الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 964
- بتاريخ: 24 - 12 - 1951
سبعون عاما!
نعم، سبعون عاما طوالا ثقالا لبثناها تحت نير الاحتلال، نحرث وهو يسوق، ونزرع وهو يحصد! ما كان أصبرنا على النار! وما كان أرضانا بالذل والصغار!
كنا نصبر لأن قلتنا كانت لضعفها لا تستطيع. وكنا نرضى لأن كثرتنا لجهلها لا تدري. والضعف منذ كان سبيل المستأسد إلى الافتراس. والجهل منذ كان دليل المستعمر إلى الفريسة. وهل تنكر طبيعة الحيوان أن يلتقم الحوت الشبوط، أو يلتهم الأفعوان الأرنب؟ أم تنكر مدنية الإنسان أن يستذل الأمريكان السود، أو يستغل الإنجليز الهنود؟ تلك سنة الله في الخلق، لا يبدلها دين ولا يعدّلها علم ولا يعطلها مدنية
سبعون عاما طوالا ثقالا قضيناها تحت سلطان الدخيل الباغي أن له ظلا كثيفا يحجب النور، وزفَرا خبيثا يضعف الشعور، وإشعاعا وبيئيا يسمم الحياة. فلما أراد الله لظله الثقيل أن يخف، ولزفره الوبيل أن يقل، ولإشعاعه المميت أن يتراجع، نفذ إلينا ضوء العلم فرأينا، ورف علينا روح الأمل فتقوينا، وأصبحنا نحن أبناء العرب الذين فتحوا الأرض، وحفدة الفراعين الذين مدنوا الناس، وجها لوجه أمام أبناء القراصين الذين لم يروعوا إلا التجار، وحفدة الصيادين الذين لم يفزعوا إلا الأسماك، نقارعهم بالحجة في مجالس الرأي فنقرعهم، ونصارعهم بالقوة على ضفاف القتال فنصرعهم. فإذا أقلقهم الخوف، وأرهقهم الجزع، وتخطفهم الموت، سلطوا آلات الدمار على البيوت الآلهة، وأطلقوا قذائف النار على الجموع الغافلة؛ حتى إذا نهض لإغاثة الأهلين رجال الشرطة، وعددهم لا يربى على المائتين، وسلاحهم لا يزيد على البنادق، زحف عليهم عشرة آلاف من آكلي البفتيك وشاربي الوسكي، تتقدمهم مئات من الدبابات والمصفحات، وتصحبهم آلاف من المدافع والرشاشات، وتعلوهم أسراب من النفاثات والقاذفات؛ ثم يعود الأبطال من المعركة (الشعراء) وقد امتقعت الوجوه الحمر، وانقطعت القلوب السود، تتقدمهم سيارات الصليب تنقل الجرحى، وتصحبهم ناقلات الجيش تحمل القتلى، وتعلوهم غبرات الخزي تغشى الجباه ويرجع رجال الشرطة إلى أقسامهم متهللين مختالين يقولون في عجب ودهش وسخرية: أهؤلاء هم الذين جثموا على صدر الوادي سبعين عاما جثوم الكابوس المهلك لا يتحلحل ولا يريم؟ الآن وقد رأيناهم عن عيان، وعلمناهم عن يقين، ندرك الحكمة في أنهم منعوا جيشنا السلاح والتدريب، وحرموا شعبنا العلم والتهذيب، فإنهم لا يسودون إلا في
الجهل، ولا يستفيدون إلا من الضعف. فإذا ابتلاهم الله بأمة مؤمنة صابرة قوية مستعدة، تكشف سترهم، وتفضح سرهم، صاولوا عداوتها بالمعارضة، ثم حاولوا صداقتها بالمفاوضة، ثم هجموا عليها بالدهاء والرجاء والمصانعة؛ فإذا لم يغن عنهم كل أولئك سلموا لها بالأمر الواقع. فترضى العجوز الشوهاء أن تأكل من فضلات باكستان، وأن تريق ماء وجهها الدامي في سبيل حصة من زيت إيران!
أحمد حسن الزيات
محنة مصر محنتنا
للأستاذ محمد البشير الإبراهيمي
رئيس تحرير (البصائر) لسان جمعية العلماء المسلمين
الجزائريين
تعاني مصر العزيزة هذه الأيام، ما يعانيه الحر الأبي أكره على الضيم، وأريد على ما لا يريد، وجرع السم مدوفا في الحنظل، وقطعت أوصاله وهو يشعر، واستبيحت محارمه وهو يسمع ويبصر حتى إذا استيأس من الإنصاف ونفذ صبره خطا الخطوة الفاصلة، وأقدم على تحطيم القيد بنفسه، وعلى تمزيق الصحيفة التي أملتها القوة على الضعف فقبلها مكرها كمختار؛ وكانت أهون الشرين، فأصبحت - بحكم الزمان - أثقل الخطبين.
سمعت مصر على حل العقدة التي عقدها السيف يوم التل الكبير، وأحكم المكر عقدها بعد ذلك في سلسلة من الأعوام بلغت السبعين، صاحبتها سلاسل من الأحداث والأسباب المصطنعة زادت العقدة تأربا واستحكاما، وسلاسل من الوعود المنومة تكررت فألفت وفقدت التأثير؛ وفتحت مصر عينيها على أفظع ما تفتح عليه العيون: تغرم ليغنم الإنجليز، وتجوع ليشبع الإنجليز، وتموت ليحيا الإنجليز، وينهدم مجدها ليبنى بأنقاضه مجد الإمبراطورية الإنجليزية، ويفرض عليها أن تعيش غريبة في وطنها، وأن تعاون على طمس حضارتها ومسخ عقليتها، والانسلاخ من شرقيتها، والنسيان لماضيها، وأن تنتبذ من أهلها مكانا غربيا. . . وأن تجفف النيل لتفهق به مشارع التاميز. . .
صممت مصر على إحدى الخطتين، فكانت التي فيها الشرف والكرامة، بعد أن استنفدت التجارب، وأستفرغت الجهود، وبعد أن استعرضت الماضي بعبره وشواهده، فرأت أن ساعة من العمل خير من ألف شهر في الكلام، وأنها تمارس خصما إن استنجزته الوعد طاول، وإن تقاصرت أمامه تطاول؛ فخطت هذه الخطوة واثقة مستبصرة، وتركت للأقدار ما وراءها، كما يفعل المظلوم المستيئس من إنصاف ظلمه، ومن نصر النظارة: يركب الحد الخشن، ويعتمد على نفسه، وينادي ربه:(أني مغلوب فأنتصر).
رأت مصر - كما رأينا وكما رأت الشعوب المستضعفة - أن السنة قد انعكست، فأصبحت
أيام الحرب أكثر عددا من أيام السلم، وأن لصوص الاستعمار تشغلهم الحرب عن السلم، ولم تشغلهم السلم عن الحرب، فأصبحوا في حرب متصلة الحلقات
وعلمت مصر - كما علم غيرها - أن الشعار الكاذب لحرب 14 - 18 هو وعود المتحاربين للأمم الضعيفة بأن نهاية الحرب هي بداية تحريرهم فليسكتوا إلى حين، لأن السلاح خطيب يجب الإنصات له، ويحرم الكلام معه، فلما انتهت تلك الحرب أمعن اللصوص المنتصرون في استعباد المستضعفين، وصمت آذانهم عن سماع أصواتهم. وجاءت حرب 39 فتجددت تلك الوعود بألفاظها، وزيدت عليها نون التوكيد المشددة، وسيقت تلك الشعوب الموعودة على نغماتها إلى جهنم بأوزار غيرها، ولمنافع غيرها. فلما خفتت المعامع، وسكتت المدافع، عادت طبيعة الكذب والإخلاف إلى مستقرها من نفوس اللصوص، وعادت الحالة إلى أشنع مما كانت عليه من تحكم واستعباد. وما انتهت تلك الحرب حتى ظهرت عليها أعراض الحمل بحرب أخرى ثالثة، وأصبح العالم كله استعدادا لها، وأوجد الطغاة العالون في الأرض بذاك مرخصا لطغيانهم ولإسكات الأصوات المطالبة بالتحرير؛ وعادت نوبة المماطلة والتسويف والوعود الكاذبة والتعلل بأن الحرب على الأبواب، فلنحتفظ بهذه الأبواب، وبأن الديمقراطية في خطر، فلنتعاون على إنقاذها مجتمعين قبل كل شيء ثم تتناصف. وهم لا يريدون من الديمقراطية إلا سيادتهم واستعلاءهم وتحكمهم في الشعوب والأوطان واستئثارهم بقواتها وخيراتها، فقالت مصر: إذا كانت الحرب لم تنصفني مع احتراقي بنارها، وكانت السلم لا تنصفني مع اضطلاعي بوسائلها وتمهيدي لأسبابها، فلأنتصف لنفسي، ولآخذ حقي بيدي. . . فأقدمت، وجاءت بها غراء شهرة الأعلام، وسنتها سنة حسنة لها أجرها وأجر من عمل بها، ممن ضاقت به الحيل، واشتبهت عليه السبل. ولعمري لئن سبقها إلى هذه المنقبة رجال من فارس، ليلحقنها فيها رجال من العرب الأشاوش. . .
الآن. . . يا مصر. الآن وقعت على مفتاح القضية، وقد أقدمت فصممي، وأحذري النكول والتراجع فإنهما مضيعان للفرصة. اجعلي من أرضك صعيدا واحدا وأجمعي أبناءك كلهم فيه صفا واحدا بقلب رجل واحد، على الحفاظ والنجدة والاستماتة في حقك والموت في سبيله؛ واجعلي على وجهيك وجها واحدا مستبين القسمات، واضح السنن، يراه عدوك فلا
يرى إلا الحق مشرقا، والغضبة بارزة العنوان.
إن بين السبق والتخلف خطا دقيقا يتجاوزه الحر الأصيل فإذا هو مستول على القصب. وإن بين النصر والهزيمة خطوة ضيقة يخطوها الشهم الشمرى فإذا هو حائز للغلب. وإن المعالي شد حيزوم، وشحذ عزيمة، وتلقيح رأي سديد برأي أسد، وتطعيم عقل رشيد بعقل أرشد؛ ثم استجماع للقوة الداخلية كما يستجمع الأسد للوثبة.
ليت شعري. . لو لم تصنع مصر ما صنعت، فماذا كانت تصنع؟ أكانت تستخذى للغاضب فتبقى مقيدة به، يعادي فتعادي بلا سبب، ويحارب فتحارب بلا أجر ولا غنيمة، ويرضى فترضى بلا موجب، ويواصل فتواصل على مضض؟
وكنا نظن أن الإنجليز راجعوا بصائرهم، وأخذوا من تأديب الزمان بنصيب، ومحو سيئة الاستعمار بحسنة التحرير، وسنوا للمستعمرين الجائعين سنة التعفف - يوم حرروا الهند وباكستان - على ما في ذلك التحرير من شوائب - ويوم أعانوا سوريا ولبنان على التخلص من البلاء المبين. كنا نعتقد أَن تلك البوادر من إنجلترا - لو تمادت عليها - أصلح لها وأبقى على شرفها؛ لأن من ثمراتها أن تصير خصومها أصدقاء وأعوانا، ولكن معاملتها لمصر هذه المعاملة القاسية التي انتهت بالأزمة الحالية - كذبت ظنوننا، وسفهت اعتقادنا، وأقرت أعين المستعمرين أعداء التحرير
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، المعبرة عن إحساس الشعب الجزائري كله، تعلن تأييدها للشعب المصري وتضامنها معه في موقفه الحازم؛ ولا تصدها عن أداء واجبات الأخوة هذه الحدود الوهمية التي خطها الاستعمار بين أجزاء الوطن الواحد، ولا هذه السدود الواهية التي أقامها بين أبناء الوطن، لأن العواطف الجياشة كعثانين السيل لا تردها حدود ولا سدود.
وجمعية العلماء تحيي جهود الشعب المصري المجاهد في سبيل حريته واستقلاله، وتدعو له بالثبات في هذا المعترك الضنك، وبالانتصار في هذه المرحلة الحاسمة؛ وأن يكون انتصاره آية من الله يثبت بها عزائم المستضعفين، ويحل بها ما عقد الأنوياء. وإن الشعب الجزائري حين ظهر بهذا الإحساس الشريف الطاهر نحو أخيه الشعب المصري - إنما يقدم جهد المقل من قلوب ملؤها الحب لمصر، والاعتزاز بأخوة مصر، والإعجاب بما
صنعت مصر. وإنه يعتقد أن كل مصري يخرج من إجماع مصر فهو مدخول العقيدة، مغموز النسب، وأن كل عربي لا يؤيد مصر، فهو عاق للعروبة، ناكث لعهدها؛ وأن كل مسلم لا يعين مصر بما يملك فهو مارق من الأخوة الإسلامية الشاملة
البصائر
محمد البشير الإبراهيمي
معركة الذباب!
للأستاذ محمود أبو رية
قامت في الشهور الأخيرة معركة حامية بين مجلتي لواء الإسلام والدكتور حول حديث الذباب فالأولى تتمسك بهذا الحديث وتصر على إثباته ليأخذ الناس به ويصدقوا بمدلوله مرتكنة على أن كتب الحديث قد أوردته ومنها البخاري. وأما الثانية فتدفع هذا الحديث وتستبعد صدوره عن النبي الذي لا ينطق عن الهوى؛ وحجتها ما أثبته العلم وحققته التجربة من ضرر الذباب وأنه ناقل للعدوى في أمراض كثيرة.
وإن المرء ليأسى أن يقوم إنسان في هذا العصر الذي زخرت فيه بحار العلم وأخرجت من درر المخترعات والمستكشفات ما يدهش العقول، وتسابق أهلوه في مضمار العلم ما استطاعوا للانتفاع بما خلق الله لهم وسخره لعلومهم في السماوات والأرض متخذين في ذلك كل سبب من أسباب العلم والتجربة - فيشغل الناس بهذه الأبحاث العقيمة التي لا تنفع ولا تفيد بل هي إلى إساءة الدين أدنى وإلى ضرر الناس أقرب
ولقد كان جديرا بمجلة لواء الإسلام التي نرى بين محرريها علماء فضلاء أمثال الأستاذين عبد الوهاب خلاف بك وعبد الوهاب حموده بك أن تسود صفحاتها بسطور مثل هذا البحث العقيم الذي يفتح ولا ريب على الدين شبهة يستغلها أعداؤه ويتوارى منها أولياؤه. وأن تدع الأمر في مثل هذا الحديث إلى العلم وما وصل إليه بأبحاثه الدقيقة وتجاربه الصحيحة التي لا يمكن نقضها ولا يرد حكمها!
وماذا يضر الدين إذا أثبت العلم ما يخالف حديثا من الأحاديث التي جاءت من طريق الآحاد، وبخاصة إذا كان هذا الحديث في أمر من أمور الدنيا التي ترك النبي صلوات الله عليه أمرها إلى علم الناس. وهل أوجب علينا الدين أن نأخذ بكل حديث حملته كتب السنة أخذ تسليم وإذعان! وفرض علينا أن نصدقها ونعتقد بها اعتقادا جازما!
إن الأخذ بكل ما جاء في كتب الحديث أخذ تسليم وإذعان إفراط في الثقة لم يأمر العلم ومخالف لما وضعه العلماء من قواعد لعلم الحديث. ذلك بأن الذي يجب التصديق به واعتقاده إنما هو الخبر (المتواتر) فحسب؛ وليس عندنا كتاب يجب اعتقاد كل ما جاء به اعتقادا جازما يبعث اليقين إلى القلب غير القرآن الكريم الذي جاء من طريق (التواتر)
والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أما الأخبار التي جاءت من طريق الآحاد وحملتها كتب الحديث فإنها لا تعطى اليقين وإنما تعطى (الظن) والظن لا يغني من الحق شيئا. وللمسلم أن يأخذ بها ويصدقها إذا أطمئن قلبه بها وله أن يدعها إذا حاك في صدره شيء منها. وهذا أمر معروف عند النظار من علماء الكلام والأصول والفقه ولم يعارض فيه إلا (زوامل الأسفار) من الحشوية الذين لا يقام لهم وزن.
