الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 967
- بتاريخ: 14 - 01 - 1952
الهازلون في وقت الجد!
للأستاذ أنور المعداوي
في ليلة السبت 5 يناير عام 1952 سهرت السويس حتى الصباح، وكذلك سهرت القاهرة. . كانت السويس البائسة تضج بالألم وهي تستمع لصوت الرصاص وكانت القاهرة السعيدة تفيض باللذة وهي تستمع لصوت أم كلثوم! كان هناك مأتم وكان هناك عرس. كانت هناك دماء وكان هناك غناء. . السويس والقاهرة إن لم تكن تعلم قطعتان أصليتان من أرض مصر، مصر التي يقال عنها إنها تنظر إلى المأساة بعين واحدة، وتتلقى أنباءها بشعور واحد!
في تلك الليلة، ليلة السبت 5 يناير عام 1952، كان المجاهدون من أبناء السويس وحدهم في المعركة، يواجهون قوى الشر والغدر والطغيان. . دماؤهم فوق أسنة الحراب، وأجسادهم تحت أقدام اللصوص، وعيونهم أبدا إلى الأفق البعيد! أما القاهرة فقد تلقت الأنباء المفجعة في الساعة الثامنة والنصف، ومع ذلك فقد بدت في الساعة التاسعة والنصف وكأنها لم تسمع شيئا ولم تشعر بشيء. . وأعذروها فقد كانت في غمرة الطرب ونشوة الأنغام، كانت تنصت لأم كلثوم وتصفق لأم كلثوم!
ماذا يقول الناس عن هذه العاصمة السعيدة المرحة التي لا تعرف الحياء؟ العاصمة التي لا يضيرها أن تطرب وهناك من يئن، وأن تسعد وهناك من يشقى، وأن تضحك وهناك من يبكي، وأن تحيا وهناك من يموت؟!
شهيد واحد من شهدائنا تستقر في رأسه مائة رصاصة. . ترى هل استحالت الرؤوس في نظر الأنذال إلى حصون وقلاع؟ إن تلك الرصاصات المائة لكفيلة بأن تشعل في النفوس نار الأسى على الشهيد الذاهب، ونار الحقد على العدو الظالم، ونار التطلع إلى انتقام سريع. . إنها لكفيلة بأن تقض المضاجع، وأن تؤرق الجفون، وأن تجعلنا ساهرين حتى الصباح! ولقد فعلنا ذلك منذ أيام. . غنت كوكب الشرق، وصفق السكارى والمعربدون، واشتركت في المهزلة محطة الإذاعة الحكومية، تلك المحطة التي لا يشرف عليها غير أصحاب الثقافة القاصرة والشعور البليد!
ترى هل قدر لمدن القنال أن تعيش وحدها في الجحيم، وأن تحمل وحدها العبء الفادح،
وأن تخوض وحدها غمار المعركة، دون أن يجد أهلها من يشاركهم في الشعور إن لم يقاسمهم المصير؟ لقد كنت أنتظر حين تجرح بور سعيد أن تضمد جراحها الإسكندرية، وحين تبكي السويس أن تكفكف دموعها القاهرة، وأن تؤلف بين نفوسنا وحدة الدم وأن تربط بين قلوبنا صرخة الوطن، في هذا الوقت الذي نوجه فيه سطو اللصوص على كل ما نملك من رصيد الشرف والكرامة. . كنت أنتظر هذا كله وما هو أكثر منه، ولكن القاهرة الماجنة قد نقلتني من عالم الخيال الجميل إلى عالم الواقع الدميم، حين أرسلت ضحكاتها الصاخبة عبر الفضاء لتحبى بها أنين الضحايا على ضفاف القنال!
إن الدم ليفور في عروقي وأنا أبحث عن الرجل الذي يملك سوط الجلاد فلا أجده، الرجل الذي يلهب ظهور اللاهين في ساعة الجد، والعابثين في وقت الشدة، والهازلين ورحى المعركة تدور. . أين هذا الرجل ليرد أصحاب الغفلة إلى الوعي، وأين سوطه ليعلم أصحاب الغفلة إلى الوعي، وأين سوطه ليعلم أصحاب المجون معنى الوقار؟! ما أشد حاجتنا إلى هذا الرجل ما دام الذوق قد تحجر، وما دام الحس قد تلبد، وما دام الضمير قد مات!!
لو وجد هذا الرجل لما امتلأت القهوات بالفارغين، ولما ازدحمت الشوارع بالمتسكعين، ولما ضاقت الأندية على سعتها بالرقعاء من لاعبي القمار. . لو وجد هذا الرجل لساق هؤلاء جميعا إلى هناك إلى تلك البقعة المجاهدة ليتلقوا في رحابها الدروس، دروس العزة والبذل والتضحية وإنكار الذات! لو وجد هذا الرجل لساقهم سوق العبيد ليفهموا معنى الحرية، ولأخذهم أخذ الأذلاء ليدركوا شرف الكرامة، ولأيقظهم بصوت القوى القاهر من هذا السبات العميق!!
إنهم في هذه المحنة القاسية وفي هذه اللحظة الحاسمة، محتاجون حقا إلى من يقنعهم بأن زمن اللهو قد انقضى وبأن وقت الهزل قد فات، ولن يقنعهم على التحقيق غير شيء واحد هو سوط الجلاد. . وما أشد افتقارنا إليه في مثل هذه الأيام!
أنور المعداوي
المصطلحات الطبية ونهضة العربية بصوغها في
القرن الحاضر
للأستاذ الدكتور أحمد عمار بك
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
اللغات كائنة حية نامية متجددة - ما تجددت عاشت، فإن جمدت ماتت. ولقد تعتورها من آفات الإفراط والتفريط أدواء لا منجاة لها منها إلا أن تكون بين ذلك قواما، وتلزم بينهما قصد السبيل.
وإن لكل لغة أوضاعا مأثورة، ومطالب يقتضيها منها العصر - وعلى قدر توفيقها في المزاوجة بين الحفاظ على تراثها، ومسايرة زمانها يكون حظها من قوة الحياة. فإن هي اشتطت في المحافظة إلى حد الجمود، أو نبذت قديمها تهافتا على الجديد، دب إليها دبيب الوهن، وتناوشتها عوامل الفناء.
وللغة العربية ميزة فذة على سائر اللغات - إذ تنزلت بها آيات الهدى والفرقان، وإذ شرفها الله تعالى بمحكم قوله:(إنا أنزلناه قرآنا عربيا) وبصادق وعده: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
ولغة هذا شأن تراثها - بل شأوه من التقديس - لا عجب إذا هي انقادت بديهتها، فغلت في المحافظة حذر التجديد. . ولكنها إن أعملت رويتها، أدركت أنها إن تغل في الحذر - فمن مأمنه قد يؤتى الحذر، وأنها إن تجمد على القديم، تفد على الأيام لغة قصاراها الدين، بعد إذ كانت في عنفوانها لغة الدنيا والدين، وتتنكر بذلك لتراثها ذاته، بل لسنة الحياة لا تبديل لها، وهي أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض. فتلك سنة لا تفد عنها اللغات، فهي إنما تمكث في الأرض بما توفره من منافع للناس في شتى ضروب تواصلهم في أمور معاشهم. وإنا لتعاصرنا لغات موفورة الحياة، لا تكف عن التجدد ليل نهار، لتلاحق فيوض القرائح وأفانين الابتكار، فلا يلحقها من هذا التجدد ضير، بل لا يزيدها التجدد إلا قوة ونماء.
ولقد وسعت لغتنا في ريعانها من مطالب الحضارة أعلاها مرتقى، وأصعبها شعابا، ومن بينها الطب، إذ بلغ شأوها فيه أن تلقاه عليها الغرب، وتدارسه في كتبها حقبا طوالا. وما
كان ذلك إلا لأن أسلافنا لم يبتلوا بذلك الداء الدوي، وهو فرط الحذر، ولم يخشوا في النقل عمن سبقهم من الأمم لومة لائم، بل أقبلوا عليه إقبالا لعلهم كانوا فيه إلى العجلة والاندفاع أقرب منهم إلى التؤدة والأناة، فما أضر بهم ولا بلغتهم قليل الاندفاع. ولو أنهم أسرفوا في الحذر - لما خلد لهم في التاريخ ذكر ولا بقى لهم في العلم أثر.
ثم دارت الأيام بهذا المجد العربي المؤثل، فدالت دولته، وطال باللغة تخلفها عن قافلة الزمان، حتى كان مبزغ النهضة المصرية الحديثة، التي تصدرها المجدد العظيم محمد علي، فأخذت اللغة تصحو من سباتها الطويل. وكان من بواكير هذا الصحو أن تعاون القائمون بالتعليم الطبي حينذاك على نقل المصطلحات الطبية إلى اللغة العربية، أثمر هذا التعاون معجم التونسي المسمى (الشذور الذهبية في المصطلحات الطبية) - ذلك المعجم الذي ألقت به عصا التيسار إلى متحف باريس، ثم نقلت عنه صورتان شمسيتان إلى دار الكتب المصرية. وهذا المعجم يشتمل على مفردات عربية مشروحة لا تقابلها مرادفاتها الأجنبية، ويقع في اثني عشر جزءا، لم يقدر لها أن تنشر، فيما عدا مائة صفحة منها عنى المرحوم الدكتور أحمد عيسى بك بنشر مفرداتها مترجمة إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية. ومن أسف أن هذا الجهد الذي كان خليقا بالنفع لم يمض إلى غايته. وحبذا لو عنى مجمعنا الموقر بتزويد مكتبته بكثرة ما حوى من مفردات صالحة للاقتباس الطبي، مستخرجة من معاجم عدة.
على أن هذه النهضة العربية في القرن الماضي، ما لبثت أن منيت بمثل ما منيت به النهضة السياسية من عثار لم يكن منه مقيل حتى مطلع العشرين، حين قيض الله سبحانه وتعالى المصطلحات الطبية العربية طبيبا كبيرا هو المرحوم الدكتور محمد شرف بك، ملك عليه حب العربية مشاعره، فبذل لها من فكره وجهده، ومن ماله ووقته، ما تنوء به العصبة أولو القوة؛ غير مشفق من أن، يحمل وحده أمانة تؤود رهطا من الإثبات إذ أخرج للناس معجمه الضخم الذي ينتظم سبعين ألفا من المصطلحات، لا في الطب بمختلف فروعه وحسب، بل في كل ما يمت له بصلة من سائر العلوم. وبحسب هذا المعجم أن يكون الأول من نوعه في العربية، وأن يقوم شاهدا على ما تستطيعه الهمة الشماء إذا ما تجشمت جلائل الأمور.
ثم أذن الله للغة العربية أن تسترد مجدها التليد بإنشاء هذا المجمع الموقر الذي يضم صفوة من أئمة اللغة وفقهائها، وجهابذة 3804 علمائها، الخبراء بمختلف حاجاتها، البصراء بما يجدد شبابها ويعيدها سيرتها الأولى قوية فتية موفورة. فحقق بما استن من قواعد، وبما وثق من ألفاظ، بشرى أهل العربية به، على أتم وجه وأوفاه - لولا ما إعتاقه من قصور وسائله في إعلان عمله للناس، وافتقاره لطائفة من أمهات المراجع، واحتياجه لمزيد من العاملين في مختلف اللجان - ولولا شئ آخر، أرى واجبا على وقد شرفني المجمع بعضويته، أن أهمس إليه به، وهو حيرته التي طالت سبعة عشر عاما، بين إشفاق على القديم، ووجل من الجديد فما عدة النهضات إلا الإقدام.
ولئن شئنا أن نشفق فلنشفق من الجمود والاندفاع على السواء. أو فلنشفق من الجمود أكثر مما نشفق من الاندفاع، ولنتوسط بينهما السداد ما استطعنا إليه سبيلا. فلقد جاء في الأثر الشريف (خير هذه الأمة النمط الأوسط: يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي)، وإنا لهذا النمط الأوسط لمتبعون. ولنضرب لذلك الأمثال:
من قواعد صوغ المصطلحات العلمية عامة، والطبية خاصة، أن يحبس المصطلح على معنى بذاته منعا من التباسه بأي معنى سواه. ولذا لجأت اللغات الأجنبية إلى اللغات القديمة كاليونانية واللاتينية فاستمدت منها أكثر مصطلحات العلوم متوسلة إلى ذلك بأية مناسبة، وإن كانت واهية، من مناسبات المعنى المراد
فالمرض الجلدي المعروف بالإكزيما مثلا - من علامات دور من أدواره ظهور نفطات أو حويصلات مليئة بما يشبه الماء على ظهر الجلد. فمن المشابهة البعيدة بين هذه النفطات وما يظهر من فقاعات على سطح الماء عند غليانه: استمدت لتسمية المرض كلمة (إكزيما) وهي كلمة لاتينية تفيد معنى الغليان، وحبست على المرض فأصبحت علما عليه لا تنصرف إلى شئ سواه.
فما عسى أن نترجم به هذا المصطلح إلى العربية؟ إن أول ما ينبغي أن نتوخاه هو أن يكون لفظنا مفردا كنظيره الأجنبي. ذلك لأن من ضرورات استعماله أن نسوقه في صيغة صفة أو مصدر أو إضافة أو نسبة - في نحو قولنا: جلد متأكزم، أو اكزيما الوجه، أو تغيرات الأكزيمية.
فها نحن أولاء قد استخدمنا المصطلح الأجنبي على جهة التعريب فأوفى بالغاية. أفنوثق هذا التعريب من فورنا غير متحرجين، أم نتمهل لعلنا نظفر بغيتنا من سبيل الاشتقاق؟ لقد سبق أن ترجم هذا المصطلح اشتقاقا (بالغليان) على المقابلة بأصل المعنى اللاتيني. فهل تفي هذه الكلمة بالمراد؟ أإذا قلنا (الغليان) أمكن أن ينصرف المعنى في ذهن السامع إلى ذلك المرض الجلدي؟ فإن قلنا (داء الغليان) - ففضلا عن أننا تجاوزنا عن مقابلة اللفظ المفرد بمفرد مثله مما هو مستحب - فقد أوجبنا التساؤل: أداء اجتماعي هو أم فردي؟ أو نفساني هو أم جثماني؟ وأي الأعضاء يصيب؟ فان قلنا (غليان الجلد) فقد أوقعنا القول في الذهن موقع حيرة وغرابة: إذ كيف يغلي الجلد؟ وأي جلد ذاك الذي يغلي؟
وإنما الذي أوجب كل هذه الحيرة: هو أننا استخدمنا لفظا شائعا لمعنى علمي، فلا نحن تركناه لمعناه الشائع، ولا نحن استطعنا أن نحبسه على المعنى العلمي المراد بعد أن انتزعناه من استعماله العام. ومن ثم فقد سلبنا اللغة لفظا من رصيدها المتداول دون أن ننتفع به فتيلا. وهذا ما تفاداه الاصطلاح الأجنبي باستمداد الكلمة من لغة دارسة، مما لا سبيل لنا إليه إلا أن نستمد من لفظ عربي مهجور.
فإذا لم نوفق إلى مقابل لكلمة (إكزيما) عن طريق الاشتقاق على النحو الذي أوضحناه، فلم لا نلبي من فورنا حاجة الاستعمال العاجلة باللجوء إلى التعريب، بأن نعهد في غير تردد بكلمة (الاكزيما) لذوى الملكات المطبوعة من رجال اللغة، ليوثقوها كما هي أو ليلصقوها بما يتسق مع الذوق العربي، كأن يقولوا (الأقزيم) أو (الأكزيم) حسبما يرون، في غير إغراب أو ابتعاد بالنطق عن اللفظ الأجنبي.
وهبنا بعد إذ وثقنا الكلمة بالتعريب، جاءنا من يقول إنه وجد في مادة (كزم) كلمة (التكزيم) بمعنى التفقيع، وفي مادة (قفع) كلمة (القفعاء) بمعنى الأذن التي كأنها أصابتها نار فتزورت من أعلاها إلى أسفلها، ثم كلمة (القفاعي) بمعنى الأحمر ينقشر أنفه لشدة حمرته، وأحمر قفاعي لغية في فقاعي مقدمة إلغاء، وهو قفاع لماله: لا ينفقه.
