الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 963
- بتاريخ: 17 - 12 - 1951
من وحي مولد الرسول:
القوة الكامنة في الإسلام
للأستاذ سيد قطب
حينما وقف جلاد ستون في مجلس العموم البريطاني، وبيده المصحف؛ وقال قولته المشهورة:(ما دام هذا الكتاب في أيدي المسلمين فإنكم لن تسيطروا عليهم، ولن يلين لكم قيادهم). . . كأني أعرف بقوة الإسلام الكامنة من الكثيرين ممن يسمون أنفسهم مسلمين. لقد كان يدرك أن في هذا الدين من روح الاستعلاء، ومن قوة المقاومة، ومن عناصر الوحدة، ما يقف للرجل الأبيض بالمرصاد، وما يقاوم أسلحته ودسائسه وحضارته كلها جميعا.
ولكن المسلمين، أو من يقولون عن أنفسهم إنهم مسلمون، لم يدركوا ما أدركه الإنجليز المستعمر، فراحوا يبعثرون في سفه هذا الرصيد المكنون، ويستهينون في بلاهة بتلك القوة الكامنة، ويحسبون الذين رجعية، والعقيدة جهالة، والإيمان سذاجة، وأنهم لا يكونون مثقفين، ولا يكونون متحضرين، ولا يكونون قطعة من أوربا، حتى يتعروا من مقدساتهم، ويتخلوا عن عقيدتهم، ويتندروا بمن يحدثهم عن الإسلام كما لو كان يحدثهم عن الخرافات والأساطير.
ومن هذا الطريق تغلغل الاستعمار. ومن هذا الطريق طوقهم المستعمرون. ومن هذا الطريق ذابت دولهم وشخصياتهم ومقوما تهم واستقلالهم. ومن هذا الطريق طردوا إلى ذيل القافلة، وقد كانوا من قبل مأخذ الزمام.
ومكر الاستعمار، ومكر أذناب الاستعمار، بكل أثر للعقيدة، وبكل محاولة لاستنبات بذورها في الأرواح والضمائر. . في عالم القانون والقضاء نبذت شريعة الله، واستبدلت بها قوانين نابليون. . وفي عالم الوظائف والدواوين، نبذ أصحاب الثقافة الدينية، وأصبحت مراكز الحكم، ومراكز التوجيه كلها في الأيدي التي آمنت بالحضارة الغربية وكفرت بالدين. . وفي برامج التعليم ونظمه، أصبح الدين درسا إضافيا ميتا خارج الجدول، وحتى حين أدخل في الجدول، أدخل ميتا عقيما، والتاريخ الإسلامي انزوى في صفحات مشوهة ممزقة خبيثة.
في كل ميدان، وفي كل حقل حورب هذا الإسلام. حورب في المجتمع، وحورب في الدولة، وحورب في المدرسة. وحورب في الضمير. . حورب حربا لئيمة متصلة واعية تملك كل وسائل التأثير والتدمير. . حورب بقوة السلاح، حين حاولت أوربا الصليبية أن تحطم دول الإسلام في ميادين القتال. وحورب بقوة العلم، في عالم التأليف، وفي دنيا التعليم. وحورب بقوة الفساد الذي كان عملاء الاستعمار ينشرونه في كل مكان تطؤه أقدامهم، ويحطمون به العقيدة وحدها، ولكن الضمير الذي تكمن فيه العقيدة.
لم تبق وسيلة، ولم تبق حيلة، لم يستخدمها الاستعمار الأوربى، ولم تستخدمها الصليبية الغربية في محاربة الإسلام. . . ولكن هذا الإسلام بقى بعد ذلك كله، ورغم ذلك كله، قوة كامنة في أرض الإسلام، وفي أهل الإسلام.
لقد خيل إلى الكثيرين في وقت ما أن هذه القوة قد ماتت إلى الأبد، وأن الدعوات التي ترتفع بين الحين والحين إن هي إلا سكرات الموت، أو هذيان الحمى في اللحظات الأخيرة. . ولكن هذا الإسلام قد أخذ يبدد هذه الظنون. إنه قوة حية. إنها انتفاضة الحياة لا سكرة الموت. إنه هتاف الحياة لا هذيان الحمى. إنها الحقيقة الواقعة الملموسة التي تجبر المستعمرين أنفسهم أن يتحدثوا عن (العالم الإسلامي)!
ذكرت كل هذه المعاني وأنا أحضر حفلا لجمعية العلماء في الجزائر، وأنا ألقى الزعيم الجزائري (مصالي الحاج). . . لقد كانت الجزائر هي آخر أرض إسلامية بتخيل متخيل أن تثب فيها روح الإسلام، بعد كل ما قاسته من كبت وخنق، ومن عذاب ونكال، تحت ضغط الحكم الفرنسي أشنع أنواع الاستعمار الصليبي المتعصب. وبعد كل هذه الجهود المتصلة خلال أجيال كثيرة. جهود المستعمرين، وجهود المبشرين، التي لم تكف عنها فرنسا لحظة واحدة في هذه الحقبة الطويلة.
الجزائر التي جرم فيها تدريس اللغة العربية والدين بالمدارس. والتي صبت الويلات على علمائها ورجال الدين فيها، والتي انتهكت حرماتها وأعراضها لإفساد الدم العربي، وتضييع النخوة العربية، وخلط الأنساب والدماء بالقوة كي تضيع معالم العروبة والإسلام، لا في الأفكار والضمائر فحسب، بل في الدماء والأجسام.
ولكن الإسلام كان أقوى من ذلك كله. كان قوة كامنة عميقة لا تجتث جذورها قوة السلاح،
ولا قوة العلم، ولا قوة الدسيسة: كان قوة السماء لا تملك لها قوة الأرض دفعا.
والآن لقد انبعثت هذه القوة من جديد. لقد انبعثت في مشارق الأرض ومغاربها. لقد انبثقت ينابيعها في كل مكان. لقد كانت من قبل كامنة وراء كل حركة من حركات التحرير التي ظهرت في العالم الإسلامي. أما اليوم فقد أستعلنت وأعلنت عن نفسها. لقد أعلنت عن نفسها في الباكستان، وإندونيسيا. وإيران. وأعلنت عن نفسها في مراكش، وفي تونس، وفي الجزائر. وإنها لتهيأ وتتوثب في الملايو، وفي عدن، وفي بورما. . وإنها لتتجمع في مصر والعراق وباقي الأمة العربية. وإنها لتتنادى في مشارق الأرض ومغاربها إلى (كتلة ثالثة). . إلى (عالم إسلامي) وإن الغرب المستعمر ليسمع هذا التنادي، ويرى هذا البعث، ويشهد هذه المعجزة تتم من جديد. وإنه ليحاول أن يستميل إليه هذه القوة الناهضة بعد أن يئس أو كاد من محاولة القضاء عليها.
لقد أدرك الغرب - وهو أسرع إدراكا للحقائق الواقعة - أن العالم الإسلامي لو كان مقدرا له أن يموت لمات. وإذا كان كل هذا السم لم يقتله، فإنه إذن سيزيده قوة، كما تنطق بذلك حكمة أحد شعرائهم (جيته) الألماني!
ولم يبق كافرا بهذا العالم الإسلامي، شاكاً في وجوده وفي قوته، إلا ذلك الفتات الآدمي الذي خلفه الاستعمار الغربي، ممن يسمونهم (المثقفين). ذلك الحطام الذي استعمر الغرب ضميره وروحه وتفكيره. تلك المخلوقات المضحكة التي لا تؤمن بشيء لم يكتب عليه:(صنع في أوربا)!
عما قليل سيرد لهذه المخلوقات المضحكة شيء (صنع في أوربا) يقول لهم: إن العالم الإسلامي حقيقة (مادية) واقعة. . عندئذ سيؤمنون بوجود العالم الإسلامي. وعندئذ سيتحمسون لإقناع الآخرين بهذه الحقيقة (المادية) الواقعة. . ومن يدري. فلعلهم يومئذ سيحاولون إقناعنا نحن أيضا بهذه الحقيقة!
سيد قطب
على هامش (الوجودية)
راعى الغنم في باريس
للدكتور على شرف الدين
كانت بقايا الشمس الغاربة ترف في جباه العمائر القائمة في ميدان سان جرمان، فيجرى ذائب نضارها في سواد عرانيها، كما يجرى الشاحب الحزين في لمة طافت بها الذكريات. وكان الليل قد أخذ ينشر ذوائبه الغبش على جبين النهار، ويغزو بسكونه الرهيب ضجة الحضارة الصاخبة. بينما كان راعى الغنم قد انتحى جانباً مستنداً إلى جذع شجرة هناك، ومن حوله أسرته الخالدة يؤلفها عنزاته الأربع، وكلبه القروي: أسرة هي رمز الوفاء في كتاب الأيام.
كانت صفارته ترسل أنغاماً واهنة لا تكاد تصل إلى السمع إلا بشيء من عمل النفس، ولكنها على هوادتها كانت تصعد في السماء رائعة لتستحيل إلى دعوات ضارعة في عالم اللانهاية والخلود.
كانت ألحانه لا تحتاج إلى خيال شاعر، ليرددها إلى عالم آخر غير عالمنا الذي نعيش فيه، ولقد ذكرت عندها قول أندريه جيد في السيمفوني باستورال، وهو يجري آراءه في الحياة والفن على لسان الباستير، انه يري (أن الموسيقى لا تصور العالم كما كان، ولكنها تصوره كما يمكن أن يكون لو خلا من الشرور والخطايا).
كان لألحان الراعي روعة في النفس يزيد منها إقبال الليل في سكونه، حتى كأنها دعوة السماء إلى القلب، فانعطفت قبالته وأحسست كأنما أنظر في باريس إلى أثر مقدس، يثنيني عن التقدم إليه جلال الزمن. وروعة الماضي. كان هو الراعي في كل شيء غير سراويلات لم يشهدها الشرق في رعاته، أوربي تغمره الضارة المادية، وتأخذ حياته من أقطارها ولكنه كان عنها بعيداً، وفيها زاهدا لقد ورث عن أبيه (الراعي الخالد) هذا الوجه الهادئ، الذي لفحته حرارة الصحراء، فتركت فيه هذا الرضا العميق، يكشف عن نفس يعمرها اليقين والأمل. ولقد كنت تقرأ في أسارير وجهه شيئا آخر أقوى من اليقين والثقة، كنت تقرأ فيها فلسفة العزلة التي تظهر فيها النفس الإنسانية أقوى ما تكون فهماً وإشراقاً. فيلسوف لم يأخذ فلسفته عن منهج ديكارت، ولكنه أخذها عن أستاذ لا يضل أبدا: عن
الطبيعة التي لقنت أجداده أبلغ الحكمة. لقد عرف الأمل في الشروق، وعرف العراك والألم والصبر في رائعة النهار، كما عرف الهدوء والرضا في صفحة الغروب، وسمع خطيب الليل الصامت يلقى على الإنسانية فلسفة الجنوح والاستسلام إلى قوة غالبة، يجد في جوارها السلم والعافية، واستقام له من كل ما قرأ في كتاب الوجود فلسفة راسخة قوية، لا يغريها الأمل، ولا يوهنها اليأس، لأنها أقوى من إغراء الأمل، وأسمى من تخاذل اليأس. إنها فلسفة الرضا المقرون بإشراق الحقيقة، يطل منه على هذه الحضارة الصاخبة المجنونة.
لم تكن أنغاما تتألف من مقاطع، ولكنها صلوات القلب في محراب الطبيعة، تتألف من ضراعات الرهبان، ونسك العابدين، لست أدرى أهي حفيف ذكريات الزمن البعيد، أم أنها الترانيم الهامسة منذ الأزل في فضاء الوجود. أنها رسول السلام والأمن أقبل من السماء إلى الأرض ليغفر ما جرحت أيدي الحضارة وليبارك الضعاف الأقوياء الذين شرعوا أقوم المثل في الصبر والرضا، حتى إذا أقبل الليل وجدوا فيه متنفساً لآلامهم ودموعهم. .
قال لي تراعى في صفارته: (إن أمانينا ستظل رسول العذاب إلى قلوبنا، وستظل سبب شقوتنا في الحياة، حتى نغير النظرة بأخرى، وحتى نستبدل مقياس السعادة بآخر إلى النفس بصلة، وحتى ننصرف طوعا وترفعاً عن روعة لو اختبرناها لظهر زيفها وباطلها. . .)
(إن فلسفتي هي أقوم ما انتهت إليه الفلسفة المتحضرة: حياة ساذجة لا صنعة فيها، وعزوف عن الظاهر البراق لا زهداً ولا يأسا، ولا حتى تدينا، ولكن إيثارا للحقيقة، وإدراكا لجمالها، وتلبية لنداء النفس المطبوعة التي لا تخطيء في الدعاء. .)
(إن فلسفتي لا تعني بغير نشيد الكون في جملته، وما بحثت قطر عن مم يتألف النشيد، ولا حاولت أن تعرف مقاطع نغمه، وضروب إيقاعه. وإذا جهلت أنا شيئا من هذا فان ذلك لا يحرمني السرور بجمال الأنشودة في جملتها، وإن عناصر الكون الحافلة بالأسرار لتتجمع كلها في لحن واحد، ما أيسر أن تحس النفس جماله، وتنعم بإدراكه، فعلام إذاً أشقى في تحليل المقاطع، ومناقشة العناصر. .)
(إن الوجود في فلسفتنا معشر الرعاة ترنيمة تنفح بعبير السماء، تذيعها الطبيعة في لحنها صباح مساء. إنه النهر الجاري تصفق في جوانبه الجداول، وتنعم الطير على شاطئيه، ما
سألت قط عن منبعه ولا مصبه، ولكنى أسير مع التيار شاديا مغردا، أسبح بهذا النعيم، وأشيد بجمال الحقيقة. .)
(وماذا يعنيني أن أبحث كما يبحث هذا الرجل المعذب (بالوجودية)، انه يشقى ويشقى الناس معه، ليثبت أن الوجود يسبق الجوهر، وان الإنسانية لهذا محكوم عليها بالألم الشقاء. إنه لا يفهم الإنسانية إلا على هذا النحو الأسود القاتم، ولا يراها غير فريسة للآلام، فراح يلتمس لنا في فلسفته، وقصصه؛ ومسرحياته كل جرح دام من جراح الإنسانية المعذبة، وسارت باريس في ركابه تحمل المناظر السوداء، لترى من خلالها هذا الوجود، حتى فترت صبوات القلوب العامرة باليقين والأمل. .)
