المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 966 - بتاريخ: 07 - 01 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٦٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 966

- بتاريخ: 07 - 01 - 1952

ص: -1

‌الرسالة والدعوة

تستقبل الرسالة بهذا العدد عامها العشرين وهي تحمد الله على أن فسح لها العمر حتى رأت أكثر ما دعت إليه يتحقق رأت الوحدة بين أمم العرب في الشعور والهوى والرأي والأمل والغرض قد تمت بفضل الصحافة والثقافة والأدب. فهم يتآلفون في القرب، ويتعاطفون في البعد، ويتناصفون في الخلاف، ويتحالفون في الكريهة، ويشد بعضهم بعضا في مجاهدة العادي ومجالدة الباغي. والوحدة بين دولهم توشك أن تبلغ التمام ولولا ما يعوقها الحين بعد الحين من وساوس يلقيها شيطان خادع من الإنجليز، في صدر إنسان مخدوع من العرب! ووسوسة الشيطان، لا تبقى مع الإيمان. وإيمان العرب بربهم وبأنفسهم قواه الوعي حتى غلب على إيمانهم بأصنام السياسة وطواغيت الحكم. فهيهات بعد اليوم أن يستكينوا لزعيم منّهم، أو يستنيموا لخصيم مخاتل!

ثم رأت الرسالة فيما رأت تباشير الجامعة الإسلامية تلوح في أفق باكستان. ولن تلبث هذه التباشير أن تسفر في آفاق الشرق المحمدي كله، فيتصل نور بنور، ويمتزج شعور بشعور، وتتحد قوة بقوة. ولباكستان إذا تكلمت العربية خطر خطير في مستقبل الأمة الإسلامية. إنها قبلة رجاء الإسلام كما أن مصر قبلة رجاء العروبة. وهي للمسلمين خير العوض من تركية الذاهبة!

وأجمل ما رأته الرسالة في سنواتها القريبة انبعاث الإسلام الصحيح الخالص في قلوب المثقفين من أهله. كان الإسلام منذ ضعف في العالمين سلطانه، واستعجم على أشباه المسلمين قرآنه، قد أصبح رسما محيلا في قلوب بعض، وصورة شوهاء في أذهان بعض. فالخاصة قنعوا بمظهره، ثم جعلوا شرعهم غير شرعه، ودستورهم غير دستوره، وقبلتهم غير قبلته. والعامة عبثوا بجوهره، فقبلوه صوفية حمقاء خرقاء لا صلة بين شعوذتها وعباداته، ولا نسبة بين سلبيتها ومعاملاته

وكانت (الرسالة) منذ حملت أمانة الدعوة إلى السبيل التي عناها الرسول الأعظم بقوله: (تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) ما فتئت تذكر المسلمين بأنهم الأمة الوسط التي نزهها الله عن مادية اليهود وصوفية الهنود ورهبانية النصارى، (وأن دينهم مصحف وسيف، وشرعهم دين ودنيا، وتاريخهم فتح وحضارة، وحربهم جهاد وشهادة، وزعامتهم خلافة وقيادة، وحياتهم عمل وعبادة) حتى أراد الله لدينه

ص: 1

أن يستبين ولطريقه أن يتضح ولحبله أن ييتجدد، فتألفت (الإخوان المسلمون) على موثق الدعوة الكبرى، وأخذوا يدعون إلى الله على بصيرة. في أيمانهم المصحف للعقل، وفي شمائلهم السيف للهوى؛ ويحاولون أن يبعثوا في الهيكل الواهن المنحل وروح الإسلام الفتية القوية التي نقلت البدو الجفاة الحفاة من بوادي الجزيرة رعاة غنم، إلى حواضر الدنيا قادة أمم

فالإخوان المسلمون الذين يسمون أنفسهم رهبان الليل وفرسان النهار، هم وحدهم الذين يمثلون في هذا المجتمع الممسوخ عقيدة الإسلام الخالص، وعقيلة المسلم الحق

إنهم لا يفهمون الدين على أنه صومعة منعزلة، ولا الدنيا على أنها سوق منفصلة؛ وإنما يفهمون أن المسجد منارة السوق، وأن السوق عمارة المسجد. وكيف تفترق الروح عن الجسد إلا في الموت، وينقطه الهادي عن الركب إلا في الضلال، وينفصل الدين عن الدنيا إلا في الكفر؟ لذلك كان للإخوان المسلمين في الإرشاد لسان، وفي الاقتصاد يد، وفي الجهاد سلاح، وفي السياسة رأي وهم لا يؤمنون بالحدود السياسية والجغرافية في وطن الإسلام الأكبر! إنما يبسطون تآخيهم على كل رقعة من الأرض يذكر فيها أسم الله. فلهم في كل بلد من البلاد العربية أتباع، وفي كل قطر من الأقطار الإسلامية أشياع.

وبفضل هذه الروح القدسية المحمدية التي بثها الإخوان في العالم الإسلامي بالدعاية والقدوة، دبت فيه الحرارة، وغلا به النشاط، واستولى عليه القلق، وعصفت به الحمية؛ فهو يثور على المستعمر، ويتمرد على المستبد، ويتنكر للمفسد. وما يقظة الوعي العام في مصر والسودان، وفي العراق وسورية وفي اليمن والحجاز، وفي الجزائر ومراكش، إلا شعاع من هذه الروح سيكون له بعد حين نبأ!

أما الجماعات الدينية أو الصوفية التي لا تفهم من الإسلام إلا أنه أوراد تتلى، وأذكار تقام، ولحى تعفى، وشوارب تخفى، وعذبات ترسل، فهي من الشوائب المخدرة السامة التي علقت بالإسلام حين صده الجهل والضعف عن سبيله، فتراجع فيضه وسكن تياره. والماء إذا ركد تأسن وفشت فيه الجراثيم. ودعوة الإخوان عسية أن تزيل حواجز الباطل من وجه التيار، وأن تنقى مشارع الحق من هذه الأكدار

كذلك رأت الرسالة في عامها المنصرم مظهرا من مظاهر الوعي الإسلامي تجلى في ثلاثة

ص: 2

أحداث جسام روعّت الساسة وفزعّت الجيوش وشغلت المجالس: تأميم البترول في إيران، وإلغاء المعاهدة في مصر، وقيام الدولة العربية الثامنة في ليبيا! شيء جديد في حياة العرب والمسلمين لم يكن لهم به في التاريخ الحديث عهد!

من كان يظن أن إيران تصفع قذال الأسد، وأن مصر تبصق في وجهه، وهما الدولتان اللتان خضعتا طويلا لنفوذه خضوع العبد الوليه، أو القاصر لوصيه؟ لقد مزقت الدولتان عرض (جون بول) يوم مزق (مصدق) عقد الاستغلال، ومزق (النحاس) عهد الاحتلال. ولم يمزقهما الرجلان بقوة الجيش وسلاحه، وإنما مزقاهما بإرادة الشعب وكفاحه! إنه الروح الذي أرهب الموت! وإنه الوعي الذي أذهب الغفلة!

هذه بسمة الأمل في أول العام عبرت عنها بهذه الكلمة شكر الله على تحقيقه، وطلبا للمزيد من عونه وتوفيقه

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌ذكرى مولد الرسول

لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت

عضو جماعة كبار العلماء وعضو مجمع فؤاد الأول

في شهر ربيع الأول من كل عام يقيم المسلمون حفلات الذكرى لميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فينصبون السرادقات، ويرفعون الأعلام، ويلقون الخطب، ويذيعون الأحاديث، ويكتبون الفصول، يشرحون للناس فيما يخطبون ويذيعون ويكتبون سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أو ناحية من نواحي سيرته، ويذكرون تشريعه وأحكامه وطريقته في التأديب وإنهاض النفوس وتهذيب الأخلاق. يذكرون أطواره التي مر بها بها في حياته قبل البعثة وهو طفل رضيع في بادية بني سعد، وهو غلام حدث يرعى الغنم بمكة، وهو شاب قوي جلد يسافر ويتجر، ويحضر حرب الفجار وحلف الفضول، ثم يذكرون دعوته وكيف بدأت سرية ثم كانت جهرية، ويذكرون ما ناله من أذى قومه واضطهادهم له، وتضييقهم عليه حتى أخرجوه من دياره وأمواله إلى المدينة، فكانت الهجرة، وكانت الحروب، إلى أن نزل قوله تعالى بعد ثلاث وعشرين سنة من مبعثه (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)

على هذا النحو يحتفل المسلمون بذكرى ميلاد الرسول في يوم أو أيام ويقولون إنها ذكرى (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين). ولقد كان المسلمون في عصورهم الأولى لا يعرفون احتفالا خاصا يقيمونه في مثل هذه الأيام بقصد إحياء ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يرون أن عظمته ليست من جنس هذه العظمات التي يألفها الناس في أفذاذهم ورجالهم، والتي يخشى عليها من الضياع والتلاشي في بطون التاريخ فيحتاج بقاؤها في أذهان الناس إلى ما يذكرهم بها في كل عام. كانوا يؤمنون أن عظمته خالدة، تظل دائما قارة في النفوس، ماثلة في القلوب، ممتزجة بالدماء، مؤاخية للعقيدة، تظهر في أقوالهم إذا نطقوا، وفي حركاتهم إذا تحركوا، وسكونهم إذا سكنوا. تظهر في جميع شئونهم الفردية والاجتماعية، السرية والعلنبة، الدنيوية والأخروية، إلى يوم البعث والجزاء، بل وفي النعيم الباقي الذي لا يفنى ولا يزول؛ فهي عظمة قد رسمت لهم باطن الحياة وظاهرها، وحدودها ودوائرها، لم تقف عند ناحية من نواحي الحياة، بل لم تقف عند حدود هذه الحياة الفانية

ص: 4

فشملت جميع نواحي الحياة، وامتدت إلى الحياة الآخرة فكشفت عن حجب غيبها وصورت ما يكون فيها للمحسن من نعيم، وما يكون فيها للمسيء من شقاء

لم تكن عظمته بانتصار في معركة، ولا برأي في علم، ولا بنظرية في أرض أو سماء، وإنما كانت عظمته عامة شاملة بهذا آمن المسلمون في عصورهم الأولى يوم كان الإيمان قويا في النفوس، تشتعل جذوته فتلتهب الجوارح وتبذل الأنفس، ويضحي بالدماء في سبيل ترسم خطى تلك العظمة والجد في معرفتها وتبينها من مصادرها ونشرها على العالم مهذبة نقية، كي تحيا بها النفوس وتطمئن إليها القلوب؛ وبذلك كانت جميع أيامهم، وجميع أوقاتهم ذكرى عملية لهذه العظمة

ذكرى عملية يتمثلون فيها مبادئه وأحكامه، وإرشاداته الحكيمة، ويسيرون على نهجها فكانت حالتهم مثالا صادقا، ومرآة صافية ترى منها عظمة الرسول لمن أراد من غيرهم معرفة عظمة الرسول

كانوا يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كرم الله قدره ورفع ذكره أرفع قدرا وأعلى شأنا من أن يكرم كما يكرم آحاد الناس بخطبة تلقى، أو حديث يذاع، أو فصل يكتب. كانوا يرون أن الله قد كرمه وليس بعد تكريم الله تكريم: خلد اسمه في كتابه الخالد؛ فذكره باسمه الصريح، وذكره بوصف الرسالة، وذكره بوصف العبودية لله الواحد، وذكره بعظمة خلقه، وذكره برحمته للمؤمنين، وبرحمته للناس أجمعين، وذكره بأنه المزكي للنفوس المعلم للكتاب والحكمة؛ وذكره بكل هذا كما ذكره بأنه شهيد على أمته، وبأنه صاحب المقام المحمود. ثم جعل محبته م محبته، وطاعته من طاعته، وبيعته من بيعته

لم يقف التكريم الإلهي لمحمد صلى الله عليه وسلم عند هذا الحد، بل جعل له ذكرا في الأولين إذ كتبه في التوراة والإنجيل، وجعل له ذكرا في الآخرين إذ قرن بينه وبين اسمه الكريم في كلمة التوحيد التي يكون بها المرء مسلما، والتي هي الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، وإذ جعل المناداة باسمه جزاءا من الأذان الذي يقرر في كل يوم خمس مرات بصوت مسموع إيذانا بالصلوات المفروضة وجمعا للمسلمين على عبادة الله. لم يكن بعد هذا كله ما يلتمس أن يكون تكريما لمحمد. ومتى كانت هذه العظمة تنسى حتى يذكر بها؟ ومتى كان هذا التكريم يخفى حتى نعمل على إظهاره؟

ص: 5

آمن الأوائل بهذا كله فآمنوا بأن تمجيد رسولهم وتكريمه إنما يكون عن طريق أتباعه وإحياء سنته، والتحلي بأخلاقه، وإقامة شرعه ودينه. آمنوا بهذا وعلموا أن الإيمان الحق يثمر المحبة الصادقة، وللمحبة الصادقة حقوق وعليها تبعات، فمن حقوقها المتابعة لمن تحب، والرضا لما يرضيه، والغضب لما يغضب. ومن تبعاتها تحمل المشاق والتضحية بالنفس في سبيل رضا المحبوب (قل إن كان آبائكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره)

ظل المسلمون كذلك حتى خف ميزان الإيمان من قلوبهم وانطفأ عنهم نور تلك العظمة وأقفرت بصائرهم من أسرارها ولم يبق لهم إلا صور مرسومة بحروف في الصحف والكتب يرجعون إليها كلما عاودتهم ذكرى تلك العظمة؛ وكلما تذكروها بشهر ربيع، فوضعوها في مستوى العظمات الأخرى وجاروا الناس في تكريم عظمائهم فكرموا بأساليبهم. كرموه بالأناشيد، بالأزجال، بالأنغام، وتفننوا في المحاكاة حتى صاغوا عظمة محمد في أسلوب روائي قصصي وقالوا: قصة المولد الشريف. وما كان لعظمة محمد أن تكون قصة وهي الحقيقة الخالدة. ولكن هكذا ابتدع هذا الأسلوب في تكريم محمد كأثر من آثار الضعف حينما ابتلى المسلمون بالقول دون العمل، وحينما انقطعت الصلة العملية بينهم وبين شريعته صلى الله عليه وسلم

ابتدع هذا الأسلوب من التكريم بعد أن لم يكن، فهل بحث الناس عن سبب ابتداعه؟ وهل تساءلوا عن السر في أنه لم يكن في العصور الماضية، عصور القوة والإيمان، ثم كان في عصورهم؟ هل انصرفوا إلى هذا الجانب الذي كان يرجى أن يعرفوا منه أسباب الضعف الذي أنتاب المسلمين وأن يعملوا على تلافيها وإعادة الإسلام إلى مجده وقوته؟ كلا ولكنهم انصرفوا إلى البحث في أنه بدعة أو ليس بدعة؟ وإذا كان بدعة فهل هي بدعة حسنة أو بدعة غير حسنة؟ وهكذا اختلفت مذاهبهم وتعددت آراؤهم وظلوا إلى يومنا هذا بين محبذ ومنكر، شأنهم في كل شيء تناولوه بروح الجدل الذي صرفهم عن العمل. وما ابتليت أمة في حياتها بشر من كثرة القول وقلة العمل. قد ابتلى المسلمون بالجدل في كل شيء، فصرفهم عن العمل بقدر ما جادلوا: جادلوا في العقائد، جادلوا في الأحكام، جادلوا فيما ليس

ص: 6

من العقائد والأحكام، جادلوا في الكلمات والألفاظ، جادلوا حتى في القواعد التي وضعوها للجدل! وهكذا صار الجدل شغلهم الشاغل فتلهوا به عن فهم الإسلام، وعظمة الإسلام، وسر دعوة الإسلام. تلهوا به عن إدراك مقومات الحياة، فوقعت كل الشعوب الإسلامية في قبضة المستعمرين وتحت راياتهم. وما من شعب لإسلامي اليوم إلا وتسمع مر شكواه وصرخة أنينه

كان جديرا بالمسلمين أن يعملوا جاهدين على دوام التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتزام رسالته التي لم تترك سبيلا للسعادة إلا شرعته ودعت إليه، ولا سبيلا للشقاء إلا منعته ونفرت منه. أصلحت العقيدة، وكرمت بذلك عقل الإنسان وأزالت عنه وصمة الشرك والعبودية لغير الله، ثم أمدتها بمدد دائم روحي لا ينقطع:

أمدتها بالصلوات التي تصل بين العبد وربه، وتذكره بخالقه ومنشئه، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر. أمدتها بالصوم تمرينا على الصبر، وتعويدا على الطاعة، ومراقبة الله في السر والعلن. أمدتها بالزكاة تمرينا على العطف والبر والرحمة والرفق بالمحتاجين. وجعل منها نظاما يحفظ الغنى من الطغيان، والفقير من الحرمان ثم نظرت إلى أن المجتمع الصالح إنما يقوم على العلم والمال والأسرة ونظام الدولة والصحة العامة، والقوة، والعدل، وفي هذه الدوائر رسمت برنامج إصلاحها الشامل، فحثت على العلم ووضعت نظاما للتعامل من شأنه أن يبطل النزاع ويزيل الفساد، ويقضي على أسباب الفتن، ووضعت نظاما للأسرة يقيها الانحلال ويربطها بميثاق المحبة والتعاون. وضعت أصول الحكم وبينت مصادر التشريع، وحثت على اتخاذ الحيطة وإعداد القوة، وأمرت بالرحمة والعدل في كل شيء إلى آخر ما جاءت به هذه الرسالة التي سايرت مقتضيات الطبيعة البشرية، واستطاعت أن ترد العالم في فترة وجيزة عن طغيانه وأن تخرجه من الظلمات إلى النور، واستطاعت أن توجد من رعاة الشاة والإبل عباد الأصنام والكواكب، عبادة الأهواء والشهوات، أمة قوية تؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لها الكلمة المسموعة والسلطان النافذ

أما بعد

فهذا هو مجال ذكرى محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى المسلمين إذا أرادوا تصحيح نسبتهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى رسالته أن يخلعوا أنفسهم مما هم فيه من اللهو

ص: 7

واللعب وأن يتخذوا العدة لتهيئة النفوس بالإيمان الحق والخلق الفاضل، ثم يخلصوا أحكامها مما غشاها، ويحصنوا بها حياتهم، وعندئذ تكون ذكرى الرسول فيما بينهم كما كانت ذكراه فيما بين أسلافهم إيمانا وخلقا، وعلما وحكمة، وعزة وقوة (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)

محمود شلتوت

ص: 8

‌من مشاهدة الهجرة ما فيه روعة وعبرة

لصاحب الفضيلة الأستاذ عبد القادر المغربي

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر

لو يلقى صديقا مؤاتيا

قال هذا الشعر أحد الأنصار من أهل المدينة يذكر نعمة الله عليهم مذ جعل رسوله الأمين يهجر قومه إليهم

فهو يقول أنه (ص) لبث في قومه قريش ثلاث عشرة سنة يذكرهم ويدعوهم إلى الإسلام وهم لا يزدادون إلا عتوا واستكبارا

فرأى أخيرا أن هذا العناد من قومه يحول بينه وبين حريته في نشر دعوته، وأنه إذا بقى في مكة قريبا من المشركين سهل عليهم أمر مراقبته وإسكاته وخفق دعوته، فلا تخلص إلى سائر العرب بيسر وسهولة

وإنه إذا أراد رفع الصوت بها، والنجاح في تبليغها، واجتماع كلمة العرب عليها، كان عليه أن يهجر مكة إلى مكان آخر يأمن فيه على نفسه ويكون حرا في تبليغ دعوته، وأداء رسالته

لما رأى (ص) كل هذا وجد من الحزم أن يستعين بقوة خارجية، أي بقوة من جزيرة العرب غير قومه قريش الواقفين له بالمرصاد. وساعده على الاتصال بالقوة الخارجية أن العرب يفدون كل سنة إلى موسم الحج. فاغتنم هذه الفرصة وعرض نفسه في أحد المواسم على القبائل، فكانوا يستهزئون به؛ حتى اتفق له في بعض المواسم على القبائل، فكانوا يستهزئون به؛ حتى اتفق له في بعض المواسم أن اجتمع بطائفة من أهل يثرب (وهو اسم المدينة المنورة في زمن الجاهلية) وكانوا مشركين. . يحجون إلى البيت كسائر العرب، ويشاركهم في سكنى يثرب قوم من اليهود نزلوها منذ القديم، فعرض (ص) دعوته عليهم فأصغوا إليه بحرص وانتباه. وكانوا يسمعون مكن اليهود أن الله سيرسل إلى العرب ومن العرب نبيا ينقذهم من الضلالة. فقبلوا الدعوة منه (مبدئيا)، وكانوا ستة رجال، وقالوا له إنهم لا يقدمون على قبول الإسلام ما لم يرجعوا إلى يثرب. ويراجعوا قومهم بالأمر. وكان قومهم قبيلتين: الأوس والخزرج، وهم الذين سموا فيما بعد الأنصار، وإخوانهم الذين

