الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 965
- بتاريخ: 31 - 12 - 1951
اللغة العربية في العالم الإسلامي
مهداة إلى وزارة المعارف المصرية
للأستاذ سيد قطب
فرحت لذلك القرار الذي أتخذه المؤتمر الإسلامي في كراتشي بأن تكون اللغة العربية لغة دولية في العالم الإسلامي، تتفاهم بها الدول الإسلامية في مكاتباتها الرسمية، ويتفاهم بها المسلمون حيثما التقوا في مكان. . .
إن هذا القرار خطوة قيمة في سبيل الوحدة الإسلامية التي أصبحت اليوم حقيقة واقعة، لا ينقصها إلا التنظيم العملي. وهذا القرار هو خطوة في سبيل هذا التنظيم العملي.
ولقد قلت لسعادة سفير الباكستان في مصر الحاج عبد الستار سيت في لقاء لنا في العام الماضي: إن باكستان لن تؤدي دورها الضخم الذي تملك أداءه للعالم الإسلامي إلا يوم أن توجد وحدة لغوية بينها وبين الأمة العربية المسلمة. وليس من الضروري في هذه المرحلة أن تتخذ باكستان اللغة العربية لغة رسمية لها؛ فإنه يكفي أن يعم تعليم اللغة العربية كلغة ثانية؛ وبذلك يمكن التفاهم بهذه اللغة بين الحكومات والشعوب والأفراد. ويمكن لأهل باكستان أن يقرئوا الصحف والكتب العربية، كما يمكن للعرب أن يقرئوا اشيئا مما يصدر في باكستان باللغة العربية.
ومثل هذا يقال عن أندونسيا، وعن إيران، وعن تركيا (ومعذرة عن ذكر تركيا في سياق الحديث عن العالم الإسلامي. . فأنا أعني الشعب التركي وهو بريء من جرائر حكومته وآثامها!)
وإنه ليسرني أن أعرف أن معهدا لتعليم اللغة العربية قد افتتح في باكستان، وإن كانت معلوماتي عنه لا تزال ناقصة. وأنا بسبيل استكمالها، وتقديم كل ما يمكنني تقديمه من الجهد في هذا السبيل. وإن كنت أعرف مع الأسف أن وزارة المعارف المصرية لم تساهم إلى اليوم أية مساهمة في هذا الموضوع الخطير
إن تعميم دراسة اللغة العربية في مدارس باكستان وإندونيسيا كلغة ثانية تأخذ وضع اللغة الإنجليزية في مدارسنا المصرية. . هو حدث تاريخي هام في تاريخ الشرق، وتاريخ العالم الإسلامي. بل ربما كان أخطر حدث في تاريخ الإسلام الحديث؛ لأن نتائجه في أوضاع
الشرق، بل في أوضاع العالم ستتجاوز بعد فترة وجيزة نتائج أي حدث عالمي في تاريخ العالم الحديث
إن معناه إضافة مقوم قوى إلى مقومات الوحدة في العالم الإسلامي، مقوم وحدة اللغة والتفاهم إلى مقومات الوحدة الجغرافية والاقتصادية والعسكرية والدينية. . وهذا المقوم الجديد هو الذي يبيح الفرصة لتقارب مناهج التعليم، ومناهج التفكير، كما يتيح الفرصة لتبادل الأفكار والمؤلفات والأساتذة والطلاب. . وبتعبير مختصر لاستكمال عناصر الوحدة التي أصبحت اليوم ضرورة حياة بالقياس إلى تلك الكتلة الإسلامية كلها، لا مجرد رغبة نابعة من عقيدة المتدينين في هذه البلاد
إن الموقف السياسي والعسكري لهذه الكتلة الإسلامية يحتم اليوم أن تقوم فيما بينها وحدة كاملة، لكي يكون لها وزن في المضمار الدولي، ولكي تستطيع تحقيق الأهداف المشتركة لجميع الشعوب المندمجة فيها. وعوامل هذه الوحدة كلها قائمة لا تحتاج إلى غير التنظيم، فيما عدا عامل اللغة والتفاهم. وهذا ما يجب توفيره عن هذا الطريق الذي اقترحته على سعادة سفير الباكستان في العام الماضي
وما من شك أن وزارة المعارف المصرية تملك الشيء الكثير في هذا المضمار. وما من شك أن تحقيق مثل هذا الهدف الضخم أكبر قيمة بما لا يقاس من إنشاء تلك المعاهد الثقافية في لندن ومدريد وطنجة والجزائر أيضا. فأنا أعرف أن معهدنا الثقافي في لندن مثلا ما يزيد على أن يعلم اللغة العربية لبضعة عشر يهوديا معظمهم قد اشتغلوا فيما بعد جواسيس على العرب في حرب فلسطين، وبضعة عشر إنجليزيا ممن يعدون أنفسهم لخدمة الاستعمار الإنجليزي في الشرق العربي! وهذه المهمة تستغرق جهود رجل مصري مثقف كالدكتور عبد العزيز عتيق. كم كانت إحدى كليات الجامعات المصرية في حاجة إليه هنا لاستكمال أساتذتها!
ولو أنشئ معهد ثقافي مصري في باكستان ومثله في إندونيسيا لاستطاع من غير شك أن يؤدي للثقافة الإسلامية، وللعالم الإسلامي من الخدمات أضعاف ما يؤدي معهد في لندن أو في مدريد، أو حتى في طنجة والجزائر؛ لأن انضمام كتلتين ضخمتين إلى نهر الثقافة العربية، واستكمال أسباب الوحدة بين العالم العربي وبقية العالم الإسلامي. . يساويان بلا
شك شيئا كثيرا، لليوم والغد، وللسياسة والاقتصاد، وللأهداف القومية العليا في المستقبل القريب والمستقبل البعيد.
على أن إنشاء المعاهد الثقافية ليس إلا مثلا لما تملك وزارة المعارف المصرية النهوض به في باكستان وأندونسيا؛ فإنها من غير شك تملك إنشاء معاهد لتخريج معلمين للغة العربية في هذين البلدين. وستجد الكثيرين من أهل باكستان وأهل إندونيسيا يلتحقون بهذه المعاهد لو أنشأتها هناك. وستجد من أهل البلاد من يصلحون أساتذة لهذه المعاهد بمعاونة بعض زملائهم من مصر والعالم العربي. . ووظيفة هذه المعاهد هي تخريج أفواج من المدرسين المستعدين لأن يقوموا بدورهم بتدريس اللغة العربية في مدارس بلادهم. فأنا أعرف أن عقبة عدم وجود الكفاية من المدرسين عقبة حقيقة في طريق تقرير اللغة العربية في مدارس الباكستان بالذات، أو مدارس بعض ولاياتها الراغبة منذ اليوم في تقرير اللغة العربية
نعم إنني أعرف أن لمعالي الدكتور طه حسين باشا آراء قديمة تضمنها كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر) من شأنها أن تجعل اهتمامه بربط مصر بأمم البحر الأبيض أشد من ربطها بالبلاد الشرقية كباكستان وإندونيسيا؛ لأن الصلة التي تربطها بعقلية البحر الأبيض - على الرغم من اختلاف الأديان والمصالح القومية - أقوى من الصلة التي تربطها بعقلية هذا الشرق ولو أتحد الدين.
ولكن هذه الآراء قد كتبت منذ خمسة عشر عاما. وإني لأحسب أن أشياء كثيرة قد جدت في الأفق، وأن هذه الأشياء كفيلة بأن تبرز حقائق جديدة، وعناصر في الموقف جديدة، وأن هذا كله كفيل بتغيير رأي الدكتور طه باشا؛ لأن الحاجة الماسة إلى قيام كتلة إسلامية، وإلى وحدة العالم الإسلامي، ذات أثر حاسم في تقريب ما بين أجزاءه، وفي استكمال أسباب الوحدة العقلية التي كان يرى أنها غير متحققة إلا في دول البحر الأبيض.
إن دول البحر الأبيض اليوم تنقسم إلى معسكرين متعاديين متباغضين: معسكر المستعمرين، ومعسكر الشعوب التي تطالب بحرياتها. وسيظل كلاهما ينكر الآخر. وستظل العداوة والبغضاء قائمة بينهما أبدا؛ لأن مصالحهما متناقضة متعارضة.
وعلى الضد من ذلك موقف شعوب العالم الإسلامي كله. تلك الشعوب التي تجمعها
المصلحة القومية، وتجمعها روابط أخرى قوية؛ روابط تاريخية وجغرافية واقتصادية ودينية. ولا يبقى سوى رابط اللغة الذي يوحد بين شطري العالم الإسلامي التوحيد النهائي الأخير.
وعلى أية حال، فإن إنشاء معهد لتعليم اللغة العربية لجماعة المسلمين في باكستان أو في إندونيسيا لن يكون أقل ثمرة من إنشاء معهد يعلم اللغة لبضعة عشر نفرا من اليهود أو من المستعمرين الإنجليز!
إنني أهيب بوزارة المعارف المصرية أن تمنح هذه المسألة من العناية ما تستحقه؛ وإن كنت أحسب أنها مسألة تستحق عناية الدولة كلها. عناية جهازها الديبلوماسي في الخارجية، وجهازها العلمي في وزارة المعارف، وجهازها المالي في وزارة المالية. . كما أن أجهزتها الاقتصادية في وزارة التجاري ووزارة التموين ووزارة الاقتصاد الوطني ستجد حقولا خصبة وحقولا ضخمة لو شاءت أن تؤدي عملا ذا قيمة غير محدودة، عملا ذا أثر عميق في موقف العالم الدولي كله. وفي موقف قضايا الحرية في كل مكان
إن قيام الكتلة الإسلامية على أصولها الصحيحة هو الضمانة الأخيرة الباقية للعالم اليوم، لوقايته من حرب ثالثة مدمرة. أو هو على الأقل الضمانة الوثيقة لتحرير شعوب العالم الإسلامي من الاستعمار الغاشم الظالم.
وهكذا تدرك وزارة المعارف أنها حين تنهض بهذه المهمة فإنها لا تؤدي عملا ثقافيا مجردا، إنما هي كذلك تؤدي واجبا ضخما في عالم السياسة القومية والدولية، وفي عالم الحرية، وفي عالم التاريخ. . .
سيد قطب
القوة في نظر الإسلام
للأستاذ كامل السوافيري
طوى الزمن من حياة الرسول بمكة بعد الرسالة ثلاثة عشر عاما كانت صراعا دائما بين الحق والباطل وبين الإسلام والوثنية وبين محمد يظاهره القرآن وقريش تؤيدها الفرسان.
ونزلت الآيات القرآنية الكريمة تخاطب من القوم عقولهم وتزجي الحجج، وتسوق الأدلة فيصمون آذانهم عن سماع الحق ويغلقون قلوبهم من دونه، ولما أعجزهم المنطق، وغلبهم لاذوا إلى أسلحة البطش والعدوان يحاربون بها محمدا ويضيقونه منها ألوانا مختلفة. ولا يكتفون بحربه وحده بل يصبون غضبهم على المستضعفين من الموالي المسلمين، ليردوهم عن الإسلام. ويصبر الرسول على أذى قومه، ويتجلد المسلمون في سبيل دينهم حتى يأذن الله للغمة أن تنقشع، وللإسلام أن ينتشر، ولرسوله أن ينجو من المؤامرة فيأذن له بالهجرة إلى يثرب.
وتفيأ المسلمون ظلال الأمن في يثرب فأمنوا من بعد خوف، واشتدوا من بعد ضعف، وكثروا من بعد قلة، وسكنوا من بعد اضطراب. وأخذ النور الإلهي يسري في القلوب فيجذبها اليه، ويستهوي النفوس فيدفعها نحوه، وأخذت دعائم الإسلام تتوطد وأركانه تستقر، وشوكته تقوى، والمسلمون يزيد عددهم كل يوم يصبحون آلافا مؤلفة يقودهم محمد فيدخلون مكة عام الفتح، ويطهرون كعبة الله من ربقة الوثنية، ويعلن الرسول في تواضع عفوه عمن سقوه الأذى، وجرعوه العذاب؛ ويثوب الضالون إلى الرشد ويدخل الناس في دين الله أفواجا وتنضوي قريش تحت راية الإسلام.
ما أشد حاجة كل حق في هذه الدنيا إلى قوة تثبت أركانه وترفع سلطانه إذا عارضه المعارضون وتأباه المكابرون!
لم يكن الإسلام قبل الهجرة باطلا فأصبح بعدها حقا، ولم يكن محمد كاذبا حين أنذر عشيرته برسالته في مكة فغدا صادقا في يثرب، وما عهدت قريش عليه كذبا ولا خيانة حتى فبل أن يصطفيه ربه لرسالته فهو الموسوم في طفولته بالصادق الأمين الذي حفظه الله من دنس الجاهلية، وطهره من أوزارها. ولكن الإسلام في مكة كان حقا ضعيفا لا يستند إلى قوة تحميه، ومحافل تدافع عنه فأصبح في المدينة مؤيدا بالأسنة والرماح. دشتان بين الحق
يؤيده الفكر والبرهان، والحق يظاهره السيف والسنان.
من أجل هذا كان للقوة في نظر الإسلام الأهمية البالغة، والمكانة السامية. ومن أجل هذا فرض الله على المسلمين الجهاد إعلاء لكلمته، وتنفيذا لأحكامه وكتب عليهم القتال وهو كره لهم (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.) وأمرهم أن يكونوا أقوياء بأيمانهم وعقائدهم، وأجسامهم وجوارحهم، أشداء على الأعداء رحماء بينهم. غلاظا على الخصوم لينين مع إخوانهم (محمد والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)(وليجدوا فيكم غلظة).