(وإذا كان (عميد الوجودية) قد زحم مؤلفاته بالمآسي الإنسانية التي يدعم بها مذهبه فإنه نسى الكثير من مسرات الإنسانية. وما الخير في فلسفة لا تقوم إلا على تذكر الشرور والآلام، وتغفل عن مباهج الإنسانية الروحية؛ فقطعت عليه لحنه:
(أتنكر الألم في الوجود أيها الراعي؟ قال: (أفتنكر أنت أن أكثر من النصف في الوجود خير وبركة وجمال؟ رويدك فإن (الوجودية) تنكر المستقبل المسطور في السماء، وتلقى به بين يدي الإنسان ليصنعه بنفسه
قلت: فإنه يسرف في التعبير، ويستخدم من الألفاظ كفيلسوف ما يؤيد به مذهبه، وإنه ليريد أن ينسب (الاختيار) إلى الإنسان، وأن يعقد أمله بالأعمال فإن لها عنده قيمتها وأثرها قال: فسنعود إذاً إلى حديث الاختيار أو الحبر، وما أعرف أن الفلسفة العربية قد قصرت في مناقشتها، ففيم إذاً هذه الضجة؟
لقد كتب ابن سينا عن الجوهر والوجود، يعاونه في ذلك عقل الفيلسوف وخبرة الطبيب. كان فيلسوفا وطبيبا يدرك النفس، كما يدرك المنزل الذي تسكن فيه، فآخى بين الروح والمادة، وزاوج بين المجهول والمعروف، واستقام من ذلك منهج قويم. . سكت الراعي قليلا ثم أقبل في الحديث وقد جرى شعاع من النور في أسارير وجهه: (إن للشرق طريقة حسنة في فهم الوجود. ولقد حل المشكلة هذا الهندي المبارك، وضرب تاغور على الحياة بسرادق من الخير والجمال، وأنكر وجود الشر فيها، وإذا كان له وجود فإنه عدم في عالم الحقيقة، إنه كالخطأ في عملية حسابية له وجود على الأوراق، ولا وجود له في الحقيقة.
إنه كمن يحضر حفلا خاصا، ولا يحمل معه بطاقة الدعوة ممن أقام الحفل. إنه موجود بين المدعوين ولكنه وجود لا تعتبره الحقيقة. . ثم نظر إلى قائلا:(أترى ما قال تاغور هو الشعر، وهبه شعرا! ولكنه حسن جميل. .)
(لا يا سيدي إن لي زوجة جميلة تنتظرني، وإنها من مباهج الحياة عندى، فلم أنقب وأحصى ما لقيت من ألم في النهار، وأنا أعرف أن سروري بها يعدل أضعاف ما لقيت من ألم في النهار! وإن لي أصدقاء من الرعاة نسمر معا، ونتحدث عن مملكتنا المسحورة ذات المروج والجداول والطير. .)
(إن الرومانتسم في أدبنا الفرنسي لم تطبع بهذا الطابع الشاحب ذي المزاج الحزين إلا أن أطلق الشعراء تأملهم العميق في الوجود، وغالوا في التحليق بنفوسهم وهم يتحدثون إلى الطبيعة، حتى عبروا منطقة الجمال إلى مجاهل الفلسفة، وانتهوا في تأملهم إلى السؤال: من أين؟ وإلى أين؟ ولم؟ فلما عجزت عقولهم طوى العجز نفوسهم على ذواتها، فتألموا، واختلطت أفانين الجمال في شعرهم بنبرات من الحزن، تكشف عن نفس معذبة قبل أن تكشف عن نفس متأثرة حساسة.
سكت قليلا بينما كانت تخفق في جبينه طيوف من الحلم والذكريات، ومسمعته يردد في صوت خافت عبارة جينز:(لم يعد عند العلم قول يلقيه. . . وربما كان من الخير أن تقول إن العلم قد عدل عن إلقاء الأقوال، لأن نهر المعرفة قد انعطف في سيره مرات كثيرة بحيث لم يعد في مقدرتنا أن نحكم بالناحية التي فيها مصب النهر) قلت: فما بالك أيها الراعي تخلط بين العلوم الطبيعية وبين فلسفة الوجود، وأين هذا مما نحن فيه؟ قال: فهي إذاً كما قال تاغور: (الحياة حق، وحب، وخير وجمال). ثم نهض الراعي يتبعه كلبه وعنزاته، قلت: فأنى أريد أن أراك مرة أخرى. قال: فموعدنا قهوة الفلور، فقد يكون لنا حديث. قلت: ولم قهوة الفلور؟ فأشار إليها بصفارته قائلا: أما تراه يجلس في شرفتها المطلة على الخارج؟ فنظرت. . . فإذا.
جان بول سارتر
باريس
علي شرف الدين
دكتور من جامعة باريس
8 - الثورة المصرية1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
كتلة إسلامية:
ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها 1945 حتى انقسم العالم إلى كتلتين: إحداهما شرقية وتتزعمها روسيا، والثانية غربية وتتزعمها أمريكا وإنجلترا. وقد ثار نضال وجدل: إلى آي الكتلتين تنضم مصر؟ أتنضم إلى الكتلة الشرقية أم الكتلة الغربية أم تقف على الحياد؟ وقد رد على هذه الأسئلة ردا صريحا واضحا فضيلة المرحوم الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين قائلا: إن مصر أن تنضم إلى الكتلة الغربية ولا إلى الكتلة الشرقية وإنما يجب أن تقدم كتلة ثالثة هي الكتلة الإسلامية وتضم الباكستان وإيران وأفغانستان والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والمملكة العربية السعودية واليمن ومصر وليبيا وتونس والجزائر ومراكش.
وقد شهد يوم 23 نوفمبر 1951 مولد هذه الكتلة، فقد زار دولة الدكتور محمد مصدق رئيس وزراء إيران مصر. وفي يوم الخميس 22 نوفمبر 1951 أقام معالي الدكتور طه حسين باشا حفلة أهدت فيها جامعة فؤاد الدكتوراه الفخرية للزائر العظيم، وقد حياه ذلك:(إن شخص الدكتور مصدق يمثل الجهاد في أروع صوره) وذكر جهوده في تحصيل العلم بفرنسا وسويسرا وجهاده في سبيل تحرير وطنه وتقدير هذا الوطن له وإكباره لجهاده مما يشرف أسرة جامعة فؤاد الأول أن ينضم إليها، ثم ذكر الدكتور طه باشا أن الدكتور مصدق يجمع إلى جانب المجد السياسي المجد العلمي ونوره بمآثر مصدق العلمية.
وقد تحدث الدكتور مصدق في نهاية الحفل إلى المحتفلين به فقال: (أسأل الله سبحانه وتعالى أن يدعم الرابطة والأخوة بين مصر العزيزة وإيران أبدا. نحن مصممون على أن نحارب الاستعمار في السودان وفي عبدان مشتركين. إن الداء الذي تشكو منه إيران تشكو منه مصر والبلاد الإسلامية، داء واحد وداء مشترك.
فنحن نعرف العلة الأساسية لهذا المرض ونعرف أن الداء لهذا المرض هو الكفاح المشترك الذي يجب أن تقوم به البلاد الإسلامية جمعاء. .)
وهكذا بدأ قيام الكتلة الإسلامية. وفي نفس اليوم أعلن بيان مشترك وقعه رئيسا الوزارة
المصرية والوزارة الإيرانية جاء فيه أن الرئيسين قد استقر رأيهما على ما يأتي.
أولا: الدخول في أقرب وقت في مفاوضات لتوسيع نطاق معاهدة الصداقة والإقامة المعقودة بين إيران ومصر والموقعة في طهران في 28 نوفمبر 1928
ثانيا: إبرام معاهدات بين البلدان في الشؤون الاقتصادية والثقافية وشئون التجارة والملاحة وكذلك معاهدة للتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية. ومن المفهوم أن هذه المعاهدات سوف تكون أساسا لاتفاقات متعددة الأطراف على مدى أشمل بحيث تسمح بانضمام البلاد العربية وبلاد الشرقين الأدنى والأوسط التي تربطها بإيران وبمصر في الوقت الحاضر علاقات ودية.)
هذا في مصر. أما في باريس فقد كان وراء الدول العربية يواصلون اجتماعاتهم للبحث في مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط وفي القضية المصرية وقد أجمعوا على تأييد القرارات التي اتخذتها الحكومة المصرية من إلغاء المعاهدة إلى رفض المقترحات الرباعية للدفاع عن الشرق الأوسط.
من 23 - 29 نوفمبر 1951:
ما تزال الحالة حرجة في منطقة القناة وما يزال الإنجليز يمنعون في إجرامهم. صحيح إن عدوانهم لم يبلغ ما وصل إليه في مجزرة الإسماعيلية في 17، 18 نوفمبر ولكنه عدوان وحتى لا يستطيع إنسان أن يبرره. أنظر إلى الجرائم التالية وتبين مدى وحشيتها:
1: كان الشيخ محمد بركات وهو في السبعين من عمره يؤدي الصلاة في منزله بعزبة أبو عسر في الصباح الباكر عندما اقتحمت المنزل قوة بريطانية مسلحة فتصدى لها نجله عبد الله مستفسرا عن سبب دخولها فزعم الجنود أنهم يبحثون عن الأسلحة.
وكان الشيخ قد ختم صلاته فجلس ممسكا بسبحته وراح يتلو الدعوات فاقترب منه الجنود وأمروه بالوقوف فلوح بسبحته للابتعاد عنه وهو يقول (الله اكبر. . الله اكبر)، واشتد حنق الإنجليز فأطلق أحدهم عليه رصاصة وطعنه الآخر بسونكي بندقيته في صدره ويده طعنه أطاحت بأحد أصابعه. وما لبثت روحه أن فاضت إلى بارئها تلعن الإنجليز وتضرع إلى الله أن ينقذ البلاد والعالم منهم!!
2: وفي يوم الثلاثاء 27 منه قام الإنجليز بمظاهرة عسكرية في مدينة السويس وألقت
إحدى سياراتهم قنبلة يدوية شديدة الانفجار أصيب بشظاياها أربعة من الأهالي.
3: في يوم الأربعاء 28 منه قام البريطانيون بحملة إرهابية واسعة في منطقة الإسماعيلية وكان الأهلون هدفا لعدوانهم الوحشي فقد أطلقت قوة بريطانية النيران على أربعة من أهالي القصاصين وهم يسيرون في طريق العاهدة فاستشهد ثلاثة منهم. وأما الرابع فقد ألقى بنفسه في ترعة الإسماعيلية ونجا.
وكان خمسة من العمال عائدين إلى منازلهم في الإسماعيلية فأطلق الإنجليز عليهم نيرانهم فسقطوا مضرجين بدمائهم.
أيها الإنجليز: إن دماءنا لن تذهب عبثا واعلموا أنكم لن تثبتوا أقدامكم بآثامكم.
أما الفدائيون المصريون فقد وصلوا نشاطهم مشكورين مأجورين ولكن الذي يؤلم هو هذا الموقف الصامت الذي اتخذته حكومة مصر فإنها لم تحرك ساكنا ولم تهج طائرا!!
وفي يوم الاثنين 26 نوفمبر وصل وزير الحربية البريطانية إلى القنال واجتمع بالقواد الإنجليز وبالسفير البريطاني ثلاث ساعات متوالية لبحث الموقف.
وفي خلال هذه الفترة رحلت كثير من العائلات البريطانية من الإسماعيلية، وكان الإنجليز قد أعلنوا أنهم سيجلون عنها بمجرد جلاء العائلات الإنجليزية ولكنهم عادوا يتلكئون في تنفيذ وعدهم.
ثورة مصر بأثرها:
بدأت الثورة المصرية في 9 مارس 1919 في مدينة القاهرة وانتشر نبأها في سائر أنحاء مصر فهبت مصر بأجمعها من الإسكندرية إلى أسوان مدنا وقرى تستجيب لنداء الثورة:
ففي يوم الأربعاء 12 مارس ثارت الإسكندرية وقامت فيها مظاهرات كبيرة تضم طلبة المدارس والمعاهد الدينية وسارت من مسجد أبى العباس إلى دار المحافظة القديمة بشارع رأس التين، وقد حاول رجال الشرطة وعلى رأسهم الحكمدار جارفس بك تشتيت المتظاهرين ولكنه لم يستطع. وكان المتظاهرون يهتفون بالحرية والاستقلال.
وتجددت المظاهرات في الأيام التالية وفي 17 مارس سلط الإنجليز نيران مدافعهم على المتظاهرين فسقط منهم ستة عشر قتيلا، وأربعة وعشرون جريحا.
وفي 21 مارس ثارت بور سعيد وقتل الإنجليز سبعة شهداء وثارت دمنهور في 17 مارس
وأهان إبراهيم حليم باشا مدير الإقليم المتظاهرين إذ تحداهم أن يكون بينهم رجل فضربوه بالنعال. وقد شتت الجند المتظاهرين وقتلوا منهم 12 شخصا.
وفي طنطا قامت مظاهرة كبيرة في 12 مارس وسار المتظاهرون في أنحاء المدينة حتى إذا وصلوا محطة السكة الحديدية، انهال عليهم الجند البريطانيون بنيران مدافعهم فسقط ستة عشر قتيلا.
وفي 16 مارس قتل أحد المارة بسبع طلقات من مدفع رشاش بريطاني وقتل الإنجليز غلاما ضربا بالسنج. وما أشبه الليلة بالبارحة!
وثارت شبين الكوم وكفر الشيخ وسمنود والمحلة والمنصورة وميت غمر والزقازيق. وعلى الجملة انتشرت الثورة في سائر أنحاء الوجه البحري مدنه وقراه.
ولم يكن الوجه القبلي أقل استجابة لنداء الوطن من الوجه البحري بل كانت الثورة أشد في الوجه القبلي؛ فقد قامت المظاهرات في الفيوم والمينا وأسيوط وقنا وأسوان وجرجا، وكان طابع الثورة العنف، وسقط في هذه المظاهرات كثير من الشهداء الأبرار. وقد بلغ عدد شهداء مصر حتى 15 مايو 1919 ألفا، وقد ذكر هذا الإحصاء المستر هار مسورث وكيل وزارة الخارجية البريطانية وعلق عليه قائل (إن هذا شيء فظيع هائل)!
ومع هذا لم تضعف مصر بل ظلت تقاوم وتبذل دماء أبنائها كريمة في سبيل حريتها واستقلالها.
قطع المواصلات:
كان أول ما اتجه إليه تفكير المتظاهرين الثائرين هو قطع طرق المواصلات حتى لا تستطيع القيادة البريطانية أن تبعث بقواتها إلى سائر أنحاء القطر للتنكيل بالأبرياء.
وكانت أول حادثة من هذا النوع هي قطع الطريق الحديدي بين تلا وطنطا وكان ذلك في 12 مارس وما لبثت الفكرة أن انتقلت إلى سائر أنحاء القطر فقطعت الخطوط الحديدية الرئيسية التي تربط القاهرة بالوجه القبلي وبالإسكندرية وبور سعيد. ولم يقتصر التخريب على السكك الحديدية ولكنه امتد إلى أسلاك البرق والتلفون. وفي 14 مارس أصدرت القيادة البريطانية الأمر التالي:
(جناب القائد العام للقوات في القطر المصري يحذر الجمهور أن كل من يتلف مواصلات
سكك الحديد أو التلغراف أو التلفون أو يلحق بها آي عطل أو يعبث بها بأي وجه من الوجوه أو يحاول عمل أي شيء من هذه الأعمال يعرض نفسه للإعدام رميا بالرصاص بمقتضى الأحكام العرفية)
وكانت السلطة تعتقد أن مثل هذا الإنذار كفيل بقمع الفكرة وبالقضاء على الثورة ولكن المصريين كانوا قد أصبحوا لا تؤثر فيهم الإنذارات ولا التهديدات فانطلقوا يدمرون طرق المواصلات حتى يشلوا حركة المغتصب الأجنبي.
