المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 969 - بتاريخ: 28 - 01 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٦٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 969

- بتاريخ: 28 - 01 - 1952

ص: -1

‌فدائيون وأنانيون.

. .

ما أشبه بني آدم بنبات الأرض! يتفق في التربة والغذاء والجو، ويختلف في اللون والطعم والمزية. في الحقل الواحد تجد الطيب والخبيث، الحلو والمر، والنافع والضار، والصلب والهش، والمستقيم والمعوج، والمثمر والعقيم، وهذا الاتفاق وذلك الاختلاف تجدهما في بني الإنسان على أوضح صورة. ها نحن أولاء، طينتنا من ثرى الوادي، وغذاؤنا من خير النيل، وهواؤنا من جو مصر؛ ولكن فينا من يؤلم ولا يلذ كالعوسج، ومن يروق ولا يثمر كالصفصاف، ومن يضر ولا ينفع كالهالوك، ومن يرتفع ولا يستحق كالعليق. أما المصطفون الأخيار فهم كالفواكه والرياحين قلة قليلة. . منا العيون التي تتجسس للعدو، والأيدي التي تعمل مع العدو، والألسن التي تدعو إلى العدو. ومنا الأوغاد الذين يقضون أيامهم اللاهية عكَّفا على الفحش يتفقون أموالهم التي استقروها من عرق الفلاح ودمه، في الخمر والقمر والنساء، وأبناؤنا الشباب يقاتلون العدو وجها لوجه وهم جياع! ومنا الأنذال الذين كسبوا المال وخسروا الشرف، وشروا الجاه وباعوا الضمير، فظلموا بيننا تماثيل للؤم والبلادة، يسمعون عن فظائع الإنجليز في القنال، وعن فجائع الفدائيين في القتال، وكأن القنال ليس من أرض الوطن، وكأن الفدائيين ليسوا من شباب الأمة! أما البررة الأطهار فهم صفوة الخير المغلوب بين هذا الشر الغالب! هم أولئك الشباب الجامعيون الذين نذروا دماءهم الزكية لله ولمصر. يقتلون مستبسلين، ويقتلون مستشهدين، لا يبغون عَرض الحياة لأنهم يستقبلون وجه الموت، ولا يطمعون في جزاء الدنيا لأنهم يقنعون بثواب الآخرة.

هم أولئك المترفون الذين ربأوا بوطنهم أن يحتل، وبشعبهم أن يذل، فزهدوا في نعيم العيش، ورغبوا عن سلام الأمن، وعاشوا مع الفلاحين في قرى القنال، يطعمون أغلظ الطعام، ويشربوا أكدر الشراب، ويفرشون أخشن الفراش، ويستعيضون عن العطور والدهن بالشحم يطلون به أجسادهم المرهفة ليقيها برد الماء وقر الشتاء، ثم يكمنون للعدو الباغي عراة في قنوات الحقول وأخاديد الأرض؛ حتى إذا شاء القدر أن يسخر من الإمبراطورية العجوز، ساق قطيعها من أغنامها الحمر إلى المجزرة الفدائية الجائعة، فيلقى الإيمان والكفر، والشجاعة والجبن والفداء والأثرة؛ وتغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بأذن الله، فيفزع (أرسكين)، وبجزع (تشرشل)، وتسيل شوارع المدن ومسالك القرى بالدبابات والمصفحات والجنود؛ ثم تكون عاقبة هذا الجيش العرمرم والعتاد الضخم هزيمة مخزية

ص: 1

تشبه الصفعة على القفا العريض، أو البصقة على الوجه الصفيق!.

هؤلاء المجاهدون الأبطال الذين اقضوا مضجع إنجلترا وأيدوا حق مصر، لا يرجون من قومهم غير السلاح! فهل يستجيب أغنياؤها الطافحون لهذا الرجاء؟ إنك لا تحيي الموتى ولا تُسمع الصَّم الدعاء!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌نفس كبيرة ثائرة وعقل راجح حكيم:

السيد جمال الدين الأفغاني

للأستاذ حمدي الحسيني

- 1 -

كنت في مجلس من أصحابي الشباب وكنت أتحدث إليهم عن السيد جمال الدين الأفغاني فأعجبوا بروحه القوية المتدفقة نحو الحياة والحرية. وكيف لا يعجب شباب العرب بروح جمال الدين وهم يتحفزون للوثبة الكبرى وراء الحياة والحرية؟ وكيف لا يتخذون من روحه القوية المتدفقة الوثابة حافزا لهم في جهادهم العظيم للحرية والاستقلال والوحدة. فطلب مني بعض أولئك الشباب أن أكتب كلمة عن هذا الرجل العظيم في مجلة الرسالة الغراء ليتعرف عليه أكبر عدد ممكن من شباب العرب. وهاأنذا أحقق رغبتهم راجياً أن أوفق إلى تصوير روح جمال الدين تصويراً يجعل منها نوراً يستضيء به الشباب العربي في جهادهم القومي، وناراً تأكل هذا الاستعمار الغاشم فتقوض دعائمه وتذهب بكيانه وعيانه.

يقسم علماء النفس الشعور الإنساني إلى ثلاثة أقسام، المعرفة والوجدان والنزوع. وهذه الأقسام الثلاثة للشعور الإنساني مترابطة متداخلة كتيار الماء الذي يدور على نفسه. ترى الوردة الجميلة مثلاً متفتحة الوجنات على غصنها الرطيب (هذه هي المعرفة) فتروقك تلك الوردة الجميلة ويلذك منظرها ورائحتها (وهذا هو الوجدان) فتقبل عليها فتقطفها لتستمتع بها لما وشما (وهذا هو النزوع). وتلمس يدك النار وهذه معرفة؛ فتتألم من حرها وهذا وجدان فتزيح يدك عنها أو تزيحها عن يدك وهذا نزوع. تعرف الشيء فتلتذ به أو تتألم منه فتنزع نحوه أو عنه جلبا للذة أو دفعاً للألم؛ وهذا هو الشعور الإنساني نوعاً، وأما كما فليس الشعور الإنساني بمتساو في أقسامه. وهذا الاختلاف في الكم هو الفارق بين أفراد البشر خيراً وشراً، كمالاً ونقصاً، قوة وضعفاً. والبشر بهذا الاختلاف في كمية أجزاء الشعور ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، قسم قويت فيهم المعرفة وضعف الوجدان والنزوع كالعلماء. وقسم قوى فيهم الوجدان وقلت المعرفة وضعف النزوع كالفنانين. وقسم قوى فيهم النزوع

ص: 3

وقلت المعرفة وضعف الوجدان كالقادة والطغاة. والعجب في أمر السيد جمال الدين الأفغاني أنه مكتمل جوانب الشعور كيفية وكمية؛ فبينما نراه من ناحية المعرفة نابغة عصره وباقعة زمانه نراه قوى الوجدان مرهف العواطف يحس بالألم مع الإنسانية كافة أفرادا وجماعات، ويشمل السرور جوارحه إذا ما رأى الخير شاملا لبنى الإنسان. وبينما كذلك من كثرة المعرفة وقوة الوجدان في النزوع إلى العمل والتوجه إلى الهدف كالصاعقة المنقضة والشهاب الثاقب والسهم المنطلق والأسد الكرار، ينصب على هدفه انصبابا قويا عنيفا حازما لا يعوقه كل ما في الحياة من صعوبات ومتاعب، يقتحم ولا يبالي ما يعترضه من صعوبات وأخطار، أجيال حديد أم جبال نار.

أما تفاعل جمال الدين مع بيئة وأثر ذلك التفاعل مع تلك البيئة فهو ما أتحدث عنه الآن.

اختلف مؤرخو حياة جمال الدين في تعيين موطنه الأصلي هل هو إيران أو أفغانستان؛ فبعضهم قال أنه إيراني الأصل أفغاني النشأة، وبعضهم جزم بأنه أفغاني الأصل والنشأة، ولكنهم اتفقوا اتفاقا تاما على أنه ولد في مدينة أسد آباد أو أسعد آباد من أعمال كنر في الأفغان وذلك سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة وألف ميلادية أي في أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر. وأن أباه يدعى السيد صفتر أو صفدر ومعناه بالفارسية الشجاع المقتحم، وأن عائلته ذات حول وطوال ونفوذ وسلطان في مقاطعة كنر خصوصا وبلاد الأفغان عموماً لانتسابها إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور الذي يتصل نسبه بالحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

ولد السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني وأهله وعشيرته في ذروة العز وسامت المجد فقضى ثماني سنين يتقلب بين أعطاف العز والمجد ويرتع في أحضان العظمة والسلطان. حتى امتدت إليها يد الأمير دست محمد خان آل إليه الأمر في الأفغان بعد انقسامات وحروب طويلة وعريضة، فسلب من تلك العائلة الكريمة ملكها وسلطانها وأجلاها عن أرضها وموضع عزها ونقلها إلى مدينة كابول عاصمة الملك لتظل تحت سمعه وبصره فيأمن انتفاضها ويضمن خروجها عليه ومزاحمتها له. قضى جمال الدين الطفل في مدينة كابل عشر سنين تلقى فيها العلوم العربية: التاريخ والشريعة والتفسير والحديث والمنطق والتصوف والرياضيات والفلك والطب وغيرها من العلوم النظرية العلمية. ثم عرض له

ص: 4

أن يذهب إلى الهند لاستكمال علومه على الطريقة العصرية فذهب إليها وقضى فيها ردحا من الزمن عبء فيه من العلم ما وسعه عقله الكبير وهمته العالية. فهل يرجع إلى كابول وفي نفسه منها حزازات وجروح:

واحتمال الأذى ورؤية جانبه

غذاء تضوي به الأجسام

أم يذهب لأداء فريضة الحج، يؤدي فرضاً لله عليه ويسري عن نفسه الكبيرة ما تحس من الألم لما أصاب عائلته من تغريب، ووطنه من فوضى واضطراب؟ ذهب إلى الحج ولكن بعد أن رسم لنفسه خطة سفر تمكنه من زيارة أنحاء الجزيرة العربية لدراسة بلاد العرب دراسة علو ودراسة سياسية. درس جزيرة العرب وأدى فريضة الحج فهفت به نفسه قائلة: لابد مما ليس منه بد. لابد من العودة إلى الأفغان. عاد إلى الأفغان وشاء الله له أن يصبح في سلك رجال حكومة دوست محمد خان، وما لبث أن نال إعجاب الأمير واحترامه وأصبح أشد لزوماً له من الهواء والماء، فصحبه في حروبه وغزواته كما صحب شاعر القوة أبو الطيب المتنبي سيف الدولة في حروبه وغزواته مع الفرق بين صحبة الرجلين لصاحبيهما، فأبو الطيب صحب سيف الدولة لأوقات الفراغ وساعات التسلية. وأما جمال الدين فصحب دوست محمد لأوقات الشدة وساعات الخطر. سار دوست محمد إلى مدينة هراة ليفتحها وسار معه جمال الدين فحضر المدينة وضيق عليها ابتغاء فتحها، وكان جمال الدين العقل المدير لدوست محمد واليد الحازمة له في عمله الحربي؛ ولكن شاء الله أن يموت الأمير قبل فتح المدينة ففتحت على يد جمال الدين. وهناك ولى الإمارة بشير علي خان أصغر أولاد دوست محمد فأشار عليه وزير من وزراء السوء أن يقبض على أخوته ويعتقلهم خوفاً من مزاحمتهم له، وكان من أولئك الإخوان في جيش هراة الفاتح ثلاثة وهم محمد أعظم ومحمد أسلم ومحمد أمين. فأنتصر جمال الدين لمحمد أعظم ودافع عنه عند الأمير فلم يفلح، فعلم الأخوة بما يبيته لهم أخوهم فذهب كل واحد منهم إلى ولايته التي كان يلها من قبل واعتصم بها فاندلعت نار الفتنة في البلاد واشتدت وطأة الحروب بين الأخوة المتقاتلين حتى آل الأمر إلى محمد أعظم فارتفعت منزلة جمال الدين عنده فأحله محل الوزير الأول وعظمت ثقة الأمير به حتى أصبح لا يورد ولا يصدر إلا عن رأيه. ولكن هيهات أن يستتب أمن في بلاد يجاورها الإنكليز. فقد أخذ الإنكليز يمدون أصابعهم إلى هذه

ص: 5

البلاد فاتفقوا مع (بشير علي) ضد أخيه محمد أعظم لقاء منافع لهم فنثروا الذهب في البلاد يمنة ويسرة شأنهم في كل حال تشبه هذه الحال، فبيعت أمانات، ونقضت عهود، وتجددت خيانات. وبعد حروب هائلة تغلب بشير علي بذهب الإنكليز ودسائسهم على محمد أعظم، ففر محمد أعظم إلى بلاد إيران ضحية من ضحايا الاستعمار الإنكليزي الغاشم.

للكلام بقية

حمدي الحسيني

ص: 6

‌عالم الذباب

بقلم المرحوم الأستاذ معروف الرصافي

في سنة 1943 أصدر الدكتور العراقي فائق شاكر كتاباً عنوانه (عالم الذباب) تعرض فيه لحديث الذباب بالشرح والتأييد، وانبرى له المرحوم الأستاذ معروف الرصافي شاعر العراق بالجرح والتفنيد. وقد تجدد اليوم هذا الخلاف بين مجلة لواء الإسلام ومجلة الدكتور فرأينا من المفيد أن ننشر مقال الأستاذ الرصافي وقد أرسله إلينا في حينه فلم ينشر لبعض الأسباب.

الحديث النبوي

نذكر لك أولاً نص عبارة الحديث الذي ذكره الدكتور في رسالته عن أبي هريرة (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء).

وفي روايتي النسائي وأبن ماجه. (إن أحد جناحي الذباب سم، والآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام فامقلوه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء).

هذا ما ذكره الدكتور في رسالته. ونذكر نحن الروايات الآنية نقلاً عن شرح البخاري للعيني).

(إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، فإن في إحدى جناحيه داء، والأخرى شفاء) الجزء السابع الصفحة 302.

ونقلاً عن شرح البخاري أيضاً للعيني:

(إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في إحدى جناحيه شفاء وفي الأخر داء). الجزء العاشر ص 217

ونقلاً عن الجامع الصغير للسيوطي هكذا.

إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فأن فيه إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء). رواه البخاري وابن ماجه عن أبي هريرة.

وقبل كل شيء نطلب انتباه القارئ إلى اختلاف هذه الروايات في عبارة الحديث اختلافاً لفظياً ناشئاً على ما نرى من أنهم كانوا في الأكثر يروون الأحاديث بالمعنى فيتصرفون في

ص: 7

ألفاظها كل بحسب رأيه في معناها كما تراه في رواية هذا الحديث، فبعضهم قال إذا وقع في الشراب، وبعضهم في الطعام وبعضهم في الإناء، ومنهم من عير بالغمس، وبعضهم بالمقل وهو بمعنى الغمس، وبعضهم عبر بالنزع والآخر بالطرح والمراد من كليهما واحد، ومنهم من اقتصر على الغمس ولم يذكر النزع ولا الطرح، ومنهم من قال فليغمسه كله ومنهم من أسقط كلمة كله، ومنهم من قال في إحدى جناحي داء ومنهم من قال سم، وبعضهم قال يتقيأ والآخر قال يقدم.

