المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 968 - بتاريخ: 21 - 01 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٦٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 968

- بتاريخ: 21 - 01 - 1952

ص: -1

‌نار. . ودم

للأستاذ سيد قطب

الحمد لله الذي بدل قضية هذا الوادي من قضية محادثات ومفاوضات ذليلة مهينة. . إلى قضية نار ودم وكفاح أبي عزيز. .

الحمد لله الذي بدل هذه القضية عداء صريح جاهر للاستعمار وقراصنة الاستعمار. .

الحمد لله الذي أخرج هذه القضية من أيدي نفر قليل من السياسيين والدبلوماسيين والمستوزرين والرأسماليين. . إلى أبدي الملايين من شعب الوادي أصحاب البلد الحقيقيين.

الحمد لله، الذي سخر روبرتسون وإرسكين وأكسهام، لكي يحرقوا مراكبهم هذا الشعب، ويركبوا رءوسهم على هذا النحو، ويرتكبوا الحماقة التي أخرجتهم من أمريكا، وأخرجتهم من الهند، وستخرجهم بإذن الله قريباً من كل شبر من الأرض، دنسته أقدام القراصنة النجسة. .

اليوم قضى الأمر، وتأرثت الثارات والأحقاد بين هذا الشعب وبين القراصنة، فاللهم لا سلم بعد اليوم مع هؤلاء السفاكين: ولا معاهدة بعد اليوم مع الفجار، ولا تحالف بعد اليوم مع الأعداء. . ولا شيء إلا الكفاح الدامي، وإلا الدماء والنار، بيننا وبين الأوغاد.

اليوم قد قضى الأمر، وقطع الدم المهراق كل قنطرة وكل جسر، يمكن أن تقام عليه صلة ما، بين الوادي وجلاديه. . فاللهم لا همسة ولا نأمة بعد اليوم تتحدث عن الصداقة، أو تتحدث عن التحالف. اللهم لا رجل ولا شبه من أهل هذا الوادي يلوك شدقاء كلمة واحدة عن الجبهة الغربية، إلا أن تكون رصاصة مواجهة إلى معسكر القرصان.

أن الذي يلوك شدقاء بعد المجازر الهمجية التي يقيمها الأوغاد لأهل البلاد. . الذي يلوك شدقاء كلمة واحدة عن أية صلة، من أي نوع، تربطنا بمعسكر الهمج الغربيين، لهو رجل لا غرض له، ورجل لا كرامة له، ورجل لا نخوة له. . وحاشاه أن يستمع هذا الشعب النبيل لمن لا غرض لهم ولا نخوة ولا كرامة.

لقد دارت عجلة الزمن - وإنها لتدور سريعة عنيفة في هذه الأيام - دارت فطوت كل فرصة كانت متاحة لعباد الإنجليز أو لعباد الغرب على العموم. . لقد ذهبت إلى الأبد كل محاولة لربطنا بمعسكر الغرب المتبربر. . لقد انتهى كل شيء، فلا مجال لغير الرصاص

ص: 1

والدماء. لا مجال لغير الثأر المقدس، لا مجال لغير الجهاد والكفاح.

أما من شاء أن يرتد إلى عهود المفاوضة والمسألة والمهادنة والمحالفة. . من شاء أن يرتد إلى تلك العهود التي طوتها عجلة الزمن السيارة. وفاتها عجلة الحوادث التي لا تتوقف. . من شاء شيئا من هذا، فليبحث له عن بلد غير هذا البلد، وعن شعب غير هذا الشعب، وعن وطن غير هذا الوطن. . فما عاد من هذا الوادي وأهله، من يملك شدقاه الدوران، ليتحدث عن شيء طواه الزمن وغشاه النسيان!

لا صداقة بعد اليوم للإنجليز. . فليسمع أصدقاء الإنجليز. . ولا مهانة بعد اليوم للاستعمار. . فليسمع من يربطون وجودهم بوجود الاستعمار. . مجرد الحديث عن الهدنة بيننا وبين الإنجليز جريمة. مجرد التفكير في أن يضمنا ويضمهم معسكر واحد خيانة. مجرد المحاولة لإطفاء النار المؤججة بيننا وبينهم طعنة من الخلف للفدائيين والشهداء الأبرار.

فليخرج الإنجليز من بلادنا، وليخرج معهم كل من لا تعجبه هذه الحالة. ليرحل عن هذا الوطن كل من يفكر في عقد صلة بيننا وبين من جديد. . أن الشعب سيسقط اعتبار كل من يرفع رأسه ويحرك شدقه ليقول في هذا كلمة واحدة. أن الشعب سيسحق هذه المخلوقات الشائهة الذليلة، والتي لا يثير نخوتها عرض يهتك، أو دم يهرق، أو جريمة شنعاء، مما يرتكبه القراصنة كل يوم في ضفة القنال.

ولا يحسبن أحد أنه أقوى من هذا الشعب، ولا أكبر من هذا الشعب، ولا أرفع من هذا الشعب، ولا أعلى من هذا الشعب. ولا يحسبن أحد أنه من الدهاء بحيث يخدع هذا الشعب عن أهدافه الواضحة المرسومة، ولا أنه من الحيلة بحيث يصرف هذا الشعب عن ثاراته المقدسة، ولا من القوى بحيث يقف في وجه التيار.

إن الغرور وحد هو الذي يصور لفرد أو عشرات من الأفراد أو مئات. . أنهم قادرون على أن يحولوا الدماء ماء، والنار بردا وسلاما، وعلى أن يصلوا مرة أخرى بين الشعب وجلاديه، وعلى أن ينسوا هذا الشعب دماء أبنائه الأطهار، وقد كاد أن يكون في كل بيت ثأر، وفي كل قلب جرح. . هيهات هيهات! لقد فات الأوان.

لقد سخر الله روبرتسون، وأرسكين، وأكسهام. . ومن إليهم. . سخرهم ليحطموا ما بقى من بناء الإمبراطورية التي حطمتها الشيخوخة. . سخرهم ليوقدوا نار الأحقاد المقدسة في

ص: 2

قلوب الشعوب حول ذلك الحطام الفاني. . سخرهم ليخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. ولن يقوم بناء سخر الله أهله ليهدموه. ولن يعمر بيت سلط الله سكانه ليخربوه.

ولقد كان الخوف أن يتروى القراصنة في معسكراتهم على ضفة القنال؛ وأن تهبط حرارة الشعب حين لا تجد لها وقود يغذيها؛ ولكن الله غالب على أمره. وها هي ذي الأحداث تجبرهم إجبارا على الخروج من صياصتهم المحصنة. وها هم أولا يوسعون نطاق القرصنة، ويوسعون دائرة الجريمة. ها هم أولا يصلون إلى التل الكبير. وغدا يسوقهم الله بأقدامهم إلى المجزرة حين ينتشرون في أراضي الشرقية الواسعة، ويقعون في فخاخ الفدائيين على مساحات واسعة. . فاللهم سقهم إلينا بأقدامهم اللهم زدهم حماقة على الحماقة! اللهم هيئ للفخاخ المنصوبة صيد من أعدائك وأعداء الإنسانية، وأعداء هذا الوادي. .!

وبعد فهنالك كلمة أخرى. . ومن كان له أذنان للسمع فليسمع لقد خاض الشعب معركة التحرير وحده حتى اليوم. خاضها بالدماء والأرواح. وإن زهرة أبنائه ليتساقطون في ميدان الشرف غير هيابين. . فما هو دور السادة يا ترى؟ أجل ما هو دور السادة الذين يكدح هذا الشعب كله لهم، وينفق عصارة قلبه ودمه ليخرج لهم من الأرض ذهبا وفضة.

إن الشعب لا يطلب من أولئك المترفين المترهلين السادرين في لذائذهم أن يؤدوا ضريبة الدم لهذا الوادي كما يؤديها الكادحون الذين لا يملكون في هذا الوادي شيئاً! أنه لا يطلب إليهم أن يضحوا بدمائهم الغالية! ولا أن يموتوا كما يموت الشهداء!

كلا! كلا! إن الأمر لأهون من هذا بكثير. إن هذا الشعب الطيب القلب، المتواضع القانع. . لا يطلب إلى السادة إلا ضريبة المال. لا يطلب إلا أن يساهموا بتزويد الفدائيين بالسلاح والمال. لا يطلب إلا قسطا مما ينفق على موائد الخمر وسهرات الليل، وما يراق على أقدامهم الغواني من ثراء!

وما يمكن أن يمضي الشعب في كفاحه، وأن يريق في كل يوم دماءه وأرواحه، وهؤلاء السادة سادرون فيما هم فيه!

إن لكل شيئاً حدا. ومحال أن تسير الأمور على هذا النحو بلا نهاية. . فهي النصيحة المخلصة إذن نزجيها، قبل فوات الأوان!

إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ص: 3

سيد قطب

ص: 4

‌يا مصر!.

.

للأستاذ محمد البشير الإبراهيمي

أصدرت البصائر الغراء لسان حال العلماء المسلمين الجزائريين عددا خاصا بمصر افتتحه الأستاذ الجليل رئيس تحريرها في هذا المقال

نسميك يا مصر بما سماك الله به في كتابه، فكفاك فخرا أنه سماك بهذا الاسم الخالد الذي تبدلت أوضاع الكون ولم يتبدل، وتغيرت ملامح الأرض ولم يتغير؛ وحسبك تيهاً على أقطار الأرض أنه سماك ووصفها، فقال في فلسطين:(الأرض المقدسة) و (القرى التي باركنا فيها) وقال في أرض سبأ: (بلدة طيبة) ولم يسم إلا الطور وهو جبل، ومكة وهي مدينة، ويثرب وهي قربة. فتهيئ وافخري بهذه الملاءة التي كساكيها الله، وخذي منها الفأل على أنك منه بعين عناية لا تنام، وبذمة رعاية لا تحفر، وبجوار أمن لا يخزي جاره. .

نأسى لك - يا مصر - أن أنزلت الأقدر بهذه المنزلة التي جلبت لك البلاء، وجربت عليك الشقاء؛ وأن حبتك هذا الجمال الذي جذب إليك خطاب السوء من الأقوياء الطامحين، القواد الفاتحين؛ وأن أجرى فيك هذا الوادي العذاب الذي كان فتنة الخيال البشري، فلم يقنع، لمائة إلا بأن ينبطه من الجنة، وكان وثن القدماء من وراده فتقربوا إليه بالنذور والقوانين؛ وكان طغوى فرعون ذي الأوتاد، فحرك فيه نزعة الألوهية ، فتوهم أن شاطئيه الأخضرين هما نهاية الكون وأنه كفاء لملك الله الطويل العريض؛ وأن وضعك من هذا الكوكب الأرضي في موضع الواسطة من القلادة، فتعلقت بك الأبصار حتى (كأن عليك من حدق نطاقاً)؛ وأن جعلك برزخاً فاصلاً بين الشرق والغرب، فكنت - على الدهر - مجال احتراب بين الشرق والغرب. فصبراً يا مصر، فهذا الذي تعانيه هو مغارم الجمال والشرف والسلطة.

سموك (عروس الشرق) فكأنما أغروا بك الخطاب، وهجهجوا فيك لآساد الغلاب. ووسموك (بمنارة الشرق) فلفتوا إليك الأعين الخزر، ولووا نحوك الأعناق الغلب؛ ولو دعوك (لبؤة الشرق) لأثاروا - بهذا الاسم - في النفوس معاني رهيبة، منها دق الأعناق وقصم الظهور وتنزييل الأعضاء. قديماً سموا بغداد (دار السلام) فجنوا عليها وكأنما دلوا عليها المغيرين؛ ولو سموها دار الحرب لأوحى الاسم وحده ما تنخلع منه قلوب الطامعين، وتخنس له عزائمهم، وتنكسر لتصوره الجيوش اللجبة. فغفرا - يا مصر - فما هذه الأسماء إلا من

ص: 5

هيام الشعراء.

وما زلت - منذ كنت - مهوى أفئدة العظماء الفاتحين، فأخذوك اقتساراً وصلحاً، وحازوك وكرها، وما منهم إلا مهرك المهر الغالي، وساق إليك الثمين المدخر، بما خلد فيك من آثاره، وبما خلف فيك من سمات قومه ومعانيهم: حازك الاسكندر فخلد فيك الإسكندرية، وملكك قمبيز فخلف فيك شيات من فخار فارس وخيلائها، وحل فيك بطليموس فخلف فيك أثارة من حكمة يونان؛ وداعبك قياصرة الرومان فخلفوا فيك أثراً عظمة الرومان؛ وفتحك عمرو فمهرك بيان العرب كله، وهداية الإسلام كلها. ففخراً - يا مصر - فهذه المخايل اللائحة على صفحاتك هي بقايا مهورك الغالية. وإن أثمنها قيمة - وحقك - وأثبتها أثراً، وأبقاها بقاء وأشبهها بشمائلك - لمهر عمرو. . . فما زلت منذ تفيأت ظل الإسلام الظليل، تجدين منه في كل داجية نجماً، ووراء داجية فجراً. وما زلت كلما شكوت ضراً في دينك يخف إليك من يكشفه؛ كلما شكوت شراً في دنياك يحف إليك من يدفعه.

خف إليك (جوهر) حين لحقتك علامة التأنيث، وتقلب على فراشك العبيد. وخف إليك (صلاح الدين) حين أمتهن فيك الدين. وخف إليك (سليم) حين لعبت بك أهواء المماليك. وخف إليك (علي) حين تحكم فيك الصعاليك: تأخروا بركبك على زمانك، فألحقك بزمنك، وبالقوافل السائرة من بني زمنك، وأراد لك أن يكون محلك من الغرب إماماً، وأن تكوني من الشرق أما وأمة وإماماً، فما عابوك، ولكنهم هابوك، فنصبوا لك في كل حفرة عاثوراً، ووضعوا في كل فج فخاً، وأجمعوا على أن لا تكون لك جارية في بحر، ولا سارية في بر، فمن بعض ذلك كل ما تعانين.

لئن كانت أزماتك في التاريخ كثيرة، فكلما إلى انفراج عاجل. ومن المؤلم أن تطول بك المحنة في هذه الدورة من أدوار الفلك، وأن تبتلى بخصم لئيم الخصومة والكيد، يمدها زمنه بالقوة والأيد، وأن يستحيل حرماتك غاصب غريب لا تجمعك به نسبة الشرق، ولا يلتف منكما - إلى آدم - عرق بعرق، فيجعل منك أداة لكيده، وجارحة لصيده، ومعطية للصوصيته، وطريقاً لظلمته وظلامه. . . فلو أن المسالك تشترك في الإجرام مع السالك - لكان لك شرك في كل ما حمل الإنجليز من أوزار، ولجملك العدل كفلا من مآثمهم في الشرقيين. . . إذ لولا قناتك ما ثبتت له على أديم الشرق قدم. فليتك تعاسرت بالأمس فير

ص: 6

حفر هذه القناة! أو ليتك تصنعين بها اليوم ما صنع العرب بمناة، فتوسعين هذه ردما كما أوسعوا تلك هدما. . . حتى إذا ملكت أمرك حفرت ما يرويك، لا مالا يرويك. وما فضل ماء استنبطته يداك، لينتفع به عداك؟ ذاد الأباة عن الحياض إلا لتكون لهم وردا.

لا توحشنك غربة. . . إن مئات الملايين من القلوب رفافة على جنباتك، حائمة مواردك ، هائمة بحبك، تقطع الآنات في التفكير فيك. ولا تقطع الأنات من الامتعاض لك. وأن مئات الملايين من الألسنة رطبة بذكرك، متحركة بمدحك، ناطقة بفضلك، متغنية بمحاسنك. وأن هذا لراس مال عظيم، لم تظفر به قبلك يدان. . .

أنت اليوم مثابة العروبة، في ثراك حيى بيانها، وبسقت أفنانها؛ وفي رياضك تفتحت أزهارها، وغردت بلابلها. ففي ذمة كل عربي حر الدم لك دين واجب الوفاء، وهذا أجل الوفاء.

وأنت اليوم قبلة المسلمين، يولون وجوههم إليك كلما حزبهم أمر، حلت بهم معضلة، وينفرون إلى معاهدك، يمتارون العلم منها، وإلى كتبك يصححون الفكر والرأي عنها، وإلى علمائك يتلقون الفتيا الفاصلة بين الدين والدنيا عنهم. فلك - بذلك - على كل مسلم حق، وهذا أوان الحاجة إليه.

وأنت اليوم مآزر الإسلام، فكلما سيم الهوان في قطر، أو رماه زنديق بنقيصة، فزع إليك واستجار بك، يلتمس الغوث، ويستمد الدفاع. فلك على المسلمين في المشارق والمغارب فصل الحماية لدينهم، وعليهم إن يطيروا خفافا وثقالا لنصرتك، ثم لا منه لهم عليك ولا جميل.

