ولعلك أيها الصديق قد أدركت معي الظروف التي أحاطت بي وأنا انظم قصيدتي (على طلقات المدافع) فهي ليست كفراً بالأدب، ولا جحوداً برسالته، ولا تهوينا من شأنه، ولا إغفالاً لخطره، ولا سوء فهم لوضيفته، ولا خروجاً به عن بيعته. . . وإذا كنت قد فهمت من قصيدتي ومن مقدمتها هذا الفهم، وعبت منها هذا القول الصحيح، فأنا أجل لأدبك وفهمك أن تكون الآفة فيهما. . ولكنك انسقت يا أخي وراء خلابة اللفظ، وشهوة الكلام فأحببت أن تتكلم، وأحببت أن تقيم دعابة عريضة (لرصف الألفاظ، وحشد العبارات). ونسيت أنني - أنا طرف لك في هذه الخصومة الأدبية - أكره الكلام في غير جدوى، وأمقت الألفاظ في غير طائل، وأضع الكلام موضعه حين أريد أن أتكلم، كما يضع الخبير الهناء مواضع النقب. .
لا يا سيدي! لم تكن القصيدة التي نظمها كفراً بالأدب ولكنها في الحق كفر (بالخطب)، وكفر بالمقالات والكتب. . في وقت تمنت فيه سواعد الشباب والشيوخ لو أتيح لها أن تشعر، ولكن (رئي) أن تعطل السواعد، وأن تديج بدلاً منها الخطب والقصائد!
ألست معي بأن نفوس الشعراء أو نفوس بعض الشعراء كان يغشها ضباب هذه العوامل النفسية الخفية، فوقفوا يتفرجون في صمت، أينظرون في عجب، حتى يزاح الستار عن الأسرار. . وإلا فبربك لماذا سكت أنت عن أحداث القناة وما عهدتك إلا ناطقاً؟ ولماذا لم تشترك في معركة (قناة السويس) بقلمك وأدبك في لحظة كانت أرواح الشهداء ودماء الأبرياء تتطلع إلى مثل (عباراتك) من وراء الغيب، وتهفوا إلى صرير قلمك من خلف الفراديس؟
والآن وقد انجلى غبار معركة القنال عن بعض الشهداء الأعزاء أراك قد أمسكت (القلم) وامتطى في يدك الخمس اللطاف. . وأفرغت عليه شعاب فكرك لكي تذكرني بما قاله (هازلت) و (سارتر) و (جورج برناردشو) في القلم وقوته، والبيان وسطوته
لا، لا يا أخي! لقد قرأت من زمان طويل ما قاله (هازلت) فنازلا، و (سارتر) فصاعداً. . ولعلك خبير بتسلسل هذه العصور في فرنسا وإنجلترا. . ولكنني قرأت من أسابيع فقط ما كتبه الشاعر الإنجليزي المعاصر (ستيفن سبندر) في مجلة نيويورك تيمس بوك ريفو الأميركية
عن رسالة الشعراء في الحياة، وهل نستطيع أن نعيش بدونهم. . ولعلك يا أخي قرأت خلاصة لهذا المقال في عدد نوفمبر سنة 1951 من مجلة (الكتاب) الشهرية التي تصدرها دار المعارف بمصر. . ولعله قد لا يعنيك أن تعرف مترجم هذا المقال الذي يستحي أن يتحدث عن نفسه ولكني أؤكد لك أن قصيدتي (على طلقات المدافع لم تكن صرخة يأس ولا صيحة قنوط. . ولكنها كانت نذيراً، ونذيراً قوياً لقوم يجهلون قيمة (المدافع)، في عالم ملئ بالشهوات والمطامع
وسلام عليك أيها الصديق القديم، والخل الكريم
محمد عبد الغني حسن
رسالة الشعر
الفدائي
للأستاذ عبد اللطيف النشار
. . . وعلى الله فاتكل يا فدائي
…
فهو أعلى يداً من الأعداء
اشترى الله أنفساً نحن منها
…
فهو أولى بها من الأولياء
إن حيينا فللكرامة والع
…
زة، والموت غاية الأحياء
أو قضينا فاللذي مرجع ال
…
كل إليه مستأراً بالبقاء
والمنايا على أختلاف صواها
…
كلها دمن مصرع الشهداء
في سبيل الإله نطرد من مص
…
ر عدوا مجاهراً بالعداء
لم يدع حرمة يقدسها الع
…
الم إلا أصابها باعتداء
وصفيق دعواه في كل جرم
…
أنه لم يزل من الحلفاء
آية الود عندهم ما جنوه
…
والخيانات آية للوفاء
ليس في عالم الجرائم ذنب
…
ما جنوه هنا على الأبرياء
احتلال لموطن فيه أهلو
…
هـ وقتل لصبية ونساء
والمحاريب دنسوا وأهانوا
…
حرمة العدل في رجال القضاء
واستباحوا الأموال نهباً وسلباً
…
في ضياء النهار أو في المساء
بجنود مسلحين قطا
…
ع طريق وطغمة جبناء
هؤلاء الأنذال خانوا المواثيق
…
فماذا نرجوه من هؤلاء
بارك الله أيديا عالجتهم
…
وسقتهم ذنوبهم في الدواء
أقحموا في مواطن العرب الغر
…
دخيلا من أنجس الدخلاء
في فلسطين صورة لسواها
…
إن تراخي أعداؤنا في الجلاء
صاحب الدار شردوا ليحلوا
…
غيره في محله بالكراه
الجلاء الجلاء يا أبث ال
…
ناس ضميرا وأسفه السفهاء
يا فدائي مرحبا بالفدائي
…
أتؤدي في مصر فرض السماء
فيد الله فوق أيدي رماة
…
أنقذونا من شر هذا البلاء
ورمى الله إذ رمى مرسل الس
…
هم إلى قلب جاهد النعماء
القناة التي يقولون أنا
…
غير أهل لحفظها شبر ماء
وهمو العاجزون عن صوتها
…
من ونفدي مكانها بالدماء
كمقام حسين كل مكان
…
مستظل بالزاية الخضراء
يا قناة السويس يا زمزم الو
…
ادي ورمز الأخوة السمحاء
قد حفرناك كي تكوني أداة
…
لرجاء أكرم به من رجاء
صلة من أخوة الناس
…
تزداد اتساعا في رقة وصفاء
للمودات لا العداوة والبغي
…
وصلنا بالدمع ماء بماء
ومرجنا البحرين تقريب بعد
…
بين دان من البلاد ونائى
زعموها لنصرهم. أو حقا؟
…
وعلينا. . .؟ يا أمة السفهاء
لو أردنا وماؤها الملح يحلو
…
كل شئ يحلو إزاء العداء
لشربنا القناة في بعض يوم
…
أكلنا أباكم في العشاء
لو أردنا فإنها حفرة
…
تصلح قبرا لمعشر أشقياء
أو يحمى القناة من يخطف
…
الأطفال منه السلاح دون عناء
ما رأينا ولا رأى الناس من
…
قبل جيوشا مصفوعة الأقفاء
جيش مصر أعز حرب هذا
…
فليؤديه بالعصي الفدائي
عبد اللطيف النشار
الرماد المعذب
(مهداة إلى صديق الناقد الأستاذ أنور المعداوي)
للأستاذ علي الصياد
في عالم مكفن الضمير
…