ص: 9

هاجروا إليها سموا المهاجرين وفي ثاني موسم أقبل اليثربيون واجتمعوا به (ص) في مكان اشتهر اسمه بالعقبة، وهو المكان الذي اجتمعوا به فيه بالموسم الماضي. فالاجتماع الأول سمي (العقبة الأولى) والثاني (العقبة الثانية). وكانوا هذه المرة اثني عشر رجلا: اثنان من الأوس وعشرة من الخزرج. فعرض عليهم (ص) الإسلام وشرح لهم الغرض من إنزاله. وبشرهم بالقرآن. فشرح الله صدورهم إليه وأسلموا، وكتموا إسلامهم ريثما يعودوا في الموسم المقبل ويأتوا بأهل الرأي والرياسة من قومهم. فعادوا ثالث مرة إلى المكان نفسه، وهذه هي (العقبة الثالثة)، وأتوا معهم بامرأتين وكانوا هم ثلاثة وسبعين رجلا: فالمرأة المسلمة ركن في نهوض الإسلام، ويحب أن يكون لها رأي في معظم (حركاته). فأسلموا كلهم على شروط شرطها النبي (ص) عليهم وهي:

توحيد الله

طاعة النبي صلى الله عليه وسلم

قول الحق

ترك المحرمات

احترام المرأة وعدم وأدها

فرضوا بذلك ورجعوا إلى المدينة فرحين مستبشرين بالإسلام وبشروا قومهم به. وأخبروهم أن النبي (ص) قادم إليهم. وسيقيم بين ظهرانيهم

أما النبي (ص) فرجع إلى مكة مصمما على الهجرة كما وعدهم واستأذن ربه بها. فأذن له بالرحيل:

إلى أين؟

إلى يثرب. إلى المدينة المنورة

حتى إذا جاء الميعاد: وهو اليوم الذي عينه للرحيل، خرج من دار أبي بكر ومعه أبو بكر وحده، ظهر يوم الاثنين الواقع في غرة شهر ربيع الأول ولما صار خارج مكة التفت إليها مودعا قائلا:(ما أطيبك من بلد! وما أحبك إلي! ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت) وقد وقع له صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة المنورة حوادث عجيبة، في سردها روعة الأفلام السينمائية، ولها في نفوس سامعيها هزة تحيي الذكريات الدينية، وتنعش

ص: 10

الأحلام القومية. ومشاهد هذا الفلم المقدس متعددة متنوعة ليس باستطاعتي أن أعرضها كلها، فاكتفى بعرض ثلاثة مشاهد منها

(المشهد الأول) قصة أول مهاجر من مكة إلى المدينة

(المشهد الثاني) النبي (ص) في خيمة (أم معبد)

(المشهد الثالث) مهرجان الوصول إلى المدينة

وسأورد على القراء هذه المشاهد الثلاثة بطريقة تنسيني عن التعليق عليها وغمرها بالاستنتاجات، إذ أنها تعرب عن مغزاها وتنطق بنتائجها. بل إن مجرد سماعها مبسوطة هذا البسط ينبه في النفوس الشعور بخطورة الهجرة وعظم شأنها، وجلال أثرها. وإنها أشد الأحداث تأثيرا في ظهور أمر النبي (ص) ونقل دعوته من طور إلى طور: من طور القول إلى طور العمل، ومن طور العرض إلى طور التنفيذ

كان خبر عزم النبي على الهجرة بلغ قريشا فأخذوا يفكرون في أمرها وصد النبي عنها، بينما هو كان يفكر في إعداد وسائلها، وتهيئة أدواتها. غير أن بعض كرام صحابته أحبوا أن يتعجلوا السفر إلى يثرب فرارا بدينهم من المشركين وأذى القساة القلوب من أهليهم وذوي قرابتهم

هاهي ذي مكة ساكنة هادئة، وقريش وادعون في بيوتهم في وقت لا ينشط الناس فيه إلى حركة ولا ممارسة عمل.

فماذا نرى؟

ترى في بعض أزقة مكة رجلا وامرأة قد أناخا بعيرا، وأخذا يحملان على ظهره أمتعتهما وأدوات سفرهما. وكان يجول حولهما صغير لهما يطلب الركوب على البعير بدلال ولجاج حتى إذا فرغا من عملهما أركب الرجل زوجته على رحل البعير، ووضع ابنها الصغير بين يديها. ثم نهض البعير فأمسك الزوج بخظامه يريد الخروج من مكة متكلا على الله. وكان هؤلاء المسافرون يتكلمون همسا، وكأنهم كانوا يريدون أن يخفوا أصواتهم فلا يشعر برحيلهم أحد، لولا أن البعير برغائه وثرثرته فضح أمرهم، ونبه أهلهم وجيرانهم إليهم. فتألبوا عليهم. وحاولوا منعهم من السفر. فجعل الرجل يجادلهم بالمعروف، ويقول إنهم لا حق لهم في معارضته. وليس لأحد منهم دين في ذمته. فانبرى له رجلا منهم قائلا:

ص: 11

يا أبا سلمة، اذهب أنت وحدك؛ أما زوجتك (أم سلمة) فهي قريبتنا ولا ندعك تسير بها في البلاد

فصاحت أم سلمة: وأنا أيضا لا أدع زوجي يسافر وحده وأبقى عندكم سجينة، وأخذت في مجادلة أهلها وتوبيخهم على صنيعهم الفضولي

وفي آخر الأمر تغلب أهلها عليها فانتزعوها من زوجها بالقهر عنها وعنه

عندها تقدم أهل أبي سلمة وكانوا إلى ذلك الحين ملازمين الصمت فقالوا لأهل أم سلمة: إذا كنتم ولا بد آخذين ابنتكم فإن ابنها الصغير (سلمة) لا نسلمكم إياه، ولا نسمح لكم بأخذه؛ فإنه ابننا لا ابنكم

ثم عمدوا إلى الصبي فأمسكوا بذراعه، وكان أخواله ممسكين باليد الأخرى، وما زالوا يتجاذبونه حتى خلعوا كتفه. فأعولت أمه واشتدت الضوضاء. وأخيرا غلب أهل الزوج وأخذوا الطفل

كل هذا يجري والبعير يرغو، والصغير تارة يبكي وطورا يلغو، وأبو سلمة المسكين ينظر إلى الفريقين أهلة وأهل زوجته حائرا لا يدري كيف يصنع. ثم صمم على الرحيل تاركا ابنه وزوجته إلى كلاءة الله. وامتطى راحلته وولى وجهه شطر المدينة معتمدا على ربه، مسلما وجهه إليه بجميع شراشر قلبه

وبقيت (أم سلمة) في مكة عند أهلها. أما أبنها ففي بيت أعمامه. وكانت في كل صباح تخرج إلى الأبطح حيث يجتمع الناس للنزهة والحديث فتندب حظها، وتبكي شجوها، صارخة: وا زوجاه! وا ولداه!

ولبثت على ذلك سنة حتى مر بها رجل من بني عمها فرحمها ورثى لحالها. وذهب إلى قومها. فقال لهم: ويحكم أما ترحمون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين ابنها وزوجها! فخجلوا. وقالوا لها الحقي بزوجك

قالت أم سلمة: فلم أكد أسمع هذه الكلمة منهم حتى هرولت إلى بيت أهل زوجي فأخذت ابني وأركبته أمامي على البعير وانطلقت أقصد يثرب وحدي لا يرافقني أحد. حتى بلغت التنعيم (وهو منزل على ثلاثة أميال من مكة) فصادفت هناك عثمان بن طلحة الحجبي وكان مشركا على دين قومه، ثم أسلم رضي الله عنه، فقال لي إلى أين؟ وكان بلغه خبري،

ص: 12

فقلت إلى زوجي في المدينة. قال أو ما معك أحد؟ قلت لا، إلا الله وابني هذا. فقال والله لا أدعك تسيرين وحدك. ثم أخذ بخطام بعيري وسار بي. وكنا إذا أردنا النزول أناخ البعير واستأخر عني، فأنزل وأنزل ابني، فيجيء ويأخذ البعير فيحط عنه رحله وأداته؛ ثم يربطه بشجرة؛ ثم يذهب ناحية فيضطجع. وحين الرواح يقوم إلى البعير فيضع عليه رحاه ويستأخر. فأتقدم وأركب.

وأضع طفلي أمامي ثم نسير على بركات الله

ولم نزل هكذا حتى وافينا المدينة، وإذا أناس، وإذا بينهم زوجي. فقال لي عثمان: يا أم سلمة، هذا زوجك أبو سلمة. فما كان أشد فرحنا بتلاقينا!

وكانت أم سلمة بعد ذلك إذا حدثت عن هجرتها تقول: ما رأيت قط صاحبا في سفر أكرم من عثمان بن طلحة

ندع أم سلمة وزوجها في المدينة قريري العين، يجمع الشمل بعد البين، ثم نرجع في الحافرة:(أي في الطريق التي جئنا منها) ولا نزال نجد السير حتى نبلغ منتصف الطريق فماذا نرى؟

نرى خيمة قد نصبت على قارعة الطريق. وهي خيمة (أم معبد). وأم معبد هذه امرأة برزة جليلة (والمرأة البرزة في لغة العرب هي التي تبرز إلى الرجال فتجالسهم وتحادثهم) وقد اتخذت أم معبد في منتصف الطريق بين مكة والمدينة خيمة أعدت فيها كل ما تستطيع تقديمه لراحة المسافرين. فكان المسافرون الذين يتعبهم السير، والطريق طويل والحر حر الحجاز، يعرجون على خيمة (أم معبد) فيجدون فيها ما هم في حاجة إليه من طعام وشراب واستجمام وحديث عذب نزيه تطرفهم به صاحبة الخيمة فكانت خيمتها أشبه بمحطة من محطات سكك الحديد أو فندق من فنادق المسافرين التي تقام في الطرقات الشاسمة، وام معبد هي مديرة ذلك الفندق المتواضع ولما أشرفنا على أم معبد رأيناها منهمكة في تهيئة ما يلزم لركب كريم نزل بها: سيدان وخادمان. وأحد السيدين يمتاز في حسن سمته، وجلالة قدره، وجمال طلعته. وكنا نرى رفاقه الثلاثة يحيطون به: يرفهون عنه، ويبتغون راحته، ويسارعون في خدمته

أما (أم معبد) فكانت موزعة الفكر، ذاهلة اللب، كأنها مأخوذة بمهابة ذلك السيد الذي نزل

ص: 13

بها. وما كانت تعرف من هو ولكن نحن عرفناه: هو نبينا محمد (ص) ومعه صاحبه (أبو بكر الصديق) و (عامر بن فهيرة) خادم أبي بكر، و (عبد الله بن أريقط) دليلهم في طريق هجرتهم إلى المدينة وإذا أبو بكر ينادي: يا أم معبد، أما لديك ما نأكله وندعو لك؟

بلى يا سيدي: وأسرعت فقدمت إليهم لبنا. لكنه - وا خجلتاه - دون كفايتهم. وأخذت تعتذر لضيوفها بأن السنة سنة جدب وقحط

وحانة من النبي (ص) التفاته فرأى شاة رابضة في جانب الخيمة وهي جافة الضرع مهزولة الجسم، فقام إليها ومسح ضرعها، وأم معبد تتعجب وتقول في نفسها: ماذا عساه يفعل؟! وإذا هو يحلب الشاة، وإذا هي تدر باللبن. فشربوا حتى إذا ارتووا واستراحوا هبوا عجلين إلى ركائبهم فامتطوها. واستبقوا طريقهم إلى المدينة وتركوا أم معبد في دهشة من أمرهم

وبعد هنيهة قدم عليها زوجها أبو معبد فرآها مضطربة متغيرة اللون. ورأى في جنبات الخيمة آثار أكل وشرب. ورغد وخصب

يا أم معبد ما الخبر؟ وما هذا الذي أراه؟

فأخبرته بخبر المسافرين الذين نزلوا بها، وان واحدا منهم قام إلى نعجتها هذه العجفاء الجافة الضرع فدرت لبنا غزيرا

يا أم معبد، صفي لي هذا الرجل العجيب! فقالت:

(إنه ظاهر الوضاءة، مليح الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة. في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف. أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة. إذا صمت فعليه الوقار. وإذا تكلم سما وعلاه البهاء. كأن منطقه حزرات نظمن ثم تحدرن. حلو المنطق. لا نزر ولا هذر. أجهر الناس إذا تكلم وأجلهم من بعد. وأحلاهم وأحسنهم من قريب. ربعة. لا تشنؤه العين من طول، ولا تقتحمه من قصر. غصن بين غصنين. له رفقاء يحفون به. إذا قال يستمعون لقوله، وإذا أمر يتبادرون لأمره. محفود، محشود، لا هو عابس ولا مفند)

فلما سمع أبو معبد هذا الوصف قال وقد علاه الوجوم: ويحك يا أم معبد! هذا هو صاحب قريش الذين ما زالوا يطلبونه. وقد بذلوا جعلا لمن يرده إليهم. ثم تركها وأخذ يشتد في أثر

ص: 14

الركب حتى أدرك النبي (ص) فأسلم ورجع إلى قبيلته يبشرهم بالإسلام وجعل رجال القبيلة الذين بلغهم خبر مرور النبي (ص) بأم معبد يفدون على خيمتها: يستوصفونها صفة النبي، وهي تصفه لهم. حتى قال لها بعضهم:(يا أم معبد! ما بال وصفك للرسول أوفي وأتم من وصفنا له لو رأيناه نحن معشر الرجال؟ فقالت: (أما علمتم أن المرأة إذا نظرت إلى الرجل كان نظرها أشفى من نظر الرجل إلى الرجل؟) ومعنى (أشفى) أدق وأكثر استقصاء وانتباها أحسنت فيما قلت يا أم معبد! غير أن علماء الحديث اعترضوا عليك في قولك أن النبي كان (أقرن) أي مفرود الحاجبين مع أن الذين وصفوه من الصحابة غيرك قالوا إنه كان (أفرق) أي مفروق الحاجبين متباعدهما لا مقرونهما. وقولهم هو الصحيح في وصفه

وعندي أن (أم معبد) لم تخطيء في الوصف كما زعموا، تقل (أقرن) وإنما قالت (أفرق) لكن النساخ هم الذين حرفوا كلمتها وما أسهل وقوع التحريف بين (أفرق) و (أقرن)

ندع خيمة أم معبد وننطلق مسرعين إلى يثرب

فماذا نرى؟

نرى المدينة المشرفة قد تألقت وتأرجت حتى أصبحت تحكي باقة زهر، أو ابتسامة ثغر، وقد برز سكانها إلى ساحاتها وضواحيها، وأخذوا يروحون ويغدون بينها وبين (قبا). و (قبا) قرية تبعد نحو أربعة كيلومترات عن المدينة

ونسمع فئات من الفئتين يتجادلون في النبي (ص) هل يبيت في (قبا) أو أنه بعد أن يستريح فيها يجيء المدينة؟

وكانوا يتواصفون ويذكرون من جماله وهيبته. فقال بعضهم اسمعوا: جئت الآن من (قبا) وقد رأيت أبا بكر واقفا على باب البيت الذي فيه النبي فحسبته النبي نفسه. وذلك لما رأيت من مهابته، وجلال قدره، والشيب الظاهر في لحيته. فتراميت عليه مرحبا متبركا، وإذا هو يمسكني بيدي فيقودني إلى داخل البيت ويقول هذا هو نبيك. فإذا لحيته الشريفة سوداء ليس فيها شيب. مع أنه أكبر من أبي بكر بثلاث سنوات. وكان النبي في نحو الخمسين من عمره ولما خرج النبي من قبا متهيئا للمسير إلى المدينة وقف أبو بكر يظلله بردائه وقاية له من حر الشمس. فعرفه الناس حينئذ. وجعلوا يهتفون إليه بالتحية والترحيب والإجلال

ص: 15

والتعظيم

ثم ركب النبي ناقته وأردف أبا بكر خلفه. وأخذ طريقه إلى المدينة. وانساب الناس حواليه فرحين مستبشرين حتى دخلوها فإذا أجاجيرها (أي شرفات سطوحها) مزدحمات بالنساء فما رأين شخص النبي حتى علت أصواتهن بالزغردة والأناشيد

وكان صغار الصبيان والجواري يمشون زرافات بين يدي النبي يضربون بالدفوف ويغنون النشيد الذي يصلح أن نسميه (نشيد الهجرة) وأوله:

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

وكان الرجال يتحمسون عند سماع زغردة النساء فيترامون على ناقة النبي ويتجاذبون زمامها يريد كل منهم أن يكون هو قائدها. وتفرق الغلمان والخدم في سكك المدينة ينادون (جاء محمد رسول الله. الله أكبر. جاء محمد رسول الله) وأشباه ذلك كلمات الغبطة والفرح والتنويه بقدره الشريف. وعلى جوانب الطريق كان جماعات الجيش يرقصون ويغنون ويلعبون بالحراب فرحا بقدوم النبي

ولما تخلل الموكب دور المدينة جعل سكانها يقفون في وجه الناقة ويضرعون إلى النبي أن ينزل ضيفا عليهم. وكانوا أحيانا يمسكون بزمام الناقة ويميلون رأسها إلى جهة بيوتهم، وهو صلى الله عليه وسلم يقول لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة. وكانت الناقة تنظر يمينا وشمالا كأنها تفتش عن دار تختارها لنزولها

وأخيرا بركت على باب (أبي أيوب النجاري (الأنصاري) وأرزمت (أي حنت الناقة حنينا طويلا). عندها نزل النبي ودخل الدار قائلا (رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) فاستقبله أهل الدار بالترحيب، وبرز من داخل البيت جويريات بأيديهن دفوف وجعلن يغنين:

(نحن جوار من بني النجار

يا حبذا محمد من جار)

قال أنس خادم النبي: (إنني لم أر يوما في عمري أحسن ولا أضوء من ذلك اليوم الذي دخل فيه النبي المدينة ونزل دار أبي أيوب)

رأيتم أيها السادة القراء كيف أن الإسلام نشأ في قلة، وتكون من ضعف؛ ثم استحال الضعف إلى قوة ما لها حد، والقلة إلى كثرة لا يحصى لها عد

ص: 16

عربي فرد صلى الله عليه وسلم بعد عشر سنين من هجرته أخضع مائة ألف عربي لحكمه، ومائة الألف عربي بعد نحو سبعين سنة أخضعوا ملايين وملايين من البشر واستولوا ممالك العالم المعروف في ذلك الزمن!

قال علماؤنا رضي الله عنهم: يجب على الأب والأم أن يلقنا طفلهما الصغير حينما يعقل هذا التعليم البسيط وهو: (يا بني إن نبينا محمدا ولد في مكة، وهاجر إلى المدينة فدفن فيها)

فإذا انتقل الصغير من دور الطفولة إلى دور النشوء (أو دور التعليم الابتدائي) فما هو أول ما ينبغي للمعلمين أن يلقنوه إياه؟

أرى أن يلقنوه بيتا من الشعر قاله أبو تمام وهو:

الصين منظوم بأندلس إلى

جدران رومية فملك ذمار

(وذمار) اسم قديم لليمن. يقول أبو تمام في هذا البيت إن ممالك الإسلام في زمنه (أي في حدود المائتين للهجرة) كان يحدها شرقا الصين، وغربا بلاد الأندلس، وشمالا روما (وكان المسلمون اقتربوا منها وهددوها)، وجنوبا بلاد اليمن الواقعة في جنوب البحر الأحمر! فما أعجب هذا البيت السحري الذي جمع فيه أبو تمام دنيا الإسلام بحدودها الأربعة!