ولكن الروايات كلها اتفقت في أن الداء أو السم هو في أحد الجناحين وأن الشفاء في الجناح الآخر، وكذلك اتفقت أيضاً في بيان سبب الأمر بالغمس، وهو أن الذباب عند وقوعه في الشراب يتقى بالجناح الذي فيه الداء، أو يقدم الجناح الذي فيه السم ويؤخر الآخر كما جاء في الرواية الأخرى.

فالأمر بالغمس إنما جاء لكي يدخل في الشراب الجناح الآخر الذي فيه الشفاء. إن هذا الاختلاف اللفظي الذي جاء في هذه الروايات لا يقدح في صحة الحديث إن كان صحيحاً ما دام المعنى المراد فيها كلها واحداً. ولكن على فرض صحة الحديث يستعبد أن يكون رسول الله تكلم بهذه الألفاظ المختلفة كلها، وإنما عبر بواحدة منها، والرواة التزموا جانب المعنى فعبروا عنها بما يوافقها أو يقاربها، سواء كان ذلك منهم عن قصد لمراعاة المعنى، أم عن نسيانهم وذهولهم عن الألفاظ، فإن المعنى قد يرسخ في ذهن الراوي وتشذ عنه الألفاظ، فإذا أراد بيانه عبر عنه بألفاظ من عنده. وكل من قرأ في كتب التاريخ شيئاً عن حياة الواقدي أحد مشاهير الرواة في القرن الثاني عرف كيف تكون الرواية بالمعنى، فإن هذا الرجل كان من أعجز الناس عن حفظ الألفاظ حتى إن المأمون الخليفة العباسي أراد مرة أن يحفظه سورة الجمعة من القرآن فما استطاع. ثم وكل به من يحفظه إياها فما استطاع وكان الموكل به إذا حفظه آية ثم أنتقل به إلى ثانية نسى الأولى، وإذا عاد إلى تحفيظه الأولى نسى الثانية. وكان يقرأ ما نسبه بالمعنى فيبدل الألفاظ. وأمثاله في الرواة كثيرون.

لا يتسع المقام لنقد الرواية بالمعنى، وبيان ما ينتج ما ينتج عنها من مضار، فنترك ذلك لفرصة أخرى؛ غير أنا نقول لجوهر المعنى ارتباطا كليا بجوهر اللفظ؛ فكل تغيير في اللفظ لا يخلو من تغيير في المعنى، قل أو كثر، حتى أننا لو وزنا الألفاظ المترادفة

ص: 8

بقسطاس مستقيم من الفهم والإدراك لما قلنا بأنها مترادفة؛ فتبديل الألفاظ بما يرادفها أو يقاربها في المعنى فيه خطر عظيم على المعنى خصوصاً في النصوص التي لا مستند لفهمها فهما صحيحا سوى الألفاظ. ولا مرية في أن تبديل الكلمات بما يرادفها أو يقاربها في النصوص قد يغير وجه الحكم المستنبط منها، كما أنه قد يبعد بها عن المعنى المراد بعدا شاسعا، لأن المترجم مهما برع وأجاد في نقل المعنى بوضوح ألفاظ من اللغة التي يترجم إليها، تؤدي معنى الألفاظ من اللغة التي يترجم منها فإنه لن يستطيع أن يوفي المعنى حقه بتمامه، بل لا بد أن يخون المعنى بعض الشيء في ناحية من نواحيه. فالمترجم لا يتخلص من الخيانة وإن كانت خيانة اضطرابية غير اختيارية.

ولهذا امتنعت الإصابة والإجادة في ترجمة الشعر من لغة إلى لغة أخرى؛ لأن محاسن الشعر لا تقوم بالمعنى وحده بل بانتقاء ألفاظه وحسن سبكة وانسجام تراكيبه أيضاً، ولا ريب أن محاسن الكلام في كل لغة تختلف كل الاختلاف؛ فالذي يترجم الشعر لا بد له أن يتصرف فيه مراعاة لمحاسن الكلام في اللغة التي يترجم إليها وإلا جاءت الترجمة تافهة وخرج الشعر عن كونه شعرا، وبهذا التصرف الذي لا بد منه يقع البعد بين المترجم منه وبين المترجم إليه.

ولهذا أيضاً امتنعت ترجمة القرآن من العربية إلى غيرها من اللغات، فإن ترجمته مع المحافظة على ما فيه من روعة وطلاوة تكاد تكون مستحيلة. وقد ترجمه الترك في أيامهم الأخيرة عدة ترجمات فلم يفلحوا، بل جاءت ترجماتهم شيئاً مضحكاً. وقد ترجمه إلى لغاتهم أهل أوربا أيضاً؛ وقد ذكرني أحد معارفي ممن يحسنون اللغات الغربية أنه قرأ في إحدى ترجماتهم قوله تعالى (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه وتخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) مترجما بما معناه إن أن كل إنسان في بوم القيامة يكون في ركبته عصفور معلق، وهذا شيء مضحك أيضاً. إن الكلام عن الرواية بالمعنى قد أخرجنا عن الصدد فلنعد إلى ما نحن فيه فنقول:

لا كلام لنا على اختلاف الرواة في عبارة الحديث، لأن المعنى المراد فيها كلها واحد، وإنما نريد أن نتكلم عن المقصود من الحديث فنثبته للقارئ واضحا صريحا، ثم نرى هل ينطبق على ما يقوله الدكتور فائق شاكر ويدعيه.

ص: 9

إن المفهوم بصراحة من الروايات كلها، هو أن الداء أو السم، لا يكون إلا في أحد جناحي الذباب لا في كليها؛ وإن الذباب عند وقوعه في الشراب أو في الطعام يتقي صدمة الوقوع بالجناح الذي فيه الداء، فيغمس ذلك الجناح في الشراب، ويبقى الجناح الآخر فوق غير منغمس، وكأن عبارة إحدى الروايات القائلة بأنه (يقدم السم ويؤخر الشفاء) قد جاءت تفسيراً لعبارة الرواية الأخرى القائلة بأنه (يتقى بجناحه الذي فيه الداء).

وإذا علمنا هذا فقد علمنا لماذا جاء الحديث يأمر بالغمس، ذلك لأن الجناح الذي فيه الداء قد انغمس في الشراب فتلوث الشراب بدائه فإذا انغمس الجناح الآخر بطل حكم الداء الذي حصل من الجناح الأول وسلم الشراب.

هذا هو المعنى الواضح الصريح الذي تؤديه عبارة الحديث في جميع الروايات على اختلافها في التعبير. وبعد هذا فلننظر فيما يقوله الدكتور حفظه الله، ليتبين لنا أين وجه الصواب.

أين محل البكتريوفاج من الذباب؟

نستخلص الجواب على هذا السؤال من كلام الدكتور نفسه فنقول: يدعى الدكتور بأن المراد من الشفاء المذكور في الحديث هو ما اكتشفه العلم في هذا العصر من (البكتريوفاج) التي فسرها بمفترسات الجراثيم، وإذا كان المراد بالشفاء هو هذا فلننظر أين يوجد البكتريوفاج من الذباب؛ أهو في أحد الجناحين أم في كليهما، أم في جسم الذبابة كلها، أم في قناتها الهضمية، أم في ذراعيها ورجليها؟

قال حفظه الله في الفصل التاسع والصفحة (52)(إن الذباب المعروف بذباب البيوت، يقع على البراز، والمواد القذرة، وكل هذه مملوءة بالجراثيم المولدة للأمراض، فاختيار الذباب لها، يدل على أنه يأكل الجراثيم والبكتريوفاج معاً؛ فبأكله الجراثيم اجتمع فيه الداء، وبحصول البكتريوفاج اجتمع فيه الشفاء).

إن المفهوم بصراحة من عبارة الدكتور هذه أن البكتريوفاج يوجد في جسم الذبابة، ولم يخص به عضواً دون آخر، ولما كان الجسم يشمل الجناحين، جاز أن يقال بأنه موجود في الجناحين أيضاً (ولا تنسى أن عبارة الحديث تخص بأحد الجناحين دون الآخر).

ويفهم أيضاً ضمنا من عبارة الدكتور أن البكتريوفاج يوجد في القناة الهضمية من الذبابة

ص: 10

لأنه قال بأنها تأكل مع الجراثيم المضرة أيضاً. وتتضمن عبارته أيضاً أن البكتريوفاج يوجد في رجلي الذبابة وفي يديها لأنه قال تقع في البراز.

ولاشك أن يديها ورجليها ترتطمان في البراز فتعلق بهما الجراثيم المضرة والبكتريوفاج معاً فمن هذه العبارة نفهم صراحة وضمنا أن البكتريوفاج يوجد في جسم الذبابة كله حتى الجناحين.

ولنا على هذا اعتراض، وهو أن الذبابة بوقوعها على البراز قد تلوثت به يدها ورجلاها، أي تلوثت بالجراثيم المضرة والبكتريوفاج معا، وأنها بأكلها البراز قد حصل البكتريوفاج في قناتها الهضمية أيضاً. ونتوسع أكثر من هذا فنقول إن البكتريوفاج يوجد في صدرها أيضاً وفي بطنها، لأنهما يلينان البراز الذي وقعت عليه، ولكن كيف تلوث جناحاها بالبراز فوجد فيهما البكتريوفاج وهما في القسم الأعلى من جسمها، لا مساس لهما بالبراز (سنذكر كلاماً للدكتور يكون جواباً لهذا ثم نجيب عليه) وقال أيضاً في الصفحة (53)(وبنقله (أي الذباب) الجراثيم والبكتريوفاج المهيأ في براز الناقهين مباشرة، اجتمع في الذباب الداء والشفاء). قال (فهذا هو معنى ما ورد في عجز الحديث الشريف (قال في أحد جناحيه داه وفي الآخر شفاء).

إن الدكتور يرمي الكلام على عواهنه رمياً، وإلا فكيف يكون هذا هو معنى ما ود في الحديث. لاشك أن الذباب بوقوعه على براز الناقهين وأخذه منه الجراثيم، يكون قد اجتمع فيه كلا النوعين من الجراثيم المضرة والنافعة بلا ريب. فاجتماع كلا النوعين في الذباب أي في جسمه لا مرية فيه، ولكن كيف يكون ذلك هو المعنى المقصود مما ورد في الحديث الذي يخص كل واحد من النوعين بواحد من الجناحين، ولولا وجود المضر في جناح والنافع آخر لبطلت حكمة الأمر بغمس الذباب في الشراب، إذ لاشك أن الأمر بالغمس مسبب عن وجود الشفاء في جناح واحد، وعن كون الذباب يتقى عند وقوعه بالجناح الذي فيه الداء، فالجناح الذي يتقى به ينغمس في الشراب ويبقى الجناح الذي فيه الشفاء خارجاً غير منغمس، فلذا أمر بخمس الجناح الثاني أو بغمس الذبابة كلها كما جاء في بعض الروايات، لكي ينغمس الجناح الآخر الذي فيه الشفاء، فيبطل حكم الداء.

ولو كانت الجراثيم النافعة موجودة في كلا الجناحين أو في جسم الذبابة كله لما أمر

ص: 11

بالغمس، بل كان الأمر بالغمس عبثاً لأن الذبابة بوقوعها في الشراب قد ارتطمت فيه أرجلها وأيديها وبطنها وصدرها وأحد جناحيها، وفي هذه الأعضاء يوجد النافع والضار كما يقول الدكتور. وقد حصل البكتريوفاج في الشراب وبطل حكم الجراثيم المضرة. أفليس من العبث بعد هذا أن نغمس الذبابة في الشراب؟ وخلاصة القول أن الحديث إن صح فإنما ورد لبيان أمرين لا ثالث لهما، أحدهما غمس الذباب عند وقوعه في الشراب؛ والثاني بيان سبب الغمس وحكمته. وعليه فالجدال بيننا وبين الدكتور ينحصر في نقطة واحدة هي الغمس لا غير. ولذا نقول إن كان الشفاء لا يوجد إلاّ في أحد الجناحين كما يقول الحديث أيضا كان الغمس واجباً، وكان الأمر به معقولاً ومقبولاً، لكي يتم دخول الشفاء في الشراب مع الداء. وإن كان الشفاء أو البكتريوفاج موجوداً في جسم الذبابة كله كما يقول الدكتور كان الغمس عبثاً وكان الأمر به غير معقول ولا مقبول، لأن الذبابة بوقوعها في الشراب قد انغمس فيه أكثر جسمها، ولم يبق منها إلا جناح واحد، وقد دخل منها في الشراب كلا النوعين النافع والمضر من الجراثيم فأي حاجة تبقى إلى الغمس؟

ثم أن الدكتور بعد ما فسر عجز الحديث على هذا الوجه وأخذ يتكلم عن صدره فقال: (وأما ما ورد في صدر الحديث الشريف: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه) فالغمس هو لأجل أن يدخل البكتريوفاج للشراب).

أما نحن فنقول: أما أن الغمس هو لأجل أن يدخل الشفاء والبكتريوفاج في الشراب فصحيح لا مرية ولكن ذلك لا يتجه إلا بأن يكون البكتريوفاج في أحد الجناحين دون الآخر كما بيناه آنفاً، وإلا لم تبق حاجة إلى الغمس لأن البكتريوفاج موجودة في ذراعي الذبابة وفي رجليها وقد انغمستا في الشراب، كما أنه موجود في الجناح الآخر (على ما يقول الدكتور) وقد انغمس في الشراب، ودخل البكتريوفاج فيه، فلماذا يأمر بالغمس والبكتريوفاج داخل قبل الغمس؟

وقال أيضاً في الصفة (53)(غالفن قد أثبت وجود البكتريوفاج في جسم الذبابة، سواء بحصوله من بلعها الجراثيم المرضية في أنبوبتها الهضمية أو بنقلها من براز الناقهين).

وقال أيضاً في الصفحة نفسها: (وحيث ورد في نص الحديث فليغمسه أي فليغمس الذبابة كلها فقد دخل في الغمس جسمها مع جناحيها. ولم يرد في الحديث غمس الجناحين فقط، مما

ص: 12

دل على أن الداء والشفاء في الجناحين أمر اعتيادي لا يفيد التخصيص، والأمر بغمسها يؤيد ذلك. وهو لأجل تطهير الشراب من الجراثيم بإدخال البكتريوفاج للشراب من جسم الذبابة).

هذه هي عبارته بعينها ومينها وقد جاءت بالأعاجيب فلننظر فيها بشيء من التحليل والتحميص ليظهر ما يرمي إليه الدكتور فيها.

يقول (قد دخل في الغمس جسمها مع جناحيها) فنقول: إذا وقعت الذبابة في الشراب، فقد انغمس فيه جسمها لا محالة، أما الجناحان فيجوز أن يكونا منغمسين أيضاً تبعاً للجسم، ويجوز أن يكونا غير منغمسين لرقتهما، ولكونهما من الفروع العليا في جسم الذبابة، وبناء على هذا كان ينبغي للدكتور أن يقول فقد دخل في الغمس جناحا الذبابة مع جسمها، ولكنه عكس العبارة لكي يجر الحديث إلى ما يريده هو. ولما كان من الجائز انغماس الجسم دون الجناحين، أو دون أحدهما ورد الأمر في الحديث بغمس الذبابة كلها لكي ينغمس جناحاها أيضاً مع جسمها. لا جسمها مع جناحيها كما يقول الدكتور، وهنا نعود فنقول إن حكمة الأمر بالغمس تبطل إذا كان الشفاء أو البكتريوفاج موجوداً في جسم الذبابة كله كما يقول الدكتور، لا في أحد جناحيها كما يقول الحديث.