وللقوة في كل زمان مظهر يتفق معه، ويتلاءم مع تطوره؛ فهي في فجر الإسلام رمح وسنان. وأبطال وهو الشجاعة والبطولة يرخصون نفوسهم في سبيل الله، ويجاهدون لإعلاء كلمته؛ ولكنها اليوم في القرن العشرين بندقية ومدفع ودبابات ومصفحات وطائرات وقاذفات. وغواصات وكاسحات وفرق مدربة في البر والبحر والهواء.
وقد طالب الإسلام أتباعه بأن يعتمدوا على أنفسهم بعد الله. وبع تنفيذ دستوره والعمل بأحكامه، وألا يأمنوا أعداءهم بل يحذروهم. وحتم الإسلام على أتباعه أن يكونوا دائما على استعداد لمنازلة الأعداء وأن يعدوا لهم كل ما يستطيعون من وسائل القوة ليرهبوهم (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) والاستطاعة أيضاً تتطور بتطور الزمن وتسير مع روح البصر الذي يعيش فيه المسلمون اليوم.
دعا الإسلام المسلمين للقوة، ونشأهم على العزة، ووعدهم بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وحارب الضعف والوهن (ولا تهدوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون والله معكم ولن يترككم أعمالكم) وقاوم الجمود الجسمي وحطم الإسار العقلي ليعلو سلطانه وتنتشر تعاليمه وليتم الله نوره ولو كره الكافرون
ولم يدع الإسلام المسلمين للقوة ليتخذوا منها ذريعة للبطش بالضعفاء، أو مهاجمة الشيوخ والأطفال والنساء. أو الاعتداء على المسالمين والأبرياء أو الإفساد في الأرض والتمرد على النظام بل ليفرضوا سلطان الحق على النفوس المتمردة والقلوب المتبلدة وقد علم الله
- جل شأنه - أن في عباده سباعا ضارية تلبس مسوح الرهبان، ووحوشا مفترسة على شكل الإنسان، ولا سبيل إلى إذعانها للحق، وردها للنظام إلا بكلمة في الصدر، أو ضربة في الرأس، أو طعنة بالسيف. وبعد فلا أخالني بحاجة للقول بأن من أهم أسباب تأخر المسلمين اليوم ضعفهم. والضعيف دائما فريسة سهلة للقوى في دنيا تسودها شريعة الغاب، وعالم بدين بأن الحق والعدل والضمير من أساطير الأولين. وضعف المسلمين اليوم معنوي ومادي؛ فالأول واضح في انقسام الرؤساء واختلاف الأحزاب، وتخاذل الحكام، وتفرق الكلمة، والثاني ظاهر في احتياج الجيوش الإسلامية للذخيرة والعتاد، وحاجة الإفطار الإسلامية والعربية لإنشاء مصانع للأسلحة المختلفة. والاتحاد قوة، وقد دعا الإسلام إليه: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا؛ والسلاح قوه وقد أمر الله به: وأعدوا لهم ما أستطعم من قوة. وقد رأينا باطلا يعلو لأنه مؤيد بالجيوش والأساطيل، وحقا ينهار لأنه ليس وراءه جنود ولا أساطيل على مرأى ومسمع من الصفوة المختارة من دول العالم المتمدن التي اجتمعت والتقت فيما يسمونه بمنظمة الأمم المتحدة في النصف الثاني من القرن العشرين
ففرض علينا نحن المسلمين التدريب العسكري والتربية الحربية التي تجعل من كل مسلم منا جنديا يعرف مكانه إذا هتف به الدين، ودعاه الوطن.
وحرب على الإسلام من يعارض إنشاء مصانع الذخيرة والأسلحة في أي قطر إسلامي أو بلد عربي. وخائن لوطنه من يعتمد في حماية الوطن على الأجنبي الغاصب الجاثم فوق الصدور استنادا إلى معاهدات أثيمة لا تساوى المداد الذي كتبت به. لقد بلغ من ضعفنا أن أصبحت الدولة الاستعمارية تتصرف في شؤوننا، وتقضي في أمورنا بما تريد دون أن تعنى باستطلاع آرائنا وكأن الشاعر العربي كان يعنينا حين قال
ويقضي الأمر حين تغيب تيم
…
ولا يستأذنون وهم شهود
فعلينا - أقطار العروبة الإسلام - أن نبني أنفسنا من جديد، وأن نستلهم روح العصر الذي نعيش فيه، وأن نغير من نظم التربية والتعليم لنجعلها اكثر ملاءمة لتطور العلم. وأن ننفض عنا غبار الحمول. ونسد نقصبنا ونستكمل أسباب قوتنا المادية ونصنع الأسلحة اللازمة لجيوشنا، أو نحصل عليها بأي طريق يمكن أن نتفاهم مع الاستعمار الذي لا يفهم
غير لغة القوة، ونؤدي رسالتنا الإنسانية السامية في تحقيق الحرية لكل شعب مقيد، ورفع الظلم عن كل مظلوم، والمحافظة على الأمن والسلام العالمي المهدد دائماً بمطلع الدول القوية.
إن العزة من صفات المسلم وخلال العربي، وإن تحقيق العزة اليوم للعرب والمسلمين إلا بالطائرات المختلفة في السماء، والجواري السابحات في الماء، والجحافل المدربة على الأرض ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
كامل السوافبري
الصلبة
فصل من كتاب (عرب الصحراء) لديكسون
ولد هـ. ر. ب. ديكسون الإنجليزي في بيروت سنة 1881 ونشأ في دمشق. ثم التحق بالسلك السياسي، فأصبح في الحرب العالمية الأولى ضابطاً سياسياً في جنوب العراق، ثم عين معتمدا سياسيا في البحرين ثم نقل إلى الكويت. وكتابه هذا في 684 صفحة وقد أثار ضجة في معظم البلاد العربية.
الصلبة تدل على جنس من الناس المفرد منهم صلبي؛ والجمع صليب بسكون الصاد.
ولقد طالما تناولت أقلام الكتاب بالحديث هذه القبيلة المنحطة، أو الجماعة بتعبير أدق، التي تسكن في القسم الشمالي من الصحراء العربية، في رقعة تقع على التقريب بين خطين يمتد أحدهما من الغرب إلى الشرق، ساراً بالمدينة فالرياض جنوبا والآخر من حلب إلى الموصل شمالا.
إن معاملة الناس لهم في الجنوب أكثر احتقارا، ونظرتهم لهم أشد ازدراء منها لهم في الشمال، كما أن مقتنياتهم الدنيوية في الجنوب أقل منها في الشمال.
إن كل قبيلة تسكن في المنطقة التي مر تحديدها، تضم في الواقع بينها جماعة من الصلبة تعيش بينها، وذلك لما لهؤلاء القوم من المنفعة الملموسة في إصلاح الأواني المنزلية وأدوات الطبخ، ولمهارتهم في الصيد والقيافة.
إن من أبرز خصائص الصلبة معرفتهم العجيبة؛ بمواقع الآبار الخفية في المناطق التي يسكنون فيها. ومن ثم فإنهم يتمتعون بتقدير القبائل التي تتولى حمايتهم لما لهذه المعرفة الكبرى في الحروب والمنفعة العظمى في الغزوات البعيدة المدى من أثر. ولهذا السبب فإن الغزاة يصطحبون معهم بصورة تكاد تكون مستمرة بعض الصلبة في غزواتهم.
وكذلك حاشية الشيخ لا تكاد تخلو من أحد الصيادين الصلبة ، لنفوقه عادة على غيره في معرفة مرائع الغزلان والنعام.
يقال إن الصلبة مسلمون، إلا أن من يؤدي فريضة الصلاة منهم كما يجب قليل جداً. ولعلنا لا نجانب الحق إذا قلنا إنهم لا دين لهم، اللهم إلا حين تقتضيهم المصلحة السياسية أن يتظاهروا بالتدين كما هي حالهم في نجد والكويت.
والرجال منهم على وجه العموم تعساء متملقون، يصطنعون في الخطاب أساليب العرب في تصغير الأسماء للتعزيز مع ضعة في الأخلاق.
وجمال وجوههم، رجالا ونساء، فوق المتوسط، ولا سيما نساؤهم اللواتي كثيراً ما نجد بينهم بعض الصبايا رائعات الجمال، إلا أن مظاهر المسغبة المألوفة فيهم تثير الاشمئزاز، وتؤيد مزاعم العرب القائلة بأن الصلبة يأكلون الفضلات وجيف الحيوانات التي يقعون عليها.
ويبدو من هيئة تقاطيعهم وجوههم أنهم غير عرب قطعاً، وليست لهم ما لهؤلاء من الخصائص السامية الثابتة.
وفي بعض المناطق التي تكون لهم فيها أحياء دائمة خارج أسوار المدينة كما هو الحال في الكويت والزبير، يظنهم الأوربيون بدواً، وهو خطأ فاحش يؤدي في بعض الأحيان إلى مواقف مربكة.
والعربي لا يستطيع أن يتخذ له زوجة من الصلبة؛ لأن أهله يقتلونه ويقتلونها معه إذا تزوجها؛ ومع ذلك فقد سمعت أن الأمير فواز أمير الدولة لم يتورع عن اصطحاب إحدى الصلبيات إلى الصحراء وأبقائها خليلة له. ولذلك أصبح اسمه لعنة على ألسنة الطيبين من البدو.
إن لأغلب الأحياء الصلبية رؤساء، ولكن عددهم عندما يكون كبيرا بين القبائل الكبرى في الجزيرة يكون لهم من أنفسهم شيوخ، ويملك بعض هؤلاء الشيوخ قطعانا كبيرة من الإبل، ويتمتعون باحترام عظيم: مثال ذلك أن.
الشيخ حمد بن شنوط هو شيخ صلبة المطير؛ والشيخ مطلج الصافي هو شيخ صلبة شمر؛ والشيخ محمد بن جلاد هو شيخ صلبة العمارات؛ والشيخ معيئف هو شيخ صلبة الرولة.
والصلبيات لا يتحجبن، ويندر بينهن من يغطين الجزء الأسفل من وجوههن بالملفع، وبهذا تسهل معرفتهن في نجد لأول وهلة والصلبة شديدو الولع بالرقص، ولذلك فأول ما يبادرون إلى القيام به أيام الأعياد والأعراس هو إعداد حفلات الرقص التي يشترك فيها الرجال والنساء يرقصون معا (وهو أمر مهين جدا ومعيب عند العرب) حيث يقبل الرجال النساء في أفواههن ما بين حين وحين أمام المشاهدين.
وللصلبة في الأعياد والحفلات وما أشبه تقليد غريب هو نصب صليب مؤلف من قطعتي
خشب مربوطتين معا على هيئة شعار المسيحيين. ويمكن اعتباره شعارهم أو لواءهم القبلي.
يقول العارفون من العرب أمثال الشيخ عبد الله السالم الصباح (حاكم الكويت)، أبن عم (المرحوم) شيخ الكويت، وهم واثقون تمام الثقة بأن الصلبة من أحفاد ذلك العدد العظيم من اتباع المعسكرات الصليبية الذين أسروا أثناء الحرب بين الصليبين والعرب. فقد زج بأعداد ضخمة من هؤلاء الأتباع في المعارك الكبرى التي دارت الدائرة فيها على الصليبين، فاسترقهم عرب الصحراء. وإن الصلبة المعاصرين هم حفدة أولئك الصليبين. ويورد الشيح عبد الله الأدلة التالية تأييدا لرأيه:
1 -
كون الصليب هو شعار الصلبة
2 -
أن صيغة الجمع من أسمهم هي (صليب) وهي في غاية الوضوح نقس الاسم العربي للصليب المسيحي، وكلمة (صليب) ليست سوى تصغير للصليب ليس إلا.
ولعل هناك ما يؤيد هذه النظرية، ولكن قد يكون من الخطأ تكوين رأي حاسم قبل الحصول على الحقائق اللازمة عن هؤلاء الناس الذين يثيرون اهتمام الباحثين، وخاصة قبل الحصول على مقاييسهم الجسدية بصورة واسعة.
وتتهم الصلبيات بالقدرة على الإصابة بالعين؛ وبمعرفة خاصة بتحضير السموم، وإعداد جرعات الحب (سقوة) لمن يريدها؛ وفوق ذلك كله بالمهارة في السحر.
ولعل التهمة الأولى راجعة لكون كثير من شباب البدو قد فقدوا عقولهم في سبيل الحسان الصلبيات، فاضطروا إلى الهرب من قبائلهم. أما التهمتان الثانية والثالثة فلعل لهما نصيب من الصحة؛ فمن الثابت أن الصلبيات يدعين القدرة على إيقاع الإنسان في الحب، كما يدعين الكهانة. ومن ناحية أخرى فإنهن أهداف سهلة للعامة من الناس، فإذا أصيب أحد المشهورين بمكروه (فلا بد أن تكون صلبية قد أصابته بسحرها!)
يجب التفريق بين الكواولة أو الغجر الذين يجدهم المرء في جميع أنحاء العراق وعلى حدوده، والذين هم، كما أرى دون شك، من الغجر الرومانيين في أوربا وإنجلترا. إنهم يشبهون البدو في ملابسهم، ويعيشون في خيام صغيرة سوداء، ويتنقلون هنا وهناك على ظهور الحمير التي ليس لديهم سواها كما يبدو. وكواولة العراق لصوص، أشرار، عرافون،
مهرة في قراءة الكف، وأخيرا وليس أخرا، كثرة الطلب عليهم للقيام بعملية ختان الفتيات، تلك العادة الشائعة في جنوب العراق، وبين قبائل المنتفك في الفرات وقبائل بني لام.
رقص الصلبة
أقيم الاحتفال في مخيم الصلبة على مقربة من قصر نايف خارج بوابة نايف مباشرة، ابتهاجا بختان أحد الأطفال. وأستمر ثلاثة أيام، مر اليومان الأولان منهما وهذا هو الثالث، وهو أحسنها وأعظمها.