ففي 14 مارس وصل قطار الصعيد إلى الرقة بمديرية الجيزة ولم يستطع مواصلة السفر لقطع الخط في أكثر من موضع واضطر أن يعود إلى القاهرة وقد حطمت أكثر عرباته. وهكذا عزل الموظفون الإنجليز في الصعيد.
وفي قليوب خرب محطة السكة الحديدية وقطعوا الخط الحديدي وبذلك انقطعت مواصلات الوجه البحري.
وهكذا ثارت مصر بأسرها ريفا ومدنا وثغورا وموانئ رجالا وسيدات شيبا وشبانا وأصبحت مصر بأسرها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب قطرا ثائرا لحريته واستقلاله يبذل في سبيل ذلك دمه وماله.
زفتي تعلن الاستقلال:
ثارت زفتي كما ثارت باقي مدن مصر وقراها وتألفت بها لجنة للثورة كان رئيسها المرحوم الأستاذ يوسف الجندي ولم تلبث أن أعلنت اللجنة الاستقلال. وكان مأمور زفتي إذ ذاك المرحوم إسماعيل بك حمد وكان رجلا وطنيا فتعاون مع اللجنة، ولكن السلطة العسكرية أرسلت قوة من الأستراليين لقمع الثورة فقام الأهالي وحفروا الخنادق حول المدينة وخلعوا قضبان السكك الحديدية فاستعدت القوة لمواجهة المدينة وصوبت إليها المدافع ولكن إسماعيل بك توسط بين الأهليين وبين القوة ونصح الأهالي بالكف عن المقاومة إبقاء على المدينة فقبلوا نصيحته ودخل الجند وحاول الإنجليز معرفة أعضاء اللجنة ولكنهم لم يستطيعوا لأنهم لم يجدوا مرشدا ولا دليلا.
مذبحة ميت القرشي:
في 23 مارس قامت مظاهرة سلمية في ميت القرشي. وبينما كان المتظاهرون يسيرون في طريقهم وصل قطار حربي فوقف القطار ونزل منه الجند وتعقبوا المتظاهرين وفرقوا شملهم وتعقبوهم وقتلوا منهم أكثر من مائة شهيد!
مظاهرة القاهرة الكبرى:
في 17 مارس 1919 وبتصريح من السلطة العسكرية قامت هذه المظاهرة وبدأت سيرها من الأزهر وانتظم فيها ألوف من المصريين على اختلاف هيئاتهم فسار العلماء والقضاة والمعلمين والمحامون والتجار وأرباب الأعمال والطلبة والعمال وسارت في أكمل نظام تهتف بالحرية والاستقلال وانقضت في سلام بعد طواف دام ثماني ساعات.
ولكن يبدو أن هذا لم يرض الإنجليز فعمدوا - وهذا طبعهم - إلى استخدام القوة وسقط كثير من الضحايا في القاهرة وفي الأقاليم برصاصهم.
وفي 19 مارس قابل شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي (بك) قائد القوات البريطانية واحتجا على استخدام القوة الغاشمة في قمع المظاهرات السلمية، فلم يلق إلى احتجاجهم إذنا واعية، واستمر الجند في عدوانهم، واستمر المصريون في كفاحهم، وقد اضطر القائد العام في مارس إلى إصدار إنذار عام بلغ فيه التعسف غايته.
إنذار عام:
(كل حادث جديد من حوادث تدمير محطات السكك الحديدية والمهمات الحديدية يعاقب عليه بإحراق القرية التي هي أقرب من سواها من مكان التدمير. وهذا آخر إنذار.)
وفي نفس اليوم جمع القائد العام الوزراء والكبراء والأعيان وطلب إليهم أن (يعملوا كل ما في وسعهم لتسكين الأهالي ومنعهم من إحداث القلاقل وإلا فأنى منفذ خطتي)(حرق القرى وتدمير القصور والعمائر وإحراق الدماء البريئة).
وأخذ القائد العام يرسل قواته إلى جهات القطر المختلفة بالطائرات وبالسفن فارتكبت في مصر أشنع الإثم واقترفت أفظع الجرائم.
وجدير بالذكر أن نقول إن المصريين مسلمين وأقباطا سالت دماؤهم معا فتآخى الجميع في الدم واتخذوا علما في وسطه هلال أبدت نجومه بصلبان، وكان القسيس يخطب فوق منبر
المسجد والشيخ يخطب أمام مذبح الكنيسة: وكنت ترى في مقدمة المظاهرات شيخا وبيده قسيس، وقسيسا يعانق شيخا. وهكذا قضى على الفتنة التي حاول الإنجليز إثارتها ووقفت مصر يدا واحدة تطلب استقلالها وتؤمن بأن الدين لله والوطن للجميع.
أبو الفتوح عطيفة
المستقبل وأسرار الوجود
للأستاذ عبد الجليل السيد حسن
المستقبل هو أمل من لا أمل له، وعزاء من لا عزاء له؛ هو رجاء اليائسين، واللقمة التي يعيش عليها الفاشلون والمحرومون. هو الحبل الذي يتشبث به الغرقى في بحار الحياة ويرونه سببا للنجاة بينما هم في اللجنة يغوصون، وإلى الهلاك يسرعون، فكل من لم ينل من الحياة مراده ولا رغائبه، واحتاطه اليأس وكفنه بالحزن والألم ليشيعه إلى القبر، كان شريان الحياة الذي ينبض فيه ويمزق له أكفانه: هو المستقبل. فيندفع إلى الحياة ليعيش على الأمل والتعلات، وينتظر استعادة ما فات، واستحضار ما ستدبر. فالمستقبل هو خيط الحياة الذي بانقطاعه تنقطع الحياة؛ فلو أن هذا الذي فانه ما يريد ويأمل، وهذا الذي صدمته الحياة في نفسه وماله وولده، لو أن هذا أو ذاك: تاه عنهما وجود المستقبل وغفلا عنه لبخع كلاهما نفسه، وقضى على حياته بيديه، ودلف بنفسه إلى القبر يحفره. ولكنه يرى بتعلل بالمستقبل، يحقق له أمله الضائع، ويشفى له مرضه المستعصي، ويعوضه عن ماله الذي فقد وولده الذي احتسب. ويتضح لك هذا إذا صورت لنفسك ما ستكون عليه حالة هذا الذي فقد الأمل في المستقبل لأن الأسباب قد تقطعت به، لاشك أنك ستراه بمنظارك أول الأمر حائرا يبحث متلهفا عن بصيص ينظر منه سببا وإن تفه يرجوه، وفرجة وإن ضيقة يطل منها على المستقبل، فإذا لم يقطع على بغيته، فلا أخالك إلا ملقيا بمنظارك لتجرى نحوه لتوقفه عن قتل نفسه.
المستقبل هو الوجود كله، والزمان كله. وليس هناك من شيء غير المستقبل. أليس الوجود امتدادا لا يعرف منتهاه ولا أوله، وما هو هذا الامتداد؟ إنه لا يخرج عن المستقبل فليس هناك شيء اسمه الماضي، ولا شيء اسمه الحاضر، بل هناك شيء واحد اسمه المستقبل، المستقبل فقط. وإذن فما هو الوجود.؟ أليس إلا مستقبلا قد نسج، ومستقبلا ينسج، ومستقبلا ينتظر النسج؟ أما المستقبل الذي نسج فهو ما نسميه الماضى، والمستقبل الذي ينسج فهو ما نسميه الحاضر. فالأمر لا يعدو قسمة لا حقيقة لها لهذا التيار الساري، تيار الوجود الذي يرتكز في المستقبل. فتيار الزمان هو المستقبل وهو النهر الذي قيه الوجود والكائنات. فالنقطة التي تسبح فيها هذه اللحظة، تسميها الحاضر، والنقطة التي تعدتها تسميها الماضى،
والنقطة التي تنتظرها تسميها المستقبل. ويا لحمق هذه الكائنات التي تتناسى أن النقطة التي تسميها الماضي هي نفسها التي كانت تسميها المستقبل قبل أن تصل إليها، فليس الأمر سوى خداع أسماء، وكم لخداع الأسماء من ضحايا!
بين الماضي والمستقبل:
لتنظر معي رعاك الله إلى هذا الوجود، وتأمل فيه: متى وجد.؟. . . وأين كان قبل أن يوجد؟. . . خذ أي شيء وتأمله، وقف بالله عليك قبل أن تلتهم هذا العنقود من العنب، وفكر (من أين جيء به؟). . (من كرمته). . (حسنا، ومتى جيء به؟). . (حسنا، وأين كان قبل هذا الموسم؟) أين. . أين. . في العدم؟). . .
ولكن يا صاحبي كيف يأتي شيء من لا شيء؟ إنه كان لاشك في ضمير العنب، أي قبل هذا الموسم بشهور مثلا: كان في المستقبل. ولكن. . هل كان وجوده مشخصا حقيقيا في هذا الغيب؟
مثل هذه المشكلة حلها (أرسطو) بمفتاحه السحري: مفتاح (القوة والفعل) أو (الإمكان والواقع) فالشيء قبل أن يكون، لم يكن معدوما بل كان موجودا بالقوة، أي كان وجوده ممكنا وليس واقعا متحققا ظاهرا مشخصا، فأي شيء هو بالقوة قبل أن يوجد ويخرج من القوة إلى الفعل بتأثير مؤثر، فمثلا: البذرة الآن بذرة بالفعل وشجرة بالقوة، لأنها سوف تكون شجرة. والطفل الآن طفل بالفعل وفي الواقع ولكنه سيكون رجلا في المستقبل، فهو رجل بالقوة.
وقد قلنا إن الوجود هو المستقبل قد نسج وهو الماضى، ومستقبل ينسج وهو الحاضر، ومستقبل سينسج وهو الذي عرف وحده بالمستقبل، فكأن المستقبل هو الوجود بالقوة والماضي هو الوجود بالفعل. فالفرق بين الماضي والمستقبل: هو الفرق بين الإمكان والواقع. وليس الفرق بين الإمكان والواقع واسع الشقة مهول المسافة، بل لا يبدو ذلك إلا لذوى النظر الضيق، أما أصحاب النظر السليم فإنهم لا يرون كبير فرق بين الإمكان والفعل، لأن لهم من قوة بصرهم ما يربهم المستقبل حاضرا، والإمكان وقعا.
إن الزمان عبارة عن الحركة، أو أن الحركة هي جوهر الزمان، فمثلا: تصور أن الأرض ثابتة، وأن الشمس طالعة أبدا، وأنك وحدك على الأرض ثابت لا تريم. . هل تشعر
بشيء؟ لا يمكن أن تشعر بشيء مطلقا، إذا لم يكن هناك حركة ولو أقلها تقرن نفسك بها، وتشعر بوجودك بالنسبة إليها، فأنت إذا كنت ترى صخرة أو شجرة مثلا، ولم يكن في طوقك الحركة حتى تبلغها، ولا في طوقها الحركة حتى تبلغك؛ فلن تشعر بوجودها، وقد لا تشعر بوجودك أيضا. أما الذي يجعلك تشعر بوجودك ووجودها فهو الحركة، فالشجرة مثلا بعيدة الآن، وهاأنذا تقترب منها، فأنت تشعر بوجودك ووجود الكون بناء على التغير أو النقلة، فشيء غير موجود الآن يجعله التغير والانتقال موجودا. فالشيء الذي يشعر الإنسان بذاته ووجوده هو المستقبل؛ لأن النقلة والتغير تصير إليه، ولو لم يكن هناك مستقبل لما كان هناك وجود ولا زمان ولا شعور للإنسان بذاته وبالكون. والنزوع إلى تحقيق ما هو غير محقق الآن، هو أدل شيء على شعور الإنسان بالوجود وبذاته، فالإرادة والشوق والأمل، هي علائم الوجود وشواهده التي لا تكذب، فيها يشعر الإنسان بأنه موجود حقا ولا يخالجه أدنى ريبة في وجود ذاته. وحينما تتعلق القدرة بالإرادة، ويستطيع الإنسان تحقيق رغبته في العالم الخارجي، فحينئذ يتأكد له وجود ذاته ووجود العالم الخارجي.
والمستقبل هو الذي يمنح الحياة ويبعد عنه الثبات الذي هو الموت، وكسبه التجدد والتغير، فليس شيء في الوجود ثابتا مطلقا. فلو فرضنا أن هناك موجودا جمادا أو حيا، وليكن هذا الشيء (1) فإن (م) الآن غير (1) بعد دقيقة مثلا؛ لأنها ستكون (1) زائدا دقيقة) ولا شك أن (1) فقط لا تساوى (1 زائد دقيقة). وهكذا، فإن كل شيء في الوجود في تغير أو حركة نتيجة لإضافة المستقبل إليه. فالمستقبل هو الذي يجعل الوجود حيا. ولو لاه لما كان وجود ولا حياة. وهنا نرى أننا قد وصلنا إلى شيء جديد هو أن كل ما في الوجود لا يمكن فهمه إلا باندماج الزمان فيه واندماجه في الزمان - وحينما نقول الزمان فإنما نعنى الصورة ذات الأوجه الثلاثة التي يبدو فيها المستقبل (من مستقبل (ماض) ومستقبل (حاضر) ومستقبل (مستقبل) - فكأن هناك حدا لا تفهم الموجودات إلا بنسبتها إليه وقياسها عليه وهو الزمان أو المستقبل حقيقة. وهذا وصول إلى الحد الرابع الذي تقول به النسبية ولكن من طريق آخر غير طريق النسبية، بل من طريق وجودي مستقبلي تحليلي، لا يعتمد إلا على تحليل الوجود ومحاولة فهم العناصر التي تكونه، وليس استخراجا لهذا الحد من قوانين الحركة الحديثة التي تقول باستحالة استخراج الحركة المطلقة للمتحرك، وبناء عليه باستحالة
التواقت المطلق والزمن المطلق، وتقرر أن الزمن نسبى والتواقت نسبى بناء عليه بالنسبة للمتحرك، وهى تبنى نتائجها وتجرى تجاربها على الحركة وقوانينها. أما نحن، فإنما اندمج الزمان بالمكان بناء على الوجود المستقبلي والشعور بسريانه، فالشعور بسريان الاندماج أصل، والقول بالحركة فرع.
ونقول إن هناك صورتين من الزمان: الزمان المفهوم من الحركة، وهو (الزمان الخارجي) الذي نفهم الأشياء الخارجية به؛ والزمان الذي نشعر به في أعماق وعينا، وهو (الزمان الحقيقي) وبمقدار شعورنا بالزمان يكون وعينا، فكلما كان وعينا قويا كان شعورنا بالزمان قويا كذلك؛ فهنالك تناسب طردي بين الوعي وبالتالي نصيبنا من الوجود، وبين الشعور بالزمن. وقد قلنا إن الذي يجعل الزمن زمنا هو (المستقبل) بل إن المستقبل هو الذي يميز بين هذين النوعين من الزمان: الزمان الشعوري والزمان الحركي. فالزمان الشعوري يمثل المستقبل فيه أكثر من شيء واحد، والأمل، والإحساس بالحياة، والرجاء، والوجل، والخوف، والاطمئنان، والانتظار، والترقب، وكذلك (التغيير والتبدل) - والحرية أو الجبرية في هذا التغير - أما الزمان الحركي فهو لا يشمل ولا يمثل إلا (التغيير والتبدل) واحتمالها فقط. وهذا هو الفرق بين الوجود الحي والوجود الميت. والفرق بين الوجود الأول والوجود الثاني هو الفرق بين الوجود الفعال والوجود الخامد المنفعل.