بعثت لا أعلم ما مصيري
معذب في زحمة الشرور
…
وكل ذنبي رقة الشعور
مكحل بليله الضرير
…
وفجر غيري نوره من نوري
أسقيته الحلال من عصيري
…
ولم أجد منه سوى العسير
مشى بروضي مشية الأمير
…
يقطف من وردي ومن زهوري
وينهل السلسال من غديري
…
وينهب الألحان من طيوري
وفي ربا فردوسي النضير
…
تعلم المنطق من خريري
ومن عجيب في تدميري
…
وقد روي إحساسه غيري
مخدعه السندسي في القصور
…
ومخدعي الشوك على الصخور
ويزدهي في الصوف والحرير
…
وهيكلي ممزق الستور
سألته عن ماله الوفير
…
من أين قال من دمي (المهدور)
سألته عن أصله الحقير
…
أصدقني القول بلا تزوير
سألته عن ملكه الكبير
…
أخالد قال إلى الثبور
سألته عن علمه الخطير
…
قال كحفة من القشور
سألته عن دمعة الفقير
…
قال كنجوى راهب في (الدير)
سألته حتى عن الحبور
…
قال سراب خاطف العبور
فماله يختال في غرور
…
واصله من الثرى الحقير
إني هنا في ليلى المنشور
…
مبعثر المنى على الوعور
شيعت فيه مأتم السرور
…
بين جلال الوحشة المثير
وصرت في ظلامه المضفور
…
محترق الأنفاس والزفير
أبحث بالعينين عن سمير
…
فلم أجد فيه سوى النسور
حاملة في بطشها المغير
…
رسالة القهار للمقهور
يا توأمي في البدء والنشور
…
رفقا بروح شاعر مصهور
جدان في غياهب الديجور
…
بفجره المفضض المنير
يغربل الأنام بالتفكير
…
وكلهم نفاية القدور
أنا كتاب حالك السطور
…
محجب البيان والتصوير
مزقه الناس بلا شعور
…
في معبد من الأسى مهجور
وكفنوه في دجي التحقير
…
وهو نتاج المبدع القدير
غدا يشع كالسنا الطهور
…
مذهب الأسرار والتفسير
وسوف يبقى عبقري النور
…
في ظلمة الأجيال والعصور
علي الصياد
ألامس الضائع
للأستاذ حسن عبد الله القرشي
أفلت الأمس من يدي
…
لم يهدهده موعدي
وغفا حاضري فوا
…
لهف نفسي على غدي
كنت أشتاق للدمى
…
والمساء المعربد
فأماني صبوة
…
لحبيب مغرد
وحياتي مشارق
…
لصباح منضد
وإذا القلب يحتوي
…
فجأة كل فرقد
شاكه اليأس فانطوى
…
رهن ماض مبدد
كنت أرتاح للقصي
…
د كجاث بمعبد
يتصبانى القري
…
ض بوحي مجدد
فأناجيه حالما
…
ببيان مخلد
وأجاريه لا أنى
…
كمحب مهد
وإذا بي أعافه
…
بعد ما كان مقصدي
كنت أستقبل الصدي
…
ق كشاد مردد
مغرقا في تلطفي
…
ممعنا في توددي
أغزل الود من فؤا
…
دي وأسقيه موردي
ثم إذ غالني الأسى
…
والأسى خير مرشد
علمت والبين غالبي
…
قاما بالتوحيد
كنت للمجد عاشقا
…
كلفا بالتوحد
أتحرى طلابه
…
رائحا ثم مفتدي
فيه مجلي سعادتي
…
فيه ريى وسؤددي
ثم إذ شمته بري
…
قا لجان محسد!
لم اعد بعد راضيا
…
بالذي كنت أجتدي
أفلت الأمس من يدي
…
لم يهدهده موعدي
وغفا حاضري فوا
…
لهف نفسي على غدي!
مكة
حسن عبد الله القرشي
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
رسالة الجنوب إلى الشمال:
يا أخي في الشمال، يا أخي في الله والدين والوطن. . باسم كل أخ لك في الجنوب؛ باسم كل سوداني كريم على نفسه وكريم على وطنه، يطيب لي أن أوجه إليك الحديث كما وجهته إلينا على صفحات الرسالة، حافلاً بصدق الوطنية، زاخراً بعمق الأخوة، ملتهباً الإيمان!
حقاً يا أخي إننا في (ميدان الجهاد يد تمد إلى يد، وفي معرض التضحية قدم تسعى إلى قدم، وفي مجال الوفاء عاطفة تقبس من عاطفة). . ولله ما كان أصدقك وأنت ترسل صرختك المدوية التي أيقظت كل ضمير وهزت كل شعور إن الشمل لن يتفرق، وإن البناء لن يتصدع، ما دامت هذه القطرات الأبية من الدم المسفوك على ضفاف القناة وفوق ثرى الخرطوم، قد ألفت على الطغاة أروع الدروس في التضحية والبذل والفداء، وأقاقت منهم المضاجع وهي سارية في العروق وهي جارية على الأرض، وهي في حركة الحياة الطليقة وهي في سكون العدم)!
أجل يا أخي ورددها إذا شئت، فقد رددناها معك باللسان وحفظناها في قرارة الوجدان، واتخذناها شعاراً للأخوة المقدسة التي (استروحت أنسام الأرض الطيبة على ضفاف نهر واحد وتحت سماء وطن واحد. . إنني لا أجد خيراً من كلماتك لأعيدها إليك، مضمخة بعطر الجنوب مدثرة بوشاح هواه، لأن (أنشودة الجهاد التي بدأتموها في شمال الوادي قد أذن الله أن ترسل أنغامها في جنوبه؛ وكل نغم إلى فناء، وكل نار إلى رماد، وكل ذكرى إلى نسيان. . ولكن أنغامنا وهي أنغامكم ستظل إلى الأبد ترن في مسمع الزمن. . ولكن نرنا وهي ناركم ستظل إلى الأبد تنير الطريق للحائرين، ولكن ذكرانا وهي ذكراً كم ستظل إلى الأبد قصة تروى وعطراً يفوح)!
إن معاول الاستعمار التي تحاول أن تهدم صرح الوحدة، وإن قوى الشر التي تحلم بأن تهيل عليها التراب، ستمني أخر الأمر بالخيبة وتبوء بالخذلان، لأن ما بنته يد الله لا يمكن أن تنال منه يد الشيطان. . إن هذه الوحدة الطبيعية يا أخي، هذه الأرض التي تجمعنا، هي
إرادة العمل الرزين والتحرير الملهم. إننا هنا لتطربنا أصواتكم، أصوات المؤمنين بحق الشمال والجنوب في حياة حرة كريمة، قوامها الوفاء الخالص وعمادها الإباء الخالد. أما أصواتنا فهي تعانقكم في كل أفق، وتصافحكم في كل طريق، وتناجيكم على أوراق الصحف وأمواج الأثير. . ولن ننسى صوتك وصوت شاعركم الخالد وهو يقدم إلينا لوعة الشعر في محنة الشعور:
فكيف تلاحيني وألحاك إنني
…
شهيدك في هذا وأنت شهيدي
حياتك في الوادي حياتي فإنما
…
وجودك في هذي الحياة وجودي!