وكيف بك - مع هذا - لو كنت مظهرا للإسلام الصحيح، ولمته العليا في العقائد والأعمال والأحكام؟ - إذن لكنت قدوة في إحياء سنته التي أماتتها البدع، وفي إقامة أعلامه التي طمستها الجهالات، وفي بعث آدابه التي غطت عليها سخافات الغرب، وفي نشر هدايته التي طوتها الضلالات؛ وإذن لحييت وأحييت،. ومن الغريب أنك قادرة على تغير ما بك من عهد الأدران ثم لم تغسلي. وأنك قادرة على إعادة الإسلام إلى رسومه الأولى ثم لم تفعلي. ويمينا برة فعلت لما حل بك ما حل. ولو فعلت لقدت المسلمين بزمام، ولكنت - بهم - للعالم كله إماما أي إمام.

ص: 7

وسبحان من قسم الحظوظ بين الجماعات فأعطى كل جماعة حظا لا تعدوه، وفرق الخصائص على البقاع فخص كل بقمة بسر لا يعدوها، فما زلنا نستجلي من صنع الله لك وللإسلام لطيفة سماوية، وهي أنه كلما رثت جدة الإسلام، وخالطته المحدثات، سطع في أفق من آفاقه نجم يهدي السارين إلى سوائه، وارتفع صوت بالدعوة إلى أصول هدايته، ثم لا يلبث ذلك النجم أن يخبو، وذلك الصوت أن يخفت؛ إلا نجما سطع في أفقك، وصوتا ارتفع في إرجائك. وقد ارتفعت أصوات بالإصلاح الديني في أقطار الإسلام، وفي حقب معرفة من تاريخه، فضاعت بين ضجيج المبطلين، وعجيج الضالين، إلا صوت (محمد عبدة) فإنه اخترق الحدود وكسر السدود.

عهدك التاريخ صخرة من معدن الحق، تنكسر عليها أمواج الباطل، فكوني أصلب مما كنت، وأرسخ قواعد ممل كنت، تنحسر الأمواج وأنت أنت.

أقدمت فصممي. . وبدأت فتممي. . . وحذار من التراجع، فإن اسمه الصحيح (هزيمة). وحذار من التردد، فإنه سوس العزيمة.

إنك فائز هذه المرة بأقصى المطلوب، لأنك أردت فصممت وإنما يعين الله من مخلوقاته المصممين. وإذا كان المطلوب حقا، ثم صممي.

أن قلبي يحدثني حديثا كأنما استقاه من عين اليقين، وهو أنك فائزة منتصرة ظافرة من هذه المعركة، لأنك استعملت فيها سلاحا كنت تنشدينه فلا تجدينه، وهو الإرادة يحدوها التصميم، يمدها الإيمان بالحق، يربط ثلاثتها الإجماع على الحق.

إنك فائزة في هذا اليوم بالأمنية التي عملت لها قرونا، وإن فوزك فوز للعرب وللإسلام وللشرق. فيا ويح دعاة الوطنيات الضعيفة المحدودة، إذا أقدم الأبطال نكصوا، وإذا زاد الناس نقصوا. ويحهم، إن المستعمر سارق، وإن السارق الحاذق لا يسرق إلا في الظلمة أو في الغفلة، فإذا انحسر الظلام، أو انقشعت الغفلة ولى مديرا بالخبيثة والخسارة، وإن مصر لفي فجر صادق، وإنها لفي يقظة صاحية، فأي موضع يسع السارق فيها؟

صممي، وأقدمي؛ ولا يخدعنك وعد، ولا يزعجنك وعيد، ولا تلهينك المفاوضات والمخابرات، فكلها تضيع للوقت، وإطالة للذل. ولقد جربت ولدغت من حجر واحد مرارا.

أن الخصوم - كما علمت - لئام، فاقطعي عنهم الماء والطعام. وإن اللؤم والجبن توأمان

ص: 8

منذ طبع الله الطباع، فحركي في وجوههم تلك القوى الكامنة في بنيك يرتعد.

صممي وقولي للمتعاقلين الذين يعذلونك على الإقدام:

(وأضيع شيء ما تقول العواذل).

انثري كنانتك - يا كنانة الله - فإن لم تجدي فيها سلاح الحديد والنار فلا تراعي. واحرصي على أن تجدي فيها السلاح الذي يفل الحديد وهو العزائم والمادة التي تطفئ النار وهي اتحاد الصفوف، والمسن الذي يشحذ هذين وهو العفة والصبر. فلعمرك - يا مصر - إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار، إلا ساعة من النهار؛ وبالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يمرض اليقين، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالقلم الذي يزين الفاحشة وبالغي التي تخرب البيت وبالحشيش الذي يهدم الصحة، وبالممثلة التي تمثل الفجور، وبالراقصة التي تغري بالتخنث، وبالمهازل التي تقتل الجد والشهامة، وبالخمر التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال، وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكماليات التي تثقل الحياة، وبالعادات التي تناقض فطرة الله، وبالمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب. فإن شئت أن تذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة. . . ثم تصومي عن هذه المطاعم الخبيثة كلها. . . إن القوم تجار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم. . . وقابلي أسلحتهم كلها بسلاح وهو التعفف عن هذه الأسلحة كلها. . . فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك وانصرفوا. . وماذا يصنع (المرابي) في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معه بالربا؟

نعمة من الله أن امتحنك بهذه المحنة، وأنت في مفترق الطرق. ولو تأخرت المحنة قليلا لخشينا أن تسلكي أضل السبل.

فرصة من فرص الدهر، هيأها لك القدر للرجوع إلى هدى محمد، ومحامد العرب، وروحانية الشرق. فإن انتهزتها محوت آية الغرب، وجعلت آية الشرق مبصرة.

ويا مصر، نحن وأنت سواء في طلب الحق ومطاردة غاصبة. ونحن وأنت مستبقون إلى غاية واحدة في ظلام دامس؛ ولكنك أصبحت، فيا بشراك ويا بشرانا بك، ولم نزل نحن في قطع من الليل، نرقب الفجر أن يتبلج نوره، وما الفجر منا بعيد.

محمد البشير الإبراهيمي

ص: 9

‌2 - دعوة محمد

لتوماس كارليل

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

الكعبة:

إنها أقدم المعبودات وأشرفها، فقد ذكر المؤرخ الروماني (سيلاني) أنها كانت في مدته أشرف المعابد في العالم وأقدمها طرا، وذلك كان قبل ميلاد السيد المسيح بأكثر من خمسين عاماً وتتكون الكعبة من البناء الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل ليحج إليه الناس ذاكرين ربهم، (وإذا يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل من إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا منا سكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم).

والحجر الأسود الذي يعتقد بعض المؤرخين أنه ربما كان من رجوم السماء، فإذا صح هذا الاعتقاد، فلا بد أم يكون قد بصر به أحد وهو نازل من الجو. والبئر زمزم التي تنبع من بين الصخر. وأي منظر الماء ينبحس من بين الحجر الصخري الأصم كأنه الحياة من الموت! وقد اشتق لها اسمها (زمزم) من صوت تفجرها وهدير مياها. ويتفق أكثر المؤرخين على أنها قد تفجرت من تحت أقدام هاجر زوجة إبراهيم وابنها إسماعيل بعد أن أشرفا على الهلاك، فكانت لهم حياة وشفاء من الله.

وقد عظم العرب الكعبة وقد سوا البئر والحجر الأسود منذ آلاف السنين، إذ كانوا يحجون إليها تقرباً إلى الله وعبادة له. وكان من حج القبائل أن أنشئت مدينة مكة وسط هضاب مقفرة وتلال من الرمال مجدبة وعلى مسافة من البحر بعيدة، إذ كان كثير من الحجاج يطلبون المأوى فلا يجدونه، فأنشأوا هذه المدينة ليأووا إليها زمن الحج، فكانت تلتقي فيها التجارة من أول يوم يلتقي فيه الحجاج. وعلى مر الأيام وجد جماعة من العرب أنفسهم مجتمعين لأغراض كثيرة تتركز كلها حول الكعبة، فأنشأوا لهم مساكن حولها وأقاموا متيمنين ببركتها محتمين بحرمتها، ومن هذا الوقت أصبحت مكة أهم أسواق البلاد العربية بأجمعها والمركز التجاري المهم بين الشام ومصر وبين الهند، بل بين الشرق والغرب. ولأهميتها في ذلك الوقت بلغ عدد سكانها في بعض الأحيان أكثر من مائة ألف، بين تجار

ص: 11

ومشترين وموردين للبضائع وسكان أصليين. وكان يتولى أمرها جمهورية أرستقراطية عليها سمة (دينية) فقد كان سكانها يختارون لها جماعة من عشرة رجال، من إحدى القبائل ليكونوا حكامها وحراسا للكعبة وسدنتها، وكانت هذه لا شك طريقة غير سليمة. وقد انتهى هذا الأمر في أواخر الأيام السابقة لظهور النبي إلى قبيلة قريش التي منها أسرة محمد إذ أنها كانت هي التي تسكن مكة. أما بقية القبائل الأخرى، فكانت متفرقة في أنحاء الصحراء تفصلها الواحدة عن الأخرى مسافات بعيدة من البيد والقفار، وكانت كل قبيلة تختار لها أميرا وربما كان هذا الأمير راعيا، بل وكثيراً ما يكون لا عمل له إلا قطع الطريق والإغارة على القبائل الأخرى المجاورة. وكثيراً ما كانت الحرب تستمر سجالا بين القبائل عدة سنوات، ولكنهم على رغم تباعدهم وشتات شملهم وما بينهم من عداوة وبغضاء، كانوا يلتقون حول الكعبة فيجتمعون رغم اختلاف عقائدهم، على مذهب واحد، وهو تقديس الكعبة وتعظيمها. على أنه كان هناك شيء يجب علينا ألا ننساه وهو أنه كان العرب رابطة قوية، ألا وهي رابطة الدم واللغة التي تفوق كل الروابط والتي توحد المشاعر وتسهل التفاهم وتشعر بالتقارب.

على هذا المنوال عاش العرب قرونا عديدة خاملي الشأن لا أر لهم في الحياة ولا ذكر لهم في العالم؛ فقد وصل بهم الاضمحلال والسقوط، أن كان يستخدمهم الفرس والرومان في محاربة بعضهم البعض في الدفاع عن مصالح تلك الأمم. غير أنه في أواخر أيامهم حدثت بينهم دواعي اختلاط، أخذت تربطهم وتقرب بينهم، ثم أخذت تتسرب إليهم أبناء عن أكبر حادثة وقعت في ذلك الوقت على وجه البسيطة - وأقصد بها حياة المسيح ودعوته - فأحدثت هذه الدعوة تأثيرا ًملموسا في الأمة العربية وجمعت بين كثير من قبائلها، وكأنما أراد الله أن يكون هذا العمال إرهاصا للدعوة الكبرى واليوم المشهود الذي ينتظره هؤلاء العرب ليعلو ذكرهم ويرتفع في الآفاق شأنهم.

ما أعجب أمر الكعبة وأعظم شأنها! فهي التي جمعت بين شتات العرب ووحدت بين مشاربهم، وكما هي في هذه الآونة قائمة على قواعدها عليها الكسوة الشريفة التي يرسلها لها السلطان كل عام والتي توقد فيها المصابيح في ليلة الهجرة لتشرف تحت النجوم المشرقة، هي أجل أثر من آثار الماضي وخير ميراث من الغابر.

ص: 12

هذه هي الكعبة التي يولى شطرها ملايين عديدة من المسلمين وجوههم من أقاصي الغرب من دلهي إلى مراكش، كل يوم خمس مرات. تهفوا إليها قلوبهم وتشخص أبصارهم. إنها والله لمن أجل مراكز المعمورة وأشرف أركانها.

الإسلام:

ما هو الإسلام؟ كثيرون هم الذين لا يعرفون ما هو الإسلام، أو يتساءلون مستهزئين هذا السؤال. أما الأولون فهم معذورون وأما الآخرون فهم حاقدون. ولهؤلاء وأولئك أقول.

الإسلام هو أن نذعن للأمر الله ونسلم الأمر له ونتوكل عليه، ونعلم أن القوة كل هي في الخضوع لحكمة والاستنامة لحكمته والرضا بما قسمه لنا في الدنيا والآخرة. ومهما يصيبنا من شيء، فلنعلم أنه من الله ويجب علينا أن نتقبله بنفس راضية ووجه باش ونعلم أنه الخير ولولا ذلك لما اختاره الله لنا. (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنين) وقد قال شاعر ألمانيا (جونة) عندما عرف أن هذا الإسلام:(إذا كان هذا هو الإسلام وهذه تعاليمه فكلنا إذن مسلمون) نعم هذا قول حق لأن كل من كان شريفاً فاضلاً كريم الخلق قوي اليقين فهو مسلم. وقد قيل: (أن منتهى العقل والحكمة ليس في مجرد الإذعان للضرورة، لأن الضرورة تجعل المرء يخضع لها رغم أنفه، فلا يكون له فضل فيما يأتيه، وكيف يكون للإنسان فضل فيما يفعله مكرها! ولكن منتهى العقل وعين الحكمة هي اليقين بأن ما ينزل بالإنسان من حوادث الزمن هي الخير له، وأن لله في ذلك حكمة تلطف عن إفهامنا نحن البشر وتدق عن عقولنا، وأنه من الخطأ والسخف أن يعتقد الإنسان في نفسه القوة ويجعل من عقله الضئيل ميزانا للعالم وما يجري فيه من أعمال، فيضع الأشياء في غير مواضعها الحقيقية، بل يجب عليه أن يعتقد أن للكون قانونا عادلاً وإن غاب عن إدراكه وعجز عن فهمه، وأن الخير هو أساس الكون، والنفع هو روح الوجود، والصلاح لباب الحياة، عليه أن يعرف هذا ويعتقده ويتبعه في سكون وتقوى حتى لا يضل الطريق إلى الله. وهذا هو الإسلام.

إن الإنسان يكون مصيباً وظافراً، سائراً على الطريق الأقوم والخطة المثلى والمذهب الأشرف الأطهر، ما دام معتصما بحبل الله متمسكاً بقانون الطبيعة الأكبر، غير مبال بالقوانين الوضعية السطحية والظاهرات الوقتية. إن المؤمن هو الذي يتبع القانون

ص: 13

الجوهري الكبير، ذلك القانون السماوي الذي يعتبر قطب الرحى ومحور النظام في الكون.

وأول وسيلة يجب على من يريد أن يسير على منهج القانون الأعظم إتباعها، الاعتقاد بوجوده وبأنه أصلح القوانين للحياة بوجوده وبأنه أصلح القوانين للحياة ولا قانون غيره يصلح لتنظيم الكون وقيادة العالم إلى الأمن والسلام مما يضعه البشر لأنهم قاصرون عاجزون. هذا هو جوهر الإسلام وروحه. وهو أيضاً كان روح النصرانية من قبل، يوم أن كان أهلها يعتقدون هذا الاعتقاد.

الإسلام والنصرانية دينان سماويان. ويجب علينا أن نفهم أن الأديان السماوية تأمرنا بالتوكل على الله فبل كل شيء وأن نعظمه بقدر عظمة الكون الذي خلقه، وتبعاً لذلك يجب أن نزجر النفس عن الشهوات ونهي القلب عن الهوى والزيغ، وأن نتعود الصبر على الأذى وأن نرضى بما قسم الله وكل ما يأتنا به الله إن هو إلا يد بيضاء من الله علينا ونعمة غراء من نعمة على الكون التي يجب أن نحمدها ونخر لله ساجدين شكراً، نحمده على كل حال ولو كان ضررا يلحق بنا فقد يكون فيه شفاء لنفوسنا وتطهير لقلوبنا مما بها من الشوائب والأدران (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شراً لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

علينا أن نعرف موقنين أن عقولنا قاصرة عن معرفة شيء من أسرار هذا الكون الواسع، وتبارك الله ذو الفضل والجلال، وما أحرانا أن نقول دائماً:(إننا بقسمة الله راضون ولو ما قسم لنا المنون).

لو تأملنا سرعة انتشار الإسلام ودخوله إلى القلوب وشدة امتزاجه بالنفوس واختلاطه بالدماء في العروق، وتجردنا من عصبيتنا البغيضة، لتحققنا من أنه خير من النصرانية وأفضل تلك التي كانت منتشرة وقت ظهور الإسلام في كثير من بلاد العالم كالشام واليونان وغيرها، تلك النصرانية التي كانت تصدع الرأس ويحول بطلانها بين قلوب معتنقيها قفراً ببابا من المعاني السامية والروحية القوية التي يمتاز بها الإسلام. لقد كان في النصرانية عنصر من الحق، غير أنه كان ضئيلاً جداً وهذا هو السبب الذي جعل الناس يؤمنون بها، لأن الناس مهما كانوا فهم يريدون الحق ويسعون إليه ولكن ما إن وجد الإسلام حتى أصبحت النصرانية على حالها هذا كالدعي بجانب الأصيل.