وهكذا كانت عاقبة الهجرة النبوية: وثب الإسلام بعدها من عسر إلى يسر، ومن ضيق إلى سعة: فهو لم يكد يخرج من ضيق خيمة (أم معبد) حتى دخل من سعة بلاد الله خيمة يحدها الخافقان، ويأوي إلى ظلها التقلان!

دمشق

المغربي

ص: 17

‌العالم الإسلامي حقيقة واقعة

للأستاذ سيد قطب

الذين يتحدثون اليوم عن (العالم الإسلامي) بوصفه كتلة ثالثة تملك أن تلعب دورا أساسيا في سياسة العالم، وتملك أن يكون لها وضع خاص متميز لا يرتبط بسياسة الكتلة الشرقية ولا بسياسة الكتلة الغربية.

هؤلاء لا يتحدثون عن مسألة تاريخية قد انقضى أوانها، ولا يتحدثون عن أمل في ضمير الغيب البعيد يتعلق به الخيال. . إنما يتحدثون عن حقيقة واقعة. حقيقة قائمة، لا سبيل إلى إنكارها، ولا سبيل إلى المغالطة فيها. .

إنها حقيقة تاريخية، وحقيقة جغرافية، وحقيقة اقتصادية، وحقيقة فكرية وشعورية. . فلها كل مقومات الحقائق الواقعة التي لا تجدي في دفعها المغالطة والنكران. . .

إنها حقيقة تاريخية. . فالعالم الإسلامي كان كتلة واحدة ذات ثقل واحد في ميزان التاريخ، وميزان الاتجاه العالمي، وميزان السياسة الدولية، وميزان الأحداث الإنسانية. . ولقد ظل كذلك منذ القرن السابع إلى أوائل القرن التاسع عشر. أي حوالي ألف ومائتي عام على الرغم من كل ما حاق به من محن، وكل ما أصابه من ويلات، وكل ما دب في كيانه من تمزق. والفترة الوحيدة التي خف فيها وزن الكتلة الإسلامية هي هذه الفترة الأخيرة التي لا تتجاوز قرنا واحدا من الزمان وهي حقيقة جغرافية؛ فالكتلة الإسلامية تمتد في حدود متصلة أو شبه متصلة من مراكش إلى تونس، إلى الجزائر، إلى طرابلس، إلى وادي النيل، إلى فلسطين، إلى سوريا ولبنان، إلى شرق الأردن والعراق، إلى نجد والحجاز، إلى اليمن، إلى إيران، إلى تركيا، إلى أفغانستان، إلى باكستان، إلى أندنيسيا. وتكون حاجزا كاملا يفصل بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، بحيث يصعب تصور أي التحام بين هاتين الكتلتين لا يمر بذلك الحاجز الطويل العريض المتصل الحدود.

وهي حقيقة اقتصادية؛ فهذه الرقعة الفسيحة من الأرض تحوي من الخامات والموارد الطبيعية والإنتاجية ما يكفي لتكوين وحدة اقتصادية متكاملة، تكاد تكفي نفسها بنفسها. فإذا احتاجت إلى شيء فهي تمتلك أن تقدم نظيره، ويبقى الميزان الاقتصادي العام في صالحها. وقد برهنت الحرب العالمية الماضية على صحة هذه الحقيقة؛ حينما تعذر الاستيراد من

ص: 18

أوربا أو أمريكا لمنطقة الشرق الأوسط، وأقيم بها مركز تموين لتحقيق كفاية نفسها بنفسها. . فإذا أضيفت إلى منطقة الشرق الأوسط تلك المساحات الإسلامية من الشرق الأقصى تمت الكفاية الذاتية، وثبتت تلك الوحدة الكاملة الاقتصادية.

وهي حقيقة فكرية وشعورية؛ فهذه الكتلة المترامية الأطراف يجمع بينها رباط فكري واحد ورباط شعوري واحد. رباط العقيدة الإسلامية، والتفكير المنبعث منها، والنظام الاجتماعي المتأثر بهذه العقيدة، حتى بعد أن طغت عليها النظم الغربية، وبعد ما بعد الكثير من حكوماتها عن حكم الإسلام وتعاليم الإسلام. وما تزال هذه الكتلة تملك ذلك الرباط الواحد الذي تستمسك به جميعا

إن هذه المقومات المتعددة المتكاملة لا يجتمع مثلها لواحدة من الكتلتين الشرقية أو الغربية. فهذه أو تلك تمتلك بعض هذه المقومات، ولكنها لا تملكها مجتمعة، كما تملكها الكتلة الإسلامية، أو العالم الإسلامي. . وإذن فلا مجال للتشكيك في قوة المقومات التي تملكها هذه الكتلة، ولا في قيمتها، ولا في أنها مقومات طبيعية، غير مصطنعة ولا متكلفة. وليست ناشئة من مجرد الرغبة في تكوين كتلة ثالثة؛ وإنما هي تفرض نفسها فرضا، وتحتم قيام هذه الكتلة المستوفية لكل شروطها ومقوماتها هذه بديهية واضحة لأنها تعتمد على الواقع المشهود. . ولكن الكثيرين يحاولون التشكيك فيها بشتى الوسائل. ففريق يزعم بأن العالم اليوم ينقسم إلى كتلتين اثنتين: الشيوعية في جانب، والرأسمالية في جانب. ويزعم أن لا سبيل إلى اختيار طريق ثالث، فإما أن ننضم إلى الكتلة الشرقية أو أن ننضم إلى الكتلة الغربية. . وليس أكذب من هذا الزعم ولا أبعد منه عن الحقيقة الواقعة التي ينطق بها الواقع المجرد من وجود كتلة ثالثة لها كل مقوماتها، ولها كل إمكانياتها.

وفريق يزعم أن الكتل لا تقوم على أساس الوحدة الجغرافية، ولا الوحدة الفكرية الشعورية. . إنما تقوم على أساس النظم الاجتماعية. والنظم الاجتماعية التي يعرفها العالم هي الشيوعية في الشرق والرأسمالية في االغرب. ولا سبيل إلى الحديث عن أي نظام اجتماعي آخر. فإلا تكن الشيوعية فهي إذن الرأسمالية ولا ثالثة لهما. . وليس أبعد من الحقيقة عن هذا الزعم القائم على الجهل، وإن كان يلبس ثوب العلم! فهناك نظام اجتماعي ثالث مستقل كل الاستقلال عن النظام الرأسمالي وعن النظام الشيوعي. نظام كامل شامل، له رأيه في

ص: 19

الحكم، ورأيه في توزيع الثروة، ورأيه في العلاقات بين العمال وأصحاب العمل، وبين الملاك والفلاحين، ورأيه في علاقة الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقة الأفراد مع الدولة، وعلاقة الدولة بالدول الأخرى. . وهو يصدر في كل هذا عن فكرة مستقلة غير الفكرة الرأسمالية وغير الفكرة الشيوعية. وقد يلتقي بهذه أو بتلك في بعض الجزئيات، ولكن له في النهاية هيكله الخاص، وفلسفته الخاصة، وتنظيماته الخاصة. . وهو حين يقاس إلى الرأسمالية أو إلى الشيوعية تبدو هذه كما تبدو تلك نظما متخلفة بالقياس إلى النظام الإسلامي الاجتماعي مشحونة بالأخطاء والمظالم والتعسفات. كما تبدو أقل قدرة على التطور وعلى مسايرة نمو البشرية من النظام الإسلامي.

وفريق يزعم أن هذه الكتلة الإسلامية من الضعف اليوم بحيث لا تملك أن تصبح كتلة ثالثة تقف تجاه الكتلتين أو إحديهما. وأن العالم الإسلامي قد أدى دوره قديما ولم يعد له دور جديد. . وهذا الزعم قد يكون مفهوما حين تردده إحدى الكتلتين المتعاديتين. لأن الكتلة الغربية المستعمرة تردده لتقتل كل محاولة للتخلص من ربقة الاستعمار البغيض. والكتلة الشرقية تررده كي تفهم الشعوب الإسلامية المستعمرة أو وسيلتها الوحيدة للتخلص من الاستعمار هي الارتماء في أحضان الشيوعية، وأنه لا أمل في أن يكون لها هي نفسها كيان خاص ستقل. . هذا مفهوم. . فأما حين نردده نحن، أو حين نؤمن به، فهذا هو العجب المنافي للرغبة البشرية الطبيعية في أن يكون للمرء كيان خاص، واحترام خاص. وإن هو إلا المسخ الذي يصيب الفطرة. وما يقول بهذا إلا الممسوخون الذين حولتهم دعاية هذه الكتلة أو تلك إلى فئات آدمي وحطام! إن العالم الإسلامي حقيقة واقعة. وإن كانت هذه الحقيقة قد خف وزنها فترة من الزمن، أصاب الكتلة الإسلامية فيها ما أصابها من الوهن والضعف، حتى وقعت في قبضة الاستعمار. . فإن كل الدلائل تشير اليوم إلى أن هذه الفترة قد انقضت، وأن البعث قد آن أوانه، وأن القوة الكامنة في هذه العقيدة ما تزال تعمل؛ وأن هذه القوة لم تمت ولم تنطفئ، ولكنها كانت تجتاز فترة تكون وتجمع. وقد اجتازتها الآن. .

لقد انبعثت دول إسلامية جديدة، ولقد نهضت أمم إسلامية وشعوب. ولقد انبعثت الشعلة المقدسة تضيء من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه. ولقد تناءت شعوب العالم الإسلامي

ص: 20

كله كتلة واحدة، وراحت تتجمع تحت راية واحدة. . الراية التي أظلتهم أول مرة، فاندفعوا تحتها إلى أقطار الأرض جميعا. .

ولقد خفتت أو كادت تلك الأصوات المنكرة التي كانت تدعو إلى القومية الهزيلة الضيقة وراء الحدود الصغيرة المصطنهة. وتبين للغالبية الساحقة أن القومية الإسلامية هي القومية الحقيقية التي تجمع بين هذه الشعوب. وإن حدود الوطن الإسلامي هي الحدود الحقيقية، وما عداها كله فخاخ وضعها الاستعمار ليقع فيها الغافلون والمغرضون. ثم يتفرق الوطن الإسلامي إلى دويلات صغيرة ضئيلة عاجزة. تحت عنوانات القوميات! ثم لا يفيد من هذا أحد كما يفيد المستعمرون الذين واجهوا العالم الإسلامي وما يزالون يواجهونه بروح صليبية وبسياسة صليبية، يتابعهم فيها أعداء هذا العالم الإسلامي في الشرق والغرب سواء.

إن العالم الإسلامي حقيقة واقعة. وما عاد يجدي أحد أن يقف في طريق بروزها بعد اليوم. والكتلة الثالثة ضرورة إنسانية لتحقيق غرضين أساسيين من أغراض البشرية في هذا الطور من التاريخ:

الغرض الأول:

هو تحقيق استقلال جميع الشعوب المستعمرة، والقضاء على الظل الاستعماري البغيض في الأرض. فلقد استطاع الاستعمار أن يتصيد الشعوب الإسلامية واحدا واحدا، حينما تمزقت وحدتها الكبرى، وضعفت عن حماية أنفسها فرادى. فإذا ارتدت اليوم إلى نوع من الوحدة في صورة تكتل ذي كيان جغرافي واقتصادي واجتماعي. . ثم عسكري أمكن أن تصمد للاستعمار، وان تتخلص من براثنه، دون أن ترتمي في أحضان الشيوعية. . وإن كان هذا لا ينبغي ان تمد يدها إلى الكتلة الشرقية من الناحية السياسية لا الناحية الاجتماعية، فيما تتفق فيه مصالحهما. ومصالحهما تتفق عند مكافحة الاستعمار. وفي هذا المجال تستطيعالكتلتان الشيوعية والإسلامية أن تؤديا دورا مشتركا في هذا المجال وحده. وفيه الكفاية والخلاص من الاستعمار

الغرض الثاني:

هو تجنب البشرية ويلات حرب ثالثة - أو على الأقل تأخيرها إلى أطول أمد ممكن.

ص: 21

فالكتلتان المتعاديتان اليوم إنما تتنازعان على ارض الكتلة الثالثة وخاماتها ومواردها. والذين يقولون على إحدى الكتلتين: إنها مجموعة من الملائكة ذوات الأجنحة البيض التي لا تبغي في الأرض إلا السلام البريء، بلا مصلحة ولا غاية، إلا غايات القديسين والملائكة الأبرار. . إنما يحتقرون عقولهم أو عقول الناس. وإنما يقولون كلاما سخيفا لا يصدقه حتى الأطفال. . وحين تبرز إلى الوجود كتلة العالم الإسلامي. ستفكر كل من الكتلتين مرتين قبل الإقدام على الحرب. لأن أرض الكتلة الثالثة ومواردها لمن تكون يومئذ صيدا رخيصا سهلا. يسيل له لعاب الشرقيين أو الغربيين. فضلا عن أن هذه الكتلة الثالثة تملك إيجاد التوازن بين القوتين، وتملك أن تهدد الفئة الباغية بأنها ستكون ضدها. ولن تقدم على الحرب كتلة تقف لها كتلة العالم الإسلامي بالمرصاد، وتنضم إلى خصومها فترجح الكفة ترجيحا لا شك فيه.

وبعد فأحب أن أقرر في نهاية الأمر أن الحديث اليوم عن الكتلة الثالثة ليس دعوة لقيامها. ولكنه تقريرا لوجودها. وجودها الذي لن يملك أحد ولا قوة أن تعدمه. لأن طبائع الأشياء، وتطورات التاريخ، وضرورات الإنسانية. . كلها تدعو إليه وتنادي به. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون

سيد قطب

ص: 22

‌إلى السلاح. . يا عرب

للأستاذ علي الطنطاوي

يا أيها القراء! إني ما جئت أصب في أعصابكم قوة ليست فيها، ولكن جئت أثير القوة التي نامت في أعصابكم وما جئت لأجعلكم خيرا مما أنتم عليه، ولكن جئت لأفهمكم أنكم خير مما أنتم عليه. جئت أضرم جمرة الحماسة التي غطاها في نفوسكم رماد الكسل. فأعينوني على نفوسكم من رماد الكسل.

فأعينوني على نفوسكم استعادة الثقة بها، وبسلائق العروبة التي ورثتها، وبعزة الإسلام التي كانت لها. واعلموا أنكم إن فقدتم عزتكم، وأضعتم سلائقكم، لم تكونوا جديرين بمحمد، ولم يكن لكم الحق في الاحتفال بمولد محمد!

يا سادة! إن الأمم كالأفراد: ألا يكون الرجل منكم رائحا من عمله، خائر الجسم، وإني العزم، كل أمانيه أن يصل إلى الدار فيلقى بنفسه على أول مقعد يلقاه، قبل أن يستنفذ الجهد قواه، فيجد في الدار بشارة بأنه رفع درجة، أو نال جائزة، أو هبط عليه إرث ضخم، من قريب منسي، فيحس بأنه انتفض كما ينتفض العصفور بلله القطر، وانتعش كما ينتعش النبات أرواه الماء، ونشط كما ينشط الجمل أطلق من عقال؟

ألا يكون أحدكم مرخي الأعصاب، خامل الجسد، قد خدره النعاس حتى ما يقدر أن يفتح عينيه، فيعدو عليه عاد، أو يطرقه لص، أو يحقره إنسان، فيشعل الغضب في دمه نارا، ويشد من أعصابه أوتارا، فيثب ويريد أن يقتحم الجدار، أو يخوض النار؟

ألا يكون أحدكم تعبان كسلان، يجر قدميه من الونى جرا، يظن أنه سيسقط من كلاله على الأرض، فيلحقه عدو فاجر، أو يطارده وحش كاسر، فإذا هو ينطلق انطلاق القذيفة من فم المدفع، ويعدو عدو الغزال المروع؟

هذه أيها الناس القوة المدخرة في أعصاب الإنسان، يظهرها الأمل، ويبيدها الغضب، ويبعثها الخوف. وفي الأمم قوة كهذه القوة. وما الأمة إلا الأفراد. الأمة أنا وأنت وهو وهم وهن، أفلا تحس أن غضبت أو فرحت أو جزعت أن نبضك يسرع، وقلبك يخفق، ووجهك يصفر أو يحمر، وجسدك كله يتبدل ويتغير؟ فكذلك الأمم، تكون نائمة آمنة، قد غلب عليها الخمول، وشملها الارتخاء؛ فما هي إلا أن يبعث الله لها القائد العبقري، يصرخ فيها ينذرها

ص: 23

الخطرا، أو يحذرها عدوا، أو يعدها نصرا مؤزرا، حتى تثب كما يثب الجندي المستريح إلى سلاحه، فتعمل العجائب، وتصنع المعجزات، وتدع التاريخ حائرا من فعلها مشدوها

هذه هي الأمثلة تملأ العصور، وتترع صفحات التاريخ، الأمثلة من الشرق والغرب، من القديم والحديث، حيثما تلتقي وجدتم مثالا

هذه مصر! كانت على عهد المماليك، بلد الجهل والافتراق والضعف والتخاذل، فما هي إلا أن بعث الله لها محمدا عليا، حتى نهضت نهضة الأسد، فكانت لها المدارس والصحف والصروح والمصانع ومعامل السلاح، وكان لها الجيش الذي فتح الشام، وقهر الأتراك سادة الجحافل، وأبطال الميادين، وكاد (لولا مكر إنكلترا وغدرها) يهد عرش آل عثمان. وكان لها الأسطول الضخم الذي كاد (لولا تلك الجريمة التي لم يحاسب عليها بعد مجرموها) يعيد البحر المتوسط، بحر العرب، كما كان أيام عز العرب

وهذه جماعة الأتراك من آل عثمان! كانت قبيلة بدوية تسكن القفار، وترعى الأبقار، ليست في عير ولا نفير؛ فلما بعث الله لها عثمان وشرفه بالإسلام، صارت به وبخلفائه الأولين؛ ومراد والفاتح وسليم وسليمان، صاحبة القسطنطينية، ومالكة ما بين خراسان وأسوار فينا، وصار البحر المتوسط بحيرة في أملاكها

وهذه فرنسا! ماذا كانت فرنسا في أعقاب ثورتها؟ أمة الفوضى والانحلال، والحيرة والضلال، والتبدل من حال إلى حال؛ فما هي ألا أن جاءها نابليون حتى ملكت تحت لوائه أوربة كلها، وصارت أمة الأمم

وهذه روسيا! كانت بلاد أدنى إلى الهمجية والجهالة، فما هي إلا أن جاءها بطرس حتى غدت به بلدا أوربيا من بلاد المدينة والعمران

بل هذا هو المثل الأغر المحجل، الذي لا تادنيه الأمثلة، ولا تضارعه في سموه النهضات

هذه القرية التي كانت ممتدة وراء الرمال، نائمة في ظلمات من الجهل والفقر والجدب فوق الظلمات، لا تدري بها المدن الكبار، ولم يسمع بها التاريخ، هزها بيمينه سيد العبقريين، وأعظم العظماء، من كان في الأرض سفير السماء، وكان إمام الرسل وأفضل الأنبياء: محمدهزها، فإذا هذه الرمال المحرقة التي لا تعيش فيها الحياة، تنبت السهول الخصاب، والرياض والجنات! وإذا هذه القرية الضائعة تلد المدن العظام: الكوفة والبصرة وبغداد

ص: 24

والقاهرة والقيروان! وإذا هذه القبائل المتفرقة تخرج الجيش الذي فتح الشرق والغرب، وملك ثلثي العالم المتمدن في ثلث قرن! وإذ هذه الأمة الجاهلية تنجب الأساتذة الذين علموا الدنيا، وأرشدوا أهلها، وأقاموا أعظم حضارة عرفها البشر، حضارة خير وحق وجمال، ليست حضارة قتل وتدمير، ومصائب وإنكليز، ويهود وبارود، وقنبلة ذرية. . .

وأمامكم من هذه الأمثلة مئات

بل إننا نستطيع اليوم في كل قطر عربي أن نضرب من أنفسنا الأمثال

إنه لا ينقصنا لنعز ونسود، ونسير على سنن الجدود، إلا حرب تنبه، أو زعيم عبقري يقود. إننا لا نريد إلا أن يتحمس العرب، أو يغضب العرب، أو يخاف العرب، فتوقظهم الحماسة، أو يثيرهم الغضب، أو يحركهم الخوف، فيرجعوا إلى مكان الصدارة بين الأمم

إن سوريا الصغيرة تستطيع أن تكون من الدول الأوائل على وجه الأرض حضارة وعلما وقوة ومالا

لا. لا تقولوا نحن قليل، فاليهود أقل منا.