وذكر القائل بعد ذلك أنه زعيم بأن الفقاعة إنما سميت لذلك لأنها تحتجن ماءها كما يختجن القفاع ماله فلا ينفقه، وأن ما تشبه الفقاعات في الإكزيما إن هو إلا دور من أدوارها يسبقه دور احمرار لك أن تصف حمرته بالأحمر القفاعي، وأن الانقشار دور من أدوار الإكزيما
كذلك، وأن الأذن التي أصابتها نار فنزوت من أعلاه إلى أسفلها لتوحي بالأذن التي أصابتها الاكزيما بالتهاب كلذعة النار وتورم تتزوى منه أن تعوج. وخلص القائل من تفسيره هذا الذي أدهشنا أشد الدهش إلى أن من حق لغتنا علينا ألا نستعير لها الألفاظ، وإنها لتحويها.
فهل من ضير يضيرنا إذا نحن عدنا إلى الاشتقاق بعد التعريب؟ ولماذا لا نترخص في الاشتقاق من مناداة (كزم) هذه، فنقول (كزيمة) مثلا لاسم المرض، و (نكزم) للفعل، (ومكزما) للصفة، و (تكزيما) للمصدر. ولما لا يحق لنا أن نكمل تصريفها قياسا على مادة تشبهها، لغير قيود لا موجب لها في لفظ مهجور رآه مدونو المعاجم أنفسهم غير جدير باستيفاء التعريب.
وأيهما أحفظ لتراث اللغة: أن ندخل عليها لفظا أعجميا مهما صقلناه بدا في لغتنا كالرقعة المختلفة عن نسيج الثوب - أم أن نرقع ثوبنا من نسيجه نفسه فتتسق رقعتنا مع الثوب؟
وما بالنا إذ ما تأبت علينا قواعد الاشتقاق لا تقبل الكلمة المقترحة على أي جهة من جهات القبول؟ بل ما بالنا إذا ما اختلفنا في المفاضلة بين اكزيما وكزيمة، لا نوثق الكلمتين معا، تاركين للذوق العام أن يستقر على تخير إحداهما بمقتضى مزاياها في الاستعمال. وها هنا تتضح أمامنا معالم الطريق، فإن أول ما يجب أن نتجه إليه في صوغ المصطلح العلمي، هو البحث عما إذا كان لمعناه في لغتنا لفظ يقابله ويؤدي معناه في غير لبس وثقل؛ فإن وجدناك فذاك، وإلا بحثنا في مهجور الألفاظ عن لفظ يمت معناه للمعنى المراد بصلة دالة مميزة، فإن استيسرت لنا بضعة ألفاظ تمت للمعنى بمختلف الصلات، كان أولاها بالاختيار أقربها معنى وأنسبها لفظا للمصطلح الأجنبي. وليس حتما أن يكون اللفظ خفيفا وجيزا إن كان مقابله الأجنبي ثقيلا طويلا. على أنه من التوفيق أن يخفف اللفظ ويقصر، ومن غاية التوفيق أن تكون بينه وبين مقابلة مناسبة شبه في نطق، أو وزن، أو مخرج، أو حرف غالب، مما يزيده موائمة للأصل، وسهولة في الحفظ وطلاوة في الاستعمال - ومن ثم جدارة بالتداول.
والآن فلندع مثلنا الأول - هو الاكزيما - بعد إذ أفضنا فيه توضيحا لبداية الطريق، ولنضرب مزيدا من الأمثال الموجزة للاشتقاق، فالتعريب، فالنحت - توضيحا لسائر الطريق.
فكلمة (الأوذيما) التي عربها الرئيس ابن سينا لمقابلة الكلمة الأجنبية التي تنطق (إديما) - والتي تعني ارتشاح الماء تحت الجلد لم لم يعربها (إديما) كما هي بدلا من (أوذيما) التي لا تطابق في نطقها الذوق العربي؟.
وما الذي يفيدنا بتعريب الأولين إن لم نجد ما يوجبه؟ بل لماذا لا نشقق لهذا المعنى كلمة مثل (دئيمة) من مادة (دأم) - وقد تضمنت: تدأم الماء الشيء: غمره، بل لماذا لا نقلب هذه الكلمة فنقول (إديمة) والقلب جائر في الاشتقاق؟ لعل ابن سينا نفسه، لولا تعجله بالتعريب، ملاحقة بالعلم، لوجد في مثلنا هذا مندوحة عن التعريب والاشتقاق.
ومما يؤخذ على بعض الأقدمين في تعريبهم - ولعلهم بالأغراب الشديد فيما عربوا دون ما حكمة فيه. فكلمة وهو نبات يشبه نبات اليمضيد، التي يمكن أن تعرب بكلمة (طرقساق) قد عربها الأقدمون - ومن بينهم ابن سينا وابن البيطار وداود الأنطاكي والطبري - بما ينيف على الثلاثين تعريبا، تشترك جميعا بل تتبارى في الثقل والأغراب على تفاوت ذلك ما بين (طرخشقون) و (تلخشكوك) و (تلحسكوك) و (طليخم) و (تلخ)!
ولقد أسرف قدماؤنا في التعريب حتى كادوا يهملون ما هو أحفظ منه للغة وأدل منه على محاسنها وهو الاشتقاق، فعربوا - مغربين في التعريب - حيث كان يسهل بل يجزل الاشتقاق. فعلم الحساب مثلا عربوه:(أرثماطيقا)، والتحليل:(أنا لو طيقا) وما وراء الطبيعة: (ميتا فيزيقا).
ولعل مرد إسرافهم هذا في التعريب إلى ثلاث أمور: أولها جهلهم بما لأصول المصطلحات من المعاني في قديم اللغات التي ما كانوا ليعنوا بدراستها. وثانيها مراعاتهم مقتضى الدقة العلمية بحبس المصطلح العلمي على معناه الخصيص لكي يحتفظوا بالصلة العلمية بين لغتهم وسائر اللغات. وثالثها إيثارهم سهولة التعريب وسرعته على صعوبة الاشتقاق وبطئه، تلفها منهم على ملاحقة عصرهم فيما نقلوه إلى لغتهم من مختلف العلوم.
ووجه العجب في الأمر أن يكون هذا منزع قدمائنا إلى التجديد، بينما نقف نحن حيارى نتردد ما بين المحافظة والتجديد فيلاحقوا عصرهم البطيء واثبين، ونخلد نحن في عصرنا الوثاب إلى الهوينى!
فلقد ترجمنا الفزيولوجيا مثلا بالوظائف، وسمينا المشتغل بها (الوظائفي). فأية وظائف هي؟
أهي وظائف الحكومة وغيرها بالمعنى المتعارف الآن، أم هي المرتبات على المعنى اللغوي الصحيح؟ أإذا أردنا أن نعيد ميزانية لقسم الفزيولوجيا بكلية الطب مثلا قلنا: الوظائف لقسم الوظائف تنقسم إلى وظائف وظائفيين، ووظائف موظفين غير وظائفيين؟ ولنقس على هذه الأمثلة ما شئنا في سائر العلوم.
أية مفارقة هذه بين موقفنا وموقف الغابرين: إذ نتأبى نحن على التعريب حيثما يكاد يستوجب، بينما ترخصوا هم فيه حيث لهم معدومة عنه. ولماذا لا نعرب غير هيا بين حيثما يستعصي علينا، أو ريثما ينقاد لنا، الاشتقاق؟ وأية غضاضة في أن نعرب الفزيولوجيا وما جرى مجراها بأسمائها كاملة أو محورة أو موجزة، كأن نقول (فزلغة) للفيزيولوجي، و (بثلغة) للباثولوجي، كما قلنا فلسفة وجغرافيا وغيرهما؟ أليست هذه التسمية أحبس في الدلالة على المعنى المراد من أية تسمية أخرى يمكن أن نهتدي إليها اشتقاقا؟
ولقد أقر المجمع الموقر لكل نوع من أنواع الآلات صيغة من صيغها الثلاث، تقصر عليه ليتميز بها من النوعين الآخرين، فلم لا نقتاس بذلك في صيغ الأمراض: وهي فعال وفعيل وفعل نل لم لا نضيف إليها بالاستعارة غيرها من الصيغ كفعلان، فنقابل بكل من هذه الصيغ ما يناسبها من صيغ الأمراض في الأجنبية مثل وو ووسائر ما جرى مجراها؟ ولم لا نتوخى طريقة منظمة في صوغ المصطلحات، بأن نبدأ أولا بترجمة أدوات التصدير والإلحاق منتقلين إلى ترجمة طائفة فطائفة من المصطلحات التي تشترك في أصل الاشتقاق وتختلف في المضافات، عامدين بعد ذلك إلى النحت فيما لا يترجم إلا بوسيلة من النصطلحات الأجنبية المنحوتة؟ كأن تترجم مثلا كاسعة التي تنتهي بها أسماء أكثر العلوم في الغات الأجنبية باستعارة الأصل العربي لكلمة لغة، وهو لغو أو لغى. أو باستعارة لغة نفسها متذرعين لذلك بأن اللغة قوام العلم، إذ مامن علم إلا بلغة.
ثم نترجم أداة التذييل الدالة على مشتغل بعلم أو ما في حكمه في مثل وبحرفي الياء والتاء المنتهية بهما كلمتا عفريت ونفريت، مبالغة من عفر ونفر، فنقول مثلا (نباتيت) و (حيوانيت) بدلا من عالم بعلم النبات أو عالم بعلم الحيوان، الذي لا نستطيع بداهة أن نسميه (حيوانيا) وإن لنا إن شئنا أن ننسج على هذا المنوال عند الاقتضاء لمجالا فسيحا.
أيها السادة:
لنضع نصب أعيننا في اضطلاعنا بما نحمل من أمانة اللغة أقوالا ثلاثة حكيمة: أولها قول الجاحظ: ما على الناس من شيء اضر من قولهم: ما ترك الأول للآخر شيئاً. وثانيها قول عثمان المازني: إذا قال العالم قولا متقدما فللمتعلم الاقتداء به، والانتصار له، والاحتجاج بخلافه إذا وجد إلى ذلك سبيلا، وثالثها ما جاء في كتاب نقد النثر: كل من استخرج علما أو استنبط شيئا وأراد أن يضع له اسما من عنده، ويواطئ عليه من يخرجه إليه، فله أن يفعل ذلك.
وبالله مهتدانا إلى قصد السبيل.
أحمد عمار
في سبيل الله!
للأستاذ محمد محمود زيتون
(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم، وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله، وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره. والله لا يهدي القوم الفاسقين) القرآن الكريم
القتال غريزة في البشر، لا معدي عنها، ولا مفر منها، ولو تركت الغرائز وشأنها انهدم سلم التربية، وارتكست الإنسانية في مهاوي الضلال من غير أن تقوم لها قائمة، ولكن الإسلام الحنيف كفل للنفس منافذ الطموح إلى العزة والشرف، فهذب الغرائز، وارتفع بها على خير وجه مسنون.
وليس أدل على ذلك من علاجه لغريزة القتال، وتوجيهها نحو المثل الأعلى لصالح الفرد والجماعة، فلم يترك أمامها باب شر إلا أوصده، ولا منفذ خير إلا سلكه، وصدق الله العظيم:(كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم)
ومن هنا كان القتال الإسلامي ذا صبغة خاصة لم نعهد لها شبيها في الأمم قديما وحديثا، وذلك لأنه لا ينتهج سبيل الفتك والطغيان، ولا يتذرع بالعصبية والحزبية، بل يمضي في خط مستقيم لا عوج فيه، سليما في بدايته ونهايته، شريفا في مبرراته وغاياته، سديدا في خطواته ومشكلاته، فلا عجب أن يكون (الجهاد) معهدا عاليا للتربية المثلى، تبذل فيها النفس جهودا شاقة بكل ما لديها من جوارح، وتمتحن فيها الغرائز الأخرى مجتمعة ومفترقة: من تملك للدنيا، وتمسك بزخرفها، إلى الحرص على صلة الدم من عصابة وقرابة وجوار.
وذلك السبيل لن يكون فريدا إلا إذا تناسقت هذه القوى سالبها وموجبها على سواء بحيث تنأى عن النقص والدون، وتنهض على أساس من التضحية والتعلية والفداء والصبر. وهذا هو الجهاد في سبيل الله، وهو شريعة لها خصائصها وميزاتها، ودعوة لها فلسفتها ومنهاجها، تقوم الأجيال وتقعد وما تزال للجهاد الإسلامي روعته وقوته، وبهما ترتد الأذهان الكليلة الهزيلة إلى القصد والرشاد.
ولو حشدنا أمام الإسلام جيشا جرارا قوامه كل ما في اللغات من كلمات استفهامية تدور بالخلد سرا وجهرا للتزود من ذخيرة هذا الجهاد، ولتثبيت الإنسان الكريم على قواعد العزة لكان للإسلام المكانة التي لا يتطاول إليها رأي أو مبدأ أوفلسفة أو زعامة ولو كان أصحابها بعضهم لبعض ظهيرا.
متى نجاهد؟ وكيف؟ وبمن؟ ومن. . وبكم؟ وفيم؟ وبم؟ ولم؟ وأي في سبيل الله؟. . هذه كلها يستجيب لها الإسلام في هدوء ومضاء ومن غير تعثر.
والإسلام يتمشى مع طبيعة الأشياء أن يتصل ولا ينفصل، وأن يدوم مع الحياة الفردية والجماعية من المهد إلى اللحد. وهذا ما يؤكده منطوق الآية الكريمة في حكمها المطلق (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيط ترهبون به عدو الله وعدوكم) وقوله تعالى (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال).
والإرهاب هنا أمر مفروض، وصفة لازمة لا تبرج المسلم أبدا، ولا ينبغي له أن يتخلى عنها يوما دون آخر، ولا يأتيها لظرف طارئ ويدعها من بعده، وتصدق في أحاديث النبي الكريم (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) والجهاد هنا على العكس من الهجرة، إذ يقول الرسول الأعظم. (لا هجرة بعد الفتح ولكن نية وجهاد) ولقد حسب المسلمون - بعد تبوك - أن الجهاد قد انقطع فأخذوا يبيعون أسلحتهم لأهل الغنى والفضل، فنهاهم عن ذلك رسول الله وقال (لا تزال عصابة من أمتي ظاهرين يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال) ولن يخرج الدجال إلا في آخر هذا الزمان، يوم يرث الله الأرض ومن عليها.
ذلك بأن الجهاد من أشد مظاهر الإيمان لصوقا بهذا الدين المتين، وهو - على التحديد - أقرب ما يكون إلى دستوره ومصدر تشريعه، فالنبي يقول (من تعلم القرآن ثم نسيه فليس مني) وكذلك يقول (ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه) ويقول (علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل)
هذا الجهاد إذن لا مقطوع ولا ممنوع، بل هو موصول غير مفصول، وذلك ما تقتضيه قوانين علم النفس فيما يتعلق بخصائص الغريزة، وهي التي لا سبيل مطلقا إلى هدمها أو تعطيلها لأنها قوة محركة للسلوك، ولن يظفر الإنسان بنعمة (العافية الاجتماعية) إذا تخلى عن قوة الدفاع عن النفس، وهذا ما يجري في دمه، وهو يدفع جيوش الميكروبات الوافدة،
ويصدها عن كيانه الحصين.
والمجتمع كالفرد كلاهما لا غنى له عن الدفاع ضمانا للبقاء، ويم يتخلى الكائن الحي عن مقومات صراعه مع الفناء، تنمحي مظاهر وجوده وتنهدم أسباب حقيقته، فلا عجب إذا كان الجهاد من ألزم ما يلزم المجتمع السليم الذي دعائمه الراسخة حقائق دين الله.
والجهاد يستجيب لدواعي الخلود حين يستخف المجاهدين إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فيها الثواب المدخر، والجزاء المنتظر، لكل من خلص نفسه من مثقلاتها ومعوقاتها، ولن تستقيم دعوة إلى خير وحق إلا إذا اقترنت بالترضية والجزاء الوفاق، والتخويف من المرتع الوخم الذي تتردى فيه الشهوات بأصحاب الرذيلة، وهذا الإعلاء في غريزة القتال هو ما يسميه رسول اللهبالجهاد الأكبر، وما أشقه على النفس.
وتحرير الوطن من الغاصبين من صميم رسالة الجهاد في الإسلام (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف) والتمكين في الأرض مقرون بالعقيدة العلمية والعملية، الدافعة الرافعة معا (ألم تر إلى الملأ من بنى إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله. قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله، وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا. فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين).
ولقد أعد الله تعالى للشهداء في سبيل الله الجزاء الأوفى. بعد أن اتجروا مع الله وباعوا أنفسهم وأنفقوا في سبيله أموالهم (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي ما بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم).