وإذا نحن أخذنا حديث الذباب على إطلاقه ولم نسلط عليه أشعة النقد فأنا نجده من أحاديث الآحاد وهي التي تفيد الظن - وإذا لم يسعنا ذلك في رده بعد أن أثبت العلم بطلانه فليسعنا ما وضعه العلماء من قواعد عامة - ومن هذه القواعد (أنه ليس كل ما صح سنده يكون منته صحيحا، ولا كل ما لم يصح سنده يكون منته غير صحيح - بل قالوا - إن الموضوع من حيث الرواية قد يكون صحيحا في الواقع، وأن صحيح السند قد يكون موضوعا في الواقع. ومن القواعد المشهورة: أن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو للبرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات.
وإذا قيل إن هذا الحديث قد رواه البخاري وهو لا يروي إلا ما كان صحيحا، فأنا نرد على ذلك بأن البخاري قد روى في كتابه ما اعتبره هو صحيحا عملا بظاهر الإسناد لا ما ثبت في الواقع أنه صحيح. ومن أجل ذلك لا يلزم غيره بما اعتبره هو. وإذا قالوا حديث (متفق عليه) فليس معنى ذلك أن الأمة كلها قد أنفقت على صحته، وإنما معنى ذلك أن البخاري ومسلم قد اتفقا على روايته.
قال الزين العراقي في شرح ألفيته (وحيث قال أهل الحديث: هذا حديث صحيح فمرادهم فيما ظهر لنا عملا بظاهر الإسناد لا أنه مقطوع بصحته في نفس الأمر لجواز الخطأ والنسيان على الثقة. هذا هو الصحيح عند أهل العلم المحققين.
ولهذه القواعد وغيرها مما عرف من تاريخ الحديث قال عبد الرحمن بن مهدي (لا يكون إماما في الحديث من تتبع شواذ الحديث أو حدث بكل ما يسمع أو حدث عن كل أحد)
وقال أبن أبي ليلى (لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع)
وقال الأستاذ الإمام محمد عبده (لا أومن بحديث تعرض لي شبهة في صحته. وليست
الشبهة في النبي وقوله، ولكنها فيمن روى عن النبي. ولذلك قال الإمام أبو حنيفة في سبب رده لبعض الأحاديث (ردي على كل رجل يحدث عن النبي بخلاف القرآن ليس ردا على النبي ولا تكذيبا له ولكنه رد على من يحدث عنه بالباطل، والتهمة دخلت عليه ليس على نبي الله. وكل شيء تكلم به النبي فعلى الرأس والعين قد آمنا به وشهدنا أنه كما قال. . .)
على أننا إذا سلمنا كما قلنا بأن النبي صلوات الله عليه قد نطق بهذا الحديث ثم أثبت العلم ضرر الذباب فليس علينا من بأس في الرجوع عنه وعدم الأخذ به لأنه من أمور الدنيا. ولنا في ذلك أسوة حسنة بما فعل النبي صلوات الله عليه حينما رأى أهل المدينة يؤبرون النخل فأشار عليهم بأن لا يؤبروه. ولما ثبت بعد ذلك ضرر عدم التأبير وخرج الثمر شيصا قال لهم النبي حديثه المشهور (إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن؛ ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به. وفي رواية (إذا أمرتكم بشيء في دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) ثم ختم حديثه بهذه القاعدة الجليلة العامة التي يصح أن تكون دستورا للمسلمين على مر العصور كلها، والتي ثبت بحق أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وأنه صديق العلم وعدو الجهل وهذه القاعدة هي (أنتم أعلم بأمر دنياكم)
أما راوي هذا الحديث وهو أبو هريرة فقد ردوا له أحاديث كثيرة في حياته وبعد مماته حتى من التي صرح بأنه سمعها بأذنه من النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث (خلق الله التربة يوم السبت) الذي رواه عنه مسلم في صحيحه فقد قال البخاري وغيره إن أبا هريرة تلقاه من كعب الأحبار اليهودي
وأنا نكتفي بهذه الكلمة الصغيرة اليوم ونشكر لحضرة النطاسي البارع الدكتور سالم محمد الذي أثار هنا البحث النافع وندعوه وسائر زملائه الأطباء ثم رجال العلم جميعا من مهندسين وفلكيين وجغرافيين وغيرهم أن يستمروا في أبحاثهم العلمية النافعة بوسائلهم الصحيحة التي دعا إليها الإسلام ولا يخشوا أحدا في ذلك (فأنتم أعلم بأمر دنياكم)
المنصورة
محمود أبو رية
حديث الذباب
للأستاذ محمد أحمد علي صالح
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سقط الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء) أجاب بعض الأطباء بمجلة (الدكتور) عدد فبراير سنة 1949 (بأن هذا الحديث مكذوب وكلام لا يصح أن ينسب إلى النبي مهما كانت قيمة راويه، ولا الكتاب الذي وجد فيه) ومن هذا التاريخ واليت البحث للحصول على ما يؤيد هذا الحديث من الناحية الطبية، حتى أصدرت مجلة (لواء الإسلام) عدد سبتمبر سنة 1951 فتوى بأن هذا الحديث صحيح من ناحية السند، وذكرت الطرق التي ورد بها هذا الحديث، وبهذه المناسبة نشرت بمجلة لواء الإسلام عدد أكتوبر سنة 1951 ذلك البحث الطبي نقلا عن (المجلة التجارية الطبية الإنجليزية) عدد 1037 سنة 1947 ما نص ترجمته:(أطعم الذباب من زرع ميكروب بعض الأمراض، وبعد حين من الزمن، ماتت تلك الجراثيم، واختفى أثرها، وتكونت في الذباب مادة مفترسة للجراثيم تسمى (بكتريوفاج) ولو عملت خلاصة من الذباب في محلول ملحي لاحتوت على (البكتريوفاج) التي يمكنها إبادة أربعة أنواع من الجراثيم المولدة للأمراض، ولاحتوت تلك الخلاصة أيضاً على مادة خلاف البكتريوفاج نافعة، ضد أربعة أنواع أخرى من الجراثيم - وقد برهن على ذلك الأستاذ الدكتور (دريل) مندوب الصحة البحرية والكوربنتينات المصرية في الهند للبحث عن ظهور الكوليرا بها، وأنجح الطرق لمقاومتها، وقدم تقريرا مفصلا في ديسمبر سنة 1927 عما أجراه مع زملائه من الأبحاث الفنية والتجارب العلمية، فقد ذكر في تقريره أن (البكتريوفاج) أجسام حية صغيرة جدا أمكن تكوينها ورؤيتها بترسيب ذرات الفضة عليها، وأنه حصل على البكتريوفاج وتمكن من زرعه وتنميته وإذابته في الماء، وأعطى محلوله المرضي بنسب مخصوصة. وبزيادة الجرعات وتنظيم تناولها كان المريض ينال الشفاء في يومين أو ثلاثة، وأثبت أن الذباب يؤدي عملية أخرى عظيمة من نوع ما تقدم، ولكن لا أرى من المناسب ذكرها الآن - وأجريت مثل تجارب الأستاذ (دريل) في البرازيل عن الدوسنتاريا الحادة، واستعمل البكتريوفاج في إيطاليا في علاج الحمى التيفودية، وكذلك ضد جراثيم الاسنا فيلوكدك فافار)
وبناء على ذلك قلت: إن هذا الحديث معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أثبته الطب الحديث بعد أربعة عشر قرنا - وقلت: إن من كتب بتكذيب الحديث يجهل الناحية الطبية - وأثبت في هذا المقال درجة أبي هريرة راوي هذا الحديث عن رسول الله، وحرص الإمام البخاري صاحب (كتاب البخاري) الذي ذكر فيه هذا الحديث على الأحاديث النبوية. وقد علق على هذا البحث الطبي الدكتور (نجيب بك قناوي) بعدد نوفمبر سنة 1951 من مجلة (لواء الإسلام) مثبتا لوجود (البكتريوفاج) في الذباب حيث قال بالحرف الواحد:(إنما أود أن أبين باختصار جدا أن مادة (البكتريوفاج) هذه ليست قاصرة على الذباب فحسب، بل يمكن استخلاصها من كل مكان وحيوان، فهي موجودة بكثرة في براز الفراخ وبعض الطيور والحيوانات الأخرى، ومنها الإنسان وحتى الماء والهواء) ثم ذكر مسائل دينية يطلب الإجابة عليها من العلماء الشرعيين، وأورد عبارة عن (المنار) تتعلق بحديث الذباب؛ ثم ختم عزته تعليقه بشكري على هذا البحث في تمحيص حديث الذباب، خصوصا من الوجهة الطبية:(فإنه قرب إلينا نحن الأطباء بحث مادة (البكتريوفاج) في الذباب، ولذا فإني شرعت من اليوم مع بعض زملائي البكتريولوجيين في إجراء بحوث عملية مختلفة على الذباب والبكتريوفاج أي ملتهم الجراثيم سأنشرها عند ظهور نتيجتها، لعلها تبين بطريق أوضح سر معنى حديث الذباب. ومهما قمنا من أعمال وبحوث فما زلنا عند قوله تعالى:(وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). وقد رددت على أسئلته الدينية فلم تنشرها لواء الإسلام - ثم عاد طبيبنا الأول فكتب في مجلة الدكتور عدد أكتوبر سنة 1951 ضد هذا الحديث - كما عاود الكتابة في عدد نوفمبر سنة 951 من هذه المجلة أيضاً وأيده في ذلك ثمانية من الأطباء المحترمين في هذا العدد بالذات - ونظرا لما ورد في مقالات الطبيب الأول وفي بعض المقالات الثانية حينما أرادوا معالجة (حديث الذباب) أوقعوا أنفسهم في مضاعفات دينية اتسع عليهم فيها الجرح، فذكروا أحاديث مكذوبة نسبوها إلى رسول الله، وفسر بعضهم آيات قرآنية على غير ما أريد منها، وتقولوا على فقهاء الدين وبعض العلماء الإجلاء ما لم يقولوه ورددت على هؤلاء الأطباء التسعة، وطلبت من مجلة الدكتور نشره في المكان الذي نشرت فيه مقالات الأطباء الثمانية ليطلع القراء الكرام عليه كما أطلعوا على هذه المقالات المذكورة، تمشيا مع حرية النشر، وبسط الآراء لجمهور القراء، ووقوفهم
على الحقيقة، وتصحيحا للأخطاء الدينية التي وردت في مقالاتهم خشية أن يعتقد بصحتها لا دراية له بهذه المسائل. وبكل أسف لم تنشر هذه المجلة الرد بحجة (أنني تهجمت على الأطباء، وأن الرأيين نشرا على الجمهور: رأى المؤيدين للحديث، ورأى الأطباء المخالفين. فعلى كل إنسان أن يختار بين أبي هريرة، وبين شتى الأمراض التي ينقلها الذباب)
قلت لعل الأمر انتهى إلى هذا الحد وأقفل باب الكتابة في هذا الحديث، ولكن عاود طبيبنا الأول الكتابة في هذا الموضوع للمرة الثالثة غير الأولى وأباحت له المحلة ذاتها النشر بعد ما منعت ردنا على الأطباء الثمانية فقال في عدد ديسمبر سنة 1951:(فالبخاري رحمه الله مظلوم، ولا ذنب عليه، ولم تميز فراسته ما خفي بين طياته (أي الحديث) من شر وعبث بالصحة، وبهذا الدين الحنيف، ولا لوم على البخاري فقد وثق بإنسان فدس عليه هذا الحديث - ولو كان البخاري في زمانه يعلم مضار الذباب التي أثبتها العلم والطب، لاستحى من تدوين هذا الحديث المزعوم مهما كان مركز راويه) ثم تكلم على حديث الآحاد، وحمل حديث تلقيح النخل على غير ما يراد منه
فهل تسمح لنا (مجلة الرسالة الغراء) وتسعفنا ببسط ردودنا على هذه المقالات على صفحاتها وهي المنبر الحر الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، وأنها عودتنا والقراء أن نقرأ لها البحوث الدينية والعلمية والأدبية والآراء الحرة حتى تخلص البخاري من هذا الوصف الذي لا يتناسب مع مركزه؟
(يتبع)
محمد أحمد علي صالح
من علماء الأزهر
9 - الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
وحشية الإنجليز:
فقد الإنجليز كل معنى من معاني الإنسانية وانقلبوا وحوشا آدمية يسفكون الدماء بغير مبرر ويهاجمون العزل الأبرياء لغير ما سبب. وليس هذا بجديد عليهم فتاريخهم الطويل يشهد بأنهم أمة من السفاحين والقراصنة. وإني أحدثك أيها الأخ الكريم اليوم عن فظائع الإنجليز في مصر قديما وحديثا.
من 29 نوفمبر - 6 ديسمبر 1951:
أستيقظ سكان بور سعيد في الساعة السادسة صباحا من يوم 29 نوفمبر 1951 على أزيز الرصاص يتجاوب في أنحاء مدينتهم فقد انطلقت سيارتان بريطانيتان خرجتا من باب الجمرك وراحتا تطلقان النار على كل من تصادفه في الطريق. ومرت السيارتان بمبنى قسم أول وأخذ جنودهما يطلقون الرصاص على القسم وجنود البوليس وأستشهد جنديان ومات بعض المدنيين. وكان طبيعيا أن يرد البوليس المصري العدوان بمثله. حدث هذا في الوقت الذي كان يسعى فيه المسئولون المصريون والإنجليز في الإسماعيلية وبور سعيد والسويس إلى العمل على وقف حوادث العدوان المتبادل بين المصريين والإنجليز، والذي ذكر فيه أن الجنرال أرسكين قائد القوات البريطانية في منطقة القنال قد أصدر أوامره باعتبار (بور سعيد والإسماعيلية والسويس) من المناطق المحرمة على الجنود البريطانيين.
وقد أتفق المسئولون المصريون والإنجليز في هذا التاريخ على جلاء الجنود البريطانيين عن المدن الثلاث وترك شئون الأمن فيها لرجال البوليس المصري فهدأت الحالة نوعا ما في الإسماعيلية. ولكن متى كان للإنجليز وعد؟ لقد حنثوا بوعدهم في نفس اليوم وبلغ بهم التجرد من الإنسانية أن انتهكوا حرمة الموتى وعبثوا بجثة ميت كانت منقولة من القاهرة إلى السويس وراحت قواتهم تجوب السويس بصورة استفزازية.
وفي يوم الاثنين 4 ديسمبر 1951 روعت السويس بحرب إجرامية بشعة شنها عليها الإنجليز السفاكون استشهد فيها عشرون من المواطنين الأبرياء وبلغ عدد جرحاها ثمانية
وستين جريحا، وقضت السويس يومها من الحادية عشرة صباحا إلى التاسعة مساء وكأنها ميدان حرب لا تسمع فيه إلا طلقات المدافع والبنادق وأزيز الطائرات!
وفي يوم الثلاثاء 4 ديسمبر أصبحت السويس المجاهدة وفي أرجائها صمت رهيب يتوج جلال حدادها على شهدائها الأبرار، بتشييع جنازات الشهداءَ في أربعة مواكب وطنية رائعة سارت فيها جميع طبقات الشعب ومختلف الهيئات وقد قدر عدد المشيعين بنحو 15 ألفا
ولكن الإنجليز ارتكبوا أشنع العدوان في هذا اليوم أيضا، فلم يكفهم ما أراقوا من دماء في اليوم السابع بل زادوا إثمهم إثما وعدوانهم وحشية وفظاعة: فقد خرج الأهلون يشيعون جنازة أحد الشهداء قبل نقلها إلى الزقازيق وكانت بعض الطائرات الاستكشافية البريطانية تحلق في السماء فأبلغت القيادة البريطانية الأمر على أنه زحف شعبي على المعسكرات فخرجت قوة من ثلاث دبابات وأربع مصفحات وبضع سيارات مسلحة أخرى وأخذ جنودها يطلقون النار على المشيعين والأهلين ورجال البوليس والدور القريبة. وسقط في هذه المجزرة 14 شهيدا وجرح ثلاثون. وقد ثبت أن الإنجليز يستخدمون رصاصا من طراز (الدمدم) الشديد الفتك
وفي يوم الأربعاء شيعت السويس شهداء المجزرة الثانية واشتركت جميع هيئات الشعب في الجنازة وكان يتقدمها محافظ المدينة.