لا تقولوا: نحن قليل، فإن أرق دول أوربة رقيا، وأفضلها حضارة، هي أقلها ناسا، وأضيقها رقعة: سويسرا وهولندا ودول الشمال. ونحن أحسن من بعضها موقعا من الأرض، وبلادنا أوسع، وخيراتها أكثر، ونحن أسرع سيرا في طريق النجاح

ألا ترون ما صنعنا من (يوم الجلاء) إلى اليوم؟

أما عملنا في خمس سنين ما لم نعمل مثله في خمسين سنة؟

أما صار لنا جيش؟ أما غدت لنا جامعة؟ أما أقيمت في بلدنا (معامل الشركة الخماسية) التي شهد كل من رآها بأن الحضارة لم توجد اليوم أعظم منها؟ أما استبدلنا بالمحاريث التي كانت تجرها البقر أضخم الآلات فزادت زراعتنا أضعافا؟

هل لأمة مثل ما لنا من الحزم والعزم، وركوب الفوات، واقتحام اللجج، والضرب في الأرض؟ هل على ظهر هذه الكرة بلد ليس فيه رجال منا، نزلوه فقراء فصاروا فيه من كبار الأغنياء؟ أليس في الأمريكتين وفي أوربة كلها وفي السنغال وفي الكونغو وفي الكاب وفي شنغهاي وفي اليابان رجال من الشام يجاهدون للمال، ويعملون للغنى، ويدهشون أهل كل بلد نزلوه، بتلك الهمم وهاتيك العزائم؟

ص: 25

هل نزل اليهود بلدا فلم يكونوا أرباب المال فيه، إلا الشام، فما كان اليهودي في الشام إلا متجرا بعتيق الثياب، يدور بها على الأبواب، أو منظفا لمجاري الكنف تحت الأرض؟ ذلك لأن أهل الشام أبصر بالعمل، وأعرف بطرق جمع المال من اليهود

وهذه والله فخر لهم، وإن عدة ناس طعنا عليهم

أفيعيينا (معشر العرب) ولنا هذه السجايا، أن نتقلد السلاح، ونرجع أمجاد الأجداد؟ أتعجزنا حرب إسرائيل؟

أهؤلاء الزعانف أو شاب الأمم، أم دول أوربا رمتنا عن قوس واحدة أيام الصليبيين؟

أهؤلاء أم سيول التتر، لما قادهم إلينا هولاكو فحطوا علينا حط الجراد؟

أهذه (الدويلة. .) بنت ثلاث سنين. . أم دول الصليبيين التي شاخت في أرضنا إذ عاشت فيها أكثر من مئة سنة؟

أهذه الدويلة. . . ونحن بالجيش والسلاح، ولنا الاستقلال، ومعنا المال، أم فرنسا ذات الحول والطول، لما حاربها رجال منا بأيديهم، لا يملكون إلا السلاح الذي أخذوه من جنود فرنسا؟ فوقفت فرنسا بدباباتها ومدافعها عند جسر تورا سنتين لا تستطيع أن تجتازه، وما عرض النهر إلا خمسة أمتار، وما يحميه إلا عشرات من الثوار.

أما نصرنا الله في أيام أشد من هذه الأيام؟

أضاعت ثقتنا بالله ثم بأنفسنا وبماضينا وبأمجادنا؟

ألا ترونها تتلظى في العروق الدماء، وتتفجر في الرؤوس الحماسة؟ أما ترون شباب مصر، وطلاب الجامعة، وتلاميذ المدارس، وعمال المصانع، يزلزلون الأرض، لا يطلبون إلا أن يفتح لهم الطريق، ليمشوا إلى حرب إنكلترا؟

إنهم لا يحفلون جندها، ولا يبالون سلاحها، ولا يخشون حديدها ونارها. ولو فتح الطريق لنساء مصر، لمشت إلى حرب إنكلترا نساء مصر!

إن ها هنا شعبنا يريد أن يموت ليحيا وطنه، فهل تستطيع إنكلترا أن تبيد الشعب كله؟

فيا أيها الحاكمون في بلاد العرب، لا تطفئوا هذه الحماسة. لا تزهقوا هذه الروح.

يا أيها الحاكمون، أجعلوا كل ميدان في البلد ساحة تدريب، وكل قادر على الحركة جنديا. دربوهم وخلوا طريقهم، فإنكم لا تدرون متى تحتاجون إليهم. (جندوا) كل يافع وكل كهل

ص: 26

وكل عجوز، لا أقول ألبسوهم جميعا بزة القتال، وسوقوهم إلى المعركة، لا، فليس الجيش هو الذي يحارب فقط، ولكن أقول سوقوهم إلى الأسواق وإلى المصانع وإلى الحقول، حتى لا يبقى في البلاد كلها عاطل ولا خامل ولا سائل، ولا يبقى في البلاد كلها شبر واحد مقفر أو خال. أقلوا عدد الموظفين، وزهدوا التلاميذ في (الوظائف)، وربوهم على حب العمل، وكراهية الكسل، وأقيموا النهضة على أساس شامل كامل، واجعلوا للبلاد دستورا اقتصاديا مبنيا على أساس العلم ودواعي الحاجة، وعدلوا أسلوب الموازنة، وقوانين الضرائب، فإنه لا يجوز في شرعة العصر أن يدفع تسعة أعشار الضرائب الفقراء، ويفلت منها كبار الأغنياء. واستفيدوا من خيرات الأرض وبركات الوطن؛ فإن هذا البترول العربي لو أنفق ثمنه في أسباب القوة، وفي سبيل الإصلاح، ولم ينفق على الإثم والفسوق ومعصية الرسول، لكانت به كل مدينة عربية، مدينة أمريكية!

ثم استنهضوا همم الرجال، واستثيروا بذل الأغنياء، وحرموا إنفاق المال في وجوه السرف، وألوان الترف، وأنفقوا كل ما اجتمع لكم من مال في السلاح والعتاد. دربوا الناس على القتال، واجعلوا من الشباب جنودا مستعدين ليوم الكريهة، وانشروا في الشعب علم النجاة من الغارات والهجمات، وسخروا الصحف والإذاعات لبث القوة والرجولة في صدور الرجال.

إلى السلاح - يا عرب!

إلى السلاح - فنحن في حرب ما بقى في فلسطين يهودي واحد.

إلى السلاح - فنجن في حرب ما بقى في القناة إنكليزي واحد.

إلى السلاح - فنحن في حرب ما بقى في تونس أو مراكش أو أي قطر عربي أجنبي واحد.

إلى السلاح - يا عرب.

علي الطنطاوي

قاضي دمشق

ص: 27

‌هجرة الرسول

للأستاذ أنور العطار

(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي. وقلة حياتي. وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني. أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي. أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السماوات والأرض، وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك، أو تنزل علي سخطك. ولك العتبى حتى ترضى. ولا حول ولا قوة إلا بالله)

- من أدعية الرسول قبل الهجرة -

يا سيد الخلق يا نور الوجود سرت

بأضلعي اليوم من نجواك أصداء

رفت حياتي بها بشرا وزغردة

فالقلب تسبيحة في الثغر سجواء

من جود كفيك أنغامي وأخيلتي

ومن سخائك للعافين إغناء

حببت فيك قريضي حين قربني

إلى حماك فشعري منك إدناء

وبحت بالحب في سري وفي علني

ولذ لي في هواك السمح إفشاء

لولا هواك لما أبدعت قافية

والكون لولا الهوى بهما جرداء

والقلب لو لم يعذب لم يصغ نغما

إن العذاب لمتلاف ومعطاء

وأنت أيقظت في الحب فانتشرت

على محياي أفراح وآلاء

وأنت أغنيتني حسا وعاطفة

كأنما أنا إلهام وإيحاء

وأنت فجرتني حبا ومرحمة

فليس يعلق بي حقد وبغضاء

وأنت صفيتني كالنبع منسكبا

والنبع مذ كان أنغام وصهباء

وأنت أزهدتني في الناس كلهم

فهجر أطماعهم للنفس إبراء

والبعد عنهم نجاة من أذيتهم

وما يطلق الأذى، والبعد إنحاء

ما أرتاح قلبي إلى غشيان عالمهم

كأنهم محن سود وأرزاء

ولا ارتضت مهجتي دنياهم سكنا

وقد علتها شكايات وضوضاء

هم علموا القلب أن ينأى مطامعهم

فما لدنياهم زهو وإغراء

كأنما هي دار لا أنيس بها

فآدم اليوم صدت عنه حواء

ص: 28

خذ يا فؤادي حذرا من مفاتنها

ولا تغرنك فالرقطاء رقطاء

من ظن في سمها الترياق حاق به

من جرعة السم إهلاك وإفناء

مالي وللناس لا أحيا بألفتهم

وإنما أنت لي بعث وإحياء

مذ هام قلبي بكم ما اختار غيركم

ولا صبا، وقلوب الناس أهواء

أقضي ليالي في نجواك منفطرا

كما تفطر يوم الوحي سيناء

كأنما خاطري شدو وهينمة

وجنة من جنان الخلد غناء

شدت لها الورق ألحانا مسلسلة

فصفقت في شعاب الدوح أحناء

ظلت تنغم في صدري وفي خلدي

قصيدة من دموع القلب عصماء

الكون ما الكون؟ شطر من روائعها

والمصطفى روحها والناس أجزاء

رنت إليها الدراري في مباهجها

وفاض منها على الأيام نعماء

وبش في الفجر إصباح يمور سنا

وهش في عتبات الليل إمساء

تلكم رغادة دنيا قد كلفت بها

أولت نداها وكم للسعد إيلاء

أملت على بليغ القول محكمة

إن البلاغة إيحاء وإملاء

كانت بصدري أسرارا مغلقة

ما إن يعاودها بوح وإفضاء

ما أفصح الشعر عنها حين أعلنها

وكيف يفصح تلميح وإيماء

يا هجرة لك فاضت همة وعلي

يشدها خافق بالعزم مضاء

تركت مكة والأحلام تغمرها

وللطفولة أطياب وأشذاء

والقلب رهن الحمى ما انفك مدلها

به وللأرض أشواق وأصباء

إن غبت عنها براها الشوق واحتدمت

نيرانه واستفاق الجرح والداء

وعشت دهرك في تذكارها وترا

له الهوى نغم في الصدر بكاء

كلا كما ذاب تهياما بصاحبه

والأرض أم وأهل الأرض أبناء

والمرء ما زال حنانا إلى وطن

وإنما وطن القلب الأحباء

إن عاش عاش بهم حتى إذا رحلوا

فإنما هو أصداء وأنباء

وأنت في الغار والصديق لفكما

من جانب الله تثبيت وإرساء

مشت عناكب تحميه مناسجها

وتدفع البغي، والعدوان مشاء

ص: 29

وأرسلت سرحة أفنانها فنمت

على مداخله فالغار أفياء

وأقبلت من بنات الدوح ساجعة

كأنما الغار عش فيه ورقاء

لا الظن حام على الغار الحبيب ولا

بدت من الشك للسارين سيماء

وكان يحميه من بغي العدا قمر

تدرع الطهر إن الطهر أباء

من كان يعلم أن الظبية اتشحت

بما ينوء به العد الأشداء

ففي النهار غدت عينا مراقبة

ما حاكه في غمار الكفر أعداء

وفي المساء استحالت رحمة وندى

على النطاقين منها الزاد والماء

بالنفس والأهل والدنيا وما حفلت

جناتها من مجالي السحر أسماء

ذات النطاقين أسماها الرسول بما

أسدت يداها، وللإحسان إسداء

باتت على الغار ترعاه وتحرسه

كأنها مقلة بالسهد كحلاء

أغفت عيون الدراري في مطالعها

وما لعين الهوى والحب إغفاء

حتى إذا غمر الليل الشعاب ولم

يبن على الرمل في الليل الإدلاء

نشطت للسير والصديق في ملأ

من الملائك، والإيمان حداء

يرعاكما الله في حل ومرتحل

ويثرب القصد، والأهل الأوداء

وحين أشرفت ماجت بالسرور كما

تلألأت بفريد الموج دأماء

هبت تلقاك أنجادا وأودية

وكم تشوقك أنجاد وأوداء

مشى إليك بنوها والهوى ضرم

وكل نفس من الأشواق رمضاء

يستقبلونك أرواحا وأفئدة

ويفتدونك والأجساد أنضاء

ذاب الحنين على افواعهم نغما

وفي يمينك للشادين إرواء

على الشفاء أناشيد مزغردة

وفي العيون من الفراح لألاء

أذكى الهوى أنفسا للحب قد خلقت

وللصبابة في العشاق إذكاء

أبكاهم الوجد في اللقيا وأضحكهم

إن التوجد تضحاك وتبكاء

أصغت إليهم عيون الليل رانية

وكم يطيب إلى الأحباب إصغاء

وشت تسابيحهم للحب أنملة

والحب مذ كان وشاح ووشاء

طوبى ليثرب ضمت خير من سطعت

على محياه أنوار وأضواء

ص: 30

طوبى لها أن حمت جارا وإن طلعت

رسالة الله منها وهي غراء

طافت على الرض نور اللألي فقدوا

أنوار أنفسهم، والكفر ظلماء

كأن كل سبيل من ضلالتهم

صحراء كالحة الأعطاف غبراء

ضجت جفاء وعجت وحشة وبلى

كأنها القبر فاضت منه أشلاء

نامت عليها الدياجي وهي جاهمة

ومقلة الفجر فيها الدهر عمياء

لله شرعك شرعا واضحا جددا

ما في تضاعيفه ريب وإخفاء

أنقى من الزهر في فينان نضرته

وقد جلته يد للحسن بيضاء

ما زال غضا على الأيام مؤتلقا

كالخلد ليس له ند وأكفاء

كم طهر القلب من بغي ومن دنس

وكم صفت بصفاء القلب حوباء

والدين يمن وإحسان وميسرة

وفرحة تسع الدنيا وأنداء

من ضاق بالعيش ذرعا أو جفته مني

فالدين تعزية كبرى وتأساء

من صد عن بابه لم يرتشف أملا

وعاودته من الكفران غماء

ولا اطمأنت له نفس ولا هدأت

وكيف تهدأ في الطغيان أنواء

يطوي الحياة جحيما لا نعيم بها

كأنما هي أوجاع وأدواء

يا هجرة فجرت حبا ومرحمة

فالقوم فيها الأحباء الإخلاء

تقاسموا نعميات العيش وائتلفوا

كما تآلف في الأجساد أعضاء

كل يرى لأخيه الخير أجمعه

والخير موطنه الرهط الأعزاء

جرى الإخاء عليهم بهجة وسنا

فاستعذبوه، ودنيا الود فيحاء

كأن ألفتهم للائمين شجا

وطعنة في صميم الكفر نجلاء

وطيبة الخير بيت ضم شملهم

جلاله الدهر أبناء وآباء

لو أن قومي وعوا أسرار هجرته

لما تناءى بهم بغض وشحناء

إن الحياة إذا يسرتها يسرت

كأن إمرارها في الطعم إحلاء

وإن أردت بها شؤما ومعسرة

فإنما هي أثقال وأعباء

خلت من البهجة الكبرى جوانبها

كأن إضحاكها في العين إبكاء

كل له ما يرى فليتعظ فطن

فعسرها اليسر والبأساء سراء

ص: 31

والحب أثمن ما امتاز الفؤاد بها

وفيه للنفس إحياء وإعلاء

فقل ليعرب إما رمت مكرمة

فوثقي الحب إن الحب بناء

دمشق

أنور العطار

ص: 32

‌الأزهر الآن

يعيش برئة واحدة

لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد محمد المدني

(الجامع الأزهر هو المعهد الديني العلمي الإسلامي الأكبر،

والغرض منه: (1) القيام على حفظ الشريعة الغراء أصولها

وفروعها، واللغة العربية، وعلى نشرهما (2) وتخريج علماء

يوكل إليهم تعليم علوم الدين واللغة في مختلف المعاهد

والمدارس، وبلون الوظائف الشرعية في الدولة)

هذا هو نص المادة الأولى من قانون الأزهر الساري عليه الآن، وهو التعبير الصحيح عما تفهمه الأمة الإسلامية من مهمة هذا المعهد العتيق منذ إنشاء المعز لدين الله الفاطمي إلى هذا العهد الفاروقي السعيد، ثم إلى ما شاء الله من عهود.

وأقول: (التعبير الصحيح عما تفهمه الأمة الإسلامية من مهمته) لأني لا أريد أن أدخل في تصرف النيات التي كان يبطنها الحكام والمسلطون وتدل عليها سياساتهم وأفاعيلهم في توجيه أهله وتصريف شأنه.

ومن هذا النص الذي يفصح عما استقر في ضمير الأمة يتبين أن المهمة الأولى للأزهر هي القيام على هذا التراث الخالد الذي أورثناه إياه بناة مجدنا الأولون، والذي كنا به خير أمة أخرجت للناس، وأن تخرج هذا المعهد الإسلامي الأكبر للمسلمين أو القضاة أو الموظفين هو أمر يأتي في المرتبة الثانية.

وقد تقلبت على الأزهر في تاريخه الطويل أحوال ودول، فاستقام على السراط السوي أحيانا، وأنحرف عنه أحيانا، وكان تارة قويا غلابا يعرف رسالته، ويفرض إرادته، ويلون الحياة بلونه، ويحمل الحاكمين والمتسلطين على ما يرى في حزم وصرامة. وتارة ضعيفا عاجزا مناوبا على أمره، يمشي في ركاب غيره، ويستوحي خططه وصوره ممن لا يدركون رسالته، ولا يعبأون بأمره، بل لقد حفظ التاريخ فيما حفظ أن الزهر قد عطل

ص: 33

تعطيلا تاما عشرات من السنين في بعض العهود فلم يكن به درس ولا كتاب، ولا علم ولا علماء.

وإذا أردنا أن نفرق بين العصور الذهبية للأزهر، والعصور التي اضمحل فيها شأنه وأقفر واديه؛ فإننا نستطيع أن نقرر أن عصوره الذهبية هي التي كان فيها موجها للحياة مضطلعا برسالته الكبرى في القيام على حفظ الشريعة واللغة عن طريق التفرغ لهما علما وعملا، وأن عصور ضعفه واضمحلاله هي العصور التي تصور فيها أنه مدرسة للتعليم والتخريج فحسب.

ومن تأمل رسالة الإسلام وعرف أنها رسالة الرحمة العامة لهذا العالم كله، أدرك أن الأمة الإسلامية قد حملت أمانة إلهية غالية، ليست هي مجرد أن يؤمنوا بهذا الدين ويتناسلوا نسلا مؤمنا به، ولكن أن يبلغوا هذه الأمانة الإلهية تبليغا واضحا إلى كل ذي عقل في كل زمان ومكان فإن هذه الرسالة هي أساس استقامة العالم ورشاده وتمتعه بالخير والسعادة، ولم ينزلها الله للعرب فقط وإنما أنزلها رحمة للناس كافة.

(يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) فإذا آمن المسلمون بذلك، وأخذوا أنفسهم بمقتضياته، فقد عرفوا أنفسهم، وأدركوا قيمتهم في هذا العالم. وإذا جهلوا ذلك أو نكصوا عنه، فقد تخلوا عن شرف عظيم شرفهم الله به، وخسروا دينهم ودنياهم وأنفسهم وذلك هو الخسران المبين.

يقول الله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) فقد بين لنا أن مرجع هذه الخيري هو اضطلاعنا في الناس بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي مهمة الإصلاح العام والدعوة إلى الاستقامة على سنن الرشاد، والإيمان بالله. ويقول عز وجل في موضع آخر (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) والمعنى في قوله (ولتكن منكم أمة) على التجريد، أي: ولتكونوا أمة هذا شأنها، وهذه رسالتها في الحياة وغايتها، تدعو إلى الخير الذي دعا الله إليه ويكون لها أثر فعال، ورأى عام قوي في إلزام الناس بالمعروف، وصرفهم عن المنكر، فإذا كنتم هذه المة، فقد ضمن الله لكم الفلاح، وإلا قضيتم أيام دهركم ضعفاء لا قيمة لكم بين الناس.