والحرص على الحياة لا يرتفع بها عما تردت فيه، ولهذا قيل (أحرص على الموت توهب لك الحياة) من غير مبالاة بشيء من هذا الحطام الفاني. كما يقول الشاعر المجاهد في سبيل الله:
ولست أبالي حين أقتل مسلما
…
على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله، وإن يشأ
…
يبارك على أجزاء شاو ممزع
وهذا عبد الله بن الزبير يتلقى الدرس من أمه أسماء بنت الصديق، وهو في طريقه إلى
قتال الحجاج بن يوسف، فرعون زمانه، إذ دخل ابن الزبير على أمه يوم مقتله، وقد رأى خذلان الناس له فقال لها:
يا أمه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صير ساعة، والقوم يعطونني من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت ذات النطاقين لابنها:
يا بني، أنت والله أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن رقبتك يتلعب بها غلمان بنى أمية. وإن كنت أردت الدنيا، فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك. وإن قلت: كنت على حق، فلما وهن أصحابه ضعفت، فليس هذا من فعل الأحرار ولا أهل الدين. وكم خلودك في الدنيا؟
. . القتل أحسن
قال عبد الله: إني أخاف إن قتلوني أن يمثلوا بي.
فقالت: يا بني إن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها فدنا منها وقبل رأسهما وقال:
هذا والله رأيي والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا، مار كنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أمه، إني مقتول من يومي هذا فلا يشتد حزنك، وسلمى الأمر لله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عمل بفاحشة ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي. اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي. أنت أعلم بي ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني.
فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي حرج حتى أنظر إلام يصير أمرك.
فقال ابن الزبير: جزاك الله خيرا، فلا تدعى الدعاء لي قبل وبعد.
فقالت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النجيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي. اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
وقاتل عبد الله بن الزبير حتى قتل ومعه صفوة من أصحابه، قطعت رءوسهم جميعاً، وبعث
بها إلى الحجاج في المدينة، ونصبت للناس وعبثت بها الأيدي الملوثة.
وفي الجهاد الإسلامي تنطلق النفس من عقال الحياة لتسبح في ملكوت حر فسيح، كما أنها تنبثق من طاقة خصبة هي الحق ولا شيء سواه.
هذا ما يستمسك به الزبير بن العوام وهو في موقعة صفين إذ يقول:
(والله لو هزمونا حتى أوصلونا سغفات هجر، لعرفنا أننا على الحق وأنهم على الباطل) وهذا عمر بن الخطاب، وهو ما يزال حديث عهد بالإسلام، والنبي ما يبرح مستخفيا بدعوته في دار الأرقم فيقول:
يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا أو حيينا؟ فيقول النبي:(بلى، والذي نفسه بيده، إنكم على الحق إن متم وإن حييتم) فيقول عمر: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق، ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإسلام غير هائب ولا خائف. والذي بعثك بالحق لنخرجن يا رسول الله. لا ينبغي أن تكتم هذا الدين، أظهر دينك، والله لا نعبد الله سراً بعد اليوم.
وخرج الرعيل الأول من المسلمين وعدتهم أربعون في صفين يتقدمها حمزة وعمر، كلاهما متوشح سيفه، والغبار يثور حولهما، وللجمع كديد ككديد الطحين، وهم يطوفون بالكعبة، يرهبون عدو الله وعدوهم، وقد أخزاه الله بعد أن رأى ما رأى، وأصبحت القلة التي على الحق تقرأ القرآن جهرة، وتصلى بالمسجد علنا، وأنف الكثرة في الرغام.
سأل إعرابي رسول الله: إن الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه، فأيهم في سبيل الله؟ فيقول عليه السلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
الحق إذن هو الباعث على الجهاد وهو بالتالي غايته ومرماه، أي أنه يدفع بأصحاب الدين إلى الأعلى، ويجذب أصحاب الدنيا من أسفل، لهذا فهو وحدة تامة لا تتوزع ولا تعدد، (فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال) وليس من الجهاد أن نقاتل عن حسب أو نسب أو عصبية، بل ما ارتضاه هذا الدين لأهله من الاتحاد (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص).
من أجل هذا الصف المتسق الملتصق. . حكم رسول الله على (قزمان) بأنه من أهل النار،
وهو عديد بنى ظفر وقد حرضته نساؤهم على القتال مع المسلمين يوم أحد، فأخذ سلاحه، وجاء من خلف الصفوف حتى كان في الطليعة وظفر بعشرة من أصحاب الألوية المشركة صرعهم جميعا واحدا بعد الآخر، وأخذ يقول (دافعوا عن الأحساب والأنساب) ولما أثبتته الجراحة بشره المجاهدون بالجنة فسخر منهم وقال (والله ما قاتلت على دين، ما قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير قريش إلينا حتى تطأ سعفنا. ويقول: يا للأوس، قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثلما أصنع، وأخيرا انتحر منافقا، فلما ذكر للنبي قال (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاسد).
ومن أجل هذا الصف المتساند المتعاضد. . يصمد مصعب ابن عمير أمام الفئة الباغية يوم أحد وقد تفرق شمل المسلمين وأشاع ابن قميئة أن محمدا قد قتل، وانفض عنه من كان معه، فيدعوهم مصعب فيتذرءون بقتل محمد للفرار فيقول لهم (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) ويتنزل بذلك القرآن الكريم
ومن أجل هذا الصف الواحد المتحد (يأبى النبي كتيبة خشناء لابن أبي بن سلول قوامها أمثاله من المنافقين وأحلافه من يهود، فيردها النبي قائلا: (لا نستعين بأهل الشرك على أهل الشرك) والله تعالى يؤيده (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين).
ومن أجل هذا الصف المنتظم المنسجم. . يرد النبي يوم بدر خبيب بن يساف، وقيس بن الحارث عن القتال في صفوف المسلمين، لأنهما على غير دين الله، ولا يبغيان غير الغنيمة، وهما في القتال أعظم غناء وأشد نكاية، ولكن النبي يقول لهما (لا يخرجن معنا رجل ليس على ديننا) ويأبى عليهما القتال حتى يسلما. فلما أسلم خبيب قال له النبي أمض، أما قيس فقد تأخر إسلامه إلى أحد).
ومن أجل هذا الصف المتشابك المتماسك. . يؤخر النبي - يوم بدر - الأنصار ليقدم المهاجرين السابقين إلى الإسلام هم وعشيرته، ويقول لهم:(يا بني هاشم قوموا فقاتلوا عن دينكم الذي بعث الله به نبيكم، إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا به نور الله) فوثبوا إلى الجنة سراعا، فرحين بما أتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم.
ومن أجل هذا الصف الرابط المترابط. . يسابق المسلم أخاه وأباه وابنه وخاله إلى الجنة. .
فيتنافس سعد بن خيثمة أباه، ومعوذ بن الحارث أخاه عوف وهما غلامان على جانبي عبد الرحمن ابن عوف يوم بدر يتربصان للأبي جهل فرعون العرب. ويركض عمرو بن الجموح بعرجته وعبثا يحاول أولاده الأربعة أن يثنوه عن عزمه وقد عذره الله، ولكنه يتوق إلى الجنة ويسأل الله أن يرزقه الشهادة وألا يرده إلى أهله خائبا، ويستأذن أبو بكر قائده في أن يقتل ابنه عبد الرحمن، وعبد الله ابن رأس النفاق يسأل النبي أن يسمح له بقتل أبيه، وسعيد بن العاص يتجلد إذ يرى أباه صريع الشرك، وعمر بن الخطاب يصرع خاله العاص بن هشام، ومصعب بن عمير يأمر بالتشديد في فداء أخيه الأسير في يد المسلمين، وسعد بن أبي وقاص تراوده أمه عن إسلامه وتمتنع عن الطعام والشراب حتى يكفر، فلا يعبأ بها وهو لها الابن البار (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما).
ومن أجل هذا الصف المتكامل غير المتفاضل. . يقف أصغر المجاهدين علي بن أبي طالب إلى جانب أكبرهم سنا أبي عبيدة بن ابن الحارث، ولا فارق بين حمزة القرشي وبلال الحبشي وصهريب الرومي وسلمان الفارسي، ولا بين المهاجري والأنصاري، كل وبلاؤه (إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، والأنفال تقسم بما أمر الله بين الضعفاء والأقوياء على السواء، لكل منها نصيب حسب جهاده، فالمشاة والرماة والسقاة، والقادة والسادة، والركبان والعبدان جميعا في درجات مرتبة في الحياة والموت، فقد كان النبي يقدم في دفن الشهداء أعلمهم بدين الله وأقرأهم للقرآن.
ومن أجل هذا الصف الزاحف الجارف. . كانت المرأة تسقى الجرحى، وتضمدهم وتمونهم بالذخيرة، وتتري عن رسول الله، وتحمي الظهور، وتدفع بأفلاذ كبدها إلى الفردوس الأعلى، وتحتسبهم جميعا عند الله، ولا يهمها إلا أن تسأل عن سلامة رسول الله، وجيش حزب الله.
ويدعوا النبي إلى الجهاد بينما عمير بن الحمام بيده ثمرات يأكلها، فيخشى أن تعوقه عن الجنة، فيرميها ويقول: ويحكن، والله إن بقيت حتى آكل ثمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ويرتجز:
ركضا إلى الله بغير زاد
…
إلى التقى وعمل المعاد
وكل زاد عرضة النفاد
…
غير التقى والبر والرشاد
وفي سبيل الله. . يتعطل ركن من أركان الدين، كما أمر النبي بالإفطار في رمضان وهو في غزوة بدر، وأمر بتأخير العصر حتى يدرك بني قريظة في غزوة الأحزاب.
وفي سبيل الله. . تتحرك القلة المؤمنة لتقاتل الكثرة المشركة، (وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) ويقاتل المسلم بما معه والله ناصره، فقد رمى سعد بن أبي وقاص بعرجون فارتد سيفا، وكذلك عبد الله بن جحش وعكاشة بن محض، والعبرة بالإيمان لا بالسلاح، إذ تعجب المسلمون من سيف الزبير بن العوام يوم الخندق وقد ضرب بسيفه نوفل بن عبد الله بن المغيرة فشقه نصفين ووصلت الضربة إلى كاهل فرسه فقال: والله ما هو السيف ولكنها الساعد.
وثبت الله المجاهدين في سبيله بالملائكة والريح والمطر والنعاس آمنة منه وظلوا على الحق ظاهرين حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله عز وجل، إذ يقول نبي الجهاد (لا يبقين دينان بأرض العرب) ومن أجل هذا يكون الجهاد في سبيل الله.
محمد محمد زيتون
دعوة محمد
لتوماس كارليل
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
العرب:
كان العرب أمة جاهلية عزيزة الجانب تعيش في بلاد كريمة، وكأنما الله قد خلق البلاد وأهلها على وفاق بينهما، فهناك شبه غريب بين صلابة البلاد ووعورتها وبين صلابة البلاد ووعورة مسالكها، وبين إقفار البلاد وجفاء طباع أهلها. ولكن كان يخفف من حدة صلابة البلاد ووعورتها، قيعان ذات أمواه ورياض فيحاء، وكلأ أخضر نضير، كما كان يلطف من صلابة نفوس العرب وقسوة قلوبهم، مزاج من اللين والدماثة ورقة الطبع.
كان العرب يعيشون في بلاد خرساء، تحيط بهم صحراء قفراء، تمتد إلى مدى البصر، فتخالها بحراً من الرمل. يصطلي حره طول النهار العربي ويكافح قره طول الليل، وقد ترك فيه هذا الجو أثرا ظاهراً، فكنت تراه يؤثر الصمت فلا يتكلم إلا فيما له صلة به ومساس بقومه.
وإن قوماً هذا شأنهم ينفردون وسط البيد، ويتنقلون بين الرمال والجبال، يناجون الطبيعة أسرارها، ويشاركونها أعاصيرها وجمالها، لابد أنهم يكونون خفاف الحركة، ثاقبي النظر، حداد الخواطر، أذكياء القلوب. وفوق ذلك فهم أقوياء النفوس متينو الأخلاق، لهم من شدة حزمهم وقوة إرادتهم، حصن منيع وحاجز يقيهم تقلبات الأخلاق عند غيرهم من الأمم، وهذا ولا شك منتهى الشرف وذروة الفضائل، وما بالك بقوم يضيف أحدهم ألد أعدائه، فيكرم مثواه، وينحر له ويقدم له أطايب الطعام، ويؤثره بأفضل ما عنده، فإذا أزمع الضيف الرحيل، شيعة وخلع عليه مما تملك يداه، وحملة ما يستطيع أن يجود به. فإذا لقيه في مكان بعيد عن داره وقومه، لا يحجم عن مقاتلته أخذا بثأره، رغم ما قضيناه من صحبة.
يزعم البعض أن العرب من عنصر اليهود، ولكن هذا زعم باطل، لا يقيمه دليل ولا ينهضه برهان، والحقيقة أنهم شاركوا اليهود في بعض الصفات، وامتازوا عليهم ببعضها. فقد شاركوهم مرارة الحد، وامتازوا عليهم، برقة الطبع وحلاوة الشمائل والوفاء بالعهد
ونصرة الضعيف، وأريحية القلب وألمعية القريحة، فإن العربي رغم أنه طول وقته يظل صامتاً كما قلت، إلا أنه إذا تكلم تدفق فصاحة وقوة، وكان ذلك يظهر جلياً في منافساتهم الشعرية التي كانوا يعقدونها في جنوب البلاد، حيث تقام أسواق التجارة، فإذا انقضت الأسواق اجتمع العرب بسوق عكاظ وتناشدوا الشعر طالباً للجوائز التي كانت تعطي لمن جاد قوله وحسن قريضة. وكان هؤلاء الأعراب غلاظ الأكباد جفاة الطباع، ينصتون للمنشد فيجدون لرناته أثراً قوياً في نفوسهم، ويرتاحون لنغماته التي تأخذ طريقها إلى شغاف قلوبهم.
وأرى لهؤلاء العرب فضيلة تفوق كل الفضائل، وتجمع المحامد كلها، ألا وهي فضيلة التدين، فالعرب شديدو التمسك بدينهم، مهما كان لا يقبلون فيه طعناً ولا يسكتون على تجريحه، ولأنهم كانوا يعيشون في الصحراء يشاهدون مظاهر الكون، فكان أكثرهم يعبدون الكواكب وغيرها من كائنات الكون ويرون فيها مظاهر الخالق ودلائل عظمته.
وقد كان لهؤلاء العرب أنبياء سابقون جاءهم من عند الله، كما كان لهم أساتذة ومرشدون في كل قبيلة، يلتف حوله أهلها يقدرونه حسبما يبلغ من العلم والدراية وحصافة الرأي.
وكان مما اتصف به العرب المفكرون، الحكمة البليغة والرأي السديد، فقد اتفق النقاد على أن (سفر أيوب) أحد أجزاء التوراة، كتب في بلادهم، والدليل على هذا ما يمتاز به من فضل وشرف وحكمة. فهو أبرع ما سطر وأبلغ ما كتب، وبما فيه من عمومية الأفكار التي تخالف التعصب البغيض الذي يمتاز به العبرانيون. وسموها وشرف مقاصدها، ويكفي أنك تجد بهذا الكتاب اتصالا بكل نفس وأنه يمت إلى كل قلب، وأنه كالبيت العريق والمجد الأثيل، يفضي إليه منتهى السبل، ويتجمع فيه الأرج الضائع، وتحاول الانتساب إليه جميع الأنوق، فيه من الحزن الشريف آيات بينات، ومن التوكل الحسن الجميل دلائل ناصعة على قدرة الله وتدبيره الكون. وما بالك بكتاب يكون أول ما جاءنا عن مسألة المسائل. حياة الإنسان وما يكون له من نصيب في هذه الدار وفي الدار الآخرة، وما يكافئ الله به الإنسان على عمله، كل ذلك في يسر وسهولة ونصاعة بيان، إنه الحق من حيث أتيته، والنظر الثاقب والعلم الراسب في قرارة كل شيء وصميم كل أمر، مادي روحاني. وإن دل كل هذا على شيء فإنما يدل على فهم غزير وبصيرة نافذة.
ما قرأت فيه يوماً إلا امتلأت نفسي سموا ورفعة، وأحس كأن قلب الإنسانية يترنم شجي ووجداً، ودمعها يفيض حرقة وكمداً. إنها الرقة في شدة والرأفة في قوة، وما أشبهها إلا بسحر الليلة الصائفة، نسيم عليل والوجود في جلال مشهد جليل عظيم. بل أشبهه بالكون وكل ما فيه من ليل ونهار وأنجم وبحار وحيوان وأطيار، ولن أكون مغالياً إذا قلت: إنه ليس في جميع أجزاء التوراة جزء يعادله قيمة وفضلا وقوة وبلاغة.