ويقول في عبارته هذه أيضاً: (ولم يرد في الحديث غمس الجناحين فقط)، أي أراد غمس الجسم أيضاً مع الجناحين، هذا هو تفسير مراده من هذه العبارة، فنقول يا سبحان الله! إن عبارة الحديث بمنطوقها وبمفهومها تدل على أن جسم الذبابة عند وقوعها في الشراب يكون منغمساً فيه وكذلك أحد جناحيها فلذلك أمر بغمسها كلها لكي ينغمس الجناح الآخر الذي فيه الشفاء، وعليه كيف يريد غمس الجناحين فقط حتى يحتاج الدكتور إلى نفيه؟ وقال في الصفحة (53) ولو كان للأجنحة فقط خصوصية الداء والشفاء لأمر عليه الصلاة والسلام بغمسها وحدها).

البقية في العدد القادم

معروف الرصافي

ص: 13

‌الإسلام في أوربا الشرقية في أمسية الغزو المنغولي

(1016م - 1223م)

للأستاذ المؤرخ أرسلان يوهد انووكز

بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي

(يعرف التاريخ أن كثيراً من البوذيين أو المسيحيين قد اعتنقوا الدين الإسلامي، ولكن هذا التاريخ لا يعرف أن المسلمين قد اعتنقوا البوذية أو النصرانية).

الأستاذ و. بارتولد - جامعة بطرس برج

الذين يعنون بدراسة أوربا الشرقية يعرفون أن الدين الإسلامي قد بدأ يتغلغل في مملكة الخزر (وهي المنطقة الواقعة بين مصب نهر الفولجا والدون) من القرن الثامن الميلادي؛ وفي بداية القرن الحادي عشر أصبح له أتباع كثيرون، ولعله أصبح - وإن لم يكن صاحب النفوذ السياسي - الدين الذي يعتنقه أكبر عدد من الناس. ويعرفون أيضاً أن الإسلام في مملكة الفولجا البلغارية (جمهورية التتار السوفيتية في الوقت الحاضر)، قد أخذ ينتشر في نهاية القرن التاسع، وفي النصف الأول من القرن العاشر، حتى أصبح وطيد الأركان، شامخ البنيان.

وعلى ضوء ما تقدم، ويطيب لنا أن ندرس مصير الإسلام في هذين البلدين أثناء القرنين السابقين للغزو المنغولي، وذلك بين سنة 1016م، وهي السنة التي انهارت فيها مملكة الخزر بصورة نهائية، وسنة 1223م، وهي السنة التي ابتدأ بها الغزو المنغولي الأول.

والأمر على جانب عظيم من الخطورة؛ وذلك لأن أراضي هاتين المملكتين قد أصبحت المركز الرئيسي للدين والسياسة لحياة عصر هؤلاء البرابرة الذهبي؛ هذا القسم من الإمبراطورية المنغولية الذي أخضع لحكمه روسيا حتى نهاية القرن الخامس عشر، والذي غدا فيه الإسلام - في وقت قصير - الدين العام لهذه الإمبراطورية.

مصير الإسلام في المملكة البلغارية على الفولجا

لا توجد صعوبة تتعلق بمصير المملكة البلغارية على نهر الفولجا أثناء الفترة التي نتحدث

ص: 14

عنها؛ إذ بقيت هذه المملكة حتى الغزو المنغولي، والدين الإسلامي غير منتشر بين الطبقة الحاكمة من الأتراك والبلغاريين فحسب، وإنما بين القبائل الفينية التي يتألف من أفرادها السود الأعظم من السكان. وعلى الرغم من ذلك، فإننا لا نعرف بالضبط المستوى الذي وصلت إليه الثقافة الإسلامية بين بلغاري الفولجا في الفترة نفسها.

وغنى عن البيان أن نشير إلى أن تضعضع المملكة الكيفيانية التي كانت تقع إلى الشمال الشرقي من روسيا الحديثة، والتي كانت تعرف باسم سوزادلي في محاذاة المملكة البلغارية، قد جعل الأخيرة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، المركز الرئيسي للحياة الروسية السياسية. وفي بداية أمسية الغزو المنغولي، أخذت روسيا تمد سلطانها على حساب المملكة البلغارية، حتى استولت عام 1221م على مصب نهر أوكا (أحد الروافد الرئيسية لنهر الفولجا)، وفي السنة نفسها بينت مدينة نجنى نفجورد

وتنحصر المشكلة، تحت وطأة هذه الظروف، في تتبع مصير الإسلام في أوربا الشرقية، في أمسية الغزو المنغولي، في مملكة الخزر.

زالت مملكة الخزر من سجل الوجود عام 1016م، حين هاجمتها القوات البيزنطية والروسية المتحالفة، فهزمت تلك القوات مجتمعة، آخر ملوك الخزر، وتقع أسيراً في أيديها. ومصير الإسلام في أراضي مملكة الخزر السابقة، بعد سقوطها في أيدي أعدائها، لم يدرس الدراسة التي يستحقها، ولم يعن به أحد، كما أعرف، حتى اليوم.

ومرد ذلك إلى قلة المصادر، ليست المكتوبة منها فحسب، وإنما الآثار الإسلامية نفسها، فإنها مشوهة وقليلة جداً. ولكي نفهم هذا الأمر فهماً دقيقاً، علينا أن نذكر أن أراضي مملكة الخزر السابقة قد صارت مسرحاً لحروب دامية ومدمرة، كانت تمحو من الوجود مدناً بأسرها، وتتركها أنقاضاً، وتنشأ فوقها في كثير من الأحيان، مدن حديثة.

ومن المحقق أن هذه الأنقاض تؤلف مصدراً خصباً للآثار الإسلامية، وأن عمليات التنقيب، لأسباب لا يتسع المجال لذكرها، لم تتجاوز في أحسن أوقاتها، المراحل الأولى، وفي كثير من الأماكن المهمة لم نبدأ أبداً. ونذكر على سبيل المثال أن موقع عاصمة مملكة الخزر أتيل لما يكتشف.

ولما كانت المدن التي بناها هؤلاء البرابرة في عهدهم الذهبي، قد قامت على أنقاض مدن

ص: 15

مملكة الخزر التي هدموها، لذلك كثيراً ما كانت نتيجة التنقيب، لا تتجاوز الطبقات التي تتصل بعهد أولئك البرابرة الذهبي. أما الطبقات التي بحثها، والتي تقص حكاية مصير الإسلام في ثناياها، في الفترة التي نتحدث عنها (1016م - 1223م) قلما تصل إليها أيدي المنقبين.

غير أن النقص في هذه المقدمات التي تعين على الدراسة هذه المشكلة التاريخية، ينبغي أن لا يبقى عقبة تبرز إهمال هذه الدراسة. وعلى النقيض من ذلك يجب أن تحفز هذه الحقيقة رغبتنا، وتبعث فينا حب الكشف عن المجهول، وتدفعنا إلى التفتيش عن مصادر لم نفتش عنها قبل اليوم. ومن تحصيل الحاصل أن نقوم أنه ينبغي، بادئ ذي بدء، قبل الحصول على معلومات وافية عن طريق التنقيب، أن نلخص ما هو معروف من حقائق التاريخ، لنستطيع رؤية النتائج التي يمكن أن تنشأ عن مقدمات من هذا النوع. وهذا ما حفزني إلى محاولة الكشف عن هذه الحقائق الغامضة، التي ليس في استطاعتي قول الكلمة الفاصلة في شأنها، ولكن إذا قدر لي أن أوضح خطوط المشكلة الرئيسية بعض التوضيح، فقد يصيب محاولتي ما أرجوه لها من توفيق.

وسأستعين، بكل ما يتصل بالمصير السياسي لسكان مملكة الخزر السابقة، بنظرية المستشرق الروسي العظيم ف. جريجوريف الذي يعتقد أن أولئك السكان قد اندمجوا بالقبشاك وهم قوم رحل من دم تركي، تطلق عليهم المصادر الأوربية أسم كومانز والمصادر الروسية أسم بولوفرسيس ولسوء الحظ، لم يحاول البروفسور جريجوريف، كما أعرف، دعم آرائه بمصادر يمكن الرجوع إليها، ولذلك لا معنى لنا من إيضاح بعض الغموض الذي يكتنف هذا الموضوع.

أما مصير الإسلام في مملكة الخزر السابقة، فسأحاول أن أوضح أن خضوع هذه المملكة للقبشاك، قد تبعه اعتناق العناصر التي استقرت من بداوتها، عن هؤلاء الناس، الدين الإسلامي الحنيف.

وتحت هذه الظروف، فسأحاول تقسيم هذا المقال إلى قسمين:

(1)

اندماج الخزر في القبشاك. (2) اعتناق العناصر التي تحضرت من القبشاك الإسلام في مملكة الخزر السابقة.

ص: 16

1 -

اندماج الخزر في القبشاك:

نظر للدور المهم الذي مثله القبشاك في القسم الشرقي من أوربا، والقسم الغربي من آسيا، نرى قبل المضي في الحديث عن هذا القسم، أن نشير إشارة عابرة إلى أهميتهم السياسية في التاريخ.

إن القبشاك هم آخر الجماعات الرحل التي وصلت إلى أوربا من أواسط آسيا، قبل المنغول، بأعداد كبيرة جداً. وحين نتحدث عن أهميتهم السياسية يكفي أن نعرف أن هجرتهم قد شملت مساحات هائلة، امتدت من منابع الأرتشي في سيبريا عبر سهوب الكازاخستان إلى جنوب روسيا حتى مصب نهر الدانوب، وعلى الرغم من أن القبشاك لم يتمكنوا من تكوين وحدة اجتماعية، وعاشوا حتى الغزو المنغولي، قبائل متفرقة، بسبب عددهم الهائل، والمساحة المتسعة التي شملتها هجرتهم، إلا أنهم لعبوا دوراً عظيماً في تاريخ البلدان المجاورة، وبصورة خاصة في خوريزم، وجورجيا، وروسيا، وهنغاريا، وبيزنطيا. ومن الضروري أن نشير إلى أن مصر كانت تستمد مماليكها من منتصف القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر من هؤلاء القبشاك بصورة رئيسية؛ ذلك لأن تجار الرقيق من الإيطاليين، كانوا يجلبون من موانئ شبه جزيرة القرم، الرقيق من القبشاك، ويبيعونه بعد ذلك في ميناء الإسكندرية. وكما هو معروف في التاريخ، أن السلطان بيبرس (توفى سنة 1277م) أحد أعاظم المماليك كان من القبشاك، وأخيراً أصبح القبشاك يؤلفون الكثرة المطلقة من سكان عصر المغول الذهبي.

أما المستوى الثقافي لأولئك القبشاك فقد كان يتباين كثيراً؛ إذ كان يعتمد، إلى حد بعيد، على قدر اتصالهم بالبلدان المتمدينة من قريب أو من بعيد ومن المحقق أن أولئك الذين عاشوا مجاورين للخورزم، وعددهم كبير جداً، قد تأثروا بالإسلام تأثراً قوياً عميقاً. والسؤال الذي بقى يدور في خواطرنا في هذه المرحلة، أن نبين المصير الذيالإليه الخزر بعد سقوط دولتهم.

لقد اجتاح القبشاك أراضي مملكة الخزر السابقة، فتلاشى بالتدريج أسمهم من التاريخ، ولم يعد لهم إلا بعض الذكر في المدن. وقلما تمر بدراستنا بفترة تتصل بأراضي مملكة الخزر السابقة؛ ولا نجد ذكر القبشاك يملأها، وإلى جانبهم، بصورة محدودة ذكر الآلان وهم شعب

ص: 17

من أصل إيراني كونوا أقلية كان لها خطرها في مملكة الخزر السابقة. والذين لا يزال أحفادهم، حتى اليوم، يعيشون في شمال القفقاس ويعرفون بالأساتسة ولهذا السبب نجد أن رشيد الدين، مؤرخ إمبراطورية المنغول المشهور، حين يتحدث عن وصول المنغول في الهجرة الأولى، للإمبراطورية الشرقية عام 1223م يصف كيف أتوا من إيران عن طريق القسم الشرقي من القفقاس، واضطروا في الشمال إلى كسر شوكة المقاومة القبشاكية والألانية: ومن البديهي أنه لو بقى للخزر سلطان سياسي، للعبوا دوراً مهماً في مقاومة المنغول، ولكان لهم ذكر في تاريخ رشيد الدين. ونجد الحقيقة نفسها، في استيلاء المنغول بصورة نهائية على أراضي مملكة الخزر السابقة في ابتداء السنة الثلاثين في القرن الثاني عشر الميلادي، فلقد كان القبشاك الذين قاوموا المنغول والشعوب الأخرى لا ذكر لها، ومن بينهم الخزر.

والمصادر الفارسية تتحدث من جهة أخرى عن استيلاء القبشاك في شبه جزيرة كرش في أمسية الغزو المنغولي، والتي كانت تحت حكم الخزر.

ومن غير المعقول أن أمة قوية كالغستاف، يمكن أن تترك وراءها أمة محاربة كالخزر دون أن تخضعها أولاً.

وأحسب أننا في غير حاجة إلى الدخول في تفاصيل أخرى بعد ما تقدم لتؤكد أن القبشاك، قلعوا الخزر في المنطقة حتى مصب الفولجا، تلك المنطقة التي كانت المركز السياسي لدولة الخزر، التي ذابت فيهم بالتدريج، والتي ازدهر فيها الإسلام قبل وصول هؤلاء الغزاة الذين سارعوا لاعتناقه.

وسنحاول الآن تبيان أن اندماج الخزر بالقبشاك قد تبعه اعتناق العناصر التي استقرت من هؤلاء الغزاة، مبادئ الدين الإسلامي الحنيف بالتدريج.

2 -

اعتناق القبائل القبشاكية التي استقرت في مملكة الخزر الإسلام: -

يعتبر المستشرق الروسي العظيم ف. بارنولد الذي توفى عام 1930 حجة في سعة الاطلاع على مصادر التاريخ الإسلامي في مملكة الخزر السابقة. والذي أعرفه أنه لم يحاول مطلقاً، دراسة مصير الإسلام في هذه المملكة دراسة جدية، وكثيراً ما يجد الإنسان بعض الأحيان تناقضاً فيما كتبه عن هذا الموضوع ولكن ما ذكره بصورة عامة عن

ص: 18

جبروت الإسلام، وسحره، وما أسهب فيه من الدعاية لذلك الدين بين العناصر التركية، يسند إلى حد بعيد الرأي الذي بسطناه في هذا الموضوع عن اعتناق هؤلاء القبشاك الدين الإسلامي ولا يتناقض معه أبداً وقد رأيت أن أقتبس بالحرف الواحد ما ذكره المستشرق العظيم بارنولد عن هذا الموضوع:

قال بارنولد: (إن المعجزة العظيمة للإسلام، إذا ما قورن بالديانات الأخرى، تتركز في أن العالم الإسلامي كان في تلك الفترة، في مستوى رفيع من الطاقة الثقافية، والرخاء الاقتصادي بين الشعوب المتمدنة. وكان هؤلاء الرحل في حاجة مستمرة إلى البضائع المصنوعة في تلك الأقطار المتمدنة. وبصورة خاصة إلى الأقمشة. وكان الاتجار مع هؤلاء الرحل، في الوقت نفسه، عظيم النفع لتلك الشعوب المتحضرة. لكن هذه التجارة كانت ضرورية لهؤلاء الرحل الذين كانوا يطلبونها من الأقطار الغربية المتمدنة، ولما أصبحت البضائع التي يشترونها من البلدان الإسلامية من ضروريات حياتهم تأثروا بالإسلام، لا عن طريق الدين فحسب بل عن طريق الحضارة الرائعة التي كان يتسم بها ذلك الدين. ولم يكن أمامهم غير اعتناق الإسلام ليجعل صلاتهم الروحية والمادية متينة مع تلك البلدان والشعوب الإسلامية.