ص: 14

فقد جاء الإسلام والنصارى فرق وشيع يقيمون أسواق الجدال، يخطئ كل فريق منهم الآخر بالحجج الجائزة والبراهين المصطنعة الباطلة. فكانوا بهذا يطعنون دينهم بأنفسهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون حبا في شهوة النصر كمن يقال فيهم (يخربون بيوتهم بأيديهم) جاء الإسلام على الملل الباطلة والنحل الكاذبة والعبادات الضالة فسحقها، وحق له أن يسحقها لأنها باطل وهو حقيقة خارجة من قلب الطبيعة الصادقة إن الإسلام ما كاد يظهر حتى زالت وثنيات العرب واختفت من الوجود واحترقت جدليات النصرانية وذهب كل ما لم يكن حقا، وصار حطباً التهمته نار الإسلام فحولته رمادا ذهب والنار لم تذهب على مر العصور.

نظر محمد ببصره النافذ إلى ما وراء معبودات العرب الكاذبة ومذهبهم التي لا تقوم على أساس صحيح، ونظراً إلى اليهود ورواياتهم وبراهينهم ومزاعمهم وقضاياهم وإلى النصرانية وجدلياتها. نظر إلى هذا وغيره بعينه الثاقبة وقلبه البصير الصادق وفكره المتوقد إلى جوهر الأمر وصميمه، فقال في نفسه: ما هذه الأصنام التي تصقل بالزيت وتدهن فيقع عليها الذباب فلا تستطيع رده، إنها خشب مسندة لا تضر ولا تنفع، إنها باطل ومنكر فظيع وإغراق في الكفر بالله خالق الكون ومسيره، ولكن الحق هو الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، الذي خلقنا وهو الذي يحيينا ويميتنا ثم يميتنا ثم يحيينا، ويطعمنا ويسقينا، وهو أرأف بنا منا أنه هو الرؤوف الرحيم، الذي خلق لنا ما في الأرض جميعاً لننتفع به ونشهد على أنه هو الواحد القادر الذي يجب أن يعبد، لا إله غيره.

لقد آمن العرب بالإسلام ودخلوا فيه أفواجاً راغبين غير مكرهين، وإن دينا آمن به أولئك العرب الوثنيون وأمسكوا بقلوبهم وعضوا عليه بنواجذهم لجدير بأن يكون حقاً وأن يصدق به لأنه حق لا مراء فيه.

لقد اشتمل الإسلام على مبادئ عظيمة وقواعد جليلة، وإن الشيء الوحيد الذي يجب على الإنسان أن يلحظه في الإسلام، هو اشتماله على روح الأديان جميعاً، هذه الروح التي تلبس أثواباً مختلفة وتتشكل بأشكال متعددة، ولكنها في الحقيقة شيء واحد.

وباتباع قواعد الإسلام والتمسك بروحه يصبح الإنسان إمامنا كبيراً لهذا المعبد الأكبر (الكون). على الإنسان إذا أراد الهداية، أن يسير على قواعد الخالق تابعاً لقوانينه لا يحاول

ص: 15

أن يقاومها أو يدفعها أو يعبث بها لأنه سيبوء بالفشل لا محاولة لأن الله هو الذي يحفظنا (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ولم أجد قط تعريفاً للواجب خيراً من هذا.

ولا يكون الإنسان مصيباً إلا إذا سار على منهاج الإسلام وهو الدين القويم، لأن الفلاح في اتباعه (إذا كان منهاج الدنيا طريق الفلاح).

إن من فضائل الإسلام التضحية بالنفس والمال في سبيل الله، وهذا لا شك أعظم وأشرف ما نزل من السماء على بني البشر الله، إن الإسلام نور الله قد ظهر في روح مجمد ذلك الرجل العظيم، فأنار الدنيا وبدد ظلماتها، تلك الظلمات التي كانت تنذر بالهلاك والخسران المبين.

وقد جاء به من عند الله ملك عظيم سماء (محمد) وحيا، وقد صدق إذ سماء هذا الاسم، فمن منا يستطيع أن يسميه اسما آخر، ألم يجيء في الإنجيل (أن وحي الله يهبنا الفهم والإدراك) ولا شك أن العلم ببواطن الأمور والنفاذ إلى جوهر الأشياء لسر غامض وأمر خطير لا يكاد المنطقيون يلمسون منه إلا قشوره، وقد قال نوفاليس: أليس الإيمان هو المعجزة الحقة الدالة على الله به).

إن شعور النبي محمد الذي ضاءت روحه بنور الحقيقة الساطعة بأن هذه الحقيقة أهم ما يجب على الناس أن يعلموه ويؤمنوا به، لم يكن إلا أمرا بديهياً. وما دام الله تعالى قد اختصه بها وكشفها له ونجاه من الهلاك والتردي في الباطل فهو مضطر إلى نشرها بين الناس وإظهارها للعالم أجمع، وهذا كله معنى كلمة (محمد رسول الله) وهذا هو الجلي والصدق المبين وهو روح الإسلام وجوهره.

فهل بعد هذا يستطيع المكابرون أن ينكروا فضله ويجحدون مزاياه ثم يقولون ما هو الإسلام.

عبد الموجود عبد الحافظ

ص: 16

‌فدوى طوقان

شاعرة الوجد والحنين

للسيدة وداد سكاكيني

عند كلامي على شاعرتنا المعاصرات تطوف بالخواطر ترانيم شاعرة الإغريق سافوا التي أنبتها لسيبوس بلدة الفن والأدب. ولقد كانت حياتها وآثارها نغما شرودا ولحنا غريبا. ويقتحم الفكر بعدها اسم الخنساء الذي شاع في دنيا العرب قديما، فقد ظهرت هذه النابغة الكريمة شاعرة عز مثلها في الرجال. ولما فجمها الموت في أخيها صخر، وكان يؤثرها بحنانه وإحساسه سكبت دمعها رثاء له وحزنا عليه حتى تركت ديوانها مثل عين فياضة بالدموع.

ولست أدري حين أقرأ الشاعرة المعاصرة فدوى طوقان كيف آخذ لها الوصف من هاتين الشاعرتين المختلفتين طبيعة ومزاجا، ففي شعرها من الأولى ألحان وتناغيم، ومن الثانية صور اللوعة والفجيعة، فأعجب لتشابه النصيب والمصيبة.

لقد فجر بالحزن قريحة الخنساء وحسها فبكت أخاها بشعر يموج فيه النوح والعويل، وطال وجدها وأساها، فهي تبكي أخاها وترثيه لطلوع الشمس وغروبها. وكأنما تحرق شعورها واستبدت بها الحرقة فراحت تنفس عنها هذه المراثي الندبة التي طبعت شعرها بطابع عرفت به ودل عليها.

أما فدوى طوقان الفتاة الحضرية الأصيلة التي تثقفت في بيت عريق المجد والجاه في مدينة نابلس بفلسطين حيث يشرف جبل النار على هذا الحمى المنكوب فقد تعهد أدبها وثقافتها أخوها (إبراهيم) وإبراهيم كان حلما من أحلام عبقر، وعلما من أعلام الشباب الوطني رف طيفه وطاف شعره منذ عشرين عاما في آفاق الشام والعراق، وكان بشرى التجدد والإبداع في الشعر العربي المعاصر، ولكن سرعان ما غيب الموت هذا الشاعر فأسف أشد الأسف شقيقته فدوى، وكانت قد أوتيت مثل أخيها موهبة الشعر فراحت تبكيه وترثيه بقصد أعاد إلى الخواطر ذكرى الخنساء. وما أكثر ما قالت فدوى في وجدها ولوعتها وكأنما كان فيه عندليب يبكي عندليبا، فمنه قولها:

واشقيقاه ما أجل مصابي

كيف أودى الردى بزين الشباب

ص: 17

واشقيقاه مات في عمر الورد

غضير الصبي نضير الإهاب

أين منى أخي؟ فلي الله ما

خلاه عني ما عاقه عن جوابي

حر قلبي (لجعفر وغريب)

وهما يرقبان يوم الإياب

كلما استشعروا إليك حنينا

هاج في الصدر من طويل الغياب

هتفا باسمك الحبيب وباتا

رهن هم ووحشة واغتراب

ويدعوا الشاعرة فقد أخيها إلى أن تسأل القدر عما وراء الغيب وعن عالم صار إليه أخوها. وقد سأل قبلها الشعراء عن هذا المصير فما أجابهم إلا صدى يرن في ظلمات العدم فتقول:

ليت شعري ما عالم صرت فيه

عن عيون الأحياء خلف حجاب

أهو شط الأمان للنفس بعد الخوض

في مزيدات طامى العباب

ويمر عام تزداد فيه هواجس الشاعرة وتستبد فيها شجونها فتقول:

لا كان عام ظللت يا سكني

فيه وراء الحياة والزمن

مستوحشا في الضريح منفردا

مرتهنا بالتراب والكفن

لو أنني قمت بالوفاء أخي

ما ظل روحي يجول في بدني

لقد بكر الحزن في فدوى وطغى، فقالت فيه أكثر شعرها قبل أن يكون منها شعر من ضرب آخر، بل كان هذا الحزن مثيرا لآلامها وهمومها التي لونت حسها وخيالها بتلاوين الوحشة والكآبة وجعلتها تقول الشعر عن نفسها وتصويرا لهواجسها، فكانت مراثيها شجوا ودمعا، ثم ظهرت قصيدتها (خريف ومساء) مواجة بالحيرة والزهادة.

ويمسح الزمن بعد حين بيده السحرية على وجوم فدوى ووجدها وتتصدى لها رسالة الشعر فتناغيها وتناجيها، وتهدد مواجها بالرجاء والعزاء، وتستجيب لها الشاعرة فتحاول الخروج من هيكلها القائم الذي طال وقوفها فيه بين الحسرات والزفرات.

كان صنع الشاعرة الطوقانية وهي تنفلت من شجوها كصنع الناسك القديس الذي يترك محرابه للتطوف في حديقة أو رحبة ناسيا ركعاته الطوال أمام المذبح، أو كما فعل الناسك الذي صوره اندريه جيد في السمفونية الرعائية. والشاعرة السادرة في تفلتها حينا بعد حين من حزنها تتخفف من السواد الذي كان عالقا بألفاظها ومعانيها، فتؤثر التأمل وتلتمس الفلسفة في الشعر الذي سارت به على غرار الأوائل. وكنت أتمنى لو انفردت فدوى

ص: 18

بلمعات خاصة كالتي ظهرت في شعرها الأخير حين رمت بطرفها على شاطئ الوجود.

أما أنوثة الشاعرة فأمر لا ينبغي أن يغيب في دراسة الأدب المعاصر، وفي هذه المرحلة من التحليل النفسي الحديث، الذي يتناوله نقاد الأدب في الغرب على نحو من التصريح لا التلميح، ولم يتهيب الكلام نقادنا القدامى حين حللوا شعر النساء وأولوا لفظه ومعناه. فكأي من شاعرة أو مغنية في العصرين العباسي والأندلسي كانت تعرب عن شكواها وجواها ولا ترى حرجا في أن تتدله أو تتغزل. ولا أدري ما يحول بين ناقد الأدب المعاصر وبين تحليله شعر المرأة والمضي وراء مراميها إلى حيث ترف أجنحتها الشعرية في آفاقها البعيدة؟

على أن السائد من تقاليدنا ما يزال يجعلنا متحفظين متحرزين في التعبير عن حقيقة إحساسنا ومنازعنا، فلا الشاعرة ولا الأدبية تستطيع مع هذا التحرج أن تصور هواجسها وخلجات قلبها، ولا الناقد يستطيع النفوذ إلى ما وراء الكلام، ولهذا فإني حين نظرت إلى طائفة من شعر فدوى قالت أكثره في التعبير العاطفي والشوق المقيد والقلق المستمد عزوته إلى هذا التحفظ النسوي. غير أن فدوى إذا قيست بشاعراتنا المعاصرات كانت أصدقهن تمثيلا للعاطفة الصحيحة والشعور الذي يخامر الأنثى. وليس معنى هذا أن شعرها مقصور على الوجد والحنين فإن لها تأملات روحية وصورا حسية منوعة دلت على تتبعها وتعمقها في فهم الكون والحياة والمضي مع تيارات الفكر الحديث. والشعر عند فدوى فن يرفده حس مرهف وقريحة مثقفة لم تقنع من الفطرة بالوحي والإلهام. وقارئ قصيدتها آية كانت يشعر أن وراء هذا الشعر من تقوله وقد ملكت مواهبه وأسبابه.

ولعل الشاعرة الطوقانية قد تأثرت بتعاليم المعري والخيام، فتوقانها إلى الانعتاق من الحياة ولا سيما انطلاق الروح من الجسم فكرة علائية أكثر المعري من ذكرها في لزومياته، وحنينها إلى الينبوع الإلهي نزعة صوفية. أما أملها في أن تبعث من ترتبها زيتونة مثمرة فهذه لمعة خيامية تلوح في قولها:

يا رب إما حان حين الردى

وانعتقت روحي من هيكلي

وأعنقت نحوك مشتاقة

تهفو إلى ينبوعها الأول

وبات هذا الجسم رهن الثرى

لقى على أيدي البلى الجائره

ص: 19

فلتبعث القدرة من تربتي

زيتونة ملهمة شاعرة

حتى إذا يا خالقي أفعمت

عناصري أعصابها والجذور

انتفضت نهتز أوراقها

من وقدة الحس ووهج الشعور

ويطغي على فدوى حس مبهم مجنح يعاود مثله الشعراء الذين ينطلقون وراء المثل العليا أو يلوبون على حقائق يتوهونها وينشدونها، إنهم في عالمهم الخاص يبدعون شخوصا وأشياء ثم يضفون عليها من ألوان الوجود، فإذا هم يناجون ويهتفون وليس بين أيديهم إلا هذه المثل الهائمة المدومة في آفاقها البعيدة. وهذا سر تفوقهم في متع الخيال وتهاويل الباطن! والشاعرة الطوقانية لم تنحرف عن سنة هؤلاء؛ ففي شعرها الذي قالته بعد الرثاء لمحات ظمأ وحنين، ونفحات فن وإحساس عنيف، فيها حمل لها على الانفلات من قيود عزلتها ووحشتها، وقد عبرت عنها بالشوق إلى المجهول.

ولا يحسبن بعض الملمين بشعر فدوى أن هذا المجهول الذي تمضي وراءه متلهفة حيرى هو المحبوب أو الزوج أو الولد، إن هذا لمن أتفه ما يصبو إليه الشعر. وإنما تغذ الشاعرة تأملاتها وشحطات شوقها وراء الغيوب، في السديم المثالي لعالم الشعر الذي لا يفنى. وقد أحس هذا الإحساس كثير من الشعراء والشاعرات وكانوا متزوجين ولهم أولاد وحفدة، وما نسينا تحليق شيخ الشعراء بفرنسا (فيكتور هوغو) حين نشر جناحيه في سموات هذا المجهول الشارد بأكثر قصائده التي وضعها بديوانه المسمى (كيف يصير المرء جدا) ومرد ذلك عندي إلى الألم العميق، فإن هوغو فقد بنته وزوجها غرقاً فبقى محزوناً عليهما، وقال ذلك الشعر الذي يهفو إلى المجهول بسائق من هذا الأسى المقيم. وكذلك أرد شعر فدوى في هذا الصدد، فلولا أخيها الذي ضعضعها، وهذه الهواجس التي ألمت بنفسها لما سمت روحها نحو هذه المثل البعيدة.

وإذا كان لقولي هذا ختام على إيجازه في الشاعرة الطوقانية فأجمل ما ينبغي أن يكون الكلام فيه على شعرها الوطني. وهل ذهب ذاهب إلى أن فدوى التي هزها الأسى على أخيها إبراهيم لم تكن ذات شعر وطني؟ هيهات هيهات! فإن جبل النار الذي يغلى حمية وحرية هو الذي تحدرت من قمة فدوى، وطبعها على هذا الشعر الذي رددته وكأنه أغاريد بطولة وجرس سلاح.