كان الصليب المألوف في مكانه فوق خيمة الفرح يتدلى من فوقه نصف ثوب نسائي، إشعارا للناس بالحفلة.
ودخل رئيس الراقصين ومدير الحفلات أيضاً - وهو رجل كبير السن كان قد ختن طفله منذ أيام قليلة - حلقة الرقص المؤلفة من الصلبة، رجالا ونساء، ومن بعض المشاهدين الآخرين، يلوح بالسيف فوق رأسه، ويدعو فتيات الصلبة وفتيانها الأشداء لمصاحبته. وبعد أن دار حول الحلقة البشرية عدة مرات، حدثت حركة في إحدى الخيام المجاورة ثم اندفعت منها إحدى الحسان، وقد ارتدت ثياب العيد (زعفرانية اللون أو بنفسجيته يغطيها ثوب من الشاش) إلى حلقة الرقص، حاسرة الرأس، سافرة الوجه، محلولة الشعر، يتلاعب النسيم بشعرها. لقد كان منظرا في الحق رائعا. فقد كان شعرها طويلا غزيرا، ووجهها جميلا، وعلى ذقنها ورقبتها أشكال جميلة من الوشم. كان ظهور الفتاة دعوة لأخيها أو زوجها بالإسراع إلى الحلقة، ليحتضنها ويقبلها بلطف على شفتيها (تشجيعا ولا ريب). ثم أعطيت الفتاة خيزرانة، وابتدأ الرجل يرقص أمامها وهو (ينتخي) مقتربا منها حيناً، مبتعدا عنها حينا آخر، ولكنه ظل يواجهها في جميع الحالات. ولما ابتدأ الرقص، ابتدأ فريق المغنيات المؤلف من اثنتي عشرة صلبية في الإنشاد بصوت متقطع حاد وهن يصفقن بأيدهن.
واستمر الرقص، وأنظم إلى الحلقة شبان وفتيات آخرون رقصوا على الصورة السالفة الذكر. وكان يحدث أحيانا أن تضم الحلقة عددا من الراقصين والراقصات، يرقصون معا في وقت واحد. لم يكن في سلوك الراقصين ما يجانب الحشمة اللهم إلا ما بدا من شيخهم حينما أخذ يرقص بالسيف خلف صاحبته بصورة مثيرة، مرة أو مرتين، كان هذا العمل منه هو المخالفة الوحيدة في الحفلة للحشمة.
كان بين الحسان الثمان أو التسع اللواتي رقصن من تميزن بالجمال، ولاسيما اثنتان منهن كان لهن شعر أحمر ذهبي، يشع في ضوء الشمس بصورة تلفت الأنظار، لطول ما عولج بالحناء. وكان رئيس الحفلة الفظ يهتف بين الراقصات قائلا: يا عوبل! يا عوبل! (تعالوا وارقصوا) ويلوح أن الفتاة كانت ترقص على المنوال التالي: كانت تتبع فتاها مواجهة له محاولة إغراءه بالاقتراب منها، فإذا استجاب لسحرها في النهاية، وانقلب من تراجعه الأول في القيام بدور المحب الخجول، إلى التقدم نحوها والتعبير عن إعجابه بجمالها في كل حركة من حركاته، بدأت في التراجع، بعد أن حققت غرضها. فإذا اقترب منها أكثر مما يجب، أو حاول مسها، ضربته بخيزرانتها بلطف، واضطرته إلى التراجع.
وكان صاحب السيف يرقص أحيانا على هذه الرجل وأحيانا على تلك، ثم يأخذ فجأة في الرقص على القدمين معا بصورة مطاطة. وكانت الفتاة ترقص كما ترقص البدويات على باطن قدميها وتنش (تقفز) ثم تعود إلى حالها الأول بأرجل قوية. وتتقدم وتتأخر أمام فتاها. وكانت تقلع (تهز رقبتها) بخفة على وقع أقدامها باتجاه رفيقها. ولكنها كانت تغير حركتها بتلويح ظفائرها حول رأسها بحركة جانبية أو مستديرة من رأسها. لم تبتسم خلال الرقص مطلقا، بل أبقت شفتيها مطبقتين تماما. وكانت تضع يدها أحيانا على فمها أو أنفها. فإذا اقترب رفيقها منها بصورة (فاضحة) كما حدث ذلك فعلا عدة مرات، ضربته بلطف بخيزرانتها كأنما تصده عن نفسها. وكانت ميزاتها الخاصة هي أنها صبغت شفتيها بالحمرة، وعلا مفرقها خط زعفراني عرضه نصف بوصة. وكان لجميع الفتيات مثل هذا الخط الذي كان يبدو كدهان من الزعفران (ولعله محلول قوى من الحناء). وقد انتهى الرقص حينما أسرع أخو الفتاة إلى الحلقة فغطى وجهها ورأسها بجزء من ثوبها الشاش ثم ذهب بها. . .
(صوت البحرين)
ع. ت
3 - المستقبل وأسرار الوجود
للأديب عبد الجليل سيد حسن
(تتمة)
نحن والمستقبل:
قلنا إن الوجود مستقبل نسج وهو الماضي، ومستقبل ينسج وهو الحاضر، ومستقبل سينسج وهو (المستقبل) ونريد الآن أن ننظر في هذا التيار المتصل من الوجود:(1) هل هو منفصل بعضه عن بعض، بمعنى أن الذي سبق منه لا تأثير له فيما يليه؟ (2) وإلى أي حد يتأثر وجودنا وتتلون نظرتنا للحياة بمقدار هذه الأوجه الثلاثة للوجود!
أولا: مشكلة تأثير السابق في اللاحق تشمل الحديث عن -: السبب والمسبب. وعن: تأثير الماضي في الحاضر. أما عن الأمر الأول فقد تحدثنا عنه. وأما عن الأمر الثاني: فنحن نعرف أن تكويننا الجسمي والعقلي لم يتكون ولم ينم إلا في الماضي - أو المستقبل الذي نسج - بمعنى أن الماضي يدخل في بناء شخصيتنا، أو أن شخصيتنا بناء على تجارب الماضي قد صيغت. وهذه الشخصية هي التي تملي علينا اتجاهاتنا الحاضرة، وهي التي تلزمنا أن نتجه هذا الاتجاه دون سواه، ونتخذ هذه الخطة ونرفض تلك، ونختار ما يلائم شخصيتنا ويناسب مزاجنا الذي خلقته التجارب الماضية. فالماضي غير منقطع الصلة بالحاضر، وهو لا يؤثر فيه فقط، بل هو الذي يصوغه ويشكله ويوجهه. ويعين الماضي على ذلك، اللاشعور بأنواعه، من اللاشعور الجنسي أو الجمعي الذي هو عبارة عن خصائص الجماعة الإنسانية ومميزات الجنس البشري ومجموعة التجارب والخبرات التي اكتسبها أسلافنا والتي ورثناها عن أجدادنا الأولين، فهناك صفات عامة يشترك فيها النوع الإنساني، كالاستعداد للتثقيف والتعليم والتهذيب، تنتقل من جيل إلى جيل - وكل جيل يضيف إليها قليلا من التطور - كامنة في أعماق اللاشعور. وليس هذا تأثير الماضي القريب في الحاضر، بل تأثير الماضي السحيق الذي يعد بآلاف السنين في هذا الحاضر. وهناك اللاشعور الفردي الذي يختص بفرد دون آخر، ويلون حياته بلون خاص. وأيضا فالذاكرة هي التي تجعلنا واعين لتجارب الماضي، مستفيدين منها في الحاضر. وهذا إجمال
لهذا الموضوع يحتاج إلى تفصيل كبير، فالماضي مستقبل نسج وعلى غراره ينسج الحاضر
أما تأثرنا أفرادا وجماعات بأوجه الوجود الثلاثة، فهناك أمر من الوضوح بمكان كبير. فالمشاهد أن كل الناس يسيطر على تفكيرهم شيء معين فيوجههم وجهات مخصوصة، ويجعلهم ينتحون نواحي خاصة. فبعض الناس يغلب على طبعهم حب المغامرة والمخاطرة، فترى حياتهم مصبوغة بهذه الصيغة؛ وبعضهم يميلون إلى الحذر والانكماش على أنفسهم. فتصطبغ حياتهم بلون من الكسل والجمود والجبن. والسبب الذي فرق بين اتجاهات الناس وجعلهم يسلكون ما يسلكون هو انطباع شخصياتهم بطابع من أوجه الزمن الثلاثة، فنجد بعض الناس يحنون دائما إلى الماضي ويعيشون عليه، وبعضهم لا يهتم إلا بالحاضر ولا ينظر إلى ما دونه. وبعضهم ينظر إلى المستقبل ويرى سعادته في طيا ته. وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم الناس إلى ثلاثة أنماط مختلفة، لكل منها خصائصه ومميزاته. وهذا تخطيط أولى لهذه الأنماط:
1 -
منطوون:
وهم الذين يوجهون اهتمامهم وانتباههم نحو الماضي، يرقعون مهلهله، ويزخرفون سيئه، ويبالغون في حسناته، ويكبرون من أمره، ويلهجون بذكره، مقرونا بالثناء والإجلال. مطابعهم الحسرة على ما فات، وإفراده وحده بالتعظيم، والانتقاص من الحاضر ورميه بالقصور والضعف (قلة الخير) أما الخير كل الخير والبركة كل البركة. ففي أيام (زمان) أيام العز والبلهنية، أيام كانت الدنيا دنيا والناس ناسا. وهذا الطابع هو طابع الشرق الذي لا تجيده إلا قيثارته؛ وسبب هذا الاتجاه الذي تمثله الحركات الرجعية والنظم المحافظة - ونحن نعلم ما لهذه النظم من خطر في شئون الحياة السياسية والدينية والفكرة - أمور منها:
أ - حب الحياة الذي يدفع بالناس إلى الكسل والجمود، ينأى بهم عن المخاطرة والمجازفة؛ والطبيعة التي تجعل الناس يتشبثون بالحياة على أية صورة كانت من عذاب مهين وبؤس مرير، فالناس لا يحبون أن يتخلصوا من الحياة بسهولة، حتى ولو كانت مملوءة بالذل، فهذا الحب للحياة على أية صورة، هو الذي يدفع بالناس إلى مقت التغيير خوفا على حياتهم الراهنة، وهذا يؤدي إلى الحنين إلى الماضي.
ب - الرغبة المستترة في أعماق النفوس التي تدفع الإنسان إلى الفخر، والبحث عن التقدير والإحساس بالاعتبار وأن له أهمية في هذا الوجود. فالإنسان إذا فقد التقدير الذي يريده في الحاضر فلا ضير عليه أن ينسبه إلى نفسه أو إلى أجداده في الماضي. والماضي قد مضى وأندثر، فمن السهل إدخال الزيادة والنقصان عليه، ولفه في إطار جميل معجب.
جـ - سنة الحياة التي تتدرج بالإنسان من طفولة لاهية مرحة، إلى شيخوخة عاجزة عابثة، فالحياة تتدرج من سهل لين خال من المسؤلية، إلى جهم مثقل بها. فالإنسان يجب أن ينطوي على نفسه ليجتر الأيام الخالية اللاهية.
د - طبيعة الخيال الإنساني الذي يفتن ضمن ما يفتن في رسم صور الماضي زاهية يعكس عليها رغبات الإنسان وآماله التي تنقصه في عالم الحقيقة. والخيال من طبيعته التكبير والتهويل، فالرجل الطيب قديس، والملك العادل أبن الله، والفارس الشجاع بطل مغوار ومحارب قهار. يفتح المدن وحده والديار. وهكذا. . وأمامك من ذلك آلاف الأمثلة؛ فمن هو عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي؟ ألم يكونا بطلين شجاعين عاديين؟ ولكن انظر ماذا جعلت منهما الأساطير في أذهان المنطوين. وما حقيقة الأولياء والقديسين؟ ألم يكونا إلا بشرا مثلنا؟ ولكنهم بالغوا في التقوى، وأتوا قوة مهما تبدو خارقة معجزة. فهي لا تؤهلهم بحق للمكانة التي يحتلونها في صدور مقدسيهم الذين ينسبون إليهم من الأعمال كل جليل، حتى أنهم قد يؤلهونهم! وما هي حقيقة أكثر الآلهة القديمة؟ ألم تكن إلا أرواح الأسلاف والأجداد عبدها أبناؤهم في صورة آلهة، كما يقرر أكثر علماء الاجتماع
2 -
انتهازيون
وهؤلاء انكبوا على الحاضر وحده، فلم يلتفتوا إلى الوراء، ولم ينظروا إلى الأمام، بل هم أبناء وقتهم. وشعارهم ما مضى فات والمغيب أمر، ولك الساعة التي أنت فيها فإطفاء نار شهواتهم مقصدهم، وأخذهم من اللذة ولو على أي نحو وبأي سبيل أو في نصيب ومن الألم أقل قدر غايتهم وأمنيتهم. وضيق الأفق وبلادة الحس وعدم تقدير الوجود صفاتهم.