محمد النبي:
في هذه البلاد وبين هؤلاء العرب الذين ذكرت لك بعض صفاتهم، ولد محمد صلى الله عليه وسلم سنة 571 ميلادية من قبيلة قريش، أعز القبائل جانباً وأرفعها شأناً، ومن أعرق أسرها نسباً وهي أسرة بني هاشم. وأشتهر محمد بالجمال والعقل والفضل على صغر سنه، وقد أبصرت عين جده الهرمة ابنه عبد الله الذي كان حبيباً إلى قلبه في صورة حفيده محمد فأحبه بملء قلبه، وكان يقول: يحسن العناية بهذا الصبي فإني أرى أنه سيفوق كل أفراد الأسرة والقبيلة فضلا وحسنا؛ وعندما أحس الشيخ بدنو أجله عهد إلى ابنه أبي طالب الذي يعتبر أكبر الأسرة، والذي سيتولى مكان عبد المطلب، وكان رجلا عاقلا، بالعناية بمحمد، والقيام على تربيته أحسن القيام، فكان أبو طالب عند حسن ظن أبيه، فقد أولى الغلام عناية فائقة.
فلما اشتد عود محمد وترعرع، صار يرافق عمه في أسفاره في التجارة، وكان لهذه الأسفار أثر كبير في نفسه وفي حياته، فقد حدث في إحدى رحلاته إلى بلاد الشام، عندما بلغ حوال الخامسة عشر، أن وجد نفسه في عالم ذاخر، إزاء مسألة عظيمة الأهمية جليلة الخطر في نظره، وهي المسيحية التي تحدث عنها أمامه الراهب سرجاس (بحيرا) يوم سكن معه محمد هو وعمه
كان محمد لا يعرف إلا لغته، فلم يكن يراه من أحوال الشام ومشاهدها إلا مزيجاً من أمور لا يفهم لها معنى، غير أنه كان يرى بعينه الثاقبة النافذة، ومكس نظرة على لوح فؤاده أموراً وأشياء كثيرة، رسبت في أعماق ضميره، وإن يكن لم يفهم منها شيئاً، ولكنها بقيت ريثما يفسرها له الزمن وتجلوها الأيام، لتخرج آراء ونظرات نافذة وعقائد راسخة، فكانت هذه الرحلة لمحمد بمثابة فاتحة خير كثير وفوائد عظيمة في عالم الرسالة التي أمر بتبليغها
لم يكن حظ بلاد العرب من العلم في ذلك العصر موفورا فقد كانوا حديثي عهد بصناعة الخط، فنشأ محمد كغيره من أبناء البلاد لا يعرف القراء ولا الكتابة وبالتالي لم يتلق دروسا عن أستاذ أو معلم، بل تلتقي علومه من الصحراء وأحوالها ووديانها وهضابها، واستطاع بقلبه أن يتلقى من هذا الكون اللانهائي درساً من أعظم الدروس فائدة وأكثرها عمقاً، دفعة إلى تدقيق النظر في معبودات قومه، فوجدها أحجار لا تنفع ولا تضر ولا تدفع شراً ولا تجلب خيراً
لا ضير على محمد أنه لم يكن يعرف علوم الأرض كلها وما يضطرب فيه العالم. فقد كان في غنى عن ذلك كله بنفسه ونظره الثاقب وقلبه الكبير. إنه لم يقتبس من نور أي إنسان غيره، ولم ينهل من منهل أحد، فلم يكن كغيره من الأنبياء والعظماء الذين سبقوه، والذين استعانوا بغيرهم يتلقون عنهم ويتعلمون منهم، وإنما نشأ وعاش في كبد الصحراء بين الوهاد والجبال والأعاصير والرياح، بعيدا عن كل شيء إلا عن الطبيعة الفياضة وأفكاره الدافقة. والدي يعرف تاريخ محمد منذ نشأته يرى أنه منذ صباه كان دائم التفكير، يتجه ببصره نحو الكون العجيب، فلما بلغ الشباب أحذ يعتزل الناس شهرا كل سنة - وهو شهر رمضان الذي يصومه المسلمون الآن - فينقطع عن الناس مؤتنساً بالوحدة والسكون. متأملا في هذا العالم الواسع الذي لانهاية له، كان يخلو إلى نفسه يناجي ضميره بين الجبال الصماء، متجها بقلبه وعقله لأصوات الكون الغامضة الخفية يستطلعها أسرار الكون، ويستجليها ما غمض عليه. حتى إذا بلغ الأربعين من عمره وأقبل شهر رمضان، خلا إلى نفسه بجبل حراء قرب مكة، وقد استصحب معه هذه المرة زوجته خديجة وأنزلها في مكان قريب من الغار.
وبينما هو يتعبد ذات يوم، نزل عليه الملك الأعظم وأخبره بما كان يحير فكره وجلا له غامض الأسرار، وأرشده إلى ما يبحث عنه، فحرج إلى خديجة يخبرها أن الله تفضل عليه فأنار له الشبهة وجلا الشك، ثم أخبرها أن جميع هذه الأصنام التي يعبدها قومه ليست إلا أخشابا وأحجارا حقيرة لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، وأن الحقيقة بالعبادة هو الله الذي لا الله إلا هو، وأن سائر الكائنات ليست إلاضلا له ودليلا على عظمته وقدرته، إنه النور الأبدي والسر السرمدي. الله أكبر ولله الحق.
أصغيت إليه زوجته في دهشة واستغراب، ولكنها ما لبثت أن أمنت به وصدقته (أي وربي إنه الحق) وقد رأى محمد في إيمانها بكلمته، جميلا يفوق كل جميل، فشكرها على هذا الصنيع وعرف لها هذا الجميل طوال حياتها، فكان يذكرها دائما بالخير والثناء، حتى أن زوجته عائشة التي اشتهرت بالفضائل بين المسلمين طول حياتها، وبما لها عند محمد من مكانه، سألته مرة:(ألست الآن أفضل من خديجة؟ هل كانت إلا أرملة قد ذهب جمالها، وأرى إنك تخصها بالحب أكثر) فرد عليها محمد في شيء من الغضب (لا! والله لست أفضل منها وكيف تكونين آثر منها عندي وهي التي آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء).
لقد عرف محمد لخديجة صنيعها، فليس أروح لنفس المرء وأثلج لصدره من أن يجد له شريكا ينظم إليه في اعتقاده ويقف بجانبه وقت المحنة والشدة، ولقد قال نوفاليس:(ما رأيت شيئا قط أوثق لاعتقادي وآكد ليقيني من أن ينظم إلى إنسان آخر يوافقني رأيي ويعتقد عقيدتي).
جهاد محمد:
خرج محمد إلى قومه يذكر لهم رسالته ويدعوهم إلى عبادة الله ونبذ عبادة الأصنام، فكان يصادف جمودا من قومه وسخرية لاذعة، كفيلة بأن ترد أي إنسان عن أعز شيء عنده وأن تحطم أقوى الأعصاب صلابة وقوة، فقد قضى أعواما ثلاثة في جهاد متواصل فلم يؤمن بدعوته إلا ثلاثة عشر رجلا، فهل هذا يعد تشجيعا؟ إن كان يعتبر هذا تشجيعا، فبئس هذا التشجيع، ولكنه المنتظر في كل دعوة كدعوة محمد، في قوم لهم عقائد وعبادات يعتزون بها ويتمسكون.
وبعد هذه الأعوام الثلاثة جمع أربعين رجلا من ذوي قرابته، وقام فيهم خطيبا، ذكر لهم دعوته، وما أوحى الله به إليه وأنه يريد أن ينشرها بين الناس وفي أنحاء الكون، فمن منهم على استعداد لأن يمد له يده ويأخذ بناصره وهم أهله وعشيرته. فدهش القوم وتملكهم العجب وسادهم صمت رهيب، وبينما هم في صمتهم، هب من بينهم شاب في السادسة عشرة من عمره وقد غاظه سكوتهم، فصاح بصوت كأنه الرعد، إنه ذاك النصير والظهير،
هذا الشاب هو علي ابن أبي طالب. فسخر القوم منه وانفضوا ضوا ضاحكين، ولكن الأمر لم يكن مما يسخر منه بل كان في غابة الجد والخطر.
لقد كان في عمل محمد، إساءة لقريش، سدنة الكعبة وخدمة الأصنام، فسرى أمره ببطيء شديد لا يشجع أحد ولكنه كان سريان على كل حال.
ودأب محمد يؤدي رسالته إلى كل من يصغي إليه فكان ينتهز مواسم الحج فيذكر دعوته بين الحجيج مدة إقامتهم بمكة ويستميل الاتباع هنا وهناك، وهو في أثناء ذلك يلقى مجاهرة بالشر ومناسبة بالعداء ومنابذة ومناوئة في كل مكان، فاستقر رأيه هو وأصحابه على الهجرة إلى الحبشة. فلما علمت قريش بذلك ساءها الأمر وتضاعف غيظها من محمد وحنقها عليه فأقسمت بآلهتها لتقتلنه بأيديها. وشددوا عليه النكير فلم يستطع تنفيذ خطته، وصار حرجاً في غاية الحرج وخصوصاً بعد زوجته خديجة وعمه أبو طالب اللذان كانا له المعين ونعم النصير، فجعل يختبئ في الكهوف وقومه يطاردونه من مكان إلى مكان، تتوعد المهالك وتتهدده الخلوف، وتغفر له المنايا أفواهها، ويقف محمد يتلفت فلا يجد ناصراً ولا مجيراً، ولكن الأمر الذي جاوبه ذلك الأمر العظيم، لم يكن لينتهي على مثل تلك الحال، ومحمد ذلك الصابر القوي الإرادة الثابت العزيمة، لم يكن ليوهن من عزمه كل ذلك الاضطهاد والمطاردة، ليتوقف عن أداء رسالته.
فلما اشتد أذى الكفار له وحنقهم عليه وكان قد انقضى ثلاث عشرة سنة على دعوته لقومه ووجد أعداءه يتربصون به جميعاً، وقد تجمع منهم أربعون رجلاً يمثلون جميع القبائل، ليقتلوه، عرف أن مقامه بمكة أصبح مستحيلاً، لا يستطيع معه أداء مهمته، هاجر إلى يثرب حيث استجاب لدعوته أهلها الذين سموا بالأنصار وسميت البلدة بالمدينة. أي مدينة محمد.
وكان محمد إذ ذاك قد صار شيخأ كبيراً فقد باع الثالثة والخمسين من عمره، ولكن أهل مكة ما إن علموا بمكانته حتى أخذوا يلاحقونه برسائلهم وغاراتهم وكيدهم وعدائهم، فرأى أنه لا سبيل إلى الحياة ونشر الدعوة إلا إذا امتشق الحسام، الذي يزيل حدة كالحات المحن، فقد كان أمامه سبيل وعر وخطة نكراء وقوم يملأ العناد قلوبهم، فإذا لم يجد من نفسه قوة على مجالدتهم، كان مصير دعوته الزوال، وهكذا شأن كل إنسان في مثل هذه الأحوال. والحق أقول، لقد كان محمد يريد أن ينشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن مل حيلته إزاء
هذه الصعاب، فعزم ابن الصحراء على أن يدافع عن نفسه وعن دينه دفاع رجل ثم دفاع عربي حر كريم. وكأني أسمعه يقول: أما وقد أبت قريش إلا الحرب، فلينتظروا أي فتيان هيجاء نحن.
وحقاً رأى وحسناً فعل فإن أولئك القوم الذين صموا آذانهم عن سماع كلمة الحق وغلفوا قلوبهم عن شريعة الصدق، وأبوا إلا الاستمرار في ضلالاتهم، يسلبون وينهبون ويقتلون النفس التي حرم الله، ويستبيحون المحرمات ويهتكون الحرمات، ويفاخرون بإتيان الإثم والمنكر، قد جاءهم نور من الله وكتاب مبين يدعوهم بالرفق والإثارة، فأبوا الاعتوا وطغيانا. فما على محمد إلا أن يجعل الفاصل بينه وبينهم المسند والوشيج والمقوم، وإلى كل سامجة جرداء ومسرودة حصداء، حتى تلين قناتها عزين.
وهكذا امتشق محمد وأصحابه الذين باعوا أنفسهم في سبيله وفي سبيل دعوته، سيوفهم عشر سنوات في حرب وجهاد لم يهدؤوا لحظة ولم يستريحوا غمضة عين وهو يقودهم من نصر إلى نصر كأعظم ما يكون القائد العبقري وكأشجع ما يكون المقاتل فقد كان يقف وسط المعركة لا يهاب ولا يخشى، بل كان أصحاب يلوذون به في كثير من الأحيان، وبذلك استطاع أن ينشر دينه بين أبناء الصحراء وأن يفتح مكة التي خرج منها خائفا يترقب.
الطبيعة تنصر الحق:
تحدث كثيرون عن نشر محمد دينه مجد السيف، واتخذوا هذا دليلا على كذبه وأنه واحد من أولئك الطغاة المتجبرين الذين يريدون المجد والحياة ونشر مبادئهم بالقوة سواءا كانت صالحة أم ضارة، ولكنهم مخطئون كل الخطأ وشد ما يتعسفوا في هذا القول. فهم يقولون:(إنه لولا السيف والحرب لما انتشر دين محمد ولما وجد أنصارا) ولكن فاتهم أن قوة هذا الدين التي أوجد السيف، هذا الدين الذي نشأ في رأس واحد فقط وهو محمد، الذي وقف ضد العالم أجمع، فإذا تناول هذا الإنسان سيفه وقام في وجه الدنيا ليسمع صوته القوي وحجته الدامغة ودعوته الصادقة، نعتناه بالكذب ووصفناه بالطغيان والجبروت وانتقصنا منه ومن دعوته، إنه وربكم أن المنكبون ما أنتصر هذا الدين إلا أنه الحق، فقلما يضيع إنسان يدعو دعوة الحق والصدق، إذ أن الحق ينشر نفسه بأنه طريق مهما كان نوعها.
لقد كانت النصرانية لا تتوانى في استخدام السيف في كثير من الأحيان، وحسب هؤلاء ما فعله شرلمان بقبائل السكسون، فلا ضير على الحق أن ينتشر سواء كان باللسان أم بالسيف أم بأي نوع من الأنواع، لأن الحقائق يجب أن تنتشر ويظلل سلطانها كل مكان سواء كان ذلك بالخطابة والكتابة أم بالحديد أو النار.
لندع الحق يكافح ويجاهد بالأظافر والأيدي والأرجل، وسنرى بعد ذلك أنه سيخرج من المعركة منتصرا مهما كانت شدتها ومها طال مداها. وأنه سيفنى كل ما هو أحط وأدنأ، إن الحرب بين الحق والباطل حرب لا حكم فيها إلا للطبيعة، ونعم الحكم ما أعدله وما أقسطه. ونحن لا نخشى على الحق الانهزام لأنه أعمق جذورا وأكثر أعراقا في الطبيعة، أو التهريج والجلبة والضوضاء فلا حياة لها ولا مقام أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
لقد قلت إن الحكم بين الحق والباطل للطبيعة وما أقسط وأعدل هذا الحكم بل ما أرأف وأرحم. ألستم ترون إننا نأخذ الحبوب فنجعلها في جوف الأرض وكثيرا ما تكون هذه الحبوب مختطة بالتبن والقمامة والتراب وغير ذلك من الأقذار، إننا نلقى الحبوب بجميع ما يخالطها من القذى والأوشاب في بطن الأرض العادلة الرحيمة، فلا تلبث أن تخرج لنا نباتا نقيا خالصا، أما القذى والأوشاب فإنها تفنيه في باطنها وتطوى كشحا عنه ولا تذكر عنه شيئا. وهذا هو عمل الطبيعة في جميع أحوالها وشئونها فهي حق لا باطل فيه، وهي عادلة رحيمة حنون عظيمة، وهي مع ذلك لا تتطلب من الشيء إلا أن تكون حر المعدن صادق اللباب، وهى كفيلة بحمايته وحراسته.
أما إذا كان دخيلا عليها رديء المعدن فإنها تلفظه وتلقي به إلى الأنواء والأعاصير فلا تلبث أن يندثر ويذهب هباء.