وقد رفضت السلطات البريطانية الترخيص بنقل جثث الشهداء من غير أبناء السويس إلى بلادهم.
وبرغم هذا لم يكف المعتدون عن عدوانهم فأطلقوا في الجو أسرابا من الطائرات الاستكشافية والنفاثة ذات الأزيز المفزع وسيروا قافلة كبيرة من الدبابات والمدرعات واللوريات لمحاصرة المدينة.
وقد دفع جمود الحكومة المصرية إزاء هذه الحوادث المحزنة الطلاب إلى القيام بمظاهرات في القاهرة والإسكندرية والجيزة احتجاجا على هذا العدوان الغاشم. وقد قررت الوزارة تعطيل الدراسة بتلك المدارس. ونحن نحب أن يخلد الطلاب إلى الهدوء حتى تتمكن الحكومة من مواجهة الموقف ولكنا نقول لرجال الحكومة: تحركوا وإلا فسينفجر غضب
الشعب. إن المصريين لا يطيقون صبرا أن يروا دماء مواطنيهم تسفك دون أن يحركوا ساكنا.
ويعزينا بعض العزاء أن أبطالنا من المقيمين بمدن القنال والفدائيين قد أخذوا بثأر قتلانا فقتلوا من الأعداء 42 اثنين وأربعين قتيلا وجرحوا 67، وأن شهداءنا في الجنة وقتلاهم في النار.
أيها الإنجليز:
أعلموا أن مصر أقوى منكم وأن قواتكم مهما بلغت عددا ومهما جلبتم لها من عدة وعتاد لن تقهر مصر لأن مصر مؤمنة بحقها في الحياة الكريمة الحرة، ولن تخضع لقوتكم وجبروتكم ومهما بغيتم فمصر صامدة وهي منتصرة بإذن الله.
فظائع 1919:
في 8 مارس 1919 بدأت ثورة مصر باعتقال زعمائها ونفيهم خارجها فهبت مصر من أقصاها إلى أقصاها تطالب بحريتها واستقلالها وعودة زعمائها، وقامت المظاهرات في كل قرية ومدينة ثم خرب الشعب طرق المواصلات فقطع خطوط السكك الحديدية وأسلاك البرق والتليفون ومنذ البداية لجأ الإنجليز إلى القوة الغاشمة وإلى سفك دم الأبرياء المطالبين بحريتهم.
وفي 21 مارس 1919 عين المارشال اللنبي قائد عام الجيوش البريطانية في مصر إذ ذاك مندوبا ساميا فوق العادة ومنح السلطة العليا في جميع الأمور المدنية والعسكرية، وفي اتخاذ ما يراه من الإجراءات لإعادة النظام والأمن إلى البلاد مع تثبيت الحماية.
ولما وصل اللنبي إلى القاهرة جمع الأعيان والوزراء وأوضح لهم مهمته وهي تنحصر على حد قوله في وضع نهاية للاضطرابات القائمة وإزالة أسباب الشكوى وطالبهم بمساعدته على أداء مهمته.
وطبقا لهذه الخطة أذاع العلماء والوزراء والأعيان نداء إلى الأمة المصرية في 24 مارس دعوا فيه الشعب إلى التزام الهدوءَ والإخلاد إلى السكينة، ولكن المصريين لم يخدعهم ما قاله اللنبي ولم يؤثر فيهم النداء واستمروا في كفاحهم.
وحدث أن ألقى اللورد كرزون وزير خارجية بريطانيا إذ ذاك أجوبة عن أسئلة وجهت إليه في مجلس العموم بشأن الحالة في مصر فقال إن الحالة أقل خطورة من ذي قبل، وأطرى موظفي الحكومة المصرية ورجال البوليس والجيش لإخلادهم إلى السكينة وحسن سلوكهم. وأستنتج من سلوكهم أن صفوة المتعلمين والعقلاء في مصر ليسوا في صف الحركة الوطنية. وإزاء هذا التصريح أحرج الموظفون واضطروا وقد طعنوا في وطنيتهم إلى تقديم احتجاج على تصريحات كرزون وقرروا الإضراب عن عملهم ثلاثة أيام وقدموا عرائض الاحتجاج إلى السلطان وإلى معتمدي الدول الأجنبية ونفذوا قرارهم.
وقد ظلت الاضطرابات قائمة، وحاولت السلطة العسكرية إصلاح الخطوط الحديدية. ولما أصلح الخط الحديدي الرئيسي بين القاهرة والإسكندرية وقنال السويس حرم السفر إلا بترخيص من السلطة العسكرية.
وقد نزل الجنود البريطانيون في مختلف أنحاء القطر سواء لإصلاح الخطوط الحديدية، أو القضاء على الاضطرابات، أو للمحافظة على النظام، فارتكبوا فظائع تقشعر منها الأبدان وتنبو عنها النفوس.
العزيزية والبدر شين:
قريتان من قرى مديرية الجيزة كانتا تنعمان بالراحة والسكون. وفي الهزيع الأخير من ليل 25 مارس أو حوالي الساعة الرابعة من صباح ذلك اليوم انقض نحو مائتي جندي إنجليزي على القريتين وأحاطوا بهما وقصدت شرزمتان صغيرتان منهم منزلي كل من عمدتي القريتين شاهرين أسلحتهم وطلبوا من العمدتين تسليم ما لديهما من سلاح، فسلم أحدهما مسدسا كان عنده، وأما الثاني فلم يكن لديه سلاح. ومع هذا انقض العساكر داخل المنزلين واقتحموا غرف النساء غير مبالين بما في هذا العمل من خروج على الآداب والأخلاق، واضطر النساء إلى الاختفاء تحت الأسرة. ولم ينس القراصنة الاستيلاء على ما وجد من مال وحلي، بل إنهم زادوا فجذبوا النساء من شعورهن وانتزعوا حليهن. وبلغت بهم القسوة أن أحدهم مزق أذن سيدة وهو يسلب قرطها.
وبعد تفتيش داري العمدتين أنتقل الجنود إلى دور مشايخ البلدتين وقاموا بالتفتيش وبالسلب والنهب المعتادين، ثم أعلن الضباط بعد ذلك أنهم سيضرمون النار في البلدتين (وأنه
مسموح لكل امرئ أن يأخذ ما في داره من مال وحلي قبل مغادرته) وبعد قليل أشعلوا النار في القريتين وساعد على اشتعال النار ما كان على سطوح المنازل من قش وحطب، وخرج الأهالي المروعون من قريتهم الآمنة لتتلقاهم قوات القراصنة (الأشراف) ولتسلبهم ما حملوا من مال وحلي. ولم يأخذهم حياء في تفتيش ملابس النساء وأجسامهن!
وكان نصيب من حاول إخماد الحريق أن يصاب برصاصة ترديه قتيلا، وقد احترقت المواشي حية في مرابطها.
وعند الصباح أنصرف الجند عن القريتين وقد أصبحتا قاعا صفصفا، وقبض على العمدتين وسيقا إلى الحوامدية؛ وكانت التهمة التي وجهت إلى العمدتين وقريتهما الاعتداء على أحد الضباط البريطانيين وإتلاف محطتي الحوامدية والبدرشين. ورغم براءة العمدتين والقريتين فقد عوقبت القريتان بتخريبهما وحوكم العمدتان.
وقد أحرق الجنود في نفس اليوم وبنفس الطريقة قرية الشبانات مركز الزقازيق بعد نهبها.
ونزلة الشوبك:
في 30 مارس 1919 أرسل مركز العياط إشارة إلى عمدة نزلة الشوبك بإحضار العمال اللازمين لإصلاح الخط الحديدي. وفي الساعة الرابعة بعد الظهر وصل قطار حربي ووقف قرب القرية المذكورة ونزل منه الجنود وأرادوا دخول القرية فنصحهم العمدة بالعودة وأخبرهم أنه جلب العمال اللازمين ولكنهم لم يستمعوا لنصحه ودخلوا القرية وأخذوا ينهبون ما يصل إلى أيديهم من مال وذهب بل وطير ودواجن ولم يتعرض لهم أحد.
ورأوا إحدى نساء القرية فأسرعوا إليها وراودوها عن نفسها، فاستغاثت بزوجها الذي أسرع إلى نجدتها، ونزلت هراوته على رأس الجندي الذي كان ممسكا بزوجته فصرعه؛ ولكن رصاصة جندي آخر أردته قتيلا. وقامت معركة بين قوم عزل يدافعون عن أعراضهم وبين قوم نسوا كافة الفضائل وتجردوا من صفات الإنسانية. أنطلق الجند يهاجمون القرية ويقتلون من يصادفهم بلا تمييز وينهبون ما يجدون ثم يشعلون النار في المنازل.
وكان القطار الحربي بعيدا عن القرية فرجع القهقري حتى حاراها وصب عليها وابلا من رصاص مدافعه الرشاشة، واستمر إطلاق النيران طول الليل، واختبأ العمدة في داره ولكن
الإنجليز أخرجوه في صباح اليوم التالي ونهبوا داره وأحرقوها وساقوه إلى السجن.
وقد أرتكب الإنجليز فظاعة وإنما لا يتصوره عقل، فعلاوة على ما سبق قبضوا على أحد مشايخ القرية ومعه أربعة من الأهالي ودفنوهم حتى أنصاف أجسامهم، ثم شوهوا وجوههم بوخزات الحراب، وبعد ذلك أطلقوا عليهم الرصاص فأراحوهم من هذا العذاب.
أرأيت وحشية وفظاعة أكثر من هذا؟ إن أحط أنواع البشر لا يمكن أن يصل في وحشيته إلى هذا الدرك، وإن مجازر الإسماعيلية وبور سعيد والسويس لسلسلة متممة لحوادث العزيزية والبدرشين ونزلة الشوبك؛ ولكن مهلا وصبرا فإن نهاية هؤلاء الطغاة قريبة إن شاء الله.
أبو الفتوح عطية
2 - المستقبل وأسرار الوجود
بين السببية والمستقبلية
للأديب عبد الجليل السيد حسن
عرض لمشكاة السببية:
حينما نلقي بقطعة من القطن في النار فلا نشك في احتراقها، وحينما يأكل الجوعان فلا نشك في شبعه، وحينما تضرب الطفل فلا شك أنه سيبكي. وحينما ترى الغادة الهيفاء والوردة الناضرة فلا شك في إعجابك بجمالها إذا كنت ممن يقدر الجمال في المرأة والزهرة.
ولتسأل معنا الآن: ما الذي أحرق القطن، وأشبع الجائع وأبكى الطفل، وأثار فيك مشاعر الجمال؟ ولا أشك في أنك ستجيب على الفور: إن السبب في ذلك هو النار والأكل والضرب والجمال الكامن في المرأة والوردة. ولكن يا صاحبي لا تكن سريع الحكم، وانظر في الأمر وتدبره، هل النار حقيقة هي سبب الإحراق؟
ما هذا؟ أتريد أن تخدعني عما أحس وأرى وتقول لي: إن علة الإحراق شيء غير النار؟
- لتعلم أنني لست أريد خداعا أو تغريرا، ولكني أريدك أن تكون دقيقا أمينا فيما تشاهد وتدرك، وأن تأخذ الأمور كما ترد إليك لا تزيد فيها ولا تنقص. فما العلة اللازمة والسبب القاهر الذي يجعلك تسند الإحراق إلى النار؟ أليس هو أنك شاهدت احتراق قطعة القطن عقب إلقائها في النار، ولم تر عينك شيئا أكثر من ذلك؟ إذن ما الذي دفع بك إلى أن تجزم بأن النار هي علة الإحراق؟ لاشيء غير مشاهدة حدوث هذا مع ذاك أو مقارنا له. فكأنه ليس هناك شيء يمكن أن يعد سببا لشيء أو علة له؛ بل هناك تعاقب أو اقتران بين الحوادث، ولا شيء غير هذا؛ فقطع الرقبة ليس سببا في القتل، وكسر الرجل ليس سببا في الألم، ولقاء الحبيب ليس سببا في النشوة التي تصاحبه، وإضاءة المصباح ليست سببا في الضوء الذي يعقبه، وإعطاء المريض دواء ليس هو السبب في شفائه. . وغير ذلك من الأفعال، بل كل ذلك ما هو إلا حوادث تعقب حوادث وأشياء تقترن بأشياء؛ أما أن نقول إن هذا سبب ذلك، فهذا مالا يقره العقل.
وهذا هو الوضع الصحيح البسيط لمشكلة السببية بين المثبتين الذين يقولون أن لا شيء يحدث بدون سبب؛ وبين المنكرين الذين يقولون أن ليس هناك شيء يمكن أن يعد سببا على سبيل التعيين
ونستطيع أن نخرج من كل ما تقدم بشيء واحد؛ وهو أن الذين أنكروا السببية أنكروها لشيء هو وقوفهم عند ما يشاهدون ويحسون فقط. وأما الذين أثبتوا القول بالسببية فهو وقوفهم عندما يحسون ويشاهدون أيضا. ولكن الفرق بين المنكرين والمثبتين: أن المنكرين قالوا (إن المشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به)، وأما المثبتون فقالوا (إن العادة اقتضت أن يتبع هذا ذاك، فلا بد أن يكون هذا هو علة ذاك، وإلا فما الداعي لحدوث هذا التعاقب؟) وقد آمن المثبتون بهذه العادة، وبنوا حياتهم وقوانينهم عليها، وقالوا إن لكل ظاهرة من الظواهر علة أحدثتها، ثم خصصوا فقالوا: إن هذه الظاهرة (ب) مثلا، علّنها الظاهرة (أ) ودليلهم على ذلك العادة التي أرتهم أن (أ) تتبعها (ب) دائما. وبينما يؤمن المثبتون بهذا، يقول المنكرون: أنه لا علة للجزم بأن (أ) لابد أن يتبعها (ب) بل قد يتبعها (ج) أو (د) من الظواهر؛ فما العلم سوى قوانين، وهذه القوانين لم تستخلص إلا بنتيجة للتجارب والشواهد التي فرضنا أن لها عللا معينة؛ وما دام ليس هناك من سند للقول بالعلية والسببية، فإذن من المحال أن يكون هناك علم، أو لو أردنا الدقة لقلنا إن صحة علمنا موقوفة على صحة ما نسميه عللا ومعلومات، وبذلك نتفادى القول باستحالة العلم إلى القول باحتمال صحته، ولا ضير بعد ذلك، فالعلم ما هو إلا تسجيل للواقع المشاهد
ولنترك الآن عرض السببية عرضا تاريخيا في الشرق عند كل من الغزالي وأبن رشد، وفي الغرب عند كل من (هيوم وكانت). ولنترك أيضاً المقارنة بين هؤلاء جميعا إلى فرصة أخرى ونخلص إلى السببية والمستقبل
السببية والمذهب المستقبلي:
إذا شاهدنا ظاهرتين متلازمتين في الماضي، مثل الإحراق ولقاء النار، أو طلوع الشمس ووجود النور، فهل يستمر هذا التلازم أيضاً في المستقبل أم لا؟ وإذا كان هذا التلازم والارتباط بين الظواهر ثابتا مستمرا، فإنه يمكننا بذلك أن نتنبأ بالأشياء التي لم تحدث بالفعل، وسوف تحدث في المستقبل. وحياتك لا شك مبنية على هذا التنبؤ، فأنت واثق من
وجود النور غدا لأنك على يقين من طلوع الشمس فيه حاملة النور إلى الكون. ولكن. . هل خطر بذهنك أن الشمس قد تطلع غدا ولا تنير أو قد لا تطلع البتة؟ وأنت تنظم حياتك على أن هذه الظواهر المتلازمة في الماضي، لابد وأن تستمر في المستقبل، فأنت على يقين أنك لو ألقيت بهذه النقود الورقية إلى النار لاحترقت، أو لو وضعت يدك في النار لاحترقت، فأنت لا ترمي بنقودك إلى النار، ولا تضع يدك فيها. وكلنا يشرب الدواء طمعا في الشفاء، ونتجنب الميكروب خوف المرض. والعالم الطبيعي أو الكيميائي حينما يعيد أجراء تجربة فهو متأكد أنه سيحصل على نفس الظواهر التي حدثت في الماضي.