3 -
منفتحون
وهم هؤلاء الذين يسيطر عليهم الشعور بالمستقبل، فهم يعلقون عليه آمالهم، ويطيلون النظر
إليه كأن فيه خلاصهم ونجاتهم؛ أو على الأقل ينظرون إليه كعزاء لهم. وهؤلاء يحسون بأن الحياة في التغير والحركة، س والموت في الثبات والجمود؛ فهم يحبون المغامرة والمخاطرة ويميلون إلى المقامرة، وهؤلاء هم الطامحون أصحاب المثل العليا وذوو القلوب الكبيرة والآمال العريضة والهمم العالية، منهم العلماء والرواد والمخترعون والمكتشفون والمصلحون وأصحاب المبادئ والمذاهب الذين ينظرون دوما إلى الأمام، ويرون في المستقبل الخلاص والنجاة. وهذا الاهتمام بالمستقبل، والتعلق بالمثل العليا هو علة التقدم والدافع الوحيد إلى الرقي، فلو لم يكن لكل إنسان أمل يجهد لتحقيقه، وغاية ما يسعى إليها، وهدف من الحياة يقصده ويلد له العذاب في سبيله، لما وجدت الدنيا، ولا وجد الناس في الحياة طعما، ولا من سبب يقهرهم على أن يعيشوا. ولو وجدوا الحياة مترعة بالآلام، وإلا فلماذا إذن يعيشون؟ ولماذا لا يتخلصون من هذه الحياة المزعجة القاسية المؤلمة بأنفسهم؟ شيء واحد هو الذي يجعلهم لا يقدمون على ذلك: أنه الأمل على شتى ألوانه من أدناها إلى أسماها؛ فبعضهم همه لقمه سائغة ووجه مليح وملبس جميل وبعضهم همه هم الإنسانية يريد سعادتها. وبعضهم همه الذي يؤرقه أن يتشبث بمركبة الخلود إن لم يستطع أن يقفز في قلبها. فالأمل وإن كان سرابا، والأماني وإن كانت خداعا، تفيد الإنسانية وتدفع الناس إلى التضحية واستعذاب الموت، فالجندي يستشهد راضيا في سبيل وهم إسعاد وطنه، والمؤمن في سبيل إرضاء ربه. وعلى قدر الآمال والعمل على نيلها يكون حظ الأمة من الحياة والرقي.
وهذا الصنف المستقبلي غير مقطوع الصلة بالماضي، فإنه كثيرا ما ينعم النظر في الماضي والحاضر وهذا التلفت الدائم إلى الماضي هو الذي يجعله يضع أمله في المستقبل ويتطلع إليه على إنه طريق الخلاص. فالرجل الذي يشعر بالخطيئة الماضية يظل ندمان أسفا، ولكنه يرجو النجاة والخلاص في المستقبل. والإنسان الذي مسه الضر ولحقه الفشل بأمل الفلاح والتوفيق في المستقبل، وتكاد تكون فكرة التأرجح بين الماضي البعيد والقريب، والمستقبل البعيد والقريب كذلك، هي التي أوجدت الأديان عامة وخلقتها وجعلت لها مكانا في الوجود، أو على الأقل هي العمد الأولى التي ترتكز عليها الأديان، ولولاها لما كان هناك شيء اسمه الدين؛ فنحن إذا أخذنا ننظر في نشأة المسيحية مثلا: وجدنا السبب في
وجودها وقت توتر، جعل أنظار الناس تتطلع إلى المستقبل وهي يائسة حائرة متلهفة مترقبة تبحث عن مخلص يخرج من بينهم، فيفتح لهم باب الرحمة في السماء، وباب النعمة في الأرض.
. . . يفتح باب الرحمة بأن يطهرهم من أدناسهم وأرجا سهم برسالته النبوية. . ويفتح باب النعمة بأن ينشر الأمن في ربوع أرض يهوذا، ويعلى ألوية بني إسرائيل، ويخلصهم من هذا العذاب الروماني المتلاحق. وحين مولد المسيح عليه السلام كانت القلوب قد بلغت الحناجر، ولم يعد في القوس منزع. وترقب اليهود ظهور المخلص على أحر من الجمر، واعتقدوا أنهم لن يموتوا حتى يروه يخلصهم وينشر الأمن على أرض يهوذا. وكثرت النبوءات عن ظهوره، وبشر به الشيخ المهيب الذي يعمد الناس في نهر الأردن وهو يوحنا المعمدان. وما أن ظهر عيسى حتى تلقت به الأنظار وكان ما كان من أمره. وكذلك وجدت فكرة المخلص في الإسلام، ولعبت دوراها ما في التاريخ والتفكير الإسلامي. وقد ظهرت تحت أسم المهدي والإمام القائم الذي يعلمه جبريل عليه السلام، وإذا مات بدل غيره والذي لابد أن يحكم يوما ما ويملأ الدنيا عدلا بعد أن ملئت جورا.
وفكرة الخلاص والمخلص ظهرت في حقب مختلفة تحت أسماء مختلفة من إسماعيلية وقرامطة وسنوسية ووهابية، وحديثنا البابية والبهائية ومهدي السودان.
ونجد كذلك أن الناس لا يقف تأثير المستقبل فيهم عند الحد الذي يجعلهم ينتظرون الخلاص فيه في الدنيا، بل تعداها إلى الآخرة. فالمستقبل هو الذي جعل الفقراء يتعزون عن البؤس الذي هم فيه باليوم الآخر حيث يجزون على النصب والشقاء في هذه الدنيا حنة عدن ونهر عند مليك مقتدر، إذ أن الله بعدله لن يذيق الإنسان الشقاء مرتين: شقاء في الدنيا، وشقاء في الآخرة. ولا النعيم مرتين: نعيما في الدنيا ونعيما في الآخرة. وهكذا نرى خطر هذا التأثير في الدين وبالتالي في المجتمع
وقد رأينا كيف تتشكل حياة الناس أفراد وجماعات بأوجه الزمن الثلاثة. وقد كنا نود أن نحدثك عن هذا التشكيل للحياة في الدول الكبرى وكيف تسير سياستها على هذا الأساس؛ فأمريكا مثلا تسيرها سياسة الاهتمام بالحاضر والمستقبل، وبريطانيا يسيطر على سياستها التوازن بين الماضي (حزب المحافظين) والمستقبل (الأحرار) فأما نحن فأرجو أن نكون قد
بدأنا نتجرد من تفاخر العاجز وتعزى الناقص بماضيه الوضاء ولكن نترك ذلك إلى فرصة أخرى
عبد الجليل السير حسن
من حروب التحرير:
تحرير سرقوسة
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
(إلى تلك السيدة الجليلة التي تقدمت تريد التطوع في صفوف المجاهدين وقدمت أبناءها الأربعة للذود عن حياض مصر، وإلى كل امرأة مجاهدة في سبيل مصر، أقدم هذه الصفحة الخالدة.)
ع. ع
عندما بلغ (نابليون) أوج عظمته، وأرتفع إلى مصاف الأباطرة ووصلت فرنسا إلى ذروة المجد، كان قد وصل (شارل الرابع) ملك إسبانيا إلى درجة كبيرة من الضعف والتخاذل، ولم يكن أبنه (فرديناند) أحسن منه حالا، فقد كان متسما بالضعف والتخاذل وقلة الحيلة. فأراد نابليون أن يولي على إسبانيا أخاه (جوزيف) وكان الفربيون يحتلون إسبانيا في ذلك الوقت، فخلع (شارل) وأجلس أخاه مكانه بغير رغبة أهل البلاد وتحت ضغط السيطرة والقوة
ولكن الإسبانيين اللذين كان يغلى مرجل الغضب في نفوسهم على الغاصب المحتل ولا يجدون من يرفع الغطاء لينفجر المرجل في وجوه المستعمرين، فكان خلع (شارل) وتولية (جوز يف) بمثابة رفع الصمام، فهب الشعب الإسباني يذود عن كرامته، وهب معه النبلاء والأمراء، برغم معارضتهم لسياسة (شارل)، وصمم الجميع على الدفاع عن بلادهم والموت في سبيل استقلالهم، غير عابثين لما للعدو من عدة وعدد، فثار ثائر الفرنسيين وأرادوا سحق هذا الشعب الذي تجرأ على عصيان نابليون العظيم.
وتجمع في مدينة (سرقوسة) بعض الضباط والجنود من أبناء المدينة وصمموا على ملاقاة العدو والدفاع عن كل شبر من إسبانيا مادام فيهم دم يجري. ومع أن مدينة (سرقوسة) ليست من المناعة بحيث تستطيع الوقوف في وجه جيوش نابليون التي حطمت كل ما صادفها من حصون ومعاقل، فإن أهلها أخذوا يعدونها للمقاومة والصمود في وجه العدو بهمة لا تعرف الكال
كانت المدينة ذات أبنية عادية ضيقة الشوارع ملتوية الطرقات ليس بها إلا بعض الميادين الواسعة نسبيا، وكان يحيط بها سور من الحجر لا يزيد ارتفاعه على ثلاثة أمتار، فكان من السهل أن يقتحمه الجنود بأقل جهد.
وحاصر الفرنسيون المدينة وظنوا أن دخولها لا يتطلب جهدا ولا مشقة وأنهم يعتبرون أنفسهم في نزهة. وفي يوم 14 يونيو سنة 1808م اندفعت فرقة من الفرق الفرنسية نحو المدينة وانقضوا عليها انقضاض الصواعق، ولكن المدافعين عن المدينة تصدوا لهم وأصلوهم نارا حامية وأجبروهم على التقهقر.
ورجح الفرنسيون يأكل صدورهم الحقد ويكاد يقتلهم الغيظ فقضوا الوقت كله في التأهب والاستعداد، حتى إذا كان اليوم التالي هاجموا المدينة بقوة وحنق، سالكين بابا من أبواب السور المسمى بباب بورتيلو، وأخذوا يلقون بأنفسهم في المعركة، ولكن المعركة انجلت عن هزيمة الفرنسيين وفوز السرقوسيين مما ضاعف حماسهم وقوى روحهم وبعث فيهم الثقة بأنفسهم فصمموا على الدفاع حتى آخر واحد منهم.
وخرج الرهبان من أديرتهم والقسس من بيعهم ولبسوا ملابس الجندية ليشاركوا أبناء وطنهم الجهاد وقسم النساء أنفسهن أقساما كل منها يقوم بعمل خاص، من حمل الجرحى ونقل المؤن والذخائر للجنود. ولم تتخلف واحدة منهن عن القيام بواجبها وأصبح كل فرد في سرقوسة جنديا يحمل السلاح.
وفي ليلة 28 يونيو بينما كان كل مواطن آخذا مكانه المعد له إذا بانفجار شديد يدوي وسط المدينة، فهب الناس مذعورين لهذا الحدث المروع الذي أخذهم على غرة، فقد استطاع الفرنسيون أن يتسلل جواسيسهم داخل المدينة فيفجروا مخزنا للذخيرة، وهي العلامة المتفق عليها لبدء الهجوم.
وهب الجنود مسرعين إلى سلاحهم وأضطر المواطنون أن يسارعوا إلى نجدتهم وأن يتركوا جثث الضحايا تحت الأنقاض والمجروحين بغير إسعاف
وأشتد الهجوم وحمى وطيس القتال، وبلغ الهول منتهاه وتساقط المدافعون واحدا إثر واحد عند أحد الأبواب، وعندما سقط آخر جندي وأصبح المكان خاليا وعرضة لأن يندفع منه المهاجمون، كانت هناك امرأة تسعى إلى هذه المنطقة الخطرة غير آبهة بما حولها، لتقوم
بواجبها، وإذا بها ترى المدافع بغير جنود وهناك في مكان قريب جماعة يستعدون للفرار، ورأت العدو يقبل كالسيل المنهمر، فأسرعت إلى أكبر المدافع وانتزعت أدوات الإشعال من الجندي القتيل خلف المدفع وأشعلته وآلت على نفسها ألا تترك مكانها حتى الموت واستمرت في إطلاق النار. ولما رأى الجنود الآخرون ما فعلته هذه المرأة، عادوا إلى أماكنهم وأخذوا يطلقون النار على العدو وانضم إليهم بعض الضباط.
كان القتال شديدا جدا والمقاتلون يتساقطون من الفريقين من حول هذه المرأة (أوجستينا) وهي صامدة في مكانها توالى إطلاق النار وتحث الجنود على الثبات وتبعث في نفوسهم القوة والعزيمة، وهكذا ظلت تمثل أعظم أنواع البطولة النسوية، حتى تراجع المهاجمون خائبين.
وبعد أيام من هذه المعركة وكان كثير من النساء قد احتللن أماكن الجنود الذين قتلوا، وكن أشد تحمسا من الرجال، هب الفرنسيون يملأهم الغيظ والحنق، وعلى غرة اقتحموا أحد أبواب المدينة وكانوا كلما وقع في أيديهم شيء أحرقوه فأحرقوا مستشفى وديرا مليئا بالجرحى. وأرسل قائد الحملة الفرنسية إلى حاكم سرقوسة كتابا يطلب منه التسليم أو إحراق المدينة كلها، فلما شاور الحاكم المواطنين هبت أوجستينا حانقة وهي تقول:(لا، لن نسلم للعدو حتى نهلك جميعا) وأمن الجميع على قولها
فكتب الحاكم إلى قائد الفرنسيين يقول له: (ستظل الحرب بيننا حتى تصير بالمذى). فاهتاج الفرنسيون وأخذ القتال شكلا وحشيا مروعا، فقد كان ينتقل من طريق إلى طريق ومن بيت إلى بيت بل ومن غرفة إلى غرفة، واشتد الأمر وتكاثر القتلى، ولكن كل ذلك لم يفت في عضد المواطنين اللذين صمدوا للعدو صمود الأبطال.
وأخيرا وصلت إلى سرقوسة نجدات قوية، أنزلت الرعب والفزع في قلوب الفرنسيين فاضطروا إلى الانسحاب بعد قتال دام أربعة أيام وبعد حصار دام خمسين يوما.
أما أوجستينا فقد انتشرت أنباء بطولتها بين الناس فتوافدوا يكللون جبينها بأكاليل المجد والشرف، وخلدها الشعراء وعلى رأسهم الشاعر الإنكليزي العظيم (لورد بيرن) بأبيات في غاية الروعة ستظل أنشودة المجد إلى الأبد.