(ولقد أظهر الإسلام صفة أخرى يمتاز بها عن سائر الديانات المعروفة، أثناء الدعاية له بين الترك؛ ذلك أنه على الرغم من قلة عدد اتباعه بالقياس إلى الديانة البوذية والمسيحية، فإنه يمكن لنفسه في قلوب البشر كدين عام للإنسانية، بأوسع ما تحويه هذه الكلمة من معنى، لأنه لا يقصر نفسه على جماعة أو جنس من بني الإنسان. إن النجاح الذي صادفته الديانات الأخرى كان في بعض الأحيان أكثر مما وصل إليه الإسلام؛ غير أن ذلك النجاح لم يعمر طويلاً. فلقد عرف تاريخ الديانات فيما عرف الديانة المانيكية التي امتد ظلها فوق الأرض وكان لها أتباع ينتشرون من جنوب فرنسا إلى بلاد الصين، غير أن هذا الانتشار لم يكفل لها الحياة فذهبت إلى غير رجعة، ومحيت من سجل الوجود. والديانة البوذية ابتدأت بنشاط عالمي، وراحت تنتشر في بلاد الغرب محمولة على أجنحة دعاية قوية، ولكنها انكمشت على نفسها لتصبح ديانة البلدان الراقدة في شرق آسيا. وقبل انتشار الإسلام كان للنصرانية أتباع بين الترك أنفسهم؛ وفي الوقت الذي أوصدت الأبواب من منغوليا أمام

ص: 19

الدعاية الإسلامية، اعتنق الديانة المسيحية عدد كبير من الناس الذين كانوا يعيشون في الأجزاء الجنوبية والشرقية والغربية من هذه البلاد، غير أن هذا النجاح ليس لم يكن غير سحابة صيف. وفي الوقت الحاضر يبدو أن النصرانية هي ديانة العالم الأوربي؛ غير أن المسيحيين وراء حدود هذا العالم الأوربي، من الناحية العددية والسمو العقلي ليست لهم قيمة في الأمرين بالقياس إلى المسيحيين في أوربا. أما الإسلام فلقد أصبح عن طريق ما فيه من صدق، دين الشعوب المتمدنة في أوساط آسيا وشرقها، ويزيد عدد اتباعه وخاصة في الهند، وفي الأرخبيل الأندنوسي عن عددهم في غرب آسيا. ويؤلف المسلمون في الصين عنصراً مستقلاً بثقافته الدينية التي تقوم بالتعبير عنها لغتهم الأصلية دون الشعور بالحاجة إلى مساعدات خارجية، على حين أن محاولة الديانة المسيحية التمكين لنفسها في الصين قد باءت بفشل ذريع وخيبة مخجلة. وفي أفريقيا صادفت النصرانية نجاحاً ضئيلاً بالقياس إلى الدين الإسلامي وبين الأحباش، الشعب الأفريقي الوحيد الذي استطاعت الكنيسة أن تجد لها مكاناً فيه. امتدت الدعاية الإسلامية إلى المكان نفسه، وصادفت نجاحاً حتى في القسم الأخير من القرن التاسع عشر. وخلاصة القول أن التاريخ يعرف أن كثيراً من الشعوب البوذية أو المسيحية قد اعتنقت الإسلام، ولكنه لا يعرف أية جماعة إسلامية اعتنقت البوذية أو المسيحية).

للكلام صلة

علي محمد سرطاوي

ص: 20

‌من وحي التاريخ

عمر بن عبد العزيز

للأستاذ عبد الباسط محمد حسن

سأل الاسكندر حكيماً: من يصلح للملك؟ فقال له. . إما ملك حكيم أو ملك ملتمس للحكمة. . والحكمة في هذا المقام معناها الفلسفة. . وقد قرن هذا الحكيم السياسة بالفلسفة واعتبرها أداة من أدوات الحكم ووسيلة من وسائل العدل. . واشترط على الحاكم أن يكون فيلسوفاً أو ملتمساً للفلسفة ليعم الأمن وينتشر السلام وتستقيم الأمور وتصلح الأحوال، وكثيراً ما كتب الحكماء في نظم عامة ابتدعها أخيلتهم وزعموها توفر على الناس في هذه الدنيا اللذة والسعادة وتنفى عنهم الألم والشقاوة. فعل ذلك أفلاطون في الجمهورية والفارابي في أهل المدينة الفاضلة وتوماس مور في أو طوبيا كما فعله كثير غير هؤلاء ممن ترسم آثار أفلاطون ونسج على منواله. . ومن كتاب هذا العصر الذين تناولوا هذه الناحية كاتب اسمه (موروا) وله كتاب اسمه فن الحياة. . من فصول هذا الكتاب فصل في فن الحكم يتكلم فيه المؤلف عل أخلاق الرؤساء الذين يسوسون أمور الناس. والرئيس الكبير في نظره هو صاحب الخلق الكبير. . ومهما قال الحكماء أو تحدث الكتاب، ومهما اختلفت الآراء وتباينت وجهات النظر. . فإن السياسة تعتمد اعتماداً كبيراً على الأخلاق. . لأن السياسة التي خلق لها إنما هي سياسة لا تلبث أن تتلاشى كما يتلاشى الدخان في الفضاء وما نجحت سياسة بعض رجال العرب في الماضي إلا لأن أصحابها كانوا على خلق عظيم. . من بين هؤلاء الخليفة العربي المسلم عمر بن عبد العزيز الذي ألقت إليه المقادير بزمام الحكم بعد موت سليمان بن عبد الملك دون أن يكون له طمع في خلافة أو رغبة في حكم. . وقد نهج في حكمه نهج جده العظيم عمر الفاروق واحتذى مثاله وسار بالناس في طريق الخير حتى كان عهده من أحسن عهود التاريخ وأعظمها مكانة وأوفرها خيراً وبركة. . وستظل سيرة عمر بن عبد العزيز قصيدة شعرية رائعة يقرأها الناس في كل مكان وزمان ليتمتعوا بما فيها من روعة وجمال، وعظمة وجلال؛ فالأثر العميق الذي تركه عهد عمر في تاريخ الإسلام برغم أن مدة حكمه لم تزد على العامين يدل على أن الخليفة كان ذا صفات عالية. . دقيق الحسن في إدراك الحقائق الواقعة.

ص: 21

ولد عمر بن عبد العزيز بالمدينة سنة 61هـ. . وقيل سنة 63هـ ولا يغيب عن بال أحد أن المدينة كان لها أعظم الفضل في تاريخ الإسلام والمسلمين. . وبها كان أكثر التشريع الإسلامي؛ وكانت منبعاً لأكثر الأحداث التاريخية في صدر الإسلام؛ وبها حدث النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثه. وكانت مركز الخلافة في أهم عصر من عصور الإسلام أيام أبي بكر وعمر وعثمان وبها كان كثير من أكابر الصحابة قد شاهدوا ما فعل النبي وسمعوا ما قال وكانوا شركاء في بعض ما وقع من غزوات وفتوح؛ فهم يحدثون بما سمعوا وشاهدوا. . وكانت مكة والمدينة من أهم مراكز الحياة العلمية في ذلك العصر يقصدهما طلاب الحديث وطلاب التاريخ وقد فاقت المدينة مكة في ذلك؛ لأن أشهر من أسلم من أهل مكة هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وكان من يسلم بعد الهجرة من أهل مكة يهاجر كذلك خصوصاً إذا كان من رجالات قريش وعقلائها. . وكان طلبة العلم يبعثون إلى المدينة ويرسلون إليها لينهلوا من علومها ويغترفوا من آدابها ويأخذون عن علمائها. وقد نشأ عمر وشب وترعرع في هذه البيئة العلمية الزاكية. . ونثقف على أساتذتها وروى الحديث ونلقى الفقه عن جماعة من الصحابة - فشغف بالعلم وعلمائه وبالحديث ومحدثيه ونشأت بينه وبين وبينهم صلة طيبة وعلاقة قوية متينة حتى أنه كان يقول (لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إليَّ من الدنيا وما فيها) والمقصود بذلك هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المتوفى سنة 99هـ والذي يقول فيه أيضاً (ما رويت عن عبد الله بن عتبة أكثر مما رويت عن جميع الناس). كما كانت المدينة تزخرف تلك الحقبة بالحياة الأدبية فأخذ عمر بحظه من الثقافة الأدبية. وقد قال عن نفسه (لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلاماً من الغلمان ثم تاقت نفسي إلى العلم بالعربية والشعر فأصبت منه حاجتي). وقد أثرت هذه البيئة العلمية في تكوين شخصية عمر. . فحذق العلوم حتى صار فيها إماماً ضليعاً. . ولذلك يقول فيه ميمون بن مهران المتوفى سنة 117هـ (ما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلاميذ). . وهناك عامل آخر أثر في تكوين شخصية عمر، غير عامل البيئة. . ذلك هو عامل الوراثة. . فأبوه عبد العزيز بن مروان كان والياً على مصر وأقام بها عشرين عاماً منذ سنة 65هـ إلى أن مات سنة 85هـ وجده مروان بن الحكم الذي ولي الخلافة من سنة 64 - 65هـ. وأما نسبه لأمه فأمه ليلى أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن

ص: 22

الخطاب وقد ورث كثيراً من صفات عمر وأخلاقه كما كان يحاول التشبه بخاله. . ويروى أنه وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر لمكان أمه منه ثم يرجع إلى أمه فيقول. . يا أمه أنا أحب أن أكون مثل خالي)!

يقول فيه جرير عندما كان واليا على المدينة

إليك رحلت يا عمر بن ليلى

على ثقة أزورك واعتمادا

إلى الفاروق ينتسب ابن ليلى

ومروان الذي رفع العمادا

تزود مثل زاد أبيك فينا

فنعم الزاد زاد أبيك زادا

وأنت ابن الخضارم من قريش

هم نصروا النبوة والجهادا

وكان يقال له (أشج بني أمية) وكان قد رمحته دابة من دواب أبيه فشجته وهو غلام فدخل على أمه فضمته إليها وعذلت أباه ولامته؛ إذ لم يجعل معه حاضنا؛ فقال لها عبد العزيز (اسكتي يا أم عاصم فطوبى لك أن كان أشج بني أمية) وقيل كان ابن عمر يقول (يا ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلاً)؟

ولى المدينة سمة 87هـ. . ثم إن الخليفة الوليد بن عبد الملك ضم إليه بعد ذلك مكة والطائف فأصبح عمر بذلك أميراً على الحجاز كله. . وولى الخلافة سنة 99هـ إلى سنة 101هـ.

على أن عمر في عنفوان شبابه لم ينس نصيبه من حياة الترف في حدود الاستمتاع الحلال المشروع حتى إذا حمل أعباء الخلافة نفض يده من الدنيا جملة. . تقول كتب التاريخ في هذا الصدد (ذكروا أن عمر كان أعظم أموي ترفها. فلا يمر في طريق ولا يجلس في مكان إلا عرف برائحته. وكان يمشي مشية تسمى العمرية كان الجواري يتعلمنها من حسنها وتبختره فيها. وقد ترك كل شيء كان فيه لما استخلف غير مشيته فإنه لم يستطع تركها. . قال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر أعوده فإذا عليه قميص وسخ فقلت لامرأته فاطمة وكانت أخت مسلمة (اغسلوا ثياب أمير المسلمين، فقالت نفعل؛ ثم عدت فإذا القميص على حاله فقلت ألم آمركم أن تغسلوا قميصه؟ فقالت: والله ما له غيره!

كل هذا يصور لنا بجلاء أنه لم ينس نصيبه من الدنيا في شرخ صباه فلما أن أولى الخلافة خرج عن جميع ما كان فيه من النعيم في الملبس والمأكل والمتاع.

وناحية أخرى تميز بها عمر عن باقي خلفاء بني أمية. . فما إن تولى خلافة المسلمين حتى

ص: 23

جد في تنفيذ برنامجه الإصلاحي. . ولقد كان له من زهده ومناصرة العلماء له ومواتاة أهل بيته: زوجه فاطمة وابنه عبد الملك وأخيه سهل ومولاه مزاحم أقوى عون على ما أراد. . بدأ بمنصب الخلافة ممثلاً فيه فجرده من كل مظاهر الأبهة ورده إلى بساطته القديمة. . قم أنه أمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها. . فجعل لا يدع شيئاً مما كان في يد سليمان وفي يد أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة. . وكان يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة الفاطمة؛ وكان يكتفي باليسير فإذا عرف وجه مظلمة ردها عليه ولم يكلفه تحقيق البينة لما يعرف من ظلم الولاة قبله للناس. . فلما بلغت الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم اجتمعوا وقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل. يقول ابن الأثير: ولما رجع عمر من جنازة سليمان بن عبد الملك رآه مولى له مغتماً فسأله: فقال. ليس أحد من أمة محمد في شرق الأرض ولا غربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه من غير طلب منه. . وقالت فاطمة امرأته: دخلت عليه وهو في مصلاه ودموعه تجرى على لحيته فقلت أحدث شيء؟ فقال: إني تقلدت أمر أمة محمد فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري والمظلوم المقهور والغريب الأسير والشيخ الكبير وذوي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض فعلمت أني ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، فخشيت أن لا نثبت حجتي عند الخصومة فرحمت نفسي فبكيت. . وقال عبد الملك لأبيه عمر: يا أمير المؤمنين ما تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقا لم تحيه وباطلاً لم تمته؟ فقال يا بني: إن أجدادك قد دعوا الناس عن الحق. . فانتهت الأمور إلي وقد أقبل شرها وأدبر خيرها. . ولكن أليس حسناً وجميلاً أن لا تطلع الشمس علي في يوم إلا أحييت فيه حقاً وأمت فيه باطلاً إلا نفسه وأهله، فلم ير ولي قوم أعف عن ما لم منه، ولم ير أهل بيت أصبر على الطعام الخشن والثوب المرقوع والبيت المتهدم منه ومن أهل بيته. ولقد أراح عمر الناس ولكنه أتعب نفسه، فكان حركة دائمة يعمل ليل نهار حتى ذهبت نضرته واحترق جسمه. . توفى عمر بعد ذلك في رجب سنة إحدى ومائة، وكانت حياة قصيرة حافلة بجلائل الأعمال وعظائم الأمور. . ولما مرض قيل له لو تداويت! قال لو كان دوائي في مسح أدنى ما مسحتها. نعم المذهوب إليه ربي! قال ميمون بن مهران قال عمر بن عبد العزيز. . لما وضعت الوليد في حفرته نظرت فإذا وجهه قد أسود؛ فإذا مت ودفنت فاكشف عن وجهي.