إننا نرى لكل شيء تحتضنه الطبيعة وتحميه روحا من الحق والصدق، فإن شأن الطبيعة مع كل حقيقة كبرى جاءت إلى هذا العالم أو يقدر لها المجيء إليه، شأنها شأن الأرض مع بذور الحبوب، فالحقائق خليط نور وظلام وحق وباطل وصدق وكذب، وهي تأتينا في صور قضايا منطقية ونظريات عملية، ثم لا تلبث أن تختفي وتتغلب النور على الظلام ويظهر الحق على الباطل، فتموت الحقيقة ويفنى جسمها لأنها كائن، ولكن روحها يبقى أبد
الدهر، ويتخذ ثوبا أنقى وبدنا أطهر، ولا يزال يتنقل من جيد إلى أجود ومن حسن إلى أحسن، سنة الطبيعة التي لا تتبدل، ولن تجد لسنة الطبيعة تبديلا.
إن جوهر الحقيقة وروحها لا يدركه الفناء ولا يعدو عليه الزمن، ولكن الشيء العام والأمر الوحيد هو هل روح الحقيقة وجوهرها حق وصوت من أعماق الطبيعة؟
إن ما نسميه بنقاء الشيء أو عدم نقائه، ليس بذي أهمية عند الطبيعة، إنما الأمر المهم عندها، هو هل هذا الشيء فيه جوهر حق وروح صدق أم لا.
فإذا تقدمت أنت مثلا أيها الإنسان إلى الطبيعة لتصدر حكمها فيك فإنها لا تسألك أفك أكدار وشوائب أم فيك صفاء ونقاء، وإنما تسألك أفيك روح وجوهر، أفيك حق وصدق؟
فإن كان فيك حق وروح، فإنها تصدر الحكم لك، وأعلم أنك خالد أبد الدهر باق رغم تقلب الأعاصير والأنواء.
إن كثيرين من الناس يقولون لك إنك نقي نظيف، وربما تقول لك الطبيعة، نعم إنك نقي ولكنك قشر، وباطل وكذب وزور وجسم بلا جوهر ولا روح، وإنك مجرد اصطلاح وليس بينك وبين الحق صلة ولا سبب وإنها منك براء. وعند ذلك فقد كتبت عليك الفناء مهما امتد بك الزمن، لأن الطبيعة تقول إن البقاء للجوهر والروح.
(أسيوط)
عبد الحافظ عبد الموجود
الشعب المقلم
للأستاذ أحمد قاسم أحمد
لا أعتقد أن هناك شعبا وهب الحيوية الدافقة، والاستعداد الشره للتطور والرقي، والعقلية الساعية للتجديد والابتكار، ومسايرة ركب الحضارة والتمدن، مثل ما وهب ذلك المكروب. . . شعب مصر. . .!
ولا أعتقد إن هناك ظلما وقع على هذه القوى الحية الدافقة عند أي شعب من شعوب الأرض، مثل الظلم الذي وعق عليها عند هذه الشعب المنكوب. . . شعب مصر. . .!
ذهب قصار النظر في ميادين الاجتماع ودراسة نفسيات الشعوب، إلى اتهامه بما يشين ولا يشرف. قالوا إنه شعب ألف الخنوع والمذلة، واستنام إلى الضعة والمهانة، وآثر حلاوة اللقمة مع لاذعات السوط، على مرارة الكفاح مع عقبى الحرية. . . وهذه هي الفردية التي ظنها الاستعمار حقيقة، فراح يستهين به أي استهانة، ويلهو بإفراده أي لهو.
فهم القطيع العامل إن احتاج إلى العاملين. . .
وهم الطعام السائغ لرصاص أعدائه إن اشتدت به الكربة في الميادين، وهم الملهاة السائغة إن رغب في التفريج عن جنوده المكدودين. ومن هنا قال قائلهم: إن ثورة المصريين جذوة تطفئها بصقه. . .؟ ولكن الحقيقة الهائلة كانت تكمن وراء ذلك. كانت تستقر في أعماق كل فرد من أبناء هذا الشعب. . . كان الشعور بالحرية والسيادة ليس عنصرا دخيلا على نفسه، بل كان تراثا معجونا فيما ورثه عن أبنائه وأسلافه، وعن طريقه نهض يدفع ويدافع، ويبذل ويضحي في كل ثورة ثارها، حمل لواءها وأوقد نارها، واستدارت عينا الدخيل دهشة وعجبا، وتراءت له الحقيقة سافرة، تصرخ في وجهه في قوة وجبروت، أو تهزأ من ظنه في سخرية واحتقار. . . وبانت له الهوة العميقة التي عاش في قرارها ردحا من الزمن، يألف أن يحس الخماد، ولا ينفى أن يشتعل الرماد، ولكن لا يسمح لظنه وخياله أن يسبغا على الحملان الوديعة يوما صفة الثورة للكرامة، والعزيمة للسيادة.
وذهب يتحسس طريقه بعيون غاشية، وأبصار غائمة ونفوس هلعة، فأقبل بالحيلة والمكر، يقدم الاستقلال في طبق المعاهدة، فيحيله من غذاء نافع إلى سم ناقع، ومن حقيقة زاهية إلى أكذوبة واهية، ينخدع لها السذج الأغرار. . . وجازت الحيلة على الزعماء فأقبلوا على
الوجبة المسمومة بشهية مفتوحة. . . وطفق الإنجليز يستعدون لملاقاة الشعب من جديد.
أشرفوا على الجيش فنكبوه وأماتوه. . . وساعدهم المتزعمون بالرضا والتشجيع، فتركوا قوانينهم الرزق توثق الشعب باليمين والشمال: فالإعفاء من الجندية للدافع والحافظ. . .
وحمل السلاح محظور. . . والاجتماعات لها عندهم نصوص وعقوبات. . .! وهكذا التفت الشعب فوجد أن يبذل من دم وعرق، عاد عليه قيد يغل، وسيفا يرهب، وتشريعا يجور. . .!
وهكذا نشأ الجيل الحاضر: جيلا لا يعرف كيف يمسك سكينا، ولا يصوب بندقية ولا يرمي قنبلة. . .
نشأ جيلا له الأصابع وليست له الأظافر، له الفم وليس له الناب، له القوة ولكن لها ما يحطمها، لها الحشيش والأفيون والكوكايين والهيروين. تخدر الأعصاب فلا تحس بر واعد النذر تدوي كل يوم حول آذان لا تسمع، وتبرق كل آن أمام نواظر لا ترى. . . ورضى - هذا الجيل - لنفسه أن تسمح لغيرها - في الحرب الثانية - بالدفاع عن أرضه. . . ناسيا أنها سبة لا تغسلها إلا هبة، وعار لا تمحوه إلا نار. . .!
واستنام الإنجليز للمرة الثانية؛ فقد استطاعوا أن يمدوا أيديهم إلى مواطن القوة في الشعب فخنقوها، وإلى الغدة التي تنزو بالعزة والإباء في النفوس فجففوها. . . وباتوا وأصبحوا. . . فإذا قطيع يضرب فلا ثغاء، ويحلب فلا استعصاء، ويستحث فلا إبطاء. . . ورقصت الفرحة في عيونهم رقصة النصر. . .!
ولكن الجفاف الذي أصاب الغدة كان طارئا فزال، ومؤقتا فانقشع، وعادت تنزو من جديد. . .! وعربدت في الصدور نوازع الشمم، عنيفة كأقسى ما يكون العنف، قوية كأعنف ما تكون القوة، وآثر - القطيع - هذه المرة أن يكون حذرا واعيا، وأن يجتث الشر من أصوله، لقد رأى المعاهدة تفرض على كل يد قيدا، وعلى كل عين غطاء، وعلى كل كتف نيرا، فألغاها. ورأى الاحتلال يسميه خسفا، ويقتله جوعا، ويرفع على ظهره سوطا، وأيقن أنه لا يدافع بيد عارية، وأفواه خاوية، فهب يدفع كل هذا عنه، ثم بدأ وفي كفه المخلب، وفي فمه الناب، وفي قلبه العزم. بدأ وفي يده المدفع، وفي جيبه القنبلة، وفي منطقته الرصاص، وتحت إبطه اللغم. . .
وزحف إلى هناك. . إلى القنال. . . وفي هدوء وسكينة، راح يشعل اللغم تلو اللغم، ويستقبل الفزعين من أعدائه بالمدفع ويطارد فلولهم بالقنبلة. . .! يقتحم الشوك ويجتاز الترع، ويلاقيه وجهها لوجه، قوة لقوة، وسلاح لسلاح، وعنده فوق ذلك الإيمان بالحق. . . والإيمان بالنصر. . .
وعندهم دون ذلك الإحساس بالتطفل، والشعور بالحرج والحجة التي سقطت من بين أيديهم، والفزع الذي وقع في قلوبهم. . .!
لم يكن ما يأتيه هذا الشعب اليوم العجب أو ضريبة، قدر ما كان استجابة صادقة لتلك النوازع الأصيلة الموروثة في أعماقه. . . ألا فليشهد العالم وليسمع إن رغب عن أن يشهد، وليعلم إن رغب عن كلا الأمرين، أن كل مصري يقول اليوم: أنا مصر. . . ومصر أنا. . . لا ذله ولا هوان، ومرحبا بالقوة التي تحاول إرغامي على إنكار هذه الحقيقة. . . مرحبا بها. . . فالمدفع في يدي. . . والقنبلة في جيبي. . . والذخيرة في جعبتي، واللغم تحت إبطي. . . والله معي. . . أنا. . .!
أحمد قاسم أحمد.
الضمير البريطاني
للأستاذ قدري حافظ طوقان
أعلنت مصر في 8 تشرين الأول سنة 1951 إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي 1899 على لسان رئيس وزرائها في بيانه الحاسم الجامع في مجلس النواب المصري. ولقد أستقبل الناس هذا النبأ بالدهشة والوجوم في إنكلترا. وبالسرور والتقدير في الأقطار الشرقية وبعض الأقطار الأوربية والأمريكية المحبة للسلام والديمقراطية، ففي هذا الإلغاء معنى رائع من معاني الوعي واليقظة، كما إن لهذا الإلغاء نتائج خطيرة ذات أثربعيد في حياة الشعوب التي لا تزال تقاسي من المستعمرين والاستعمار ألونا من الضغط والإرهاق وأنواعا من الظلم والعذاب. في هذا الإلغاء دليل قاطع على رغبة الشعوب الشرقية في التحرر والانطلاق وعلى إنها لم تعد تصبر على الأساليب التي كانت تسير عليها دول الاستعمار في القرن التاسع عشر من ادعاء مسؤولية المحافظة على الأمن والنظام في البلاد المتأخرة ومن انتحال التبعات في تمدن الرق وترقيته، وعلى أساس هذه التعليلات كان المستعمرون (وفي مقدمتهم بريطانيا) يقاومون الحقوق الوطنية والنهضات القومية.
لقد أقدمت مصر على الإلغاء والتخلص من قيود الاستعمار بعد أن صبرت طويلا، وبعد أن قامت بمداولات واتصالات متعددة ومفاوضات متكررة، ولكن الجانب البريطاني - وقد سار بعقلية القرن التاسع عشر - أبى أن يخضع للحق الصراح والحجج الدامغة؛ كما أبى أن يدرك حق الشعوب في الحياة الحرة الكريمة حق مقدس قامت على أساسه مبادئ هيئت الأمم المتحدة، أقول: لقد أبى الجانب البريطاني أن يخضع وأبى أن يدرك أن الشعوب في القرن العشرين لا تحكم بعقلية القرن التاسع عشر، ولا بالأساليب الرجعية، فكان هذا التمرد على الاستعمار وقيوده في الهند وإيران والملايو ومصر، وكانت هذه الثورات على الظلم والطغيان.
لقد استهترت بريطانيا بحقوق الشعوب واستهانت بكرامتهم ولم تقيد نفسها بما توجبه عليها المعاهدات من التزامات وواجبات بل راحت تسير في معاملة مصر على أساس الاستغلال والاستعباد والاستخفاف بالعقول والحقوق.
وقد يسأل أحد الناس: ألم يدرك العب البريطاني - وقد بلغ شأوا بعيدا في التقدم المادي
والثقافي - أن الأساليب الاستعمارية لم يعد يحتملها أو يصبر عليها أحد؟ وما هو التعليل لعدم يقظة الضمير البريطاني ولوقفة جامدا أمام الأساليب التحكمية والاستعمارية التي سارت عليها الحكومات الإنكليزية؟ وهل ما يجري في المستعمرات وفي البلاد التي ابتليت بالانتداب يتماشى مع روح العصر وتقدم الأفكار ويقظة الضمائر؟
إن الشعب الذي يستسيغ مأساة فلسطين وأقامت دولة إسرائيل بعد أن مهدت حكومته لتشريد مليون عربي وسلب أموالهم وحقهم في الحياة في بلادهم، ويستسيغ المظالم التي صبها الاستعمار البريطاني في الهند وإيران والتي لا يزال يصبها في بلاد العرب والملايو - أقول إن الشعب الذي يستسيغ كل ذلك، ولا يوقف الأساليب الباغية التي تلجأ إليها حكوماته لهو شعب ناقص التربية جامد الضمير.
ذلك لأن التربية التي لا تنمي في الشعب روح العدل الشامل وروح الخير العام وروح النفور من الظلم والاعتداء لهي تربية ناقصة قد طغت عليها المادية والنفعية فأعمت (الشعب) عن الحق والحقائق فضاق أفقه وأصبح لا ينظر إلى القضايا والمشاكل إلا من زاوية مصالحه الخاصة.
ومن يدرس مذهب بعض الفلاسفة الإنكليز يتبين له السر في جمود الضمير البريطاني؛ فمذاهب الفلاسفة الأخلاقية توضح لنا المثل الأعلى كان لهذا الشعب أو ذاك، ويمكن اتخاذها مقياسا لتقدم الضمير الإنساني لقد برز في إنكلترا في القرن التاسع عشر الفيلسوف (جون ستيوارت مل) وهو صاحب مذهب خاص في الأخلاق يطلق عليه مهذب النفعية (بوتيليتريا نزم) ويقوم هذا المذهب (أو هذه النظرية الأخلاقية) على اعتبار المنفعة أساسا للأخلاق. وقد أتى (مل) في شرح ذلك على بيان تحليل غريزة حب المنفعة وإرجاع الفضائل إليها مستعينا في هذا بعلم النفس والاجتماع. وليس المجال الآن مجال تفصيل هذا البيان، ولكن يمكن القول أن مذهب (مل) في النفعية لم ينتهي إلى الغاية التي أرادها له بعض الفلاسفة، بل جنى على الأخلاق ونزل بها عن مستواها العالي بجعله (المنفعة) أساس كل عمل وإرجاعه الأعمال الأخلاقية إلى بعض الغرائز والقوى النفسية. وعلى هذا تسير الأخلاق على ضوء الغرائز والميول بدلا من أن تضبط الأخلاق وما في الإنسان من غرائز جامحة وميول عنيفة.
لقد تأثر الإنكليز بهذا المذهب فساروا في أخلاقهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم على أساس (النفعية) وسايروا ميولهم وغرائزهم وكيفوا أخلاقهم عليها، فكان هذا الطابع الذي تميز به الإنكليز على سواهم وهو (مصلحة بريطانيا فوق كل المصالح) حتى ولو كان في ذلك الأضرار بالناس والاستهتار بحقوق الشعوب والاستهانة بالمكرمات.
ولهذا لم يعد مجال للدهشة أو العجب من الخلق الإنكليزي ومن تسييره في الطرق المؤدية إلى المصلحة الذاتية أو الخاصة، ولا من عدم تقدم الضمير البريطاني على الرغم من التقدم الكبير الذي أصابه الإنكليز في سائر ميادين الحياة. فسياسة الإنكليز الخارجية واتجاهاتهم الخلقية تتحرك كلها في دائرة النفعية والاستغلال. وهم ينظرون إلى حقوق الشعوب الأخرى ومصالحها وإلى الإنسانية من زوايا مصالحهم ومنافعهم. وقد نجحت هذه السياسة وهذا السلوك بعض الوقت في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، ولكن بعد أن تقدم العلم هذا التقدم العجيب وبعد أن استيقظت الشعوب فهبت من غفلتها أصبح من المستحيل على بريطانيا أن تنجح في أساليبها وخططها الاستغلالية.
وهذا ما يجب أن يدركه الإنكليز حكومة وشعبا.
ويقولون أن العقلية البريطانية تمتاز (بالمرونة)، ولكنها (كما يبدو لي) مرونة بطيئة جامدة لا تساير روح العصر ولا تتحرك في إطار التقدمية. وعلى ذلك فقد فشلت السياسة البريطانية في الشرق في هذه الأيام، فتتابعت عليها النكسات مما يهدد مصالحها ويؤدي إلى القضاء على نفوذها وهيبتها.