ص: 20

إن لفدوى طوقان في فلسطين المنكوبة المغصوبة شعراً لم يقل مثله الرجال. وسيظهر هذا الشعر في ديوانها ملتهباً بالدم مشبوباً بالشمم، فمن قولها فيه:

يا هذه الأقدار لا ترحمي

فرائس الضعف بقايا الرمم

ستنجلي الغمرة يا موطني

ويمسح الفجر غواشي الظلم

لن يقعد الأحرار عن ثأرهم

وفي دم الأحرار تغلى النقم

وإذا كانت تلوح اليوم في الآفاق العربية بشائر الشعر النسوي الحديث كما كانت تلوح في هبات التألق الأدبي الذي كان في العصريين الأموي والعباسي، وفي الأندلس، فإن طائفا من الإلهام الإلهي والفن المطبوع قد تخير فدوى لتحمل رسالة هذا الشعر في جيلنا المعاصر؛ يمكنها من ذلك تضلعها من الفصحى وتمرسها بالبيان. وإنها لتجود بالشعر من نفسها وحسها غير منسحبة على التكلف والتقليد، ولا مرددة لشعر مصنوع تفوح منه الترجمة والاقتباس، وإن لها لأمداً بعيداً هي منطلقة نحوه وقد انشق أمامها الطريق.

القاهرة

وداد سكاكيني

ص: 21

‌مسيو بتلان

بقلم الأديب عبد الغني الأنباري

مسيو بتلان بطل مسرحية فرنسية ظهرت في القرن الخامس عشر، وقد لاقت نجاحاً منقطع النظير، ولا زالت تلاقي إقبالاً عند تمثيلها. وأما مؤلفها فقد تضاربت الآراء في معرفته. ومسيو بتلان بطل مسرحية محام ولكنه يمثل الشخص الخبيث الماكر الذي يوجه ذكاءه ونشاطه لخدمة مآربه الشخصية. ويطلق الفرنسيون اسم بتلان على كل إنسان يتصف بهذه الصفة. والعرض الذي أقدمه للمسرحية هو عن اللغة الإنكليزية.

نحن الآن في فصل الأول من المسرحية حيث نرى ميسو بتلان بطلها وقد التزم داره، آنسة إنسان مغرور يظهر على سيماه الخبث والمخادعة، وهو كسول في نفس الوقت، لا يريد أن يكلف نفسه مشقة الخروج للبحث عن مورد أو دعوى يتوكل فيها. وقد أزعجت حالته هذه زوجته (جيميت) - ولعلها أخبث منه - فآلمها ما يبدو من زوجها من التراخي والكسل إذ لا يبدو عليه أي اهتمام بحلول العيد وما يتطلب من ملابس جديدة. فتأخذ في انتهاره وإيذائه بقارص الكلم وتوجه إليه لوما وتقريعاً قائلة له: ما الفائدة في أن يكون محاميا عظيماً كما يدعى، بينما هو يعجز عن تدبير المال الكافي لشراء ملابس العيد؟ وكأنها بهذا الكلام أي بوصفها إياه. . . محامياً عظيماً - قد مست فيه الوتر الحساس من نفسه المغرورة. فهتف بها أنه نعم لا تزال ذلك القانوني والمحامي ذو الاسم اللامع في عالم القضاء، وسيريها إلى أي حد سيوفق في يومه هذا.

ثم يأخذ نفسه بالحزم والشدة فيلبس ملابسه. إلى أين؟ لا يدري. وأخذ يقدح فكرة طوال الطريق. من أين يدبر المال اللازم وأين السبيل إلى ذلك؟ أين يجد ذلك المخلوق الأبله الذي يرضى أن يوكله في قضية، وهو ذلك المحامي الذي عرف بالخسة وضعه النفس فضلا عن أنه محام فاشل.

وما زال بأفكاره هذه حتى باغ السوق. وانتهى بتفكيره على أن رغبة زوجته تنحصر في الحصول على الملابس فقط. ولا يهمها إن كان محاميا عظيما أو فاشلا، كما لا يهمها مطلقا المصدر الذي يحصل به على القماش المطلوب.

إذن فالمسالة هينة إلى بعيد. هداه تفكيره إلى رأى عزم على تنفيذه، إذ كان قد وصل إلى

ص: 22

حانوت بائع للأقمشة اسمه (جيوم جوكوم). أما جيوم هذا فقد عرف عنه أنه رجل حريص شديد البخل. فاقترب منه بتلان وقد افتر ثغره عن ابتسامة عريضة ملؤها الثقة بخبيثة، فسلم على جيوم وحياه وأخذ يصافحه بشدة وإخلاص، متظاهر بأنه صديق مخلص له عزيز عليه. فأخذ جيوم بهذه المفاجأة ودهش إذ أن هذا السيد يدعى أنه يعرفه ويدعي أكثر من هذا أنه صديق عزيز عليه، فيبعد جيوم قليلا من حذره الذي عوده إياه بخلة الشديد وسوء ظنه بالناس، وتتفتح نفسه رويدا لهذا الإخلاص العميق الذي يبديه بتلام ولا يزال به بتلان هاتفاً هاشاً باشاً حتى يضطر جيوم إلى دعوته إلى الجلوس، فيتحدث بتلان عن الصحة والمزاج والأحوال ثم ينتقل إلى الحديث عن العائلة وعن المرحوم الوالد العزيز الذي ٍكان صديقا مخلصا له، ثم أخذ يتحدث عن علاقته بالراحل الكريم وكيف أن جيوم كان لا يزال صغيراً عندما كان هو يزورهم، ثم يزيد مؤكداً كيف أنه - أي جيوم - يشبه أباه في حركاته وفي ملامحه وفي رقة أخلاقه أيضاً. وما زال كذلك حتى يتحول الحديث فجأة إلى القماش قائلاً: ياله من قماش بديع وجميل! ولكنه في هذا لا يظهر أنه جاد في حديثه عن القماش فينتقل ثانية سائلا عن عائلة جيوم ويقول: إن وزوجتي يسرها جدا أن تزورنا بل أن تتفضل بالغذاء معنا. ولكن جيوم وقد تحركت فيه نفسية التاجر فيعود بالحديث عن القماش مطنباً ومادحا لهذا القماش الثمين فيؤيده بتلان في ذلك وإن كان قد أظهر عدم المبالاة، ومع هذا فإنه يقول أنه سيرى نفسه مضطرا أن ينزل عن عشرين جنيها ثمنا لما سيشتريه اليوم من صديقه العزيز. ثم يعود للحديث عن الوليمة التي ستقيمها زوجته لصديقه جيوم، وفي هذه الأثناء يمد يده إلى قطعة أخرى ويختبرها ويقول: كيف أن القماش الفاخر يجتذب الزبائن اجتذابا، وكيف يستولي على النقود فيسلبها من أصحابها راضين بذلك. ولكنه يقول يا للأسف لقد نسيت محفظة النقود في البيت. ولكن هذا لا يهم وإن كان الخير في ذلك، لأن جيوم سيستلم أثمان القماش عند حضوره للغداء، ويتفقان على القماش. وعندها يعاود جيوم حذره وحرصه على النقود فيطلب أن يأتي هو بالقماش معه عندما يحضر للغداء، ولكن صديقه الكريم بتلان لا يرضى بهذا العناء إذ كيف يكلف صديقه العزيز جداً يحمل ما يخصه؟ وما يزال به حتى يرضخ جيوم للأمر ممنيا نفسه بغداء دسم مع استلام النقود.

ص: 23

ونرى بتلان في الفصل الثاني وقد عاد إلى بيته متأبطاً القماش الفاخر فتفرح بذلك زوجته فيحدثها عن القصة وعن كيفية الحصول على القماش، ثم يطلب منها أن تتكفل بالباقي فقد جاء دورها، إذ أن جيوم سيحضر مطالباً بثمن القماش عند الغداء. وهنا يظهر خبث الزوجة فإذا هي أبرع من زوجها كأنهما شن وطبقة، فيتفقان على أن يتظاهر بتلان بالمرض وتدعي هي أنه مريض منذ أيام ولم يخرج أبداً، ويبدأن بتنفيذ الخطة فيخلع بتلان ملابسه ويستلقي على السرير. وعندها يطرق الباب فيعلمان أنه جيوم بائع الأقمشة والضيف الكريم، فتذهب جيميت إلى باب الدار وقد أخذت تسير على أطراف أصابعها متصنعة الاهتمام فتفتح الباب وتبدأ مهمتها فترحب بجيوم على أنه الطبيب وتدعوه للدخول وهي تشغله بالحديث عن المريض وكيف أنه يتألم وكيف أنه لا يدعها تذوق طعم الراحة.

فيدهش جيوم قائلاً إن بتلان كان معه قبيل نصف ساعة، وأنه اشترى منه قماشاً وأنه مدعو للغداء، فتصرخ فيه جيميت: أي قماش وأي غداء؟ هو إذن هو ليس بالطبيب المنتظر وإنما شخص غريب جاء يدعى أن زوجها المسكين قد خرج واشترى وعاد. ما هذا الهراء؟ ولكن جيوم يؤكد لها أن مسيو بتلان كان في دكانه قبل مدة وجيزة، وأنه جاء يريد ثمن القماش، فصاحت به أن يمتنع عن هذا الهذيان وعن هذا الاتهام وليلزم الصمت لكي لا يقلق راحة المريض، ثم يصلان إلى غرفة بتلان فإذا هو يتقلب على فراشه متألماً. ويحدث جيوم على اعتبار أنه الطبيب ويشكو إليه حاله وما يصيبه من الآلام، فيتوسل إليه جيوم أن يتذكره ويتوسل إليه أن يعطيه ثمن القماش، ولكن جيميت تصيح به وتدفعه بعيداً عن المريض. فيعرف أخيراً أنه وقع ضحية محتالين، فيخرج مسرعاً إلى دكانه ليتأكد من طول القماش، فيقيسه فيجد أنه حقيقة قد قطع منه بضعة أمتار، فيعود مسرعاً مرة أخرى إلى دار مسيو بتلان ويدخل مؤكداً صدق مطلبه وملحاً أن يأخذ ثمن القماش أو يستعيده. ولكن بتلان لا يجيبه إلا بالتأوهات، وعندها تعود جيميت إلى انتهازه واتهامه باقلاق راحة المريض، فيخرج جيوم متوعداً أن سيشكوهم إلى القضاء.

وفي الفصل الثالث نرى التاجر جيوم وقد خرج متوعداً، ويتفق أن يلاقي الراعي توما. أما توما هذا فإنه يشتغل راعياً لأغنام المسيو جيوم، ويعرف توما بالأبله ولكنه خبيث أيضاً وماكر، استغل أمانة سيده لأغنامه فأخذ يبيع بعضها ويتصرف بثمنها فشكاه جيوم إلى

ص: 24

القضاء، ونرى توما الراعي قادماً إلى دار المحامي بتلان لكي يوكله عنه.

وهنا يظهر خبث المحامي بتلان على أروع صورة فيتفق مع الراعي توما أن يدعى أنه أخرس ولا يجيب على أسئلة القاضي إلا ب (آآ آ) أي مثل أصوات الغنم.

والمنظر الآن في المحكمة حيث الفصل الأخير وقد ظهر القاضي والتاجر جيوم. وعندها ينادي الحاجب الراعي توما فيتقدم هذا إلى القاضي فيسأله عن أسمه فلا يجيب إلا (آآ آ) فيمتلك جيوم الغيظ والغضب وينكر أن يكون توما الراعي أخرس. وعندها يطلب القاضي بمناداة وكيله ومحاميه فينادي الحاجب (المحامي بتلان) فيستغرب جيوم أن يكون بتلان حاضراً إذ قد تركه منذ وقت ليس بالبعيد مريضاً أو متمارضاً على الأصح. ولكنه يفاجأ بل يكاد يصعق عندما يرى الباب يفتح ويدخل مسيو بتلان، فيثور ويترك مسألة الغنم والراعي توما ويشكو بتلان إلى القاضي متهما إياه بالسرقة فيدهش القاضي؛ ولكن جيوم يقول إن المحامي بتلان محتال ومخادع وماكر كان قد أخذ منه قماشاً عند الصباح وعندما جاء ليأخذ ثمنه في البيت أنكره عليه وكان يدعى المرض بل كان مستلقياً على الفراش وأنه قد اتفق مع الراعي توما على انتهاك حرمه ماله. ثم يعود فيشكو الراعي توما إلى القاضي وكيف أنه سرق أغنامه وتصرف بها كما يشاء؛ ثم ينتقل إلى الكلام عن بتلان وما زال ينتقل من بتلان إلى توما ومن الأغنام إلى القماش حتى ضجر القاضي وطلب إليه السكوت. وهنا تظهر براعة المحامي بتلان ويظهر خبثه ومكره ويستند إلى حالة جيوم النفسية وما ظهر عليه من اضطراب ويتأسف بأن تسمع المحكمة الموقرة إلى مثل هذا المجنون الذي يخلط في كلامه ويتهم الناس الأشراف. فيحتد جيوم ويصرخ مطالباً بقماشه ومطالباً بأغنامه ويظهر اضطرابه في كلامه، فينتهره القاضي ويطلب إليه بل يأمر بإخراجه من قاعة المحكمة فقد سقطت دعواه لسخافته.

وهنا ينتصر المحامي بتلان وتبرئ المحكمة ساحة الراعي توما ويخرج الظافران. ثم يأخذ المحامي بتلان الراعي توما ناحية ويطلب إليه أن يسلمه ثمن أتعابه، فيقهقه الراعي توما ويجيبه كما أجاب القاضي مقلداً صوت الأغنام (آآ آ) فيجن بتلان من الغيظ ويحتد مزمجراً ويطلب ثمن الأتعاب فلا يجاوبه الراعي الخبيث إلا ب (آآ آ).

عبد الغني الأنباري

ص: 25

جامعة فؤاد الأول كلية الآداب

ص: 26

‌بمناسبة المولد النبوي

تطور البديعيات في مدح الرسول

للأستاذ حامد حفني داود الجرجاوي

كان للقرآن في صدر الإسلام معجزته الكبرى حين نشأت علوم اللغة والأدب لتفسر وجوه إعجازه وتوضح بلاغة آياته وسوره. وبسبب هذه الأجواء العلمية - التي حاكها حولها ونسج خيوطها بين يديه في بلاغته الساخرة وآياته الباهرة - كان الغاية الكبرى التي تنتهي إليها هذه العلوم وتدرس من أجلها هذه الفنون؛ وقد كانت الوسائل القوية والوشائج المتينة التي تصل بالدارس إلى معاني القرآن وفهم أسراره وكشف مقاصده، فاللغة والنحو والصرف والبلاغة وغيرها من علوم الأدب - مضافاً إليها علوم الشريعة وعلوم الحقيقة - وجدت من هذه الغاية الكبرى مبدأ لتكوينها وسبباً قوياً لنشأتها، كما أنها جميعاً وجدت من تطور الدراسات القرآنية خطوطاً أولية تمثل تطور حياتها وترسم طريق مستقبلها.

ولم يكد القرآن ينتهي من أداء هذه الرسالة الإعجازية حتى تضافرت معه قوة جديدة تصور نفسه الغاية هي (المدائح النبوية) فقد كان لهذه الأخيرة صداها منذ القرن الأول حين نظم كعب ابن زهير (26هـ) قصيدة (البردة) بين يدي الرسول الأعظم، فكانت قصيدته أول قصيدة كلاسيكية تقليدية في مدح الرسول. ثم جاءت على إثرها قصائد الشعراء في القرون المتعاقبة.

وفي القرن الثامن اشتقت المدائح النبوية طريقاً خاصاً بها حيث اصطبغت بالصناعة اللفظية وعنى واضعوها بوجوه المحسنات البديعية. ومن هنا حملت المدائح النبوية الرسالة العلمية التي حمل مثلها القرآن في علوم الأدب منذ سبعة قرون مضت. وبينما كانت (رسالة القرآن) رسالة عامة انتفعنا من ورائها في إحياء علوم الدين وعلوم الأدب كانت (رسالة المدائح النبوية) رسالة خاصة انتفعنا بها في تطور علوم البلاغة وفيما أحدثه الشعراء من ضروب البديع التي اصطنعوها في مدائحهم.

في هذه الحقبة من القرن الثامن أخذ القوم يخرجون مدائحهم النبوية في قالب خاص من علوم البديع حتى سميت (البديعيات). وكانت هذه البديعيات أشبه بكتب مفردة سجلت فيها فنون البديع وأنواعه ومصطلحاته، وظلت هذه البديعيات دستور البديع وديوان فنونه

ص: 27

وسجل مصطلحاته في سائر القرون التي تلت القرن الثامن حتى وصلت إلى عصرنا هذا.