فنحن في حياتنا العملية نتغاضى عن إنكار السببية، ونتناسى أن الأمر قد يكون مجرد ارتباط فقط لا عليه فيه. ونحن نعلم تمام العلم أن معرفتنا بالأسباب تجعلنا قادرين على أن نتنبأ بما سوف يحدث في المستقبل، وبمقدار إحاطة عملنا بالأسباب يكون صحة تنبأنا بالمستقبل. ولكن ذلك لا يغرينا بتكوين رأي ومذهب في الحياة على تجاهل أن الأسباب قد تكون مجرد تلازم ومقارنة لا غير، وما نعده سبباً ما هو إلا لحكم العادة والمشاهدة فقط؛ فقد يثبت ثبوتاً قطعياً أنه ليس هناك من شيء يمكن أن يعد سبباً، وخصوصاً بعد نظرية الحكم (الكوانتم) والميكانيكا الموجبة.
بيد أن كل ذلك لا يمنعنا من أن ننظر في الأمر نظرة مستقبلية نبني عليها مذهبنا في الحياة ورأيا في الوجود.
كلما حدث شيء في الوجود، أو تغير أمر في الظواهر الطبيعية، في بد أن هنالك قوة أحدثت هذا التغير، ونقلت من ثم شيئاً كان موجوداً بالقوة إلى الوجود بالفعل، أو حققت في الواقع شيئاً كان ممكن التحقيق، وليس هناك كائن من كان يستطيع أن ينكر هذه القوة وهذا التغير.
ولن تجد أثنين يختلفان في أن حدوث هذا التغير قد حدث بقوة أو بسبب من الأسباب. ولكن ستجد من يختلف في: هل هاتان الظاهرتان اللتان يتبع بعضهما الآخر. . هل الأولى سبب للثانية، أم أن الأمر مجرد عادة ومشاهدة.؟ وبعبارة أخرى ستجد من يختلف في أن الاطراد والتلازم والمقارنة في الوقوع، هو علة التغير والحدوث.
وهذا الاختلاف الذي هو جوهر مشكلة السببية لا يعنينا أمره كثيراً، وقد كان يعنينا أمره لو
كنا مهتمين بمعرفة ما يحدث في المستقبل بناء على خبرتنا وتجاربنا في الماضي. ولكن الأمر الذي يهمنا أكثر، من وجهة النظر المستقبلية؛ هو إثباتنا الحدوث والتغير، وشعورنا بوجودنا؛ بناء على هذا الانتقال المستقبلي، ونظرتنا إلى الوجود هذه النظرة المستقبلية، لأن كل ما نريد أن نصل إليه هو فهمنا لهذه الحياة كما هي، وهذا الوجود على حقيقته، ثم الإفادة من هذا الفهم، ورسم خطة نسير عليها في هذه الحياة.
فنحن حين نبني شعورنا بالوجود على النظرة المستقبلية، وعلى الانتقال المستقبلي الذي يجعلنا نحس بوجودنا (نذكر مثال الرجل الموجود في الشمس الطالعة والعالم الساكن في المقال السابق)؛ وحين ثبت أن وراء الحدوث والتغير قوة سببية حققت الانتقال المستقبلي. أي الانتقال من القوة إلى الفعل ومن الإمكان إلى الواقع؛ إنما نرسم لأنفسنا خطة عملية سليمة، ونهجنا نراه قويما، ومذهبنا مستقبليا في هذه الحياة وهذا الوجود. فنحن نقدس العمل لأنه وسيلتنا في الانتقال المستقبلي، وندعو إلى القوة لأنها سبيلنا إلى جعل الممكن واقعا، ونرى أنه بمقدار سرعة انتقالنا المستقبلي يكون حظنا من الوجود، وشعورنا به، وليست العبرة عندنا بطول الوقت الذي يعمره الإنسان؛ بل بمقدار انتقاله المستقبلي، وتحقيقه لإمكانياته، أي بمقدار ما بذل من مجهود، واستنفذ من قوة، وما استطاع أن يحصل عليه من جراب المستقبل.
وإن الشعور بالوجود، والإحساس بالحياة، ليتفاوت لدى الإنسان بالنسبة إلى الفعل والعمل الذي يؤديه. والقوة التي يبذلها؛ أو يتفاوت بالنسبة إلى ما يناله من الانتقال المستقبلي، والتغير الذي يعانيه، فألف سنة مثلا قد لا تساوي لحظة أو ساعة، ألف سنة خاملة ساكنة ميتة نائمة، لا تساوي ساعة حية نشيطة فعالة، يبذلها الكائن في استنفاذ إمكانيات وجوده.
وارجوا أن تطيل التأمل وتنعم النظر، وتقف طويلا معي عند أهل الكهف الذين أمضوا كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، كانت عندهم بمثابة يوم أو بعض يوم! ولتنعم النظر أيضاً وتطل التأمل في هذه الثلاثمائة عام نفسها التي عاشتها الأجيال المتتالية من الاحياء، ولننظر كيف تغير الوجود، وتبدلت الأشياء بالنسبة أليها؟ وكيف عاش هؤلاء الناس واستنفدوا بما أتوا من عمل وبذلوا من قوة إمكانيات وجودهم.
فوجدونا لا يتوقف خصبه وغناه على طول مدته، كما لا يتوقف فقره وإمحاله على قصره
وسرعته؛ بل على قدر حظنا من الانتقال المستقبلي وشعورنا بالوجود.
السببية وغريزة الحياة:
لو فرض إننا عرفنا الأسباب كلها بكل دقة وكل تحديد، وكنا على دراية تامة بها، على رغم تشابكها وتعقدها وعظم مقدارها واستحالة عقل واحد أن يستوعبها، نقول لو إننا كنا على علم تام بهذه الأسباب على النحو الذي أسلفنا، تلك الأسباب التي يحدث نتيجة لها كل ما في هذا الكون. . فماذا يكون حالنا؟ وماذا يكون موقفنا من هذا الوجود؟
نريد أن نرى أولا نتيجة عملنا الكامل الدقيق الثابت بالأسباب ومسبباتها، وبالقوانين والسنن التي يسير عليها هذا الكون. . حينئذ سنرى المستقبل والحاضر والماضي أمامنا ونعلم ما حدث وما يحدث في كل من هذه الأجزاء، لأن إحاطتنا الكاملة بقوانين الوجود سترينا: كيف يسير الوجود فنرى كيف سار. وكيف يسير، وكيف سيسير وسترينا الوجود واحدا، فنعلم الغيب ونعرف الماضي السحيق، ويتحقق ما تمناه (لابلاس) الفلكي الفرنسي المشهور من معرفة قوانين الطبيعة، حتى يستطيع العقل الإنساني أن يرى الماضي والحاضر والمستقبل. ونستطيع أن نشبه الأمر بمرآة، إذا نظر فيها لإنسان رأى ما مضى وما هو آت، أو نشبهه بشريط سينمائي يديره الإنسان فيمر عليه ما نسج من الوجود (الماضي) وما ينسج منه (الحاضر) وما ينتظر النسج (المستقبل).
ونريد أن نرى ثانيا: حالنا وموقفنا من هذا الوجود، بعد أن يكون الوجود مجرد مرآة أو شريط.
سيكون نتيجة ذلك أمراً واحدا، وهو انعدام الحياة والوجود!
فأن الإنسان إذا تيقن مما سيحدث ورآه، أو إذا عرف ما سينتقل إليه معرفة كالرؤية - مع ملاحظة أن انتقاله المفروض حينئذ لا يشبه على أي نحو من الإنحاء الانتقال المستقبلي الذي هو علة الحياة - فلماذا سيعمل إذن؟ ولماذا يجتهد لتحقيق شيء قد رآه؟ أن الوجود سيفقد لذته لديه، وسيفقد بالتالي ذلك السر سر الحياة، وسر الوجود، وهو الانتقال المستقبلي الذي يشعر الإنسان بالحياة وبالوجود، والذي يشمل الأمل والعزاء والرغبة والرجاء، والذي يدفعه إلى أن يعمل ليحقق إمكانياته.
ولكن. . قد يعمل الإنسان لمجرد لذة تحقيق الفعل. . أفلا يعمل ذلك الإنسان الذي يرى
الوجود كشريط أو مرآة، لمجرد لذة التحقيق؟
نحب أن نقول أن ذلك الإنسان لن يعمل لمجرد لذة التحقيق، كالذي يشاهد من إنسان لا يرى الوجود كشريط سينمائي أو مرآة حين يعمل عملا وجد فيه لذة ما، فهو يعود ليحقق نفس العمل الذي يعرف نتيجته مقدما، ثم يعود ليحققه. . ومع ذلك لا يمله ولا يتركه. لن يكون أمر هذا الإنسان الذي يرى الوجود، كأمر ذلك الآخر الذي لم يعرف من الوجود إلا جزئيه، لأن ذلك الأخير يتمتع بغريزة الحياة؛ أما الأول فبرؤيته الوجود في مرآة أو شريط، بناء على معرفته بالأسباب والمسببات سيفقد (غريزة الحياة) وان لم يفقد الطاقة على العمل. فوجودنا يشمل أمرين: الأول (غريزة الحياة) - وهي هذا الدافع الذي يدفعنا إلى الحياة الناتج عن الانتقال المستقبلي، لأن الانتقال المستقبلي يولد في الإنسان أشياء منها التوتر والقلق، والرغبة في تحقيق الفعل، والغموض، وعدم التعين الذي يدفع بالإنسان إلى الانتقال المستقبلي ليرى سره، والتعزي عما مضى بما هو آت، والتطلع الدائم إلى ما يضمه المستقبل بين جنبيه، وحالة عدم السكون الناشئة من الرغبة في تحقيق الفعل؛ وكل هذه الأمور تكون ما نسميه (غريزة الحياة) أو الدفعة التي تدفع الناس إلى الحياة. وأما الأمر الثاني: فهو (الطاقة) التي يعمل بها الإنسان ليحقق الفعل؛ ولا يكون ثمة طاقة، إذا لم يكن هناك (غريزة الحياة)، ولكن قد توجد غريزة الحياة دون طاقة، ولكنها تكون حياة ساكنة لا تحقق إمكانيات، حياة عدمها خير من وجودها. وقد رأينا أن معرفتنا التامة للأسباب ستفقدنا (غريزة الحياة) الناشئة عن هذا اللا تحدد في الانتقال المستقبلي، ففناء وجودنا، وانعدام حياتنا. . سيكون حين يكون وجودنا مجرد مرآة أو شريط.
للكلام بقية
عبد الجليل السيد حسن
تعقيب:
الأدب وطلقات المدافع
للأستاذ علي متولي صلاح
ربما كان من أحب التهم إلى نفس الأديب تهمة (شهوة الكلام) الذي تفضل الصديق الكريم الأستاذ محمد عبد الغني حسن فرماني بها! فإن امتلاء النفس بشهوة الكلام وجيشان المعاني في صدر الإنسان واحتدام رغبته في أن يكتب ويعبر. . . هي الدلالة الصادقة على أنه الأديب حقا، فما بالك إذا كان ذلك منه للرغبة الخالصة في الدفاع عن الكتابة والأدب؟ وما بالك إذا كانت شهوته هذه لم تواته في المواسم والأعياد وحفلات الوداع والاستقبال وما إلى ذلك! وإنما واتته لدفع تهمة خطيرة عن الأدب وقيمته وأثره في حياتنا الراهنة؟ وعلم الله ما أردت تجريح الصديق الكريم ولا الزراية به، فله عندي حرمة الصديق القديم. ولكن ها لني أن يكيل الأستاذ التهم للأدب كأنه له العدو المبين! ها لني أن يرى الأدب عملا (غير جدي) كما يقول وها لني أن يحمد الأستاذ في أمته (الأفعال لا الأقوال) كما يقول أيضاً، وها لني أن يكون رأيه في الأقوال هكذا:
هذه الأقوال لا تحمى شهيدا
…
من ضحايا الحق أو تشفي أواما
أطلقوا المدفع. . لا حنجرة
…
وارجعوا للسيف في الحق احتكاما
وها لني أن ينادي - وهو الكاتب - في الناس بهذه الأقوال:
لا تردوا عنكموا غدر الأعادي
…
بالعبارات نثارا ونظاما
الكلام اليوم لا يحمى حقوقا
…
والبيان اليوم لا يرعى ذماما
وكانت الطامة الكبرى عندي أن يقول (. . فنحن اليوم إلى سلاح صوال، احوج منا إلى لسان قوال)!
ها لني ذلك وخشيت أن يتأثر به بعض ذوي العقول الساذجة من الناس، فملكتني (شهوة الكلام) لأصحح هذا الوهم ولأدفع هذا الظن، ولأبين للناس أن الأدب هو الذي يطلق المدافع ويسوق الجيوش ويحرك الجحافل، وان الأدب هو الذي يستنهض الهمم ويشحذ العزائم، وان الأدب هو الذي يحمي الحقوق ويرى الذمام ويرد غدر الأعادي. . أردت هذا فانبرى الصديق الأستاذ محمد عبد الغني حسن يعقب على كلامي بسلسلة متصلة من التهكم
اللطيف لا تمس هذا الموضوع من قريب أو من بعيد!
ولكنني - برغم هذا - حمدت للأستاذ الصديق رجوعه إلى الحق وأعترافه بأنه (لا ينكر خطر (الكلمة) وفعلها في النفوس وأثرها في العواطف) ولكنني رأيت الأستاذ يستشهد على خطر هذه (الكلمة) فيقول (أليست الكلمة هي من روح الله التي تجلت للجبل أمام موسى الكليم فجعلته دكا وخر موسى صعقا؟ أليست الكلمة هي التي أوحت إلى النحل أن تسلك سبل ربها ذللا فتأكل من كل الثمرات ثم تلفظها شهدا شهيا فيه شفاء للناس؟) فلم أستطع - والحق يقال - أن أتبين علاقة هذين الأمرين بما نحن بصدده من بيان خطر الأدب والكتابة وأثرهما في الحياة! أما الأولى فهي أن موسى عليه السلام طلب أن يرى الله وقال (رب أرني أنظر إليك قال أن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن أستقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا) فلا أدب هنا ولا أدباء ولكن الله تعالى أراد أن يعلم موسى أنه طلب أمرا عظيما حين طلب رؤيته فدك الجبل به وبمن طلب الرؤية لهم معه وخر موسى صعقا (فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين). وأما الثانية فهي هداية من الله للنحل والهام لها بقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، أن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) فلا أدب هنا ولا أدباء أيضا، ولكنه وحي والهام من الله وآية على قدرته، فما إقحام هذين الأمرين في موضوع تأثير الأدب في الحياة ومدى فعله فيها؟
وأستشهد الأستاذ على تفاهة قدر القلم بالبيت الشهير الذي يحفظه التلاميذ جميعا وهو:
السيف أصدق أنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
ولا أدري كيف غاب عن الأستاذ الصديق أن أبا تمام لم يكن في هذا البيت يكتب موضوعا إنشائيا جميلا لطلاب المدارس (على حد تعبير الأستاذ الفاضل) يوازن فيه بين السيف والكتاب، ولكنه كان يفند أقوال المنجمين الذين أشاروا على الخليفة (المتوكل) إلا يخرج للحرب في يوم من الأيام لتطهيرهم منه وتوقعهم له الهزيمة والفشل في ذلك اليوم، فلم يستجب الخليفة لتنجيمهم ومضى إلى الحرب فكان الفائز المنتصر! فابتدره أبو تمام بقوله:(السيف أصدق أنباء من الكتب) أي من المنجمين! ويعترف صديقنا بان صديقته لم تكن
(كفرا بالأدب ولكنها في الحق كفر بالخطب وكفر بالمقالات والكتب) كما يقول، ولا أدري أيريد الأستاذ بذلك أن يقول أن الخطب والمقالات والكتب ليست من الأدب في شيء؟ أن كان الأمر كذلك فتلك هي الآفة الكبرى التي أجل أدب الأستاذ وفهمه عنها! فإن الخطب والمقالات والكتب هي أشياء من صميم الأدب وبخاصة في مقام الاستحثاث والاستنهاض الذي نحن بصدده!