ولكن هل تسير الأمور بقوانين ثابتة لا تتحول، وبمقتضى سنن موضوعة لا تتبدل؟ بمعنى أن ما حدث في الماضي عن العلة (1) لابد أن يتبعه المعلول (ب)، ولو علمنا هذه القوانين فهل في مقدورنا أن نتنبأ بما سيحدث في المستقبل؟ هذا موضوع آخر: موضوع السببية والمستقبل. . وسنقدم بمرضنا لمشكلة السببية إن شاء الله في مقال تال.
للكلام صلة
عبد الجليل السيد حسن
بين العروض وطلقات المدافع
تحقيق في بحر الرمل
للشاعر الأستاذ محمد عبد الغنى حسن
قرأت - مع السرور والشكر - ملاحظة عروضية للأديب البارع الأستاذ محمد رجب البيومي تدور حول قصيدتي (على طلقات المدافع) التي نشرت بالرسالة الغراء في العدد (960). وإذا كان الأستاذ الفاضل قد أعجب (بإشراق القصيدة الناصع ودفاعها البليغ عن صمت الشعراء) أمام الحوادث المروعة في قناة السويس فإنه مشكور أجزل الشكر على هذه التحية الكريمة التي تعد أجمل عزاء عما نشره صديقنا الكريم الأستاذ على متولي صلاح في العدد (961) من الرسالة الغراء ناسبا إلى أنني هونت من شأن الأدب وأضعفت من قدر الكلام حينما على الإسراف في (القول) في ساعة تحمد فيها (الأفعال). . .
وقد تكون القضية التي يثيرها الأستاذ على متولي صلاح مثارا للدفاع في غير هذا المقام، لأنها اتهام لا يصح السكوت عليه، مثل اتهام الأستاذ رجب بيومي إياي بأنني (لم ألتزم القواعد العروضية في شعري)، وهى تهمة أعيذ الأديب الناقد أن يلقيها من غير برهان، أو من يرميها من غير إحاطة أو شاهد أو بيان. .
فمن قال إن العروض في بحر الرمل تلتزم؟ وإن العلة العروضية المعروفة وهي (الحذف) تلتزم في عروض هذا البحر إلا عند التصريع؟
لقد شرط علماء العروض في لزوم العلة أن تراد العلة لذاتها، فإذا لم ترد فلا لزوم هناك. ويقول العلامة الشيخ حسين المرصفي صاحب (الوسيلة الأدبية) في هذا المقام:(والعلة إذا أريدت لزمت في جميع الأبيات) ص 170. وفرق بين هذا القول وبين ما قاله المرحوم الأستاذ محمود مصطفى من أن العلة (إذا عرضت لزمت فلا يباح للشاعر أن يتخلى عنها في بقية القصيدة) فنحن أمام قولين وقف الشعراء أمامهما بالخيار منذ أن نطق بالعربية لسان، وهفا بالشعر العربي وجدان. وخاصة أن عدم لزوم العلة في هذا المقام لا يخل بقواعد العلماء، ولا يخدش الآذان باضطراب الأوزان.
وإذا كان الشاعر المرحوم أحمد شوقي بك قد ألزم العلة في عروض بحر الرمل فيما نظمه من قصائده، مثل قصيدة الكتاب التي مطلعها:
أنا من بدل بالكتب الصحابا
…
لم أجد لي وافيا إلا الكتابا
وفي قصيدته (الطيارون الفرنسيون) التي مطلعها:
قم سليمان بساط الريح قاما
…
ملك القوم من الجو الزماما
وفي مرئيته لسعد زغلول التي مطلعها:
شيعوا الشمس ومالوا بضحاها
…
وانحنى الشرق عليها فبكاها
إذا كان شوقي قد فعل ذلك في زماننا هذا فان شاعرا كبيرا من شعراء القرن الرابع وأوائل الخامس - هو مهيار الديلمي - قد فعل ما قرره العرضيون من عدم لزوم العلة في عروض بحر الرمل، ولم يقل أحد من الناس إنه لم يلتزم القواعد العروضية في شعره، ولم تشك آذان النقاد من فقدان الموسيقى في شعره العربي الرصين.
ألم يقل في قصيدته إلى الوزير أبى المعالي:
أنذرتني أم سعد أن سعدا
…
دونها ينهد لي بالشر نهدا
غيرة أن تسمع الشرب تغنى
…
باسمها في الشعر والإظعان تحدى
قلت: يا للحب من ظبي رخيم
…
صدته فاهتجت ذؤبانا وأسدا
ما على قومك أن صار لهم
…
أحد الأحرار من أجلك عبدا
فالمطلع مصرع وعروضه تامة غير محذوفة. والبيت الثاني كذلك، والثالث كذلك، والرابع عروضه تامة محذوفة. أي أن عروض الأول والثاني والثالث (فاعلاتن): وعروض الرابع (فاعلن). وهكذا يمضى الشاعر العباسي الفحل في القصيدة كلها غير ملتزم لعلة (الحذف).
لا عداك الغيث يا دار الوصال
…
كل منهل العرى واهي العزالي
تختلف عليها علة (الحذف) وجودا وعدما في أبياتها التي تزيد على سبعين بيتا. فبينما يقول في (حذف):
حكمت في الحسن حتى ختمت
…
سمة الرق على عنق الجمال
إذا به يقول بعد هذا مباشرة في (غير حذف):
غفلة للدهر كانت تحت ستر
…
من سواد الشعر مسدول مذال
وقصيدته الميمية التي مدح بها الوزير زعيم الدين أبا الحسن والتي مطلعها:
بكر العارض تحدوه النعامي
…
فسقاك الري يا دار (أماما)
تختلف أبياتها كذلك بين وجود علة (الحذف) وعدمها في مواضع كثيرة من القصيدة يسهل الرجوع إليها في صفحة 328 من ديوانه (الأسطر 12، 16، 2، 3، 13)
ولم يكن معيار في الحق - حين فعل هذا كثيرا في شعره العربي المتين - لاجئا إلى ضرورة، ولا واقعا في عيب قبيح، ولا متكلفا لنبوة في الأذن، ولا جاهلا بقواعد العروض التي تبيح هذا إباحة واسعة في غير التجاء إلى مما حكة في أضعف الأقوال وأوهن الآراء.
ومن الحق أن نقول هنا، ونحن بسبيل تحقيق حول وزن الرمل - إن أغلب الشعر الذي روى في الجاهلية وصدر الإسلام من هذا البحر كان من الضرب الثاني من أضرب العروض الأولى - أعنى أن ضربه على وزن (فاعلن) لا (فاعلاتن) وبهذا كان العروض والضرب في أغلب هذا الشعر محذوفين، لأنه لما التزم (الحذف) في الضرب التزم في العروض طبعا. وذلك كما في القصائد الآتية:
قصيدة المرار بن منقذ التي يقول في مطلعها:
عجب خولة إذا تنكرني
…
أم رأت خولة شيخا قد كبر
وقصيدة سويد بن أبي كاهل اليشكرى التي يقول في مطلعها:
بسطت رابعة الحبل لنا
…
فوصلنا الحبل منها ما اتسع
وقصيدة المثقب العبدي التي يقول في مطلعها وفق رواية الأنباري:
لا تقولن إذا ما لم ترد
…
أن تتم الوعد في شيء: نعم
وقصيدة جليلة بنت مرة أخت جساس، التي تقول فيها:
يا ابنة الأقوام إن شئت فلا
…
تعجلي باللوم حتى تسألي
وقصيدة طرفة بن العبد التي يقول فيها واصفا حاله في سفره:
وبلاد زعل ظلمانها
…
كالمخاض الجرب في اليوم الخدر
أما قصيدة الشاعر الجاهلي عدى زيد العبادي التي وعظ بها النعمان والتي يقول فيها:
من رآنا فليحدث نفسه
…
أنه موف على قرن زوال
وصروف الدهر لا يبقى لها
…
ولما به صم الجبال
رب ركب قد أناخوا عندنا
…
يشربون الخمر بالماء الزلال
عصف الدهر بهم فانقرضوا
…
وكذلك الدهر حالا بعد حال
هذه القصيدة من الضرب الأولى من أضرب العروض التامة المحذوفة من بحر الرمل. والضرب هنا (غير محذوف) أي أن وزنه (فاعلاتن) كما ذهب إلى ذلك محقق الجزء الثاني من (الأغاني) في طبعة دار الكتب المصرية، على حين أن صاحب كتاب (أهدى سبيل إلى علمي الخليل) رحمه الله قد عدها من الضرب الثالث (المقصور) الذي تصير فيه (فاعلاتن) إلى (فاعلات) وتحول إلى (فاعلان).
وعجيب أمر هذه الظاهرة في بحر الرمل من حيث استعمال العرب له. فانهم أكثروا من استعماله في العروض والضرب المحذوفين - أي اللذين - دخلهما (الحذف) فصارا على وزن (فاعلن). على حين أن (مهيار الديلمي) و (أحمد شوقي) أكثرا من استعماله في الضرب التام الصحيح والعروض التامة المحذوفة، مع الفرق الذي أشرنا إليه قبلا: وهو أن مهيارا لم يلتزم العلة في العروض بينما ألتزمها شوقي.
أما الشعراء الهذليون - وقد جمع ديوان شعرهم الضخم بعناية دار الكتب المصرية - فلم ينظموا من بحر الرمل ولم يلتجئوا إلى وزنه الموسيقى الجميل للتعبير عن أحاسيسهم ومشاعرهم؛ ولعلهم تركوا (التزام العلة) في هذا البحر واختلاف الأذن فيها طلبا للعافية وإيثارا للسلامة! ولكنني - وقد نظمت قصيدتي على طلقات المدافع من هذا البحر غير ملتزم علة الحذف - فأنني أرجو أن أكون قد بلغت من رضا المرحوم المرصفي في رأيه، ومن ثقة الشاعر الكبير مهيار في شعره م أحسب الأستاذ الأديب النابه محمد رجب البيومي يرضى به، لأنه حينئذ يرضى بالحق الذي ننشده وينشده كل منصف لنفسه ولغيره.
محمد عبد الغني حسن
تعفن المذهب المادي
للأستاذ محمد فرحات عمر
دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع كثرة الكلام عن الإلحاد وضروبه وشيوعه بين الشباب ومدى أخذهم به واعتناقهم له. لذلك أزمعت الكتابة فيه؛ على أن تناولي إياه إنما سيكون من جهته الفلسفية الخالصة إلى جانب مناقشة تحت ضوء العلم الحديث.
وروح المذهب المادي الذي هو دعامة الإلحاد تتلخص في اعتبار المادة أساسا للموجود من حيث هو موجود، واعتبار قوانينها أساسا لأغراض الموجود؛ فإن سئل أصحاب هذا المذهب بأي اعتبار كانت قوانين المادة أساسا لأعراض الموجود؟ أجابوا. . باعتبار الاتفاق والضرورة معا. . الاتفاق في تصادم هذه القوانين، والضرورة في تفاعلها وصيرورتها؛ ومن ثم ظهور الموجود في حالة جديدة مغايرة للحالة الأولى من حيث الشكل.
ويلزم عن هذا كله أن يكون الوجود ميكانيكيا صرفا باعتبار نتيجة حتمية عن أسبابها، خالية من شوائب الشذوذ. هذه هي روح المذهب المادي بمنتهى الإيجاز والتركيز، ولم يبق أمامنا الآن أن نشاهد روح هذا المذهب تحت أشعة النقد.
أولا. . أنني في حدود معرفتي لا أملك المادة في ذاتها وإنما أملك صورة للمادة سواء أكلية كانت صورة جزئية أم صورة، وعلى ذلك فإقامة مذهب مادي محض باعتبار المادة في ذاتها على أساس تصوري هو من باب التناقض وهو خلف. فإن أرادوا تفادى هذا التناقض بالمطابقة بين الصورة والأصل معتمدين في هذا على مذهبهم التجريبي فأنهم في هذه الحالة سيطابقون بين صورة المادة وصورة المادة، وهذا تحصيل حاصل وفشل فاضح في الوصول إلى نتيجة حاسمة.
ثانيا. . المنهج الحسي هو أداة المعرفة عند المادية. ومما هو ذو مغزى أن المادية بهذا الوضع في حالة لا تحسد عليها. فالمعرفة الحسية أدنى مراتب اليقين إن لم تكن خارج حدود اليقين على الإطلاق. . ثم أنني الآن أمام مكتبي وهاأنذا أكتب هذا المقال وليس عندي أي شك في وجود مكتبي أمامي ووجود قلمي بين أصابعي، ولكن مع هذا فالمجنون أيضا يجزم لك أنه قابل النبي عليه السلام منذ هنيهة، وأنه الآن بجانب حبيبته. وعبثا تحاول أن ترده عن مثل هذه الترهات فإنه على يقين من ادعائه أنه يرى حبيبته الآن
بجانبه. . ما العمل؟ أيكذب نظره. . هيهات ثم هيهات!
ثم ما رأي حضرات الحسيين الأفاضل في قطرة الدم التي أراها بعيني المجردة حمراء اللون فإذا رأيتها تحت المجهر لاحت لي في كرات بيضاء وكرات حمراء؟ إن الحواس لتتناقض في غاية السرعة لمجرد مضاعفتها. ومن يأتمنها بعد ذلك؟ أليس يجوز في العقل أننا لو وصلنا إلى مضاعفة قوة هذا المجهر لظهرت لنا كرات بيضاء وكرات حمراء وثالثة صفراء ورابعة خضراء. . . ابعد هذا تكون الحواس طريقا قويما إلى معرفة يقينية؟
ثالثا. . إذا سلمنا جدلا بأن المادة في ذاتها مبدأ وجودي فأننا لا نستطيع أن نعتبرها المبدأ الوجودي الوحيد، وذلك أننا إذا تأملنا الفرد الإنساني وجدنا تركيبه الكيماوي وقوامه البيلوجي في سن الطفولة غيره في الشيخوخة. وبرغم هذا نراه محتفظا بذاتيته من حيث هي مما يدل على أن الذاتية جوهر مغاير لجوهر المادة وأنه شيء له كيانه الوجودي غير المترتب دائما على الظروف المادية البحتة.
رابعا: لا يمكننا بأي حال من الأحوال قبول الميكانيكية ناموسا للكون، لأننا نجد في الإنسان من حيث هو إنسان شيئا يتعالى على الميكانيكية. . نعم. . الإنسان من حيث هو، ثم من حيث أنه عنصر من عناصر هذا الوجود لا نجده يندرج تحت الميكانيكية ألبتة. ويكفى للتدليل على دعوانا ما قرره فريق من علماء النفس أن الإرادة عنصر جوهري من عناصر النفس الإنسانية. ويجعل بالقارئ العزيز أن يدرك جيدا ما أقصده بمعنى الإرادة هنا؛ فأنني أعنى بها الإرادة السيكولوجية الخالصة التي يدركها كل منا بإحساسه العميق بها. إذ أنها تفرض نفسها فرضا، ومن ثم وجب عدم الخلط بين الإرادة في ذاتها ومدى أثرها في حيز الواقع العملي.