ص: 24

ففعلت فرأيته أحسن مما كان أيام تنعمه. .

رحم الله عمر! ورحم فيه صفاته النبيلة التي ستظل ساطعة على جبين الدهر. . محفوظة في سجل الزمن.

رحم الله عمر. . ورحم فيه ورعه وتقواه. . وعدله وهداه. .

لقد عاش عمر. . ومات عمر. . ولكن أسمه سيظل حيا في مماته كما كان حيا في حياته.

عبد الباسط محمد حسن

ص: 25

‌تطور البديعيات في مدح الرسول

للأستاذ حامد حفني داود الجرجاوي

بقية ما نشر في العدد الماضي

وفي القرن الحادي عشر نرى (البديعيات تحتضن التراث الأدبي) وذلك حين أخذت تسلك دوراً خطيراً في حياة الدراسة الأدبية عامة وحياة البلاغة بصفة خاصة. وهنا نرى أن المدائح النبوية التي حملت مشعل علوم البلاغة وأسهمت في تطور فنون البديع وأخذت في صورة أخرى تحتضن آثار المدرسة الأدبية حتى أصبحت هذه المدائح صناعة المتأدبين وطريقة السالكين لمذاهب الشعر. ومن هنا صارت تلك المدائح موضوعاً للأدب ومحطاً للأدباء وميداناً فسيحاً لجولاتهم وطريقاً ممهداً لمنافساتهم في العصر التركي الذي ضاع فيه ثلثا التراث الأدبي. فكانت المدائح النبوية في القرن الحادي عشر أشبه تماماً بالقيم الذي حافظ على تراثنا الأدبي والحصن الذي وجد فيه الأدب العربي حمى لزماره وموئلاً لآثاره. كما قامت بدورها الخطير في المحافظة في الذوق الأدبي: حافظت عليه حين كانت اللغة العربية تترك، وحافظت عليه من التصنيع والتصنيع اللذين ظهرا في كثير من أغراض الشعر والنثر؛ حتى كادا يوديان يقيمهما الفنية ولا سيما في عصر ركدت فيه سوق الأدب وضعفت فيه عناية القوم بالفن والقريض. . . ولولا هذه المدائح النبوية لتفاقم الخطب في التراث الأدبي أكثر مما كان، ولما وصل إلينا من أدب ذلك العصر التركي إلا كل مرذول ممجوج.

ولقد عاون على تنافس القوم فيها وتفننهم في نظمها - إذ ذاك - زهدهم الشديد في التقرب إلى الحكام والأمراء الذين كانوا لا يحسنون فهم الشعر ولا يجيدون قيمة المديح أو يكافئون عليه بشيء، فأنقلب الشعراء يمدحون النبي الأعظم وقصروا مدحهم عليه فعالجوا ضروب البديعيات وضاعفوا اهتمامهم بتحبيرها وتذبيحها. ومن ثم كانت هذه المحاولة مظهراً من مظاهر نضوج البديع في ذلك العصر. فوضع شهاب الدين الحميدي المتوفى سنة 1005هـ بديعية (تلميح البديع بمدح الشفيع) في مائة وسبعة وعشرين بيتاً كما وضع أبو الوفا العرضي المتوفى سنة 1034هـ بديعية (الطراز البديع في مدح الشفيع) في مائة وثلاثة وثلاثين بيتاً.

ص: 26

ولما كانت للبديعيات أثرها الخطير ومكانتها الأدبية الملحوظة في المدرسة الأدبية كان من البديهي أن يتناولها القوم بالتعليق والشرح، فظهرت فكرة (شروح البديعيات) في القرن الثاني عشر، كما ظهرت فكرة التشطير والتربيع والتخميس والتسبيع وغير ذلك من أنواع التشطير. فوضع صدر الدين الحسيني (1120هـ) بديعية (أنوار البديع في أنواع البديع) في مائة وثمانية وأربعين بيتاً. وكان الناظم كلما وضع بيتاً من أبيات بديعيته أتبعه بما قاله السلف قبله مبتدئاً بصفي الدين.

وعلى هذا المنوال نسيج الشيخ عبد الغني النابلسي المتوفى سنة 1134هـ في بديعيته المسماة (نفحات الأزهار على نسمات الأسحار، في مدح النبي المختار (وهي بديعية طويلة تقع في مائة وخمسين بيتاً. كما وضع أخرى تقع في مائة وواحد وخمسين بيتاً تسمى (مليح البديع في مدح الشفيع).

وتلاهما قاسم البكره جي (1148هـ) في بديعية تقع في مائة وثلاثة وخمسين بيتاً تسمى (حلية العقد البديع في مدح النبي الشفيع)، وعلي بن محمد القلعي (1158هـ) في بديعيته المسماة (مفتاح الفرج في مدح عالي الدرج).

وفي القرن الثالث عشر ظهرت (بوادر التحول) والانتقال في حياة البديع، وقد كان للنشاط السياسي في مستهل ذلك القرن - وهو فجر النهضة - أثره القوي في الحياة الفكرية. . . فظهر جماعة من شعراء النهضة عالجوا البديعيات في دواوينهم علاجات تجلت فيها روح إنسان يحاول أن يميز بين يومه وأمسه. . . ونجح بعض الشعراء الذين آمنوا بما كان يخالجهم من ضرورة إلى التجديد، منهم محمود صفوت الساعاتي (1298هـ) إذ نظم بديعيته سنة 1275هـ في مائة واثنين وأربعين بيتاً معارضاً بها بديعية ابن حجة الحموي، وعنى بشرحها المرحوم عبد الله باشا فكري ناظر المعارف العمومية في ذلك الوقت.

وفي أوائل القرن الرابع عشر تبلبلت ألسنة المتأدبين بين (التقليد والتحرر) بين المذهب التقليدي الذي ورثوه ومذهب التحرر الذي نودي به في عصر النهضة.

فمن البديعيين جماعة غلبت على أنفسهم الروح التقليدية فنظموا البديعيات على الطريقة التي نظم عليها من سبقوهم وذكوا كل ما وصل إليه توليد القدماء والمتأخرين والمحدثين من فنون البديع. ومن هؤلاء محمد أمين العمري المتوفى سنة 1311هـ ومحمد بدر الدين

ص: 27

الرافعي المتوفى سنة 1312هـ. وقد انتهى تطور البديعيات عند هذا الأخير فبلغ مجموع ما أورده من فنون البديع مائتين وستة ذكرها في مثلها من الأبيات.

ومنهم من تخلص من ريقة التقليد ومضى في ركاب المتحررين، فظهرت آثار التجديد فيما نظمه من بديعيات، ومن هؤلاء حسن حسني الطويراني التركي (1315هـ) وطه الجزائري (3141هـ) وأمير الشعراء أحمد شوقي بك المصري (1351هـ).

وقد كان طريق هؤلاء الشعراء وعراً محاطاً بالصعاب؛ ذلك لأن التحرر من التقليد الموروث لم يكن بالشيء اليسير في الحياة الأدبية، فيصعب على النفس زواله سريعاً. لذلك كان علاجه أمراً صعباً، وكان شأن المتحررين شأن من يسلك طريقاً لا يعرف كنهه أو يحيط بمعالمه، فهو يهتدي تارة ويضل أخرى. ولعلك حين تقرأ قصيدة (نهج البردة) لشوقي بك - وهو آخر هؤلاء المتحررين - تلمس عن كثب مبلغ ما وصل إليه شعراء النهضة من تبلبل بين (المذهب التقليدي القديم) و (المذهب التحرري الحديث). ولعلك وقد أوتيت حظاً من نفاذ الفكر وبسطة من الذوق تلمس - وأنت تقرأ قصيدة نهج البردة - معالم ما وصلت إليه البديعيات من تطور، نلمس كل ذلك من ثنايا هذه القصيدة:

(1)

فهو حين يلتزم بحر البسيط وقافية الميم - وهما قدر مشترك في سائر البديعيات - ترى فيه شخصية المقلد الذي لم يستطع أن يتخلص من ربقة التقليد.

(2)

وهو حين يرسل الفنون البديعية بغير قصد ملموس أو تكلف ممقوت يستند عليه في إيرادها ويزمع فيه إلى سردها - تلمس فيه شخصية المتحرر الصادق في تحرره.

هكذا كان ناظمو البديعيات في القرن الرابع عشر، كانوا يسيرون على قدمين من التقليد والتحرر. وقد يبدو لك في ذلك بعض التناقض وليس من التناقض في شئ. وإنما هو مرحلة التطور والانتقال إلى الحديث. كان لا بد للبديعيات من أن تمر بها في عصرنا هذا، حين تم فيه امتزاج العنصر القديم بالعنصر الحديث. فلم يستطع الناظمون بعد أن يتخلصوا من القديم كله، كما لم يستطيعوا أن ينهضوا بكل ما ينبغي عليهم من تحرر. لذلك بقيت معالم التقليد في بحر البسيط وقافيه الميم كما هي - وهي الحدود التي لم يستطع أحد من الشعراء أن يخرج عنها - وظهرت معالم التحرر في طريقة العرض والاختيار وعدم التقليد بسرد معينة من البديع.

ص: 28

وقد أدراك المويلحي شيئاً من هذا الذي حيث قال: (ولقد وفق بحمد الله شاعرنا أحمد شوقي إلى سلوك هذا السبيل في شعره فلم يقتصر على قرض القريض فيما يجري عليه الأحوال في عصرنا الحاضر بل سار على نهج المتقدمين وانتحى مناحيهم في فنون الشعر واقتدى بهم هذه في هذه القصيدة بما يسمونه بالبديعيات في مدح رسول الله عليه وسلم.

وبعد فهذه مراحل تطور البديعيات النبوية التي تحدعت عن نشأتها في العام الماضي أوضحت لك فيها ما أفدناه من تطور فنون البديع حتى أصبحت مائتين وستة من الفنون. ولكننا لم نجد بعد أمير الشعراء شاعراً آخر يعود بنا إلى هذا التقليد الكريم في شعره. وإنا لمنتظرون ما يعز بعد ذلك من تطور.

حامد حفني داود الجرجاوي

ص: 29

‌11 - الثورة المصرية 1919

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

من 15 - 29 ديسمبر 1951:

لا تزال معركة التحرير على أشدها الحرب سجالاً بين المصريين والإنجليز، وقد أقضت أعمال الفدائيين الباسلة مضاجع الإنجليز، وأصبحت قواتهم خائفة تترقب الموت في كل حين وفي كل لحظة.

وفي 18 ديسمبر 1951 اجتمع محمد صلاح الدين باشا وزير خارجية مصر بمستر إيدن وزير خارجية بريطانيا في باريس لحل المسألة المصرية ولكن الاجتماع لم يسفر عن أي نجاح. وقد طلب إيدن إلى صلاح الدين باشا أن تتخذ الحكومة المصرية فوراً إجراءات لوقف حوادث القتال وتهيئة الجد للدخول في مفاوضات، فأجابه وزير الخارجية المصرية قائلاً إن جلاء القوات الإنجليزية هو الأجراء الوحيد الذي يكفل الهدوء والسلام في منطقة القنال والطريقة الوحيدة لتحسين العلاقات بين البلدان.

وسأل إيدن صلاح الدين باشا: هل لدى الحكومة المصرية مقترحات جديدة، فقال له وزير المصري (إن مطالب مصر تتركز في الجلاء الشامل الناجز ووحدة وادي النيل تحت التاج المصري) وأعلن أنه (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء).

ولم يوافق إيدن صلاح الدين وهكذا فشل الاجتماع وعاد إيدن أدراجه إلى لندن.

وقد واصل الإنجليز عدوانهم في منطقة القنال، وقد واصلت قوات الفدائيين نضالها ضدهم فنسفوا قطاراً حربياً بريطانيا قرب السويس وآخر عند أبي سلطان وقد دمروا الخط الحديدي من ميناء الأدبية إلى معسكرات أكثر من مرة وكذلك نسفوا أنابيب المياه في كفر عبده وهي التي خرب الإنجليز هذا الحي من أجلها.

أسوأ عيد ميلاد

أقبل عيد الميلاد عبد السلام كما هو مفروض، ولكنه أقبل في هذا العام على الجنود الإنجليز في منطقة القتال وهم يقتلون ويقتلون. وقد أفزع نشاط الفدائيين المصريين الإنجليز مما أضطر قائدهم أرسكين إلى أن يذيع على القوات البريطانية نداء بمناسبة عيد

ص: 30

الميلاد استحثهم فيه ألا يشغلهم العيد عن مباشرة أعمالهم والقيام بما يضطلعون به من أعباء والمحافظة على سمعة بريطانيا (؟؟) والحذر من أعمال الفدائيين.

وجاء في النداء أن بريطانيا نجتاز الآن أزمة عصيبة غير أنها ترجو أن تمر بسلام وأن تصل إلى حل سليم لتسوية الخلافات بين الحكومتين المصرية والبريطانية.

وجاء عيد الميلاد فكان أسود عيد في حياة الجند الإنجليز في منطقة القنال، فقد اشتد نشاط الفدائيين في جميع أنحاء تلك المنطقة ونسفوا محطة الكهرباء في الفردان وأنابيب المياه في البلاح وقطعوا خطوط التليفون في أكثر من موضع وهاجموا الإنجليز في أكثر من مكان. وهكذا كان عيد السلام في هذا العام أسوأ عيد على المغتصبين البريطانيين.

كلم اللسان:

في يوم 13 ديسمبر 1951 استقبل معالي عبد الفتاح حسن باشا وزير الشئون الاجتماعية سعادة عبد السلام الشاذلي باشا وجرت بينهما مناقشة حول استيلاء الحكومة على نادي الجزيرة ودافع الوزير عن وجهة نظر الحكومة.

قال عبد السلام باشا للوزير: كان يجب عليك أن ترجع لوزراء الشئون السابقين لتستشيرهم قبل أن تقدم مثل هذا الاقتراح فإننا نعرف هذا النادي (الإنجليزي) ويظهر أنك لا تعرفه ولعلك لم تزره.

فقال عبد الفتاح باشا: لقد استشرت ضميري وراعيت في الاقتراح ما يقتضيه صالح بلادي دون أي اعتبار.

واحتدت المنافسة وقال الشاذلي باشا: إن قرار مجلس الوزراء بتخصيص أراضي نادي الجزيرة للمنفعة العامة هو جريمة.

وهكذا سقط الرجل: ورد عبد الفتاح باشا على الشاذلي باشا قائلاً: (أنا لا أسمح لك بهذا الكلام فإن إلغاء ناد إنجليزي ليس الجريمة وإنما الجريمة ما ترتكبه أنت الآن من دفاع عن هذا النادي الإنجليزي).

دولة جديدة:

في الساعة العاشرة والنصف من صباح 24 ديسمبر 1951 أعلن استقلال ليبيا واعتلاء

ص: 31

الملك إدريس السنوسي عرش الدولة الاتحادية الجديدة التي تتألف من برقة وطرابلس وفزان.

ونحن نهنئ الدولة الجديدة باستقلالها ونهنئ العالم الإسلامي بها، ونرجو أن نتمكن في القريب العاجل من تحطيم قيود استقلالها والانضمام إلى الكتلة الإسلامية الحرة لأن هذه الكتلة هي التي ستبعث الأمن والسلام إلى هذا العالم المضطرب.