ولا أدري يا صديقي كيف وأنت تزعم قراءة عصور الأدب الفرنسي والإنجليزي جميعها إذ تقول (لقد قرأت من زمان طويل ما قاله (هازلت) فنازلا و (سارتر) فصاعدا. . ولعلك خبير بتسلسل هذه العصور في فرنسا وإنجلترا) لا ادري يا صديقي أي شيء يكون (صاعدا) بعد سارتر؟ والذي اعلمه علم يقين أن ليس بعده شيء! وانه حي يرزق! وانه لا يزيد عمره على عمرك المبارك إلا قليلا، وان مذهبه - واعني به الوجودية - هو آخر المذاهب الأدبية التي اعتورت الأدب من عصوره اليونانية القديمة إلى يومنا هذا! وهو مذهب تتفتح بوا كيره ولم يعم انتشاره بعد!
يا أخي: أن الأدب - رضيت أو لم ترض - هو الحركة الأولى لكل شيء في الحياة. وكل ثروة حربية إنما سبقتها ثورة أدبية مهدت لها وأدت اليها، والكلام في هذا يطول والشواهد عليه لا تحصى، فأما أن تقول كلاما في الموضوع وأما أن تتقبل تحيتي وسلامي!
علي متولي صلاح
رسالة الشعر
غضبة مصر
للأستاذ أنور العطار
(. . . أن غضب الشعب كغضب الطبيعة، أن هاج لا يقدع،
وإذا وقع لا يدفع):
(الزيات)
- الرسالة العدد 962 -
حمى العرب في مصر من روعه؟
…
ومن عاث فيه ومن زعزعه
تغشى الشجون نهاراته
…
وتسهد ليلاته المفزعة
تضرج آفاقه بالدماء
…
وبالهول والنكبة المفظعة
وبالقلق المر يغشى الحمى
…
ويدمعه حسرة موجعة
ويبتعث الفتية القاحمين
…
أولى البأس والغبطة المشرعة
تنادي الكرام على خطبه
…
ولبوه بالمهج الطيعه
ورووا أباطحه بالدماء
…
وندوا بمخضو به أربعه
وكانوا الأضاحي يوم الفداء
…
فكانوا العطاش على مشرعه
تهاووا على الموت في لهفة
…
فمر بهم سنة مسرعه
فذاقوه أعذب ما يشتهي
…
فيالك من ميتة مطمعه
فياطيفهم أنت ملء الضلوع
…
عزيز على القلب أن ينزعه
يعيش بذكراهم دائبا
…
فتسهر ذكراهم مضجعه
وتغمره بالأسى والحنين
…
فان شمته شمته أدمعه
كأنهم بسمات الربيع
…
تجود بها روضة مونعة
كأنهم نفحات الخلود
…
فلله عطرك ما أضوعه
حمى العرب في مصر من روعه
…
ومن عاث فيه ومن زعزعه
ومن أنت يا خزي هذا الأنام
…
ومن أنت يا ناشد مصرعه
ومن أنت يا بدعة الظالمين
…
أما آن للحق أن يقمعه
أتنحوا على الروض نظرا جناه
…
تقصف في حنق أفرعه
وتطوي مباهج سفر الوجود
…
وما ضم من صور ممتعه
وتقذف بالرعب في الآمنين
…
وتلتهم الطفل والمرضعه
تزلزل بالناس سكناهم
…
كان ديارهم بلقعه
وتأتي على بلد صابر
…
عجيب لكرك ما أفظعه
بوجه تلفع بالموبقات
…
تعف الخساسة أن تصفعه
وقلب تخلع من رعبه
…
تشبث بالكهف والصومعه
تسلح بالغدر يوم الصدام
…
فكان على الغدر أن يصرعه
فما ضره لو أماط اللثام
…
وخلى لأربابه برقعه
وعقل من الطيش مستنبط
…
قضى دهره كله إمعه
إذا أزمع الناس يوم الزماع
…
تلجلج مستأنيا مزمعه
وأن نهضوا للعلى والرشاد
…
مشى للخنا سالكا مهيعه
ولو كان أمعن في عقله
…
لكان من الخير أن برقعه
أضاع الرشاد غداة الهياج
…
ولا يعرف المرشد من ضيعه
فيالك مدعيا باغيا
…
ولله بغيك ما أشنعه
ويالك من مورد آسن
…
يمج ضروب الأذى والضعه
بنى النيل هبوا بيوم الفخار
…
فلا خير في العيشة المضرعه
بناء من الظلم جدرانه
…
فلن نرجع الدهر أو نصدعه
ولا تهنوا في مجال الكفاح
…
ولا ترهبوا جاحم المعمعه
ألستم بنى العربي الأبي
…
ومن عاش للمعتفي مفزعه
ومن مر بالأرض مثل الغمام
…
وطوقها رحمة ممرعه
إذا هجته هجت ليث الشرى
…
فهاجت على أثره مسبعه
وأن رمت تقبس من هديه
…
أراك السنا سابرا منبعه
إذا كتب القوم تاريخهم
…
فتاريخنا الخير والمنفعة
وتاريخنا حافل بالعلاء
…
وتاريخهم ملؤه الجمجعة
سأنشر ما عشت أمجادنا
…
وابعث ماضينا اسطعه
بنينا على الحمد هذا الوجود
…
وصغناه أنشودة مبدعه
فلا بد للحق أن يستفيض
…
ولا بد للبطل أن ندفعه
هو الرزء يجمع أشتاتنا
…
فاعلوا بحبكم مجمعه
تساقي الإخلاء أمواهه
…
وطافوا بأكوابه المترعة
تلاقوا كما تتلاقى الدموع
…
وتشتبك الدوحة المفرعه
وصانوا العلى والإخاء القديم
…
وصانوا التراث ومستودعه
ومن عاق هذا الهوى والوئام
…
فأنا عليه ولسنا معه
ومن يزرع الربح في أرضنا
…
فلا بد أن يحصد الزوبعة
دمشق
أنور العطار
الضيف الخالد
للأستاذ محمود عماد
ما أنا معك، لا ولا أنت مني
…
أيها النازل الحمى فاغمض عني
أن تكن ضيفنا فسبعون عاما
…
يلعن الضيف بعدها أي لعن!
او تكن جئتنا لتحمي فردا
…
فهو والله مات من نصف قرن
وهو والله لم يحط عرشه الخو
…
ف لدن جئته تجود بأمن
هو عرش في كل عهد محوط
…
من أرضنا شعبه بأمنع حصن
ولنهبها مروءة لك غاضت
…
فلقد جاوزت حدود التمني!
وهي منا لما تفز بشكور
…
فلتفز منك يا جواد بضن
هي صنف من المروءات لا يل
…
قي لدى البذل غير حقد وضغن
هي صنف من المروءات يسدي
…
بأكف من كثرة السلب حجن
ووجوه صفيقة الجلد لو شد
…
ت نعالا لما اعتراها تثني!
يا ذئابا في صورة الناس تبدو
…
فن تمثيلكم لهم أي فن؟
قد وصلتم بمخلب كل ظفر
…
ويناب وصلتمو كل سن
أي شر خشيتموه علينا
…
ومننتم بدفعه كل من؟
أي خصم أقمتمو لتصدو
…
هـ بضرب عن أرضنا وبطعن؟
أنتم الشر والخصوم جميعا
…
فدعونا نفز بأمن ويمن
إن نخالفكم الغداة فمن ذا
…
نتقيه من بين انس وجن؟
أين ما قد اذيع في مجلس إلا
…
من، أو الخوف، من أغاني المغنى؟
أين ما قد زعمتمو من حقوق
…
قد سننتم قانونها خير سن؟
أين حق الإنسان أو أين حق ال
…
شعب في حطم كل قيد وسجن؟
وهو إنساننا الذي صنع الله
…
وترعونه بحق التبني؟
أم تراه الذي صنعتم نحاسا
…
لتقودوه دون عقل وذهن؟
يا بني النيل، من ثحدر من قح
…
طان في أصله ومن فرعون
أنني في عروقكم سامع صو
…
تين قد دويا بوحي دمين
إن هلموا، فاليوم - أو مستحيل -
…
يرجع النيل عزة الضفتين
لا تخافوا جنديهم فهو لا جن
…
دي، بل أعطى أسمه حسن ظن!
انه مشجب لحمل سلاح
…
فانزعوه يكن لكم شبه قن
اضربوه بسيفه أن تفضل
…
تم، وإلا في ضربه النعل تغني
لم يكن راحما، فحرمت الرح
…
مة منكم عليه، دينا بدين
محمود عماد
نسف قرية
للأستاذ عبد اللطيف النشار
ديار الآمنين نسفن نسفا
…
فبات على الثرى منا الألوف
وما اقترفوا ولا هموا بذنب
…
ولكن هكذا شاء الحليف
ليظهر بطشه ويخيف شعبا
…
يرى أن المنية لا تخيف
ألا يا أمة هرعت وشاخت
…
ثقيل عداوة وأذى طفيف
ستبلعكم مقابركم لدينا
…
وتغنينا عن الدور الكهوف
سلاحكموا - وان غدا قريب -
…
بأيدينا فوز نكمو خفيف
وفي أجناد كم ما ليس يخفى
…
على أحد وان كره العفيف
يبيع سلاحه منكم ظريف
…
بعيد عن مقاصدكم عزوف
لطيف الدل ذو صوت رخيم
…
وتجنى من محاسنه القطوف
وبملكه الحياء ويتقينا
…
بكفيه إذا سقط النصيف
بكاس يشتري منه سلاح
…
ويخلب لبه القول اللطيف
عساكركم دمى صيغت بفن
…
وأولى أن تضيق بها الرفوف
وإن نسفوا منازلنا فقدما
…
تجنى عند فرصته الضعيف
لقد فقدت كرامتها جيوش
…
يبيع سلاحها منهم ألوف
وقد كرهوا الحروب فإن فيهم
…
شيوعيين دينهموا الرغيف
وقد فقدوا رجولتهم فمنهم
…
غريق في مذلته مؤوف
جنودكمو الآلي دللتموهم
…
رخيم أو بهير أو نزيف
تخذتم أكثر الدنيا عبيدا
…
فحارب دونكم جيش عنيف
وحررهم وغلبهم عليكم
…
زمان رأيه فيكم حصيف
تولى المترفون الأمر فيكم
…
دروعهمو الغلائل والشفوف
أرى متنعمين وهت قواهم
…
فظل العيش عندهموا وريف
وحق عليكموا ما حق قدما
…
على من سادهم أبواء جوف
نسفتم دورنا فلتذكروها
…
فهلا قلعة من عهد خوفو
بناء يبتنيه أهل مصر
…
يحطمه بمدفعه الحليف
فيالك ضحكة دوى صداها
…
يجاوبها من الجن الزفيف
ألا إلى الآلي شردتموهم
…
سيصلح أمرهم رب رؤوف
ستسمى في أكفهمو حراب
…
وتصبح بين أيديهم سيوف
فيا للثأر يا أبن منا ورمسو
…
ولا يزعجك جمعهمو الكثيف
وما يكتال بالثارات آب
…
دم بدم ونحسو أو نسوف
عبد اللطيف النشار
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
محنة الأخلاق في الجامعة
هذه الكلمات التي انقلها هنا، كما وردت بنصها في رسالة من أحد (تلاميذ) الدكتور عبد الرحمن بدوي، أود أن أقدمها مرة أخرى إلى معالي وزير المعارف، والى مدير جامعة إبراهيم، والى عميد كلية الآداب بتلك الجامعة. . أود أن أقدمها إلى هؤلاء الذين بيدهم الأمر، ولهم سلطة الاشراف، وعليهم في النهاية تقع المسؤولية!
قال التلميذ (الفاضل) وهو من ناشئة الجيل الذي اشرف على (تربيته) الأستاذ (الفاضل): (قرأت تعقيبكم على فقرات من كتاب (الحور والنور) للدكتور عبد الرحمن بدوي، فرأيت أن أراد ما جاء به من اتهام مجحف بما يلي:
(1)
أن العلاقة الجنسية عملية (بيولوجية) لاستمرار الحياة. . فالتحدث عنها وعما يستلزمها من استمتاع بالأعطاف والأرداف ليس فيه ما يخجل!!
(2)
ما هي قيم الناس المقدسة؟ أن هي إلا أضحوكة صاغها العرف ودعمها من يسميهم الناس أنبياء. . فله الحق (يقصد الدكتور بدوي) في رفضها أو قبولها!!
(3)
أن عبد الرحمن بدوي لا ينال بمثل هذه الكلمات من سمعة الجامعة العلمية أو الخلقية. . بل أن الجامعة لتفتخر به)!!
إلى هنا وتنتهي رسالة التلميذ (الفاضل)، وهو كما قلت من ناشئة الجيل الذي يشرف على (تربيته) الأستاذ (الفاضل). . أن هذه الرسالة هي الدليل المادي الذي لا يدفع، على أن هذا الأستاذ قد استطاع أن يطبع تلاميذه بطباعه، وان يخلق منهم (رجالا) يواجهون معركة الحياة الطويلة بسلاح الخلق. . الخلق الذي يطالعك معدنه (النفيس) من وراء تلك الكلمات!
هذا هو ما كنت انتظره وأخشاه، وهذا هو ما دفعني إلى إثارة المشكلة من قبل أمام المسؤولين، مشكلة التدهور الخلقي الذي يخشى منه على طلاب الجامعة. هذه التيارات الفكرية التي تعصف بالقيم وتحتقر المثل وتهزأ بالتقاليد، من الذي نثر بذورها الآثمة ورعى ثمارها المجرمة في رؤوس أصحاب الغد، رؤوس هذا الجيل المرتقب من شباب الجامعة؟ ترى هل يحتاج السؤال إلى جواب؟ وإذا كان محتاجا فمن يجيب؟ هال أجيب أنا
أم يجيب مدير جامعة إبراهيم، أم يجيب عميد كلية الآداب بتلك الجامعة؟!
أن مثل هذا الطالب الذي يدافع عن العلاقة الجنسية بأنها عملية بيولوجية، ويؤكد أن الاستمتاع بالأعطاف والأرداف ليس فيه ما يخجل، وان القيم المقدسة أن هي إلا أضحوكة من صنع العرف أو من صنع من (يسميهم) الناس أنبياء. . مثل هذا الطالب - وهو نموذج مادي صارخ لغيره من الطلاب - لا ذنب له في رأي الحق ولا لوم عليه؛ لأن هناك (الأستاذ) الذي أقنعه بان هذه هي القيم، وبان هذه هي المثل، وبان هذا هو الطريق. . هناك الأستاذ الذي أتقنعه بهذا كله في قاعات الدرس وهو يحاضر، وبين صفحات الكتب وهو يؤلف، ولا بأس في منطق (الدين الجديد) من أن نفخر الجامعة بداعي الدعاة!!