هذه هي أوجستينا التي بلغت قمة المجد رغم أنها من طبقة فقيرة. وكم من النساء خلدهن
التاريخ لمواقفهن الوطنية الرائعة؛ ونساء مصر لسن أقل من غيرهن شجاعة وقوة، وهاهي بوادر هذه الوطنية تظهر في صورة هذه المرأة الخالدة
عبد الموجود عبد الحافظ
رسالة الشعر
على أطلال الكفر المنقص:
إلى الغزاة الهاربين
للأستاذ محمود غنيم
يا أمة المنش يهني جيشك الظفر
…
أبطال (دنكرك) في مصر قد انتصروا
أبطال (دنكرك) خاضوا الحرب طاحنة
…
في (كفر أحمد) لا جبن ولا خور
سلوا السلاح على من لا سلاح له
…
وحاصروا بلدا لم يأوه بشر
ودمروه فحرت - وهي معولة -
…
عروشه وتداعت خلفها الجدر
كادت تضج بأيدهم معاولهم
…
وكاد يلعنهم إذ يسقط الحجر
فيم المدافع كالأبراج جاثية
…
يطير كالبرق من أفواهها الشرر؟
فيم القذائف فوق الحي حامية
…
من حالق الجولا تبقى ولا تذر؟
فيم الحديد وفيم النار حامية
…
كأنما فتحت أبوابها سقر؟
ما جرد الخصم غير الحق في يده
…
والحق يمضي وينبو الصارم الذكر
لم تحجبوا الشمس بالأسراب طائرة
…
لكن من الخزى وجه الشمس يستتر
ما كلل الناس يوم النصر هامكمو
…
بالغار لكنهم من نصركم سخروا
لهفي على بلد تاهت معالمه
…
أطفاله كالذبى في البيد تنتشر
باتت حيارى بلا مأوى جرائره
…
لا سقف إلا الرياح الهوج والمطر
من كل هيفاء كان الخدر يحجبها
…
إن أسفر النجم في الظلماء والقمر
بم تساوى بسطح الأرض شاهقة
…
قد صوخ النبت فيه واختفى الشجر
كأنما القوم لم يغشوا مغانيه
…
يوما ولا حرثوا فيه ولا بذروا
كأنه ما رأى وجه النهار ولا
…
أحيا لياليه أنس ولا سمر
ولا أوت دوره أهلا ولا عمرت
…
يوما مساجده الآيات والسور
إن الآلي في الحروب (الريخ) ما كسبوا
…
حربا بمصر استردوا بعض ما خسروا
شعب يسوق شعوب الأرض قاطبة
…
إلى الوغى وهو خلف الباب ينتظر
تخفى عساكره في الحرب إن نشبت
…
حتى إذا قسمت أسلابها ظهروا
أقسمت ما كسبوا في (كفر أحمد) من
…
نصر ولا العزل من سكانه اندحروا
لكنهم حفروا قبرا لدولتهم
…
في مصر فليسكنوا القبر الذي حفروا
لم يهدموا قرية عزلاء بل هدموا
…
ركن السلام بأيديهم وما شعروا
سل الحماة حماة الأمن هل سمعوا
…
بمصر أو عندهم عن أهلهم خبر؟
الأمن شاك جريح سائل دمه
…
ومجلس الأمن لا سمع ولا بصر
يا قوم طال (بلك سكسس) نومكمو
…
وبالكنانة نار الحرب تستعر
صونوا الحضارة من أيد تعبث بها
…
وأدركوا الأمن إن الأمن يحتضر
لا تلزموا الصمت والذؤبان عابثة
…
بالشاء فالصمت فيه يكمن الخطر
عاش ابن آدم عيش الغاب تحكمه
…
شريعة قاضياها الناب والظفر
محمود غنيم
من الشعر الواقعي:
ليلة
للأستاذ عثمان حلمي
لا يومها يومي ولا غدها غدي
…
ما منته سئم الحياة كمبتدئ
وعجبت من قلبي ومن نزواته
…
ومتى يتوب عن الضلال ويهتدي
أفبعد هذا العمر لوعة وامق
…
وولوع مشتاق وجفن مسهد
وصبابة تعي الجليد فكيف إن
…
أخذت بلب المدنف المتجلد
ماذا أود من الحياة إذا انتهى
…
شوط الشباب وما الشباب بسرمد
أولى بمن آوته قمة جيله
…
نسك كنسك الزاهد المتعبد
من فاته ركب الزمان تخلفت
…
معه مرارة تعسة المتجدد
فلم التصابي والتجمل بعدما
…
خمد الشباب وليته لم يخمد
والحب إن مالت بعمرك شمسه
…
شطط فأفرط في هواك أو اقصد
لابد من حال ينالك بأسها
…
فيه ويوم للندامة أريد
سخر الزمان أقل ما تمنى به
…
تبلوه في ضحك الغواني الخرد
أما بدت تحت الخضاب حقيقة
…
بيضاء تسطع تحت زور أسود
أو نورت في جنح رأسك جدبة
…
كالجرح إن ضمدتها لم تضمد
ودعتك عما كل غانية إذا
…
قرأت سطور جبينك المتجمد
ولقد خلا قلبي وظللني الهدى
…
زمنا وسلمت الهداية مقودي
حيث انتهت فتن الشباب فأصبحت
…
ذكرى نزوح مع الزمان وتغتدي
وبرأت إلا من براءة نظرة
…
وخواطر شتى الرغائب شرد
حتى تعرض لي الهوى في غادة
…
مجلوة في فتنة لم تعهد
خمرية هدباء تبعت روحها
…
روح المحبة في الأصم الجلمد
تحكي نضارتها وغض شبابها
…
للمعجبين نضارة الزهر الندى
وتموج رقة حسنها في مقلتي
…
موجان عذب الماء في عين الصدى
وينم حلو حديثها عن ظرفها
…
أو عن صفاء ذكائها المتوقد
طبعت على الإغراء في حركاتها
…
أو في تهادى جسمها المتوأد
لم ألقها إلا تبسم ثغرها
…
عن بهجة أو عن رضى متعمد
فكأنما هي في حياتي فرحة
…
جاد الزمان بها وإن لم يقصد
ووفى أوان الحسن كل عجيبة
…
فيها فجاءت كالمثال المفرد
ولكل حسن في الحياة أوانه
…
هو والهوى يتلاقيان لموعد
نظرت إلي فأيقظت نظراتها
…
قلبي وأحيت ميتا لم يلحد
فأفقت مما كنت فيه من الهدى
…
ووضعت قلبي في الغرام على يدي
فإذا بنفسي طفلة ممراحة
…
تعصى الوقار كأنها لم ترشد
ثارت على سنن الهدى وجلاله
…
وتمردت في الغي أي تمرد
ورأت غرام القلب لا زمن له
…
فزمانه في العمر غير محدد
فتلمست عذر المسيء لنفسه
…
وتلمس الأعذار طبع المعتدى
والحب يسخر بالقيود فإن خطا
…
بالنفس حطم غل كل مقيد
والحب مثل الطفل أعجب ما به
…
طبع العنيد وسيمة المتمرد
فإذا رأى فبعين أعمى ما يرى
…
وإذا سرمى فبمهمه لا يهتدي
وإذا تغنى أطربت نغماته
…
أذن السماء بغير حاد منشد
وإذا بكى أبكى القلوب نواحه
…
شجواً وأسهد عين من لم يسهد
وإذا تهامس كان برقا خاطفا
…
من دون صخاب العواطف مرعد
وإذا استحال إلى الضلال فما له
…
هاد ولا لضلاله من مرشد
وظللت دون لجاج نفسي ساهما
…
حيران بين تلهفي وتنهدي
تمضي الليالي في ضلالة حيرتي
…
ما بين إقدامي وبين ترددي
أأطيع قلبي في جديد هيامه
…
وأعود من حيث انتهيت فأبتدي
والحب ينميه اللجاج فإن طغى
…
ما إن يصيخ لناقد ومفند
ولبثت أرقب من أضلني الهوى
…
فيها ولم يوه الزمان تجلدي
حتى أحست من حديثي لهفة
…
وتبينت ولهى وصدق توددي
عجبت وما عجب إذا ما ساءلت
…
يوما غرور شبابها عن مقصدي
ماذا دهى الشيخ الوقور فإنه
…
خلع الشباب وكنت لما أولد
ولمست ما تخفيه في ضحكاتها
…
ولبثت أطرق باب قلب موصد
حتى ملكب قيادها في ساعة
…
مهدتها بالصبر كل ممهد
واعدتها سرا فلم تجفل ولم
…
ترفض ولم تخلف أوان الموعد
وأتت كأن بها الذي بي من جوى
…
تختال كالطاووس فيما ترتدي
في ليلة قمراء أسرف بدرها
…
في النور إسراف الكريم الجيد
وسرى على هام النجوم فطأطأت
…
من بعد عزتها لهذا السيد
يجري وما تدري النهى المقصد
…
يجري وما هو كنه هذا المقصد
فإذا تداركه الونى في سعيه
…
ركب السحاب ركوب مضني مجهد
وكأنما تحدوه لهفة عاشق
…
للقاء مشتاق له مترصد
فمضت به قطع السحاب بموكب
…
متهدج في مقلة المتفقد
حتى إذا بلغت به أقصى المدى
…
وإنجاب عنه ركامها المتلبد
ألفيته يعدو كمن فقد الهدى
…
أو من تلفت من غريم معتد
والليل مصغ للكواكب إذ صغت
…
في ضوئها المتضائل المتبدد
والبحر يحلم حيث لا أمواجه
…
غضبى ولا هو بالجهوم المزبد
يتأرجح الموج الضعيف بشطه
…
كتأرجح التقوى بنفس الملحد
صقل انبثاق النور صفحة وجهه
…
وأنارها للساهرين السهد
وكأنما أنا كنت في حلم لما
…
أبصرته من حسن هذا المشهد
وبجانبي أنى سميت غريرة
…
يدها وقد سرنا الهوينى في يدي
أنثى كما اكتملت لأنثى فتنة
…
دعة اليمامة في غرور الهدهد
ما غرني إقبالها فتجاربي
…
في العمر من أمثالها لم تحمد
وطويت من ليلات عمري ليلة
…
خلدت على الذكرى وإن لم تخلد
الإسكندرية
عثمان حلمي
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
موقفنا من الاتحاد السوفيتي
في الحرب العالمية الأخيرة، جاء يوم وقفت فيه بريطانيا وحيدة بلا حليف، وحيدة بلا صديق، وحيدة بلا قوة. . حليفتها فرنسا - تلك التي تستأسد اليوم في مراكش - أنت في ذلك الوقت قد ركعت على قدميها أمام جحافل الألمان. بالفترة التي استغرقتها الدولة (العظيمة) لتركع، فكانت طويلة جدا في حساب الزمن وحساب التاريخ. . كانت سبعة عشر وما كما (يزعم) المؤرخون أو صديقتها أميركا - تلك التي ناصر الحرية اليوم في كوريا - كانت في ذلك الوقت قد التزمت خطة الحياد المزيف، عملا بموقفها (الخالد) من حرية الشعوب! القوة التي كانت تعتز بها بريطانيا وتفخر، تلك التي كم أخمدت أصوات الكرام وأخضعت رءوس السادة، كانت هي الأخرى قد تبعثرت أشلاؤها تحت مخالب النسر الألماني في كل مكان!!
في ذلك اليوم الذي خسرت فيه بريطانيا كل حليف وفقدت كل صديق، وسلبت كل قوة. . راح ونستون تشرشل - كلب الإمبراطورية العجوز - راح يتطلع في حيرة اليائس إلى كل أفق يمكن أن تشع منه ومضة أمل تضيء في نفسه مسارب الرجاء. . ولم يطل بأسه ولم تطل حيرته، فقد أقبلت الفرصة المنتظرة التي أتاحت للكلب أن يسترد أنفاسه اللاهثة، وأن يلعق جراحة النازفة، وأن يرفع رأسه من الأرض ليثبت من جديد أنه قادر على النباح!!
أقبلت الفرصة المنتظرة حين أقدمت روسيا على خوض غمار الحرب. . وانتهزها الكلب العجوز لا ليعترف بالجميل ولا ليذكر الفضل، بل ليطالع العالم بوجهه الصفيق ويقول: في سبيل القضاء على العدو المشترك، أرى لزاما على أن أضع يدي في يد الشيطان. . لقد كان الشيطان الذي يعنيه هو روسيا السوفيتية، وبفضل هذا الشيطان وحده استطاع أن يتجنب الهزيمة، وأن يقود أمة اللصوص نحو النصر!!
أليس موقفنا اليوم شبيها بموقف بريطانيا بالأمس؟ إنه يشبهه من كل الوجوه. . إننا نقف وحدنا بلا حليف، وحدنا بلا صديق، وحدنا بلا قوة، اللهم إلا قوة الإيمان بحقنا في الحياة!
إننا - نحن أبناء الشمال والجنوب - قد قدر لنا أن نواجه العدو المشترك وفي سبيل القضاء عليه، لماذا لا نضع أيدينا في يد الشيطان؟ الحقيقة المرة هي أننا لا نزال نتحرج، ولا نزال نتردد، وأننا لا نثق كثيرا بمنطق التاريخ. . التاريخ الذي ينحني لنا في أسف، ويقول لنا في صدق، وعلى شفتيه ابتسامة رثاء: مساكين. . إن (شيطنة) روسيا ما هي إلا أسطورة ضخمة من صنع المخيلة البريطانية. . أسطورة صدقتموها لأنكم أمة تعيش على الأساطير!!
لو كنا نثق بمنطق التاريخ لما خدعنا منطق اللصوص. . لما تحرجنا من مصافحة الشيطان وقد صافحوه، لما ترددنا من محالفة الشيطان وقد حالفوه، لما وقفنا وحدنا نتطلع إلى الصديق ولا صديق! إن هذا الشيطان إذا لم تحني الذاكرة، قد ناصرنا مرة حين لجأ النقراشي إلى مجلس الأمن، وناصرنا مرة أخرى حين لجأ صلاح الدين إلى هيئة الأمم، وناصرنا مرة ثالثة حين لجأت الوفود العربية إلى تلك الهيئة لتعرض عليها قضية مراكش؛ ومع هذا كله فنحن لا نزال متحرجين ومترددين: نعرض عن المودة الروسية والصداقة الروسية، لأنهما في رأي عشاق الأساطير من رجس الشياطين!!