قدري حافظ طوقان
وجه للمقاطعة
لتاجر أديب
لنترك الفدائيين الذين وهبوا حياتهم لله والوطن يصولون في ميادين الجهاد ويجولون. ولنترك الحكومة تعمل أعمال التؤدة والترصن حسبما تقتضيه ظروف الحال وتقلبات السياسة. ولنترك الغرف التجارية في سيرها السلحفائي تتدارس أمر مقاطعة التجار الإنجليز والتحول عنهم إلى أسواق أمم تجارها أقل ضررا علينا من أعدائنا. ولندع الأمة جانبا فإن الهبة التي تهبها بين فترة من الزمان وفترة، إنما مردها الآن إلى عدوان جديد يقترفه الجيش البريطاني ضد البلاد وأهلها في القنال، إلى انتقام يقوم به أبنائنا البررة فيذيقون أجناد الإنجليز مرارة الموت، ويعلمونهم معنى القتال بين مؤمن بالله وبوطنه وبالرغبة في الحياة، وبين مؤمن آخر إيمانا وثيقا بأن مصير إمبراطوريته إلى الانكسار والزوال لأنها أدركت سن الشيخوخة وهي آيلة إلى الموت القريب، سنة الله في الشيوخ الفانين. أيقنت بعد أن أهبت بغرفتها التجارية أن تحرض التجار المستوردين أن يلغوا الطلبات التي طلبوها من التجار الإنجليز. وأن يقفوا التعامل معهم، وأن يفعلوا ذلك دفعة واحدة وفي يوم واحد حتى تكون مظاهرة التجار أبعد أثرا وأكثر نفعا من يوم اشتركت فيه جميع طبقات الأمة في التظاهر والاحتجاج على عدوان الإنجليز. أقول أيقنت أن الحكومة ستظاهر الغرف التجارية وتعضدها في إبراز فكرة المقاطعة إلى حيز الوجود؛ لكنها - سامحها الله - سلكت سبيل الدبلوماسية أو سبيل المواربة في عمل كان يجب أن يكون عاجلا، لأن اجتماع تجار مصر المستوردين على رفض جميع الطلبات من إنجلترا لا يساوي فقط حبس ستين مليون جنيه تدفعها مصر ثمنا لسلع تشتريها من أسواقها التجارية، بل هي تدفع مئات من التجار الإنجليز إلى الوقوف في وجه حكومتهم يسألون عن معنى إقفال هذه السوق التجارية في وجوههم وهم يتضورون جوعا ويطلبون غذاء يستردون عافيتهم ومركزهم المالي المزعزع.
لنترك الغرف التجارية على إشراك غرف تجارة الدول العربية معها في كيفية إحكام حلقة المقاطعة، ولنقنع أنفسنا بأن رجال الغرفة التجارية حسنو النية، وأنهم لا يقلون وطنية في ميدان المال عن وطنية أنبائنا الذين يجودون بأرواحهم، ومن أبناء الإسماعيلية والسويس
الذين يحملون العبء بجلد المؤمن وصبر المجاهد. لنترك هؤلاء جانبا لنطالب - أستغفر الله - فأني كدت أطاوع قلمي فيسطر مطالبة الأغنياء بأن يمدوا يد المعونة إلى عائلات الشهداء أو إلى مساندة رجال الكتائب الفدائية، ولكني أستدرك هذا الأمر العظيم لعلمي بأن أغنياءنا - حفظهم الله - قد استنفذت مصا يف أوربا وموائدها الخضراء والحمراء في صيف هذا العام أكثر ما ربحوه من بيع أقطانهم، وأن ما تبقى لهم من أثمان محاصيلهم الأخرى قد تسدد مطالبهم الضرورية من إشباع المعد وإمتاع الجسد وسواهما، ولكني أطالب طبقة متوسطي الحال من موظفين وتجار وأطباء ومن يضارعهم ومن السيدات والآنسات من الطبقة الوسطى أيضا، إني أطالبهم بل أطلب منهم أن يلقوا نظرة على صوان ملابسهم فيجدون فيه أكثر من بدلة واحدة لفصل الشتاء وأكثر منها لفصل الصيف؛ أما السيدات فإن لديهم فساتين لكل فصل وكل صبح وكل مساء وحفلات. فما ضر هؤلاء السادة والسيدات لو عقدوا العزم الاكتفاء بما لديهم من ملابس؟ ما ضرهم لو صمموا فيما بينهم وبين نفوسهم على الاستغناء عن الكماليات فضلا عن الضروريات؟ ما ضرهم لو يعلنون هذا التصميم على الاكتفاء بما لديهم من لباس بين إخوانهم ومعارفهم وأندادهم فتسري عدوى حب المقاطعة الأجنبي بين الجميع؟
ليس عارا أن أظهر أمام الناس ببدله واحدة ألبسها طوال العام، ولكن من الحقارة لنفسي أن أعمل عملا واحدا يشعرها بأني أشارك جميع طبقات الشعب في إظهار العداء لمغتصبي بلادنا، وسارقي خيرات أرضنا، وقاتلي أولادنا.
إن قرشا واحدا أضن به على الإنجليزي إنما هو لقمة أنتزعها من حلقه، فما بالك بستين مليونا من الجنيهات تدفعها مصر ثمنا لبضائع تشتريها من مصانع الإنجليز؟
ليس في الطبقة الوسطى والحمد لله من مستوزر أو طامع بكرسي الوزارة حتى يجن جنون ذلك الرجل الذي قيل لنا أنه لما نزلت به نازلة الوزارة وتبوأ أريكة الحكم ذهب إلى أحد مشاهير الخياطين فأمره أن يخيط له ستين (بدله).
أي والله ستون بدله اشتراها صاحب المعالي لأن مقام الوزير لا يبرز في العظمة إلا ببدلات تستبدل في ساعات الصباح والمساء مرة ومرات!!
لي كلمة أخرى وأخرى أوجهها إلى الأطباء والصيادلة وتجار المستحضرات الطبية
والكيميائية وتجار الآلات الزراعية والبخارية وأدوات الري على أنواعها أرجئها إلى فرصة قريبة.
تاجر.
رسالة الشعر
صور وتماثيل لرجال الجيل:
رجال الثورات المصرية
1 -
محمد بك الألفي في دمنهور
للأستاذ عبد اللطيف النشار
في دمنهور أمة تكره البغي
…
وكانت ولم تزل مستقله
أقصت الأجنبي عنها فولى
…
مستعيذا منها يسابق ظله
سابحا في الوجود يطلب مثله
…
كل شكل منهم يوائم شكله
حيث تلقاه فالنقائص طرا
…
لم تسر بعده ولم تمش قبله
والمخازي مصائد وضعتها
…
ابني الشرق أمة محتله
قبل إدراكها وبعد وم
…
ن عهد بعيد والبغي دين ومله
ارجعوا عن مجالنا مائة الأ
…
عوام نبصر برهانهم والأدله
في المماليك واحد يطلب الم
…
لك تولت هدى المدينة خذله
ما أفاد الألفي مما جناه
…
في دمنهور غير بؤس وذله
راسل الإنكليز يطلب عونا
…
ولدى القوم دونه ألف عله
ولدى القوم منذ كانوا وعود
…
كاذبات لمن يريدون ختله
ولمن لا يحاولون أذاه
…
غمروا بالمواعد الكون كله
عبثا أن نعدها حسنات
…
فيه داعي العدى ليخذل أهله
كان أهلا لولا الوثوق بخصم
…
ظاهر الغدر أن ينهض دوله
الكفايات كلها مجتواة
…
في نفوس بغبرها مستظلة
وصديق للإنكليز عدو
…
لبني مصر وللشرق جملة
لو أرادوا أن يصدقوا ما استطاعوا
…
خلق الكذب عندهم في الجبلة
وعدوه من قبل أن ينصروه
…
وغبين مستنجز الوغد بذله
ليس من آداب باسط الكف يست
…
جدي نوالا أن يلمس الناس فضله
أمة لا تكف تطلب شيئاً
…
طلبا تنكر الفضيلة شكله
إن تنله غصباً فغصباً وإن لم
…
تستطعه خفت تحاول نشله
أمة لا تعف عن أي شيء
…
تنكر الأنفس الشريفة فغله
والبغي الألفي يبغي نداها
…
واقفاً خيله هناك ورجله
العيون الزرقاء في الأوجه السود
…
مثال لمن تشبه مطله
والعيون الزرقاء في الأوجه السود
…
مثال للأمة المعتله
زعمت أن للخليفة عهدا
…
ووفاء العهود للحر خله
ثم قالوا نعم سنبعث جيشا
…
فانتظر حيث أنت تسعين ليله
صدق الكاذبين وانتظر الجي
…
ش ومستمرئ الأكاذيب أبله
ودمنهور في نطاق من الجند
…
وفي حالتي جفاف وقله
لم يعنيها ولا الذي ناصرته
…
وأبت في الشقاء أن تستغله
هجمت هجمة الأسود على الألفي
…
تبغي في ساحة الحرب قتله
مزقت جيشه فلولا ولم
…
تبق لداعي الطغاة إلا أقله
في ثلاثين ليلة شروده
…
خيبوا في عوالم الوهم فأله
مستمر بالإنكليز جدير
…
بالذي نال من عواقب غفله
أنفذ الهارب الفرار ولولا
…
لعانى المغرور أقبح قتله
ودمنهور لا تزال كما كانت
…
فحموا نجومها والأهلة
راية النيل لم تكن من قماش
…
راية النيل تشمل النيل كله
كل معنى يلقى على الجو ضوءا
…
كل جسم يلقى على الأرض ظله
راية النيل في دمنهور روح
…
تلعن الأجنبي فيها ورحله
محمد شريف باشا
ما أصدق اسما على مسمى
…
يا رجل الجيل يا شريف
مدبر قادر نيل
…
مسالم حازم عفيف
والمجد أن تكمل المزايا
…
لم تغن عن جذوعها القطوف
حولك ذو صولة وجاه
…
لكن بقيادته ضعيف
ينهار إما بدا رجاء
…
أو لاح في جوه مخوف
وذو طموح بغير وعى
…
نصيبه في الحجى ضعيف
وصادق العزم لم يمحص
…
آراءه ناصح حصيف
وماكر همه هواء
…
ضميره شارد يطوف
يا رجل الجليل يا شريف
…
ضحى بنا ذلك اللفيف
وأنت ما بينهم سراج
…
يحمله مرشد كفيف
قد ضل في التيه قوم موسى
…
حتى عفا الراحم الرؤوف
إن يعبد العجل قومي موسى
…
فبيننا يعبد الحليف
وأصلح القوم نصح موسى
…
ونحن نبراسنا شريف
إن ساد دستورنا نجونا
…
ووحدت بيننا الصفوف
لكنه الصدق في النوايا
…
والجد والقصد والسيوف
أخوة في ظلال حكم
…
يحب حبا ولا يخيف
برنامج لم نزده حرفا
…
يا بطل الجيل يا شريف
عبد الطيف النشار
بين دنكرك وكفر عبده
للأستاذ عبد العزيز مطر
سلوا (دنكرك) عن جبن الجبان
…
تنبئكم بألوان الهوان
تنبئكم بأن (الحمر) فروا
…
من الميدان مسلوبي الجنان
سلوا (دنكرك) ثم سلوا بلادا
…
يرفون فوقها علم الأمان
لعل جوابها يشفى غليلي
…
ويكشف عن فؤادي ما دهاني
سلوا السبعين بيننا قد غزوها
…
بآلاف من الجيش الجبان
فهل حسبوا البيوت قلاع حرب
…
وخالوا في يد العزل اليماني؟
ألا مرحى. . ألا مرحى لجيش
…
أجاد رحاله لسف المباني
ولو برز الكماة لهم لفروا
…
وخافوا من بريق الهندواني
همو شبه الرجال ولا رجال
…
هم الجبناء في الحرب العوان
لهم في السلم جمجمة تدوي
…
ولا تلقاهو بوم الطعان
على المستضعفين أسود غاب
…
نعام في عجاج المعمعان
ألا فافخر تشرشل أي فخر
…
وسق لجال جيشكم التهاني
وشد على يد الأبطال واهنأ
…
فقد خاضوا معارك ذات شأن
ألا تسعا (أرسكين) وسحقا
…
(تشرشل) من عجوز ثعبان
كفا كم أيها القرصان بغيا
…
كفى وطني مساوئكم كفاني
شباب النيل هبوا من رقاد
…
فماء النيل لم يخلق لوائي
شباب النيل هيا للمعالي
…
ورموا المجد في أسمى مكان
دم الشهداء ناداكم فلبوا
…
وذودوا عن حماكم ما يعانى
(وصبروا في مجال الموت صبرا)
…
فتلك سبيل تحقيق الأماني
عبد العزيز مطر
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
س وج اللغة الأجنبية الأولى:
قرأت بإنعام كلمتكم المنشورة في الرسالة الغراء تحت عنوان (أصبح الشعب حرا في اللغة الأجنبية الأولى) وقد بدا لي وأستبد بلفيف من المعجبين بكم أن تتقدم إليكم بالأسئلة الآتية راجين التفضيل بالإجابة مشكورين
(1)
إن قرار حضره المعالي وزير المعارف فرض على الشعب أن يختار الفرنسية أو الإنكليزية لغة أصلية، وأن يختار إحدى اللغات الثلاث الباقيات لغة إضافية فهل أتاح هذا القرار فرصة للشعب في أن يكون حراً في اختيار اللغة التي يرضاها أصلية واللغة التي يريدها إضافية من غير فرض ولا تحديد؟
(2)
إن القرار وضع اللغة الإنكليزية في الدرجة الأولى بين اللغات. وبحكم هذا الوضع يتعين بلا جدال أن اللغة الإنجليزية إن لم تكن فهي بلا مراء إضافية - فهل هذا ما قصد إليه القار؟
(3)
نقول حضرتكم بأن هذا القار أتاح الفرصة للشعب نفسه أن يكون حراً في اختيار ما يريد. فماذا تقصدون بالشعب؟
أهو الكلية، أم أولياء أمورهم، أم الشعب ممثلاً في لجنة تشكيل لهذا الغرض، أم الشعب ممثلاً في البرلمان؟
(4)
إن اللغة الأصلية يلاحظ فيها مدى مصلحة الشعب منها ثقافياً ومالياً وسياسياً. فأي لغة من هذه اللغات الأربع أحق بالتقدمة وأنفع للشعب في معترك الحياة؟
(5)
إذا تركنا الشعب حراً في اختيار ما يشاء من اللغات فهل وزارة المعارف مستمدة لأن تفي كل المدارس حاجتها من المدرسين في كل لغة، أم أنها ستخصص مدارس لكل لغة وإذا كان كذلك فكيف يلتقي الشعب في ثقافة تربط بنفسه وتحدد أغراضه في حياته هذا ولحضرتكم منا أطيب تحية وأروع سلام.
اليماني أحمد السكري
بكفر الشيخ فؤاد
ج 1 - قصدت بحرية الشعب في اختيار اللغة الأجنبية الأولى، أن اللغة الإنجليزية أصبحت غير مفروضة عليه، وبها تخلص من وضع الأوضاع الاستعمارية التي تعمل للتحرر منها، فالحقيقة التي لا شك فيها أننا ما كنا نحل اللغة الإنكليزية المحل الذي أخذته عندنا لولا أن الإنجليز احتلوا بلادنا. وذلك ما رميت إليه بما كتبت في هذا الموضوع، وحسبنا أن بلغناه وليكن بعد ذلك ما يكون من تحديد أو إطلاق.
ج 2 - القار وضع الإنجليزية في الدرجة الأولى حقاً ولكنه أتاح الفرصة لتركها أصلية أو إضافية، فأن الطالب عندنا يختار الفرنسية أصلية تصبح الإنجليزية بالنسبة إليه كالألمانية والإيطالية يختار من الثلاث ما يشاء.
ج 3 - الشعب المقصود هو الطلبة بالاشتراك مع أولياء أمورهم.
ج 4 - جواب هذا السؤال موضح في كلمتي الأولى (الرسالة عدد 957).
ج 5 - الشطر الأول من السؤال يتعلق بإجراءات التطبيق والتنفيذ. والمفروض أن تدبر الوزارة الأمر بما يتفق والفرض من القار. أما التقاء الشعب فهو في مجرى ثقافتنا الأصيل - الواقع أو المنشود - وما اللغات الأجنبية وثقافاتها إلا روافد.