أرأيت كيف يفخر التلميذ (الفاضل) بكلمات أستاذه (الفاضل)؟! لقد علمه فاحسن التعليم، وأدبه فأحسن التأديب، ووجهه فاحسن التوجيه، وبلغ من ذلك كله الأوج واشرف على الغاية. . أن هذا الطالب وأمثاله شهداء؛ وإذا كان الشيء يذكرنا بنقيضه، فإنني لأذكر في هذا المجال شهداء آخرين، وما أبعد الفارق في حساب الشعور بين شهداء (الوطنية المحمومة) وشهداء (الأفكار المسمومة). . أن (أبناء القنال) مثلا يفخرون بحديث الجهاد والبذل، وبمعنى الفداء والتضحية، ثم بشرف الانتحار بين يدي العدو اللدود؛ أما (أبناء الجامعة) فيفخرون بحديث الأعطاف والأرداف، وبمعنى المساواة بين الخالق والمخلوق، ثم بشرف الانتحار بين النهود. . ألبست هذه الألفاظ هي ألفاظ (أستاذ الجيل) كما أزدان بها كتاب (الحور والنور)؟!
حديث وحديث، ومعنى ومعنى، وشرف وشرف، وهي في جوهرها دروس ودروس. . دروس في (الاستقلال) يتلقاها فريق من شباب مصر، ودروس في (الانحلال) يتلقاها فريق آخر من هؤلاء الشباب، وأبحث عن الدوافع النفسية لهذه الظواهر الخلقية، أبحث عنها في تعاليم (القادة) والموجهين هنا وهناك!!
لقد بقي شيء كنت أود أن أذكره وهو أسم هذا الطالب الجامعي لعله يخجل. . كنت والله أود أن افعل ولكنني تذكرت أن أستاذه (الفاضل) قد علمه وعلم أمثاله أن الهبوط والسقوط، ليس فيهما ما يبعث على الخجل أو ما يدعو إلى الحياء!!
ذكرى شاعرة سورية:
هل تذكرون تلك الفتاة الأنيقة الرشيقة. . (الآنسة) هجران شوقي؟ وهل تذكرون ذلك اليوم الذي رفعت فيه القناع عن الوجه المزيف والحديث الكاذب والشعور المصنوع؟! لقد استطاع ذلك الشاعر السوري (المعروف) أن يلقاني بوجه امرأة، وان يتحدث إلي بصورة أمرأة، ولكنه نسي شيئاً واحداً لم يفطن أليه. . وهو أن يتزود بدهاء النساء، نسي مع الأسف الشديد هذا السلاح الخالد من أسلحة حواء. . ومن هنا انكشف أمره وانتهت المعركة!
أقسم إنني كنت اعرفه، اعني (الأستاذ) هجران. . وإنني ذكرت أسمه لكثير من أهل الأدب حين سئلت عنه، بعد تلك الكلمة التي وجهتها إليه على صفحات (الرسالة) ورجوته فيها أن يفصح عن اسمه وإلا أفصحت عنه!. . رجوته فخيب الرجاء ولج في الهجر، وأمعن في الدلائل، شأن ربات الحجال! ومن هنا خانني الصبر فبحت باسم الأستاذ الشاعر في مجالس الأدب فصدق أناس وتردد في التصديق آخرون. . ترددوا على الرغم من الأدلة المادية المقنعة التي تقوم على المقارنة بين شعره وشعر (الآنسة)، وبين النماذج الخطية لكتابتها وكتابته وهي موجودة بدار (الرسالة)؛ فضلا عن السبب الرئيسي الذي من أجله بدل من قسمات الوجه وغير من نبرات الصوت. . وهو دفاعه الصادق المخلص عن شاعر يمينه في مسابقة شعرية أقامتها مجلة (العصبة) المهجرية!!
تلك الفئة المترددة في التصديق كانت قليلة على كل حال، وعذرها في ذلك مقبول حين نضع نصب أعيننا هذه الحقيقة، وهي أن الشاعر الذي وضع على وجهه نقاب امرأة شاعرة معروف تعرفه صفحات (الرسالة) منذ خمسة عشر عاما على وجه التقريب وتبعا لهذا (الشرف) يعرفه القراء في مصر والبلاد العربية. . ومن هنا عز على بعض المقول أن تصدق تلك (الفعلة) التي لا يقدم عليها غير الأدباء الناشئين أو غير الصبية المراهقين!!
وأترك تلك الفئة المترددة وأخاطب القراء، مقدما إلى أذواقهم هذه الأبيات التي اقتطفها من قصيدة ألقاها الشاعر الذي أعنيه، في حفلة تكريم أقيمت للشاعر المهجري جورج صيدح بدمشق، ونشرتها مجلة (الأديب) اللبنانية في عدد ديسمبر عام 1951. . قال الأستاذ الشاعر وهو يتحدث عن نكبة فلسطين بصوت (لرجال) محييا الشاعر المهجري الذي نذر لها ديوانه (النوافل) هبة شعر وشعور، قال حفظ له الله وجهه الحقيقي بغير نقاب:
عليك سلام العرب يندى مواجعا
…
ويشرب دمع العين غربا إلى غرب
ولم رحت لا تلوين إلا على النوى
…
أمن أمل رحب إلى أمل نهب؟
ديار الهوى لا زلت مخضرة المنى
…
ترف على مغناك فينانة العشب!
خيالك في عيني وذكرك في فمي
…
وبي منك ما يغري المحب وما يصبي
وما غبت عن طرفي وإن بعد المدى
…
ولكننا في الحب جنبا إلى جنب
وما ذكرتك النفس إلا تولهت
…
وهيمها رح فباتت بلالب!
يهيج جواها الشوق والشوق عاصف
…
كان على أنفاسه زفرة النحب!
دهتك من الدنيا كوارث جمة
…
وألقت بك الويلات في مسلك صعب
فقد ينجلي الليل الطويل عن السنا
…
وتزدهر الأعواد في المهمه الجدب!
إذا دهمته الداهمات تلجلجت
…
به النفس وأنهارت تقول له حسبي
وطوف رباع الخلد تطواف عاشق
…
حسير الأماني وابك بالدمع السكب
إليك أؤدي بعض ما تستحقه
…
رفيفا من التحنان والنغم العذب
وأنت جدير بالدراري فليتني
…
أصوغ بياتي من سنا الأنجم الشهب!
هذه هي الأبيات، ومعذرة لضياع الوحدة النفسية فيها وكذلك الوحدة الفنية، لأن هناك بيتا مقتطفا من هنا وبيتا مقتطفا من هناك، تبعا لحرصي على جمع (الأكليشيهات اللفظية) التي سأترك لك المقارنة بينها وبين (أكليشيهات أخرى) مماثلة، هناك في قصيدة قديمة وجهتها (الآنسة) هجران شوقي إلى الشاعر عزيز أباظة، في العدد (901) من الرسالة. . وهو العدد الصادر في 9 أكتوبر عام 1950! قالت (الآنسة) الشاعرة التي نسيت إنني اقرأ مجلة (الأديب) وما زلت اذكر شعرها الحبيب:
وأنت سماوي القصيد قبسته
…
من اللاعج المشبوب والمدمع السكب
ولما نزل سؤل النفوس وقصدها
…
وشغل الليالي الزهر والأنجم الشهب
فيالك من شعر رقيق منغم
…
برف رفيف الطل في ناضر العشب
ترقرق بالشكوى وضمخ بالأسى
…
فجاد بما يغري وجاش بما يصبي
وأشربته نجوى تذوب رهافة
…
وتخضل بالتذكار والأمل النهب
تخلده الأحقاب في الطير شاديا
…
فأما شدا بات المحب بلا لب
وفي الغائب النائي الذي لفه الردى
…
ففاض حنانا وهو في زفرة النحب
غريب حريب لا يقر قراره
…
إلى أن نرى في الخلد جنبا إلى جنب
فما الشعر إلا أبن المدامع والأسى
…
تجود به الأجفان غربا إلى غرب
إذا خاطب الأرواح رفت بشاشة
…
ولو أنها في وحشة المهمه الجدب
يظل حداء الركب ترمي به النوى
…
فينسيه ما يلقاه من مسلك صعب
نشاوي وما ملوا غناء ولا سرى
…
ولا تعبوا أو قال قائلهم حسبي!
فيالك صداحا ويالك شاعرا
…
تفرد بالتحنان والنغم العذب
أرأيت إلى هذه (الأكليشيهات اللفظية) المكررة في هذه القصيدة وفي القصيدة السابقة؟!. . إنها (أكليشيهات) تطالعك كثيرا في شعر هذا الشاعر، وهي من (لوازم) التعبير التي تكشف لك عن شخصية الأديب أو الشاعر ولو حججت تلك الشخصية وراء الأستار!. . (المدمع السكب)، والدمع الذي تجود به الأجفان (غربا إلى غرب)، و (الأنجم الشهب)، و (المسلك الصعب)، و (المهمه الجدب)، و (زفرة النحب)، و (بات بلا لب)، و (الأمل النهب)، وفي الحب أو في الخلد (جنبا إلى جنب)، وتلك أو الذي (يقول له حسبي)، وذلك (التحنان والنغم العذب). . إلى آخر تلك (الأكليشيهات) المحفوظة على طريقة تلاميذ المدارس، والتي يمكنك أن تجد الكثير منها بلحمه ودمه في قصيدة أخرى نشرت (للآنسة) هجران على صفحات الرسالة، وهي القصيدة التي رثت بها (أختها) الشاعرة المصرية الراحلة، الآنسة ناهد طه رحمها الله!!
عيب الأستاذ الشاعر أنه ضعيف الذاكرة، ولو لم يكن ضعيف الذاكرة لما نسي أن وظيفتي الفنية هي النقد، وان النقد من عاداته أن يرفع الستر عن الأشياء الدفينة. . لقد سطا الأستاذ في جرأة بالغة على شعر الآنسة هجران، ولم يتحرج من أن يحيى الشاعر جورج صيدح بهذا الشعر المسروق!
ليصدقني القراء إنني لم اكن أنتظر أن يسطو هذا الشاعر المعروف على شعر هذه الشاعرة الناشئة. . ق يدافع هو عن نفسه فيقول لنا بصوته الطبيعي الذي لا تشويه رقة الغانيات: هذا اتهام جائر لأن الشعر شعري هنا وهناك، سواء نظمته من وراء الأستار أم نظمته في وضح النهار. . عندئذ لا يسعنا إلا أن نعتذر للأستاذ أنور شوقي أو للآنسة هجران
العطار!!
حول أسئلة القراء:
يؤسفني جد الأسف أن تشغلني محنة الأخلاق في الجامعة وذكرى الشاعرة السورية، عن التفرغ للأسئلة التي تلقيتها من بعض القراء وأشرت إليها في العدد الأسبق من (الرسالة). . ولقد تلقيت فيضا آخر من الرسائل في الأيام الأخيرة، وارجوا ألا تشغلني من التعقيب محن أخرى وذكريات!
بقي أن أوجه أنظار القراء إلى هذه الحقيقة، وهي أن وقتي لا يتسع لكتابة الرسائل الخاصة حول المشكلات الخاصة؛ المشكلات النفسية التي تمتلئ بها نفوس الشباب في هذا الجيل. إنني أقدر هذه المشكلات كل تقدير وأعطف على أصحابها كل العطف، ولكنني أعتذر لهم بضيق الوقت وبشيء آخر، وهو أن كثيراً من المشكلات لا يمكن علاجه بكلمة أو كلمات!
أنور المعداوي
المسرح والسينما
مسرحية. . .
دنشواي الحمراء. . .
للأستاذ أنور فتح الله
تأليف: الأستاذ خليل الرحيمي
إخراج: الأستاذ زكي طليمات
تمثيل: فرقة المسرح الحديث
. . دنشواي. . قرية صغيرة من قرى الريف المصري، كانت تعيش هادئة آمنة إلى أن شاء القدر أن تبرز هذه القرية في صفحات التاريخ. فتهز مأساتها الضمير الإنساني، وتلطخ بالعار تاريخ الإمبراطورية العجوز. . ومنذ سنة 1906، أصبح أسم دنشواي يقترن بأبشع صور الظلم الإنساني.
ولقد أراد المؤلف خدمة القضية الوطنية بتصوير الحاضر وإثارة الشعور ببعث الماضي الذي مثل فيه الإنجليز بنا أشنع تمثيل، فأتخذ من حادث دنشواي صورة الماضي. . . . ورمزا للحاضر. .
ولما كانت هذه المسرحية، هي المسرحية الأولى التي يساهم المسرح المصري بها في خدمة القضية الوطنية مساهمة مباشرة. . فقد رأينا أن نتجه في نقدنا لها اتجاها (تحليليا)، متتبعين خطوطها الفنية، ومسجلين الأثر الذي تركته في نفوسنا؛ لنعطي للقارئ صورة صادقة لها.
. . تبدأ أحداث المسرحية في الإسماعيلية، حيث نرى أسرة مكونة من أب، وأم، وأبن، وخطيبته
. . أما الابن (عادل) فإنه يساهم في خدمة وطنه بالاشتراك غفي كتائب التحرير التي أعلنت حرب العصابات على المستعمر. . ولقد علمت الأم (رزقة) بما أعتزمه ولدها، فحاولت منعه لتدرأ عنه الخطر المحدق به. ولكنه يصر على الثأر للوطن من الغاصب
المستبد. فتستعين بالأب (عبد الرازق)، وإذا به يأذن لولده بالخروج ليؤدي واجبه، فتصرخ الأم باكية، فيذكرها بماضيها في دنشواي. .
وفي دنشواي، نرى حادث قتل أم محمد، شقيقة عبد الرازق برصاصة أحد جنود الجيش البريطاني، ونرى مستر متشل المستشار الإنجليزي لوزارة العدل يجري التحقيق في منزل العمدة، وقد أتهم في الحادث حسن محظوظ والد رزقة، وعبد الرزاق خطيبها. . وينفذ حكم الإعدام في حسن محفوظ وزميليه. . ويفر عبد الرازق ورزقة إلى الإسماعيلية. .
وتنتهي حوادث المسرحية في الإسماعيلية، حيث ينقذ عبد الرازق ولده عادل وخطيبته سلوى ورزقة، ويقف وحده ليواجه جنود الجيش البريطاني الذين جاءوا للقبض على ولده، وينسف المنزل على نفسه وعلى أعدائه. .
. . ومن هذا العرض السريع للمسرحية، يتضح لنا أن المسرحية تصور الحاضر، والماضي. ولقد ربط المؤلف بين الماضي والحاضر بشخصيتي الأب والأم ولجأ إلى الرمز في تصويره للحاضر، فاختار أحداثه من المخيلة ليرمز للواقع وأتجه في تصويره للحقائق التاريخية إلى التركيز، فاتخذ قمم الأحداث وأستعان بالخيال في تصوير الدوافع النفسية التي تحرك أشخاص التاريخ، وبهذا بعث فيهم الحياة، وأبرز الماضي في صورة تثير الفكر والعاطفة.
. . والجو العام لهذه المسرحية مزيج من الدراما والكوميديا. . الدراما التي تمثل مآسي الظلم. والكوميديا التي تصور السخرية الثائرة على الأوضاع المقلوبة في الحياة. . ولقد بدت مشاهد الكوميديا موزعة في المسرحية لنمهد لضربات المأساة. وكانت شخصية الأسطى عطية تمثل الخط الكوميدي في الجزء الذي يصور الحاضر، وشخصية الشيخ محمد تصور امتداد هذا الخط في الجزء الذي يصور الماضي. ولقد كان الضحك في هذا الخط نتيجة للمفارقات الطبيعية المتصلة بالأحداث، كموقف الشيخ محمد عند التحامه بمستر متشل، ومحاولته تضليل ضابط البوليس حتى لا ينقبض على عبد الرازق.