يا حضرات السادة، يا حضرات الزعماء، يا من بيدكم مقاليد الأمور في هذا البلد: فكروا مرة، مرة واحدة في محالفة الشيطان! أقسم لكم أن الشيطان لم يحتل بلادنا، ولم يسرق أقواتنا، ولم يسفك دماءنا، ولم يهدم بيوتنا، وإنما الذي احتل وسرق وسفك وهدم. . هم (الملائكة)!!
الشعر المرسل أو الشعر المنثور
شاع في هذه الآونة لون جديد من ألوان الأدب، أخذت تقدمه لنا الصحف والمجلات الأدبية باسم (الشعر المنثور) تارة وباسم (الشعر المرسل) تارة أخرى!
ولست أدري والله معنى هذين التعبيرين، وما هو المقصود بهما! وأية متعة فنية أو أدبية يجنيها الإنسان من قراءة كلمات متناثرة هنا وهناك، تفصل بينها النقاط الكثيرة، وعلامات التعجب والاستفهام، دون أن يربط بينهما رابط من اللفظ والمعنى فما هي إلا أفكار مشوشة مضطربة، وخواطر غريبة متنافرة لا تجمع بينها وحدة الفكر، ولا وحدة القافية!
أنا لا أستطيع أن أفهم أن هناك (شعرا منثورا) بل الذي أفهمه أن هناك شعرا له أصوله
وقواعده وقيوده، وأن هناك نثرا له مقاييسه الخاصة به، وله صفاته التي تميزه عن الشعر. . فما هذا الخلط؟ وما هذه الفوضى الأدبية؟
لقد غفرنا لأولئك الأدباء الذين ينقلون إلى العربية روائع الأدب العالمي تحررهم من تلك القيود التي يخضع لها الشعر العربي، بغية المحافظة على روحية الشاعر ووحدة فكرته التي يهدف إلى عرضها للقارئ بأسلوب فني ووفق نظام بديع. ولكن ما الذي يدعونا إلى التماس المغفرة لهؤلاء الأدباء أو (المتأدبين) الذين جاءوا بهذه (البدعة) الأدبية الجديدة، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على عجز عن الإبداع الفني، وقصور عن إدراك ذروة الجمال في التعبير الشعري الذي يجب أن يخضع للأسلوب الفني المنظم!
أرجو من الأستاذ الناقد إفادتي برأيه في هذا الموضوع مع بيان تأثير هذه البدعة على الشعر العربي الحديث.
(بغداد)
منير آل ياسين
أنا مع الأديب العراقي الفاضل في هذه الآراء التي يبديها حول الشعر المرسل أو الشعر المنثور، ذلك لأني لست من أنصار (الشعوذة) الفكرية و (البدع) الأدبية التي يسميها الفاشلون فنا والفن منها براء. . ولو رجع الأديب العراقي إلى كتاب (نماذج فنية) لوجدني أؤيده كل التأييد فيما ذهب إليه، حين ينعت التحرر من بعض القيود في الفن بأنه (الفوضى) الناتجة عن عوامل العجز والقصور! هذا حق لا شك فيه، وأية متعة فنية أو أدبية يجنيها الإنسان كما يقول، من قراءة كلمات متناثرة هنا وهناك، تفصل بينهما النقاط الكثيرة وعلامات التعجب والاستفهام، دون أن يربط بينها رابط من اللفظ والمعنى؟
إنه سؤال يوجهه إلى الأديب العراقي، وأعود إلى بعض ما قلته بالأمس حول مشكلة القيود في الفن لأقدم إليه هذا الجواب: (إن تحرير الفن من كل قيد معناه الحرية المطلقة وإن الحرية المطلقة ليست هي الجمال الذي نتطلع إليه. . إننا حين نفرض القيود على الفن فإنما نفرضها بغية أن نبث فيه روح النظام وما هو الجمال في الفن إذا لم يكن هو الجمال على التحقيق؟ وحين نرفض الحرية المطلقة فإنما نرفضها خشية أن نبث فيه روح
الفوضى، وما هو القبح في الفن إذا لم يكن هو الفوضى بلا جدال؟ لابد إذن من قواعد وأصول حين نحتاج في (تنظيم) الفن إلى تلك القواعد والأصول، ولا بد إذن من القيود التي تقررها المقاييس النقدية لتحديد القيم الجمالية!. . إن الفن في كل صورة من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكة التي نسيمها (ملكة التنظيم) وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة التي تربط بين الظواهر، وتوفق بين الخواطر، وتنسق المشاهد ذلك التنسيق الذي يضع كل شيء في مكانه، كل فن يخلو من عمل هذه الملكة لا يعد فنا، بل هو (فوضى فكرية) أساسها وجدان مضطرب، وذهن مهوش، ومقاييس معقدة أو مزلزلة. . إننا ننشد النظام، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد أقمنا بناء الفن!
هذه الكلمات الموجزة يستطيع الأديب العراقي أن يخرج منها بما يؤيد وجهة نظره حين يقول (إن الشعر المنثور ما هو إلا أفكار مشوشة مضطربة، وخواطر غريبة متنافرة، لا تجمع بينها وحدة الفكر ولا وحدة القافية. . أنا لا أستطيع أن أفهم أن هناك شعرا منثورا، بل إن الذي أفهمه أن هناك شعرا له أصوله وقواعده وقيوده، وأن هناك نثرا له مقاييسه الخاصة به، وله صفاته التي تميزه عن الشعر، فما هذا الخلط، وما هذه الفوضى الأدبية)؟
هذا رأي جميل، وإنه ليذكرني بذلك الرأي الذي عقبت به يوما على سؤال لأحد الأدباء العراقيين، حين تعرض لقيود القافية في فن الشعر ذاهبا إلى أنها تحد من حرية الشاعر، لأنها كثيرا ما نسوقه مرغما إلى كلام لم يقصد إليه ولم يهدف إلى معناه. . لقد قلت يومئذ وأنا في معرض الجواب حيث يغني الإيجار عن كل إطناب:(بقى أن أقول للمحامي الأديب في مجال الرد على ما أورده حول قيود القافية في فن الشعر، إن هذه القيود كما عرض لها حق لا شك فيه؛ من ناحية أنها تفرض على الشاعر لونا من التعبير قد لا يرتضيه. ولكن الأستاذ قد نسى أن تلك القيود لازمة من لوازم الشعر ليكون شعرا، له ذلك القالب الفني الذي يميزه عن قالب النثر، ويشير إلى ما بين القالبين من فروق)!
بعد هذا أنتقل إلى السؤال الأخير في هذه الرسالة المتزنة الواعية لأقول: لا خطر في رأي من هذه البدعة على الشعر العربي الحديث، لأن أصحابها لا وزن لهم عند من يفهمون رسالة الفن على وجهها الصحيح، ويحددون لها الغاية ويرسمون الطريق ويقررون
المصير. . لا وزن لهم مهما شجعتهم على مثل هذه (الشعوذة) صحف تزعم أنها تحمل مشعل التجديد، وهي في الواقع تظلم التجديد كل الظلم حين تنظر إليه في ضوء هذا الفهم السقيم!!
حول مسرحية (دنشواي الحمراء):
أريد أن أعرض عليك مشكلة لست أدري ماذا يكون صداها لديك، ولدي القائمين بشئون المسرح العربي!. . كنت ضمن النظارة الذين شاهدوا المسرحية الوطنية الكبرى (دنشواي الحمراء)، فلاحظت أن الستار يسدل عقب انتهاء كل منظر من مناظر المسرحية العديدة والأنفاس معلقة. . ثم لا يلبث أن يرفع مرة أخرى فإذا بالمثلين قد أحنوا قاماتهم لجمهور النظارة الذي ألهب أكفه بالتصفيق إعجابا بفنهم الرفيع.
هذا أمر طبيعي، لأن الممثل يجد لنفسه صدى يتمثل عنده في تصفيق الجمهور وإعجابه ومشاركته له مشاركة تامة في كل ما يحس من عواطف وانفعالات. . ولكن هنا المشكلة! إن أفكار النظارة الفردية تتحطم في المسرح وتستحيل إلى أفكار جماعية، فالانفعالات والاحساسات تسري في الجميع ويصير (الكل في واحد) كما يقول (نشيد الموتى). . ولكن رفع الستار مرة أخرى بعد إسداله عقب انتهاء كل منظر، يؤدي إلى (اللانفعالية) المفاجئة لدى النظارة، مما يحول بينهم وبين التعاطف والاندماج في اللحظة التي أوشك أن يتم فيها التعاطف والاندماج، فإذا بالجمهور لم ينظر إلى ما عرض على خشبة المسرح نظرة الجد بل أخذ يضحك بشكل أزعجني! إن الجمهور في ذلك معذور يا سيدي، لأن رفع الستار قد قضى على طاقته العاطفية أثناء التمثيل وأحالها فجأة إلى حالة طفيلية ذات وجود مستقل، وبهذا يفقد المسرح في رأيي عنصره الأصيل وهو التأثير المباشر! أليس كذلك، أم أنا مغال فيما أقول؟
إنني في انتظار رأيك، وتقبل إعجابي واحترامي
(القاهرة)
محمد رفعت الدوباني
كلام الأديب المصري الفاضل صحيح لا غبار عليه، ولقد شهدت هذه المسرحية وغيرها
من المسرحيات ورأيت بعيني هذا الذي يقع على المسرح ويقدم عليه الممثلون. إنها (تقليعة) لا أستطيع أن أرضي عنها ولو رضى عنها ذلك الرجل الذي أقدره دون أن أعرفه، وأعني به الأستاذ زكي طليمات!
لقد كان الجمهور مثلاً في حالة شعورية ساخطة على ذلك الممثل الذي بدور المستشار الإنجليزي المحقق في قضية دنشواي، ولكن تلك الحالة الشعورية قد انقلبت إلى النقيض حين رفعت الستارة بعد انتهاء المشهد لينحني المستشار (الإنجليزي) تحية لجمهور النظارة من (المصريين). . ولقد كان الجمهور مثلاً في حالة شعورية حزينة على (أم محمد) التي خرت صريعة برصاص الجنود الإنجليز، ولكن تلك الحالة الشعورية قد انقلبت هي الأخرى إلى النقيض حين رفعت الستارة بعد انتهاء المشهد وظهرت (الشهيدة) في أحسن صحة وأكمل عافية، لتحي (الباكين) عليها (والمحزونين). . ولقد كان الجمهور مثلاً في حالة شعورية تتدفق إعجابا وحماسة وهو يرى (عبد الرزاق) وقد نسف البيت مضحيا بحياته، مادام هذا النسف سيودي بحياة عدد من جنود الاحتلال، ولكن تلك الحالة الشعورية قد انقلبت المرة الثالثة إلى نقيض حين رفعت الستارة بعد انتهاء المشهد، وبدا الفدائي (الصريع) واقفا على قدميه ليقدم شكره الخالص لحضرات (المفجوعين). . وهكذا كنت أرى تلك (التقليعة) المضحكة وهي تتكرر على خشبة المسرح وتقضي على كل عنصر من عناصر الإثارة النفسية!
إن مثل تلك الحركات البهلوانية كفيلة بهدم ذلك التجاوب الشعوري بين الممثل والمشاهد، وبالقضاء على الواقعية الفنية في العمل المسرحي حين نخرجه في الإطار المادي الذي نهدف من ورائه إلى التأثير في الجماهير. . إن وظيفة المسرح هي أن ينقلنا من عالم الخيال إلى عالم الواقع، هي أن يخدر مشاعرنا ذلك التخدير الذي نحس معه أن هذه الساحة الضيقة التي يتحرك فوقها الممثلون، قد استحالت إلى تلك الساحة الرحيبة الأخرى غير المحدودة، وأعني بها ساحة الحياة. . ترى هل يحتمل منطق تلك الساحة الأخيرة أن ينحني الإنجليز للمصريين، وأن يستيقظ الموتى من رقدة العدم دون أن يحدد الله موعد البعث والنشور؟
إن الجواب متروك للرجل الذي أقدره وأقدر جهوده في خدمة المسرح. . زكي طليمات!
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضير
افتتاح مؤتمر المجمع اللغوي:
أحتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بافتتاح مؤتمره السنوي يوم الاثنين 24 ديسمبر الحالي، فاسهل الجلسة معالي الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا رئيس المجمع بكلمة أعلن فيها افتتاح المؤتمر وحيا الأعضاء ورحب بهم.
ثم وقف الدكتور منصور فهمي باشا كاتب سر المجمع فألقى كلمته، وقد تحدث عن الذوق اللغوي وموقف المجمع مما يقرره من ألفاظ ومصطلحات من حيث فرض السلطة أو ترك الحرية لمن يأخذ بها. ثم أجمل أعمال المجمع في الدورة الماضية. وقد جنح في كثير من العبارات إلى الظرف والفكاهة.
قال الدكتور منصور باشا: إن المجمع يحكم اختيار أعضائه ممن يتذوقون اللغة العربية تكون له ذوق خاص في اللغة، وقد أخذ يرنو إلى أن يشيع في الناس هذا الذوق. وقد قال في مستهل كلمته أنه لن يحول الحديث إلى فلسفة، فللفلسفة مجالها ولها وزن ثقيل تترنح له الدار ويرتج الجدار، ويلوذ أكثر للزوار بالفرار. . . ولما وصل إلى الكلام على (الذوق السليم) شبهه (بتيار إلهي يجري في وادي الظروف والزمن) وما كدت أسمع هذا التشبيه حتى أشفقت على الدار ونظرت خائفا إلى الجدار وتطلعت أرقب الزوار. .