مرة أخرى يطيب لي أن أستعير من كلماتك ما أوجهه إلى كل أخ في الشمال: (ولا علينا يا أخي من تلك القيود، إن معدنها الرخيص سيذوب يوماً تحت وهج النار المتأججة في حنايا الضلوع. . وسنمضي اليوم وغداً إلى جنب، وقالباً إلى قلب، وعيوننا أبداً إلى الأفق البعيد)!
(دروديب - السودان)
أخوك في الجنوب
حسب الله الحاج يوسف
هذه الرسالة الكريمة لم تكن الوحيدة التي تلقيتها من أبناء الجنوب، وإنما تلقيت من أمثالها الكثير. . وأكتفي اليوم بنشرها لأنها نفحة شعور تعبر عن نفحات، وخفقا قلب تنوب عن خفقات، حين تغني الدلالة الموحية في مثل هذا المقام عن كل سرد وإحصاء!
إننا نعلم حق العلم أن أصواتنا تملأ أرجاء الجنوب وتتردد في حنايا الصدور، رغم الضجيج المنبعث من أبواق المرجفين. . إن صوت الحق لابد أن يرتفع فوق صوت الباطل، وإن منطق العدل الحبيب لابد أن يطغي على منطق الظلم البغيض، وإن نداء الحرية لابد أن يبلغ الأسماع وإن حالت بينه وبينها السدود والقيود!
إننا حين نتوجه بدعوتنا المخلصة إلى أبناء السودان، ندرك كل الإدراك ما تكنه لنا الكثرة الغالبة من إخاء يسمو على الترغيب ووفاء يعز على الترهيب؛ لأننا نعيش على ضفاف النيل ولا نعيش على ضفاف التاميز، وننطق بلغة القرآن ولا ننطق بلغة الطغيان، ونفخر
بالوجوه السمر حين يفخر غيرنا بالوجوه الحمر. . الوجوه الصفيقة التي لم تعرف في تاريخها الطويل حمره الخجل من ضيعة الضمير وانحطاط الشعور بالإنسانية!!
إنهم، أصحاب الوجوه التي تصطبغ بكل حمرة غير حمرة الخجل، يؤكدون أن بقائها اليوم في السودان هو حمايته من الاستعمار المصري. . وهم، هم أنفسهم، أصحاب المنطق الذي يتحدث بكل لغة غير لغة الحياء، يؤكدون أيضاً أن سر بقائهم في مصر هو حمايتها من الاستعمار الروسي! وفي سبيل درء الخطر عنا، نحن (أصدقاءهم) في الجنوب و (حلفائهم) في الشمال، دوي ثرى الخرطوم. . ولم يكن الرصاص الذي أصاب السودانيين مصرياً أو الرصاص الذي أصاب المصريين روسيا على التحقيق، وإنما كان رصاصاً بريطانياً (صديقاً) وقفت من ورائه الوجوه (الحليفة)؛ الوجوه الحمر التي اكتسبت لونها على مر الزمن من دم الأحرار في كل مكان!
لقد وقف أندريه فيشنسكي فوق منبر الأمم المتحدة ليندد بصور الوحشية البريطانية في شمال الوادي، ووقف من قبله محمد صلاح الدين ليعدد مظاهر الهمجية البريطانية في جنوبه؛ والأول إذا لم تكن تعلم هو وزير خارجة روسيا الذي يتهمه الإنكليز بأنه يهدف إلى احتلال السودان. . ولا تعجب لمثل هذا الاتهام حين يصدر من منطق ذلك اللص الخالد، حين سمع وقع أقدام تقترب فرفع من صوته (الأبي) وكشف عن وجهه (الحي)، ليقول لرجل البوليس في غير تلمم ولا اضطراب:(مين ألي ماشي هناك)؟!
ماذا نقول لهذا المنطق؟ منطق قطاع الطرق حين يستخدمون لغة المحافظين على الأمن والساهرين على النظام؟! لقد تحديناهم من فوق منبر الأمم المتحدة على لسان صلاح الدين، تحديناهم أن يعرضوا على السودانيين استفتاء جرى بعيداً عن قوة البطش وسطوة الإرهاب، ليسمع العالم صوت الجنوب منبعثاً من أعماق القلوب. . تحديناهم فصمتوا صمت القبور، لأنهم يعلمون إذا قبلوا التحدي ماذا ينتظر حكمهم (العادل) من مصير! صمتوا ونطقت شركات الأنباء حين نقلت إلى صحف العالم وقصة الأيدي المصفقة لصلاح الدين؛ أيدي الأعضاء اللذين هزهم صوت الحق فحيوه وهم وقوف. . ومع ذلك فلم يحرك صوت الأيدي المصفقة صمت الوجوه الصفيقة، لأنها لا ترهب غير صوت الحديدوالنار!!
هذه العبارات الأخيرة هي التي نود أن يفهمها طلاب الحرية في الشمال والجنوب. . لقد
فهمها الأمريكيون بالأمس البعيد فاستخلصوا من الذل كرامة، وفهمها الأيرلنديون بالأمس القريب فخلقوا من العدم حياة، وفهمها اليهود آخر الأمر فأقاموا من الوهم دولة! ولقد كانت اللغة الوحيدة التي خوطب بها البريطانيون هنا وهناك، كانت كما قلنا لغة النار والحديد. . وإنها في منطق الحرية لأشرف اللغات، في كل حاضر وآت!!
معالي وزير المعارف والاستعمار الثقافي:
في العدد الأسبق من (الرسالة) كتبت مقالاً عن موقفنا من الاستعمار الثقافي بدأته بهذه الكلمات: (ما هو موقفنا اليوم من الاستعمار الثقافي؟ سؤال يتردد في الأذهان ومن حقه أن يتردد، ويستقر كل لسان ومن حقه أن يستقر، ويوجه إلى معالي وزير المعارف ورجاء السائلين فيه أن يجيب)!
قلت هذا ثم أبديت رأيي فيما يجب أن يكون عليه موقفنا من اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية، بعد أن لقي المصريون من نذالة الإنجليز ما نطقت به الأقلام والأجسام، هذه بدمائها وتلك بمدادها في معرض الثورة على مظاهر الظلم والغدر والطغيان. . أبديت رأيي ملخصاً في هذه السطور:(هذه اللغة وتلك الثقافة كلتاهما تحتل مكانها المقدس في المدارس والجامعات، فلم لا نستبدل بهما لغة الألمان وثقافة الألمان، أو لغة الروس وثقافة الروس، لغة الفرنسيين وثقافة الفرنسيين؟ لما لا نفعل المعنى البعيد كامن وراء هذه الكلمات؟ المعنى البعيد الذي يتمثل في كرامتنا حين نكون (أحرار) في اختيار لغة أخرى غير لغة الخصوم، وتفضيل ثقافة أخرى على ثقافة الأعداء)؟!