وأول بديعية وصل إليها تحقيقنا في القرن الثامن هي التي نظمها صفي الدين الحلي المتوفى سنة 750هـ، شرحها صاحبها في كتاب خاص سماه (النتائج الإلهية في شرح الكافية البديعية). قال ابن حجر العسقلاني:(. . . وبديعيته مشهورة وكذا شرحها، وذكر فيه أنه استمدها من مائة وأربعين كتاباً) وبدأ الحلي بديعيته مستلهماً ما جاء ببردة (البوصيري) من ذكر الأماكن الحجازية كذي سلم وسلع والعلم فقال:

إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم

واقر السلام على عرب بذي سلم

وذلك تقليد قديم احتذاه الشعراء من قبل صفي الدين الحلي ثم أصبح نظاماً تقليدياً استنه الشعراء لأنفسهم من بعده. وفي هذا البيت يشير الشاعر إلى براعة المطلع والتجنيس المركب والمطلق. ثم ينتقل بك إلى تجنيس التلفيق في البيت الثاني:

فقد ضمنت وجود الدمع من عدم

لهم ولم أستطيع من ذاك من دم.

ويستمر صفي الدين في هذا النحو حتى ينتهي من بديعيته في مائة وخمسة وأربعين بيتا، يذكر فيها سائر فنون البدع التي عرفت في زمنه: كالمذيل والملاحق، والمتام والمطرف، والمصحف والمحرف، واللفظي والمقلوب، والمعنوي، والطباق، والاستطراد، والتوشيح، والمقابلة، واللف والنشر، والتبديل، والالتفاف، والهزل الذي يراد فيه الجد، وعتاب المرء نفسه، ورد العجز على الصدر. . . وهكذا يسير في بديعيته المشهورة حتى يذكر لنا مائة وخمسة وأربعين فناً من الفنون البديع، فيخص كل بيت منها بفن من هذه الفنون. ويختم بديعيته ببراعة الختام فيقول في البيت الأخير منها:

فإن سعدت فمدحي فيك موجبة

وإن شقيت فذنبي موجب النقم

ومن ذلك نعلم أن المذابح النبوية خدمت علوم البلاغة فكانت حافزاً على نمائها وتطورها إلى هذا العدد الذي ذكره الحلي في بديعيته. وقد كانت الحلي مدرسة تبعة فيها تلاميذه في تذبيح البديعيات كالصلاح الصفدي (764هـ) وابن جابر الأندلسي (780هـ) الذي وضع بديعيته في مائة وسبعة وسبعين بيتا وعز الدين الموصلي (789هـ) الذي وضع بديعيته في مائة وخمسة وثلاثين بيتاً.

وفي القرن التاسع كان لابن حجة الحموي المتوفى سنة 837هـ من الشأن ما كان لسلفه

ص: 28

الحلي في القرن الثامن، فكلاهما كان زعيم حلبة الشعراء الناهلين من بحور البديع، وكلاهما كان ذا خطوة في الأدب واطلاع واسع في فنون البلاغة؛ إلا أن ابن حجة كان كما يحدثنا: ابن العماد الحنبلي والأستاذ بروكلمان - مزريا بغيره من الشعراء، ينظر إلى شعراء عصره كأحد تلامذته. ولقد كان لديوانه (ثمرات الأوراق) شأن كبير. وتسمى بديعيته (بديعية ابن حجة الحموي أو تقديم أبي بكر) سار فيها على طريقة الحلي، وتقع في مائة وعشرين بيتاً. ثم شرحها في كتاب آخر سماه (خزانة الأدب وغاية الأدب).

ونحا هذا النحو شرف الدين ابن المقرئ (837هـ) الذي وضع بديعية أخرى تقع في مائة واثنين وأربعين بيتاً، شرحها في كتاب سماه (شرح الفريدة الجامعة للمعاني الرائعة).

ثم كان من نتيجة دراسة المدائح الدينية في هذه الصورة التي لمسناها خلال القرنين الثامن والتاسع أن تعمق القوم في دراسة البديع في القرن العاشر خطوة تحليلية خاصة. وبذلك كانت دراسة البديع في القرن العاشر خطوة واسعة تمثل تطور البديعيات في ذلك القرن. فظهرت (الطريقة التحليلية) في دراستها في شخصية عظيمة عرفت بالأبحاث الخاصة والمؤلفات المفردة بالفنون المختلفة - هي شخصية جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة 911هـ.

وقد بدأ السيوطي بديعيته على عادة الشعراء ببراعة الاستهلال فقال:

من العقيق ومن تذكار ذي سلم

براعة العين في استهلالها بدم

واختتمها بقوله:

واكتب مد الدهر في الدنيا لنا حسنا

حتى أرى عند موتي حسن مختتمي

هي بديعية رصينة تقع في مائة وثلاثة وثلاثين بيتاً عارض فيها بديعية ابن حجة الحموي المسماة (تقديم أبي بكر) ويلمس قارئها صوراً من طريقته التحليلية. وأنت تحس كثيراً من إعجابه بنفسه حين تقرأ له شرح البيت الأول: (وما أحسن التورية الواقعة في التسمية حيث جعلت براعة العين في استهلالها البكاء بالدم بدل الدمع مع إكثار ذكرت للعقيق وبكائها حتى غلبت الحمرة على الدمع مجانسة للعميق ثم قال: وأنظر بذوقك ما الفرق بينه وبين قول ابن حجة. . .

وجاء بعد السيوطي جماعة كثيرون تأثروا بروحه التحليلية واشربوا طريقته فعكفوا على

ص: 29

التأليف وأحيوا صناعة التصنيف في علوم البلاغة. فعائشة الباعونية (923هـ) وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (927هـ) وابن كمال باشا الحنفي (940هـ) يعدون جميعاً في نظر (المنهج العلمي) تلاميذ السيوطي - حكما - وإن لم يحظوا بالجلوس في حلقته والحضور عليه. ولكنهم تأثروا بالأصداء العلمية التي تركها السيوطي في عصره ولمحناها في شخصيته.

وليس أدل على ذلك من أن عائشة الباعونية التي كانت معاصرة للسيوطي سافرت من دمشق إلى القاهرة لتغترف من بحار العلوم والمعارف حتى أجيزت بالإفتاء والتدريس. ووضعت على الطريقة التحليلية التي استنها أستاذها السيوطي بديعيتها التي تسمى) الباعونية (في مائة وثلاثين بيتاً سارت فيها على طريقة السيوطي. كما وضعت أخرى تسمى (الفتح المبين في مدح الأمين) في مائة وسبعة وأربعين بيتاً، منتهجة طريقة السيوطي في الإكثار من البديعيات والعناية بتحليلها وشرحها. وهكذا كان السيوطي وتلاميذه يعنون في بديعياتهم بالتكثر والمقارنة وضرب الشواهد والشرح لكل ما يذكرونه من فنون البديع.

البقية في العدد القادم

حامد حقي داود الجرجاوي

ص: 30

‌رسالة الشعر

الجبابرة

للأستاذ حسن كامل الصيرفي

أسد القناة اليوم! مر

حي بالبطولة عن قريب!

أسد القناة! وإنها

سخرية القدر العجيب

تتربصون بكل أع

زل مطمئن في الدروب

تتشجعون على الطفو

لة وهي في الحلم الرطيب

وعلى الشيوخ المرهقي

ن المحصنات عن الغريب

هذى البطولة أين كا

نت في الشدائد والخطوب!

كنتم جبابرة الهرو

ب أمام جبار الحروب

كنتم نعاجا سائمي

ن أمام راعية غضوب

متنقلين من المدا

ئن، للصحارى، للسهوب

مستقبلين مع الشرو

ق هزيمة، ومع الغروب

مستسلمين إلى الكهو

ف ليالي الشر العصيب

مستنجدين بكل مغ

قول الذراع فتى صليب

وتحاربون مدرعي

ن وراء أحرار الشعوب!

أنسيتم عهد الدمو

ع أمام محراب الصليب

وصياح ذلكم العجو

ز بكل ميثاق خلوب؟

أنسيتم (دنكرك) ذا

ت الهول في اليوم القطوب

ونسيتم الرعب المجس

م فوق ظلكم الكئيب

سابقم الأمواج في

ها في التقهقر والهروب

في (طبرق) الحمراء كن

تم شر منهزم سليب

تتراجعون إلى الورا

ء على نشيدكم الحبيب:

(في خطة مرسومة)

بأنامل البطل النحيب

وتركتمو فيها الهنو

د لكل منطلق مصيب

ص: 31

لولا الكتائب من شعو

ب الأرض خافقة القلوب

تتقدم المتأخري

ن إلى الخطوب بلا لغوب

ما كنتم إلا روا

ية: (كان في الزمن القريب. .)!

حمر الوجوه المضرما

ت من امتصاص دم الشعوب!

سود الصحائف - منذ كا

ن لكم صحائف - من ذنوب!

كانت شكاواكم تجو

ب الأرض مشيحة النحيب

صورتمو فيها العدو

بكل تصوير معيب

والله يعلم أن ما

صورتمو دعوى كذوب

لم يخطف الألمان وال

طليان ساعات الجيوب. .!

لطختمو شرف الجيو

ش بكل ألوان العيوب!. .

مهلا (أرسكين) العظي

م، وقائد الظبي الربيب

الغار بات أقل ما

يهدى إلى البطل الطروب

المنتشى يوم الشهي

د بكف رعديد نحيب

ومزلزل (الكفر) العتي

د بجيشه اللجب الرهيب

المستبد بأمره

في غفلة الزمن الجديب

أنت المظفر في السلا

م رفلت في الثوب القشيب!

لم ندرٍ موضعك العظي

م زمان كنتم في الكروب

قل لي بربك، والحدي

ث يطيب في المجد الحسيب:

من أي ميدان جمع

ت كتائب الجيش الوثوب

الهاجمين على الخضا

ر، الساقطين على الحليب!

بدأتم الأسد الهصو

ر على شعاركم الخضيب

ذئباً يغير مع الظلا

م على النيام أحط ذيب!

مهلا (أرسكين) العظي

م، وما لفنك من ضريب

هذي الشجاعة نلتها

من أي داهية أريب

ترغى وتزبد في القنا

ة كعاصف اليم الغضوب

ص: 32

قل للجنود الدارعي

ن الكاشفي زرق النيوب

يترقبون خطى الطري

ق ويجزعون من الدبيب:

ويفاجئون الآمني

ن بطعنة اللص المريب:

هلا انتقلتم بالعتا

د الضخم في وسط اللهيب!

هلا دفعتم للحلي

فة بعض دينكم القريب!

ميدان (كوريا) فيه متس

ع لأبطال الحروب!. . .

حسن كامل الصيرفي

(قصة الحرية)

للأستاذ محمد فوزي العنيتل

في الظلام الرهيب. . في غفلة الدهر. . في يقظة الدم المخمور

في انتفاض الغصون. . في عاصف الريح، في فورة اللظى المسجور

رن لحن مخضب يتنزى. . في جنون مستكبر. . مقهور. .

في صدور الأمواج يطفر. . مشبوبا. . ويرتج كالصدى المذعور. .

حملته الرياح للأفق الغاضب، لبحر، للذرى، للنسور

فكأني أحس دمدمة الماضي وصوت الأجيال تحت الصخور

تحطم القيد في جنون وتمضي خافقات الجناح فوق الأثير

إنها قصة الحياة لشعب أبدى الخلود مثل الدهور. .

قصة الدمع والدم. . قصة البعث والخلود

قصة الأمة التي حطمت صخرة القيود

طلع الفجر فاروها للربا وأعزف النشيد

أنفس حرة. . تصفق للموت. . وتنهار في اللظى المجتاح

وقلوب تدق. . في موكب النصر. . وتحنو على الدم النضاح

حطمت هيكل الظلام. . وطارت. . مطلقات جناحها للصباح

حطمت قيدها العتى. . وهيت. . تنشر الهول في الربى والبطاح

ص: 33

فإذا البحر مارج من دماء. . ظامئات إلى اللقاء المتاح

وعلى الأفق روضه من ورود. . قانيات. . ترف فوق الجراح

وكأن السحاب شب حريقا. . يتهاوى على عزيف الرياح

إنها قصة الكفاح لشعب. . . باركته السماء يوم الكفاح

عاصف جن فارتمى في شعاب الردى الكئيب

أشعل الحق روحه فتأبى على الخطوب

ومضى ينسج اللظى وانثنى يغزل اللهيب

. . . ومضى الركب. . . والحتوف حواليه. . . جحيم يطبر في أجوائه

وهتاف الأحرار في مسمع الكون. . . نشيد مخصب بدمائه

ولهيب المنون يزحف في الشاطئ. . . ظمآن كالحريق التائه. . .

وقف الدهر ضارعاً لأسى طفل شهيد ملفع بنقائه

في اللظي المشرئب. . . عانقة الصبح. . . فذابت أشواقه في ضيائه

هجر الروض. . . والعصافير. . . والنهر. . . وحلما يرف في أحنائه

ومضى والنهار. . . وهم بعينية. . . كطيف الغروب عند انطفائه

ظامئ القلب للمنى. . . لأغاريده. . . لعرسه

حن للزهر. . . والزبى. . . فسقاه الردى بكأسه

أطلق الموت أسره. . . وغدا يومه كأمسه

لست طفلاً. . فأنت طيف جميل. . عبر الأفق عازفاً أنغامه

لست طفلا. . فأنت روح نبي. . غادر الأرض. . حاملاً آلامه

صفقت روحه الطروبة للموت. . . وضجت أفراحه المستهامة

وبعينيه للصباح. . . حنين كرفيف الأزاهر البسامة

وربيع الخلود في قلبه الضاحك. . . روض. . . وجدول. . . وغمامة. . .

في ظلال الغصون. . نامت لياليه. . وغطت أوراقها أيامه. .

صافح الشاطئ الحبيب. . وأغفى. . وعلى ثغره خيال ابتسامه

وغدا. . . قصة الدموع ستروى: للإله العظيم. . . يوم القيامة

ص: 34

اومضا الركب طاويا. . . شاطئ الدمع. . . والنواح. . .

بين قلب ممزق. . . ذاب في ثورة الرماح. . .

ويد تحجب الردى. . . ويد تغسل الجراح

عبر الشاطئ الجريح فرنت. . . صدحات البلابل المحزونة

وتمطى النسيم في مئزر الروض. . . وهبت عطوره المفتوحه

واستطار النشيد، كالتفت النهر. . . وثارت أشواقه المحنونه

وانحنى فوق زهرة عانقته. . . وتهاوت أوراقها مستكينة

إنها الزهرة الشهيدة تروي. . . قصة الروض للضفاف الحزينة

نسجت عطرها الخفي جناحا. . . أطلقته على ضباب السكينة

أيُها النهر بين جنبيك قلب. . . مستهام الرؤى يذيب أنينه

إنها الزهرة الشهيدة فأنضح قلبها بالندي. . . وأطفئ شجونه

ذاب في عطرها الأسى. . . مات في روحها الأنين

عبرت شاطئ الردى. . . سوف يبقى على السنين

هي رمز مقدس. . . سوف يبقى على السنين

سمها ما نشاء لست أراها. . . في فنون الأسماء. . . والأوصاف

هي معنى في خاطري للبطولات. . . وللمجد. . . والخلود الضافي

هي إن شئت ابنة النيل. . . شبت. . . في الرياض العذراء فوق الضفاف

في رفيف الضياء. . . أنبتها الفجر. . . على شاطئ الغدير الصافي

وسقاها النبع الإلهي. . . خمرا. . . من عبير الخمائل الرفاف

فسرى لحنها المعطر. . . روحا. . . ذاب في خفقة النسيم الغافي

زهرة النيل. . . وابنة الشاطئين. . . ونجوى الحمام للصفصاف

وهيت عمرها. . . لمجدك يا مصر. . . لمجد الأجيال. . . والأسلاف

ودنا الفجر فاحتمى. . . شبح الليل بالغصون

وسرت نفحة الريا. . . في رؤى الشاطئ الحزين

ومضى الراكب سابحاً. . . في رؤى الشاطئ الحزين

ص: 35

أشرق الفجر بالضياء. . . وطيف الليل يحبو على الضفاف الحبيبة

وتهادى النشيد. . . في مزهر الأفق

في هدأة الليالي الرهيبة

عانق النهر. . . والخمائل. . . وهنا

فتغنت به المروج القشيبة

ودنا موكب الصباح. . . وهبت

نسمات. . . مرنحات. . . رطيبه

بعد أن ذابت النفوس حنينا

واستبدت بها الظنون المريبه

أيُها الحائر المحموم. . ز صفق

بجناحيك. . . للدماء السكيبه. . .

حان الخلاص فابسط ذراعيك

للأفق. . . للسماء الرحيبة

إن هذى الدماء. . . معبر شعب. . .

يسترد الحرية المغصوبة

محمد فوزي العنيتل

ص: 36

‌المسرح والسينما

المسرح استثارة الواقع. . وليس الواقع. .