أنا في مرآة قارئ:
تلقيت رسالة بتوقيع (سعد أبو سالم - قليوب البلد) تشمل على مسألتين، الأولى خاصة باستعمالي كلمة (مثل) إذ طلبت من الأستاذ بريري في موضوع (اللحن الفصيح) أن يأتي بمثل للطلب قبل فاء السببية المغاير للأمر والنهي وبقية الأشياء التي ذكرها. فقد أخذ على كاتب الرسالة استعمال لفظة (مثل) في هذا المعنى مفرقاً بينها وبين كلمة (مثال) وردى على ذلك أن مما يدل عليه لفظ (مثل) الوصف، وكذلك (مثال) فيقال مثل الشيء ومثاله، أي وصفه وصورته. والمقصود - على ذلك - من (مثل للطلب) جملة تبين حقيقته وهل هو شيء آخر غير الأشياء التي ذكرها.
أما المسألة الثانية فهي أنه وصفني بصفات لست أدري هل هي حقيقية أو هي مما يدل عليه وصف نفسه في ختام الرسالة بقوله: (وختاماً إليك مني تحية تلميذ أحمق. .)
قال السيد سالم الذي أعتقد أنه (عاقل) على الرغم مما وصف به نفسه: (وأود أن أحدث الأستاذ عما أفهمه وأستسيغه حول كلمتي مثل ومثال، وله بعد ذلك أن يعدني غبياً أو جاهلاً كما هي عادته مع عشاق الأدب واللغة. . وإلاّ فما كان يقول رداً على الأستاذ البربري (ولكن ما حيلتي) والحق أنها يا سيدي طريقة طريفة لم نعهدها في النقاد من الأدباء، ولو كانت طريقة النقد هي الردع الزاجر لأصبح الأدباء في صراع جاف خاف حال من روح الأدب. . . الخ
والحق أنني سررت من هذه العبارات مما تضمنته رسالة السيد سعد أبو سالم. . سررت منها، لأني ألقيها مرآة تعكس صورة. . . إن تكمن تطابق منهجي في الكتابة فإني أقومه. . لأني لا أرضى لقلمي أن يخط صراعاً خالياً من روح الأدب!
وإن لم تكن الصورة مطابقة فلا شك أن المرآة من تلك المرايا التي كنا نراها في (لونا برك) تشوه الشحنات وتبعث الضحكات. . .
مصطلح طبي:
أشرت في الأسبوع الأسبق إلىمحاضرة الدكتور أحمد عمار بمؤتمر المجمع اللغوي عن اللغة العربية والمصطلحات الطبية، وأوردت نبذا منها تتضمن رأيه في وضع تلك المصطلحات وهو التوسط بين المحافظة والأقدام. وكنت أريد أن أورد نبذا أخرى تتضمن آراء له أخرى، ولكن الرسالة أحست صنعاً فنشرتها كلها في موضع آخر من هذا العدد
عباس خضر
بيان رابطة الكتاب السوريين:
نشر فريق من شباب الكتاب في سوريا بياناً يتألف رابطة لهم نقتطف منه هذه الفقرة التي تشرح الغاية من هذه الرابطة والطريق التي يسلكها المرتبطون لبلوغ هذه الغاية.
. . . كان يجب أن توجد هذه الرابطة للكتاب السوريين منذ أمد طويل، ولكنا لسنا هنا في مجال اللوم والندم، وإنما نحن في ميدان الإنشاء والعمل. إن هذه الرابطة لم توجد من قبل وكان يجب أن توجد، وها نحن أولاء نفعل
(رابطة الكتاب السوريين) أسم بسيط يتألف من ثلاث كلمات، ولكنه ضخم كالقومية الكبيرة، لم نحاول فيه أن نفتش عن الرمز البراق بقدر ما أردنا أن نضع اللفظة نفسها نحن لا نمثل الكتاب السوريين أجمعين. هذه حقيقة لا ننكرها، ولكن لا يضر الإسم ألا بجمع الكل إذا استطاع أن يجمع البعض، فاتحاً الباب لمن يشاء من المنتجين المحسنين. نحن جماعة لنا في العيش مهن مختلفة، ولكن شيئاً وأحد يجمعنا، هو أننا نحمل قلماً لا نستطيع حبسه عن الورق، أو كما قال جبران: من هؤلاء الذين إذا لم يكتبوا ماتوا، كذلك نحن. مهما تنوعت أعمالنا في الحياة، فإن عملاً واحداً لا نستطيع التخلي عنه، يجمعنا ويقرب أيدينا بعضها من بعض. ولسنا نزعم أننا إذ نطلق على أنفسنا لفظة كتاب، أن الكتابة - شعراً كانت أم نثراً - قد أصبحت في أيدينا ناضجة كاملة كعناقيد العنب في أيلول. إن اتحادنا مدرسة بقدر ما هو رابطة، نتكاتف فيه ونتعلم في وقت واحد. وليس بعيداً أن يصبح الحصرم عنباً إذا ظل على أمة، ينمو في ضوء الشمس ويبهر العيون بجماله.
هؤلاء نحن. أما ماذا نريد. وكيف سنعمل؟ فتلك أشياء يجب أن نصوب نحوها الأشعة قليلاً، تاركين للعمل ذاته، فيما بعد، أن يشرح ويتكلم. .
أدخل ذات يوم مكتبة، في أي بلد سوري، واسأل صاحبها، أو استقرى فهارسها عن بضاعة الدكان، تجد أن سورية أفقر البلاد العربية إنتاجاً في ميادين الفكر والفن. ثم حاول أن تعد في ذهنك أسماء الشعراء أو لقاصين أو لكتاب آخرين، تجد أن رأسك كالصحراء الخاوية، إلا من بضع واحات. وقبضة من أشجار النخيل، بينما في لبنان، تتبادر لذهنك الأسماء على الفور كثيرة منتجة، وفي العراق نهضة مباركة، أما في مصر فإن إنتاجها يغمر أسواقنا، ترى ما هو السبب؟ ولكنه حديث طويل ذو شجون، فلنطو بساطه في هذه العجالة ولنحاول أن تكون عمليين، فنصل إلىالمشكلة فوراً ونبدأ حلها. . . . . . . . .
نحن كتاب تقدميون بكل ما في الكلمة من خصب، تقدميون أننا نستهدف أبداً أن نمشي إلىالأمام حيث يتلامح هدفنا أننا نؤمن بأمتنا، ونؤمن بأننا نستطيع خدمتها، وأننا لن نكون كتاباً إذا لم نحي حياة أمتنا. إن هدفنا هو أن نعمل للشعب لأننا منه، ولأن الفن الصحيح هو الذي ينبع من حياة المجموعة. إن الآثار العظيمة الباقية هي الآثار التي غيرت وجه الحياة فأغنها وأكسبتها أشياء صالحة جديدة. لم يعد هناك - كما يقول بعضهم
- من فن للفن ولا من زهر للزهر. إن الفن هو للناس، كما أن الزهر هي للعيون التي تراها والأنوف التي تشمه. والزهرة لا تكون جميلة إلا إذا استطاعت أن تؤدي إلىشيئا ينصل بذاتي خدمة تحسن حياتي. نحن مع القارئين بأن الفن هو تعبير جميل عن الحياة، ولكن التعبير لا يكون جميلا إذا لم يعبر عن الحياة الحقة، حياة المجموعة. نحن لا نطالب أن يذوب الفرد في الجماعة، لأن مجموعة الصغار لا تساوي أكثر من صفر، وإنما نطالبه أن يعيش مجتمعه، ويشارك فيه، وينطلق بعد ذلك كما يشاء، فهو أن يضل وأن يبعد عنا كثيراً. الفرد الواحد المستقل عن المجموعة غير موجود. كذلك الواحدة المفردة غير موجودة، فإذا استطعت أن توجدها وأن تعبر عنها فأنت تصطنع الحياة، وبالتالي فأنت تصنع الفن. . . . . . . . .
تلك هي طريقتنا، أما وسائلنا فهي إنتاجنا الخاص ككتاب تقدميين، وعنايتنا بالنتاج الفكري العربي القديم الذي يتصل بقضايا الحرية والسلام، ونشره على الناس، كما نبرهن لهم أن هذه القضايا كانت تهم الإنسان من قبلنا بكثير من العهود. كما أننا سوف نعمل على أن نخرج من القوقعة التي نعيش فيها هنا، فلا تقرأ إلا نوعاً معيناً من الأدب، ولا نطلع إلا على زاوية واحدة من الثقافة. إن قضايا العالم الآن أصبحت قضية واحدة، ولن يستقر السلام في دولة واحدة إذا كانت الدول الأخرى يهددها غول الحرب. لذلك صارت كل محاولة لعزلنا عن التيارات الفكرية الحديثة في العالم محاولة دنيئة، يريدون بها أن يربطوا عيوننا بعصابة كي ندور في مكان واحد، والسوق الفكرية العربية أحوج ما تكون لأن تصبح ملتقى هذه التيارات، كي ندركها جمعاء، والبقاء بعدئذ للأصلح.
أما إنتاجنا فلن يظل بعد الآن مبعثراً في كل واد، إننا سنكتب، ولكن في الموضوعات التي نرغب، وبالأسلوب الذي نحبه، وفي الصفحة المخلصة الحرة.
ليان ديراني، مواهب الكبالي، شحاده الخوري، حنا مينه، سعيد حمرانية، غسان رفاعي، نبيه عاقل، أنطون حمصي، ممدوح فاخوري
حسيب الكيالي، شوقي بغدادي، صلاح ذهني - دمشق
البريد الأدبي
خطأ مشهور
نشرت جريدة الأهرام كلمة للأستاذ الشاعر عبد الغني سلامة بمناسبة ذكرى مولد الرسول، تحت عنوان (ضاقت يا رسول الله) جاء فيها:(ضاقت الصحف. . . عن أن تفي ذكراك العطرة حقاً بسب أزمة الورق) فعدى، الفعل (تفي) إلى مفعولين، وهذا تعبير شائع لا يرى مستعملوه حرجا في استعماله، ولا يخالج نفوسهم شك في صحته في اللغة العربية وهو مجانب لما جرى عليه الاستعمال العربي، مخالف له؛ لأن (يفي) مضارع (وفى) المجرد وقد جرى العرب على لزوم هذا الفعل، فقالوا: وفي الشيء أي تم. ووفى بعهده وفاء فهو وفى. وهذا الشيء لا يفي بذلك، أي يقصر عنه ولا يوازيه.
أما الفعل المتعدي فهو (وفى) بالتضعيف؛ ففي (أقرب الورد): (وفي فلاناً حقه أعطاه إياه تاماً)، وفي التنزيل (ووجد اله عنده فوفاه حسابه) (يوفى) قال تعالى:(وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم).
فينبغي إذن تصحيحاً للعبارة أن يقال: (ضاقت الصحف من أن توفى ذكراك العطرة حقها. . .)
2 -
فسح وأفسح
خطأ الأستاذ محمد محمد الأبهشي بالعدد (964) من الرسالة الأستاذ محمد رجب البيومي في قوله: (وأفسح لنا مجال الموازنة والتحليل)، وذكر أن الصواب:(وفسح لنا. . .)، واستدل بقوله تعالى:(فأفسحوا يفسح الله لكم).
فهو يدعى دعوين، إحداهما: أن الفعل (فسح) قد ورد عن العرب مستعديا، والثانية أن (أفسح) لم يصح في اللغة العربية، وكلتا الدعوتين باطلة قام الدليل على عكسه. أما الأولى فلأن (فسح) لم يأت في الأسلوب العربي إلا لازما؛ ففي محيط المحيط:(يقال فسح له في المجلس فسحاً وسع وخرج له عن مكان يسعه)، وفي (الصباح المنير): فسحت له في المجلس فسحاً. . . وفسح المكان - بالضم - فهو فسيح. . . ويتعدى بالتضعيف فيقال فسحته)، وفي:(فأفسحوا يفسح الله). وأما الثانية فلأن (فسح) يتعدى بالتضعيف - كما سبق - ويتعدى أيضاً بالهمزة، وهذا مقتبس في كل ثلاثي لازم، فلك أن تأتي في أوله بالهمزة
فيصير متعديا لواحد بعد أن كان لازما. ولم يفعل الأستاذ (البيومي) أكثر ذلك من فهو قد أتى بالفعل (فسح) ثم أدخل عليه الهمزة فصار (أفسح). وهذا ما تجيزه قواعد اللغة، وأقره المجمع اللغوي.
أحمد مختار عمر
(تخطئة):
نقل إلينا الأدبي للرسالة الغراء في العدد 960 كلاما للأستاذ محمد سعيد الجنيدي العلوي ملخصه: أن كلمة (سائر) لا تستعمل إلا بمعنى (البعض والبقية) وأورد لذلك ما ذكره القاموس المحيط وغيره من كتب الفقه. وبالرجوع إلى القاموس المحيط وجدنا أن الأستاذ لم ينقل إلينا ما جاء فيه نقلا أمينا وإذا رأيت أن أذكر هنا ما قاله لنتبين وجه الخطأ والصواب في كلام الأستاذ، قال القاموس المحيط في مادة (السؤر). (وفيه سورة أي بقية شباب، وسورة من القرآن لغة في سورة والسائر الباقي لا الجميع كما توهم أو قد يستعمل له ومنه قول الأحوص.
حملتها لنا لبابة لما
…
وقذ النوم سائر الحراس
وضاف أعرابي قوما فأمروا الجارية بتطييبه فقال: بطني عطري، وسائري ذرى. وأغير على قوم فاستصرخو بيني عمهم فأبطوا عنهم حتى أسروا وذهب بهم ثم جاؤا يسألون عنهم فقال لهم المسئول: أسائر اليوم وقد زال الظهر؟ أي أتطمعون فيما تفتر وقد تبين لكم اليأس لأن من كانت حاجته اليوم بأسره وقد زال الظهر وجب أن ييأس كما ييأس منها (بالغروب) ومن هنا نعلم أن كلمة (سائر) تستعمل بمعنى (البعض والبقية) كثيراً وبمعنى (كل وجميع) قليلاً؛ وإنما حملني على نقل هذه العبارات ما رايته من تخطئة الأستاذ للكتاب في استعمالهم لها بالمعنى الثاني وادعاؤه أنها لا تستعمل إلا بمعنى (البغض والبقية) وللأستاذ مني تحية عطرة.
أبوه حمد حسب الله
توجيهات نبوية:
نشرت مكتبة الآداب بدرب الجماميز هذا الكتاب الجديد للأستاذ عبد المتعال الصعيد، وهو
كغيره من كتبه جديد في موضوعه، فقد اختار فيه أربعين حديثا نبوية مناسبة لعصرنا، ثم قام بشرحها وبيان ما فيها من التوجيهات النبوية في الدين والعلم والاجتماع والأدب والأخلاق، وما أحوج المسلمين في عصرنا إلى الاستفادة من هذه التوجيهات في دينهم ودنياهم، لأنها تنير لهم الطريق في حوالك هذه الظلم، وتبين لهم السبيل الصحيح لاستعادة مجدهم وعظمتهم، وتطلعهم على الأسرار التي كان بها الإسلام حقيقية الأديان، وهي الأسرار التي كان المسلمون الأولون يفهمونها على حقيقتها، وكانت آثارها تظهر في أفعالهم قبل أقوالهم، حتى كانوا خير أمة أخرجت للناس، وكانوا بأفعالهم وأقوالهم حجة الإسلام على غيرهم، فدخل الناس بها في دين الله أفواجا، لأنهم لم يروا من أقوالهم وأفعالهم ما يزهدهم في دينهم.
وها نحن أولاء قد انحرفنا عن ديننا في أفعالنا وأقوالنا، حتى صرنا حجة على ديننا، فنحن في أشد حاجة إلى أمثال ذلك الكتاب، ليبصرنا بأسرار هذا الدين الحنيف، ويوجهنا فيه التوجيه الصحيح.
علي حسن
تصحيح بعض الآبيات في مقال:
أستشهد الأستاذ كامل السوافيري (القوة في نظر الإسلام) المنشور في العدد 965 من الرسالة بآيات من الكتاب الكريم مستدلا بها على وجوب الجهاد وفرضيته على المسلمين فذكر آية من سورة البقرة وصورها بقوله تعالى في آية أخرى (يا أيها الذين آمنوا ذكر بعدها مباشرة كتب عليكم القتال وهو كره لكم. . . الخ) الآية 215 بقرة وصحة الآية (كتب عليكم. . الخ) بدون يا أيها الذين آمنوا. واستشهد بآية ثانية من صورة محمد فقال (محمد والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) الآية 28 من سورة محمد وصحتها (محمد رسول الله والذين آمنوا. . . الخ)
ولا أدري أكان الأستاذ حافظا فخانته ملكته أم مستشهدا بآيات سمعها عفوا فذكرها محرفة!! وإذا كان الأستاذ لا يحفظ القرآن جيدا فلماذا لا يستعين بالمصحف لينقل إلينا الآيات لا زيادة فيها ولا نقصان كما وردت في كتاب الله.