26 ديسمبر

قام الفدائيين بأعنف هجوم على المعسكرات البريطانية، فدمروا شبكة الخطوط البريطانية بلغم زنته 72 كيلو جراماً ونسفوا أنابيب محطة المياه والطريق الحربي الممتد من ميناء الأدبية إلى معسكرات. وقد انتابت أرسكين موجات من الفزع والهلع فهدد بحشد جميع القوات التي تحت إمرته لسحق كتائب الفدائيين في القنال.

وقد شاهدت القاهرة والإسكندرية مظاهرات قام بها الطلبة واستخدم البوليس في قمعها الرش والقنابل المسيلة للدموع وأغلقت الجامعات الثلاث والمدارس الثانوية.

وقبل أن أختم كلمتي هذه عن معركة التحرير الحالية أحب أن أقول لمواطني: احذروا الفرقة والانقسام فإن عدونا يتربص بنا، وما دامت كلمتنا متحدة متفقة فسيضطر العدو إلى الاستجابة لمطالبنا. أما إن تفرقنا فستذهب ريحنا ونضيع جهودنا. والله أسأل أن يوفقنا إلى ما فيه خير بلادنا.

أبريل 9191

في 7 أبريل أعلن المندوب السامي الإفراج عن سعد وصحبه فامتلأت قلوب المصريين فرحاً وعمتهم الغبطة وقامت المظاهرات في القاهرة والأقاليم تعلن ابتهاج مصر وفرحها. واشترك في هذه المظاهرات ألوف من المصريين من جميع الطبقات؛ وكانت دار سعد وجهة الجميع.

وقد شارك النشالون الأمة في شعورها فأعلنوا تأمينا للناس على جيوبهم امتناعهم عن العمل ثلاثة أيام سويا!!

وقد قامت في 8 إبريل مظاهرة كبرى اشترك فيها العلماء والقسس والطلبة والضباط

ص: 32

المصريون وأعضاء الجمعية التشريعية ومشايخ العربان والتجار والأعيان والقضاة والأطباء والموظفون والعمال، وكان يعقب مواكب هذه الطوائف مركبات تحمل سيدات من أرقى العائلات.

ولكن الإنجليز لم يتركوا الأمة في فرحها بل تحرش الجند بالمتظاهرين وأطلقوا عليهم الرصاص فسقط منهم أربعة شهداء.

وقد أعترف المندوب السامي بخروج الإنجليز عن حدهم وأعلن أسفه لما حدث منهم.

وفي 9 إبريل أقيم احتفالاً عظيم بتشييع جنازات الشهداء اشترك فيه ألوف من جميع الطبقات وكان هتافهم (لتحيى ضحايا الحرية).

واستمر عدوان الإنجليز قائماً وكان لهم في كل يوم ضحايا وشهداء.

وزارة رشدي باشا

ظلت مصر وزارة منذ ديسمبر 1918 وفي 9 إبريل 1919 شكلت وزارة رشدي باشا الثانية واشترك فيها عدلي يكن باشا وعبد الخالق ثروت باشا ويوسف وهبه باشا.

وقد طلب ضباط البوليس والجيش المصري أن يعهد إليهم بالمحافظة على الأمن والنظام ولكن لم يلب الطلب.

تأليف الوفد الرسمي

في 10 إبريل اعتز الوفد ماليا إذ تبرع له بدراوي عاشور باشا بمبلغ عشرة آلاف جنيه والأمير يوسف كمال بألفين وانهالت عليه التبرعات من جميع الطبقات والطوائف وجمعت له الأموال الطائلة.

وفي 11 إبريل تألف الوفد الرسمي من: سعد زغلول. علي شعراوي. إسماعيل صدقي. حمد الباسل. محمد محمود. عبد العزيز فهمي. أحمد لطفي السيد. مصطفى النحاس. حافظ عفيفي. حسين واصف. محمود أبو النصر. محمد عبد الخالق مدكور.

وفي 11 إبريل سافر باقي أعضاء الوفد وهم الذين كانوا بمصر إلى باريس لينضموا إلى سعد وزملائه الذين كانوا في المنفى، ومرة أخرى خرجت مصر بأسرها لتودع أبناءها المسافرين للدفاع عن قضيتها، نعم خرجت مصر لتعبر عن شعورها وعن آمالها فكان

ص: 33

أروع توديع.

وفي 12 إبريل ألفت اللجنة المركزية للوفد بمصر، وكان لهذه اللجنة شأنها وخطرها فقد تولت قيادة الثورة بمصر وكانت تمد أعضاء الوفد بباريس بما يحتاجونه إليه من معلومات.

استمر الإنجليز في طغيانهم ومن أمثلة ذلك ما حدث في صفط الملوك بمديرية البحيرة في مساء 12 إبريل. وكانت دورية بريطانية تمر بالقرية فزعمت أنها سمعت طلقاً نارياً أطلق عليها. وكان رد الإنجليز محاصرة القرية وإخراج جميع رجالها ثم اقتادوهم تحت جنح الظلام إلى المحطة. وهناك جردوا من ملابسهم إلا ما يستر العورة وأخذوا واحداً بعد الآخر إلى كشك المحطة. كان الواحد يؤمر بإدخال رأسه في شباك صرف التذاكر، ويقبض بعض الجند على رأس الرجل من الداخل بينما يلهب آخرون ظهر الرجل بالكرباج من الخارج.

وفي قنا ألقى قائد الجيش أمراً يقضي بإلزام جميع المصريين بتحية كل ضابط بريطاني يمر بالشوارع وقوفاً والتسليم عليه سلاماً عسكرياً، ولكن رفض القضاء وأعضاء النيابة الأمر وأبلغوا العدل أنهم سيلزمون منازلهم حتى لا يؤدوا مثل هذه التحية إلى الضباط الإنجليز. وقد كان موقفهم مدعاة لإلغاء هذا الأمر.

وفي 10 إبريل شكل الموظفون لجنة للنظر في الموقف وقررت الإضراب حتى تجاب المطالب الآتية:

1: أن تصرح الوزارة بصفة الوفد الرسمية.

2: أن تشكيل الوزارة لا يفيد الاعتراف بالحماية.

3: إلغاء الأحكام العرفية وسحب الجنود الإنجليز من الشارع، وقد قبلت الحكومة أكثر الطلبات ولكن المندوب السامي لم يوافق.

ولما لم تجب المطالب الموظفون، وقد حاول رشدي باشا تسكين ثائرة الأمة فأصدر منشوراً يدعوها إلى الهدوء والسكينة ويطلب إلى الموظفين العودة إلى أعمالهم حتى تسير دفة الحكم.

ولكن المنشور لم يشر بتاتاً إلى مطالب الأمة ولذلك لم ينفذه الموظفون وواصلوا إضرابهم. وقد هددهم رشدي باشا في منشور آخر بتاريخ 15 إبريل ولكنهم لم يأبهوا لتهديده.

وقد ادعت الصحف الأجنبية أن هذه الحركة تقوم بها قلة من المصريين هم طائفة

ص: 34

الموظفين وكان الرد على ذلك اجتماع أكثر من 80 ألفاً من جميع طبقات الأمة في الأزهر برياسة الشيخ الأكبر محمد بخيت وفيه تقررت مشاركة جميع الطوائف للموظفين في الامتناع عن العمل حتى تجاب المطالب.

وقد أضربت جميع الطوائف في اليوم التالي فأصبحت المدينة وكأن ليس بها أحد. وقد اشترك الكناسون في الإضراب فامتلأت القاهرة بالقاذورات.

وقد قرر الطلبة تأليف بوليس وطني ولكن الحكومة قررت منعه، وكانت لجنة الوفد المركزية تواصل أعمالها بهمة ونشاط وتجمع التبرعات التي أقبل الناس عليها إقبالاً عظيماً ولكن هذا العمل لم يرق في عين الإنجليز فأصدر المندوب السامي أمراً حظر فيه جميع هذه التبرعات.

وفي 20 إبريل جاء عيد الفصح فتجلت الوحدة المصرية قوية رائعة فقد توجه المسلمون إلى دور إخوانهم الأقباط مهنئين بالعيد ورد الأقباط الزيارة لإخوانهم في المساجد.

ولم تستطع وزارة رشدي تسير دفة الأمور في مصر وظلت الأحوال مضطربة والأمة ثائرة. واضطر رشدي باشا إزاء ذلك إلى الاستقالة 21 إبريل.

وكان عمر وزارته تلك اثني عشر يوماً.

أبو الفتوح عطيفة

ص: 35

‌رسالة الشعر

من وحي النار والدخان

للأستاذ علي الصياد

أشعلوها جنهما تسحق العا

دي وتصليه في لظاها النارا

أشعلوها وحطموا صنم الظلم

وعيشوا في أرضكم أحرارا

واغسلوا بالدماء أرض الفراعين

من العار وامتطوا الأخطارا

إنما انتموا زبانية الحق

فمن رامكم يلاقي الدمارا

يا ذئاب التاميز إنا أباة

قد صحونا نبيد الاستعمارا

وشينا على جناح المنايا

وبليل الخطوب صرنا نهارا

مصر حواؤنا الرءوم فمن

يرضى لحوائه الأذى والعارا

نحن في حومة الكفاح سمير

يتحدى المستعمر الغدارا

كل قلب دماؤه ثورة

ألهما الله بطشه القهارا

حسبنا أننا إذا ما طغى

الأعداء أمامهم أقدارا

يا خفافيش الغرب مهلا ففجر

النيل أضحى يفجر الأنوارا

إنه فجرنا الطليق أبى قيد

الليالي فشع يطوي الإسارا

ومضى في الوجود يجتاح آفاق

الدياجي مظفرا جبارا

أينما طرتمو رأيتم له بين

الورى برقا يخطف الأبصارا

أيها المستبد في أوطان

مصر مهما طغيت للسودان

وحده الله بيننا وسقانا

سلسل الود والهوى والحنان

وعلى قمة الزمان بني

أوج علانا موطد الأركان

وإذا شيد الإله بناء

عجزت دونه قوى الإنسان

أيُها المستبد نحن لدات

لم نحل بيننا يد الحدثان

سائل المشرقين عنا فأنا

أمة لن تلين للطغيان

جدفت بالأرواح في لجج الموت وصارت مجنونة الأيمان

تتخطى اللجات باطشة بطش المقادير بين عصف الهون

ص: 36

هما في مجازر الدم أن تقتات بالخلد في حمى الرحمن

هذه ثورة القنال أَذاقتك المآسي كئيبة الألوان

قد مشينا فيها على النار نختال وكنا كالماء في النيران

وعلى صفحة الزمان رسمنا

باللهيب الفخار رغم الزمان

كيف ننسى الطفل النبيل الذي جن فأسقاك علقم الخسران

حين شق الدجى وبين يديه آماله العذب الحسان

إن يكن مات فهو بين سموات العلا خالد خلود المعاني

إنما مصر جنة العلياء

قد سقاها الأسلاف أغلى الدماء

فْما المجد في رباها وريفا

تتشهى مداه شهب السماء

وعلى أرضها الندية أدواح المعالي فواحة الأشذاء

نحن رعيانها العماليق لن نرشف النوم في جناز الضياء

سنبيع الأرواح بالذود عنه

ونرويها من دم الشهداء

أنت يا مصر في دجى محراب نصلي صلاة الفداء

نشتري بالفناء في ساحة الحرب خلود الخلود في كبرياء

النهايات في الفخار بدايات

لنا في معارك الهيجاء

والبطولات كلها في دمانا

عزمات مسعرات المضاء

كيف نخشى العدا ونحن قوى الحق وما الحق غير سيف القضاء

قوة الحق قوة الله في الأرض قبشر أعدانا بالفناء

شعراء الكفاح يا أمل النيل ويا مشرق المنى والرجاء

أطلقوا في الوغى شياطينكم تلهب بالشعر أنفس البسلاء

إن ما في بلادكم من جحيم الجور يذكي مصاهر الشعراء

رب جيش يقوده شاعر يبنى صروح العلا على الأشلاء

علي الصياد

من ليبيا إلى مصر

ص: 37

لشاعر ليبيا الأستاذ أحمد رفيق المهدوي

يا مصر هذا أوان المجد فاتحدى

وجاهدي في سبيل واجتهدي

يا مصر ما ظهر الإسلام منتصرا

إلا بما كان في بدر وفي أحد

الحق بنصره صبر وتضحية

لا خوف من قلة الأعداد والعدد

والله لو صدقت في الذود عزمتكم

لما افتقرتم إلى عون ولا مدد

إن صح عزمكم فالكون يقهره

فرد، ولم يعتمد يوما على أحد

أما لكم أسوة في نهج قائدكم

(محمد) حينما جاءوه بالفند

إذ قال للقوم لا والله لو هلكت

في مطلب الحق روحي عنه لم أحد

وليس عنكم بخاف إن ذكرت لكم

(عندي) وتصميمه تصميم معتقد

وعندكم بين أيديكم (مصدق) إذ

امضى إرادته في جرأة الأسد

ولست أحتاج للأمثال أضربها

فإنكم فوق من يدعى إلى رشد

أنتم بنو العرب الأمجاد ينصركم

بنو الفراعين فاشتدوا يدا بيد

أنتم بنو مصر والسودان ضمكما

جسم وأنتم له كالقلب والكبد

ذودوا عن النيل ولتجر (القناة) دما

كالسيل يدفع بالغثاء والزبد

(لكم عزائم رأي لو رميت بها

عند الهياج نجوم الليل لم تقد)

يا أهل مصر وأنتم أهلنا ولنا

عن القرابة ما للأم والولد

نحن الفداء لكم، والله يشهد ما

بتنا بما نابكم إلا على كمد

وحبنا مصر كالإيمان موضعه

من القلوب مكان النبض والورد

قلب العروبة يشكو ما ألم به

فكيف لا يتأذى سائر الجسد

عار على دول في الشرق يجمعها

دين، وتشقى برأي غير متحد

أما كفى ما لقينا من تخاذلنا

أمام شرذمة من سفلة فسد

ألم تعظنا فلسطين التي ذهبت

ضحية الخلف والتسويف واللدد

ألم نزل من خداع (الحيزبون) على

جهل نؤمل في إنصافها لغد

عدوة الشرق والإسلام ما فتئت

تفت بالدس والتفريق في العضد

ص: 38

كم من مفاوضة أفضت إلى فشل

وكم معاهدة خابت ولم تفد

ما خلفهم غير خلف للوعود ولا

ميثاقهم غير نفث الغش في العقد

لا تؤمنوا بدفاع قيل مشترك

فإنه شرك (من ينخدع يصد)

يا أمة الشرق إن الغرب ليس له

هم سوى وضعنا بالقهر في رمد

وما لنا عندهم في (الكتلتين) سوى

شر على أيد الأيام مطرد

شر (الشيوعية) الحمراء إن حكمت

كشر حكم (الديمقراطية) النكد

مذاهب محدثات كلها بدع

فيها من الضعف أهداف لمنتقد

كل المذاهب (والإسلام يكسفها)

لم تخل نظرتها لنا منهم من رمد

فما لنا من صديق غير أنفسنا

ولا اعتماد لنا منهم على أحد

ولا معاهدة إلا إذا كتبت

بنودها بمداد الصارم الفرد

فأرثوها عن الباغي مسعرة

بكل أروع في ساح الوغى تجد

كنانة الله من أشبالها نثلت

سهما أصاب عدو الله في الكبد

تقوضت دولة المستعمرين وقد

(أخنى عليها الذي أخنى على ليد)

قد صورت أسدا رمزا لسطويتها

فعاد رمزا على جدي من النقد

فلا يهولنكم من شحمه ورم

(فإنه الهر يحكي صولة الأسد)

الشك في النصر كفر سوف يتبعه

يأس هو الموت من جبن إلى الأبد

لاشك في النصر إن صح التآزر من

شعب على الحق بعد الله معتمد

بنغازي - ليبيا

أحمد رفيق المهدوي

ص: 39

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

حول اللغة الأجنبية الأولى:

أجبت الأستاذ اليماني أحمد السكري الذي سألني في العدد الأسبق من (الرسالة) عن قرار معالي الدكتور طه حسين باشا الخاص بتعليم اللغات الأجنبية في المدارس المصرية والذي ينص على أن تختار اللغة الأولى من اثنين: الفرنسية والإنجليزية: هل يكفل للشعب الحرية المطلقة في اختيار اللغة الأجنبية الأولى التي يريد أن يتعلمها؟. . أجبت عن ذلك بأننا نجني من هذا القرار زحزحة اللغة الإنجليزية عن مكانها الذي اتخذته لدينا بقوة أهلها الاستعمارية، وهذا كسب كبير لأنه تحرر من أثر استعماري من هذه الآثار التي يكافح الشعب في هذه الآونة للتخلص منها.