ص: 34

وأول الوسائل التي تتوسل بها الأمة إلى الاحتفاظ بهذه الأمانة الإلهية الغالية وأدانها كما أمر الله إلى أهلها، أن تعنى أكبر العناية بحملة التراث الإسلامي العظيم، وأن تعمل جاهدة على تمكينهم من التقوى فيه، والتفرغ له، ونشره بين الأمم في احسن صورة وأقربها إلى القبول.

إن الأمم الناهضة تخصص للدراسات العلمية طوائف من أبنائها المبرزين فيها، وتجعلهم في معاهد مستقلة لا هم لها إلا التوفير على هذه الدراسات والتفرغ لها، معيشتهم مضمونة، وأمورهم ميسرة، وقد كفوا شأن التفكير في أنفسهم وأهليهم وشئون حياتهم، ولذلك نراهم يثمرون ثمرات طيبة فيما انقطعوا له، ويعطون أممهم من العلم والشرف أضعاف ما تعطيهم من المادة والعناية. فهل نطمع من الدولة في أن تعين الأزهر مثلا على إنشاء معهد للبحث والدرس يتعمق في أصول الشريعة الغراء وفروعها، ويدنى للناس ثمارها الطيبة، فيقدم للمشتغلين بالقانون نظريات مستقيمة تنسيهم نظرياتهم، ويقدم لأصحاب الدراسات الفلسفية نوعا جديدا من القضايا الفكرية يغذي عقولهم وقلوبهم، ويحيي ألوانا من العلم والتفكير في إحيائها الخير كل الخير؟ هل نطمع في أن تعين الدولة الأزهر على إنشاء مثل هذا المعهد؟

إن الأزهر الآن لا يعدو أن يكون مدرسة دينية نظامية لتخريج معلمين أو قضاة شرعيين أو وعاظ ومرشدين، وذلك هو أدنى الشطرين من مهمته التي يبينها قانونه، ويتطلع إليه المسلمون أن يحققها. أما الشطر الأعظم فإنه معطل، وإذا كان أهل الأزهر مسئولين عن تعطيله فإن الدولة تحمل قسطا من هذه المسؤولية، لأن الأزهر مرفق هاممن مرافقها، عليها أن تعنى به وأن تعلم السر في عدم قيامه بأداء رسالته على الوجه الأكمل، وأن تأخذ بيده إلى الطريق الصحيح إذا حاد عنه، وأن تعينه على السير فيه إذا عرفه وعجز عن سلوكه.

إن أزمة الأزهر في الحقيقة ترجع إلى أمرين:

أحدهما: أن مصر قد نسيت أو أوشكت أن تنسى مكانة الأزهر في العالم كله شرقية وغربية، وأنه من أهم أسباب زعامتها الدينية والفكرية على الدول الإسلامية، وأنها تستطيع به أن تكون في مقام عالمي كريم، إذ تجعله مصدرا قويا لدعوة عامة إلى مبادئ تغزو بها العقول والقلوب في عالم كثرت فيه الشرور والمطامع وأنهكته حروب الجشع والاستعمار

ص: 35

وأصبح أهله في حاجة إلى دعوة قوية صادقة تصرفه عن الشر إلى الخير، وعن الفساد إلى الصلاح، وما هذه الدعوة إلا دعوة الإسلام.

الثاني: أن الغرب أثر فينا تأثيرا سيئا وصل الأمر فيه إلى حد الاستخفاف بديننا، وقياسه على غيره من الديان، فقد أخذنا عن أوربا فيما أخذنا أن الدين يجب أن يكون بعيدا عن ميدان السياسة والحكم، وأن يقصر على الأخلاق والتهذيب والأمور الزوجية، وإذا صح أن يقال عن دين من الأديان، فإنه لا يقال عن الإسلام دين العلم والعقل والعزة والقوة، وقد تكفل بوضع منهاج صالح للحيلة السعيدة بشهادة أعدائه وأصدقائه.

هذان هما الأمران اللذان يرجع إليهما ما نراه من إهمال للأزهر، واكتفاء بأدنى غايتيه، وهو أن يكون معهدا للتعليم والتخريج، دون أن يكون حاميا للشريعة واللغة، مبلغا تراثهما إلى الناس أجمعين. وما مثل الأزهر على هذه الحال إلا كمثل مريض يعيش بإحدى رئتيه، فليس العجب أن يعيش ضعيفا عاجزا، وإنما العجب في أن يطول على ذلك بقاؤه، ولكل أجل كتاب.

محمد محمد المدني

من علماء الأزهر

ص: 36

‌دين العزة

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

الإسلام يمكن أن يوصف بأوصاف كثيرة كلها حق. فهو - في غير حصر لأوصافه - دين الحق ودين العدل ودين الإحسان ودين الإخلاص ودين التوبة ودين الجهاد ودين الإخاء ودين التعاون؛ ولكن هذا كله يتصل من ناحية أو من أخرى بصفة من صفات الإسلام البارزة هي أنه دين العزة، عزة الفرد وعزة المجموع وعزة الشرع الذي يدينان به ويستمدان عزتهما من عزته. والعزات الثلاث متصل بعضها ببعض ومتوقف بعضها في الحياة العملية على بعض.

وأول ما يبدؤك من عزة الإسلام أنه ليس دين صومعة وعزلة، ولكن دين حكم ودولة. الحكم في دولته لله وقانونها شرع الله، ليس للإنسان فيه إلا الفهم والفقه وحسن التطبيق. فالقوانين الوضعية منكرة في الإسلام، وكل هذه القوانين المستمدة من الغرب أو من قدماء اليونان والرومان مردودة في الإسلام ما خالفت أحكام الله. وليس بالمسلمين إليها من حاجة إن وافقت. وما حاجة المسلمين بل ما حاجة الناس إلى حكم إن خالف حكم الله فهو خطأ وقى الله الناس بالشرع شره وإن وافق حكم الله اتفاقا كان التماسه في غير الشرع إثما للمسلم وذلة. كان إثما لأنه انصراف عن شرع الله وسوء ظن به وافتراض نقص فيه يلتمس سده في غيره؛ وكان ذلة لأن المسلم حين يحتكم إلى غير دين الله ويرضى بحكم من يعلم أنه لا يؤمن بما أنزل الله فقد خلع عن نفسه رداء العزة الذي أضفاه الله عليه حين أنزل الله له شرعا جمع له فيه وبه الخير والصواب، وحرره به من الخضوع في قول أو عمل أو نية لغير الله.

وهذا الاستسلام لله وحده هو أصل عزة الفرد المسلم، لأنه ينزع من صدره كل خشية ورهبة لغير الله. فهو إذا أطاع الحاكم المسلم إنما يطيعه طاعة لله، وإذا شكر المحسن إنما يشكره طاعة لله الذي أمره بشكر من يحسن إليه، وهلم جرا في سلسلة الطاعات والالتزامات التي يلتزم فيها المسلم طاعة غيره من الناس.

والمسلم مأمور ألا يسمع لمخلوق ولا يطيعه فيما فيه معصية لله؛ فهو عبد الله وحده قد تحرر بالإسلام من العبودية والخضوع لكل ما سواه. فنفسه قد برئت من خشية غير الله أو

ص: 37

رجائه بقدر ما أوتيت من الإسلام. وهذه البراءة تجتث من نفس المسلم الذلة من أصلها باجتثائها الذلة التي يشعر بها في نفسه كل ذليل ولو لم يطلع عليها غيره من الناس. وكم من عزيز في رأي الناس هو في ذاته ذليل ذلة يعرفها هو من نفسه بما يجد من رهبة أو رغبة عندما يلقي من يرهبه أو يرجوه من عدو ينافقه، أو رئيس يمالقه، أو صديق يحابيه.

وهذه العزة النفسية التي يمنحها الإسلام المسلم الصادق تزداد رسوخا بالتحرر من سلطان الوهم الذي حرر الإسلام منه نفس البصير وعقله. فالإسلام حين طالب المسلم بالخضوع لله وحده قد كفاه شر الخضوع لغير الله باسم الخضوع لله بما يبين له ووضح من الأوامر والنواهي، ومن سبل الطاعة وسبل المعصية، ومن الرشد والغي، وما هو فرض وما هو ندب، وما هو مكروه وما هو مباح. وما هو متروك للاستنباط والقياس. كل ذلك مما بينه الكتاب الكريم والسنة المطهرة يسد الطريق علىالخرافات والأوهام أن يكون لها سلطان على المسلم إذا عرف دينه كما ينبغي وتشرب حقا بروح الإسلام.

وقد صان الإسلام عزة الفرد في الجماعة الإسلامية بما قرره من مبدأ المساواة بين الأفراد على اختلاف ألسنتهم وألوانهم من غير نظر إلى نسب أو نشب أو جاه، وبما أقامه من ميزان الحق والعدل في الأحكام. فالقوي في الجماعة الإسلامية ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف فيها قوي حتى يؤخذ الحق له. كذلك أكد الخليفة الأول في أول خطبة خطبها في خلافته الراشدة. ولم يكن ذلك مبدأ وضعه الصديق رضي الله عنه وإنما هو تعبير صادق عنى اصل كبير من أصول الحكم في الإسلام يتجلى في آيات الكتاب المجيد وفي أعمال الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وفي تنفيذ هذا الأصل من أصول الإسلام في الحكم لا يلحق أي المتقاضين ذلة من حكم القاضي. فالمحكوم عليه إنما يخضع لحكم الله لا لحكم أحد، ولا غضاضة على أحد في الخضوع لحكم الله. أما المحكوم له فليس يخشى عليه إلا أن تأخذه عزة بإثم إن أساء فهم معنى الحكم، ونظر إليه من زاوية غير التي ينبغي أن ينظر منها المسلم إلى الأحكام المبنية على الشرع سواء أكانت له أم عليه.

حتى ذلة الفقر وذلة الدين قد وقى الإسلام المسلم شرهما بما جعل له من حق الزكاة عند العجز، وبما حرم من الربا عند التداين وفي التعامل، وبما تكفل به ولى الأمر من سداد الدين عن المدين الذي يموت وليس فيما ترك سداد لدينه. وهذا أمر عجيب تفرد به الإسلام

ص: 38

بين الشرائع يحفظ به لذي الحق حقه، ويخفف به حساب الآخرة عن المدين، ويدفع به ذلة الدين حتى عن ورثته. والنص في ذلك وارد في أكثر من موضع من الصحاح. من ذلك ما ورد في كتاب الفرائض من الجزء الثامن من صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه). وهذا طبعا تشريع يلزم كل من يحكم المسلمين بسنة الرسول.

هذا كله في البلاد العربية التي للإسلام فيها دولة وحكم نافذ. أما حيث لا سلطان للإسلام يكفل للمسلم العزة كلها فقد كفل له الإسلام العزة النفسية حين أمره بالهجرة من كل بلد يستضعف فيه إلى بلد يعز فيه، أو يستطيع على الأقل أن يسلم فيه بدينه ولو اضطر أن ينزل بالهجرة عن بعض ماله، لأن الأصل في الإسلام أن الدين فوق كل شيء من نفس وولد ومال. فإن عجز عن الهجرة لأمر مانع، كان عليه ألا يجيز لنفسه سماع ما يشعه بالذلة في نفسه من طعن أو لمز في دينه، لأنه من غير شك يستطيع الخروج من مجلس يهان دينه فيهإن لم يستطع خروجا من بلد لا يملك فيه انتصارا لدينه. وهذا كان الحكم في العهد المكي وأوائل العهد المدني من الرسالة قبل أن يصير للإسلام دولة. وهو حكم يسري في عهدنا هذا في كل بلد يقضي فيه بغير حكم الإسلام. ودليل ذلك كله قريب في الكتاب الكريم: في قوله تعالى من سورة الأنعام المكية:

(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) وفي قوله تعالى من سورة النساء المدنية قبل أن تشتد دولة الإسلام: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم وحتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذن مثلهم، إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا)، وليس بعد تشبيه المسلم المتهاون المتساهل في ذلك بالمنافق والكافر تهديد ولا وعيد.

وعزة الفرد هي أساس عزة الجماعة. لكن الإسلام قد أحاط عزة الجماعة المسلمة بسياج من الأحكام والنظم التي تضمن للمسلمين استمرار العزة وازديادها على الدهر إذا عملوا بتلك النظم والأحكام.

والأصل الشامل في ذلك مبدأ الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله. وأعجب ما فيه، وهو

ص: 39

أكثر ما يجهله المسلمين اليوم أن المسلمين جميعا يأثمون بترك جهاد العدو إن لم تقم به طائفة كافية لصده والتغلب عليه. وقد اكتفى المسلمون بالشطر الأول ونسوا الشطر الثاني، اكتفوا بقيام طائفة منهم للعدو ممثلة في الجيش، ونسوا الشرط الأساسي، شرط أن يكون الجيش في عدده وعدده كافيا للتغلب والظهور على العدو وإلا كان الجهاد فرضا على كل مسلم يأنم بتركه حتى تتحقق للجيش تلك الكفاية وتتحقق العزة للمسلمين.

لم يكن للمسلمين في أيام النبي وأيام الخلافة الراشدة ولحقبة طويلة بعدها جيش معين محدود، وإنما كان كل مسلم يحمل عبء الجهاد بالسلاح حين ينتدب له في السرية أو الجيش الذي يؤلف حسبما يقتضيه الظرف الداعي له، والمسلمون بعد ذلك من وراء الجيش مدد له. وكان المسلم القادر يقوم بنفقة نفسه وتجهيزها وقد يتحمل تجهيز غيره. فالجماعة الإسلامية كانت كلها جيشا واحدا بالفعل أو بالقوة والاستعداد. فالاستعداد الفردي كان عاما والخروج في الجيش بالفعل كان بين التطوع والإلزام، أو بالأخرى كان إلزاما في صورة تطوع، حقق الله به للجماعة العزة وللفرد فضيلة الجهاد عن رغبة واختيار تحقيقا للعزة النفسية عند الفرد حتى في العمل بذلك الأصل العظيم في الدين أصل الجهاد في سبيل الله.

ولم يترك أمر الاستعداد بالسلاح للفرد وحده ولكن أمرت الجماعة كلها بالاستعداد والبلوغ به أقصى مداه. وهذا هو الأصل الثاني الذي صينت به عزة المجتمع الإسلامي أن تذهب أو تنهار. نزلت بهذا الأصل العظيم سورة الأنفال في قوله تعالى:

(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم) وهذا الأمر وإن وجه إلى الجماعة موجه إلى الفرد أيضا كما يشهد الحديث الشريف. فالجماعة المسلمة والفرد المسلم كل مخاطب بتلك الآية الجامعة، وكل مأمور أن يعين على الاحتفاظ بالعزة للإسلام وأهله بأن يبلغ من القوة والاستعداد أقصى ما يستطاع.

ومن عجيب مظاهر العزة في الدولة الإسلامية ما أوجبه الإسلام على المسلم من حماية الذي يبذل في سبيل حمايته دمه من غير أن يكلفه قتالا أو معونة إلا مبلغا يسيرا يستطيعه كل سنة مقابل تلك الحماية، حتى إن بعض أمراء جيوش المسلمين في الفتوح الأولى رد على قوم جزيتهم بعد أخذها بأيام لما أراد الارتحال لأن ارتحاله سيحول بينهم وبين

ص: 40

حمايتهم من عدو إن طرقهم، فبين بذلك مبلغ إنصاف الإسلام لمن يدخلون في ذمته من غير المسلمين. فالعزة في الأرض لله وللمؤمنين القائمين بحكم الله. أما غير المؤمنين الداخلون في ذمة الله ورسوله والمؤمنين فيحرمون من حمل الله، ويحميهم المسلمون كما يحمون أنفسهم وذراريهم، ولهم فيما عدا ذلك ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. وهذا تشريع عجيب جمع الله به للمسلمين بين عزة أنفسهم وإنصاف غيرهم إنصافا لم يسبق الإسلام إليه ولم يلحق فيه.

فاعجب إذن من أمة دينها دين العزة ثم تهمله لتصير إلى ما صار إليه المسلمون اليوم!

محمد أحمد الغمراوي

ص: 41

‌الرسالة في عامها العشرين

للأستاذ محمد رجب البيومي

أستاذي الزيات

هذا خطاب أوجهه على صفحات الرسالة الغراء إلى زميلي الأستاذ محرز أحمد خفاجي المدرس بالمدارس الثانوية. اعترافا بما للرسالة علينا من فضل كبير في التربية والتثقيف. وأعتقد صادقا أنه يعبر عن عواطف المئات من الأدباء الذين تعهدتهم مجلتكم العظيمة بالتوجيه والتعليم. فأدت بذلك رسالتها الخالدة في الحياة. وأرجو ألا يحذف منه حرف واحد. فقد تعودتم أن تقفلوا كل ما يخصكم من ثناء. ونحن هنا نسجل تاريخا لا يجوز فيه الحذف والإغفال بحال وتفضلوا بقبول فائق احترامي.

محمد رجب البيومي

صديقي العزيز

حين تناولت القلم لأكتب إليك، تذكرت أن الرسالة تستقبل عامها العشرين، فرأيت أن يكون حديث اليوم عن تلك المجلة الحبيبة التي عقدت أواصر الصداقة بيننا، إذ لولا الرسالة لما كنا من سبعة عشر عاما مضت إلى اليوم صديقين حميمين كأحسن ما يكون الأصدقاء.

أذكر أني كنت أجلس معك في حجرة واحدة بمعهد دمياط الابتدائي، وقد لمحت في يدك مجلة تتصفحها في سرو وبهجة، فاستأذنتك في قراءتها، فخفت أن أكون عنها رأيا خاطئا لأول مرة، فدعوتني إلى الجلوس جوارك، وقلت في اهتمام: هذه أحسن مجلة أطالعها في مصر. ويجب على جميع الطلاب أن يتابعوا قراءتها باعتناء، فهي الصحيفة التي تهذب الأسلوب، وتثقف العقل. ثم مددت يدك إلى القمطر، وأخرجت كراسة الإنشاء لتريني درجاتك العالية في التعبير، ناسبا تفوقك الحميد إلى الرسالة فهي وحدها صاحبة الفضل في هذه الدرجات!!

وأذكر أن درجاتك الممتازة، قد جذبت اهتمامي إليك وإلى الرسالة فخرجت من الدراسة متجها إلى بائع الجرائد، وأخذت نسخة من الرسالة، وقضيت بقية اليوم، وجزءا غير قصير من الليل أتصفحها ورقة ورقة؛ ففهمت أكثر ما تحتويه من مقالات وقصص، وقصائد، وشعرت بإكبار وإجلال نحو ما لم أفهمه من البحوث العلمية الدقيقة، متمللا بقرب

ص: 42

اليوم الحبيب الذي ستتسع فيه ملكة الفهم لدي، فأستوعب جميع ما في الرسالة الحبيبة، من الغلاف إلى الغلاف!!

ورجعت إليك في اليوم الثاني فحدثتك عما فهمته وما لم أفهمه، فوجدتك تشاركني الرأي وتقف من موضوعات الرسالة موقفي منها سواء بسواء. ومن هذا اليوم بدأنا نجلس مما على قمطر واحد، ونتنزه معا إذا أردنا أن نزهر ثم لا نترك الحديث يوما واحدا عن الرسالة فنحن إذا أتى العدد الأسبوعي نطالعه بجد ويقظة، ثم نتقابل ليذكر كل منا ما علق بذهنه من الأفكار الجديدة، والبواب الطريفة؛ وبدأنا نكون لنا آراء عن الأدباء من كتاب وشعراء. وكنا نفترق في بعض الأحيان فافضل كاتبا ترى غيره أحق منه، وأميل إلى شاعر تميل عنه، ولكل منا براهينه المسهبة، ودفاعه الطويل.