خامسا. . النظرية المادية القائلة بالصدفة نظرية واضحة البطلان من جهة أنها لا تقوم على أساس سليم. ولكي يتضح لنا هذا يجب أولا أن نوضح ماهية الصدفة وعلاقتها بالفعل الذي يخرج عنها. فالصدفة اتفاق أسباب ما للوصول إلى نتيجة ما بدون سابق قصد أو عمد أو إصرار. والقصد هو اتفاق أسباب ما للوصول إلى نتيجة ما مع سابق القصد والعمد والإصرار. فالفرق بين الصدفة والقصد إنما يتركز حول مبدأ الأسباب المعينة التي أدت إلى هذه النتيجة المعينة التي هي واحدة في كلتا الحالتين. وعلى ذلك لا يصح أن نستغل
كدليل على حالة دون أخرى. لذلك يخطئ الماديون من حيث أرادوا أن يتخذوا من العالم وهو بطبيعة الحال نتيجة لأسباب مجهولة دليلا ليؤولوا به مبدأ الصدفة. ومثل من حاول هذه المحاولات كمثل رجل وجد في طريقه حافظة نقود فأراد أن يعلل وجوها. . هل كان هذا عن قصد من صاحبها أم هو مجرد أنفاق. والحقيقة أن أي جواب عن هذه المسألة سيكون من باب الترجيح لا من باب التوكيد الذي هو أساس العلم الثابت وفضلا عن هذا فإن الجواب عن هذه المسألة يمتاز بقياس الشاهد على الغائب على عكس موضوعنا الأصيل. فالعلم من حيث هو نتيجة لا يصح إلا أن يكون وسيلة لتفسير أسبابه من حيث هي أسباب في ذاتها ومعلق هو بها. أما أن يتخذ مصباحا للكشف عن مبدأ أسبابه فهذا فساد دونه أي فساد. فان قال الماديون إذا سلمنا أن هذا العالم وجد عن قصد فان العالم يضم بين دفتيه من الخلل ما يتنافى مع كمال القاصد. وعلى ذلك لم يعد هناك مبرر لعدم التسليم بأن العالم جاء عن اتفاق.
قلنا إن هذا القول عليه اعتراضات يطول شرحها؛ لذلك نركز أهمها في ثلاث نقاط:
أولا - هذا القول أن صح أنه دليل على الصدفة فهو دليل سلبي.
ثانيا - البحث في صفات القاصد الكامل هو خروج عن حدود طاقة العقل البشرى، فلا يجدر بأي باحث أن يتناول فكرة القاصد وهو الله على أساس البحث في صفاته، بل يجب تناول الموضوع على أساس آخر هو مبدأ الوجود ذاته ومدى قبول العقل له. من هذا يتضح أن نظرية الصدفة القائمة على تفي القاصد بالحط من شأنه نظرية غير على أساس منهجي سليم. فضلا عن هذا فان اعتراضهم على القاصد لا يؤدي بنا إلى نفى وجوده البتة، وإنما يؤدى إلى حد كماله. ومع ذلك فهو ليس بغريب على المتألهة المحدثين وخصوصا السير جون استيوارت مل.
ثالثا - أن إقرارهم بأن العالم يحوى خللا بين دفتيه. . تناقض واضح مع قولهم بالميكانيكية الصرفة التي تمتاز بعلوها عن شوائب الشذوذ. ثم من جهة أخرى نرى هذا القول على العكس يأتي في صف القائلين بالقاصد لأنه أن دل فإنما يدل على أن ثمت قاصد صاحب إرادة حرة يفعل وراء هذا الكون ما يشاء وهو قاصد ذلك.
والآن بعد أن تناولنا أهم دعائم هذا المذهب بالنقد ووضحنا مركز هذا المذهب في نظر
الفلسفة حان الوقت لأن نتعرف على الصلة المزعومة بين هذا المذهب والعلم الحديث.
يدعي الطبيعيون انهم اعتمدوا على النظريات العلمية الحديثة فيما ذهبوا إليه، ومع هذا فأننا نجد العلم الحديث يتخلى عنهم في أخطر المواقف وأدقها.
(أ) المذهب المادي يدعى أن كل معرفة إنسانية إنما ترجع إلى حيز المحسوس، بينما علم الفسيولوجيا يقرر بأن اختصاص الجهاز العصبي لا يتعدى المعرفة المباشرة الميكانيكية؛ أما المعاني المجردة والمعاني الكلية فيترك أمرها معلقا في الهواء. وإذن فالقول بأن المعاني المجردة والمعاني الكلية ترجع أيضا إلى الحس هو قول من باب الترجيح بدون مرجحات؛ وقد أحالت ذلك بداهة العقل.
(ب) العلم الحديث لم يصل بعد إلى ماهية الكون، فهو يقرر بأن الكون مكون من أجسام وكل جسم يتألف من ذرات وكل ذرة من هذه الذرات تتألف من النواة والكهارب السالبة والكهارب الموجبة، ثم هذا كله إنما ينتهي إلى الإشعاع. . وما هو الإشعاع؟ هو تموجات. . ثم ما هي التموجات؟ هي ذبذبات، ثم يقف بك العلم الحديث عند هذا فلا يفسر لك ماهية الضوء تفسيرا مجديا اللهم إلا تفسيرات شكلية. وهكذا يعترف لك العلم الحديث أنه لا يدرى من هذا الأمر شيئا.
(جـ) يدعى أصحاب هذا المذهب المتداعي وهم في ادعائهم هذه قد صاروا من التهافت بمكان، وأصبحوا عرضة هم ومذهبهم في مهب الريح. . ريح النقد العاتية؛ أقول يدعى أصحابنا الطبيعيون أن نظرية التطور والارتقاء إنما دعامة أساسية من دعائم مذهبهم المحبوب المدلل. . وردنا عليهم في غاية السهولة نوجزه فيما يلي.
1 -
نظرية التطور والارتقاء لا تبحث إلا فيما يعد أصل الحياة من نشوء بعض الأحياء من بعض على مر الزمان وتحت ظروف طبيعية معينة؛ أما البحث في أصل الحياة والقول بالتولد الذاتي وهو بيت القصيد عند المادية فليس من اختصاص التطور على الإطلاق وليس إحجام التطور عن تناول مثل هذا الموضوع ضربا من الإضراب عن العمل.
2 -
الغريب حقا - وان كان لا يستغرب من الماديين أي عمل مهما كان مخالفا لطبائع الأشياء أنهم قالوا بالتولد الذاتي ولم يثبتوه بتجربة اللهم إلا فروضا ما أنزل الله بها من سلطان، بل لو وصل المادية فيما بعد إلى إثبات التولد الذاتي بالتجربة فان هذا لا يزعزع
مبدأ العلة الأولى عندنا (خلق الإنسان من صلصال كالفخار)
3 -
أن نظرية التطور لا تخالها في جانب الطبيعيين بتاتا. وخير دليل على ذلك ما نراه من إلحاح الكائنات في التطور والارتقاء وكأنه غاية يعقلونها، أو أن محركهم إلى التطور يعقلها تمام التعقل، ثم تناسق أعضاء الحي الواحد تناسقا إعجازيا يقوم برهانا واضحا على المنظم البصير بأعماله. وفضلا عن ذلك تعتقد بعض الحلقات تعقدا لا يجعلها نسلمك بأن الظروف الطبيعية وحدها علة ذلك كله، أو أن كل هذا كان محض اتفاق واعتباط. هذه هي الصلة بين المذهب الطبيعي والعلم الحديث وما أضعفها من صلة وما أهونها! ولكن هيهات أن يعترف بهذا أصحاب هذا المذهب الكسيح. لكن هناك نقطة هامة يجمل بنا إجمالها قبل أن ننهى هذا المقال، وهى تدور حول نظرية النسبية للعلامة ألبرت إينشتين؛ تلك النظرية التي أرجعت هذا الكون بما حمل إلى مجرد نسب زمانية ومكانية خالصة؛ وأثبت هذا على أسس رياضية سلم بها جميع الخالصة من أصحاب الرياضة. أقولها صراحة إن ظهور هذه النظرية كانت بمثابة لطمة صعق من جرائها المذهب المادي وخر صريعا وسط الميدان.
هذه خلاصة موجزة لأهم الاعتراضات التي تقوم على هذا المذهب المتعفن. ولا يظن القارئ الفاضل أننا هنا قد وفينا هذا الموضوع بل لو كان في نيتنا أن نوفيه حقه للزم ذلك المجلدات الضخام ولكننا هنا آثرنا أن نعرض أهم الاعتراضات العامة التي تنصب على قلب هذا المذهب المنهار فتكون كفيلة بالقضاء على بقاياه.
محمد فرحات عمر
رسالة الشعر
السودان
للأستاذ عبد اللطيف النشار
أو تدرى ما المثنى المفرد؟
…
مصر والسودان شيء أحد
هي كف ركبت في ساعد
…
تجمع الشطرين في الجسم يد
جفن عين دونه مقلتها
…
تمم الأبيض منها الأسود
وجرى النيل حياة فيهما
…
مصدر الروح به والمورد
تقسم الأرض: إذا اليوم أبى
…
أن يرى كالأمس واليوم غد
أو يحد الأرض حد بارز
…
ليت شعري أي حد وجدوا
هبة النيل التي لم ينفرد
…
بسمات منذ أهدى - بلد
وحد الكل على منهجه
…
منذ أن كان - وطال الأمد
وجرى الدهر على عادته:
…
ما ارتضى الأقوام شيئاً وطدوا
ارتضى الوادي لسانا واحدا
…
معبد الكثرة فيه المسجد
أمل الشقين فيه أن يرى
…
أجنبي عن حماه يبعد
وعدو الكل من يظلمهم،
…
شرط أهل الود لا يعتدوا
عدد الإجرام مستعمرهم
…
ما لقطر حل فيه رغد
في فلسطين رأينا يده
…
خرجت عامرة تلك اليد
لو بأمريكا استمروا لندت
…
اتعس البلدان حتى يطردوا
جورج واشنطون فيهم قالها
…
رد صداها الأبد
(سرطان بتره أولى به)
…
أهل طاغيهم عليه شهدوا
كل أرض غادروها صلحت
…
كل قطر دخلوه أفسدوا
شعلة النار التي أوقدها
…
بفضهم في الهند ليست تخمد
دولة الحانات في الهند سمت
…
وبنو القرصان لما يولدوا
ثم كان الأمر في الهند لهم
…
فإذا الأمجاد فيها تفقد
وهوت في أفقه أنجمهم
…
فعلا في الهند نجم أسعد
سيرى الوادي بشطريه متى
…
ذهب المحتل مالا يعهد
جنت الهند وأمريكا المنى
…
عندما انزاح العدو المعبد
وسنجني نحن أضعاف المنى
…
عندما يذهب هذا النكد
وحدة التاج ويجلو جندهم
…
وغد يحلو لنا، نهم الغد
النيل
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
(في الشرفة المطلة على النيل، وفي ليلة من ليالي القاهرة الساحرة، كنت أتحدث إلى الناقد الكبير الأستاذ المعداوي وكان يتحدث إلى فأرادني أن أشارك بأشعاري في معركة التحرير. وكان النيل ينساب في ضوء القمر جميلا فاتنا، فأوحى إلى بهذه القصيدة التي أهديها إلى آخي العزيز، مع مودتي وإعجابي)
نجا
من عالم في الخبال
…
في موكب من جمال
وعزة وجلال
…
يروى حديث المعالي
أقبلت يا ابن الليالي
غنت لك الشطآن
…
وذهرها الظمآن
والطير والأغصان
…
حنت ليوم الوصال
يا نيل يا ابن الليالي
لما طلعت عليها
…
آتى الربيع إليها
وأينعت في يديها
…
أزاهر الآمال
يا نيل يا ابن الليالي
يا منبتا في الصحارى
…
نضارة وازدهارا
وفتنة لا تبارى
…
منسوجة من رمال!
يا نيل يا ابن الليالي
ويا ربيع الزمان
…
في كل وقت وآن
تسري بتلك المغاني
…
كالنور أو كالظلام
يا نيل يا لبن الليالي
ويا ربيب الغيوم
…
من عهد فتق السديم
ويا عشيق النجوم
…
من العصور الأوالي
يا نيل يا ابن الليالي
أنت الهوى والأغاني
…
وأنت لحن التداني
وأنت نبع الحنان
…
يسرى كذوب الآلي
يا نيل يا ابن الليالي
وأنت سر الحياة
…
وأنت روح النبات
ومنشئ الجنات
…
على الضفاف الخوالي
يا نيل يا ابن الليالي
وأنت رمز الجهاد
…
على مدى الآباد
وأنت روح البلاد
…
جنوبها والشمال
يا نيل يا ابن الليالي
شهدت فجر الوجود
…
مع الزمان البعيد
وكنت سر الخلود
…
من أول الآزال
يا نيل يا ابن الليالي
وعشت دهرا ودهرا
…
وأنت تنساب حرا
ومن تحداك. . . مرا
…
وراح مثل الخيال
يا نيل يا ابن الليالي
والآن يبغي الأعادي
…
على أولى الأمجاد
فلا عدتنا العوادي
…
إن لم نطر للنضال
يا نيل يا ابن الليالي
وهل ترانا صبرنا
…
على العدى وانتظرنا؟
إنا غضبنا وثرنا
…
على جنود الضلال
يا نيل يا ابن الليالي
فكن حميما ونارا
…
وسابق الإعصارا
وحطم الأسوارا
…
هناك عند القنال
يا نيل يا ابن الليالي
إنا سنحمى حمانا
…
وسوف نفنى عدانا
وتستذل الزمانا
…
سيوفنا والعوالي
يا نيل يا ابن الليالي
ونحن نسل العظام
…
من كل نجد همام
ونحن يوم الصدام
…
نطيح بالأبطال
يا نيل يا ابن الليالي
آباؤنا علمونا
…
ألا نخاف المنونا
وأن ندك الحصونا على رءوس الرجال
يا نيل يا ابن الليالي
يا نيل دمت أمينا
…
ودام خيرك فينا
وعشت تطوى السنينا
…
إلى الذرا والأعالي
يا نيل يا ابن الليالي
لأجل شعب كريم
…
ممجد من قديم
وللمليك العظيم
…
المنتمى للمعالي
يا نيل يا ابن الليالي
سلمت في خير حال
…
من الردى والزوال
والأسر والأغلال
…
على مدى الأجيال
يا نيل يا ابن الليالي
إبراهيم محمد نجا
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أصبح الشعب حرا في اختيار اللغة الأجنبية الأولى:
كتبت بعدد (الرسالة) الصادر في 5 نوفمبر الماضي تحت عنوان (اللغة الأجنبية الأولى) أنه لم يعد يليق بنا أن نظل خاضعين لحكم الاستعمار في فرض لغته علينا - دون غيرها - لغة أجنبية أولى.