كتبت هذه الكلمات كما سبق أن قلت، في عدد الرسالة الذي ظهر في اليوم السادس والعشرين من نوفمبر، وفي اليوم الثالث من ديسمبر، أي بعد ذلك بأسبوع واحد، طلعت جريدة (الأهرام) على القراء بهذا النبأ:(قرر معالي وزير المعارف أن تكون اللغة الأوربية التي تدرس في المدارس الثانوية طبقاً لقانون التعليم الثانوي الجديد هي: الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية، على أن تكون إحدى اللغتين الأوليين أصلية، وإحدى اللغتين الأخريين إضافية، وأن يبدأ تنفيذ هذا القرار بمدارس القرار والإسكندرية هذا العام، ثم يتم تعميمه تدريجياً. . وطلب معاليه إلى الهيئات الثقافية في السفارة الإيطالية والمفوضية السويسرية ترشيح مدرسين للغتين الإيطالية والألمانية)!
هذ هو المنبأ الذي نقلته (الأهرام) إلى الجمهور القارئ منذ أيام. . ولقد كنت أود وقد تفضل معالي الوزير فحقق بعض الأمل الذي تطلع إليه هذا القلم في رغبته؛ كنت ألا يكون للغة الإنجليزية مثل هذا المقام (الأول) أو المكان (المحترم) بين غيرها من اللغات، وأن نجد اللغة الروسية مكانا إلى جانب اللغتين الجديدتين وأعنى بهما الألمانية والإيطالية! إني لا أستطيع أن أنكر هذه الخطوة الموفقة لمعالي وزير المعارف لأنها تحمل في أحشائها جنين تلك الفكرة التي جعلت منها المحور الأصيل لما كتبت، أعني بها فسح المجال للغات أجنبية أخرى تشعرنا بأننا (أحرار) في الاختيار، ولسنا مرغمين على قبول لغة بعينها خضوعاً لرغبة مستعمر عقدنا العزم على التخلص من آثار وأوزاره!
إن هذه الخطوة (تحمل) في أحشائها (جنين) تلك الفكرة؛ ولكنني كنت أرجو أن (تضع) لنا (مولوداً) مكتمل الخلقة واضح القسمات، مهما يكن من شئ فأن لمعالي وزير المعارف وجهة نظره التي أملت عليه مثل هذا القرار؛ ولكنني ما زلت أطالب بألا يكون للغة الإنجليزية مثل تلك (الأولوية) التي اكتسبها في رحاب هذا الوضع الجديد! وأود أن أقترح - ما دام معاليه يريد الإبقاء على تلك اللغة - منح الحرية للطلاب في اختيار لغتين من تلك اللغات الأربع، ولا بأس من أن تكون إحداهما أصلية والأخرى إضافية؛ أعني ألا يكون هناك (إرغام) على أن تكون لغة بالذات في المقام الأول. . ولعل الهدف الذي أرمي إليه واضح لا يحتاج إلى تفسير، حين ألخصه في كلمة واحدة هي (الحرية). . الحرية في اختيار اللغات والثقافات!
أما اللغة الروسية والثقافة الروسية فلنا إليهما عودة في المقال المقبل، حين تعرض لموقفنا من الاتحاد السوفيتي كدولة لا كنظام من نظم الحكم، تبعاً لموقفه من في هذه الأيام!
أسئلة من القراء:
سألني بعض القراء عن المعنى الذي رميت إليه من وراء هذا التعبير: (أشهد أن تلك اللغة ليست أشرف اللغات)، حين كنت أتحدث عن اللغة الإنجليزية وأطالب بإلغائها في المدارس والجامعات. . ثم انتقل بعضهم من هذا السؤال إلى سؤال آخر: ما هي ضوابط اللغة الشريفة في رأيكم؟!
ورداً على حضراتكم أقول: إنني ما عمدت إلى هذا التعبير إلا وأنا أرمي من ورائه إلى
السخرية أو (التريفة). . ولعل المفتاح كامن هناك، في ذلك التعبير الآخر الذي يسبق هذا التعبير حين قات: إن اللغة الإنجليزية تحتل (المقدس) في المدارس والجامعات. . ومن هنا يكون هدف السخرية المقصودة هو لماذا تقدس هذه اللغة تقديس القيم الشريفة، وهي ليست من هذا المعنى الأخير في شئ؟!
أما بقية الأسئلة وهي لحضرات الأدباء: منير آل ياسين ببغداد حول (الشعر المرسل أو الشعر النثور)، ومحمد رفعت الدوياتي بالقاهرة حول (مسرحية دنشواي الحمراء)، ومحمود سلطان البدراوي بأسيوط حول (الأساليب الأدبية). واليماني أحمد السكري سفر الشيخ حول (الاستعمار الثقافي). . فإن موعدي مع الإجابة عنها في المقال إن شاء الله
أنور المعداوي
الكتب
(ديوان رسالة المشرق) لمحمد إقبال
تعريب الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وديوان (اللمعات) للدكتور المعرب
للأستاذ عبد النعم خلاف
منذ أن عرفنا كفايات (الدكتور عبد الوهاب عزام) الأستاذ بكلية الآداب بجامعة فؤاد والعالم الباحث الأديب، ومن بينها كفايته الممتازة في حذق الفارسية والتركية والأوربية، وأنا أسائل نفسي والناس: لماذا لا تنتفع الدولة والهيئات الإسلامية والجهات الأدبية بجهد هذا الرجل وفضله في توثيق عرى الأخوة والصداقة بين الشعوب هذه اللغات وبين مصر خاصة والعرب عامة! إن ما يفعله مثل هذا العالم الأديب المدرك في توطد العلاقات بين هذه الأمر والشعوب أعظم وأفعل بكثير مما تفعله تلك العلاقات التقليدية الرسمية المحدودة القائمة على الدبلوماسية المصرية التي لا تجد مثل هذه الكفاية في أغلب المجالات، وإن وجدتها فأخلق بها أن نضيعها فيما تضيع من مواهب ومصالح ومعان. . .
حقاً كان السؤال يشغلني منذ عشرين سنة، وما كنت أظن أن ما أرجوه وأسأل عنه سيتحقق؛ لما كنت أراه من انصراف مصر الرسمية، إلى ما قبيل هذا العهد، عن التوجه للشرق الإسلامي وشعوبه وعلاقاته، واتجاها صوب الغرب لتكون منه ولو في موضع الذيل. . وكان يشرفها في نظر تلك الطبقة الممسوخة التي ضيعت كل شئ حتى نفسها.