وجاءت العطلة الصيفية فم نحزن لشيء حزننا على انقطاع حديثنا الدبي عن الرسالة. ثم اتفقنا على أن نتراسل أسبوعيا، فأكتب إليك وتكتب إلي، وكان الحديث لا يتجاوز الرسالة في أكثر سطوره. وما زلت أذكر حملاتنا الصاخبة في رسائلنا السالفة - على الأستاذ الكبير السيد قطب إذ كان يهاجم الرافعي، وقد خيل إلينا في طور اليفاعة أن قطبا متجن أكثر التجني، وأن الرافعي أكبر من أن يتوجه إلى النقد بشيء!! والغريب إننا الآن نرفع الأستاذ سيف قطب إلى قمة شاهقة، ونراه رائجي في الإصلاح، وصاحب مذهب في النقد والأدب، وداعية أمة إلى الإسلام!! فانظر بربك إلى المدى الشاسع بين النظرتين، نظرة اليفاعة المتسرعة، ونظرة الشباب البسيط. وكان مما يبهج خاطرينا معا أن نرى المدرسين يرمقوننا دون الزملاء بعين الإعجاب والاهتمام، فإذا تقدم أحدنا برأي في موضوع، أو نقاش فكرة لكاتب، وجد العيون مفتحة، والعقول منتبهة، وسمع الرد مشفوعا بالإطراء والتقريظ. وكنا نرجع ذلك إلى الرسالة وحدها، فهي التي دفعت بتفكيرنا إلى الأمام، وتداولته بالصقل والتهذيب!!

ولا أزال أذكر أنك قلت لي ذات عشية: يجب أن نشتري الكتب الأدبية النفيسة. فقلت لك وكيف تشتري الكتاب قبل أن نتأكد من صلاحيته؟ فأسرعت تقول: لنا ميزان لا يخطئ، فإذا كان المؤلف من كتاب الرسالة فعلينا أن نسارع إلى اقتناء كتابه. وإذا لم يكون من كتابها فقد نشرت عنه الرسالة في صحيفة الكتب تعريفا أو نقدا، فعلينا أن نحدد موقفنا منه

ص: 43

على ضوء هذا التعريف وإذا لم يكن هذا وذاك فلم نبعثر نقودنا في الهواء. وكان رأيك هذا مقبولا لدي في ذلك الحين، فلم أشذ عنه في كثير أو قليل.

أين الأيام السالفة يا صديقي العزيز، وأين أحاديثها الأدبية المشتهاة؟ ليتنا قمنا بتسجيلها برغم ما تتسم به من عجلة واندفاع، ففيها ما يعجب ويروق، وفيها ما يضحك ويدهش!! فقد كان لنا عن كل كاتب وشاعر حديث عريض نقطع به الوقت الطويل. ولا أذكر أن كاتبا أغتصب أكثر أحاديثنا في فترة الدراسة الثانوية كما اغتصبها الدكتور زكي مبارك، فقد وقف في ميدان الرسالة كما يقف الملاكم في ميدان الرياضة، يصارع هذا في عنف، ويناقش ذاك في حدة، ويثير في الأفق الدبي عواصف شديدة عاتية. وكنا نعجب بسلاسته واندفاعه، وكانت روحه الفتية تحلق بنا في أوج شاهق. وكم يتركنا الأسف الآن إذ نشهد زكيا قد نزل عن سمائه بعد أن ترك الرسالة، فنراه يقف الآن في آخر الصفوف، وكنا نرقب له الغد المشرق البهيج!

لقد قلت لك ذات مرة أن الدكتور ذكي مبارك يكتب الحديث ذا شجون في بعض الصحف فاترا مضطربا، وكان حديثه في الرسالة بهجة في العين وأنس الفؤاد؛ فكيف يتفق ذلك مع اتحاد الكاتب والموضوع؟ فقلت في سرعة بادهة: إذا أتحد الكاتب والموضوع فلم تتحد الصحيفتان! وكانت إجابة موفقة أكدت ما نجله للرسالة من تقدير وإعجاب.

ونحن الآن نشعر يحب طاغ للدولة العربية، ونشيد بعظمائها من الزعماء والأدباء، ونحس ان مصر والعراق ولبنان وسوريا وتونس والجزائر واليمن والحجاز وسائر الأمم العربية وحدة لا تنقصم، فمن أكد في نفوسنا هذا الحب الأكيد؟ أنها الرسالة يا صديقي العزيز، فلطالما طالعتنا بقضايا الدول العربية السياسية، وعالجت أمامنا مشاكلها الاجتماعية والخلقية، وأفسحت صدرها للنخبة المختارة من أدبائها ونقادها، فكانت بحق ديوان العرب المشترك، وسجلهم الحافل بأنبائهم وأخبارهم، المقرب لأفكارهم واتجاههم، بل لم تكتف الرسالة بقضايا الدول العربية وحدها! فتجاوزتها إلى الممالك الإسلامية قاطية. وكم قرأنا في صفحاتها أبحاثا هامة عن إيران وتركيا والباكستان وأندونسيا وبلاد القوقاز؛ وطالعنا لكتاب من أبناء هذه البلاد كلمات خالدة في الوحدة الإسلامية، والإخاء المحمدي، مما نرجو أن يكون حقيقة واقعة في العاجل القريب. ولعلك تذكر أننا قرأنا في الرسالة ذات أسبوع

ص: 44

بحثا هاما عن الفقه الروماني وعلاقته بالفقه الإسلامي لكاتب مصري، ثم أعجبنا أن نجد الردود تتدفق على الرسالة من سنغافورة ودمشق وحضرموت والعراق دائرة حول هذا الموضوع، فكأن الرسالة قد أهابت بكل باحث في شتى الأمم الإسلامية، أن يلقي دلوه في الدلاء، فتقدم هؤلاء الأفاضل مسرعين. فإذا ما رأينا اليوم أبناء الأمم الإسلامية متكاتفين متساندين، فيجب أن نذكر الرسالة الحبيبة وكفاحها المجيد!

ثم دارت الأيام ومضت بنا الدراسة الثانوية إلى الدراسة العالية بكلية اللغة العربية، وسمعنا أساتذتنا يلقون علينا الدروس العلمية في تاريخ الأدب والنقد وفقه اللغة والنحو والعروض، فكنا نجد من يسمو بعقولنا - في محاضراته وأبحاثه - إلى أفق رفيع، ومن يعكف على مراجعه القديمة ليقدم خلاصتها دون أن يلم بما تمخضت عنه الأبحاث الأدبية في العصر الحديث. وكنا لا نفتأ نواجه هذا النوع من الأساتذة بما اكتسبناه من الرسالة وغيرها من نقد وتحليل، غير عابثين بعد ذلك بما يكون من تبرم وضيق. ولعلك تذكر بالخير شيخ أساتذة الأدب بالكلية، وسيد علمائها الأستاذ الكبير أحمد شفيع السيد فقد كان يذكر لنا الرسالة دائما بين مصادره العديدة في تاريخ الأدب العربي، وقد ينقل بعض أبحاثها الأدبية عن الشعراء الأقدمين معقبا بما يعن له من نقد أو توجيه. وكنا نسمع محاضراته في شوق وإعجاب يزيدان عن الوصف. وحين أدرك اهتمامنا بالرسالة، غمرنا بوده، وذلل لنا كثيرا من العقاب فصرنا لا ندري أنتقدم إليه بالشكر، أم إلى مجلة الرسالة التي تربط بين قلوب المتأدبين من أساتذة وطلاب برباط وثيق.

ولن أفادتنا الرسالة فائدة تامة في الدراسة العالية بالكلية، فقد كان هذا أمرا نتوقعه لما بين أبحاث المجلة ودروس الكلية من ارتباط، بل من يدري؟ ربما تكون الرسالة هي التي وجهتنا إلى كلية اللغة دون أن نشعر، لما غرسته في نفوسنا من حب للأدب وهيام بتاريخه ورسائله. ولكن الذي لم نكن نتوقعه بحال، أن نجد الرسالة الغراء تأخذ بأيدينا في معهد التربية العالي للمعلمين وتعيننا على استكناه مسائل التربية الحديثة، وتفهم علم النفس بما نشرته من أبحاث في هذين العلمين وأذكر جيدا أني جعلت الرسالة بين مصادري العلمية حين كتبت مقالاتي في امتحان الدبلوم فقد اعتمدت على ما كتبه الدكتور عبد العزيز عبد المجيد والدكتور فضل أبو بكر في الذكاء والطفولة بأعداد الرسالة، لأن الزيات الحصيف

ص: 45

كان - ولا يزال - يولي الأبحاث الغربية الحديثة، ومن بينها علم النفس والتربية، عناية فائقة لينأى بالفكر العربي عن جموده وقيوده، ويطلق أمامه الباحات الرحيبة للسير، والأجواء الفسيحة للتحليق. ونحن الآن وقد جاوزنا التعلم إلى التعليم، وانتقلنا إلى تدريس اللغة العربية بالمدارس الثانوية نجد تلاميذنا في حاجة ماسة إلى مجلة أدبية تقيم الألسنة المعوجة، وتشد التفكير الواهن، وترفع الخيال الهابط، ولن تكون هذه المجلة غير الرسالة، فقد نجحت تجربتنا معها - ومع الآلاف من قرائها - أتم نجاح، وكانت نعم الناصر المعين

ولقد أطلت الحديث عن الرسالة في الأدب والثقافة، وتركت أثارها في الأخلاق والسلوك، وما أظنك تجهله، فقد انتشرت المجلات الخليعة التي تتملق الغرائز، ووقفت الرسالة أمام التيار الجارف تدعو إلى المثل العليا والأخلاق القومية، وتشن الحرب على التخنث والمجون، وقد حاربت الأدب المكشوف محاربة منتصر، فدحضت حجة هؤلاء الذين لا يرون في الأدب والشعر غير الحديث عن الفضائح والمخزيات، متشبعين بما تذيعه الصحف الملوثة عن الفضائح بودلير وفلوبير وجيد ولورنس! وكأن هؤلاء لم يرزقوا البيان الناصع إلا لشذوذهم الوضيع وإسفافهم الشائن، في رأي جماعة من المحررين، وقد ساهم مع الزيات في إيجاد أدب خلقي رفيع صفوة من أصدقائه وحواربيه، وعلت في سماء الرسالة صيحات الرافعي وعزام والزيات وفريد وجدي والطنطاوي وخلاف وقطب وإضرابهم من حماة الفضيلة والأخلاق. ولا زلت أذكر أن الأستاذ الزيات قد كتب مقالا عن تاجر يحاول أن يتحلل من قيود الخلق والكرامة لينجح في تجارته، مدعيا أن الغش والنفاق هما طريق زملائه إلى الثراء. وما كاد الزيات يفضحه أمام القراء حتى انبرى عبد الوهاب عزام وأمين الخولي وعلي الطنطاوي والزيات مرة أخرى ينتصرون للفضيلة في مقالات حارة تهدي إلى طريق النجاح، وأنا - بكل صراحة - حين أعلل اندفاعي إلى جماعة الإخوان المسلمين أجد الرسالة ذات أثر غير مباشر في ذلك، فقد غرست في نفسي حب العروبة ونصرة الإسلام، وبغض الاحتلال، كما رسمت بأقلام كتابها صورا واضحة للمسلم الأبي الغيور، وقد وجدت أهداف الإخوان لا تخرج عن ذلك. بل أذكر أني حضرت ذات ليلة مجلس الأستاذ الزيات في ندوة الرسالة فسمعته يتحدث عن محاربة الاستعمار للشرق والإسلام بكل سلاح مدمر غير مشروع، ثم انتقلت عقب ذلك إلى مجلس المغفور له الأستاذ

ص: 46

حسن البنا، فوجدت الحديث متصلا يندد بفضائح الاستعمار ومحاربة الإسلام!! وكأني لم أنتقل من مكان إلى مكان، فرحم الله المرشد الشهيد، وكتب للزيات عمرا فسيحا يسعد به الشرق والإسلام.

أرى أن الحديث عن الرسالة يذهب بي كل مذهب! حتى لأعجز أن ألم بأطرافه، فهو حديث الصبا والشباب والآمال، وحديث الخلق والعروبة والإسلام! ولو كنت معي الآن لحدثتك بما يزدحم في صدري من الخواطر عن الرسالة، ولكن القدر الذي جمعنا أثناء الدراسة في معهد واحد، وأجلسنا على مقعد واحد، قد باعد ما بيننا أثناء التدريس، فأصبحت أدعوك من مكان بعيد، راجياً لك السعادة والصفاء.

فهيهات العقيق! وكيف يدنو؟

وهيهات الغداة فتى العقيق.

(أبو تبج)

محمد رجب البيومي

ص: 47

‌من وحي غزوة بدر

منطق السيف

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

كان المسلمون يوم (بدر) قلة، وكانوا أذلة. . . ولكن الله نصرهم لأنهم أرادوا أن ينصروه فغلبت الفئة القليلة الفئة الكثيرة بعد صبر جميل، وجهاد طويل (والله مع الصابرين).

وكانت (بدر) أول غزوة انتصف فيها الإسلام من أعدائه (بالسيف)، الذي كان علاج الأمر، حين لا يغني الكلام عن الحسام، وحين لا يجزئ (البيان)، عن طعن (السنان). . .

يا غزوة خلدت في القرآن

فضمنت خلدك في صدى الزمان

كانت على الإسلام بدء تحرر

من ربقة الأصنام والأوثان

السيف فيها بالحقيقة ناطق

والحق فيها ساطع البرهان

لا خير في حق إذا لم يحمه

حلق الحديد وألسن النيران. .

من لم يصنه من العداوة سلمه

صانته قوته من العدوان. . .

تلك العصائب من قريش لم تزل

في الإثم غارقة وفي الطغيان

نفروا إلى حرب يضيق ببأسها

صدر الكماة وأنفس الشجعان

الكفر يجمعهم على راياته

والشرك يدفعهم إلى الميدان

لا الحق يجري في عروقهم. . ولا

صوت الهدى ينصب في الآذان

ألقو أعنتهم إلى شيطانهم

يا ويل من لجأوا إلى الشيطان

مهلا (أبا جهل) فإنك عائد

بالخزي من مسعاك والخسران

هلا رجعت إلى مقالة (عتبة)

وإلى النصيحة من (أبي سفيان)

أغرنك بالإسلام قلة أهله

بين افتقار الصحب والأعوان

ماذا يضير المسلمين إذا غزوا

في قلة موفورة الإيمان؟

إيمانكم بالله قوي بينكم

لحم العرى وأواصر البنيان

كانت ملائكة السماء تعينكم

وعدوكم بالله غير معان

يا قلة بالله كانت كثرة

بشراكمو بنبوءة القرآن

الله ألقى الرعب بين عدوكم

وأشاع فيه دلائل الخذلان

ص: 48

فخذوا السيوف إلى الحتوف وابشروا

بالنصر موعودا من الرحمن

من كان ناصره الإله فإنه

هيهات يخذل من بني الإنسان

يا رافع الأركان بين جماعة

كانت بلا أس ولا أركان

الله جارك قاذفا بكتيبة

والله حسبك طاعنا بسنان

المسلمون على ضآلة جمعهم

خذلوا لواء الإفك والبهتان

شاهت وجوه الشرك حين قذفتها

بحصى، وزاغت أيما زوغان

لك في جهادك معجزات جمة

يا معجز الآيات والتبيان

محمد عبد الغني حسن

ص: 49

‌عيش العبيد

للأستاذ إبراهيم الوائلي

لا. . لا أريد

عيش العبيد

الصاغرين الخاضعين لكل جبار عنيد

الراسفين فلا حراك لهم وقد صدى الحديد

التائهين مع الظلام فمن شريد أو طريد

النائمين على الطوى والذل والعسف الشديد

الساكتين عن الطغاة تدوسهم دوس الحصيد

الراكعين لكل من غنى له الزمن البليد

فإذا السياط على المتون مخضبات بالصديد

يلهو بها متنمر أقسى من القدر المبيد

من ذا يريد

عيش العبيد؟

الحالمين يعللون النفس بالأمل البعيد!

بين الخرائب والصخور وبين أكوام الجريد

والسيد الطاغي نواكبه الحياة كما يريد

بين الكئوس المترعات وبين ألحان وغيد

مغف على النغم العذاب يحوطه نهد وجيد!

والقصر يحفل بالرياش من القديم إلى الجديد

أما العبيد فحسبهم في العيش أنهم عبيد

خلقوا ليشقوا في الحياة وينعم القصر المشيد

لا. . لا أطيق

عيش الرقيق

الحائرين فمن طريق يركضون إلى طريق

بين المصانع والحقول وكل منحدر سحيق

فيد تدير النول يربطها به الخيط الدقيق

ويد مع المحراث باتت وهي في عهد وثيق

ص: 50

ولمن تراهم يكدحون وعيشهم نكد وضيق!

ألكل سكير يعب كما يشاء ولا يفيق؟

أم للصدور الناعمات يشع منهن البريق؟

أم للبطون ترهلت فإذا التجشؤ كالنهيق

من ذا يطيق

عيش الرقيق؟

عيش الحفاة الجائعين فلا مغيث ولا شفيق

الكادحون فمن مضيق يدفعون إلى مضيق

هم يغرسون وللعتاة الزرع والشجر الوريق

ودماؤهم. . إن الدماء لكل غانية رحيق

وقلوبهم. . قطع تذوب على البنفسج والشقيق

ما للعبيد سوى الشقاء لينعم الحر الطليق

أمل يذوب مع الضباب كأنه أمل الغريق

أن يحطم القيد المجلجل ميت لا يستفيق

العراق

إبراهيم الوائلي

ص: 51

‌آيات من الفن الإسلامي

للدكتور أحمد موسى

ظهر في جزيرة العرب في مشارق الأرض ومغاربها بفضلهم، وقامت الإمبراطورية الإسلامية بجهودهم وحسن بلائهم، ولذلك فأن الفن الذي انتشر في تلك الإمبراطورية كان له شأنه الخاص في كل بلد ظهر فيه.

فلم يكن شرقيا ولا مغربيا، كما أنه لم يكن إيرانيا صرفا ولا تركيا خالصا ولا هنديا بقسط، وعلى ذلك نجد أن الفن الإسلامي فن ظهر في العصر الإسلامي في كل هذه الأرجاء حاملا طابع البلاد التي انتسب إليها.

وكان لتسامح العرب وحسن استعدادهم وإقبالهم على استخدام الفنانين ورجال الصناعات الفنية في البلاد التي فتحوها فضل عظيم على ازدهار الفن، فوجد في مصر والشام أساليب مسيحية شرقية، وفي العراق وإيران أساليبهما المتقاربة، فكأن الفن الإٌسلامي مزيج من هذا كله نشأ عن التقاء الفنون المسيحية الشرقية، والإغريقية والهندية. امتزجت كلها امتزاجا عجيبا أخرج لنا منها تراثا عظيما خالدا، هو تراث الفنون الإسلامية.

ولا غرابة إذن أن نجد الفن الإسلامي أكثر فنون الأرض انتشارا بالقياس إلى المساحات الشاسعة التي شغلتها الإمبراطورية الإسلامية من الهند شرقا إلى الأندلس غربا، ومن القوقاز وصقلية شمالا إلى بلاد اليمن جنوبا، وأطولها عمرا بالقياس إلى الفنون الأخرى فيما عدا الفن المصري القديم والفن الصيني.

وقد بدأ الفن الإسلامي في الظهور منذ القرن الأول الهجري وأخذ ينمو رويدا رويدا حتى بلغ النضوج في القرن الرابع عشر الميلادي.

ويعنينا هنا أن نلم ببعض آياته الخالدة على الزمن قبل أن يتأثر المسلمون بالفنون الغربية، ويقبلون على تقليدها.

وبالنظر إلى اتساع الإمبراطورية الإسلامية، فانه كانت لهم فنون سميت بأسماء البلاد التي نشأت فيها كما سبق القول، كما اختلفت طرزه بالنظر إلى طول الزمن الذي استغرقه هذا الفن.

وقد بقيت الحرف والصناعات الفنية ردحا من الزمن بعد الفتح الإسلامي في أيدي أهل

ص: 52

الصنعة في البلاد المفتوحة مما جعل الأساليب المحلية متصلة الحلقات في كل إقليم مع علائم التجديد التي تطلبها الوضع الجديد للبلاد، أو مع ما يتفق وما أحضره العرب من الأقاليم الأخرى الخاضعة لإمبراطوريتهم.

ومن هنا تجد اتفاق الفنون الإسلامية في الغاية، وتشابهها في مجملها وإن اختلفت في أجزاء تكوينها اختلافا قد يصعب إدراكه على غير المتخصصين.

وقد تطورت الفنون الإسلامية بتطور العصور وتأثرت بالأحداث الاجتماعية والسياسية شأنها في ذلك شأن كل الفنون.