وقد ردد هذه الدعوة بعض الزملاء، وارتفع صوت أحد النواب في البرلمان يقول: لماذا تبقى اللغة الإنجليزية لغة أجنبية أولى في بلادنا؟
وفي الأسبوع الماضي نشرت الصحف قرار معالي وزير معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف، الذي يقضى بأن تدرس في المدارس اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والإلمانية، على أن تكون إحدى اللغتين الأوليين أصلية وإحدى اللغات الأخرى إضافية. ومعنى هذا القرار أن يختار الطالب اللغة الأجنبية الأصلية التي يريد أن يدرسها من بين اثنتين: الفرنسية والإنجليزية، ثم تبقى واحدة منهما تضم إلى الإيطالية والألمانية على أن يختار الطالب واحدة من الثلاث لغة إضافة. والغرض من هذا أن يكون الشعب حرا في اختيار اللغة التي يتعلمها أصلية أو إضافية، فإذا أجمع على اختيار الفرنسية دون الإنجليزية لغة أصلية فقد حرر نفسه من ربقة الاستعمار اللغوي، وقد يجمع أيضا على نبذ الإنجليزية لغة إضافية، والمهم - على أي حال - هي أن تجلى لغة أعدائنا الذين يسفكون دماءنا عن المكانة التي احتلها في مصر باحتلالهم إياها.
وقد تسأل: لماذا لم يصدر الوزير قرارا يقضى نصه بإلغاء تعليم الإنجليزية كلغة أصلية؟ خطر لي هذا السؤال أول، ثم تأملت القرار الذي صدر وقارنت بينه وبين ما يرمى إليه السؤال،
فألقيت القرار يؤدى إلى النتيجة المطلوبة، ويمتاز بأنه يتيح الفرصة للشعب نفسه أن يكون حرا في اختيار ما يريد، وخاصة أن هناك من يجادلون في هذا الموضوع، فليكن الأمر إذن للشعب، يتعلم اللغة التي يريدها.
وأنا أتوكل على الله وأحرص على تجنب لغة المجرمين السفاكين الأدنياء.
مسرحية (دنشواي الحمراء)
قدمت فرقة المسرح المصري الحديث هذه المسرحية الوطنية الجديدة على مسرح حديقة الأزبكية ابتداء من أول ديسمبر الحالي. وهى من تأليف الأستاذ خليل الرحمي وإخراج الأستاذ زكى طليمات.
تخيل كاتب المسرحية أسرة تعيش اليوم في الإسماعيلية وقد عاشتحيث نشأت بدنشواى منذ خمس وأربعين سنة حين ارتكب الإنجليز جريمتهم المنكرة سنة1906
تظهر الأسرة على المسرح في المنظر الأول بمدينة الإسماعيلية، الأب الموتور في دنشواى يشجع ابنه الفدائي بالإسماعيلية، والأم تجزع من مخاطرات ابنها وتلوم زوجها على تشجيعه، فيذكرها الزوج بما جرى لهما في دنشواى ومن فقداه من أهلهما تحت مشانق الإنجليز هناك. وتعود بنا المناظر التالية إلى دنشواى فتعرض الحادث الذي يلعن به التاريخ طغاة الإنجليز، وتنتهي هذه المناظر بفرار الشاب عبد الرزاق (الذي هو الآن أب في الإسماعيلية) من وجه (العدالة) البريطانية التي كانت تنصب المشانق في القرية قبل صدور الحكم في القضية! وتهرب معه رزقة (الأم) ثم يتزوجان في الإسماعيلية ويقيمان فيها. وتعود بنا المسرحية إلى (دنشواى الجديدة) حيث نرى الشاب الوعي الجديد ينتقم لأسلافه في دنشواى القديمة بنسف معسكرات الإنجليز والنيل منهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
والقصة خيالها طريف، وهى ترمى إلى عرض الفظائع الإنجليزية في مصر وتصوير الروح المصرية إزاءها وإبراز الجهود الوطنية ولإيحاء بكل ذلك إلى مواصلة الجهاد لتحرير البلاد. وقد نجحت في كل ذلك نجاحا أعتقد أن أكثر الفضل فيه يرجع إلى الإخراج، فقد تجلى المذهب الإيحائي الذي يجرى عليه الأستاذ زكى طليمات، وقد بدا ذلك في تنسيق التمثيل وفي المناظر وخاصة منظر المشنقة ولون حبلها الدموي وحلوكة قوائمها والجو المحيط بها.
وقد برع في التمثيل نعيمة وصفى التي مثلت دور الأم (رزقة) وبلغت القمة في موقفها على الباب الذي اختبأ بداخله عبد الرازق هربا من رجال الادارة، وهى تحمل فأسا تريد أن تنقض به. . كانت تمثل الجزع والشجاعة في آن واحد!
وكانت زهرة العلا موفقة كل التوفيق في تمثيل خطيبة الشاب الفدائي بل في تمثيل الفتاة الفدائية.
أما عبد الغنى قمر فكان كعهدنا به في تصوير شخصيات معينة وإبراز سماتها في خفة وظرف، فقد مثل فقيها ضريرا في دنشواي فكان صورة حية لهذا الطراز في القرى.
ومثل عبد الرحيم الزرقاني عمدة دنشواى، وأشعر أن كلمة (مثل) هنا غير دقيقة فقد كان هو العمدة نفسه. وألاحظ أن للأستاذ الزرقاني عجيبة في الاندماج بدوره.
وأجاد عدلي كاسب في تمثيل المستشار الإنجليزي المحقق في دنشواي، فكان مثالا للغطرسة والبرود السكسوني البغيض.
وكان نبيل الألفي في دور الشاب الفدائي يحتاج إلى قوة تعبيرية أكثر مما بدا منه، وكذلك محمود عزمي في دور (عبد الرازق)، مع انهما بطلا الكفاح في المسرحية. وفي رأيي أن دور الشاب أليق بصلاح سرحان الذي عرفناه بالإجادة في أدوار الحماسة والحب.
الشعر الغنائي
على أثر ما كتبته منذ أسابيع تحت عنوان (الفن للفن) في مناقشة الصديق الكريم الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري، تلقيت منه رسالة ضافية عاود النقاش بها فيما تناولت هذه الكلمة. وتشتمل هذه الرسالة على موضوعين أعرض أحدهما في هذا العدد، وهو الغناء. في الشعر العربي، والموضوع الثاني خاص بالشعبية في الأدب. وقد أثار فيما أثاره (أدب المناسبات) وأراني مضطرا لأرجائه إلى فرصة مقبلة لطول الكلام عليه، كما يعبر مؤلفو الكتب الأزهرية القديمة.
يقول الأستاذ الناصري بعد التحية والأعراب عن عدم ضيقه بما كتبت والارتياح إلى تهيئة الفرصة للمناقشة (وها أنا أهتبل هذه الفرصة لأقدم لك الدليل على أنني لم أكن المجتنى ولكنك تسرعت فكتبت دون أن تفهم مرادي، وهاك ما أنا أبغيه: قلت في معرض الحديث عن الشعر الشعبي إنه لم يجد شاعر غنائيا منذ زمان امرئ القيس حتى الآن إلا المرحوم على محمود طه، فأجبتني بقولك: ما أبقيت إذن للشعر العربي؟ هل أنا في حاجة إلى أن أقول لك إن الشعر العربي في مجموعه غنائي من امرئ القيس إلى الناصري ماذا أقول لك يا سيدي؟ أتظن أن ما حواه كتاب الأغاني من الشعر المغنى يصلح للغناء؟ إذن لماذا لا
يستطيع المغنون المبدعون الآن الشدو بما قاله الأولون؟ أليس هذا دليلا على أن أوزان الشعر الماضية لم تكن تصلح مادة للغناء حاليا؟ ولو أن شعراء الأندلس كانوا يعرفون أن الأوزان القديمة تصلح للغناء في زمانهم لما استنبطوا الموشحات، وأنت أدرى بلا شك بما وصل إليه شعراء الأندلس من التفنن في الأوزان والخروج عن قواعد العروض. فهل بعد هذا يجوز قولك أن الشعر العربي من امرئ القيس إلى الناصري غنائي؟ أنا أعيذك يا سيدي من هذه الطرقة. . مع العلم بأن الشعر العربي عرف كل ألوان الشعر الأشعر الملاحم والمسرحيات، غير أنه وقف حائرا أمام الغناء حتى جاء على محمود طه)
وأقول للأستاذ الصديق: أنني لم أفهم غير مراده، ولو أنني لم (أتسرع) ومكثت أتأمل كلامه إلى الآن لما خرجت منه إلا بأن الشعر العربي لم يعثر على شاعر عربي غنائي بعد امرئ القيس إلا على محمود طه. . فإذا كان هذا غير المراد فما هو المراد إذن. .؟
وأراد الأستاذ الناصري أن يدلل على ما قال، فتساءل عما حواه كتاب الأغاني من شعر مغنى: هل يصلح للغناء! وأقول نعم قد فعلا وإلا ما غنى. وهل ينفى صلاحه للغناء أن المغنين الحاليين لايغنونه؟! وهل هم لا يغنونه؟ ألم يسمع الأستاذ الأغانى المختارة من الشعر العربي - الذي عاش أصحابه بين امرئ القيس وعلى طه - يغنيها عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهما ومن هذه الأغاني قصائد شوقي التي قيلت فيما بين امرئ القيس وعلى طه. .
ولست أدرى لماذا اختار الأستاذ امرأ القيس دون سائر الشعراء في عصره وما بعده! وماذا يجعل شعر امرئ القيس غنائيا وشعر بن أبي ربيعة مثلا غير غنائي. .؟
ويقول إن الأوزان الماضية لا تصلح للغناء الآن. وأنا أسأله: ألست تنظم على هذه الأوزان؟ وأنت باعترافك الشاعر الغنائي الثالث في الشعر العربي بعد امرئ القيس وعلى طه، بل (أنتم الثلاثة) شعركم على هذه الأوزان، فكيفتطيع الغناء في شعركم وتستعصي عليه في شعر غيركم. .؟
وكيف علمت أن شعراء الأندلس استحدثوا الموشحات لعدم مطاوعة الأوزان القديمة للغناء؟ أو لم يغن الأندلسيون شعرا على تلك الأوزان؟
ثم تقول - يا صديقي - أن الشعر العربي عرف كل ألوان الشعر إلا شعر الملاحم
والمسرحيات وإلا الشعر الغنائي. . . فقل لي بالله: ما هي الألوان التي تعنى أن الشعر العربي عرفها إذا كانت كل هذه مستثنيات منها. .؟ نعم انه لم يعرف الملاحم والمسرحيات، أما الشعر الغنائي فإن شعراء العرب لم يعرفوا غيره. وقد جاريتك فيما سبق على اعتبار أن الشعر الغنائي هو ما غني فعلا أو ما يصلح للتلحين والتطريب، والآن حان لنا أن ننتقل إلى ما قرره علماء الأدب المحدثون، وهو أن الشعر إما قصصي أو تمثيلي أو غنائى، ويقصد بالنوع الثالث ما يقول الشعراء تعبيرا عن خوالج النفوس كأنهم يتغنون بها، والشعر العربي كله من هذا القبيل وعلى هذا المعنى سمى الأستاذ محمود حسن إسماعيل أحد دواوينه (هكذا أغنى) والله أعلم. .
قد لا يكون
تلقيت رسالة من الأديب الفطن أحمد مختار عمر الطالب بمعهد القاهرة الديني، عقب على ما كتبته في العدد الأسبق من الرسالة بعنوان (إنه لحن فصيح) فأعرب عن ارتياحه إليه، ثم أبدى الملاحظتين الآتيتين:
1 -
ويعترض الأستاذ بربري على الدكتور طه حسين لإتيانه بـ (لا) بعد (قد). ومع أن ذلك المنع في (قد) تحقيقية كانت أم تقريبية أم تقليلية فأنى لا أجد وجها لهذا المنع مع (قد) التقليلية بعد قول ابن مالك:
ولا ضطرار أو تناسب صرف
…
ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف
وبعد قول ابن هشام في كتابه المغنى: (يتعين مرادفة هل لقد إذا دخلت عليها الهمزة ولا تتعين لذلك إذا لم تدخل عليها بل قد تأتى لذلك. . وقد لا تأتى له.
2 -
وأما إنكاره على الدكتور طه حسين قوله (سوف لا يكون) فالذي أفهمه أن الاعتراض - إن وجد - إنما يكون على الفصل بين سوف وفعلها لا على نفى المسوف بها، وحتى هذا لا أرى ما يبرره، كيف فصل الشاعر بينها وبين فعلها في قوله:
وما أدري وسوف إخال أدرى أقوم آل حصن أم نساء
عباس خضر
الكتب
أناشيد المهزلة العربية
تأليف الأستاذ محمود الحوت
للأستاذ نجاتي صدقي
أصدر الشاعر الفلسطيني الموهوب الأستاذ محمود الحوت قصيدة مطولة تقع، في ستة وعشرين نشيدا. أطلق عليها اسم (المهزلة العربية - أناشيد عربي من فلسطين ضل في الآفاق) فقدمها:
إلى القائد الذي سيسترد أول شبر.
إلى الكتيبة التي ستغرس أول بند في تربة الفردوس المغتصب.
إلى أكل من سيلبي النفير العام.
إلى الشعب العربي الأكبر.
وقد عمد الشاعر في أناشيده هذه إلى استعراض النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني وما رافقها من أخطاء، فجاءت الأناشيد سياسية تتسم باتجاهمجازى، أي أن الشاعرلا يقصد في نقده للسياسة التي اتبعتها الدول العربية في فلسطين الإعراب عن وجهة نظر سياسية معينة، فلما يقول:
لو لم يقولوا احتضناها لما وقعت
…
ولا تنافر عنها الأسد كالغنم
فلا يعنى أنه لا يريد تدخل الدول العربية في القضية الفلسطينية، ولكنه ساخط على النتائج
وحين يقول:
ليت العروبة في إبان وثبتها
…
لم تشهر السيف بتارا ولم تثب
ليت العروبة ما زالت تهددهم
…
من خلف عسكرها المستأسد اللجب
إذن لكان لها في قلبهم هلع
…
وكان بعض الذي نبغيه من أرب
فهو هنا أيضا يعرب عن ألمه لعدم تمكن القوات العربية من إحراز الانتصار، وحثها في الوقت ذاته على الأخذ بالثأر، ويتضح لنا ذلك من كلمة الإهداء.
وهكذا يسير الشاعر في أناشيده من نقد إلى نقد، وهو يشنها حربا شعراء على من وعد
ونكت وأقبل وأدبر.
وأكرر القول بأن الأستاذ الحوت لا يبغي من (هجومه) السياسي هذا إلا استثارة العواطف، وشحذ الهمم، وهو على حق فيما رمى إليه. لأنه يخشى أن تمتد يد السوء إلى الأقطار الشقيقة المجاورة وعندها تنتقل المسألة من نكبة صغرى إلى طامة كبرى.
لقد برهن شاعرنا في ملحمة هذه على أنه فنان قدير، يتقن اختيار الكلم، وحسن الوصف والتصور فيقول في نشيده الأول:
بئس الحياة التي هان الزمان بها
…
فلم تعد غير خفق صامت بدم
أي أن الحياة هذه هي خفقان القلب لا أكثر. . وهذا لعمري أقصى ما يمكن أن يقال في التشاؤم
ويقول أيضا:
صلب العقيدة ما لانت عزائمه
…
كأنه في صراع المشركين نبي
تشبيه جميل للشعب العربي الفلسطيني بأنه رسول حتى يحارب الوثنية الاستعمارية.