والزمن في المسرحية يبدأ بالحاضر، ثم يعود إلى الماضي، ثم يرجع إلى الحاضر. وهذه الحركة تسمى في السينما وهي نادرة الحدوث في المسرح. ولقد استخدمها المؤلف في هذه المسرحية لتحقيق غرضين. . الأول رمزي. . فهو يرد شعورنا بكراهية الإنجليز اليوم
إلى الألم الكامن في اللاشعور المصري نتيجة لكبت الظلم في الماضي. أما للغرض الثاني فهو فن. . قصد به التخلص من التسلسل التاريخي الذي ينجح بالمسرحية إلى العرض. . وأريد به المقابلة بين أحداث الحاضر وأحداث الماضي، وهذه المقابلة تزيد من قوة الحادث المسرحي. . وأحداث الماضي، وهذه المقابلة تزيد من قوة الحادث المسرحي. . ومن ناحية أخرى فإن هذه الرجعية الزمنية تساير حركة الفكر عندما يعود إلى تذكر الماضي.
. . والحادث المسرحي يصور حياة أسرة مصرية في الماضي والحاضر، وحياة هذه الأسرة تمثل حياة مصر في الماضي وفي الحاضر. . والصراع بين هذه الأسرة وبين البريطانيين نتيجة لما حل بها من ألم وظلم يمثل الصراع بين مصر وبينهم. . والرابطة بين ماضي الأسرة في المسرحية وحاضرها هي رابطة الدم التي تصل عبد الرزاق بولده. . وهي تمثل نفس الرابطة التي تصل أبناء اليوم بآباء الأمس الذين حل بهم الظلم في دنشواي وغيرها من مآسي الاستعمار. . وبهذا قابل المؤلف بين حياة تلك الأسرة الصغيرة التي ظهرت على المسرح. . وحياة الأسرة الكبرى التي يرمز إليها. . واستطاع بهذا أن ينقل التجربة التي تلقاها من الحياة ويطبقها في عمله الفني.
ومن حيث تصوير الأشخاص. . اتجه المؤلف في تصويرهم اتجاها رمزيا. . فعبد الرازق يرمز للماضي المستعمر في الحاضر. . وعادل يرمز للحاضر المستعمر في المستقبل. . والشيخ محمد والأسطي عطية يرمزان لروح الشعب المصري في الماضي والحاضر، وسلوى تمثل الفتاة المصرية التي تساهم بنصيبها في الجهاد. . ومستر متشل يمثل روح الاستعمار البريطاني. وسنتناول بالتحليل شخصيتين: الأولى خلقها المؤلف من المخيلة. . والثانية استمد اسمها ودورها من التاريخ، أما بقية الصور فمن خلقه. .
. . فقد أبرز الشيخ محمد مؤمنا بالله، صادقا بفطرته، طيب القلب ساخطا على الظلم، يعبر عن سخطه المكبوت بسخريته اللاذهعة، وإذا جرح شعوره الديني فإنه يثور ثورة عابثة ولا يبالي بالحياة. . ولقد حرص المؤلف على أن يجعل الأحداث التي يشترك فيها تبرز هذه الخطوط، وفي نطاق الواقع النفسي والفكري للشخصية المصرية
ولقد أبرز المستر متشل متظاهراً بالعدل وهو ظالم، يتهم بالقتل وهو قاتل، ويغضب من الحق، ويؤمن بالباطل، وبهذه الخطوط لخص المؤلف روح الاستعمار في شخصية متشل،
وعبر بأفعالها وأقوالها عن المنطق الاستعماري أبلغ تعبير. . ولقد سار المؤلف على ذلك في رسم الشخوص الأخرى. . كالعمدة؛ وجندي البوليس، وشيخ البلد، وشيخ الخفر. أما شخصية عبد الرازق وعادل فإنهما ترمزان لجيلين؛ ولهذا كان المؤلف ملتزما في تصويره لهما. ولقد قيد هذا الالتزام حريته في التصوير فغلبت عليهما النموذجية، وذلك حتى لا تبعد الصورة عن الرمز. وكان الجانب الإنساني بارزا في تصوير الأم لتأرجحها بين العاطفة والواجب. . والطابع العام في رسم الأشخاص هو الصدق في التصوير والتعبير، والتفكير.
. . . والبناء في مثل هذه المسرحية (الملتزمة) يعد من أصعب الأمور على المؤلف المسرحي، لأنه عامل أساسي في التأثير على المشاهد، ونقل التجربة النفسية إليه وإذا اهتز البناء في يد المؤلف، فالمسرحية أما أن تصبح عرضا مسرحياً، أو تميل إلى الخطب المنبرية. وسنحاول هنا أن نستعرض بناء المسرحية لنرى إلى أي حد وفق المؤلف فيه. .
. . فالمنظر الأول يمثل حياة الأسرة في الإسماعيلية. . ولقد بدأه المؤلف بداية مثيرة ليغمر المشاهد في الجو العام للمسرحية. . فابرز عادل وأعوانه يتآمرون في الظلام على جنود الاستعمار. . واستخدم التعارض بين موقف الأم والأب بالنسبة لابنهما في جذب انتباه المشاهد، وتسليط الأضواء على السر الذي يطويه عبد الرازق. . وفي نهاية المنظر جعل عبد الرازق يفصح عن السر في تشجيعه لابنه على محاربة الإنجليز. . فبدأ انتباه المشاهد يتجه إلى التفكير في العلاقة التي بين عبد الرازق وبين دنشواي. . وأصبح مشوقا إلى معرفتها. .
وفي المنظر الثاني يتغير الجو. . والزمن. . والأحداث. . ويرى المشاهد أشخاصا غير الأشخاص الذين رآهم في المنظر الأول. . وقرب منتصف المنظر يبدو عبد الرازق في ثوبه الريفي. . فيسترعي النظر لاختلاف حالته في الإسماعيلية عن حالته في دنشواي. ويصور المؤلف بدء العلاقة بين عبد الرازق ورزقة. . وقرب ارتباطهما بالزواج. . ثم يمهد المؤلف للمأساة حتى لا يفاجأ بها الجمهور. . فيذكر على لسان أحد الأشخاص أن فرقة إنجليزية عسكرية بالقرية. . ثم يأتي جندي البوليس فيخبرنا بان الجنود يصطادون الحمام. . ثم يشب الحريق في أحد الأجران. . ثم يضرب المؤلف ضربته الأخيرة فيعرض أحد الجنود وهو يصطاد الحمام فيخطئ الهدف ويصيب أم محمد. . وفي هذا المنظر كان
المؤلف موفقا في مسرحة الحادث التاريخي، فجاء مشوقا كامل البناء. .
. . أما منظر التحقيق الذي أجراه المفتش الإنجليزي فيصور فيه الصراع في المأساة بين أهل القرية وممثل الاستعمار. . ولقد أعتمد المؤلف في تجسيم هذا الصراع على تصوير التعارض بين الصورة الحقيقية للحادث التي رآها المشاهد في المنظر السابق، وبين الصورة الباطلة التي يصورها ممثل الاستعمار. . وتصل المأساة إلى الأوج عندما نعلم أن المشانق قد أعدت قبل المحاكمة. . وفي هذا المنظر يبرز المؤلف العلاقة بين عبد الرازق والزوجة وبين الحادث. . فالأول أحد المتهمين الذين فروا. . والثانية ابنة أحد المتهمين الذين اعدموا. . ومن هذه الزاوية ربط المؤلف بين الحاضر والماضي، برباط طبيعي. . .
. . . وفي المنظر الخامس. . . يجسم المؤلف اثر المأساة في نفوس أبطال المسرحية. . فعبد الرازق يختفي عن أعين الاستعمار. . ورزقة تبكي أباها الذي أعدم. . ويستغل المؤلف مطاردة البوليس لعبد الرازق في تحريك قلب المشاهد، وينتهي هذا المنظر بنجاة عبد الرازق بعد أن غلب الضابط وطنيته على واجبه. وهذا المنظر يكاد يتكامل في بنائه لولا أن المؤلف أدخل عبد الرازق من أول المنظر، وبهذا قضى على التشويق في المشهد الذي جاء فيه شيخ الخفر ليخبر الأسرة بأنه علم أنه قد قبض على عبد الرازق. . وكنا نفضل أن لا يدخل عبد الرازق إلا بعد خروج شيخ الخفر. . لينتقل الشعور بالقلق الذي أحس به أشخاص الرواية إلى المشاهد. .
. . . والمنظر السادس يصور الجانب الإنساني في حياة عادل والجانب الوطني في حياة فتاة اليوم التي تمثلها سلوى. . وجو هذا المنظر خفيف بالنسبة لجو المأساة المكفهر في دنشواي. . وهو تمهيد للمأساة التي ستنتهي لها المسرحية. . وقد اتخذ المؤلف من زيارة عادل لخطيبته، والطلق الناري الذي سمع بعد خروجه مادته لتحريك المشاهد وجذب انتباهه. . . الا اننا نرى في اخبار عطية لسلوى بزيارة عادل قضاء على عنصر التشويق في هذه الزيارة. وكان من الخير أن يدخل عادل دون هذا التمهيد. . كذلك نلاحظ التكرار في سرد قصة تجاه عادل. . فقد ذكرها والد سلوى. . وذكرها عبد الرازق وكان الأفضل أن يذكرها عبد الرازق فقط. . وكان تتبع عبد الرازق لابنه غامضاً. . فقد قال عبد الرازق في ذلك. . أنه يرى بقلبه. . ويسير وراء ابنه خطوة خطوة. . وكان من السهل على
المؤلف تبرير ذلك بان يذكر عبد الرازق أن عطية اخبره بزيارة والده لسلوى. . وبهذا يستقيم بناء هذا المنظر.
. . . والمنظر الأخير من المسرحية يصور قصة اختفاء عادل أثناء هجومه على المعسكر البريطاني. ولقد لعب المؤلف فيه بقلب المشاهد وجعله حائراً بين الأمل في عودة عادل، واليأس من هذه العودة، وكنا نفضل أن تنتهي المسرحية بعودة عادل. وذلك لأن نسف عبد الرازق للمنزل على نفسه وعلى أعدائه كان سريعاً وبعيداً عن الطبيعة. . فكان في مقدوره أن يشعل فتيل الديناميت ويفر مع الذين فروا وبهذا يثأر لنفسه، وينتصر على أعدائه.
. . . ومن هذا العرض يمكننا أن نخرج بنتيجة عامة. . هي أن المسرحية تكاد تكون كاملة من حيث البناء لولا بعض الهنات التي بيناها في مواضعها. . وبهذا وفق المؤلف التأثير على المشاهد بهذه الصورة الحية الصادقة التي تمثل حياتنا العامة بها فيها من آلام وآمال.
ولقد كان المؤلف موفقاً في تصوير الأجواء المختلفة للمسرحية؛ فهو في الإسماعيلية يصور ذلك الجو الرهيب الذي يعيش فيه أهلها. . وفي الريف يجسم في صدق النفسية الريفية بما فطرت عليه من بساطة وبراءة وطهر. .
أما حوار هذه المسرحية فواقعي، بساير في واقعيته البيئات المختلفة للأشخاص. . وكان الحوار مساوقاً للحركة المسرحية، وبهذا خلت هذه المسرحية من النعمة الخطابية التي تغلب على المسرحيات التي تعالج موضوعاً قومياً.
وبعد. . فهذه مسرحية جريئة في موضوعها وبنائها، حاولنا أن نبرز للقارئ خطوطها الفنية. . ومؤثراتها النفسية، ونرجو أن نكون قد وفينا مؤلف هذا العمل الضخم حقه، ليتابع خطواته الفنية الناجحة. ولقد اخرج هذه المسرحية الأستاذ زكي طليمات ولقد حقق بالمناظر الإطار المادي للمسرحية في بيئاتها المختلفة. . مستخدما في ذلك الرمزية في بعض المناظر. . والواقعية المجسمة في البعض الآخر. . ويجدر بنا أن نسجل للمخرج بروزه في منظر الجرن. . حيث بدت المنازل الريفية في بساطتها. . والأفق من ورائها. . وكذلك منظر المشنقة الضخمة. . الذي يمثل طغيان الظالم وتجبره بهذه المشنقة الضخمة. . ولقد أستغل الأضواء في أحياء الأجواء النفسية. . وحرك المجموعات في مشهد المؤامرة، ومشهد الجرن، والمحاكمة في براعة فبدت حركاتها طبيعية.
ولقد برز في مشاهد الريف من الممثلين عبد الرحيم الزرقاني في دور العمدة، ومحمد السبع في دور حسن محفوظ، فقد استطاعا تجسيم الثورة على الظلم من العبارة المحدودة التي أملاها الموقف المسرحي. أما عبد الغني محمد قمر ممثل دور الشيخ محمد فقيه القرية فقد بلغ حد الإجادة في أداء دوره لولا حرصه على جذب المشاهد إليه ولو كان ذلك على حساب الجو العام للمشهد المسرحي
ولقد أجاد عدلي كاسب الذي قام بدور المستر متشل فقد أدى إتقانه لدوره إثارة سخط الجماهير عليه لأنه يمثل السلطة الغاشمة.
أما مشاهد الإسماعيلية فقد برز من ممثليها حمدي غيث الذي قام بدور عبد الرازق، فقد جسم بثورته النفسية المتأججة الثورة العارمة على الظلم، وجاوبته في هذا النجاح والتوفيق السيدة نعيمة وصفي التي قامت بدور الأم. ولعلها وصلت إلى القمة في مشهد إخفاء عبد الرازق في دنشواي.
أما ممثل الدور الأول في المسرحية، نبيل الألفي، الذي قام بدور عادل، فمع أن عمله الدراماتيكي كما حدده المؤلف كان خارج المسرح، إلا أنه ركز مقدرته الفنية وموهبته في المشاهد التي ظهر فيها على المسرح فكان فيها موفقا خير التوفيق
وأخيراً. . . فنحن نرى أنه قد تجلت في هذه المسرحية وحدة المدرسة الفنية. . فقد تعاون أبناء المدرسة الحديثة وعلى رأسهم الأستاذ زكي طليمات على تحقيق التكامل الفني في المسرحية.
أنور فتح الله
البريد الأدبي
الرغب تجمع على رغاب
في العدد 937 نشرت مجلة الرسالة الزاهرة قصيدة للأستاذ محمود فتحي المحروق بعنوان (في لجة الصمت) وفي العدد 944 تصدى الأستاذ الشاعر عبد القادر رشيد الناصري إلى كلمة (الرغاب) في القصيدة الآنفة الذكر من البيت التالي:
// ليس لي في الحياة أي (آمال)
…
(فواخيبة) المنى والرغاب
قال الأستاذ الناصري: في هذا البيت خطأ في الوزن. (والخطأ موجود بالغفل) وفي فقه اللغة واقصد كلمة رغاب فقد أوردها الشاعر مرادفة لكلمة منى، وهي جمع وهذا الجمع خطأ محض.
وأستشهد الأستاذ الناصري (بلسان العرب) الذي جاء فيه أن رغبة بمعنى الأمنية والمطلوب، وجمعها رغائب ورغبات.
وقد قصد اللسان عندما جمع رغبة على رغبات أما رغائب ومعناها العطايا والأموال فهي جمع رغيبة ومعناها العطية من أموال وغيرها.
قال عروة ابن الورد العبسي وهو شاعر جاهلي وحجة أيضا:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً
…
من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذراً أو يصيب رغيبة
…
ومبلغ نفسي عذرها مثل منجح
أما الأمثلة عن الرغائب التي هي جمع رغيبة فأكثر من أن تحصى.
قال المتنبي:
فتى علمته نفسه وجدوده
…
قراع العوالي وابتذال الرغائب
أي ابتذال الأموال والعطايا
وقال الأرجاني:
فأجزل قراه من سرور وبهجة
…
واثقل قراه باللهي والرغائب
أي وبالعطايا. قرى الأولى بكسر القاف (الضيافة) وقرأ الثانية بفتح القاف (الظهر).