ولعل العمارة الإسلامية من أبرز الفنون تأييدا لما نقول، ذلك لأن فن البناء أكثر الفنون تعبيرا عن الإقليم الذي ينشأ فيه، فهو خاضع للموقع الجغرافي متأثر بالوسط الجيولوجي إلى جانب الحالة الجوية والمدنية، هذا عدا ما يبدو في تفصيل العمائر من اختلاف الأعمدة وتيجانها وعقودها ومآدبها وقبابها وزخارفها فضلا عن تغطية جدرانها بوسائل مختلفة، على حين نجد أن تبادل الأنماط والأساليب أكثر يسرا وأسهل نقلا من الأعمال الفنية الأخرى كالمنتجات الصناعية التي انتقلت من إقليم إلى آخر على يد التجار الذين جابوا الإمبراطورية شرقا وغربا.

بدأ الفن الإسلامي في عصر الخلفاء الراشدين بسيطا بعيدا عن المعنى المصطلح عليه في عصرنا الحاضر، ولم يكن هذا غريبا ما دام المسلمون وقتئذ كانوا متفرغين للجهاد والفتح للجهاد والفتح والعمل على نشر الدين.

ثم تطور الحال بالفتوحات الإسلامية، فرأينا المساجد الشاهقة والقصور الفاخرة والفنون الصغرى تظهر تباعا نتيجة الاتصال بالأمم ذات الحضارات القديمة ومعاينة آثارها وما فيها من جمال الفن، فضلا عن صادق رغبتهم في ألا يظهر المسلمون فقراء في عمائرهم بسطاء في مظهرهم وهم سادة البلاد.

وظهرت الطرز حاملة أسم الدولة الحاكمة فظهر الطراز الأموي والطراز العباسي والفاطمي وغير ذلك مما لا يتسع المجال لذكره تفصيلا.

وتشتمل الفنون الإسلامية عدا العمارة فنونا أخرى لا تقل خطرا فالنحت المعماري وإن يكن تابعا للعمارة إلا أنه لعب دورا له قيمته كعمل فني مستقل، وجاء الحفر في الخشب وأشغال

ص: 53

العاج والعظم والتحف المعدنية والزجاج والبلور والأشغال الخزفية والمنسوجات والسجاد وهذه كلها لها قيمتها الفنية العظيمة.

ثم هناك فن مستقل آخر هو فن التصوير في الكتب ويدخل ضمنه فن التذهيب والخط والزخارف الكتابية التي تتصل كثيرا بالزخارف الهندسية المعمارية والزخارف البنائية.

ونحن إذ نقدم بعض النماذج لآيات الفن الإسلامي نرجو أن يلمس القارئ ناحية من نواحي الحضارة الإسلامية العظيمة جديرة بالعناية والدرس.

أحمد موسى

ص: 54

‌من قراء كتاب الله

الشاطبي

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

المدرس بكلية دار العلوم

هو القاسم بن فيره بن خلف الرعيني الشاطبي، ولد في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة بشاطبة إحدى بلاد الأندلس، فاقد البصر، فحفظ ببدلته القرآن، وقرأ بها القراءات وأتقنها، ثم رحل إلى بلنسية بالقرب من بلده، حيث عرض ما درسه من القراءات على بعض أساتذتها، وأعاد درس كتاب التيسير للداني، ودرس الحديث والنحو والأدب والفقه والتفسير، فقرأ الكتاب لسيبويه، والكامل للمبرد، وأدب الكاتب لأبن قتيبة. وربما قرأ بها كتاب الظمآن في تفسير القرآن، على مؤلفه أبي الحسن بن النعمة، كما روى تفسير عبد الحق بن عطية. وقد أوتى استعدادا خاصا، منحه النبوغ في كل مادة درسها. وكان قوي الحافظة، فكان عالما بكتاب الله قراءة وتفسيرا، مبرزا في حديث رسول الله، إذا قرئ عليه البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه، ويملي آمالي على الموطأ في المواضع المحتاج إليها، إماما في النحو واللغة ورواية الأدب، إلا أن السليقة الأدبية كانت تنقضه، فجاء شعره معقدا صعبا، تنقصه حرارة العاطفة وروح الفن، ومن ذلك قوله:

يلومونني إذ ما وجدت ملائما

ومالي سليم حين سمت الأكارما

وقالوا: تعلم، للعلوم نفاقها

بسحر نفاق تستخف العزائما

وهي قصيدة طويلة. وله:

بكى الناس قبلي، لا كمثل مصائبي

بدمع مطيع كالسحاب الصوائب

وكنا جميعا ثم شتت شملنا

تفرق أهواء عراض المواكب

ولكن ذلك لا ينقص من قدره عالما كبيرا.

ويقول أبن خلكان وصاحب نفح الطيب: إنه قد خطب ببلده مع صغر سنه. أما أبو شامة في ذيل الروضتين فيروى أن سبب انتقاله إلى مصر أنه أريد أن يتولى الخطابة ببلده فاحتج بأنه قد وجب عليه الحج وأنه عازم عليه، فتركها ولم يرجع إليها، تورءا مما كان

ص: 55

الأمراء يلزمون به الخطباء من ذكرهم على المنابر بأوصاف لم يرها سائغة شرعا. وربما يكون قد أقيم في الخطابة، ثم فر منها. وترك الأندلس سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، يريد الحج، فدخل مصر في ذلك العام. ولست أدري لإن كان قد أتم فريضة الحج أو لم يتمها، وألقى عصا التسيار في مصر عندما جاء إليها مستوفيا حظه من الثقافة التي تتصل بالقرآن، ولكنه رأى أن يستكمل دراسته للحديث، فسمع بالإسكندرية الحافظ السلفي. ثم جاء إلى القاهرة تسبقه إليها شهرته، فطلبه القاضي الفاضل للإقراء بمدرسته، فأجاب بعد شروط اشترطها عليه، على ما كان فيه من الفقر. ولست ادري عن هذه الشروط شيئا، ولكن القاضي الفاضل، فضلا عن قبول هذه الشروط، أنزله على الرحب والسعة، وعظمه تعظيما كبيرا وجعله شيخ مدرسته. وظل الشاطي بهذه المدرسة متصدرا لإفراد القرآن الكريم وقراءته، والنحو واللغة، ولم يفارق القاهرة سوى مرة واحدة، زار فيها بيت المقدس، فصام هناك رمضان، واعتكف سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وهنأ صلاح الدين بفتحه، ثم عاد إلى مدرسته التي انتهى إليه فيها رياسة الإقراء، وكان يعرف مذهب الشافعي ومالك ولذا نراه في طبقات الشافعية والمالكية؛ فضلا عن أن شروط مدرس الفاضلية أن يكون ملما بالمذهبين؛ وثابر على الإفراد بمدرسته، فكان يصلي فيها الصبح بغلس، ثم يجلس للإقراء، فكان الناس يتسابقون السرى إليه ليلا. وكان إذا قعد لا يزيد على قوله: من جاء أولا فليقرأ. وظل خادما للقرآن الكريم حتى توفى يوم الأحد بعد صلاة عصر اليوم الثامن والعشرين من جمادي الآخرة سنة تسعين وخمسمائة، ودفن بمقبرة القاضي الفاضل، وخلف ابنا هو محمد الذي روى قصيدة أبيه في القراءات.

أما مواهب هذا الرجل وأخلاقه فقد أكبرها معاصروه ومؤرخوه. قالوا: كان أعجوبة في الذكاء، يجلس إليه من لا يعرفه فلا يرتاب به أنه يبصر لذكائه، وأنه لا يبدو منه ما يدل على العمى. زاهدا عابدا، مخلصا فيما يقول ويفعل، منقطعا للعلم والعمل، يتجنب فضول الكلام، ولا ينطق إلا بما تدعو إليه الضرورة، ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة في هيئة حسنة، وخشوع واستكانة، وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكى ولا يتأوه. وما كان يرى التقرب إلى الأمراء، ولا النفاق والزلفي إليهم. حكي أن الأمير عز الدين موسك، الذي كان والد ابن الحاجب حاجبا له، بعث إلى الشاطبي يدعوه إلى الحضور عنده، فأمر الشيخ

ص: 56

بعض أصحابه أن يكتب إليه:

قال للأمير نصيحة:

لا يركنن إلى فقيه

إن الفقيه إذا أتى

أبوابكم لا خير فيه

وكان من تلاميذه طائفة من المبرزين، نذكر منهم أبا الحسن السخاوي، وهو أجل أصحابه، وابن الحاجب وغيرهما، وقد بارك الله في أصحابه، فكلهم قد أنجب، وكلهم كان يضمر لأستاذ أسمى آيات الحب والإجلال، حتى أنشد أبو شامة المقدسي من نظمه في ذلك:

رأيت جماعة فضلا فازوا

برؤية شيخ مصر الشاطبي

وكلهم يعظمه ويثني

كتعظيم الصحابة للنبي

وترك لنا القاسم أربع قصائد، عرفت الأولى بالشاطبية، وأسمها حرز الأماني ووجه التهاني. والثانية رائية، والثالثة رالية. والرابعة تدعى: تتمة الحرز من قراءة أتمة الكنز.

أما الأولى فأشهر ما خلف، وعدتها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتا. قال عنها ابن خلكان: لقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم؛ فقل من يشتغل بالقراءات إلا ويقدم حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنه سبق إلى أسلوبها. أما ابن الجزري المتوفى سنة 833هـ فيقول: ومن وقف على قصيدتي علم مقدار ما آتاه الله في ذلك خصوصا اللامية (الشاطبية) التي عجز البلغاء من بعده عن معارضتها، فإنه لا يعرف مقدارها إلا من نظم على منوالها أو قابل بينها وبين ما نظم على طريقها. ولقد رزق هذا الكتاب من الشهرة والقبول ما لا أعلمه لكتاب غيره في هذا الفن، بل أكاد أن أقول، ولا في غير هذا الفن، فإنني لا أحسب أن بلدا من بلاد الإسلامية يخلو منه، بل لا أظن أن بيت طالب عم يخلو من نسخة به. ولقد تنافس الناس فيه، ورغبوا في اقتناء النسخ الصحاح منه حتى أنه كانت عندي نسخة اللامية والرائية بخط الحجيج صاحب السخاوي مجلدة، فأعطيت بوزنها فضة، فلم أقبل. ولقد بالغ الناس في التغالي فيها، وأخذ أقوالها مسلما، واعتبار ألفاظها منطوقا ومفهوما، حتى خرجوا بذلك أن تكون لغير معصوم، وتجاوز بعض الحد فزعم أن ما فيها هو القراءات السبع، وإنما عدا ذلك شاذ، لا تجوز القراءة به، وقال بعضهم يصف الشاطبية:

جلا الرعيني علينا ضحى

عروسه البكر، ويا ما جلا

ص: 57

لو رامها مبتكر غيره

قالت قوافيها له الكل: لا

ولقيت هذه القصيدة عناية كبرى من الشراح الذين حلوا رموزها، ووضحوا مراميها. وأول من شرحها تلميذه أبو الحسن السخاوي المتوفى سنة 643هـ، وقد قرأ القصيدة على أستاذه، وسمي شرحه: فتح الوصيد، في شرح القصيد. وشرحها أبو شامة المقدسي المتوفى سنة 656هشرحا سماه إبراز المعاني. قال في كشف الظنون، وهو تأليف متوسط لا بأس به، ثم أختصره في كتاب سماه إحراز المعاني (بدار الكتب رقم 34 قراءات) وشرحها غير هذين الرجلين شروحا كثيرة تجدها في كشف الظنون، أفضلها وأدقها شرح برهان الدين الجمبري المتوفى سنة 732هـ، وأسمه كنز المعاني (بدار الكتب برقم 149 قراءات).

وقام باختصار هذه القصيدة جمال الدين بن مالك النحوي المتوفى سنة 672هـ في قصيدة سماها: حوز المعاني في اختصار حرز الأماني؛ والمختصرة من بحر الشاطبية وقافيتها. كما قام بإكمالها أحمد بن علي المحلى الضرير شيخ القراء بالقاهرة المتوفى سنة 672هـ وكان الشاطبي نفسه قد أتمها من قبل في قصيدة سماها تتمة الحزر من قراء أئمة الكنز، وهي في رواة القراءات السبعة.

وقد ساعد الشاطبي في رموزه وإشاراته ذهن يحب الإلغاز ويميل إليه، قالوا: إنه كان كثيرا ما ينشد هذا اللغز، وهو للخطيب الحصكفي في نعش الموتى:

أتعرف شيئا في السماء نظيره

إذا سار صاح الناس حيث يسير

فتلقاه مركوبا، وتلقاه راكبا

وكل أمير يعتليه أسير

يحض على التقوى، ويكره قربه

وتنفر منه النفس وهو نذير

ولم يستزر عن رغبة في زيارة

ولكن على رغم المزور يزور

وقد ألف الشاطبي قصيدته حرز الأماني بالقاهرة، وعرفنا أن مصدرها كتب أبي عمرو الداني التي درسها القاسم بن فيره. أما الرموز والإشارات التي بها فمن بنات أفكاره.

ونظم في القاهرة أيضا قصيدته الراثية في فن الرسم، وهي نظم لكتاب آخر في هذا الفن لأبي عمرو الداني، قال ابن خلدون: وربما أضيف إلى فن الرسم أيضا، وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية لأن فيه حروفا كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط، كزيادة الياء في (بأبيد)، وزيادة الألف في (لا أذبحه) و (لا

ص: 58

أوضعوا) والواو في (جزاء الظالمين) وحذف الألفات في مواضع دون أخرى، وما رسم فيه من التاءات ممدودا، والأصل فيه مربوط على شكل الهاء، وغير ذلك. فلما جاءت هذه المخالفة لأوضاع الخط وقانونه احتيج إلى حصرها، فكتب الناس فيها أيضا، وانتهت بالمغرب إلى أبي عمرو الداني، فكتب فيها كتبا من أشهرها كتاب المقنع، واخذ به الناس، وعولوا عليه، ونظمه القاسم الشاطبي في قصيدته المشهورة على روى الراء، وولع الناس بحفظها، وسمى الشاطبي قصيدته الرائية: عقيلة أتراب القصائد، في أسنى المقاصد (بدار الكتب رقم ب 21446) وشرحها كذلك شارح حرز الأماني إبرا الجمبري وغيره.

أما القصيدة الرابعة فدالية تبلغ خمسمائة بيت، أحاطت في كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للحافظ عبد البر، وضعه في الفقه الحديث.

وللشاطبي كذلك كتاب الاعتصام وهو في الفقه على ما يبدو مما نقله عنه الأستاذ محمد كرد علي في كتابه: الإسلام والحضارة العربية (جـ2 ص 33)، ومنظومة رائية في بيان المدني والمكي من الآيات والسور، عدد أبياتها مائتان وسبعة وتسعون بيتا. (بدار الكتب رقم ب 22535).

وبعد فإنه لا يضير الشاطبي أنه استقى مؤلفاته من كتب غيره، فإنه انفرد ينظمها، ووضع رموزها وإشاراتها، وتقريب العلم بها لطلبة العلم وحفاظه، وقد أصبحت كتبه ملاذ طلاب هذه الفنون، أكثر من الأصول التي أخذت عنها.

أحمد أحمد بدوي

ص: 59

‌حاجة الإسلام إلى زعيم

للدكتور محمد يوسف موسى

الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول

نعم! الإسلام بحاجة اليوم إلى زعيم يلم شعثه، ويجمع متفرقه، ويوجهه نحو الخير، ويجعله حقا قوة من قوى العالم الحي الذي يسير قدما إلى الأمام، ويسهم بذلك في سعادة البشرية

في الإسلام، باعتباره دينا له عقائده وتشاريعه ومثله العليا، قوة مذخورة لا بد من الإفادة منها في قيادة العالم، وكل ما علينا هو أن نستخلصها منه. وفي الأمم الإسلامية، إن وجدت الزعيم الموجه القادر المخلص، قوى مادية ومعنوية لا غناء عنها للبشرية. هذا كله يدهى لا يحتاج إلى بيان، وهذا كله يحسه كل منا ويملأ به فمه حين يتحدث إلى أخيه في الدين أو الوطن.

لو لم يكن العالم في ماضيه وحاضرة ومستقبله بحاجة إلى الإسلام، ما اتصلت السماء بالأرض لتوحي به وبرسالته، فإن هذا الاتصال، وهو خرق لقوانين الطبيعة، لا يكون إلا حين تدعو الحاجة الملحة والضرورة المطلقة. وكذلك كان الأمر حين نزل وحي السماء بدين جديد يوائم الإنسانية وقد بلغت رشدها، بعد أن استنفدت كل من اليهودية فالمسيحية أغراضها، ويوائم أيضا الإنسانية في جميع ما تمر به من مراحل وأزمان حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ولكن هذا الدين على حاجة العالم له، ومع قيام نهضة أوربا على كثير مما جاء به ومما خلد على الزمن من تفكير أعلامه، صار الآن مهملا من أصحابه، وصارت دولة نهب الطامعين، وصاروا لا شأن لهم في كثير من أمورهم يله أمور العالم عامة! لماذا؟ لأن الأمة الإسلامية لا تجد منذ زمن طويل الزعيم المؤمن حقا بإسلامه ورسالته، فيأخذ بيدها إلى الأمام لتقتعد مقاعد العز والمجد بين المم المختلفة.

نحن لا نشكو القلة في العلماء والمفكرين؛ فعندنا بحمد الله علماء مبرزون في التشريع، والتاريخ، والآداب، والفنون، وعندنا كذلك كتاب مشاهير، وخطباء مصاقع، وأطباء نطاسيون، ومهندسون بارعون، ودهاقنة في أمور المال والاقتصاد، إلى أمثال هؤلاء وأولئك ممن يقوم عليهم بناء الأمة ولا تستغني عنهم الدولة.

ص: 60

ولكن، مع هذا كله، نرى البلاد الإسلامية لا تسير على الجادة المستقيمة، ولا تكاد تسير برأيها الخاص وفق تقاليدها الخاصة في موكب العالم. ذلك، ونكررها مرة أخرى بأن العالم الإسلامي فقد منذ زمن طويل (الزعيم) المؤمن بدينه وشريعته، الفاهم برسالته، المخلص لدينه ولقوميته؛ الزعيم الذي يجعل همه من حياته بيان طريق الخير وحمل أمته عليه، والأخذ بيدها لنسير فيه، سر ذلك الغرب أو ساءه.

نحن بحاجة إلى زعيم يفكر في غاية التي يجب أن نصل إليه، ويقدر الوسائل التي يجب أصطناعها، ولو طلب في هذا السبيل نظم التعليم مثلا رأسا على عقب لتستطيع المدرسة خلق الشباب المسلم، ويعمل على حمل قومه على الإسلام الصحيح عقيدتا وقولا وعملا قبل محاولة حمل الآخرين عليه.

أن نظام التعليم الحديث، في الزهر والجامعة على السواء، قد فشل في أداء رسالته، وهي تخريج جيل يحسن الإفادة بما تلقن من علم وحاز من ثقافة صالحة، جامعا إلى هذا الاعتزاز بدينه وقوميته ووطنه وضميره وكرامته. أن هذا النظام قد أخرج، ولا يزال، لنا من الشباب من يقول ولا يفعل، ويدعي ولا يحقق، ويتمنى ولا يريد، أو يريد ولا يصمم على بلوغ ما يريد، ومن يعرف الدين دون أن يخالط الإيمان الحق قلبه فينزل دائما عليه في حكمه، ومن يعتز بأوربا ويفتتن بكل ما رأى فيها دون تفرقة بين الحق والباطل والنافع والضار!

إن ممن تخرجوا على نظام هذا التعليم - حتى من الأوربيين - يفهم كيف تسخر الكهرباء والبخار وسائر قوى الطبيعة، للطيران في الهواء والسباحة في الماء ولكنه مع هذا كله لا يحسن أن يمشي على الأرض!