ثم تداركنا الله بلطفه فأظلنا ذلك العهد الذي ابتدأنا نتحرر منه من نظرات الممسوخين المصروفين عن الخير الكامن في الشرق الإسلامي، وتدرك بعض الحقائق عن أنفسنا وعلاقاتها الأصلية بالأمم الإسلامية والسرقية، وكان الانتفاخ بمواهب الدكتور عبد الوهاب عزام بك في توطيد تلك العلاقات من مفاتح هذا الاتجاه، وأي انتفاع في السفارة بين الأمم أعظم من القيام بجانب السفارة الدبلوماسية الفكرية وتعريف كل من الطرفين بعقل الآخر وروحه ومزج العقلين والروحين عن طريق الترجمة والنقل للآثار الأدبية الموجهة للحياة؟!
لقد عرب الدكتور عبد الوهاب ديوان (نيام مشرق) أو رسالة المشرق للشاعر الفيلسوف
محمد إقبال، الذي كان قيام دولة الباكستان لمحة من لمحات خاطره وشاعريته، أوحى بها إلى مسلمي الهند في خفقا من خفاقات الإلهام الذي يخلق الأحداث الجسام وبغير وجه التاريخ، فما لبثت أن تلقفها منه (رابطة مسلمي الهند) على يد البطل الحديدي رجل الكفاح والصبر (محمد علي جنه) الذي نفخ في عزم بني دينه حتى خلقت باكستان في لحظة من لحظات التاريخ الحاسمة المسعدة. .
ولقد عرفت روح الدكتور المترجم روح الشاعر الملهم من قبل أن نتعرف إلى أرضه ودياره ودولة أحلامه التي تحققت بعد وفاته بوقت قليل.
ولست بصدد تقديم الدكتور عزام بك بوصفه مترجماً أديباً عالماً أصيل اليباجة العربية عميق الإدراك مشرق الروح أمين الآراء فذلك مني جرأة لا تحمد، بعد أن عرفته العربية علما من أعلام الفكر والقلم واللسان. . ولست كذلك بصدد عرض ديواني رسالة المشرق واللمعات ونقدهما النقد اللائق بهما. . وإنما أنا الآن بصدد التنويه بظهور هذين الأثرين الفكرين في ثوب من الشعر العربي المبين.
في (رسالة المشرق) تحليق فكر ورفرفة روح؛ فإن إقبالاً من الشعراء الفلاسفة الصوفيين الذين تزدوج في نتاجهم العشق الصوفي بالعلم ازدواجاً ينتج تلك (الحلقة المفقودة) من الآداب الرفيعة التي يتمثل فيها جلال الإنسانية وسمتها ووفوفها في نصابها الأعلى. . وفيه كثير من الومضات التي يمتاز بها الشعر الصوفي، قد تظهر صوراً واضحة أو رموزاً مبهمة أو ضباباً
وفيه توجيهات عقلية ودينية في صور من الأمثال المضروبة على ألسنة الحيوان والنبات والجماد. وفيه تلك الخواطر الوجدانية المشتعلة ذات الجذوة الحمراء والمبتردة ذات الجذوة البيضاء. . .
وحسبي أن أذكر المذهب الذي سلكه إقبال وهو يتضح في تلك المحاورة التي أجراها بين العشق والعلم.
العلم:
أنا سر الكواكب والجهات
…
وفي قيدي ثوى ماض وآت
وعيني حدقت فيما أمامي
…
وما نظري وراء السابحات؟
وكم نغمت في عودي وبوقي
…
وأسراري عرضت بكل سوق
العشق:
بسحرك سجرت هذي البحار
…
وملء الجو سمك والشرار
وكنت لي الصديق فكنت نورا
…
ونورك مذ هجرت حماي نار
ولدت الأمس في حرم الرحيم
…
وصرت اليوم في قيد الرجيم
هلم فرد روضا ذا اليبابا
…
ورد مشيب دنيانا شبابا
حلم بذرة من نار قلبي
…
أقم في الأرض فردوسا عجابا
كلانا الدهر خل لا يجور
…
للحن واحد بم وزير. . .
ألست ترى في هذه الأبيات أمل الإنسانية المفقود الذي ما فتئت نفوس المخلصين نتطلع إليه وهو قيام حياة يعرف فيها للعلم مكانه؛ ولمنطق القلب وشفافيته ورحمته وعشقه للمجهول فكأنه؟ وألست ترى مشكلة العلم تتخلص في انه لا يزال يولد في نبضة من نبضات رحمة الله الرحيم بالإنسانية فما يلبث أن يتلقفه الشيطان الرجيم فيدمر به العامر، ويعدب به من يتطلع إلى الرحمات المرسلة؟
ثم ألست نراه يضع العلم والعشق حيث يجب أن يوضعا معاً في خلة صادقة لا تجوز ولا تطغى، كأنهما وتران في قيثارة يجب أن يتوازن التوقيع عليهما حتى ينغما نغماً فيه ذلك (الهرموني) والانسجام الموسيقي الذي يثير في النفس إطرابها وأشواقها؟!
وإقبال بهذا الاتجاه الصحيح المزدوج رائد من رواد الفكر الإسلامي الحديث، أنقذ به مسلمي الهند من آثار السلبية والانطلاق الشعري الصوفي اللذين يغلبان علي قلسلات الهنود، ويشل قوى العقل والعمل ويحرم الإنسان من الانتفاع بالقوى المادية، وأنقذ بذلك عدداً كبيراً من المسلمين الهنود الماديين المحدثين الذين لا يؤمنون بغير العقل المادي على الأسلوب الغربي الحديث الذي لا يؤمن بما وراء المادة فردهم إلى حظيرة الإسلام بعد أن علموا نظرته المزدوجة إلى الوجود.
وهو كغيره من الصوفية لا يعول على العقل وحده وإنما يكبره حينما يصحب العشق ويفنى فيه. والعقل عند الصوفية عاجز جبان لا يدرك الحقائق الكبرى ولكن يتصرف في الجزئيات.
يقول إقبال:
العقل يحرق عالما
…
في جلوا منه تغير
لكنه بالعشق يعرف
…
كيف في الدنيا يسير
العشق في الأرواح يخلق
…
كل لون أو يثير
بالعشق ترتاح القلوب
…
وإنه فيها سمير
أنصت لقلبك ساعة
…
فلعلما يدنو العسير
لقد قدم المترجم للديوان للديوان ولمؤلفه مقدمة وافية بالتعريف بالشاعر وفلسفته وعرانس شعره ومصادر ثقافته؛ وبين طريقة في الترجمة بما جعل هذه المقدمة من نماذج الدراسة الأدبية التي تدور حول الشاعر وعصره وعناصر تكوينه.