وقد بدأ مسألة للسلطة والحرية في اللغة متسائلا: هل آن لما تطلع إليه المجمع وطلبه على لسان بعض أعضائه أن يتحقق فيطوع السلطة التنفيذية لخدمة اللغة وسلامتها؟ ثم تحدث عن رأي معالي الأستاذ رئيس المجمع في ذلك وهو رعاية الحرية وإيثارها على التسلط، وقال: إنني أستبيح لنفسي التجانف عن هذا السبيل الحنبلي في تقديس الحرية لأكون من أنصار أبي حنيفة ومن إليه ممن يتجوزون في أشربة من الخمر في بعض الظروف. . فقد يكون للسلطان في بعض الأحايين نفع كبير، ولقد أرى أن بين السيطرة المستنيرة وبين بعض صنوف الخمر المستجادة وجها من وجوه الشبه!
قال الدكتور منصور فهمي ذلك ولم يبين لنا كيف السبيل إلى فرض السيطرة على أذواق الناس في اللغة. ولست أدري ماذا يقصد بإجازة أبي حنيفة أشربة من الخمر في بعض
الظروف! هل يقصد تحليل أبي حنيفة للنبيذ؟ وهل يحسب نبيذ أبي حنيفة من الخمر؟ وما موقع (صنوف الخمر المستجادة) مما قال به أبو حنيفة؟
وبعد ذلك ألقى الدكتور أحمد عمار محاضرة قيمة موضوعها (المصلحات الطبية ونهضة العربية يصوغها في القرن الحاضر) بدأها بقوله: اللغات كائنات حية نامية متجددة، ما تجددت عاشت، فإن جمدت ماتت. ولقد تعتورها من آفات الإفراط والتفريط أدواء لا منجاة منها إلا أن تكون بين ذلك قواما وتلزم بينهما قصد السبيل. ثم قال: ولقد وسعت لغتنا في ريعانها من مطالب الحضارة أعلاها مرتقى وأصعبها شعابها، ومن بينها الطب، إذ بلغ شأوها فيه أن نلقاه عليها الغرب وتدارسه في كتبها حقبا طوالا. وما كان ذلك إلا لأن أسلافنا لم يبتلوا بذلك الداء الدولي وهو فرط الحذر، ولم يخشوا في النقل عمن سبقهم من الأمم لومة لائم، بل أقبلوا عليه إقبالا لعلهم كانوا فيه إلى العجلة والاندفاع أقرب منهم إلى التؤدة والأنة، فما أضر بهم ولا بلغتهم قليل الاندفاع. ولو أنهم أسرفوا في الحذر لما خلد لهم في التاريخ ذكر ولا بقى لهم في العلم أثر. ثم تحدث الدكتور عمار عن العناية بالمصطلحات الطبية في مطلع النهضة المصرية الحديثة، بعد العصور التي تخلفت فيها اللغة، حتى بلغ الحديث مجمع فؤاد الأول فأشار إلى حيرته التي طالت سبعة عشر عاما بين إشفاق على القديم ووجل من الجديد، وأهاب به قائلا: ما عدة النهضات إلا الإقدام، وقال إننا نشفق من الجمود أكثر مما نشق من الاندفاع، فلنتوسط بينهما السداد ما استطعنا إليه سبيلا. ثم فصل رأيه في ذلك بأمثلة في وضع المصطلحات الطبية سأعود إلى عرضها في عدد قادم إن شاء الله لاستكمال الفائدة من هذه المحاضرة الدسمة الشهية. . . وقد دل الدكتور أحمد عمار بجزالة لغته وإمتاع أسلوبه وعمق فكرته على أدب وفضل يحمد المجمع على إتاحة الفرصة لظهورهما.
ثم تحدث الأستاذ عبد الحميد العبادي بك عن (كتب الحسية وأثرها في المعجم اللغوي الكبير) فشرح هذا النظام في المجتمع الإسلامي وذكر ما ألف في الحرف وشئون الأسواق وما تضمنته هذه المؤلفات من نقد المجتمع وساق طائفة من ألفاظ الحرف والآلات ومصطلحاتها مما لم تضمنه المعجمات داعيا إلى تضمينها المعجم الوسيط والمعجم الكبير.
وتكلم الأستاذ ماسينيون فقال إنه قدم من باريس يحمل إلى المجمع مع التحية مطلبا خاصا
بلجنة تخريج أستاذة اللغة العربية في فرنسا، وهو أن يمدها بالمنهج الذي وضعه لإحصاء القواعد اللغوية والكلمات العلمية التي قررها المجمع.
وختم الاحتفال بكلمة وجيزة للأستاذ حسن حسني عبد الوهاب باشا أبلغ فيها تحيات المغرب الشقيق منوها بما توارت به البشارات من فتح المعاهد العلمية التي شاءت مصر أن تنشأ في المغرب لربط الأواصر وجمع الشتات.
قالت العرب:
كان الأستاذ أحمد محمد بريري قد عاد إلى المناقشة فيما جرى بيننا من خلاف على كلمات وردت في مؤلفات الدكتور طه حسين، إذ خطأ رفع (يدخلون) في قوله (يريدون أن يضحكوا من أصحاب الصحف ورؤساء تحريرها فيدخلون عليهم فصولا نشرت على أنها لم تنشر) وأنكر عليه استعمال نحو (قد لا يفعل، وسوف لا يفعل، ونفس الشيء، وما كاد يفعل كذا حتى حدث كذا) وقد بينت في هذا كله وجه الصواب الذي أستديره. . فلما عاد إلى المناقشة في صحيفة الأساس (7ديسمبر الحالي) ألفيته قد تعلق بأمور جدلية لا تؤدي مجاراته فيها إلى طائل، ولحظت أنه يحاول أن يخرج بهذه الجدليات عما واجهته به في الموضوع، فرأيت أن أمسك عن مجاراته في ذلك ضنا بالوقت والجهد أن يذهبا سدى.
ثم تناولت (الأساس) في موعد حديث الأستاذ التالي (يوم الجمعة14 ديسمبر) فوجدته يتعرض لعبارات أخرى في كتابات الدكتور طه حسين، وقلت لعله أصاب شيئا، ولكن وجدته لا يزال على طريقته في توهم الأخطاء.
ونرجع إلى موضوع الخلاف الأول لأن جزءا منه يرتبط بما طرقه في المقال الثاني، وأغض الطرف عن الهوامش قاصدا إلى الصميم، فأجمل رده فيما يلي: قال فيما يختص بإعراب (يدخلون): إن لكل منا رأيه، ثم مضى إلى سائر العبارات فأعاد ما كان قد قاله في (كاد)؛ أما البقية فقد طالب فيها بما قالت العرب قائلا:(. . . فلقد قلنا لم تقل العرب (قد لا ولا سوف لا. . الخ) فكيف يطالبنا بالإثبات؟ نحن ندعي العدم. . وقد قضى الله ألا تكلف إثباته. . وإنما على من يناقضنا أن يقول: قالت العرب. . ويأتي بهذا النص الذي نقول إنه منعدم)
أما الموضوع الذي طرقه بعد ذلك فهو استعمال الفعل (يلفت) على الوجه الذي جاء عليه
بمقدمة كتاب (على هامش السيرة) للدكتور طه حسين في العبارة التالية: (إذا استطاع هذا الكتاب أن يلقى في نفوس الشباب حب الحياة العربية الأولى ويلفتهم إلى أن في سذاجتها ويسرها جمالا، ليس أقل روعة ولا نفاذا إلى القلوب من هذا الجمال الذي يجدونه في الحياة الحديثة المعقدة فأنا سعيد موفق إلى بعض ما أريد)
أنكر استعمال ذلك الفعل بمعنى التنبيه والتوجيه، لأن لفت معناه لوى وصرف.
حقا إن لفت معناها صرف، لكن هل هما مقصوران على معنى الانثناء عن الأمر والإعراض عنه؟ إنك تقول صرفت همي إلى كذا، ويقال هو مصروف إلى كذا، وانصرف إلى الشيء، والمقصود الإقبال والاهتمام، كما يقال صرفه عن كذا: لواه عنه. فالذي يعين المعنى حرف الجر كما في (رغب) مثلا. وعلى ذلك (لفت) على سبيل التضمين. على أنني ألمح في التعبير دقة بلاغية سببها (إيجاز بالحذف) وتقدير الكلام: ويلفتهم عما يخالونه في الحياة العربية من خشونة وجفاف إلى ما في سذاجتها ويسرها من جمال.
وسيقول لي الأستاذ بريري: إبت بما قاله العرب. هذه هي المسألة التي أعود إلى مساجلة الأستاذ من أجلها.
أليس بد مما قالت العرب نصا؟ أولا يجوز لنا أن نقول على نسقهم كلاما جديدا؟ وهل وقفت العصور المتتابعة عندما نطق العرب الأولون دون تطور في المعاني والتعبيرات؟
لقد لمحت في مقالك هذا كلمة (الذوق) إذ قلت في مخاطبة شيخك (مهلا يا سيدي الشيخ، فتلك كلمات غلاظ وأسئلة خشنة لا يحتملها الذوق. . الخ) فهل استعملت العرب هذه الكلمة في هذا المعنى الحديث؟ ولمحت في مقالك الأول كلمة (تطور) إذ قلت فيه (أو ترون أنا سلكنا جادة الصواب أم أخطأنا تطور الأطوار) فهل قالت العرب (تطور)؟ إنني لا أؤاخذك على هذا إلا إذا أردت أن أحاسبك بمنطقك، وهو منطق لا يتفق مع التطور اللغوي وما يبتدعه الكتاب من تعبيرات جديدة، لا تخرج عن النهج العربي، تضاف إلى ثروة اللغة وتطوعها للحياة المتجددة.
ثم أسألك يا سيدي الأستاذ: هل تمنح إطلاق (سيارة) على (الأتموبيل) لأن العرب لم تفعل؟ وهل تمنح إطلاق (قنبلة) على القذيفة المتفجرة لأن العرب لم تفعل؟
لقد رأيتك تفوض المجتمع اللغوي في أمر (كاد) معربا عن قبولك للتركيب إذا أقره، فإذا
كان المجمع عندك حكما مرضيا فإني أحيلك إلى ما قرره في أمر تسع وثلاثين كلمة أقر استعمال المحدثين لها على خلاف ما سمع عن العرب الأولين في الصيغة أو في الدلالة، منها (ساهم) بمعنى شارك وقاسم، و (قهوة) للمكان الذي تشرب فيه. . الخ. وذلك بناء على ما أرتاه الأستاذ أحمد حسن الزيات بك من حق المحدثين في الوضع اللغوي. فإذا كنت مصرا على المطالبة بنص ما قالته العرب فإني ألفتك إلى مجمع فؤاد الأول اللغة العربية وهو - كما قالت - الذي فوضنا إليه أمر اللغة العربية.
عباس خضر
المسرح والسينما
المسرح المصري في خدمة العقيدة الوطنية
الأستاذ زكي طليمات
في العدد الفائت من الرسالة، عقب الأستاذ علي متولي صلاح، على فصل لي نشرته هذه المجلة تحت هذا العنوان، وهو بحث أقمت فيه موازنة عابرة بين مذهبين دوارين من مذاهب الأدب والفن (وهما مذهبا الأدب والفن) أو الفن والأدب، في برجهما العاجي، ثم الأدب والفن وقد عالجا ما يستبد بتفكير الناس في فترة عصيبة من فترات الزمن.
أتيت هذا لأخلص إلى تسجيل وجهة نظري في هذه القضية التي ما زال رحابها يتسع للمتناقض من الأحكام وللمتعارض من وجهات النظر، ابتغاء أن أمهد لإخراجي مسرحية (دنشواي الحمراء) التي قدمتها (فرقة المسرح المصري الحديث) وهي مسرحية من صميم (الأدب الملتزم) الذي يستأثر بنفوس الجمهور في هذه الآونة.
وقد حرصت ألا أتعرض لمناقشة ما يسوقه كل فريق في المنافحة عن كل من هذين المذهبين، إرادة أن أنفذ إلى ما أردت من ذلك الفضل، وبغية أن أقول، ولكن بطريق غير مباشر، أن ليس هناك أدب للأدب، وأدب لغير الأدب، وإنما هناك أدب رفيع وفن رفيع، وأدب رخيص وفن تافه، وذلك باعتبار أن الأدب أو الفن إنما هو هزة وانفعال. ومأتى التجويد فيهما والابتداع إنما يرجع إلى امتلاء الأديب أو الفنان بما هزه في أصلابه وامتلاءت به أوصاله، ثم إلى قدرته على معالجة هذا معالجة إنسانية سليمة وطريفة في وسائل أدائها.
وقد جاء تعقيب الأستاذ صلاح على ما ذكرت ذا شعبتين، ويكاد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول يدور حول هذه القضية. والقسم الآخر يعالج موضوعا جديدا إذ يدور حول موقف المسرح المصري من هذين المذهبين.
وحرصا على أن يفيدا القارئ، ودفعا للبس وتقويما للانحراف أعقب بدوري على ما كتبه الأستاذ صلاح، ولكن في إيجاز.
(1)
الموازنة التي أقمتها حول الأدب والفن في مذهبيهما المتعارضين ما زالت قائمة. وليست من فضول القول كما يزعم الأستاذ صلاح، لأنها تعالج أسلوبين من أساليب التعبير
في جوهره، وذلك من حيث الباعث والحافز. ولم تكتب فيه الغلبة لأحدهما حتى الآن، بدليل أنه ما برح هناك كتاب يعالجون الآداب (من أبراجهم العالية) ويأتون بالجيد والطريف مما يقرأه الناس ويتأثرون به. وموقف النقاد من هذه القضية كموقفهم من (الشعر) بعد أن استشرت النزعة المادية في مرافق الحياة الاجتماعية، وطغت هذه النزعة على المعنويات والروحانيات فمنهم من يزعم أن (الشعر) أصبح لونا من الترف والفضول، ومنهم من يرى غير هذا، ويؤكد أن الشعر لن يموت بحكم أنه تعبير إنساني يزاوج بين موسيقى المعاني وموسيقى الألفاظ، والكائن الإنساني يستهويه الإيقاع بفطرته وسليقته.