ثم يصف وصفا أليما خروج أهل يافا هائمين على أمواج البحر فيقول:
لئن نسينا فلن ننساه ذا شره
…
جهم الضمير، عبوس الوجه مصطفقا
غضبان، يهدر فيه الغمر، مائجة
…
جباله، زاحفات بالردى غرقا
والناس في عرضه حيرى زوارقهم
…
كالريش في عصفات الريح منطلقا
مدوا على الأزرق العاتي بساطهم
…
كي لا يروا حرم الأبطال مخترقا
وهو يرى في تشتيت عرب فلسطين (طريقة) سهلة للقضاء على الشعوب المستضعفة فيقول:
من شاء إفناء جيل فليكن حذرا
…
من قتلهم بالسيوف البيض والنار
يكفي فناء بطيئا فرط عقدهم
…
ونثرهم غرباء الحي والدار
وأجمل ما قيل في الكونت برنادوت وفي نهايته العجيبة:
شيخ وإن قيل قد طابت ظواهره
…
فنحن لم ندر ما ضمت سرائره
رمت به في فم الجلي منظمة
…
رعناء فاستلم القربان ناحره
ما مزق المجرمون الكونت بل نحروا
…
ومزقوا أمما كانت تظاهره!. .
وكفر الشاعر بالزعامات، ويأتي الاجتماع بها حتى في جنات النعيم فيقول:
فهل تخلد أصناما ترقصها
…
شمطاء ما روضت إلا تغابينا
لو أن جنة خلد تحتنا فرشت
…
وأنتم جيزة - وردا ونسرينا
لعفتها بعد أن أمسيت مرتحلا
…
في الكون قد ضل لا دنيا ولا دينا
ونقم الشاعر على الشعب الذي لا تحركه النكبات، فيقول له هذا البيت البديع:
حتى الوفاة لها يا قوم يقظتها
…
قبل الرحيل إلى الفردوس أو سقر!. .
ومستهل نشيده التاسع عشر بهذه الصرخة المدوية:
فما نسينا دماء ها هنا وهنا
…
غصت بها الأرض من حاب ومنطرح
إن لا نعبئ قوى التاريخ أعنفها
…
والحاضر الجهم والمستقبل السمح
ونتحد أمة تفنى بها أمم
…
وتنفض النوم عنها صيحة الجرح
فلا فلسطين تبقى يا رفاق لنا
…
ولا الشقيقات (من أدر) إلى (رفح)
هذه صرخة كل فلسطيني شردته العدالة الديمقراطية في نهاية النصف الأول من القرن العشرين. . بل ولا تزال تمعن في تشتيته وتشريده غير عابثة بأبسط حق من حقوقه العامة ليعيش في بيته ووطنه، وغير مكترثة بحق الملكيات الفردية التي تدافع عنها بإيمان وحرارة.
وما أن يذكر الشاعر المسكين مسقط رأسه يافا، البلد الذي نشأ فيه وترعرع، والذي بنى فيه مستقبله ومستقبل أولاده، حتى استحال إلى مجموعة من الأسى والألم، فسلم أمره إلى الله بعد أن يئس من عبيده وعبدانه، وقال:
يافا، لقد جف دمعي فانتحبت دما
…
متى أراك، وهل في العمر من أمد
أمسى، وأصبح والذكرى مجددة
…
محمولة في طوايا النفس للأبد
كيف الشقيقات، يا شوقي لها مدنا
…
كأنها قطع من جنة الخلد
ما حالها اليوم يا يافا وهل نعمت
…
من بعد أن سلمت أمسا يدا بيد
وكيف من قد تبقى في مرابعها
…
وقد تركناه فيها ترك ملتحد
ما بال قلبي إذا ما سرت من بلد
…
يصيع من وجده في الصدر: وابدي
مهما استقام به من عيشة رفد
…
وجدته هازئا يا لعيشة الرعد
تعبت لكنني ما زلت في تعبي
…
أشكو إلى الله لا أشكو إلى أحد
لقد اختار الشاعر اسم (المهزلة العربية) عنوانا لأناشيده، وهو اسم عنيف، مبالغ فيه، ومن الإنصاف أن نذكر أن عددا لا يستهان به من إخواننا العراقيين، والأردنيين، والمصريين، والسوريين، قد لاقوا حتفهم في فلسطين. . أما فشلهم في التغلب على الخصم فله أسباب عديدة لا مجال لبحثها في هذا المقال
(المهزلة العربية) أسم مشتق من (المهزلة الإلهية) لدانتي، فالشاعر الإيطالي يسخر من أناس خطاة يتقلبون بين طبقات الجحيم. وشاعرنا يحمل على أناس أكثر من خطاة وجلهم في نعيم الدنيا مقيم.
(المهزلة العربية) وثيقة اتهام شعرية، ورسالة أدانه عاطفية، طبعت في بغداد، وضعت إلى (مكتبة القضية الفلسطينية) في دمشق، ونرجو مع الشاعر إلا تضم إلى المكتبة الأندلسية.
نجاتي صدقي
المسرح والسينما
المسرح المصري في خدمة العقيدة الوطنية
للأستاذ على متولي صلاح
كتب الأستاذ زكى طليمات في العدد الفائت من (الرسالة) فصلا عقده على الموازنة بين نظريتين من النظريات التي توضح أهداف الأدب والفن وما ينبغي أن يتجها إليها، وموقف المسرح المصري الآن من هاتين النظريتين والأحداث تغمر البلاد، والنفوس تغلى بالثورة والغضبة الكبرى؛ إذا المسرح - كما لا يخفى - جماع الأدب والفن معا.
أما النظرية الأولى فهي أن يكون الأدب والفن (لمجرد الأدب والفن، إشراقات تصفى الذوق وتصقل الروح وتنمى حاسة إدراك الجمال. وسبحات في آفاق المعاني والخيال المشتهى ولمعات ترقى بالنفس إلى أعلى مدارك النور.) كما يقول الأستاذ.
وأما النظرية الثانية فهي أن الأدب والفن لابد أن يكون كل منهما (أولا وأخيرا لمعالجة ما يشغل أذهان الناس تبعا لمشكلات حياتهم، ولتناول ما يعنيهم في كفاحهم مع العناصر التي تحيط بهم؛ ابتغاء تيسير أسباب الحياة الاجتماعية في ناحيتها الإيجابية ومعاونة الشعوب على التقدم والارتقاء.)
أي أن الأستاذ وازن بين النظريتين المعروفتين من نظريات الأدب وهما: - نظرية (الفن للفن) التي ظهرت في القرن الماضي، والنظرية (الوجودية) التي ظهرت خلال هذا القرن بل خلال أيامنا هذه، والتي أخذت براعمها تتفتح هذه الأيام وأخذت فكرتها تنتشر هنا وهناك وتلقى القبول عند الكثير من الناس في مختلف البلاد ويوشك المستقبل أن يكون لها دون سواها من نظريات الأدب الأخرى.
ثم خلص الأستاذ بعد ذلك إلى ترجيح النظرية الثانية ولكن في فترات من حياة الشعوب يكون لزاما فيها على الأدب والفن أن يكونا (خالصين متوفرين لخدمة المجتمع في أهم ما يشغله سواء كان هذا الشاغل عرضا إلى زوال، أو مبدأ قد يغير من جوهره على مر الأيام)
وكان هذا منه تمهيدا للمسرحية التي يقدمها للناس في هذه الأيام باسم (دنشواي الحمراء) والتي يقدمها كما يقول (صفعة من جانب المسرح المصري في وجه الاستعمار)
أما المقارنة والموازنة التي أقامها الأستاذ بين هاتين النظريتين فعندي أنه لم يبق محل لها وقد ماتت نهائيا نظرية (الفن للفن) وأصبح هذا الفن الخالص - كما قلنا في كلمة سابقة - مرادفا للفن الفارغ! وأصبحت هذه الأبراج العاجية التي يقولون عنها بمثابة رفوف أو دواليب أو متاحف أو معارض للزينة والفرجة!
وليس من الأدب في شيء مالا يعالج قضايا الحياة التي يحياها الناس، لا في فترة من الفترات كما يقول الأستاذ بل في جميع الفترات على السواء، ولا في العظيم الجليل من أمور الحياة بل في الصغير الضئيل من أمورها، فليس الأدب وليس الفن حلية وزينة وزخرفا وبراقش تأخذ بالأبصار وتبهر العيون، ثم تخبو فلا أثرلها، وتذهب فلا صدى وراءها اللهم إلا نشوة ساعة!
هذه دولة قامت للأدب يوما ثم دالت ولا تحسبها تعود يوما، فالأدب الآن أشد الأشياء التصاقا بالحياة، والأدباء الآن مثلنا تماما يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، بل إن من أهم واجباتهم أن يمشوا في هذه الأسواق!
فلننظر ماذا كان عليه موقف المسرح المصري - والمسرح كما قلنا قبل هو جماع الأدب والفن - وهل استطاع حقا أن ينهض (بتغذية الوعي القومي ومساندة عقيدة النضال بتذكير الناس بما يجب أن يذكروه وبتبصيرهم بما يجب أن يكون مائلا في أذهانهم)؟؟
لقد اختارت فرقة المسرح المصري الحديث من أجل هذه الأغراض الوطنية روايتي (مسمار جحا) التي افتتحت بها الفرقة موسمها بدار الأوبرا الملكية واستمر تمثيلها بها طول موسمها بهذه الدار، ورواية (دنشواي الحمراء) التي تقوم هذه الفرقة بتمثيلها الآن على مسرح حديقة الأزبكية. فهل استطاعت هاتان الروايتان أن تحققا هذه الأغراض التي ينوه بذكرها مدير الفرقة؟ أشهد أن الحق - وهو فوق كل اعتبار - يقتضي أن أقول (لا). فلو أريد بقضية (مسمار جحا) هو (قناة السويس) في قضية وطننا كما يذهب إلى ذلك الأستاذ زكى طليمات فيما يكتب وفيما يقول. . لو أريد بها ذلك لكان إضعافا للقضية الوطنية وتهوينا من شأنها وتوهينا لقوتها وعدالتها ووضوح حجتها! فالدار كانت ملكا حلالا لصاحبها فباعها بالثمن المقبوض وبالعقد الشرعي واشترط بقاء المسمار ليجعل منه ذريعة لغشيان الدار في إلحاح وإثقال، فهل كانت مصر ملكا حلالا للإنجليز فباعونا إياها بالثمن
المقبوض وبالعقد الشرعي واشترطوا بقاء قناة السويس ليجعلوا منها ذريعة لاحتلال مصر؟ والغريب أن الأستاذ المؤلف لم يذهب هذا المذهب الذي ذهب إليه الأستاذ المخرج ولم يعقد هذا القياس بين القضيتين!
. . . أما مسرحية (دنشواي الحمراء) فالأمر فيها أدهى وأمر، فما دنشواي - في نظر الحق والصدق - إلا صفحة مخزية للخيانة الوطنية من كبار المصريين!! وهيهات أن يتجه الذهن عند ذكر دنشواي إلا هذه الخيانات العظمى التي ارتكبها فريق من المصريين والتي كانت المبرر لما ارتكبته الإنجليز من فظائع وويلات اقترحها عليهم المصريون بل قضى بها المصريون قضاء له صورة الحق وإطار العدالة!!
على أن المسرحية امتدت إلى تصوير ما يجرى الآن من حوادث في القنال على أنه (دنشواي الحديثة) فقصرت تقصيرا شديدا في إبراز جوانب الوطنية المصرية المتأججة في الصدور هذه الأيام، وليس أدل على ذلك من إنها أغفلت أهم مظهر وطني بل أهم حدث وطني رائع جليل وأعني به موقف العمال المصريين هناك!! هؤلاء العمال الذين كانوا أول مسمار في نعش الإنجليز؛ هؤلاء الذين طووا بطونهم على الجوع وتركوا موارد أرزاقهم وأبوا أن يكونوا مع الغاصبين والبلاد جميعها تنادى بنبذهم وطردهم!!
وأغفلت كذلك موقف الجنود المصريين وقد انقلبوا بين عشية وضحاها إلى صفوف الشعب وفي كتائب الشعب يرمون أعداءه ويحمون أبناءه، وقد كانوا من قبل سواعد الإنجليز فيما ينزلون بأبناء البلاد من عسف واضطهاد. .
وأغفلت كذلك موقف (الحكومة) وقد صارت إليها قيادة الثورة في البلاد! حتى أصبح الوزراء يقومون وهم في دست الحكم بما لم يكونوا يقومون به إلا يوم يعتزلون هذا الحكم ويمشون في ركاب الشعب كالجبان الذي إذا ما خلا بأرض طلب الطعن وحده والنزالا!
إن هذه المسرحية لم تستطيع أن تصور هذه الظواهر الجديدة الهامة، ولا أفهم أن تذكر حوادث القنال دون أن تذكر هذه الأشياء.
والذي يبدو، أنها كتبت على عجل، وأنه أريد لها أن تسبق إلى الظهور قبل أن تمتد إلى موضوعها يد أخرى! وما يمثل هذا يكون الفن، فالفن أناة ومهل وتأمل. والفن ليس سابقا في ميدان ينال فيه الفائز الأول الجائزة الكبرى!
على متولي صلاح
البَريدُ الأدَبَي
إلى صاحب الرسالة:
للرسالة تاريخ مجيد. تاريخ نهضة أدبية موفقة، كنت أنت يا صاحب
الرسالة لها مشعلا، وكان أقرانك الآخرون حماة. وكنت أنا - رعاك
الله - أحد المعجبين بها ولا أزال، لأنها حلقة (اتصال). . بين
المدرسة المخضرمة والمدرسة الحديثة.
كنت أقرأ لك المقالات البليغة فيسحرني رفيع معنى ودقة تعبير وسامي بيان. وأعيش الساعات بين صفحات (وحيك) فأنعم بخير أنيس. . وخير أنيس في الزمان كتاب.
والآن. . والشرق يجتاز أحرج الفترات في تاريخ نضاله ضد البربرية والهمجية. والشعوب المستعمرة تنفجر فيها براكين الثورة على غاصبي الحق، وسافكي الدماء، ولصوص البشرية. على البرابرة الذين نعتهم المعداوي (بأنهم مثاليون في الأنانية والجشع، وضيعة الضمير والخلق، وانحطاط الشعور والإنسانية، وانتقاء العدل والإنصاف، وتلك هي العناوين الضخمة التي يسطر تحتها كلماته الخالدة حين يعرض للحكم البريطاني في كل أرض سكنها الأحرار في كل زمان ومكان!)
نعم! في هذه الفترة القائمة. وبين دخان البارود المتكاثف في سماء القناة وميادين الخرطوم لا أسمع لصوتك نبأة ولا أرى لقلمك خطا!
أليس بكاف أن تكون أنت صاحب (الرسالة)! وهل رسالة الأديب سوى قيادة الجماهير إلى حياة حرة كريمة ومجتمع راق سعيد؟
يا صاحب الرسالة هذا صوت ينحدر إليك من أقاصي الجنوب، صوت كله ألم وحرارة، صوت يطلب منك أن تنزل من برجك العاجي إلى الشعب في معركته. . معركة الحرية والشرف والكرامة.