ألحق بديوان (بيام مشرق)(اللمعات) وهو خلاصة فلسفة الدكتور واتجاهاته وتوجيهاته وصدى لالتقاء هذين الروحيين الكبيرين اللذين جمعت بينهما الأذواق الصوفية والدراسات العميقة لآثار شعراء التصوف من الفرس والترك. والاتصال الوثيق بالدراسات الأوربية. والحضارة الغربية والفهم العميق للإسلام وروحه وعقائده
وقد أهدى المترجم هذه اللمعات إلى اعترافاً بفضله إذ شرع في نظمها عقب قراءته لمنظومتي إقبال (أسرار خودى) أي أسرار الذاتية و (رموز خودي)
و (اللمعات) لطيف الحجم ولكنه ملئ بالتأمل والهيام الصوفي وقضايا من العقل الواعي، وخلوص النفس من الشوائب والقيود، استنهاض القوى الذاتية ودفعها نحو الكمال والقوة والحرية وأشراف الأمور، والأحكام الصادقة على الأخلاق والأعمال، والتوجيهات الموفقة للشباب.
وحسبي أن أسرد عليك أبياتاً من بعض قصائده لترى الآفاق التي رادها: لقد افتتح الديوان بمطولة بدون عنوان سار فيها على درب الصوفية وحشد فيها كثيراً من الخواطر والصور والتوجيهات منها:
كثت سطراً لم يفسره أحد
…
خطه في غيبه الله العمد
في ضميري كل معنى مبهم
…
حرت في الإعراب عنه بالكلم
قد ثوى العالم في قلبي وما
…
خط شئ فيه إلا الحرف ما
فهو هنا صوفي رمزي أصيل تدفعه قوى العشق والاستغراق في التأمل
ثم يسير على درب القوم وكأنك تسمع إلى الشهرزوري في قصيدته الرائعة:
لمعت نارهم وقد عسمس الليل ومل الحادي وحار الدليل إذ يقول:
يا لبيني أوقدي، طال المدى
…
أوقدي على النار هدى
أوقدي يا لبن قد حار الدليل
…
أوقدي النار لأبناء السبيل
ارفعي النار وأذكى جمرها
…
عل هذا الركب يعشو شطرها
شردي هذا الظلام الجاثما
…
أرشدي هذا الفراش الحائمة
ثم يأخذه الهيام بنشوته فيصور انطلاقه من انطلاقات نفسه
رن في آفاقنا هذا النداء
…
فأممنا البيت يحدونا الرجاء
قد غنينا عن مبيت ومقيل
…
وعن الأمواء والظل الظليل
وعن الرغبة والخوف سوى
…
خلع النعلان في وادي طوى
كل حر ضاق عنه الموطن
…
وانطوى دون مناء الزمن
كل طيار على متن الفكر
…
وعلى متن هيام لا يقر
ثم يعود بعد هيامه في عالم الرموز إلى عالم الصور الكبيرة للذاتية الإنسانية الكاملة في الإسلام
حبذا الصوت فمن هذا البشير
…
ومن الهاتف بالقلب المبير
ومن المسعد في هذي الهموم
…
ومن الباروق في هذي الغيوم
ومن الهابط في نور السما
…
هاويا في الأرض جيلاً مظلماً
ومن الهادي إلى أرض الحبيب
…
يعرف النهج وقد حار اللبيب
ومن السائق شطر الحرم
…
وإلى الأصنام سير الأمم
ومن القارئ في بيت الصنم
…
سورة الإخلاص في هذا النغم
ومن الحر الذي قد حطما
…
من قيود الأسر هذا الأدهما
ومن الباعث في ميت الأمم
…
ثورة العزة من هذي الهمم
ثم يمضي الدكتور الشاعر على هذا النهج الواضح المشرق في قصائد الديوان التوجيهية تحت أمثال العنوانات الآتية: (صغار الهمم)(العالم معبد)(لا رهبانية في الإسلام) (معنى
التوكل) (الأمل) وفي هذه القصيدة الأخيرة معان ووصايا يجدر أن توضع دائماً أمام عيون قادة البعث الإسلامي لتجدد من عزمهم وتشحذ من هممهم ليواصلوا كفاحهم في ظل من روح الله الذي يطرد اليأس آفة الآفات لجهاد حياة الظلام
لا ترانا في جهاد نيأس
…
ليس من أمتنا من يئسوا
أشعل الإيمان في كل دجي
…
وأقدح العزم إذا الهول دجا
وصل القلب بخلاق الرجاء
…
واخلقن في كل حين ما تشاء
إنما الإنسان فكر وعمل
…
يصدع الظلماء في نور الأمل
أمل الإنسان في القلب ضياء
…
وهو في الكف جهاد ومضاء
وقضاء الله عون الآملين
…
وهو في عون الأباة العاملين
هذه عجلة من الدواوين، أخالصين للحق والقوة والجمال، الزاخرين بجواهر المعاني الإسلامية يقدمها الشاعران نماذج لما في القلب الإسلامي من مدخرات للإنسانية الضالة الخابطة المعذبة.
يجدر بوزارات المعارف في ديار الإسلام أن تضعها أمام عيون النشء كما تكثر من وضع آداب (الترف) العقلي وتمليق الغرائز، والتصوير المكشوف للآفاق المنحطة من حياة القطيع.
وقد نشر الديوانين (جماعة إقبال) في (كراتشي) بالباكستان في مجلد أنيق على ورق فاخر كأنه ورق الورد رونقاً وبهاء.
عبد النعم خلاف
البريد الأدبي
مرحباً بطلائع المجد
أزعجت المستعمرين هذه اليقظة التي انتظمت الشعوب الإسلامية جميعاً، وها لهم أن يروا هزة الحياة تنطلق في ربوعها الممتدة ما بين قرني الدنيا، فتهب من رقادها كما تهب الأسود، لترحض عنها عار الذل، وتستعيد حياة العزة والكرامة.
وإن الشعوب الإسلامية حين تندفع في هذا السبيل المجيد لتستجيب في ذلك لنداء دينها المنبعث من أعماقها؛ ذلك الدين الذي جعل الإيمان والعزة حليفين لا يفترقان، وأضاء للمسلمين بنور تعاليمه فجاج الحياة ليتخذوا طريقهم إلى بعيد الغايات في ثقة وأمن وسلام. وإن جذوة الحياة لتكمن في أعماقنا. وإن طالعك منهم الخمود. إنها الروح التي الروح التي تصرح بها الآية الكريمة (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) فمظاهر الحياة الجديدة التي تبدو في الربوع الإسلامية اليوم تتصل أسلاكها بهذا المصدر القوي الذي يمدها بالقوة، ويرفدها بالحرارة، ويمنحها الدوام والخلود.
هذه المبادئ الخالدة، وتلك التعاليم السامية، وهذه التشريعات الحكيمة الرحيمة هي روح الحياة في المسلمين، وعنصر بقائهم، وسر قوتهم وتماسكهم، تصلهم بإمدادها، وتهديهم بإشراقها، وتدفعهم بتيارها، ولن يتوقف موكبهم عن المسير إلى غايته ما دام يستند إلى هذه القوة الروحية الخالدة، ويندفع بتلك الطاقة السماوية الجبارة. شهد بذلك التاريخ الماضي، ويشهد بذلك التاريخ المعاصر: فهذه باكستان وإندونيسيا وإيران وهذه مصر. . . وسترى ما سيفعله العراق وشرق الأردن والشمال الأفريقي.