وتباين وجهات النظر إلى الشعر، كما هو الحال في تباين وجهات النظر إلى الأدب والفن في قضيتهما هذه، كل هذا كما يلوح لي، مرجعه إلى التقدم الآلي والصناعي، وإلى إعلاء الماديات على المعنويات، ثم إلى عامل السرعة، وكل هذا من خصائص القرن الحاضر، ومن عوامل الزمن الذي نعيش فيه. ولكن هذه العوامل لم تستطع بعد أن تحول الأدب والفن إلى نظريات اقتصادية ومقايسات ميكانيكية أو صور بدائية مبتسرة.
ولو أردنا أن نسوق ما يقرره أنصار مذهب (الأدب للأدب) تحبيذا لمذهبهم وانتقاصا للمذهب الذي يكافح عنه الأستاذ صلاح لراجع نفسه كثيرا قبل أن يحاول دفع حججهم بالتي هي أحسن وأفحم، ولخلص معي إلى الأدب أو الفن في نتاجه، لا يمكن أن نقسمه إلا من حيث الجودة والرداءة، ومن حيث السمو والإسفاف ومن حيث الزوال والخلود.
2 -
(مذهب الوجودية) الذي أقحمه الأستاذ صلاح (الأدب الملتزم) ليس مما يصح اتخاذه برهانا على أن نظرية الأدب للأدب قد ماتت وعفت آثارها بانقضاء القرن الماضي، لأن هذه (الوجودية إنما هي أسلوب في التفكير، وليست حافزا أو باعثا من البواعث على الابتداع الأدبي أو الفني، ولا مصدرا من مصادر الاستلهام التي تدافع الأديب أو الفنان إلى الخلق. ومعلوم أن الباعث بأني فبل التفكير؛ وإن شئت فقل إنه الشرارة التي يضطرم معها الذهن ويضيء ليعمل، ونحن في قضيتنا هذه قضية الأدب للأدب والالتزام، إنما نعالج الباعث والحافز ومصدر الإلهام ولا نعالج أساليب الفكر.
وفوق هذا فإن هذه (الوجودية) تمتد أطرافها إلى نظريات فلسفية قائمة، ولفتات اجتماعية لا تخلو من الشذوذ، لأنها قامت على أنقاض انهيار نفسي نزل بالواعية الاجتماعية الأوربية
بتأثير الحرب الكبرى الماضية وما زالت تفتقر إلى الأرض الصلبة التي تقف عليها. وقد تزول (الوجودية) إذا زالت أسباب قيامها، باعتبار أن الحياة ليست كلها شقاء وجحيما وألما، وأن الوجود يتجدد ويقيم شرعة التوازن بين طرفيه: السعادة والشقاء، والفرح والحزن. وقد تزول هذه (الوجودية) كما زالت قبلها (الدادية) و (السريالية) وكلها من أساليب حياة الفكر. .
قد يزول كل هذا، ويبقى النضال قائما بين مذهبي (الأدب للأدب) و (الأدب الملتزم) لأنه نضال يعالج الأدب في جوهره من حيث بواعثه واستلهاماته، وليس يعالج الأدب من ناحية التيارات الفلسفية التي تنجم نجوم الأزياء وتسوده حقبة من الزمن ثم تمضى.
ويتضح مما أجملت ذكره عن الوجودية، أن الأستاذ صلاح قد التبس عليه إذ جعل (الوجودية) من دعائم (الأدب الملتزم) إذ لو صح هذا لقضى على الأدب إلا يكتب ألا في الناحية القاتمة من الحياة، ولا يسجل إلا يسجل إلا التشاؤم وفقدان الأمل، وألا يوحي إلا بما يشعر الكائن الإنساني بزيادة تبعاته أمام نفسه، ويتعدد التزاماته أمام الجميع.
وقد يكون هذا عند (بول سارتر) صاحب هذا المذهب ومن نهج نهجه بعد أن أقر في أذهانهم، بتأثير الظروف التي تحيط بهم، وبسحر المنظار الذي يركب عيونهم، أن الحياة إنما هي سلسلة من التبعات الثقال، وأن الكائن الإنساني، وهو العنصر الأولى في الوجود، لابد أن يناضل عن كيانه وأن ينازل هذه التبعات في حرب سافرة. ولا بأس أن ينكر المستقبل، ولا بأس أن يأخذ بمذهب (القدرية) إلى أبعد حدوده، باعتبار أن الإنسان مسئول عما يفعله وليس (للجبر) دخل في سلوكه.
هذه وجهة نظره، ولكنها ليست وجهة نظر (الأدب الملتزم) في كل ما يعالجه من شؤون الحياة
أما القسم الآخر من تعقيب الأستاذ صلاح فينصب ظاهره على المسرح المصري عامة، ويهدف باطنه إلى النيل من (فرقة المسرح الوطني الحديث) وكأن هذه الفرقة الحديثة العهد بالحياة مسئولة عن المسرح المصري في حياته السابقة وفي انحراف رسالة الفرق المختلفة العاملة عما يجب أن تكون عليه في معالجة ما يشغل أذهان الناس!!
وهذا القسم كسابقه يبتسم بالجور والإقساط كما يعوزه التقصي والاستقراء، لأن المسرح
المصري - كما هو معلوم لكل متتبع مراحل تطوره إلا الأستاذ صلاح بالطبع - كان في اكثر مسرحياته المحلية يتناول مشاكل حياة الاجتماع في مصر، وفي القليل من مسرحياته لتنبيه الوعي القومي، وذلك في نطاق ما بين يديه من وسائل، وفي حدود الحرية التي يجيزها الرقيب الحكومي، وما دبجته الأقلام المصرية في هذا، بين ما هو مقتبس ومؤلف بل ومترجم، فيم الحجة على ما نقرره.
وإذا صح ما يزعمه الأستاذ صلاح من أن المسرح المصري قد قصر عن إدراك هذا الشأو، فاللوم لا يقع على أصحاب الفرق والممثلين، وإنما ينصب بكليته على من يكتبون للمسرح رواية وتوجيها ونقدا. وأسأل نفسي أين كان الأستاذ المعقب (والتعقيب كالنقد سهل وميسور، والإنشاء صعب وعسير) أين كان. . . وهذه أول مرة نطالع له كلاما على المسرح؟؟
ثم يأتي نصيب (فرقة المسرح المصري الحديث) من لوم الأستاذ المعقب ومن تقريعه، فإذا يؤكد ما قررته من أن الأستاذ ركب من التجني ومن الإقساط ما ركب. .
وآية هذا أنه ما أن هبت مصر هبتها القائمة حتى قطعت الفرقة الحديثة ما بينها وبين ما كانت تقدمه في عامها الأول من المسرحيات العالمية المترجمة، وقدمت مسرحيتي (مسمار جحا) و (دنشواي الحمراء) وهما من وضع أقلام مصرية حاذفة أحست النبض الذي يدق في قلب كل مصري فجاءت كل مسرحية منهما تعكس في مشاهدها صورا ورؤى مما يعمر رؤوسنا في هذه الفترة العصيبة من حياة مصر.
قدمت الفرقة الحديثة هاتين المسرحيتين وقد استجابت إلى ما يصح أن يطالعه الجمهور فوق المسرح، ولما يمض على حياتها أكثر من عام وربع عام. هذا في حين أن فرقة مصرية أخرى تحظى بإعانة وزارة الشئون الاجتماعية ورعايتها، لم تقدم شيئا من هذا، بل قدمت قديما من مترجمات ومقتبسات مما خفت مؤنته الفنية والأدبية من الأدب الفرنسي والإنجليزي، ومما لا يتجاوب مع ما يستبد بنفوس الجمهور في كثير أو قليل، وذلك بين مسرحي الأوبرا الملكية وحديقة الأزبكية!
وقع هذا وأمره معلوم، ولكن الأستاذ المعقب المحاسب لم يتعرض له في شيء. وأترك للقارئ أن يرد على الأستاذ المعقب بما يراه. وأعود إلى مسرحيتي (مسمار جحا) و
(دنشواي الحمراء) فأقول أن هاتين المسرحيتين لم تروقا للأستاذ المعقب، ولا وضعا ولا معنى، ويزعم أنهما لا تحققان الأغراض القومية التي نوهنا بذكرها في مختلف المناسبات، ثم يحلو له بعد هذا أن يتهكم. ولماذا؟ وفيم التهكم؟
يزف الأستاذ المعقب كلاما إن دل على شيء فعلى أنه لم يحسن تفقه هاتين المسرحيتين. وهذا مما يؤسف له! أو هو علم وتفقه ولكنه يعتسف النقد اعتسافا ليطلع برأي يخالف آراء من شاهدوا هاتين المسرحيتين الطريفتين، وتفضلوا بالكتابة عنهما في مختلف الصحف، وهذه محنة! أو هو هذا وذاك. ويزيد أن اطلاعه في الأدب المسرحي الغربي ليس على الوجه الكامل، بدليل أنه ينتقص قدر مؤلف مسرحية (دنشواي الحمراء) لأنها لم تجمع بين دفتيها فوق ما جمعت من مواطن النضال والفداء، مواقف العمال والجنود والحكومة ومن إليهم. . وكأن المسرحية في نظره ملحمة من الملاحم، يجب أن تحيط بكل كبيرة وصغيرة وشاردة وواردة، مما يصح أن يجري في محيطها.
وفي هذا نمسك عن الكلام ولا نتهكم ولا نسخر، وأدع تفنيد مزاعمه تفنيدا مسهبا لمؤلفي المسرحيتين. .
واكتفي بأن أقول للأستاذ صلاح ما قاله غيري في مثل ما نحن فيه (شيئا من الرفق ليجمل النقد، وكثيرا من العدل ليستقيم الميزان)
زكي طليمات
البريد الأدبي
تحقيق في بحر الرمل
أقرر مسرورا أني بقراءة البحث الممتع الذي كتبه الناقد الأستاذ محمد عبد الغني حسن عن بحر الرمل. وقد وجدتني مضطرا للتعقيب عليه أمام القراء، ولهم بعد ذلك أن يقتنعوا برأي الشاعر الكبير أو يتمسكوا بدعواي.
لقد ذكر الأستاذ المرصفي - كما نقل عنه الأستاذ عبد الغني - أن
العلة إذا أريدت لزمت في جميع الأبيات. وذكر الأستاذ محمود
مصطفى أن العلة إذا عرضت لزمت أيضا. ومعنى اللزوم عند
الرجلين أنه لا يجوز لأحد الشعراء أن ينوع في قصيدته فيلزم العلة
تارة ويتركها أخرى كما فعل الشاعر الكبير، في قصيدته العصماء، إذ
لا مناص من اللزوم حذفا أو تماما.
ولو سلمنا جدلا أن المرصفي وغيره من المؤلفين قد اختلفوا في هذه المسألة بين اللزوم وعدمه في القصيدة الواحدة، فماذا نصنع أمام الاختلاف؟ لاشك أننا نرجع إلى الشعر العربي الذي أجمع العلماء على صحة الاستشهاد به في قصائد الرمل التي نظمت في عصور الجاهلية وصدر الإسلام وبني أمية، فإذا وجدنا قصيدة واحدة تنوعت فيها العروض، فلنا أن نتمسك بها كدليل قوي للأستاذ عبد الغني. أما وقد أجهد الأستاذ البحاثة نفسه - وهو الرواية الضليع - فلم يعثر على قصيدة تشابه قصيدته - لمن يستشهد بشعرهم - فليس لي أن آخذ برأيه حتى أظفر بدليل.
وأني لأعجب كيف يكون مهيار الدليمي دليل الأستاذ في دعواه وهو لا يختلف عنه في شيء، فكما أوجه اعتراضي إلى قصيدة الأستاذ عبد الغني، فكذلك أوجه إلى قصائد مهيار، فكلا الشاعرين - رغم شاعريتهما الدافقة - يتبع قواعد مقررة، نقول لمن خالفها لقد خالفت وأبعدت، وليس لما قلت نظير فيما ورد من الشعر العربي الصحيح!
وإنه ليسرني جدا أن يكون الحق في جانب أديبنا الكبير الأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن، ولكن متى أجد الدليل الذي يقنعني بذلك فأستريح.
محمد رجب البيومي
جمع نهار
في العدد 964 نشرت مجلة الرسالة الزاهرة قصيدة الأستاذ أنور العطار بعنوان (غضبة) وفي البيت الثاني منها يقول الشاعر:
تغشى الشجون نهاراته
…
وتسهد ليلاته المفزعه
فجمع نهارا على نهارات والصواب أنهر ونهر كما جاء في مختار الصحاح:
(النهار ضد الليل ولا يجمع كما لا يجمع العذاب والسراب، وإن جمعته قلت في القليل (أنهر) وفي الكثير نهر بضمتين كسحاب وسحب)
وكما جاء أيضاً في القاموس المحيط:
(النهار يجمع على أنهر ونهر أو لا يجمع كالعذاب والسراب)
حامد السيد عطا
طه حسين
هذا الاسم عبر الأجواء من القاهرة إلى الجزيرة بسورية، فتردد على الألسنة وارتاد مطاوى الأفئدة؛ ففي شمال الجزيرة بلدة جميلة يطلق عليها أسم (عامودة) بعجب أهلوها بهذا الرجل ويجلونه، فأطلقوا اسمه الكريم على شارع يخترق البلدة دليلا على ما يكنونه له من إعجاب وتجلة وتقدير.
عامورة
طيف الحسيني