ولم يخف على أن السؤال يلف في طياته أمراً آخر أو سؤالاً آخر وجه إلى فعلا من آخرين، وهو لماذا قصر اختيار اللغة الأجنبية الأولى على الفرنسية والإنجليزية ولم يشمل اللغتين الأخريين اللتين تقرر تعليمهما وهما الألمانية والإيطالية؟

ويراعي إلى جانب ذلك أن رأي معالي الدكتور طه حسين باشا في تعليم اللغات الأجنبية يتلخص في عدم التقيد بلغة أو لغتين ووجوب التنويع في ذلك بين المثقفين لتستمد ثقافتنا العربية الحديثة من المنابع المختلفة، وقد بسط ذلك في كتابه (مستقبل الثقافة).

إذن لماذا قصر معاليه أمر اختيار اللغة الأجنبية الأولى على لغتين فقط؟

الجواب عن ذلك أن وزارة المعارف ليس لديها الآن مدرسون مصريون تستطيع أن تواجه بهم الحاجة إلى تدريس الألمانية أو الإيطالية أو غيرهما من اللغات الجديدة على التعليم المصري إذا ما اتخذت لغة أصلية، فلابد من التدرج ومراعاة الإمكان حتى بلغ الأمر الذي تتوافر وسائله.

وقد أعد معالي الوزير للأمر عدته فبعث مشروع (مدرسة الألسن) الذي يهدف إلى إعداد مدرسين مصريين لتدريس اللغات الأجنبية، وقد افتتحت المدرسة فعلا هذا العام وبدأت تستقبل الطلبة الذين تقدموا إليها من قسم اللغة الإنجليزية وقسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب. وعندما يوجد طلبة يعرفون لغات أخرى تفتح لهم المدرسة أبواب التعليم فيها، حتى تستكمل

ص: 40

ما يهيئها لتأدية رسالتها على الوجه الأكمل.

فالوزير يبدأ بإنشاء مجالات جديدة، ويعمل على سد نقص ناشئ من التقصير في الماضي. ولاشك أن الغايات تحتاج إلى وسائل لابد من توافرها. ولو أخذ برأيه من وقت أن نادى به لأصبح لدينا الآن متعلمون يعرفون مختلف اللغات الحية ولأمكن الآن مواجهة التوسع المطلوب وإتاحة الحرية الكاملة المنشودة.

رسالة الشعر في الكفاح الشعبي

هذا عنوان المحاضرة التي ألقاها الأستاذ عزيز أباظة باشا يوم السبت الماضي بجمعية الشبان المسلمين بدأها بمقدمة عن كفاح الشعوب قائلاً إن هذا الكفاح يهدف إلى أمرين، الأول الحضارة وهي الرقي الفكري والعلمي والاجتماعي، والثاني الحرية ومقاومة المعتدين عليها من أبناء الشعب نفسه أو من المقتحمين المحتلين. ثم قال إن أهم وسائل الكفاح ما يبعث الشعور ويتصل بالعاطفة، وهو الفنون عامة والشعر خاصة. وقال إن شعر الحماسة هو أقوى أبواب الشعر، ولذلك غلبه أبو تمام على سائر الأبواب إذ سمى كتابه (الحماسة) وساق عدة أمثلة من الشعر العربي مبيناً أثرها في بعث الهمم وإثارة المشاعر.

ثم انتقل الأستاذ بعد ذلك إلى التفات بارع إذ قال إن الشعر أخلد حينا إلى الأرستقراطية واعتزل الشعوب والجماعات، ولكن لم يكن كذلك الشعر وحده، بل كان الناس أيضاً متخلفين عن أهدافهم ضالين في حياتهم، فكما ساروا في ركاب الملوك والأمراء سار الشعر مثلهم وتخلف تخلفهم. ثم أحس الشعراء بحاجتهم إلى التعبير الصادق فاستحدثوا الابتداعية (الرومانسية) ولكن هذه كان عيبها أنها تعبر عن الفرد ولا تهتم بالجماعة. ثم اهتدى الشعراء إلى الابتداعية الحديثة وهي مشاركة الشعر للناس في حياتهم والتعبير عن آلامهم وآمالهم، ووصف الأستاذ المحاضر هذه الابتداعية الحديثة بأنها هي الفن الصحيح.

ومما قاله عزيز باشا في هذه المحاضرة القيمة أن الشعر اكتملت أداته الوطنية في العصر الحديث، فكان الشعراء هم الداعين إلى كل إصلاح والسابقين إلى كل دعوة، فقد مهدوا لثورات الشعوب في فرنسا وروسيا وبولندا، ولم يقصر شعراء العرب في هذا المضمار، فكان في العراق الزهاوي والرصافي لم يزل فيه الجواهري والشبيبي. وجال شعراء الشام في ميادين أوسع لغربتهم في المهجر فاكتسب شعرهم ألواناً جديدة وسرى فيه روح القوى.

ص: 41

وكان في المغرب أبو القاسم الشابي شاعر الحرية الخالد، أما في مصر فقد ابتدأ كفاح الشعر بالبارودي في الثورة العرابية ثم زكا بشوقي وصاحبيه حافظ ومطران.

ولما وصل باشا إلى الحال الحاضرة ارتفع جرسه وحمى صوته وراح يتحدث عن عدوان جيش الاحتلال على المواطنين وعن كفاح الشباب المجاهد في سبيل الحرية. وكان رفيقاً بالشعراء بل محابيا لهم حين ذكر أنهم يبعثون حركة الكفاح الوطني الراهن ويذكون أوارها بأشعارهم، فالواقع أن الشعر يحاول اللحاق بالركب في وناء وإعياء ولم يكن له أي فضل في إشعال قشة. . .

وقد ألقى الأستاذ محمود جبر قصيدة وطنية تناول فيها بعض الأحداث الجارية تناولاً أثار الحماسة والإعجاب، فكانت هذه القصيدة بمثابة تطبيق للمحاضرة.

ثم وقف الأستاذ محمد سعيد العريان وعقب على المحاضرة فوصف عزيز باشا بأنه شاعر نزل إلى المعركة ليقود للشعراء وسماه (قائد الشعراء) وقال إننا نتطلع بعد ذلك إلى أن يخرج الشعراء من مرحلة (التسجيل) إلى طور القوة الدافعة. نريد أن يدعوا (كان وكان) ويقولوا افعلوا واعملوا. . . وخلص من ذلك إلى دعوة الشعراء إلى التطبيق العلمي، وأعرب عن انتظار الجامعة الشعبية التي تنظم هذه المحاضرة، ما يقول الشعراء ليقدمه إلى الناس في القريب إنتاجاً عملياً. وأذكر بهذه المناسبة أن الأستاذ العريان يتولى الآن منصب المدير العام المساعد للجامعة الشعبية.

شعر المناسبات الشعبية الحديثة:

كدت أنسى القسم الثاني من رسالة الشاعر العراقي الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري التي نشرت قسمها الأول وعلقت عليه تحت عنوان (الشعر الغنائي) في عدد مضى من (الرسالة) وقد ذكرتنيه محاضرة الأستاذ عزيز أباظة باشا التي سبقت خلاصتها. يقول الأستاذ الناصري في رسالته إلى:

(. . . ثم تقول إن الشعبية هي أن تجاري المجتمع في آلامه كما فعل على طه حين نزل إلى الشعب وتغنى بإحساسه في أروع قصائده كالقصيدة التي خلد بها أبطال الفلوجة وقصيدة (أخي أيُها العرب) التي غناها عبد الوهاب. وأنا أقول لك: هذا شعر يسمى شعر المناسبات فإذا كان المرحوم نظم في مأساة فلسطين قصيدة أو قصيدتين فأنا - ولا فخر -

ص: 42

قد ألهمتني تلك المأساة المؤلمة ديوانا أسمتيه (صوت فلسطين) ورغم ذلك فأنا لا أعتبر هذا الشعر فنا خالدا لأنه مناسبات وأنا من ألد أعداء المناسبات مهما كان نوع المناسبة، لأنني أعرف أن الحياة عندنا تمر وأن التاريخ عندنا يطوي صفحاته يأتي ما قبل في المناسبات السياسية بمؤخرة القول، لذا أن شعر الوجدان والعاطفة يخلد أكثر من خلود باقي الشعر، بديل أن حوادث كثيرة مرت بإنجلترا وفرنسا وألمانيا ولكن لم يخلد ما قيل فيها يقدر ما خلد شعر بيرون وشلي وكينس ولامرتين وهوجر ودي موسيه. ولو فتشنا في تاريخ العرب الأدبي لوجدنا أن كثيرا من الأحداث السياسية قد مرت ومر ما قيل فيها ولم يخلد إلا شعر أمثال الأعشى والأخطل وابن أبي ربيعة وأبي نؤاس وابن الأجنف والبحتري وابن الرومي وصريع الغواني، وحتى في العصر الحديث نجد جل الشعراء كشوقي وحافظ والبارودي ومطران لم يعرفوا بشعر السياسة والمناسبة بقدر ما عرفوا بشعر الوجدان. فهل بعد هذا تقيم وزنا لشعر المناسبات الذي لا يصدر إلا عن دافع رسمي أو واجب ولي بدافع عاطفي صرف؟)

وأنا حقاً لا أقيم وزناً لشعر المناسبات الذي يصدر عن دافع من خارج النفس، ولكن ليس هذا الشعر هو الذي ندعو أليه، وما أظن ما قاله الناصري في (صوت فلسطين) من هذا القبيل وأعتقد أن قصائد المرحوم علي طه ليست منه أيضاً. فإذا كان المقصود بشعر المناسبات ما يقال للمجاملة أو الملق وما يتخذ أحبولة لصيد المنافع أو للاستجداء فإننا لا نعد هذا من الأدب (المحترم) في شيء. أما ما تنفعل به نفس الشاعر إزاء أحداث الجماعة ومسائلها ويفيض به خاطره شعرا أو نثرا فهو أدب خالد ما في ذلك شك. وهو لا يخرج عن نطاق العاطفة والوجدان بل أن العاطفة هنا أرقى من العاطفة الفردية. وليس الخلود مقصورا على العواطف الفردية، بل إن التعبير الصادق عن عواطف الجماعة أحق بالخلود وأجدر بالاعتبار لما فيه من اندماج الشاعر أو الكاتب في بيئته وإحساسه بها. وليس ما قاله الأستاذ الناصري عن الشعراء الذين سماهم مسلما به، وليس ما قاله الأستاذ الناصري عن الشعراء الذين سماهم مسلما به، فكثير منهم قال في أحداث الجماعة أروع شعره وأخلده. على أنني أعتقد أن مدار الأمر على صدق الانفعال، فل الأدب الصادق لا ينظر هل هذا اللون من القول خالد فيقول فيه وهذا غير خالد فيتجنيه، وإنما هو يقول ما يمليه خاطره،

ص: 43

وليسلكه من شاء فيما يشاء.

على أن الأدب الصادق الأصيل الذي يصور روح العصر. وعصرنا الحالي هو الشعوب والجماعات التي تكافح الطغيان الفردي لتأخذ حقها في الحياة، والأدب من أسلحة هذه المكافحة أو هو أهمها، ولست أوافق الأستاذ الناصري على ما ختم به رسالته إلى من ازدراء الشعب، أي شعب، لأنه ذليل خانع، وقد ضربت صفحا عن العبارات إبقاء على ما بين الشاعر ومواطنيه.

إن الشعوب التي ران عليها الظلم والاستعباد والإهمال أحقابا طوالا فتركت بها آثارها أفسدتها - هذه الشعوب أحق بخدمات الأدباء من أبنائها للدعوة إلى تنظيفها وترقيتها، وإلى هذا المجال يدعي الأدب الجديد.

عباس خضر

ص: 44

‌البريد الأدبي

رحم الله الدكتور زكي مبارك

في مساء يوم الأربعاء الماضي انتقل إلى رحمة الله الدكتور زكي مبارك. أدركته المنية على أثر كبوة شديدة شجت رأسه ورجت مخه، ففقد كاتبا من كتاب الطليعة له جهاده الطويل وأسلوبه الجميل وأثره الباقي، كان رحمه الله من الأدباء القلائل الذين شقوا طريقهم في الصخر بالعمل الدائب والدرس المتصل والتحصيل المستمر. ثم قضى زهرة عمره في التعليم والتأليف والكتابة على خير ما يكون العامل الصادق من المثابرة والجد. فلو أنه انتهى كما ابتدأ لكان له في تاريخ الأدب والفكر شأن غير هذا الشأن. ولكن عوائق من طبيعته اعترضت طريقة الوعر فلم يبلغ الغاية التي هيأه لها اجتهاده واستعداده. هذه العوائق نفسها هي التي جعلته آخر الأمر يعفي طبعه ويوفر جهده، فلا يكتب إلا عفو الساعة وفيض الذاكرة. على أن له من المؤلفات القيمة والمقالات الممتعة ما يثبت اسمه في سجل الخالدين.

وكان رحمه الله من المخضرمين المخلصين الذين ربطوا الجديد بالقديم، ووصلوا الشرق بالغرب. وكان لهذه الطبقة الفضل العظيم على النهضة الأدبية بما وطدوا من أساس وأقاموا من قواعد وحققوا من توازن. وبهذه الميزة كان للفقيد الكريم نصيب في بناء مجد الرسالة حينا من الدهر.

جزاه الله على ما قدم أحسن الجزاء، وعزى عنه أهله وصحبه خير العزاء.