للأستاذ زكي طليمات

إنه موضع نظر، ما ذكره الأستاذ الدوياتي وتفضل بالتعقيب عليه محبذا الأستاذ أنور المعداوي، وذلك بشأن مرسم من مراسم العرض التمثيلي، وهو رفع الستار بعد هبوطه في نهاية كل فصل من فصول المسرحية، إذ يقف الممثلون يحيون الجمهور المصفق ويردون تحية إعجابه بما يناسبها من إبداء علامات الشكر والامتنان، هذا المرسم الذي وصفه كل من الأستاذين بأنه خروج على الواقع وأنه يعمل على هدم التجاوب الشعوري الذي يسود الممثل والمشاهد.

حق أن هذا الموضع نظر، بل إنها لمسألة شائكة يتجدد فيها القول ويطول، كلما حلا لنا أن نغلو في مهمة المسرح من حيث النقلة التي ينقل إليها الجمهور المشاهد بوساطته، فنأبى إلا أن نطالب المسرح بأن يقدم لنا صورة من الواقع تتجسد في الإطار المادي للمسرحية وفي شخوصها.

تقليد مسرحي سائد:

أما عن هذا المرسم، وإن شئت فقل هذه الحالة الشكلية التي يتخذها ممثلو المسرحية استجابة لتصفيق الجمهور، فأقول أنه لا حيلة للمسرح المصري في الأخذ بها، لأنها وليدة تقليد مسرحي صاحب العرض التمثيلي منذ أن أقام الرومان - وليس الإغريق - ذلك الستار الذي يفصل بين المسرح ومكان النظارة، والذي يهبط بانتهاء كل فصول المسرحية، وقد ساير هذا التقليد العرض التمثيلي في جميع مراحل نموه وتطويره حتى اليوم.

فإذا صح أن نطلق على هذا التقليد اسم (تقليعة) لنبوه عن المعقول، كما يذهب الأستاذ المعداوي - والمعقول مسألة نسبية تتفاوت درجات وتتباين مقاديره بتباين وجهات النظر إلى الشيء الواحد - إذا صح هذا لدى بعض النقاد الذين ينشدون الكمال المطلق ولا يبالون بتحميل الأشياء أكثر مما قدر لها أن تحمل وهذا جميل على كل حال لأنه وجهة نظر مثالية - فلن يجعل بنا - نحن رجال المسرح - أن نراه كذلك لأننا أدرى الناس بأن المسرح

ص: 37

ليس الواقع بحذافيره وإنما هو استثارة للواقع.

أقول إن هذا التقليد، جاء إلينا من الغرب، إذا أننا في مسرحنا. . . ولا سيما في هذه المرحلة، مرحلة النقل والاستساغة واستخلاص الكيان الذاتي لمسرحنا الناش - مازلنا نتبع المسرحي الغربي، وخاصة المسرح اللاتيني. وما أظن أن الأستاذ المعداوي ينكر أن هذا (للتقليد) أو (التقليعة) يجري كل ليلة بأكثر مسارح العالم، وفي دار الأوبرا الملكية حيث تقدم الفرق الغربية الكبرى أعيان المسرحيات في أبرع عرض تمثيلي.

بيد أن واجب إنزال الأمور منازلها الصحيحة يقضى بأن نقرر أن هذا التقليد، قد مظاهر تطبيقية تبعاً للمزاج العام الذي عليه كل أمة، وإن كان لا مفر من الأخذ به.

فأكثر الفرق الإنجليزية من أن يحيي الممثلون الجمهور عقب كل فصل المسرحية، يكتفي بإتيان هذا الأمر مرة واحدة، وذلك في نهاية المسرحية، فنرى جميع ممثلي الرواية كبيرهم وصغيرهم، وقد انتظموا صفاً واحداً، يحيون الجمهور بما يتناسب وحرارة إعجابه وتأثره.

هذا لدى الشعوب الشمالية وهي شعوب تتسم بالمستوى الذهني الرفيع، وبالرزانة العاطفية وبالاعتدال في التعبير. . . ولا أقول (بالبرود).

وإني أميل إلى الأخذ بهذا أجدر بالممثلين وأكرم للجمهور وأحفظ لرواء الفن وليس لأي سبب آخر مما يتصل بهدم الواقع أو سواه، بل لقد أخذت به فعلا في النادر من المسرحيات التي قدمتها في أول عهدي بالإخراج المسرحي، ولكنني لم أوفق إلى إرضاء الجمهور والممثلين، فأقلعت عما أخذت به والأسباب معلومة معرفة. . . ولأعجب. . . فنحن شعب يستخفنا الطرب أيما استخفاف، وتطير بلبنا الهزة لأننا فطرنا على الاستجابة السريعة للبادرة التي يبطنها طبع صاحب حاد.

هذا ما يحضرني قوله في هذا التقليد، وهو تقليد أراه يرتفع إلى مرتبة المراسم، لأنه مستمد من طبيعة فن المثل ومن مزاج الجمهور المشاهد.

فالممثل، وهو عراض ماهر لمختلف المشاعر الإنسانية عن طريق المحاكاة ومحاولة الفناء في شخصية الدور الذي يؤديه يستهويه أن يرى أثر ما يعرضه على الجمهور الجالس أمامه والشاخص إليه بكل جوارحه، بل إن الممثل ليستهوي في أكثر مواقف دوره بهذا الأثر الذي يبديه الجمهور ليتابع أسلوبه في الأداء، أو ليبدل فيه أو ليطرق أسلوباً آخر.

ص: 38

والجمهور بدوره، وقد حضر التمثيل، مغري بأن يستجيب إلى الأثر ينسجه الممثلون عليه، مدفوع إلى أن يبدي إعجابه وعجبه بمن يرى، فكأننا والحالة هذه أمام استجابة حارة متبادلة بين الممثلين والنظارة، فلا حيلة - والأمر ههنا وههنا ما قررنا - أن نغير من طبيعة الممثل والجمهور. وإن صح لنا أن نضع لهذا ولذاك معالم وحدودها بحديث لا يجفوها منطق العرض التمثيلي ولا (معقولية) المرنة السمحة. وقد وضع الأقدمون من فقهاء المسرح هذا العالم والحدود، فجاء هذا التقليد الذي أسلفنا ذكره وأوضحنا مظاهره المختلفة لدى (اللاتينيين) ولدى أهل الشمال.

وأنه ليطيب لي بعد هذا أن أسأل الأستاذ المعداوي، وأن أسأله مخلصاً - لأنني أحب دائماً أن نعلم - أسأله ما الذي يقترحه في هذا الصدد. هذا مع اعترافي بأنني لم ولم أسمع أن هناك تقليدا مسرحيا يقضي بأن لا يرفع الستار عقب انتهاء أحد فصول المسرحية أو في نهاية فصولها ليستجيب فيه الممثلون إلى تصفيق الجمهور وهتافة فيظهرون أمامه وقد نحوا عنهم مسرح الأدوار التي كانوا يتقمصونها وأخذوا يردون التحية بما يناسبها.

المسرح استثارة الواقع:

قلت أنه يحلو لنا أحياناً أن نرى فيما يقدمه المسر أحياء كاملة من الواقع. . . ولا سيما في مصر، وذلك لأن العرض التمثيلي فيها، جاءها في العقد الثامن من القرن الماضي، متأثرا بالمدرسة الرومانسية وهي المدرسة التي كانت تسود عالم الأدب والفن في فرنسا. ثم تلا ذلك تأثير المدرسة الواقعية التي اشتط أصحابها في مهمة المسرح فحاولوا أن يجعلوا منه (قطعة من الحياة)، ولكن هذه وتلك، مدرستان لم يبق لهما في الأدب والفن كبير أثره ولا سيما بعد أن أخذت مكانها اتجاهات أدبية وفنية جديدة.

هل المسرح هو الواقع؟ هل المسرح هو الحياة؟ ولكن أي واقع وأية حياة؟ ومتى كان الفن لهذا قادرا ومقدرا! هذا ما لا يعلمه أكثر الجمهور، ولكن الذي أعلمه أن النقد المسرحي في مصر يجري حسابه تبعا لهذا الشعار. . . ومن هنا يأتي نقد الأستاذ الدوياتي، وهو نقد يتلخص في أن رفع الستار مرة أخرى بعد إسداله عقب انتهاء كل فصل يؤدي إلى (الانفعالية المفاجئة لدى النظارة، مما يحول نيتهم وبين التعاطف والاندماج في اللحظة التي أوشك أن يتم فيها التعاطف والاندماج).

ص: 39

فالأستاذ الودياتي قد أقتعد مكانه في الصالة وهو موقن بأنه سيرى الحياة منقولة فوق المسرح نقلا كاملا، فإذا تأثر بما يرى فلا يصح أن يقطع عليه تأثره تصفيق من الجمهور ولا ستار يرفع بعد أن يسدل ليظهر الممثلون بعد ذلك يحيون الجمهور. فإذا رقع هذا جاءت نقلته عليه مزاجه. . . وكان له أن يحتج، وفي الحق أنه غير ملوم في شعوره هذا.

غير أنني أعتقد أنه كان يرى هذا شيئاً عاديا لو أنه اتخذ مكانه في الصالة وهو موقن أنه سيشاهد (تمثيلا) أي مظهر من مظاهر فن التمثيل، وعرف أن فن التمثيل، وشأنه شأن سائر الفنون، لا يقدم (الطبيعة) وإنما يقدم مظاهر (الوجود)، وأن كل فن التمثيل، يتخذ من الحياة ركازا، ولكنه لا يعطى حقيقة الحياة كما هي. . . وأن الفن إذا أحيا الواقع على المسرح، فإنما يكون هذا بطريق الاستثارة لا النقل، ولو أراد الفنان أن ينسخ الواقع نسخاً دقيقاً لأعجزته الوسائل. وإذا افترضنا أن واتته تلك الوسائل فإن نتاجه يكون غير رفيع لأن كل عمل فني إنما يقوم على التركيز والتركيز ليس من الواقع، وكل عمل فني يخضع لقيم ومعايير، إن استلهمت من الطبيعة فإنها ليست الطبيعة منقولة منسوخة بعينها. ومما لا شك فيه أن العمل الفني لو جاء صورة فوتوغرافية من الواقع، لزهد الناس من مطالعته، ولاستغنوا عنه بالواقع المبذول أمامهم.

وواقية المسرح، وهي مناط القول في هذا، خاضعة بسورها لما تقدم ذكره، ويزيد عليها أن إمكانيات المسرح في نقل الواقع قاصرة محدودة، فالمسرح مناظره من القماش أو الورق المصور، وهذا غير الواقع، وهذا غير حقيقة الأشياء كما هي في الحياة.

وممثل دور (هملت) قد يكون مصرياً أو إنجليزياً، ويلعب دوره باللغة التي يتكلمها، هذا في حين أن (هملت) دانمركي المولد والنشأة ولا يتكلم غير اللغة الدنمراكية.

وفوق هذا، فإن المسرحية نفسها لا يتتابع فيها الحوار ولا ينعقد كما يتتابع في الحياة، إذ ليس من الحياة الواقعية أن تنتظم مشاهد الرواية كما أوردها مؤلفها بعد أن أخذ بالتركيز والإجمال، والتقديم والتأخير، والحذف والإثبات، ابتغاء الوصول إلى هدفه في الحدود التي ترسمها شروط فن كتابة المسرحية.

وعليه يمكننا أن نقرر أن كل ما فوق المسرح إنما هو مظاهر لعناصر مستلهمة من الحياة والواقع تشابكت لإحياء صورة من الوجود وتعاونت لاستثارة الواقع وليس لنقله ونسخه،

ص: 40

وهي في كل هذا تنسخ تأثيرها علينا بطريق التمويه أو الإبهام

والتمويه يشعرك بوجود الشيء ولكن بطريق عرض مظاهر وجوده، وليس بعرضه على حقيقته وواقعيته في الحياة.

وما دمنا أمام المسرح، نعيش في عالم الاستثارة والتمويه، فلن يعلن ارتفاع الستار بعد سدله في نهاية كل فصل من فصول الرواية وظهور الممثلين يحيون المشاهدين، لن يعمل هذا على قطع التعاطف والاندماج بيننا وبين المثلين، لأن هذا وذاك قائم فينا منذ بداية الرواية.

ولو صح هذا المسرح، وأردنا تطبيقه على فن التصوير، لكان علينا أن نعلق اللوحات المصورة في الهواء وبلا إطار، بدعوى أن رؤية الحائط الذي علقت عليه الصورة، وأن مطالعة الإطار الخشبي الذي يحوطها، يقطعان علينا تيار الانفعال الذي يكون قد سرى فينا، إذا اندمجنا بكليتنا فيما أجرته ريشة المصور.

وأعود إلى المسرح فأتساءل من الذي جعل الستار يرتفع بعد هبوطه ودفع بالممثلين إلى مقدمة المسرح يحيون الجمهور؟

أليس هو الجمهور نفسه وقد أخذ يصفق ويهتف مطالبا برؤيتهم؟ ولماذا فعل هذا؟

فعل هذا لأن الممثلين استطاعوا أن يموهوا عليه بتسجيل مظاهر الحياة والوجود للشخصيات التي يلعبونها، لأنهم قدروا أن يؤثروا فيه بأدائهم المتقن، فأعجب بمقدرتهم بعد أن سرت إليه الهزة التي أحسوها وهم متقمصون شخصيات أدوارهم. فعل هذا لأنه، على تأثيره بما رأى، يعلم أنه يشاهد تمثيلا، لا واقع حياة، وإلا لما ألهب يديه بالتصفيق، أننا في الحياة الواقعية لا نصفق لما ننفعل به.

ويسعدني أن أزيد على ما تقدم، أن المسرح في تطوره الأخير ولا سيما بعد أن قامت السينما تنازعه البقاء وتم لها الفوز في أن تنقل الحياة نقلا فوتوغرافيا في أشرطتها، أصبح المسرح يلوذ بمصادره الأولى القائمة على الرمز والإبحاء والتركيز المبالغ فيه، ثم إشعار المشاهد بأن ما يشاهده إنما هو مسرح وليس (الواقع) حتى ينفرد المسرح بطابع لا يستطيع أن ينزعه منه الفن السينمائي.

ففي روسيا - ومنها تأتي أحدث الاتجاهات في الإخراج المسرحي - تجد أعيان المخرجين أمثال (تايروف) و (فاجتنجوف) يعمدون إلى وسائل جديدة في سبيل هذا وإلى القارئ

ص: 41

صورة من العرض التمثيلي في (المسرح الأكاديمي بموسكو) وهو المسرح الرسمي.

المسرح عار من الستار. . . أي الستار الذي في المقدمة كما هو الحال عندنا، والظلام يغمر هذا المسرح بحيث لا يرى المشاهد شيئاً مما يحتويه، فإذا جاء ميعاد التمثيل أضئ المسرح تدريجا فإذا بنا نرى عمال المسرح يقيمون المنظر، وينظمون الأثاث الخ، فإذا انتهوا، ظهر جميع ممثلي الرواية وهم ينظمون ثيابهم ويثبتون شعورهم المستعارة، وقد يوجهون إلى الجمهور حديثا عن الرواية، ثم يسود الظلام المسرح مرة ثانية، وبمعاودة إضاءته يبدأ تمثيل الراوية.

قد تعجب من هذا لأننا أرقاء الواقع، إذ خفيت عنا مصادر العرض التمثيلي في المرحلة السابقة، قبل أن تأتي هذه المدرسة الواقعية التي أصبحت الآن لا تتحكم بمؤثراتها القاصرة إلا في البلاد التي عرفت التمثيل في أواخر القرن الماضي.

وبعد، فأرجوا أن أكون وقفت بعض الشيء في أن أجملت ما يحتاج الإسهاب فيه إلى مقالات طويلة.

وشكري مزدوج للأستاذ المعداوي إذ أتاح لي فرصة الحديث في هذا، وإذ خصني بشارة من ثقته التي سأعتز بها دائماً. وارجوا أن يكون للمسرح المصري نصيب من المنصف ومن لفتاته البارعة.

زكي طليمات

ص: 42

‌المسرح المصري في خدمة العقيدة الوطنية

إلى الأستاذ زكي طليمات

للأستاذ علي متولي صلاح

آفتان خطيرتان من آفات النقد يبدوان في الأغلب الأعم مما يكتب عندنا: أولاهما الانحراف بالنقد إلى الناحية الشخصية والجنوح به نحو التهكم والتجريح. وأخرهما تحميل الكلام ما لا يحمل والذهاب به إلى أبعد مما يقصد الكاتب ثم مؤاخذته على هذا المدى البعيد الذي أنشأه المؤاخذ نفسه من نسج خياله!

هاتان الآفتان ركبهما معي الأستاذ الجليل زكي طليمات في تعقيبه على الكلمة البريئة التي كتبها في العدد الأسبق من (الرسالة) أحدد فيها مدى إسهام مسرحيتي (مسمار جحا) و (دنشواي الحديثة) في خدمة العقيدة الوطنية.