وقال في قصيدة أخرى:
إذا ما أتاه الراغبون أعادهم
…
وملء اكف الراغبين الرغائب
وقال أبو فراس الحمداني:
وما أنا من كل المطاعم طاعم
…
ولا انا من كل المشارب شارب
ولا السيد القمقام عندي بسيد
…
إذا استنزلته عن علاه الرغائب
أعود إلى فعل رغب يرغب رغبا بفتح الغين وسكونها والجمع رغائب.
من أخبار (زيد الخيل) بكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني أنه جمع طيئاً وأخلاطا لهم وغزا بني عامر وحلفاءهم. وفي هذه الغزوة أسر زيد الخيل الخطيئة الشاعر فجز ناصيته وأطلقه ثم إن. غنيا تجمعت مع بني عامر وغزت طيئاً في أرضهم فغنموا وقتلوا وأدركوا ثأرهم.
فأشاد بذلك الشاعر (طفيل الغنوي) منتصراً لقومه على طئ مجيباً لزيد الخيل الذي كان ثلبهم من قبل بانتصاره عليهم قائلا:
سمونا بالجياد إلى أعاد
…
مغاورة بجد وأعتصاب
نؤمهم على رعب وشحط
…
يقود يطلعن من النقاب
وقتلنا سراتهم جهاراً
…
وجئنا بالسبايا والنهاب
سبايا طيء: أبرزن قسراً
…
وأبدلن القصور من الشعاب
سبايا طيء: من كل حي
…
بمن في الفرع منها والنصاب
ثم قال:
وما كانت بناتهم سبياً
…
ولا رغباً يعد من الرغاب
جاء في كتاب الحماسة لأبي تمام عن طفيل الشاعر أنه ابن عوف ينتهي نسبه إلى (عني) بن اعصر بن سعد بن قيس بن عيلان وهو شاعر جاهلي من الفحول المعدودين يقال أنه اقدم شعراء قيس هو والنابغة الجعدي وأبو داؤد الأيادي من أوصف العرب للخيل.
والرغبة بالتاء لتأنيث المصدر وجمعها رغبات مثل سجدة وسجدات ورجل رغيب على وزن شريف وكريم أي ذو رغبة في كثرة الأكل (ذو نهم) وشاهد ذلك كما جاء في العدد 944 من الرسالة من كلمة للأستاذ الكبير الزيات بك عن الملك عبد الله قال فيها: وظل فيها (أي الملك عبد الله) كما يظل الأسد في القفص متململا من الحصر، متبرماً بالضيق، يتطلع من خلال القضبان إلى سواحل فلسطين، ثم تمتد عينه الرغيبة إلى سهول سوريا، ثم يشرق
بفكره وقلبه إلى أرياف العراق. .
وشاهدي عينه الرغيبة، أي النهمة.
وإذا أريد المبالغة من كلمة رغيب كسر وثقل فيقال رغيب. هذا ويضاف إلى ما تفضل به الأستاذ الناصري أن كلمة رغيب معناها واسع ورحيب وارجوا أن تؤخذ كلمتي هذه على أنها خدمة للعلم. . وفقنا الله جميعاً إلى طريق الصواب.
صبحي محمود سعيد
1 -
فسح لا أفسح:
نبا قلم الصديق الأستاذ البيومي بالعدد (962) من الرسالة في مقاله (بين شوقي وولي الدين يكن) حيث قال: (وأفسح لنا مجال الموازنة والتحليل، وصوابها - فيما أعلم - وفسح لنا، ففي التنزيل. (إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فأفسحوا يفسح الله لكم)
2 -
في العدد:
وفي مقال الأستاذ عطيفة بالعدد نفسه يقول: (استشهد عشر مواطنين، خمس من المدنيين، وخمس من الجنود) وبالرجوع إلى قانون العدد في اللغة نرى أن الصواب (عشرة مواطنين، وخمسة من المدنيين، وخمسة من الجنود)
. . وقد صح تعبير الأستاذ بعد ذلك في السطر نفسه إذا يقول: (وجرح سبعة وعشرون، وقد فقد الإنجليز ضابطين وسبعة جنود) فإن كان قد ألقي الحديث على عواهنه، فقد علم القاعدة منذ اليوم
محمد محمد الأبشيهي
خطأ عروضي:
أشكر لأخي الأديب الأستاذ محمد محمد الأبشيهي تنبيهي إلى أن البيت
وتلا الهالكين منهما. . . الخ
من قصيدتي (الشعور المكبوت) ينطوي على خطأ عروضي وصحة البيت لولا التحريف في النسخ وتلا هالكيهما الخ وإني لأشد اغتباطا بتصحيحه الخطأ مني بالثناء على سائر
القصيدة. وإني على مقصديه لشاكر
عبد اللطيف النشار
مهيب لا مهاب:
خطأ زميلنا الأستاذ محمد محمد الأبشيهي، الأستاذ مطر في قوله من قصيدته (من الأعماق)
تحررنا من الأغلال فأنهض
…
سليل المجد مرموقا مهابا
ذاهبا إلى أن الصواب (مهيب) لا (مهاب) لأن (مهاب) - كما نزعم - (من أهاب به يهيب به. وإذا زجره عن الشيء فهو مهاب أي مزجور. . . الخ
وأقول للزميل الأبشيهي أن (مهاب) بفتح الميم تؤدي المعنى الذي عناه الشاعر، وما على الأستاذ الأبشيهي إلا أن يرجع لأي مرجع من مراجع اللغة، وحسبه (مختار الصحاح) فإنه منه على طرف التمام. . .
وتحيتي للشاعر مطر، وللأستاذ الأبشيهي. . .
محمد الغزالي حرب
القصص
بقية حية
للكاتب الروسي تورجنيف
كان تورجنيف خلال صيد يفتش عن ملجأ من المطر في مزرعة لامه. فهبط كوخا مهجورا ووجد خصا في زاوية من زوايا سرير خشبي يرقد عليه شكل إنساني صغير) قال تورجنيف:
دنوت ولكن الدهشة سمرتني في مكاني. أن إزائي كائنا حيا، ولكن ما هو هذا الكائن؟
وجه غاض منه ماء الحياة، وغشيه لون برنزي كأنما يرى فيه الناظر صورة قديسة قديمة، وأنف دق مارنه حتى أشبه حد المدية، وشفتان دقيقتان نحيفتان لا تكادان تحسان، وعينان لامعتان، وأسنان بيضاء، وبعض غدائر شقراء ناست تحت النقاب، وفي أطواء الفضاء تتحرك ببطيء أصابع يدين ووجه لا يسمه القبح، وإنما هو جميل، ولكنه غريب مؤثر، وكان اشد ما اثر في نفسي ما لمحته على الخدين المتصلبين من صورة ابتسامة تجهد نفسها عبثا لتظهر
- ألا تعرفني يا سيدي؟
تردد ذلك الصوت الذي راح يردده هذا الكائن كنفحة، تحركت به شفتان بعناء
- إنني (لو كريا) هل تذكرني؟ أنا التي كنت أرسل الأغاني وأثير الضحك عند أمك!
- أأنت (لو كريا) انت؟ هذا مستحيل
- أنا هي بذاتها
وما كان لي إلا القول والنظر كالمجذوب في هذا الوجه الأربد، وفي هاتين العينين اللامعتين الشاخصتين بدون حياة.
أهذه المومياء هي (لو كريا) أجمل وأبهى إمائنا، من كانت بضة الإهاب وردية اللون، ترقص وتضحك وتمرح وتغني؟ لو كريا. . . الرقيقة التي فتنت رفاقها، ومن كنت أبسم لها خفية حينما كنت في السادسة عشرة؟
آه يا لو كريا ماذا أصابك؟
- حادثة مروعة، ولكن لا تخش يا سيدي، ولا تعرك السآمة من حالي. اجلس مني قريبا
على هذه الخابية لأنك لا تستطيع الإصغاء إلى بعيدا. أي صوت لي الآن؟ إنني جد مسرورة برؤيتك. .
(وهنا تقص عليه لو كريا قصتها، وأنها في ساعة عرسها سقطت عن السلم فأصابها هذا الشلل الذي عطل حركتها. وقد جربوا عبثاً أن يجدوا لها الدواء. وأخيراً قادوها إلى هذه المزرعة عند بعض الأقارب)
- وهل تظلين مضطجعة هكذا دائما؟
- نعم! وقد مر علي سبعة أعوام، في الصيف أمكث في هذا الخص الصغير، وفي الشتاء يحملوني إلى مدخل هناك
- ومن يعني بك ويقوم بحاجاتك؟
- أن هنا رجالا كرماء لا يتركونني ولكن في الغالب لا احتاج إلى شيء. كدت استغني عن الطعام والشراب، وتراني اكثر الأوقات مطروحة جانب هذا الينبوع البارد، وأستطيع أن أبلغ مقري وحدي، إذ لا تزال إحدى يدي سليمة. وهناك فترة صغيرة يتيمة ترافقني كثيرا فليجزها الله عني! كانت هنا قبل لحظة، ألم تلاقها في طريقك؟ أنها غادة شقراء تحمل إلى أزهارا احبها. كان عندنا من الروضة أزهار ولكنها ذوت. أما أزهار الحقول فهي جميلة أيضاً وشذاها أضوع! ماذا تريد أحسن من ذلك؟
- ولكن الحياة، إلا تجدينها كئيبة ثقيلة عليك يا لو كريا البائسة؟
- ما العمل؟ لا اقدر أن اكذب. كانت أيام مصابي الأولى أياما ثقيلة قاسية، ثم ما لبثت أن تعودت، وللإنسان من دهره ما تعود، وصبرت وذكرت أن آخرين - هنالك - قد يكونون أحق بالشكوى مني. .
- وكيف ذلك؟
- من لا مأوى لهم مثلا، والعميان والصم! أما أنا - فشكرا لله - ابصر وارى، واسمع ما خفت من الأصوات إذا شق خلد منفذا في الأرض فإني اسمعه، وأتروح كل العطور حتى الضئيل منها. لا تزهر شجرة في الحقول أو زيزفونة في البستان دون أن اخبر بذلك، فإذا مرت عليها الريح أكون أول كائن يحس ما تنطوي عليه هذه الريح! لا لا. . ولماذا العن حظي؟ هنالك آخرون حظهم أقسى، وكذلك الأشخاص المعافون تدفع بهم ميولهم كثيرا إلى
عمل الشر. أما أنا فالخطيئة تركتني
- وهل أنت وحيدة دائما يا لو كريا؟ كيف تعملين لتطردي الأفكار عن نفسك؟ وعلى الأقل ألا تنامين كل الوقت؟
- لا يا سيدي! لا أستطيع أن أنام. حينما أريد وبدون أن أحس الآلام الكبيرة أجد في أعماق نفسي آلاما صماء تتمشى في عظامي، وهذا ما يحرمني النوم. لا أظل على حالة واحدة هادئة دون تفكير أحس أنني أحيا. أنني أتتنفس، وهذه كل حياتي، أنني انظر واسمع. تدوي أسراب النحل وتسقط حمامة على السقف وتمشي، ودجاجة تقاسم فراخها فتاتاً أو عصفورة أو فراشة تحوم. هذا كله يدخل السرور في نفسي، ومن عامين طرق السنونو هذا المكان، وبنى - هنا - عشا، ما اجمل هذا!
وفي بعض خطراتي اردد صلوات، ولكني لا اعرف منها كثيراً، ولماذا اضجر الإله الصالح مني؟ وماذا اطلب اليه؟ أنه يعلم حاجتي اكثر مني. أنه أرسل إلى صليبه وهذه علامة محبته لي. اعرف صلاة (يا أبانا) وصلاة (السلام عليك يا مريم) ثم أراني احلم في شيء. . . وهكذا الزمن يمضي
(وهنا يعرض عليها (تورجنيف) أن يقتادها إلى مستشفى في المدينة ولكنها ترجوه ألا يفعل)
- أنني اعرف يا سيدي أن فيما تعمله خيرا لي، ولكن هل في الإمكان مساعدة لآخرين؟ هل يمكن قراءة ما في النفوس؟ إنما يجب على الإنسان أن يجد مساعدة في نفسه. انك لا تؤمن به. في بعض خطراتي وأنا مضطجعة وحدي أحس أن لا أحد على الأرض غيري، وان لا أحد لي سواي، واشعر بان بركة تتنزل على. . . تساورني أفكار تبعث على الدهشة
- وأية أفكار تساورك يا لو كريا؟
- يستحيل الإفضاء بها يا سيدي! لأنها مما لا يمكن التعبير عنه. ثم أنساها. ثم يعرض لي ذلك كسحابة تمر فوقي. وعنها أحس نداوة تغمرني. ما هذا! لا اعلم عنه شيئاً. ولكني أقول: لو كان واحد معي لما وجد له مكانا. لا أحس شيئا إلا رزيئتي
وهنا تنهدت لو كريا تنهدا شديدا ولكن صدرها لم يسعفها على التنهد اكثر من بقية أعضائها
- سيدي! أنني هجت فيك حس الشفقة كثيرا، فلا تأسف أصغ إلى ما سأقوله لك. . . انك تعلم، أو تذكر إنني كنت طلابة للمرح كثيرا في عهدي الأول. وتعلم كم كنت اغني!
وأنت تغنين أيضا!
- نعم: أردد أغاني القديمة، أنواعا كثيرة من الأغاني، أعرف منها كثيرا ولم أنسها ولكن الحان الرقص أصبحت لا ارددها لأن حالتي لا تساعدني
- انك تغنيها لنفسك بدون شك؟
- لنفسي. . . ارددها عاليا، قد لا اقدر أن اغني عاليا جدا، ولكن سامعها يفهمها. إنني حدثتك الآن عن غادة صغيرة تعودني. لقد علمتها إياها وأصبحت تعرف منها اربعا، وعما قليل ترى.
تنفست (لو كريا) وهذه الفكرة التي بدأت ترددها هذه الغادة الفانية قد أيقظت في نفسي هولا لا قبل لي به. ولكني قبل أن انبس بكلمة تصاعدت رنة تتعالى بصعوبة ولكنها صافية مستقيمة ملأت أذني، ثم رنة أخرى تلتها ثم أخرى. . . ولو كريا لا تزال تردد:
(في هذه المروج، هذه المروج، في هذه المروج الجميلة الخضراء) كانت تشدو دون أن تتبدل ملامح وجهها وعيناها لا تتحولان. ولكنها كانت ترسل صوتها يرن مؤثرا، هذا الصوت الضعيف الذي كان يجهد نفسه متصاعدا كأنه خيط دخان، متدفقا من كل نفسها. أصبحت لا أحس ذلك الرعب بل حل محله شفقة عنيفة تضغط قلبي.
أنت فجأة وقالت:
- لا أقدر. . . إن قوتي تخونني إن فرحي كثير برؤيتك وهنا أغمضت عينيها، ولمست بيدي أصابعها الباردة فنظرت إلى نظرة خفيفة، ثم رأيت حاجبيها الكثيفتين المنتهيين بخطوط ذهبية كخطوط الهياكل القديمة قد اغلقا كنت بالقرب من الباب عندما ذكرتني. . .
- هل تذكر يا سيدي (وقد بدت ملامح غريبة على عينيها وشفتيها) هل تذكر جديلتي الصغيرة؟ كانت تسقط حتى ركبتي مضى على ذلك عهد طويل وأصبحت لا أجزم. كانت غدائر جميلة وإني لي أن اعمل المشط فيها على هذه الحالة؟ فاضطررت إلى قصها. . . عفوا يا سيدي. . . لا أستطيع!
مرت أسابيع معدودة علمت خلالها لو أن لو كريا غادرت هذا العالم. وهنالك يقصون -
إنها في يوم موتها - كانت تسمع بدون انقطاع نواقيس تقرع. وكانت لو كريا تزعم أن هذا اللحن الذي تسمعه لا يقبل من الكنيسة ولكنه يقبل من العالم الأعلى وكأنها لا تجرؤ أن تقول أنه من السماء
خ. هـ