ونظام هذا قصاراه، وتلك نتائجه، يجب التغيير منه، أن لم نقل تغييره كله من أساسه، ليقوم على أسس جديدة تجعله يخلق الشاب المؤمن الكامل في طباعه وخلقه، الفاهم حقا لرسالته التي تجمع بين عز الدنيا وسعادة الآخرة. نحن بحاجة إلى زعيم يعتقد مع شاعر الإسلام السيد (محمد إقبال) أن مقام المسلم في هذا العالم مقام كبير خطير؛ مقام الإمامة والتوجيه، لا مقام التقليد والاتباع، فأنه لم يخلق ليندفع مع التيار، ويساير الركب البشري حيث يتجه ويسير؛ بل خلق ليوجه المجتمع البشري والعالم والمدنية، ويفرض على البشرية اتجاهه

ص: 61

ويملي عليها إرادته، لأنه صاحب الرسالة والعلم اليقين، ولأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهاته. أن هذا المسلم ليس له، إذا تنكر له الزمان وعصاه المجتمع وانحرف عن الجادة، أن يستسلم ويخضع ويضع أوزاره ويسالم الدهر، بل عليه أن يثور عليه وينازله ويظل في صراع معه حتى يقضي الله في أمره. وما أحسن ما يقول السيد (محمد إقبال) حرفيا، متمثلا في هذا المقام:(سألني ربي هل ناسبك هذا العصر وأنسجم مع عقيلتك ورسالتك؟ قلت: لا، يا ربي! قال: فحطمه ولا تبالي!).

نريد زعيما يرى أيضا مع شاعر الإسلام أن الخضوع للأحوال القاسرة والأوضاع القاهرة، والأعتذار بالقضاء والقدر، من شأن الضعفاء والأقزام؛ أما المؤمن القوي فهو بنفسه قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد. وفي ذلك يقول (إقبال) حرفيا:(إذا أحسن المؤمن تربية شخصيته، وعرف قيمة نفسه، لم يقع في العالم إلا ما يرضاه ويحبه)

نريد زعيما يرى، مع هذا كله، أن الدنيا لا قيمة لها، لا يهمه منها إلا ما يعينه على أداء رسالته. كما يوقن أن من تعدهم كبراء وعظماء ليسوا من ذلك في شيء إذا وزناهم بالميزان الصحيح، وأن هذا الميزان هو مقدار ما يقدمونه للدين والوطن والإنسانية من خير، وإن الإسلام لا يعرف احترام الرجل لنسبه أو جاهه أو ماله فحسب.

ولكن، من لنا بهذا الزعيم وقد أكثرنا من تعداد خصائصه؟ أنه لم يكن صاحب رسالة إلا وقد صنعه الله على عينه وأعده لأداء رسالته، وقد ختم الله رسالاته وسله؛ ولكنه ترك لنا بعد هذا ما أن تركناه لم نضل، وهو القرآن العظيم والخير - كما يقول الرسول الأعظم - لا يزال في أمته إلى أخر الدهر، فلماذا لا نلتمس هذا الزعيم التماسا في البيئات الصالحة لإثباته وأعداده وهي البيئة الدينية؟

أن الناس لا يزالون بحمد الله ينقادون بعامل الدين وأسمه، أكثر من أي عامل أخر، لأن الإنسان متدين بطبعه كما يقولون، ولنا في (آية الله كاشاني) على ما نقول أي دليل!

أن لنا إذا أن ننتظر ظهور هذا (الزعيم) من البيئة الدينية الوحيدة عندنا وهي الأزهر، لو أحسن القائمون على الأزهر اكتشاف العناصر الصالحة من أبنائه، وأحسنوا بعد هذا القيام عليهم؛ ليكون منهم فيما بعد الدعاة الأقوياء للدين ورسالته، لا يعيشون إلا لهذا الهم الكبير؛ وليكونوا رجالا يسمع لهم حين يتكلمون وقادة نلتف حولهم حين يتحركون والله هو

ص: 62

المستعان، الموفق للصراط المستقيم.

محمد يوسف موسى

أستاذ بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول

ص: 63

‌من دموع اللاجئين

للأستاذ محمد حسن إسماعيل

(إلى تلك الفضيحة الإنسانية التي سيخلد عارها. غدر الساسة.

. ولؤم الحضارة. ووحشية الإنسان!)

أخي. . قد مزقت ريح الدجى بيتي وأيامي

وساقتني على الأرض بهذا الهيكل الدامي

وهذا الشبح المطرود في هذا الأسى الطامي

ينادي. . . أين ملك الله تخبط فيه إقدامي؟

وأين الأرض تحملني، وتدفن بعض آلامي؟

وبعض خطاي في هذا الدجى المتفجر إلهامي. .

هنا في كهوة الأقدار بين السيل والويل

وبين عواء شيطان طريد الجن مختل

يقعقع للرعود السود مأخوذا من الهول

سمعت فحيح ثعبان على رئتي منسل

تدفق جسمه المقرور بين حفائر السل

وبين شتاء بستان بدفء الموت مخضل. .

هنا في خيمة البهتان والطغيان والزور. .

لدي مأوى كلحد الميت، في النسيان محفور

رٌميت كدعوة وقفت على درب المقادير

يصب التيه في خلدى خطا الظلمات في النور

فأشرب حيرتي وبكائي من كف الأعاصير

وأذرف أدمعي الخرساء في صمت الدياجير. .

أخي. . قد غال ذئب الجوع أطفالي مع الفجر

وبعثرهم جنون السيل بين مداخل الصخر

ص: 64

فلا أدري لهم شجنا على نعش ولا قبر

كما كانوا هنا. . عادوا، بلا سكنا ولا عمر

ظللت أنوح. . يا رباه! بعض نداك للجمر. .

فجاء الموت يغفر فاه للظلمات والقفر!

أخي. . في عزلة حمراء بين ستار الحان

وتحت جناح مصباح بغى الضوء نشوان

سمعت صداك من قدح إلى الشهوات ظمآن

تدور به على جسد بسحر العار ريان. .

وحولك أمة سكرى على رشفات الطغيان

يدور بها على فلك شقي الخطو حيران. .

ضباب الذل غشانا وصوت العار أحزانا

ولم يترك لنا الطاغون شيئا فوق دنيانا

أذاقونا عذاب التيه، والتشريد ألوانا

إذا صحنا من الجوع أكلنا القوت حرمانا

وإن نحنا من العرى لبسنا الموت أكفانا

وإن رمنا ندى الناس وجدنا الناس ذؤبانا. . .

سلوهم. . واسألوا ما شئتم الإسلام، والعرب. .

وكيف على تراب الذل لم يتمزقوا غضبا!

وكيف غدت (فلسطين) بهم تتجرع النوبا

تنوح على سياستهم وتشكو القيد واللهبا

وهم لمذبح الشهوات ساقوا اللهب واللعبا. .

وقالوا: الشرق! قلت: صحا على أفواهكم كذبا. .

محمود حسن إسماعيل

ص: 65

‌الكتلة الإسلامية والسلام العالمي

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

تحتل البلاد الإسلامية بقعة كبيرة من سطح الكرة الرضية فهي تمتد من بلاد الصين شرقا إلى المحيط الأطلنطي غربا وتضم بين دفتيها، الباكستان وأفغانستان وإيران والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن والمملكة السعودية العربية واليمن وعدن وعمان والكويت والبحرين - ولنخرج من حسابنا تركيا لأنها قد أخرجت نفسها من مجموعة الشعوب الإسلامية وآثرت الانضمام إلى الدول الغربية - ويضاف إلى هذه المجموعة السابقة من الدول الآسيوية أندنوسيا.

هذا في أسيا أما في أفريقيا فتوجد مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر ومراكش وبلاد الصومال.

وسكان العالم الإسلامي يزيد تعدادهم على أربعمائة مليون من الأنفس وهو عدد يزيد على عدد سكان القارة الأوربية بأسرها وهو عدد له خطره وقيمته.

وفي العصر الحاضر أنقسم العالم إلى كتلتين: إحداهما شرقية تتزعمها روسيا وتدين بالشيوعية، والأخرى غربية وتتزعمها إنجلترا وأمريكا وفرنسا وتدين بالديمقراطية والاشتراكية. وبين النقطتين نزاع ونضال. صحيح أنه في سنة 1941 أي في خلال الحرب العالمية الثانية اتفقت الكتلتان فتحالفتا للقضاء على عدوتهما المشتركة ألمانيا، فلما قضى الأمر وانتهت الحرب بانتصارهما أعتقد الناس أن العالم سينعم بفترة من السلام عقب هذه الحرب الضروس، ولكن خاب أملهم، فسرعان ما شب النضال وقامت الحرب بين حلفاء الأمس، ويتجلى هذا النزاع واضحا جليا في الخلافات المستمرة بين روسيا وبين إنجلترا وأمريكا في هيئة الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن وكذلك في الحرب القائمة في كوريا.

ولعلك تسألني ما سر هذا النزاع وهذا النضال بين الكتلتين وما سببه؟ وأنا أجيبك في صراحة أن كلا من الكتلتين تبغي السيادة على العالم. وهذا يدفعنا على أن نبحث موقف العالم الإسلامي إزاء الكتلتين، والسياسة التي يجب أن تسير عليها شعوبه، ولكن يجدر بنا قبل ذلك أن نحاول معرفة سياسة الكتلتين إزاء الشرق الأوسط، أو الوطن الإسلامي.

ص: 66

أن كلا من الكتلتين تبغي السيادة على العالم الإسلامي وأكثر من هذا أن دول الكتلة الغربية تسيطر فعلا على الدول الإسلامية: ففرنسا تحتل تونس والجزائر ومراكش، وتسوم أهلها الخسف والعذاب. وبلغ من ظلم فرنسا وقسوتها في الجزائر أن حرمت تدريس اللغة العربية والدين بمدارسها، بل زادت فانتهكت الأعراض، وحاولت خلق أمة جديدة تختلط فيها الأنساب وتضيع الجنسيات، ولكن طاش سهمها وخاب رجاؤها.

وقد حاولت مصر فتح فاروق الأول للدراسات الإسلامية بمدينة الجزائر، ولكن فرنسا لم توافق. وقد رد على ذلك معالي الوزير الحر والأديب العالم الدكتور طه حسين باشا فأمر بوقف نشاط الهيئات العلمية والأثرية الفرنسية في مصر، وهو عمل نحمده لهذا الوزير الخطير.

وتحتل إنجلترا ليبيا، وبرغم أن استقلال ليبيا قد أعلن فإن إنجلتراوأمريكا وفرنسا تحاول أن تبقي قوات احتلالها في ليبيا إلى ما لا نهاية.

وفي مصر والسودان ترفض إنجلترا الجلاء وتقف حائلا أمام وحدة مصر والسودان، وهي وحدة تبررها العوامل الدينية واللغوية والجغرافية والتاريخية والاقتصادية، ولا غرابة في هذا فأن إنجلترا التي تسمى بالوقيعة لإفساد اتحاد أبناء البيت الواحد، لا تتعفف عن الواقعية بين أبناء الشمال وأبناء الجنوب من سكان وادي النيل.

وإن إنجلترا وأمريكا هما الدولتين اللتين ارتكبتا أبشع جريمة في القرن العشرين، إذ مكنتا لإسرائيل أن تقوم وسط العالم العربي لتهدد أمنه وسلامته. وفي سبيل ذلك شردت الدولتان مليونا من العرب، وأخرجتاهم من ديارهم وأوطانهم، وألقي بهم في العراء في البادية قفر حيث كتب عليهم أن يقيموا ليكونوا شاهدا على ظلم الإنسان للإنسان، ودليلا على أن الأمة التي تتهاون في شأنها ستلقي نفس المصير ونفس الهوان. ولكن ليعلم الناس جميعا أن الأمة الإسلامية لن يهدأ لها بال حتى يرد العرب إلى أوطانهم.

وتحتل إنجلترا شرق الأردن وعدن وعدة سلطنات على البحر العربي، وبينها وبين سلطنة عمان وإمارة البحرين وإمارة الكويت معاهدات تحالف!

وبين إنجلترا والعراق معاهدة تبيح لإنجلترا أن تنزل قواتها في أرض العراق إذا تعرض العراق لخطر أجنبي، وهذا الخطر لن يأتي إلا من جانب روسيا.

ص: 67

وكانت إنجلترا إلى وقت قريب تسيطر على البترول الإيراني وتجني من ذلك أرباحا طائلة بلغت قيمتها 1950 115 مليونا من الجنيهات، ولكن إيران أممت بترولها وطردت الإنجليز من بلادها، ومع هذا فلم تسكت إنجلترا بل عمدت إلى شن حرب اقتصادية على إيران.

والباكستان تدخل في نطاق الكومنولت أو مجموعة الشعوب البريطانية وهي بهذا الوضع مرتبطة بالسياسة البريطانية الخارجية والاقتصادية.

وقد ألقت أمريكا أخيرا بدلوها في الدلاء، والاستعمار الأمريكي استعمار اقتصادي؛ ولاستعمار الاقتصادي من أشد أنواع الاستعمار فتكا بالشعوب. وهي لهذا تحاول أن تسيطر اقتصاديا على شعوب الشرق الأوسط. وقد أخذت من الحكومة العربية السعودية امتيازا باستخراج البترول من المنطقة الظهران الواقعة على الخليج الفارسي.

وهكذا نرى أن الدول الغربية تسيطر فعلا على العالم الإسلامي رغم كثرة عدد سكانه ورغم رخائه وكثرة موارده، تدعى دول الكتلة الغربية أنها لا تريد بدول الشرق الأوسط شرا وتبرر احتلالها لكثير من بقاعه بأنها تحميه من خطر الروسي. وتذهب إنجلترا في تبرير احتلالها لمنطقة قنال السويس إلى أن مصر قلب العالم الإسلامي وأنها ستكون هدفا للغزو الروسي

هذا هو موقف دول الكتلة الغربية من العالم الإسلامي. أما روسيا فأنها تحاول السيطرة على العالم وهي لهذا تحاول أن تزلزل الأرض تحت أقدام الكتلة الغربية وتعمد إلى إقامة روابط الود مع دول الشرق الأوسط. وتفزع الدول الغربية وتشفق على دول العالم الإسلامي من الوقوع في برائن الشيوعية وهي إنما تخاف على نفسها وتشفق على سيادتها.

وهنا يجب علينا أن نوضح حقيقة موقف الكتلة الإسلامية إزاء الكتلتين. لقد ضاق العالم العربي ذرعا بسيادة الدول الغربية عليه وهو لا يريد منها إلا أن تذهب غير مأسوف عليها وأن تتركه حرا وهي سترغم على ذلك إرغاما بالطرق السلمية إن أمكن وبالكفاح والجلاء إن لم تجد الطرق السليمة.

أما روسيا فليست خطرا على العالم الإسلامي لا، هذا العالم غني بمبادئه عن المبادئ روسيا الشيوعية، وقد كفل له الإسلام سلامته وسعادته.

ص: 68

فالإسلام يأمر المسلمين بأداء زكاة أموالهم وردها على فقرائهم (خذ من أموالهم صدقة تزكيهم وتطهرهم بها)(وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)

وأني أحب أن أضرب لناس المثل الآتي ليتبينوا أن الشيوعية ليست خطرا مطلقا على المسلمين.

كلنا يعلم أن قريشا رفضت أن تعتنق الإسلام وحاولت أن تفتن المسلمين الأوائل عن دينهم وأن تردهم إلى شركها وكفرها بالتعذيب والتهديد وغير ذلك من الوسائل ولكنهم صبروا على الأذى والعدوان واستعذبوا ما لاقوا من هوان في سبيل دينهم. واضطروا أخيرا أن يهجروا أوطانهم وأن يهاجروا إلى المدينة فرارا بدينهم وتركوا ديارهم وأموالهم.

ويروي صاحب السيرة أن صهيب بن سنان حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك! فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم قال: فإني جعلت لكم مالي قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب! ربح صهيب!

وهكذا ذهب المهاجرون إلى المدينة وقد تركوا أموالهم وديارهم بمكة. ماذا فعل الرسول الكريم؛ آخى بين المهاجرين والأنصار. وماذا فعل الأنصار؟ نزل كل منهم على نصف ما يملك لأخيه المهاجر. وما أظن أن في التاريخ الحديث بمبادئه الشيوعية والاشتراكية أروع من هذا المثال.

والإسلام دين الديمقراطية: كان النبي يشور أصحابه دائما (وأمرهم شورى بينهم)، وكان الرسول لا يقضي أمرا دون مشورة. أنظر إليه صلوات الله عليه قبيل غزوة بدر وقد أتخذ مكانا فجاءه الحباب بن المنذر وقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزله الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.

فقال: يا رسول الله فأن هذا ليس بمنزل فنهض بالناس حتى نأتي أدنى ما من القوم فتنزله ثم نغور ما ورائه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.

ص: 69

فقال الرسول: لقد أشرت بالرأي. ونفذ ما أشار به الحباب والأمثلة على ديمقراطية الرسول كثيرة لا يحصيها العد.

وأستمع إلى قول أبو بكر الصديق حين بويع بالخلافة: أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم، فأن كنت على حق فأعينوني، وأن كنت على باطل فقوموني. (الخليفة يطلب من الرعية ان تقومه!! أرأيت أروع من هذا مثالا في الديمقراطية؟)

والإسلام دين المساواة والحرية. (أن أكرمكم عند الله اتقاكم) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)

والإسلام دين العمل. (إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا)(والعصر أن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)

والإسلام دين التعاطف والتواد والتراحم. أستمع إلى قول رسول الله (المؤمن للمؤمن كالبنيان شيد بعضه بعضا) وقوله (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر أعضائه بالسهر والحمى)

والإسلام دين العزة يأبى على اتباعه الذلة (والله العزة لرسوله وللمؤمنين)، وهو لهذا يأمر اتباعه دائما بالجهاد:

(يا أيها الذين أمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب ألم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون)(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون).

وقد أقام الإسلام فيما مضى أمة سادت الدنيا وكانت أقوى أمم الأرض جميعا، وكانت دول الغرب جميعا ترهبها وتخشى بأسها. وقد بلغ من اتساع رقعتها وامتداد مساحتها أن كان الخليفة هارون الرشيد ينظر إلى السحابة ويقول (أمطري حيث شئت يأتني خراجك.)

وهكذا نجد إن العالم الإسلامي غني بمبادئه الإسلامية عن الكتلة الشرقية وعن الكتلة الغربية. وهنا حقيقة أحب أن أذكرها وهي أن العالم أجمع يجب أن يتعاون في النهضة العلمية التي تهدف إلى خير الإنسان. وعلى الشرقيين أن ينهضوا علميا حتى يلحقوا

ص: 70

بالغرب؛ فإن الغرب لم يسد ولم يتفوق إلا بالعلم. ولذا أرى واجبا على أهل الشرق أن يدرسوا علوم الغرب وأن يحاول علماؤهم القيام بنصيبهم في حمل أعباء النهضة العلمية. وليس في هذا ضير فهذه الحضارة التي يفخر بها الغرب إنما هي مأخوذة في أساسها عن حضارة العرب.

ولقد كان قيام الكتلة الإسلامية حلما من أحلام الكتاب والساسة والمفكرين؛ ولكنها قد أخذت تصبح أمرا واقعا، فقد كان قيام الجامعة العربية في مارس 1944 النواة الأولى لها، ثم زاد شأنها ووضح أمرها حين زار الدكتور محمد مصدق رئيس الوزارة الإيرانية مصر منذ عهد قريب وأعلن قيام التعاون بين الدول الإسلامية وعلى رأسها مصر وإيران.

وقد تجلى شأن الكتلة الإسلامية واضحا حين وقفت مجموعة الشعوب الإسلامية بجانب مصر في نضالها ضد المغتصبين من البريطانيين. وقد قامت الباكستان بمجهود يذكر فيشكر.

أن قيام الكتلة الإسلامية كفيل بتحقيق السلام العالمي، فإن بلادها غنية بالمواد الخام والمواد الغذائية. وهي أغنى مناطق العالم طرا بالبترول؛ وإن كل نقطة من البترول تعادل قطرة من الدم، وإلى هذا يرجع تسابق الدول الغربية إلى احتكار موارد البترول في الشرق الأوسط. وسيمنع قيام هذه الكتلة اشتعال نيران الحرب بين الكتلتين، لأن قيامها سيوجد توازنا دوليا بينهما فإن انضمامهما لإحدى الكتلتين سيكفل انتصارها وإذن تحجم الكتلة الأخرى عن الدخول في صراع حربي مع الكتلتين الأخريين.

وبهذا ستكون بالكتلة الإسلامية هي الميزان الدولي إن شاء الله.

أبو الفتوح عطيفة

ص: 71