أما ما كتبه الأستاذ عن شخصي وما تفضل به من نقص وهوى وجور وإسقاط وما إلى ذلك فسأسقطه من حسابي فشخصي أهون شيء علي، وللأستاذ الفاضل أن يرعى منه في كلأ مباح!.

وأما ما كتبه في الموضوع مناقشاً به الرأي الذي ذهبت إليه في مدى تعبير هاتين المسرحيتين عن العقيدة الوطنية، وفي مدى قيام مذهب (الفن للفن) ، ، في حياتنا الراهنة اليوم، فذلك ما سأقصر الحديث عليه في إنجاز:

1 -

يأبى الأستاذ إلا أن يقرر أن مذهب (الفن للفن) ما زال موجودا في الحياة، وأن الحرب ما زالت قائمة بينه وبين مذهب (الفن للحياة) ويؤكد أنا الغلبة لم تكتب لأحدها حتى الآن. . . ولا أفهم معنى لهذا التشبث بذلك الرأي وقد انقضى مذهب الفن للفن) بانقضاء القرن التاسع عشر، وصار مفهوماً - كما قلت في كلمتي السابقة - أن الفن (الخالص) مرادف تماماً للفن (الفارغ)! والشواهد قائمة من حولنا في كل ما يكتب الكتاب المعاصرون فقد أوغلوا في الحياة يتناولون مشكلاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من كافة نواحيها، وانتهى تماماً عهد الأدب الذي لا يقوم إلا على الزينة اللفظية والمواكب البلاغية، وصارت هذه الأشياء بمثابة المحفوظات التي نراها في المتاحف ودور الآثار! ونزل السادة الأدباء من أبراجهم العاجية وانهارت هذه الأبراج وغشوا الأسواق وجابوا الطرقات

ص: 43

يلتمسون الإنسان في صورته العادية النابضة بالحياة. ولا أدري أين هم الكتاب (الذين ما برحوا يعالجون الآداب من أبراجهم العاجية) كما يقول الأستاذ الجليل؟ أين هم؟ وما آثارهم تلك؟ إننا - وفوق كل ذي علم عليم - لا نعرف واحد فردا له احترامه أو مكانته في عالم الأدب اليوم من هذا النوع العاجي الذي لم يهبط الأرض ولم يمس ثراها بقدميه الناعمتين! ويذهب الأستاذ الجليل إلى أن هذين المذهبين يعالجان (أسلوبين من أساليب التعبير في جوهره) والذي أعلمه أن الفرق بين هذين المذهبين ليس في الأسلوب والتعبير، وأن كلا منهما لا يقوم على طريقة على طريقه خاصة في الكتابة، بل أنه لا علاقة لهما بتاتاً بالأسلوب والتعبير ولكنهما يقومان على طريقة في التفكير والموضوع: فأولهما يقوم على فكرة أن الفن لا علاقة له بالأخلاق وأنه لا يجوز أن يوضع الفن في خدمة المجتمع لأن الفن في ذاته غاية لا وسيلة، وأن واجب الفنان (هو البحث عن الجمال وحبس هذا الجمال في إطار) كما يقول أوسكار وايلد.

وثانيهما يقوم على أن الفن وسيلة كبرى من وسائل إصلاح الحياة وعلى أن رجال الفن والأدب مسئولون عن كل ما في الحياة من نقص وظلم وفساد، وأن عليهم تقع - أول ما تقع - تبعة ذلك جميعه وأن الفن الذي لا يعالج أدران الحياة هو فن فارغ لا معنى له ولا نفع فيه.

فأين الأسلوب والتعبير من هذا؟

2 -

ولا أدري لماذا لا يختار الأستاذ في حديثه عن (الوجودية) إلا ما قاله أشد الناس عداوة لها؟ ولماذا يرميها بأنها (نظريات فلسفية قاتمة ولفتت اجتماعية لا تخلو من الشذوذ لأنها قامت على أنقاض انهيار نفسي نزل بالواعية الاجتماعية الأوربية بتأثير الحرب الكبرى الماضية). . . وهي ليست من كل ذلك في شيء؟ لماذا يقف منها الموقف وهو العليم بعناصرها الطيبة الكريمة وبقواعدها السليمة الصحيحة؟ أيكون ذلك من الأستاذ الجليل لمجرد أن يكون لسانه عليها وقلبه معها! إن الأستاذ يعلم دون شك أن الوجودية تقوم على الحرية العريضة لبني البشر، وتحميل الإنسان - ما دامت له هذه الحرية - المسئولية كاملة غير منقوصة، وأنها تقوم على الرجولة والصراحة ونبذ النفاق والضعف. . . وإن زعيمها (جان بول سارتر) ليسعى جاهداً لتكون الفلسفة والأدب (خير معين أبني البشر

ص: 44

على رسم صورة العالم الذي يسعدون بالعيش فيه. . . وعلى توجيه نشاطهم وتسديد خطاهم نحو نوع الحياة التي يرضاها لهم ويرضونها لأنفسهم).

ليست (الوجودية) شذوذنا وانحرافاً كما يرميها بذلك أعداؤنا الألداء الذين أعيذ الأستاذ الكبير أن يكون منهم؛

وإن شرح ما في هذا المذهب من المزايا الجليلة يطول. ولو تفضل الأستاذ فقرأ كلمتين كتبتهما عن هذا المذهب في العدديين 939، 943 من (الرسالة) لعدل من رأيه كثيراً ولآمن بأنه مذهب ينبغي الالتفات إليه ودراسته.

ثم إن (الوجودية) لم تقم (على أنقاض انهيار نفسي نزل بالواعية الاجتماعية بعد الحرب الكبرى الماضية) ولعل الأستاذ يقصد (السريالية) لا (الوجودية) فهي التي قامت على أنقاض هذه الحرب الكبرى منذ سنة 1918 إلى سنة 1939م تقريباً. . . قامت على أنقاضها وبسببها وفي ذلك يقول (أندريه بريتون) وهو من زعمائها الأولين (قامت الحركة السريالية على فكرة تبغيض الحرب وتثبيط همم الرجال عن القيام بها إن دفع بهم المجتمع يوماً إلى خوض غمارها).

3 -

أما ما قرره الأستاذ الجليل من أن كلامي (ينصب ظاهرة على المسرح المصري عامة ويهدف باطنة إلى النيل من فرقة المسرح الحديث) فالحق أن هذه تهمة خطيرة كنت ود أن يقف الأستاذ طويلا قبل أن يرميني بها هكذا في يسر وسهولة استجابة منه لوشاية حقيرة صغيرة. ولو أني كنت ذا هوى لكان هواي هذه الفرقة لا عليها، فلي من الصلات ما يعلم أمره الأستاذ الجليل، وما أراني إلا عضوا في أسرتها، ولبنة في صراحتها الذي أرجو أن يسمق ويطول.

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

وليعلم الأستاذ الجليل أنني لست ممن تشتري نفوسهم وأقلامهم، ولست من الذين إن أعطوا منها رضوا وأن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون!.

ولعل كاتباً لم يكتب في الإشادة الفرقة مثل الذي كتب عنها. وليس أقطع في ذلك من أن أحيل الأستاذ الجليل على ما كتب في (الرسالة) بعددها الرقيم 938 الصادر في 25 يونيوا الماضي عند مسرحية (حورية من المريخ) فقد قلت محييا هذه الفرقة ما نصه: -

ص: 45

(تحية طيبة نبعث بها إلى الفرقة الناشئة الشابة المتوثبة من فوق منبر (الرسالة) ونعني بها فرقة (المسرح الحديث) التي ظهرت خلال هذا الموسم كما تظهر بواكير الندى وكما تتفتح براعم الورود فتجلوا كامن الحسن وخفي الجمال.

أخذ الناس إشفاق على تلك الفرقة يوم رأوها تنظم عصافير ناعمة بضة حسبوها تزقزق على خشبة المسرح فلا تبين، وتهتز الخشبة من تحتها فلا تثبت، وقالوا من أين لزغب القطا أن تقوي على ما تنبهر أمامه أنفاس النسور، ومن أين للظبي الأغن أن ينهض بما يعيا به الأسد الهصور.

ولكن هؤلاء المشفقين انقلبوا مشدوهين معجبين عندنا رأوا هذه الفرقة تنهض بالروائع لكبار المؤلفين من أمثال: موليير وتشيخوف وتيمور. وتنهض بها نهضة يرى الناس فيها بحق أن الأمر لو كان بالسن لكان في الأمة من هو أحق أمير المؤمنين بمجلسة كما قال الغلام العربي القديم.

وتنهض بها نهضة يبدوا فيها - أظهر وأبين ما يبدوا - معنى التضامن وفناء الفرد في سبيل المجموع ومعنى نكران الذات، فما رأينا واحدا منهم حاول في موقف له أن يسطع على حساب زملائه أو أن يسلب أخاه مجدا يراه حقا له. ولعل مرد ذلك فيهم إلى ما لقنوه من ثقافة ومعرفة حرمتها الكثير من رجال المسرح الأقدمين.

فهل من الأنصاف أن يقال عن رجل يصدر عنه هذا الكلام أنه يريد النيل من هذه الفرقة؟

على أن الأستاذ الجليل يستطرد فيتهكم بي ويغمرني غمرة يحسبها تنال مني إذ يقول (إن هذه أول مرة يطالع لي كلاما عن المسرح)! وليس عجيبا ألا يقرأ الأستاذ شيئا مما أكتب من فصول في الأدب والنقد والشعر منذ سنوات بعيدة، ولكن العجب كل العجب ألا يقرأ - على الأقل - هذا الكلام الذي قدمت وهو يمسه فرقته مسا مباشر.

ولولا أني أمقت أن أتحدث عن نفسي لدللت الأستاذ على مئات ومئات من الكلمات التي كتبت هنا وهناك منذ أكثر من خمسة عشر عاماً ولكن هذا انحدار بقدري لا أرضاه لنفسي.

ويزيد الأستاذ فيأخذ على أنني لم أحاسب الفرقة الأخرى التي لم تقدم شيئاً يتجاوب مع ما يستبد بنفوس الجمهور، وهو يعني بها فرقة الأستاذ يوسف وهبي وهذا كلام له خبيئ! فأرجو أن يعلم الأستاذ أنني لا تربطني بواحد فرد من أعضاء هذه الفرقة أقل رابطة، ولو

ص: 46

أن هذه الفرقة ادعت أنها قامت بشيء في سبيل خدمة العقيدة الوطنية لكان حسابنا لها عسيرا، ولكنها لم تفعل، وليس في وسعنا أن نأخذ الناس بغير ما يأخذون به أنفسهم. على أنها في ذلك مقصرة مسرفة في التقصير دون شك.

4 -

ونعود بع هذا إلى موضوع المسرحيتين اللتين يذكر الأستاذ عنهما إنهما (من أقلام مصرية حاذقة أحست النبض الذي يدق في قلب كل مصري فجاءت كل مسرحية منهما تعكس في مشاهدها صورا ورؤى مما يعمر رؤوسنا في هذه الفترة العصبية من حياة مصر) ولست أعيد هنا ما قلته في كلمتي الأولى من أن كلتيهما لا تعبر تعبيرا صادقا تاما عن هذه المعاني؛ ولكني أزيد فأقرر بأنني عندما أعلنت رأيي هذا للصديق الكريم مؤلف (مسمار جحا) ذكر لي أنه لم يؤلف مسرحيته في هذه الأيام ولكنه ألفها منذ عام، وأنها بين يدي الفرقة منذ ألفها، وأنه لم يكن يقدر عند تأليفها أن الأمور ستجري في مصر على هذا النحو الذي جرت عليه من إلغاء المعاهدة وما تبعه، بل أنه لآسف أن يقع تمثيلها بعد إلغاء المعاهدة وهو إنما أراد بها أن تمثل قبل إلغائها! وتفضل فاستمع لرأي هذا في قبول حسن. فهل حقا كانت بين يدي الفرقة في هذا الوقت الذي يقرر مؤلفها الفاضل أم أنه أراد بها أن يعكس ما يعمر رءوسنا في هذه الفترة العصبية؟

وأما الثانية فقد أخبرني مؤلفها الفاضل بأنها ليست جديدة ولكنها كانت تمثيلية إذاعية، فطلب إليه الأستاذ الجليل زكي طليمات أن يجعلها مسرحية للتمثيل وحدد لها مدى لا يعدوه وجعله خمسة عشر يوما فقط! وذكر لي الأستاذ المؤلف عندما تفضل فدعاني لشهودها في (اللوج) الخاص به في أول ليلة قدمت فيها، قال لي على ملأ الناس ما يكاد يكون نصه: إنك ماض الليلة لتراني في أسوأ حالاتي! فهل كنت متجنبا ظالماً في هذا الرأي الهادئ الذي أعلنته عن المسرحيتين في لطف وعدم إسراف؟.

ولم أشأ أن أقول يا سيدي الأستاذ عن هذه المسرحية - مثلا - إنها تصور المرأة تصويرا سيئا إذ تجعلها تكف ولدها عن النضال وتمنعه من الاشتراك في كتائب التحرير وتصرخ وتولول عندما يأذن له أبوه بذلك!.

لم أشأ أن أقول هذه أو غيره وهو كثير أشار إلى بعضه صديقنا الأستاذ عبد الفتاح البارودي، ولكن الأستاذ الجليل زكي طليمات يرميني بأنني أعتسف النقد أعتسافاً وذلك في

ص: 47

الحق منه تجن كبير، اللهم إلا إذا صح ما يقول البعض من أن الأستاذ قد أجرى فيها من التعديل والتغيير ما جعله يحس - بينه وبين نفسه - أن تأليفها معزو إليه، فهو إذن يدافع عن نفسه لا عن المؤلف الذي يعرف الناس انهاله.

ومعاذ الحق أن نجمع بين هاتين الروايتين إلا في المعنى الذي قدمت، أما دون ذلك فبينهما فرق بعيد.

فالأولى. . . وأعني بها مسمار جحا - فن وأصالة وأناة.

والثانية - وأعني دنشواى الحديثة - عرض وسرد وحكاية وزجل لطيف ونقل (فوتوغرافي) كما وصفها بحق صديقنا البارودي.

وأغلب الظن أن المؤلف الثانية انتفع كثيرا بالأولى في بعض الحوادث والأشخاص، فالباحث المدقق يلمح ذلك جيدا وللأستاذ عذره في هذا فقد ألزم زمنا غير فسيح.

يا سيدي الأستاذ الجليل:

أرجو أن أخلص من هذه الكلمة وقد استقر لديك أنني لا أنطوي إلا على الحب لك، وأنني أصلب عودا من أن أستتر وأستخفي وأهرب من تبعة ما أقول، وأنني لست من هؤلاء الذين يستذلهم الغض فيكتبون بعين وينظرون بالعين الأخرى إلى بريق الوهاج.

والسلام عليكم ورحمة الله.

علي متولي صلاح

ص: 48

‌رسالة النقد

في ميزان النقد

أرض الخطايا

تأليف الأستاذ أمين يوسف غراب

للأستاذ ثروت أباظة

هي مجموعة أقاصيص للقصاص الفنان الأستاذ أمين يوسف غراب. والأستاذ أمين عريق في فن الأقصوصة خبير بأهدافها ذو قلم قوى. . . قادر دائماً على أن يظهر الملامح الرئيسية التي يريد لها الأستاذ أن تظهر. وتمتاز المجموعة أن أغلب أقاصيصها تهدف كل منها إلى فكرة اجتماعية معينة، والقصاص ذو الفكرة الاجتماعية جرئ، والقصاص الذي يستطيع أن يصل إلى هده بقصته دون أن يعلن هذا الهدف بالتصريح بل هو يعلنه بالقصة نفسها وبحوادثها وبالحوار فيها، هذا القصاص قدير. . . والأستاذ أمين صاحب فكرة اجتماعية، والأستاذ أمين يستطيع أن يصل إلى هدفه بقصته حيث يريدها غير مقيم من نفسه خطيباً اجتماعياً هو قصاص ذو فكرة إذن.