أيها الأمم الساعية لمجدها المنطلقة لغايتها. . . لا تلتفتوا إلى الوراء، ولا تتوانوا في المسير، ولا تقفوا دون الغاية، ولا تخشوا سوءاً، ما دمتم تسيرون على هدى الله.
فرشوط
عبد الفتاح محمد حماد
هنة لغوية
قرأت في العدد - 958 - من مجلة الرسالة المجيدة قصيدة بعنوان (تذكري) للأستاذ الشاعر إبراهيم محمد نجا استعمل في أحد أبياتها (ظل وريف) كما يأتي:
وإن عمري في هواك انطوى
…
كما انطوى في القيظ ظل وريف
واستعمال (ظل وريف) استعمال شائع خطأ، والصواب ظل وارف. هذا ما أردت التنبيه إليه وعلى الأستاذ الشاعر الفاتحة وسلام.
كلية الحقوق - بغداد
عبد الحميد الرشودي
أعتاب لا عتاب:
جاء في الأدب والفن في الأسبوع الماضي ما يلي: (وإني أعتب على الأستاذ الفاضل (بصدد مناقشة الأستاذ أحمد محمد بريري. والجملة في الأصل الذي كتبته هكذا: (وإني أعتب الأستاذ الفاضل) ويظهر أن جامع الحروف بمطبعة الرسالة ظن أني تركت (على) سهواً، فأثبتها هو مشكوراً على حسن نيته.
والغرض من الجملة هو الإقرار بالحق في العتاب الذي وجهه إلى الأستاذ فيما يختص بالخجل من الخطأ، فقد جاء ذلك مخالفاً لما أجتهد أن أجري عليه من الاهتمام بموضوع المناقشة وتجنب ما يمس مناظري.
قرأت بعد كتابه ما نقدم رداً للأستاذ محمد فأر في الأساس (4 - 12 - 51) لم أجد فيه ما يستدعي معاودة الكتابة، فإذا كان لدي الأستاذ البربري نفسه شئ في هذا الموضوع فأنا في انتظاره. وله تحيتي واحترامي.
عباس خضر
القصص
صائدة النمور
للكاتب الإنجليزي ساكي
كان من أقوى بواعث السرور إلى مسز باكلتيد ومن أشهى أمانيها أن تصطاد نمراً، لا لأن شهوة القتل قد استولت فجأة على نفسها، ولا لأنها شعرت بأنها تترك الهند - عند مغادرتها إياها - آمن واهنا مقاماً مما وجدتها عند قدومها إليها إذ هي أنقصت من عدد وحوشها الضاربة بنسبة جزء من وحش إلى مليون من السكان؛ إنما نشأت هذه الرغبة المفاجئة الملحقة في اقتفاء خطوات ذلك الوحش النمرود على أثر ما سمعته عن لوناً بمبرتون التي ركبت منذ عهد قريب طيارة مع أحد الطيارين الجزائريين قطعت بها في الجو أحد عشر ميلاً؛ ولم يكن للوناً من حديث غير حديث هذه الرحلة الجوية الجزئية. وهذا حادث لم يكن لمسز باكلتيد بد من أن تكفه بحادث من جانبها أشد منه جراة وادعي إلى الإعجاب بأن تصطاد نمراً تحمل جلدة معها عند عودتها، وبأن تنشر الصحف مجموعة من صورها الفوتوغرافية لمناسبة هذا الحديث العظيم
ورسمت مسز باكلتيد في رأسها بالفعل صورة لمأدبة غداء تأدبها في بيتها بشارع كرزون استريت لغاية ظاهرها تكريم لونا بمبرتون، وباطنها أن يرى المدعوون جلد النمر الذي اصطادته يغطي القسم الأكبر من أرض الغرفة، وأن يستغرق حديث هذا الصيد كل الوقت الذي يقضيه الضيوف في هذه الوليمة. كذلك رسمت هدية للونا بمبرتون في عيد ميلادها المقبل. وكانت مسز باكليد امرأة شاذة في عالم مفروض فيه انه واقع تحت تأثير الجوع والحب، فكانت تتأثر - إلى مدى بعيد - في أغراضها وحركاتها بكرهها للونا بمبرتون
وساعدت الظروف مسز باكليد، فقد عرضت أن تدفع ألف روبية لمن يهئ لها فرصة اصطياد نمر دون التعرض لخطر جدي ودون بذل مجهود شاق. وقد اتفق أن إحدى القرى المجاورة كان في مقدورها أن تفخر بأنها الملتقى المحبب إلى وحش محترم الأصل اضطره ضعف الشيخوخة أن ينصرف عن تحصيل قوته بافتراس حيوانات الغاب، وأن يعود معدته القناعة بالحيوانات الصغيرة الأليفة. فحركت الألف روبية الموعود بها غزيرة القروبين الرياضية التجارية، فرابطوا ليل نهار على الحدود الخارجية للغابة المحلية ليبقوا
النمر داخل هذه الحدود ويحولوا بينه وبين الخروج منها سعياً وراء ميدان جديد للصيد. وأخذوا يتركون الأنواع الرخيصة من الغنم مهملة عن عمد في دائرة تجوله ليقنع بالبقاء في حدود هذه الدائرة. وكان أخوف ما يخافونه أن يموت ذلك الوحش بمرض الشيخوخة قيل حلول الأجل الذي حددته مسز باكلتيد لاصطياده. وكانت النسوة وهن عائدات من أعمالهن في الحقول يحملن أطفالهن على سواعدهن يكتمن غناءهن إذا مررن بالغابة حتى لا يقطع على سارق الغنم المحترم نومه الهادئ المريح
وأقبلت الليلة التي جعلت أجلاً للصيد. وكانت ليلة مقمرة صافية، وكان القرويون قد أعدوا مصطبة مريحة فوق إحدى الأشجار القائمة في نقطة تناسب عملية الصيد، وعلى هذه المصطبة قبعت مسز باكلتيد ورفيقتها المأجورة مس مبين، وكان القرويون قد عقلوا في المكان المناسب شاة وهبتها الطبيعة القدرة على الثغاء الذي لا ينقع حتى لو أن نمراً كان نصف أصم لسمعها دون شك في الليلة الهادئة. وانتظرت المرأة الرياضية صابرة صبر الكرام مجيء الصيد المشتهى، وكانت مزودة ببندقية مجهزة أدق تجهيز لأصابة المرمى، كما كانت تحمل معها رزمة من ورق اللعب لقطع الوقت في غير ملل
وقالت مس مبين:
(أتحسبنا معرضتين لشيء من الخطر؟)
ولم تكن مس مبين في الواقع قلقة من ناحية الوحش المفترس، ولكنها كانت ذات طبيعة تأتبي أن تؤدي ذرة من العمل فوق القدر الذي أجرت على أدائه
وقد أجابتها مسز باكلتيد:
(كلام فارغ! فهذا النمر عجوز جداً ولن يستطيع أن يثب إلينا هنا حتى لو أراد ذلك)
فقالت صاحبتها:
إن كان نمراً عجوزاً فمن رأيي أن تحصلي عليه بأرخص من هذا الثمن، فأن روبية مبلغ كبير)
وكانت مس لوبزا مبين متطبعة بطبع أخت لها كبرى شديدة الحرص فيما يتصل بمسائل المال على العموم دون نظر إلى الجنسية والدين. وكان تدخلها المستمر سبباً في اقتصاد عدد كبير من الروبيات فلا تبدد (بقشيشاً) في بعض فنادق موسكو كما كانت الفرنكات
والسنتيمات تلتصق بأيديها التصاقاً طبيعياً في ظروف من شأنها أن تنتزعها دون تعب من أيد أقل من أيديها شفقة. وقطع عليها ملاحظتها على الثمن الذي تشتري به جثة النمر ووجوب تخفيض هذا الثمن ظهور النمر نفسه على المسرح. . . على أن ذلك الحيوان الشيخ المحترم لم يكد يقع نظره إلى الشاة المتعلقة حتى انبطح على الأرض هادئاً، لا رغبة في أن يحتاط على إخفاء نفسه عن نظرها، حتى لا تهرب منه، ولكن حرصاً على أن قليلاً قبل أن يبدأ حملته الهائلة على فريسته.