فهل أنت لندائي مجيب؟ وفي الختام أقدم إليك وأنت في الشمال تحية إخوان لك في الجنوب (إخوان لك في الله والدين والوطن). إليك يا صاحب الرسالة تحية كفاح صلب وإيمان عميق.
نور سودان
حسين بارزعة
(الرسالة): أشكر الأخ الفاضل جميل رأيه وحسن ظنه. ولعل في افتتاحية العدد الماضي من الرسالة جواباً عن سؤاله.
حول اللحن الفصيح:
رعى الله الأديب اللامع الأستاذ (عباس خضر) حين أطلق هذه التسمية على مقول العالم الجليل معالي الدكتور طه حسين باشا: (يريدون أن يضحكوا من رؤساء التحرير والصحف (فيدخلون) عليها فصولا نشرت على أنها لم تنشر)
نقول: حياه الله، فقد أبدع في التسمية، ووفق في تحقيق المقام، ودل على سعة الأفق في الفهم، وكنت أعددت ردا على الأستاذ (بربري)، لكني آثرت المهلة لأرى محجة الأستاذ الأديب (خضر) حتى طالعت إلمامه الشاملة الجامعة بالعدد (691) من الرسالة الزهراء. .
لكن بقي في النفس شيء، أود تحقيقه توكيداً لفصاحة اللحن المزعوم، فإن العبارة (يريدون أن يضحكوا فيدخلون) برفع الفعل المعطوف سليمة من كل عيب، نابضة بالعروبة الأصيلة بحسب الذوق والتقعيد.
إن العلم يقول: (المفعول به قيد في الجملة)، والمصدر المؤول من أن والفعل في (أن يضحكوا) واقع موقع المفعول به، وتقدير الكلام:(يريدون الضحك) فالفعل المنصوب في واقع الأمر يؤدى مؤدى إكمال (يريدون؛ أما (فيدخلون) فأمر آخر، إذ يراد النص على حدثين (الإرادة والإدخال)، ومقتضى هذا أن يكون العطف المرتب لهما مستدعيا رفع الفعل المضارع المغلوط رفعه في الوهم! ذلك ما نراه ويراه - في اعتقادنا - العلم الصحيح، وتكون الدعوى المهولة من الأستاذ بربري لها مكان البطلان!
لقد سقنا هذا التحقيق من دون ارتجال، فالعلم المرتجل مصيره الزوال، لكنا اعتمدنا على قول ابن هشام في التوضيح:(وقينا الفاء بالسببية ليخرج ما كان منها للعطف على الفعل، أو الاستئناف نحو: ولا يؤذن لهم فيعتذرون)
وبعد، فما أجمل تسمية الأديب المبدع الأستاذ (خضر)! وما أجل العلم إذا بعد عن شهوة
النفس، وتشهى الأغلوطة فيما هو أبلغ من الفصيح!
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر
(وارف) و (ويرف):
كتب الأديب عبد الحميد الرشودي كلمة بالعدد (962) من الرسالة أنكر فيها على الأستاذ الشاعر إبراهيم محمد نجا قوله: (كما انطوى في القيظ ظل وريف). وذكر أن الصواب (. . ظل وارف)، وأن هذا الاستعمال خطأ شائع.
وقد أخطأ الأستاذ الرشودي في ذلك، فكلا التعبيرين صحيح لا شيء فيه؛ وذلك لأن (وريف) مصدر (ورف)، بفتح الفاء والعين، يقال: ورف الظل وريفا إذا اتسع وامتد. وقد ورد عن العرب كثيرا وصفهم بالمصدر فقالوا: هذا رجل عدل، ورضا، وزور، بفتح الفاء وسكون العين، وفطر، بكسر الفاء وسكون العين، وإلى ذلك يشير ابن مالك بقوله:
ونعتوا بمصدر كثيرا
…
فالتزموا الإفراد والتذكيرا
وذلك إما على التأويل بالمشتق أي عادل، ومرضى، وزائر، ومفطر، وهذا هو رأى الكوفيين، وإما على تقدير مضاف أي ذو عدل، ورضا. . الخ، وهذا البصريين، وإما على إرادة المبالغة يجعل الموصوف هو نفس العدل، ونفس الرضا. . الخ. وكل هذا يقال هنا. ويكون المعنى حينئذ إما على تقدير مضاف أي ظل ذو وريف أي اتساع وانتشار، وإما على تأويله بالمشتق، وإما على إرادة المبالغة.
وإذن: فالتعبير صحيح لا غبار عليه. ولعل الشاعر تعمده ليؤدى ما يريده من المبالغة والتكثير.
أحمد مختار عمر
بالجامعة الأزهرية
(1)
خطأ عروضي:
في قصيدة (الشعور المكبوت) بالعدد (961) من الرسالة الأثيرة وقفت عند هذا البيت:
(وتلالها لكين منهما ثالث=جن فهل رد عقله المستعارا)
فهو من بحر الحفيف (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) مرتين. . وقد تعثر وزنه فانكسر. . فهل للشاعر الأستاذ النشار أن يصلحه ليستقيم ميزانه. وتسلم القصيدة الفريدة في معناها ومبناها!
(2)
مهيب لا مهاب:
لعل الأستاذ مطر حين قال في قصيدته (من الأعماق) بالعدد المذكور:
(تحررنا من الأغلال فانهض=سليل المجد مرموقا مهابا)
لعله قصد من كلمة (مهابا) إلى ما تؤديه كلمة (مهيب) يهاب فهو مهيب ومهوب، أما مهاب التي وردت في البيت فهي من (أهاب) به يهيب به إذا زجره عن الشيء فهو مهاب أي مزجور. فهي على المعنى المراد للشاعر في البيت خطأ صوابه (مهيب) بفتح الميم كما أوضحت الآن.
محمد محمد الأبشيهى
المدرس بنبروه الثانوية
جلال الدماء في القنال:
إن لهذه الدماء المصرية التي أريقت بغيا وظلما في ساحة القنال جلالا، يجب أن تقدره مصر حق قدره، ويجب أن لا يغيب عن مصري واحد، إن هذه الدماء عزيزة على نفسه عزة دمائه عليه، وأنه لن يستريح له بال ولن يهدأ له خاطر حتى يثأر لها من أعداء الإنسانية والمروءة والرحمة من قراصنة العالم، ومجرى الحروب، وقطاع الطرق. . . أحفاد بريطانيا.
وكأني بالقاهرة المدللة النشوى لم تستيقظ بعد، ولم يطن في أسماعها التي أصمها اللهو والصخب دوى الرصاص على قنال السويس، فهي لا تزل ساردة في عبثها ولهوها، ومجونها وصخبها، وكأن شيئا لم يحدث في بقعة من أعز بقاع مصر. . هي هي كما كانت من قبل ملاهيها وحاناتها وسهراتها، حتى الإذاعة المصرية (النابهة) لا تزال تفرض على الشعب المنكوب الأغاني الساقطة والموضوعات التافهة، والتمثيليات الهزيلة، والفكاهات
المنكرة.
ألم تكن هذه الفترة الخطيرة المتأججة كفيلة بأن تحمل القاهرة على الحد من شرورها؟ والملاهي والمسارح والحانات والسهرات على الحد من غلوائها؟ والإذاعة البلهاء على الحد من سفسافها ومهازلها، إجلالا لهذه الدماء المصرية التي أهرقت في سبيل مصر؟
بهيجة المنشاوي
سكرتيرة جماعة السيدات المسلمات بالقاهرة
القصص
من قيد إلى قيد
للشاعر الفيلسوف رابندرانات طاغور
(سرقة من خزانة الملك!)
ذهبت هذه الصيحة تطوي المدينة طيا. لابد أن يقبض على السارق حتى لا يصيب قائد الحرس أذى.
وكان فاجارسن قد هبط إلى الثغر غريبا عن أهله ليبيع جياداً في المدينة؛ فسقط عليه عصبة من اللصوص سلبته كل ما كسب، وألجأته إلى أطلال معبد خارج أسوار البلدة. فألقوا عليه التهمة، واقتادوه مغللا إلى السجن مجتازين به شوارع المدينة.
وكانت (شياما) المتجبرة ذات الجمال الفتان جالسة في شرفها تطل في تراخ على الجمع المار. فإذا هي ترتعد فجأة وتصيح بوصيفتها: (وا أسفا! من ذلك الشاب ذو الوجه النبيل والجمال النوراني؟ ذلك الذي يرسف في الأغلال كأنه لص؟ سلي رئيس الجند بأسمي يأت به إلى).
وجاء رئيس الحراس بالسجين وقال لشياما:
ليس في الوقت متسع لإجابتك يا سيدتي إلى ما ترغبين؛ فعلى أن أهرع إلى الملك إطاعة لأمره).
ورفع (فاجارسن) - سريعا - رأسه، وصاح:
(من أغراك يا امرأة بأن تأتى بي من الطريق لتسخري منى بفضولك العجيب؟
فقالت شياما:
(أسخر منك! إنه لحبيب إلى أن أنزع حلى فأضع مكانها أغلالك!)
ثم التفتت إلى رئيس الجند وقالت:
(إليك كل ما ملكت بيميني وأطلقه حرا)
فانحنى الرجل وقال:
(ليس الأمر في وسعى. لابد من ضحية نطفئ بها غضب الملك)
فتوسلت إليه شياما قائلة:
(أنني لا أطلب للسجين غير مهلة يومين)
فابتسم رئيس الجند ووافق.
وفي نهاية الليلة الثانية من اعتقال فاجارسن رتل السجين صلواته، وجلس في اللحظة الأخيرة يكتب وإذا بالباب يفتح وبالمرأة تدخل حاملة في يدها مصباحاً. ثم أشارت فحل الحارس وثاق السجين، فقال الشاب:
(لقد جئت إلى بهذا المصباح - أيتها المرأة الرحيمة - كما يطلع الفجر بنجمة الصبح بعد ليلة حمى وهذيان)
وصاحت شياما:
(رحيمة حقا!) وانفجرت ضاحكة حتى سالت من عينيها الدموع، وصرخت قائلة:
(ليس بين أحجار هذا السجن ما هو أصلب من قلب هذه المرأة وأقسى.) وأمسكت بيد السجين فاقتادته خارج الأبواب.
أشرقت الشمس على ضفاف الفارونا، وكان زورق على المرسى، قالت شياما:
(تعال معي في هذا الزورق أيها الشاب النازح، وحسبك أن تعلم أنى قطعت كل أعلالك، وأنى معك في هذا القارب)
وانزلق القارب. في هينة ولين، وغردت الطيور في مرح وحبور، وقال فاجارسن
(خبريني يا غرامي! بأي ثروة اشتريت حريتي؟) فقالت شياما:
(هيه!. . . ليس الآن. . .)
تكبدت الشمس وعادت نساء القرية إلى دورهن وثيابهن تنز بعد الاستحمام، وجرارهن ممتلئة بالماء، وانفضت السوق فالتمتع بالشمس طريق القرية الخالي. . .
وهبت نفحات الظهر الدافئة فأزاحت النصيف عن وجه شياما، فهمس فاجارسن في أذنيها:
لقد أخرجتني من غل يزول إلى غل يدوم مدى الحياة. ذريني أعرف كيف فعلت؟
فأسبلت المرأة النصيف على وجهها وقالت: ليس الآن يا حبيبي. . .
وأعطش الليل، وراح النسيم الوانى، والتمع الهلال الليل على حواشي الماء ذي السواد الحديدي.
وجلست شياما في الظلام، وأراحت يدها على كتف الشاب، ونام شموها بين ذراعيه
وهمست في خفوت!
لقد أتيت من أجلك أيها الحبيب أمرا إذا؛ بيد أن أخبارك به أشد وأقسى. لأكشفنه لك في كلمات قصار: لقد حمل عنك أغلالك بوتيجا، وهو فتى شفه الحب وأضناه الهوى؛ وادعى الجريمة وأهدى إلى حياته. . . في سبيل حبك اقترفت ما اجترمت يا أعز حبيب!
كانت تتكلم والهلال الشاحب يضوي ويزول، والطيور تأوي إلى أوكارها فتسلم الغابة لسكون عميق.
وانسل ذراع الشاب في هدوء من حول خصر المرأة وتصلد الصمت من حولها واستحجر في الآذان. .
وجثت المرأة فجأة عند أقدامه، وتعلقت بركبتيه صائحة: غفرانك أيها الحبيب غفرانك! دع العقاب لله؛ هو يجزيني على ما قدمت يداي!
وانتزع فاجارسن ساقيه بعيدا، وصاح في صوت أبح:
تشترين حياتي بثمن الخطيئة! لعنة الله على كل نفس من أنفاس حياتي!
وهب واقفا؛ وقفز إلى الشط من القارب، وغاص في ظلام الغابة، وظل يسير ويسير حتى انقطع به الطريق، واستوقفته الأدغال المتكاثفة والأشجار الملتفة.
وجلس على الأرض متعبا. . ولكن من هذا الذي تبعه في صمت طوال الطريق المظلم، والذي يقف الآن كالشبح وراءه!
وصاح فاجارسن: (هلا تركتني!)
وهوت عليه المرأة في لحظة، وأغرقته بدلها، وغطته بشعرها المتهدل، وأثوابها الجرارة، وأنفاسها المترددة، وصاحت في صوت خنقه العبرات المحتبسة:
لا. لا. لقد اجترمت لأجلك فاقتلني إذا شئت؛ دعني أموت بيديك!
وارتعش ظلام الغابة الراسخ لحظه؛ وسرى الرعب في جذور الأشجار المتغلغلة في جوف الأرض وارتفعت تحت جناح الليل آهة مكتومة، وأنفاس مضطربة، وسقط على الأوراق الذاوية جسد.
توهجت شمس الصباح على مسلة المعبد البعيد، وبرز فاجارسن من الغاب، وظل النهار بطوله يهيم بجوار النهر صاليا بحرارة الشمس لا يفتر لحظة.
وفي الليل ارتد إلى القارب على غير هدى، فوجد على الفراش سوارا، فقبض عليه إلى قلبه حتى أدماه، وانبطح على الوشاح الأزرق المتكوم في الزاوية فأخفى وجهه بين طياته وأراد أن يجتر من نعومة جريره، وشذا عبيره ذكرى جسد حي حبيب. . .
وترنح الليل في صمت ثقيل راجف، واختفى القمر وراء الأشجار، ووقف فاجارسن مادا ذراعيه إلى الغاب مناديا:(تعالى إلى غرامي! تعالى إلى!)
وانبعثت من الظلام فجأة شبح وقف على شفير الماء. (تعالى إلى يا غرامي! تعالى إلى!)
(لقد جئت يا حبيبي، ولم تستطيع يداك العزيزتان إزهاق روحي، قدر على أن أعيش)
وجاءت شياما. . . ووقفت بازاء الشاب فنظر في وجهها، وتقدم خطوة ليضمها بين ذراعيه. ثم قذفها بكلتا يديه وصاح
(لماذا؟ آه! لماذا عدت؟)
وأغمض عينيه، وأشاح بوجهه، وقال
(أذهبي. . . أذهبي. . . دعيني)
ووقفت المرأة لحظة، ثم ركعت عند قدميه وانحنت كثيراً. وهبت ويممت نحو الشط وغابت في ظلام الغاب كحلم انبعث من نوم. وجلسفاجارسن في القارب صامتاً وحده، وقلبه يدمى
ش. ع