لن أستطيع أن ألم بأقاصيصه جميعاً فهي كثيرة لا تستطيع هذه الكلمات الإحاطة بها، ولكنني سأتناول بعضاً من الأقاصيص الهادفة إلى فكرة. وقبل هذا التناول لابد لي أن أذكر أن الأستاذ أمين من الذين يضعون القدر فوق كل شيء، ويلقون إليه بكل مسئولية؛ وهو بعد هذا يهاجمه أشد هجوم. ولقد ساق لنا من الأقاصيص ما يجعلنا نجزع من هول ما يصنع هذا القدر. فلقد قتل الأستاذ أمين أمامنا أرواحاً بريئة، نعلم براءتها. وقتل دون أن يهدف بقتلها إلى فكرة اجتماعية، إلا إن القدر غلاب. وأعتقد أن الإصرار على هذا يقعد بنا قعوداً كاملاً عن محاولة الإصلاح، فماذا بيدنا نحن المخلوقات الضعيفة أمام القدر الباطش السفاك؟ ما الإصلاح الذي يريده الأستاذ أمين بأقصوصته (الدم الأبيض) مثلاً. . . وما الإصلاح الذي يريده (براعي الغنم)؟ أنا لا أطلب إليه أن يجعل أقاصيصه كلها هادفة إلى غرض اجتماعي معين، ولكنني أطلب إليه وأصر أن لا يعرض علينا هذه الصور الموغلة في السواد، فالقصاص على أتم حرية أن لا يهدف إلى لإصلاح اجتماعي، ولكنه لا يملك

ص: 49

مطلقاً الحرية في أن يلقي على أيامنا السواد. وليس على شيء من الحرية في أن يهتف بنا كلما رام أحدنا إصلاحاً: أن قفوا بالقدر من ورائكم هادم ما تريدون إقامته، مذل منكم الأعناق، أنا لا أطلب إليه أن يجعل أقاصيصه ذات هدف اجتماعي إصلاحي ولكنني أطلب إليه ألا يذكرنا بهذا القدر فتقعد همة تحاول أن تهب، وتحوز عزيمة توشك أن تثب.

وللأستاذ أمين أقاصيص بلغت من الكمال مكاناً وهي مع ذلك لم تهدف إلى إصلاح إلا أن تطمئن النفس العاملة أن لها أجرها، وإلا أن تبشر من بلاه الله بتشويه في خلقته، أن جمال الروح أثمن من جمال الوجه كما في أقصوصة (حكمة القدر) التي لابد لقارئها حينما ينتهي منها أن يشعر بأن القدر الغاشم الصلب قد يكون رءوفاً كرماً. هي أقصوصة قدرية ولكنها لا تشوه أمامنا القدر ولا تقعد بذي الهمة ولا تخير صاحب العزيمة:

لابد لي بعد هذا أن أتناول بعضاً من تلك الأقاصيص التي هدف فيها الأستاذ أمين إلى فكرة معينة. وإني لأشايعه في بعض من هذه الأفكار وأعارضه في بعض منها آخر؛ ولكنني عجبت من أربعة مواضع تعارض فيها مع نفسه تعارضاً واضحاً؛ فهو في أقصوصة (وفار التنور) يذكر مقدار الحاجة الملحة للمال وكيف دفعت هذه الحاجة الخباز حارس الفرن أن يلتهم ديكا كان يعد لأحد الباشوات ثم حرق نفسه بعد أكلته. . هو في هذه الأقصوصة جعل الرجل يدفع حياته كلها في سبيل أكلة. . الفكرة غريبة بعض الشيء لأن الجوع كان من نفسه سيؤدي بالرجل إلى الموت، كما أنني أعتقد أن سرقة ديك لا يعاقب عليها بالإعدام الذي حكم به الرجل على نفسه. على أية حال كان الرجل معدماً في أشد الحاجة إلى المال ليأكل، فسرق وأكل وانتحر. . في هذه الأقصوصة أظهر لنا عظمة المال وجبروته ولكنه في قصة أخرى هي (آفة السعادة) جعل آفة السعادة هي المال نفسه. والحياة بين اثنين، إما وجود المال أو عدمه، فإن كان وجوده تعاسة وإعدامه موتاً. فماذا يرى الأستاذ؟

أما الموضعان الآخران فهما أشد غرابة في تعارضهما؛ فهو في أغلب أقاصيصه كان يهدف - كما قلت - إلى فكرة اجتماعية جليلة، ومعنى هذا أنه يرى أن الفن أداة للإصلاح الاجتماعي، بل هو يذهب إلى أبعد من هذا فيعمل بفنه في سبيل الإصلاح الاجتماعي ولا يمكن أن يكون مصلحاً اجتماعياً إلا إذا كان إنساناً يأكل ويشرب ويتزوج. هو إذن من أنصار النظرية السائدة اليوم أن الفن للمجتمع وليس للفن، وأن الفنان من المجتمع وإلى

ص: 50

المجتمع، ولكننا بعد هذا ثراه في أقصوصة (ثورة الآلهة) وهي أقصوصة رمزية عن فنانة إنسانة. نرى الأستاذ يوسف يحرمها الزواج ويرفعها إلى مصاف الآلهة، ويريدها فنانة للفن، وللفن فقط مثلاً في المجتمع. وهكذا التوت القصة على نفسها فهي إن كانت تعيش للمجتمع فلابد أن تحس به لتنتقل؛ وإن كانت تعيش للفن فلابد أن تنقطع عن المجتمع وتستلهم الوحي وحده - إن وجد - وهكذا أيضاً تتعارض الأقصوصة مع روح الأستاذ أمين.

وقد يقول الأستاذ أمين أنه قصاص ينقل ولا شأن له المجتمع وهذا الكلام معقول لو لم تتجه أغلب أقاصيصه إلى ناحية اجتماعية معينة. وهذا القول بطبيعة الحال لا ينطبق مطلقاً على الأقصوصة الرمزية، لأن القصة الرمزية في أصلها فكرة مجردة في ذهن القصاص، وأراد أن يعبر فعبر عنها بقصة فهو يرمز، وهي بخلاف الأقصوصة الواقعية التي هي في الأصل صورة من الحياة تنقل نقلاً، أو صورة ترسم رسماً لتشابه صور الحياة.

وبعد فالمجموعة تضم أقاصيص بلغت غاية الروعة. ولا ينقص المجموعة هذه المآخذ الهينة التي أحاول أن آخذها على الأستاذ أمين غراب، فأقصوصة (المذياع الحكيم) و (مائة دجاجة وديك) و (الفناجين الحمر) وغيرها، كلها أقاصيص تؤكد أن الاسم الذي يتمتع به الأستاذ أمين يوسف غراب إنما يدل على أن صاحبه يستحقه، ويستحق معه كل إكبار وتجلة.

ثروت أباظة

ص: 51

‌البريد الأدبي

لغويات

كثيراً ما يجري عن الأقلام، ويتردد على الألسن، ويقع في الأسماع والأبصار كلمات لا تنهج نهج أصول اللغة، ويلهج بها اللاهجون، وينقلها الخلف عن السلف في غير ما تحقيق وهو منهم قاب قوسين أو أدنى:

1 -

قيد:

جاء في كتاب (نشوء اللغة العربية) تأليف الأب أنستاس ماري الكرملي ص 2 قوله (وممن قال به ولم يحد عنه (قيد) شعره) بالفتح وصوابه الكسر تقول (قيد) شعرة - بالكسر - أي قدر شعرة، كما تقول (غلوة رمح (أي مقدار رمح، وهي كلها من ألفاظ القياس المكاني. وأما (القيد) بالفتح فبمعنى (رهن). قال الشاعر. (. . قيد الأوابد هيكل) وهي أيضاً واحد القيود من تقييد الدابة أي عقلها؛ وفي الحديث (اعقلها وتوكل).

2 -

جف الماء:

تعبير خاطئ يقع فيه فطاحل الكتاب ولا يلتفتون إلى موضع الخطأ فيه؛ يقال (جف العود أو الغصن) أي صار من الليونة والمرونة إلى الخشونة والصلابة والجفاف. واستعمال (جف الماء) بمعنى نشف أو تبخر وزال بلله استعمال خاطئ لا تسمح به اللغة، وإنما يجوز أن يفهم على معنى صيرورته من المائية إلى الصلابة بصورة (جليد) لن هذا الأخير هو الماء - أي صلب - فصار جليداً متماسكاً.

والصواب في استعمال (الجفاف) أن يقال (جف الثوب أو الإناء) أي ذهبت نداوته وأثر الماء فيه. ويقال (جف النهر) إذا زال عن قاعه وجانبيه البلل و (غاض) فيه الماء أي نقص أو زال.

3 -

قناة وقنال:

هذان اللفظان يستعمل كل في معناه المقصود منه، فأحياناً يقولون ويكتبون (قناة السويس) وأحياناً أخرى (قنال السويس). والأصوب لغة (قنال) باللام وهي لام التعريف في المضاف إليه في قولهم (قنا البحر أو قنا الماء) أي مجراه، ومن لفظ المضاف ولام المضاف إليه

ص: 52

نحتت لفظة (قنال).

أما (القناة) فقد تستعمل بمعنى القنال وإن كانت هذه أصح منها. وهي بمعنى الغصن أو الرمح. قال المتنبي وما أصدق ما قال:

وإذا أنبت الزمان قناة

ركب المرء في القناة سنانا

4 -

الغث والسمين:

هذان اللفظان توأمان إذا قيل الأول تبعه الثاني في أغلب الأحيان كأنه له الظل. والغث لغة الرديء والمهزول وضده السمين من السمن وهو الاكتزاز الحما والتطبيق شحما. . ويخطئ المخطئون فيقولون (الغث والثمين) بالثاء في الثانية، وهذا قد يصح استعماله على وجه ويجوز، ولكن الاستعمال الأول (السمين) بالسين أصح وأصوب لرجحان الضدية والتوأمية فيه وهو المستعمل من قديم.

قال تعالى في كتابه العزيز (فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين) وهو ضد الغث وهو المهزول الضاري.

وقال الشاعر العربي:

فإما أن تكون أخي بحق

فأعرف منك غثي من سميني

أي الردى من الحسن. .

5 -

نقد ونقد:

يخطئ الكبير والصغير في استعمال هذين اللفظيين ويخلطون بينهما الخلط الذريع وتشاركهم المطبعة العربية - تصحيفا - في هذا الخلط. فالفعل بالمهملة بمعنى انتهى وفني. قال تعالى (قل لو كان البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا). وقال الشاعر:

أرى العيش كنزاً ناقصا كل ليلة

وما تنقص الأيام والدهر ينفد

ومنه قولهم (فلان خصم منافذ) وهو الذي يستفرغ جهده في الخصومة واللدد. وفي الحديث (إن نافذتهم نافذوك).

أما الفعل بالمجمة فبمعنى شق (لج من هنا ليخرج من هناك كقولهم) (نفد السهم من

ص: 53

الرمية). قال تعالى (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فأنفذوا إلا بسلطان).

وقال الشاعر العربي:

حتى استكانوا وهم مني على مضض

والقول ينفد ما لا تنفد الإبر

وكذلك يخلط الكتاب بين (الشذر والشزر) وبين (النذر والنزر) وبين كل متشابهين متجانسين يجوز فيهما التصحيف ولا أقول التحريف.

وبعد: فتلكم هنوات لغوية عرضت لها عابرا رغبة في التذكير - والدهر ينسي - وذكر فإن الذكرى تنفع اللغويين كما تنفع المؤمنين وهم مؤمنون. والسلام

(الزيتون)

عدنان

سهو

نحن طلبة الإرتريين نأسف كل الأسف لعدم ذكر إرتريا المسلمة في المقال المنشور بعنوان (الكتلة الإسلامية والسلام العالمي) بقلم الأستاذ القدير أبو الفتوح عطيفة في العدد الخاص بمناسبة العام الجديد لمجلة الرسالة الغراء.

كيف ينسى هذا القطر المسلم الذي يطلع إلى الحرية والاستقلال، لقد أرسل مندوبين عنه ليمثلاه في المؤتمر الإسلامي في إحدى جلساته بكر تشي.

فالرجاء منكم إخطار الأستاذ بذلك مشكورين

عن الطلبة الإرتريين

عبد الله خيار

ص: 54

‌القصص

البائعة الصغيرة

للكاتب الدانمركي هانز أندرسون

كان البرد يشتد، والثلج ينهمل، والظلام يحلو لك، والليل يسدف لينبلج عن صبح عام جديد. وكانت تضرب في بهمة الليل وصبارة القر فتاة حاسرة الرأس عارية القدمين: كانت تنتعل خفين عندما غادرت منزلها، ولكنهما كانتا واسعتين فقد كانتا قبل لأمها، وبينما هي تعبر الطريق أمام عربتين مسرعتين أضاعت خفيها. فأما الأولى فلم تجد لها أثراً، وأما الأخرى فقد خطفها طفل وجرى. فراحت الطفلة تجوب الطرقات وقد تعرت قدماها، واحمرتا من برد وازرقتا. وكانت تحمل في جيب ثوبها العتيق حزماً من الثقاب، وفي يسراها حزماً، وقد أدبر النهار وما باعت منها شيئاً، ولا حصلت ليومها فلساً.

كانت تقضقض من البرد وترتعد من الجوع، وتسير متحاملة على نفسها تجر قدميها جرا. . . كانت صورة من التعاسة تلك الفتاة المسكينة! وقد تغطي بالثلج شعرها الأصفر المسترسل الجميل، وتدلت منه خصلات ناست على جيدها الأبيض الناصع. ولكن تلك الفكرة لم تكن لتطيف بذهنها إذ ذاك؛ فقد كان النور يشع من النوافذ، ورائحة الإوز المشوي تفوح في الفضاء مؤذنة بميلاد عام جديد. فانتبذت ركناً منزوياً فجئت على ركبتيها، وتقبعت في مكانها، والبرد يسري في أعضائها قارساً لذاعاً. ولكنها لم تكن لتجرؤ على الذهاب إلى منزلها، وما باعت من ثقابها شيئاً، فعصا الأب نترقب، وسقف البيت مهدم خاو تعبث به الريح، ويصفر فيه الهواء.

كان البرد يخدر يديها الصغيرتين، فتفكر في عود من الثقاب تأخذه من الحزمة، فتشعله في الحائط، فتدفئ يديها على لهبه وما تمالكت أن فعلت فأضاء العود بلهب ساطع كنور الشمعة، فخيل للفتاة أنها جالسة إزاء موقد ذي ألوان، له قاعدة من نحاس وغطاء من نحاس لامع. ما أجمل النار تبعث الدفء في الأطراف، والطمأنينة في النفس! ولكن اللهب الضئيل لم يلبث إلا قليلاً حتى خبا، فتبخر في الهوى موقدها النحاسي اللامع، ولم يبق بيدها سوى رماد العود المحترق. فأشعلت عوداً ثانياً، فالتهب فوقع نوره على الحائط، فصيره كقناع شف استطاعت أن ترى الحجرة من خلاله. رأت مائدة بسط عليها قماش

ص: 55

أبيض صفت عليه آنية العشاء، وتوسطته إوزه مشوية يفوح منها بخار له نكهة وطيب، ويملأ جوفها تفاح وبرقوق مجفف. ثم يا للعجب! لقد قفزت الإوزة من الطبق وتهادت على أرض الحجرة ثم أقبلت على الطفلة وفي صدرها شوكة وسكين! ثم انطفأ العود فلم تبصر الفتاة إلا حائطاً رطباً سميكاً بارداً، فأشعلت عوداً ثالثاً فإذا هي جالسة تحت شجرة جميلة من أشجار عيد الميلاد تشتعل على أوراقها آلاف من الشموع، فتغمر بنورها صوراً ملونة جذابة كتلك التي كانت تراها في المكتبات، فمدت الفتاة يديها نحوها فانطفأ العود، وارتفعت أنوار عيد العام، فرأتها الفتاة نجوما في السماء، سقط أحدها فرسم خطاً طويلاً من النار، ففكرت الفتاة الصغيرة: الآن يموت أحد. فكذاك علمتها جدتها العجوز التي درجت إلى القبر وما كان للطفلة غيرها يحبها ويرعاها. وأشعلت الفتاة عوداً رابعاً، فسطع النور مرة أخرى، فتمثلت لها جدتها تشع نوراً وحناناً. فصاحت الطفلة:(جدتاه، خذيني معك، سوف تذهبين إذا ما خبا نور الثقاب، ويزول طيفك الحبيب مثلما ذوت النار الدافئة، والإوزة الشهية، وشجرة عيد الميلاد)، وأقبلت على الثقاب تشعله كيلا تذهب جدتها، فتلهب بنور أسطع من الشمس وضحاها، وتتمثل لها جدتها أبهى مما كانت وأجل. ثم أقبلت الجدة على الطفلة فاحتضنتها، وطارت بها في عالم البهاء والسرور، وحلقت بها في السماوات العلى، وحملتها من الأرض حيث لا برد ولا جوع.

غير أن الطفلة كانت تجلس في ركنها، مستندة إلى الحائط واحمرت وجنتاها، وانفجرت شفتاها عن ابتسامة سعيدة. هناك كانت ترقد أيبسها القر، وقد احترقت علبة من ثقابها، فقال الناس:(لقد أرادت أن تدفئ نفسها) وما علم الناس أي جمال رأت، ولا بأي احتفال حملت إلى السماء ليلة العيد. . .

ش. ع

ص: 56