فقالت لويزا مبين في صوت عال باللغة الهندوستانية لتسمع رئيس القرية الذي كان على شجرة مجاورة:
(إني أعتقد أنه مريض)
فقالت مسز باكلتيد:
(صه!)
وفي اللحظة نفسها أخذ النمر يسير متخطراً إلى فريسته فقالت مس مبين في شئ من اللهفة:
(إذا كان النمر لا يمس الشاة فليس ما يدعوننا إلى أن ندفع ثمنها.)
وكان لهذه الشاة المعدة طعماً للنمر ثمن خاص. وهنا دوى في الجو صوت الطلق الناري مسبوقاً بوميض خاطف للأبصار، فوثب الوحش الكبير مائلاً على أحد جنبيه ورقد ساكناً سكون الموت. فلم تمض لحظة حتى احتشد حول الفريسة عدد كبير من الأهالي المتلهفين، ولم يلبث صياحهم أن حمل الخبر السار إلى القرية، فدفت الطبول دقة النصر، وكان لتهليل النصر وأغاني الابتهاج صداها الجميل في قلب مسز باكلتيد. وبدالها في الحال أن وليمة الغداء في شارع كرزون استربت ستكون أقرب مما قدرت
وكانت لويزا مبين هي التي لفتت الأنظار إلى أن الشاة المسكينة تعاني الآم الموت من أثر إصابتها بطلق ناري بينما لا يوجد في جسم النمر أي أثر للرصاصة التي لأطلقت من بندقية الصيادة الماهرة. فكان من الواضح أن الطلق الناري قد أصاب الحيوان غير المقصود، وان الوحش الضاري قد مات بهبوط القلب من اثر صوت الطلق المفاجئ، وقد ساعد على ذلك انحلال الشيخوخة. وقد ارتاعت مسز باكلتيد ارتياعاً ظاهراً من كشف هذه
الحقيقة ولكنها على كل حال قد أصبحت مالكة نمراً ميتاً، أما القرويون الذين كان لعابهم يسيل على الألف روبية فلم يروا بأساً في أن يتغاضوا عن خرافة اصطياد الوحش. وأما مس مبين فكانت رفيقة مأجورة. وعلى ذلك واجهت مسز باكلتيد الآت التصوير طروبة القلب، وطار صيتها من صفحات جريدة (تكساس وسكلى اسنابشت) إلى ملحق يوم الاثنين المصور لجريدة (نوفوي فريميا)
أما فيما يتصل بلونا بمبرتون فقد بقيت عدة أسابيع آبية النظر إلى أية صحيفة مصورة. وكان الخطاب الذي بعثت به إلى مسز باكلتيد تشكر لها فيه إهداءها مشبكاً من مخلب النمر مثالاً للانفعالات المكتومة، وقد رفضت في نفسه حضور وليمة الغداء، فأن هناك حدوداً إذا تخطتها الانفعالات المكتومة كان ذلك هو الخطر المحقق
وانتقل جلد النمر من شارع كرزون استربت إلى (مانورهاوس) حيث فحصه رجال البلدية فحصاً قانونياً وأعجبوا به إعجاباً شديداً. ولقد كان من عوامل الزهو في نفس مسز باكلتيد ذهابها إلى حفلة تنكرية في مرقص البلدية في لباس ديانا إلهة الصيد. ولقد أبت مع ذلك أن نميل إلى اقتراح كلوفيس المغري عندما اقترح إقامة مرقص على طراز القصور القديمة يلبس فيها الراقصون جلود الحيوانات التي اصطادوها حديثاً. ولقد قال كلوفيس عندئذ:
(وسأكون في هذه الحال كالطفل الرضيع لا أجد ما ألبسه غير جلد أرنب أو أرنبين)
ثم قال وهو ينظر إلى تقاسيم وجه ديانا نظرة خبيثة:
(وإن قوامي ليشبه قوام ذلك الطفل الروسي الراقص)
وبعد أيام قليلة من ليلة المرقص قالت لويزا مبين تخاطب مسز باكلتيد:
(ما أبلغها فكاهةيعرف الجميع حقيقة ما حدث!)
فسألتها مسز باكلتيد مسرعة:
(ماذا تقصدين بذلك؟)
فأجابت مسز مبين وهي تبتسم ابتسامتها الممضة:
(أقصد أنهم لو عرفوا كيف أصبت الشاة خطأ وأمت النمر خوفاً)
فقالت مسز باكلتيد، وقد تقلبت الألوان على وجهها في سرعة مدهشة:
لن يصدق إنسان ذلك القول)
فقالت مسز مبين:
(ولكن لوناً بمبرتون تصدقه في غير تردد)
فاخضر وجه مسز باكلتيد اخضراراً غريباً وقالت:
(أظنني على يقين أنك لن تخونيني؟)
فأجابت مسز مبين في لهجة ذات معنى:
(لقد رأيت على مقربة من دور كنج داراً خلوية لقضاة نهاية الأسبوع وإني لأحب أن أبتاعها، ولكنهم يطلبون ثمناً خالصاً لها ستمائة وثمانين جنيهاً وهو مبلغ مناسب لقيمة الدار ولكنني لا أملكه)
وأصبح الأصدقاء جميعاً معجبين بالدار الجميلة التي أطلقت عليها مسز مبين اسم (الأمواج) وهي دار صيفية جميلة تحيط بها حديقة غناء تحوي مجموعة من الأزهار البديعة.
وقد حكم الجميع بأن لويزا قد أبدعت الإبداع كله إعداد دارها وتجميلها.
وقررت مسو باكلتيد ألا تغامر في رياضة الصيد مرة أخرى وكانت تجيب أصدقائها إذا سألوها عن السبب في ذلك الأحجام بقولها:
(لأن الصيد يتطلب أكلافاً عرضية باهظة!)
ع. ح