صلاح الدين حسن علي
القصص
قانصوه الخوري
سلطان مصر الشهيد
حادثة وجزاء
للأستاذ محمود رزق سليم
جلس الشاعر (شهاب الدين) في إحدى الليالي القريبة يقص على اصدقائه تفاصيل حادثة (المشالي) وأسرارها، فقال:
يا لها من حادثة! كانت خافية مستورة، فأصبحت بلعاء مشهورة، وكانت فردية شخصية، فأضحت مسألة اجتماعية. . .! حادثة أتحد على وقوعها، عقلة ضاربة، وحب جارف، وخيانة دنيئة، وغيره قاتلة. وخوف مستقر، وصداقة عمياء. . ولم يستطع العلم - أو قل العلماء - أن يشخصوا لعلاجها دواء شافيا، حتى تقدمت القوة، فحسمت داءها وعجلت شفاءها. . . حادثة يتضح منها ان جلالا وكبرياء قد يستخذيان حينا، ويخور عزمها حينما ينكشف ما يدخران في أطوائهما من سيئ الأخلاق وأن الرذيلة إذا تحكمت في النفوس فلن يجتث جذورها حرمه علم أو رفعه منزلة. . .
تلك هي حادثة (المشالي) التي ارتج لها ضمير السلطان الغوري، واضطرب لها علماء الدولة، وسخرت منها القوة، وعزل بسببها قضاة الشرع الأربعة، وحرمت البلاد قضاءها فعطلت الحكام بضعة أيام.
تعلمون أنه منذ عهد الملك الظاهر بيبرس، رسم بأن يكون للبلاد أربعة قضاة شرعيين، لكل مذهب قاض، وهو يعين من قبله قضاة ينوبون عنه في الحكم. وكان (نور الدين على المشالي) أحد نواب الشافعية - وكان يسكن إحدى نواحي القاهرة. وله صديق من نواب الحنفية يدعى (غرس الدين خليلا) جمعت بينهما جامعة العلم، وربطت قلبيهما رابطة الزمالة. وعقدت بينهما أواصر الصداقة.
كانا يتزاوران بغير ريبة. ويتسامران في جو من الثقة والطمأنينة. . وفي هذا الجو وقعت الحادثة:
كان لغرس الدين زوجة حسناء فاتنة. معتزة بمالها من جمال ومحاسن، مدلة بمالها من رقة ومفاتن. . وكانت حينما تغادر منزلها تتبرج وتزدان، وتبالغ في التطرية، فتلفت بذلك النظار وتسترعي العيون وتثير الرغبات فتمشي وتخلف في كل قلب لوعة، وفي كل فؤاد جذوة.
وكان أشد الناس ولها بها والتفاتا غليها ومراقبة لها واجتراء عليها، شاب يدعى (شميسا) وهو ابن أخت القاضي نور الدين الدمياطي. وكان (شميس) قاطنا على مقربة من دارها، فكان يرقب أحوالها ويتفقد أعمالها بدافع من حبه لها ورغبته فيها وغيرته عليها، فعرض لها مرارا، وتودد إليها تكرارا، فتأبت عليه، وصعرت له خدها، ومشت في طريقها من دونه مرحا. والدال ملء إهابها، والزهو في جلبابها. . .
والتهبت نفس (شميس) حنقا عليها، وثارت سعيا في سبيل الانتقام منها. وأيقن بغريزته أن امرأة لعوبا على غرارها، لا تصفو لزوجها، وبخاصة لأن زوجها فيه طيبة قلب يأباها الرجل اليقظ. . . ولابد أن يكون وراء الأكمة ما وراءها. ولابد أن يكون لها خليل ملك عليها قلبها وأسر لبها واختصته بصادق حبها.
ورأى أن (المشالي) أكثر الزوار ورودا إلى دارها، وأنه حينما يفد إلى الدار تتبدى بها حركة غير عادية. كأنما هو ضيف لا كالضيوف، وزائر لا كالزوار. . فوقع في نفس (شميس) أنه لابد من وجود صلة لا تطيب لها النفس الكريمة، ولا تطمئن إليها الضمائر الحية. فشدد عليها في الرقابة حتى صدق حدسه، وحانت له فيهما فرصة. .
وفي يوم صفت جواؤه وتكشف سماؤه، عنت (لغرس الدين خليل) زوج هذه الحسناء، حاجة، اضطر في سبيلها إلى أن يخرج من القاهرة إلى جهة الإمام الليث - رضى الله عنه - فامتطى دابة وأخبر امرأته أنه سيقضي ليلته هناك. ويبدو أن شميسا قد علم بخروج غرس الدين وبالناحية التي خرج إليها. فأثارته الغيرة إلى أن يقعد للعاشقين بالمرصاد.
أرسلت الحسناء خلف عشيقها فأسرع إلى اللقاء، ومعه ما لذ وطاب من طعام وشراب. وجاء وفي حركته توجس وفي وجههه خيفة، وفي تلفته ريب، ويكاد يقول: خذوني. . . وأندفع إلى الدار وغلق من خلفه أبوابها. .
اعتلى شميس من فوره، راحلة عجل بها إلى مكان الزوج، واعلمه الخبر، فصعق وامتقع
لونه، وعاد إلى داره في وحي وعجلة فرأى الجريمة رأى العين.
خار الرجل واضطرب وحار بين زوجة عابثة وصديق غادر. وثار ثورة الانتقام، وتنبهت في نفسه حينذاك قسوة جارفة كادت تقضي على المجرمين. . . لولا مسكة من طيبة، وبقية من ضعف. فرأى أن يسلمها لولاة الأمور ليعاقباهما العقاب المشروع.
خجل (المشالي) من صديقه، وأكب على قدميه يقبلهما، ويسأله العفو والمغفرة، وعرض عليه بعض المال يشتري به رضاه وينقذ نفسه من عقوبة لا ريب فيها، وفضيحة لا فرار منها. . . وتقدمت المرأة بنفس محتالة ودموع سيالة وألفاظ ختالة وضعف يستدر العطف، إلى زوجها تستجديه أن يسترها. . ووهبت له جميع ما في البيت من المتاع. فأبت نفسه أن تلين لزلتهما. وأشهد عليهما، وأقفل الباب وذهب إلى حاجب الحجاب. .
كان هناك رجل يكاد يطفر قلبه ويثب شماتة وأشتفاء. ذلك هو (شميس) كان يرقب القصة وفصولها عن كثب. فلما ذهب الزوج. حرس هو الباب ومعه عصابة من إخوانه، حتى وفدت جنود الحاجب فساقوا الجانبين إلى داره. وهناك أمام الحاجب لم يجدا مفرا من الإقرار بجريمتهما. وأستقدم الحاجب القاضي (شمس الدين بن وحيش) أحد نواب الشافعية ومن زملاء (نور الدين) فسمع إقرار زميله على نفسه، وكتب بذلك محضرا موقعا عليه منه.
أخذت النخوة حاجب الحجاب، ورأى أن يعاقب الجاني المعترف، عقابا ما، فنزع عنه ثيابه وضربه ضربا مبرحا حتى كاد يهلك. أما المرأة فقد حملت على أكتاف المشاعلية وضربت ضربا موجعا حتى كادت تموت. ثم أركب كل منهما حمارا، ركوبا معكوسا. وطيف بهما في شوارع القاهرة وأزقة الصليبية وحارات قناطر السباع. فملاء فضيحتهما أفواه الناس. وأصبحا عبرة للمعتين ثم أعيدا إلى سجن حاجب الحجاب.
إلى هنا كاد الستار يسدل على هذه القصة، لولا أن حاجب الحجاب فرض على المرأة غرما ماليا مقداره مائة جنيه ليطلق سراحها، فأنكرت أنها لا تملك مالا. فطلب الغرم من (غرس الدين) فأبى أن يدفعه. فاقتيدا إلى السجن حتى تؤدي الغرامة وهنا بدأ الستار يرتفع للمرة الثانية. .
كان لخليل - الزوج - ولد صغير يقرأ بأبواب السلطان في الدهيشة، وهو من الصغار
المقربين إلى السلطان. . . فهاله أن يقبض على أبيه بغير جريرة، فأنهى الخبر إلى السلطان في سذاجة. .
هنا أتسع الخرق على الراقع، وخرجت المسألة إلى نطاقها الواسع. وضخم أمر الجرم في نظر السلطان، وهاله الأمر، وحز في نفسه أن يجترئ أحد نواب الحكم على اقتراف هذا الجرم. .
جمع السلطان قضاة الشرع الأربعة، وقرعهم تقريعا جارحا وهو يقول: هنيئا لكم يا قضاة الشرع، تعاليتم في البناء وأغرتكم زخارف الدنيا. وأصبحتم وديدنكم الزهو والفخار. ونوابكم منهم من يشرب الخمر، ومن يقترف الزنا، ومن يبيع الوقف، ولا يخشى الله. .
ثم عرض المحضر الذي كتبه القاضي (شمس الدين بن وحيش) وطلب إلى هذا القاضي إبداء رأيه في الموضوع. فحكم بالرجم. . . فوقع هذا الحكم من نفس السلطان موقع الرضا والقبول. وطلب من (ابن وحيش) أن يصدق على هذا الحكم حتى يأمر بتنفيذه. فتوقف (ابن وحيش) عن التصديق، منتظرا أن يجيزه به قاضي قضاة الشافعية. فأجازه القاضي - وهو كمال الدين ابن الطويل - وهيئ الحكم للتنفيذ.
شغل السلطان بعد ذلك بأمر الحجاج وخروج المحمل، فأمر بايداع المجرمين في السجن حتى يتفرغ لهما، ويعذبهما بجرمهما عذابا يكتب في تاريخ عدالته. . هنا بدأ الفصل الثالث من فصول هذه الرواية.
كان (للمشالي) صديق حميم وخل وفي كريم، ومن نواب الشافعية، دفعته الصداقة ومقتضياتها، والزمالة ودواعيها إلى إنقاذ زميله من موت محقق وعقاب منكر، وأخذ يستجدي ذكاءه وحيلته، حتى ابتكر مخرجا شرعيا بارعا، يرجم به هذا الأثيم. . ذلك الصديق هو القاضي شمس الدين الزنكلوني.
ذلك أن الزاني المعترف على نفسه بجد ويرحم. فإذا رجع عن اعترافه قبل الرجم، لا يرجم لقيام شبهة في الجريمة وهى جريمة زنا، والحدود تدرأ بالشبهات.
أوعز (الزنكلوني) إلىصديقة (المشالي) أن يرجع عن اعترافه، فرجع. . . وسطر الزنكلوني سولاً بهذا المعنى يستفتى فيه العلماء في حق الزاني في الرجوع عن اعترافه، وسقوط حده تبعاً لذلك ودار بهذا السؤال على أبوابهم، فأفتى له برهان الدين أبي
شريفالمقدسي - وهو قاضي قضاة الشافعية السابق - بجواز ذلك. ثم أفتى له جماعة من العلماء آخرون.
وبلغ أمر الفتوى مسامع السلطان، فاهتاج وركبة الغيظ والحنق، وثار مرجل غضبه، وجمع توا مجلساً علمياً حاشداً، فيه قضاة الشرع الأربعة والقضاة المنفصلون من القضاة، وعدد من جلة علماء العصر وبينهم القاضي الأجل الشيخ زكريا الأنصاري، والقاضي أبن أبي شريف.
عرض السلطان عليهم تفاصيل المسألة. وأنكر عليهم إنكاراً شديداً أن يضبط نائب من نوابهم في فراش زميله ثم يعترف ويقر بالجريمة، ويكتب اعترافه بخطه وبحكم عليه، ثم يقال بعد ذلك إن له حق الرجوع عن الاعتراف. . . فلا يحد. وقال: هذا أمر عجيب وحكم وسبه لا يرضاها رجل عادل.
فقال له برهان الدين أبن أبي شريف. (إن هذا حكم الله وشرعه. وإليك يا مولانا ما قاله السلف في هذا الموضوع. وطفق يطلعه على المراجع والنقول. فلم يلتفت إليه السلطان، وقال له: أنا ولي الأمر، ولي النظر العام في ذلك. . . وأكيف المسألة حسبما أراه مطابقاً للعدل، فقال أبن أبي شريف: نعم! ولكن بم يوافق الشرع الشريف. وإن قتلها تلزمك ديتان عنهما. فحنق السلطان وكاد يبطش به.
ثم التفت إلىالشيخ الأنصاري وهو رأس الشافعية في ذلك الوقت، فقال له: ما تقول في هذه المسألة؟ فقال الشيخ زكريا: له حق الرجوع بعد الاعتراف. وإذا رجع سقط عنه الحد. فقال له السلطان وهو مغيظ: أتتحمل جريرة هذه الفتوى؟ فرد عليه قائلاً: ومن أنا حتى أتحملها، فليتحملها الإمام الشافعي صاحب المذهب. فقال له السلطان: إنك رجل قد كبرت وشاخ عقلك، وأصبحت لا تصلح للفتوى.
ثم التفت السلطان إلىالشيخ نور الدين المحلي يسأله عن رأيه فرد عليه قائلاً: إن ما يقوله لك يا مولنا مشايخ الإسلام، هو نص ما قاله الأمام الشافعي وغيره من علماء الأمة.
فقال السلطان نرجو أن ترزأ بمثل هذه الحادثة في بيتك. . فوجم الشيخ وقال: عافانا الله من ذلك.
وأخذا السلطان يتفرس وجوه قضاته وعلمائه وأحداً واحداً، لعله يجد في وجه واحد منهم من
الإشارات ما يريحه ويرضيه. . ولكنه وجدهم جميعاً على قلب رجل واحد؛ فصاح فيهم حانقاً، وتنور غيظه يفور، وطردهم من مجلسه شر طردة؛ وهنا يبدأ الدور الرابع من هذه الرواية.
لم يستجيب السلطان الغوري لغير ضميره، وغير صوت العدالة التي رآها. فبدأ بعزل الدميري قاضي قضاة المالكية. وحرم أبن أبي شريف من مشيخة مدرسة السلطان ونفاه إلى القدس. أما قاضي قضاة الحنفية عبد البر بن الشحنة، الذي كان من السلطان بمنزلة جعفر البرمكي من هارون الرشيد، فقد كاد يبطش به، ولفظه من صحبته. . . ثم أقال القضاة جميعاً من مناصبهم. وقبض على القاضي شمس الدين الزنكلوني، مبتدع الفتوى، وقال له:(فليبطل حكمي، وليقض بحكمه) وأمر ببطحه بين يديه أرضاً فضرب نحو ألف عصا. وضرب ولداه كذلك نحو ستمائة عصا، إذ كانا يسعيان فيما يسعى إليه أبوهما. ونفاهم السلطان، فخرجوا هائمين على دوابهم، والدماء تسيل من أبدانهم. . . ثم أشيع أن الزنكلوني مات من هول ما أصيب به.
وأشتد حنق السلطان على الفقهاء، حتى أمر والي القاهرة بأن يقبض على كل من رآه منهم سكران، ورصد له خلعة معنية وفرساً مسرجاً جائزة له إذا قبض على واحد منهم. وحرم على المباشرين المتعممين أن يدخلوا عليه فكانوا يحتالون على ذلك، بلبس تخافيف الجراكسة.
أما المذنبان فقد أمر السلطان بشنقهما على باب بيت القاضي أبن أبي شريف مبالغة في النكاية به. فلما نصبت المشنقة على بابه - وكان منفياً - ظن أبناؤه وأسرته أنه هو الذي سيشنق فأعولوا وأشتد بكاؤهم عليه.
أجتمع الناس في ذلك الصباح الباكر، وجيء بالرجل والمرأة ووضعا مما لوجه، وشنقا بحبل واحد. . . وأرخى الستار
انتهى شهاب الدين الشاعر من قصته، وإخوانه بين معجب به ومعجب بالسلطان، وبين ناقم عليه أو متحير في أمره. وكانت هذه القصة محوراً لأحاديث طريفة دارت كئوسها بينهم حواراً وجدلاً، حتى أتموا سمرهم، وحان موعد انصرافهم، فانصرفوا - كعادتهم - على ميعاد.
محمود رزق سليم