في كتاب الديارات للشابشني

نشر الأستاذ كوركيس عواد كتاب الديارات للشابشني وطبع أخير في سنة 1951 ميلادية ببغداد. والكتاب في غنى عن التعريف، وكذلك ناشره الفاضل الذي طالما أمتعنا ببحوثه الأدبية على صفحات الرسالة. ولكن على الرغم من الجهد الذي بذله في التحقيق وقع في أوهام كنت أود تنزيهه عنها، وهذه بعض الأمثلة:

1 -

في ص 57 جعل قافية البيت الأول من بيتي أبي العيناء (بالدال المهملة وشرح الكلمة بأنها (أد الأمر أثقله وعظم عليه) وهذا من أعجب ما رأيت من الأوهام، فالكلمة بالذال المعجمة من الأذان، وذلك كما جاء في ص 127 من ديوان علي ابن الجهم طبع المجمع

ص: 45

العلمي بدمشق سنة 1369 إذ قال من قصيدة (الله أكبر الخ. .) وفي الهامش أن مروان بن أبي الجنوب قال لما ابتدأ على قصيدة بهذا المطلع - ثم ذكر البيتين اللذين نستهما الشابشني إلى أبي العيناء. ولو تأمل الأستاذ كوركيس لرأي البيت الثاني يذكر الإقامة والطهر وهما مستلزمات الأذان. ومطلع الأذان الله أكبر وهو مطلع قصيدة علي ابن الجهم؛ فالكلمة إذن (فأذنا) بتشديد الذال المعجمة وليست بالمهملة وهم الأستاذ الناشر.

2 -

ذكر في ص 29 الحاشية 10 أن يوم الشك هو اليوم الثلاثون من شعبان إذا غم الهلال بعد تسعة وعشرين يوماً من شعبان ولو كان اليوم المذكور أول يوم من رمضان لما كان هناك أدنى شك ولوجب صومه.

3 -

في ص 24 الحاشية - 2 ذكر أن الحد تأديب المذنب، وذلك عند الكلام على معنى (فجلدها حدا) مع أن المراد هو حد القذف وهو أحد الحدود الستة التي نص القرآن الكريم على بيان عقوبتها وأنها ثمانون جلدة. وهناك فرق كبير بين الحد في القذف وبين التعزير الذي يقصد منه تأديب المذنب.

هذا بعض قليل مما في الكتاب - وإذا اتسعت لنا صفحات الرسالة نفذناه إن شاء الله نقداً وافياً يستوعب أوهامه وأخطاءه المطبعية مع الإشارة إلى كثير من الأبيات التي وردت مختلة الوزن وغير ذلك - على أن كل هذا لا يمنع من تقدير الأستاذ الناشر على مجهوده الرائع الذي بذله في تحقيق هذا الكتاب وطبعه لأول مرة وإضافة هذه الدرة إلى عقد المطبوعات العربية الخالدة.

عبد السلام النجار

هنات عروضية

في الظلام الرهيب. . في غفلة الدهر. . في يقظة الدم المخمور في انتفاض الغصون في عاصف الريح، في فورة اللظى المسجور زهرة النيل. . وابنة الشاطئين. . ونجوى الحمام للصفصاف وتهادي النشيد. . في مزهر الأفق في هدأة الليالي الرهيبة حان يوم الخلاص فابسط ذراعيك للأفق للسماء الرحيبة في الأبيات السالفة من قصيدة (قصة الحرية) للأستاذ محمد فوزي العنتيل هنات عروضية تحتاج إلى تصويب طفيف، كما تحسن مبنى كما

ص: 46

حسنت معنى.

صارو

من عيوب القافية:

حتى إذا بلغت به أقصى المدى

وإنجاب عنه ركامها المتلبد

. . هذا بيت ورد في قصيدة الأستاذ عثمان حلمي بالعدد (955) من الرسالة، وحركة رؤية الضمة مخالفا بذلك سائر أبيات القصيدة إذ هي مكسورة الروى، واختلاف (المجرى) بالضم والكسر - كما هنا - عيب من عيوب القافية يسمى (الإقواء). . . فهل يجد الأستاذ حلمي مقيلا من هذا العيب في البيت؟ وهل له أن يصلح هذا الشطر:

. . (يجري وما تدري النهى المقصد). في القصيدة نفسها!

يصمد ليست بمعنى يثبت

شاع التعبير بهذه الكلمة (يصمد) في الدلالة على معنى الثبات. وهذا هو الأستاذ قطب في العدد (966) يقول: (أمكن أن تصمد للاستعمار) وسياق حديثه يشعر بإرادته للمعنى المذكور، ولكني أقرر أن (يصمد) بمعنى يقصد والصمد بسكون الميم القصد، ومن معانيه الضرب والنصب كما في القاموس المحيط، والصمد والصمد بفتح الميم السيد لأنه يقصد، وفي تفسير الكشاف المزخشري:(الصمد) فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده، هو المصمود إليه في الحوائج. .

هل التلاشي بمعنى الضياع؟:

إنني أسائل فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت، هل وردت كلمة (التلاشي) في اللغة العربية بمعنى الضياع، إذ قد وردت في مقالة بالعدد (966) مرادا بها هذا المعنى! وهي كثيرة الذيوع على ألسنة المعبرين، وأقلام الكاتبين، وقد رأيت في القاموس المحيط:(لشا) خس بعد رفعة، فهل يمكن صوغها من الفعل؟ وهل لها وجود في بعض الأحاديث النبوية، والشواهد العربية؟.

محمد محمد الأبشيهي

ص: 47

(الرسالة) فعل لا شيء صاغه المولدون من (لا شيء) وهي صياغة لا تقرها أصول اللغة.

التصحيف والتحريف:

سألني سائل في رسالة خاصة: (لقد جاء في كلمتك الأخيرة في رسالة الزاهدة قولك (التصحيف ولا أقول التحريف). فهل ثم فرق بين التصحيف والتحريف)؟

وإني إذ أشكر للسائل الفاضل سؤاله واهتمامه بلسان العرب ولغة القرآن أرجو أن يتفضل فيعلم أن (التصحيف غير التحريف) وإن كان بعض الكاتبين بجمع بينهما على معنى. .

فالتصحيف مصدر صحف أي أخطأ في الكلمة - كتابة أو قراءة أو الرواية - لتشابه وتجانس في صورة كلمتين واختلاف في النقط. ولقد رقع التصحيف منذ قديم في كلام بلغاء العرب ورجال الأدب وأشعار القدامى وسائر الأمثال حتى أن أبا عبد الله حمزة بن الحسن الأصفهاني وضع في ذلك كتابا سماه (التنبيه على حدوث التصحيف).

وأمثلة التصحيف بالنقط أكثر من أن تحصى، ومن أطرف التصحيفات التي تذكرها التواليف ما قيل من أن جماعة من المخنثين كانوا في المدينة في خلافة سليمان بن عبد الملك الأموي فأرادوا أن ينفيهم منها فكتب إلى عامله فيها - وكان وقتذاك أبا بكر عمر بن حزم - أن (أحص) من عندك من المخنثين. وصادف أن نقطة من السطر الأعلى من كتاب الخليفة وقفت أو وقعت فوق الحاء من لفظة (إحص) المهملة فصارت (إحص) بالمعجمة، فما كان من أبي بكر إلا أن خصاهم أجمعين.

وكذلك يقع التصحيف من تشابه رسم الحروف وهو من آفات العربية. وفي ذلك يقول البيروني في كتابه (الصيدنة)(ولكتابة العربية آفة عظيمة هي تشابه صور الحروف المزدوجة فيها! واضطرها في التمايز إلى نقط المعجم، وعلامات الإعراب التي إذا تركت استبهم المفهوم منها. .) الخ.

جاء في لسان ابن منظور في مادة (سوف). السواف بفتح السين: الفناء وفي القاموس السواف كسحاب: القثاة فأين الفناء من القثاء؟ ولكنه التصحيف يقع فيه القاموس ويسلم منه اللسان لينقلب الفناء قثاء كما انقلب المخنثون خصيانا!.

ومما أذكر في هذا الباب ما جاء في تعقيب لي على كلمة لإمام العربية المحقق المدقق

ص: 48

المرحوم إسعاف النشاشيبي قس تحقيقه لكتاب (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) وتصحيحه لفظة (الأدب) من (والأدب من ذي الغيبة) إلى (الغنم) ثم تعقيبي (والأدب من ذي الغيبة) بالواو وهو الأصل الذي صحف عنه (الأدب) واستحسانه - رحمة الله - التعقيب والتصويب شاكراً ومقدورا في قوله: (لا ريب في أن أصل (والأدب من ذي الغيبة) والدليل على ما ذهب إليه أنت قريب وإن تباعد مني، فإن الناسخ القديم البارع (سامحة الله) استبدل بالواو دالا ثم جاء الطابع فطبع)

وأما التحريف فهو وقوع اختلاف في الحركة أو السكون مع تشابه أحرف الكلمة في النوع والشكل والعدد والترتيب.

فلفظة (الحب) مثلاً تأتي الكسر على معنى المحبوب والمحب، وبالفتح البزر المعروف، بالضم الجرة الضخمة. فاختلاف الحركة - كما ترى - نتج عنه اختلاف المعنى اختلافا واضحا ووقوع القارئ أو الكاتب أو الراوي في مثل هذا الاختلاف هو المقصود بالتحريف حركة أو سكونا. . .

وقد يجتمع التصحيف والتحريف معا في الكلمة الواحدة فيزيد الكشف سوء كيلة، والطين بلة، والداء علة. مثال ذلك ما ورد في القاموس في مادة (برقش)(أبو براقش طائر صغير يرى (كالقنفذ) والخطأ بالتصحيف ظاهر في لفظة التشبيه لا يحتاج إلى تنبيه. والصواب (كالقنبر) ذلك لأن القنفذ ليس بطائر باثنين حتى يشبه طائر به، وإنما هو دابة تدب على أربع. (راجع المقتطف39: 488 في أبي براقش)

وبعد: فمجمل القول في التصحيف والتحريف أن التصحيف يكون أكثر ما يكون باختلاف الحرف واختلاط النقط إهمالا وإعجاما، وأن التحريف يكون باختلاف الحركة أو السكون في الكلمة قراءة أو كتابة أو رواية. وقى الله لسان العرب وأصحاب القلم من الخلط ومصحفاً ومحرفا والسلام.

الزيتون

عدنان

1 -

خطأ قديم

ص: 49

كتب الكاتب القدير الأستاذ أحمد محمد بربري مقالا قيما بجريدة الأساس تحت عنوان (خطأ مشهور) أجرى فيه الحوار بينه وبين شيخه على طريقته المعهودة. وقد جاء على لسانه: (ويأتي بهذا النص الذي تقول أنه منعدم)؛ فأتى باسم الفاعل من (انعدام) الذي أقول أنه معدوم. وهذا خطأ قديم وقع في كلام كثير من الكتاب والفقهاء والمتكلمين.

وأغلب الظن أن هذه هفوة من الأستاذ بربري، وإلا فكيف غاب عن شيخه وعنه أن صيغة (انفعل) لا تؤخذ من (العدم) لأنها مختصة بما هو علاجي محس، وواضح أن العدم لا يلمس ولا يحس. وزيادة في الإيضاح ولأن الأستاذ بربري لا يؤمن إلا بما نقل عن العرب وورد فيه نص صريح فإني أحيله إلى قول (المنجد):(ولا يبنى انفعل إلا مما فيه علاج وتأثير، ولهذا لا يقال علمت المسألة فإنعلمت، ولا ظننت الأمر فأنظن لأن العلم والظن مما يتعلق بالباطن وأثرها ليس محسوساً)، وإلى (محيط المحيط) ففيه:(يقول المتكلمون والفقهاء وجد فأنعدم والصواب وجد فعدم لأن الانفعال للعلاج والتأثير، وليس العدم والإعدام في شيء من ذلك كما لا يقال علم فإنعلم).

فكان الواجب عليه أن يقول: (ويأتي بهذا النص الذي نقول أنه معدوم).

2 -

خطأ نحوي

جاء في مقال بالهلال (عدد يناير) للدكتورة الفاضلة (بنت الشاطئ) تحت عنوان (الثائرة): (ولم تك النميمة سوى رصاصة. .)، وفي هذا التعبير مجال للقول والنقد؛ لأن من القواعد المتقررة أنه لا يصح حذف النون من (يكن) إذا وقع بعدها ساكن؛ ولهذا ثبتت في قوله تعالى:(لم يكن الله ليغفر لهم)، وقوله تعالى:(لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)، وأما قول الشاعر:

فإن لم تك المرآة أبدت وسامة فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم

أحمد مختار عمر

ص: 50

‌القصص

خاتمة المطاف. .!!

للأستاذ محمد رشدي

- كثيرة حقا يا صديقي أطايب الحياة وملذاتها. . ولكني لن أترسم خطوط بعد الآن، فاستمتع أنت بأطايبها كيف تشاء، واقتنص من لذائذها كما يحلو لك، وثق أنك ستدفع الثمن في يوما ما. . .

- سحقا لك ولتفكيرك السقيم. . ماذا ترى في صيد ساقه لنا الشيطان، هل ترانا نرتكب جريمة بذهابنا إليها. . لقد رأيتها بعيني رأسك، أنوثة مبكرة، وجسدا ناضجا غضا، وجمالا آسرا خلابا. . تخيل أنك تعصرها عصرا بين ذراعيك، وتضغط صدرها الناهد. . لتتحطم مقاومتك التي لا أجد مبررا لها ويستقيم تفكيرك، فتجد أنك مخطئ في مخاوفك التي ذهبت إليها. . هيا بنا، ولا تكن جبانا رعديدا تخاف أشياء لا وجود لها. إنها تقطن وحدها. . وهي التي دعتني إلى منزلها. . وأنا بدوري أدعوك لمرافقتي. . إن الساعة المرتقبة توشك أن نحين، فهيا. . فالشوق يكاد يقتلني. . .

- وفر عليك مشقة إغرائي. . فلم يعد معسول قولك، وتشويقي، ليفيدا معي. . فإليك عني. . واذهب وحدك، فقد عاد إلى صوابي، وثبت إلى رشدي. . فدعني أكفر عن آثامي التي اقترفتها بسببك. . ليتني دققت عنقك منذ عرفتك. .

- ها. . ها. . ها. . إنك وايم الحق تدهشني كثيراً. . فقد أصبحت عنيدا صعب المراس. . ثق أنك لن تجد الفرصة التي تكفر فيها عن آثامك. سأذهب إذن وحدي، وأتركك لأفكارك، وهي كفيلة بالقضاء على عنادك وإصرارك. . إن اقتناص اللذة أصبح من مستلزمات حياتينا، أنا، وأنت. . فلا تحاول الاستنجاد بإدارة حطمتها عشرون عاماً، قضيتها غارقا لأذنك في الإثم والرذيلة. . .

- وأنت. . . ألا تذكر؟

فتمهل قليلا كأنما يستجمع شوارد ذهنه. . ثم قال. . .

- أجل. . . أذكر. . . أن صورة باهتة لها ما زالت عالقة بذهني. . . لم تكن كهؤلاء اللائى عرفتهن. . قد باعت جسدها لمن سبقني ودفع الثمن. . . كانت نقية طاهرة الذيل

ص: 51

إلى أن عرفتني. . .

- إنك معدوم الضمير. . . لقد دقعتها إلى التخلص من ثمرة فعلتك المنكرة ثم قضيت عليها بقسوتك وإعراضك. .!!

- نعم. أخبرتني بذلك. ولكن ما شأني بذكريات أدراجها تعاقب السنين في لفائف العدم، وتراكم عليها غبار تسعة عشر عاما انقضت. لقد مات الماضي يا صديقي، فدعنا منه. . وإلى اللقاء عند (سلوى) الراقصة الحسناء. .

- لتذهب إلى الشيطان، فلن نلتقيا ثانية. . لقد عقدت العزم على الرحيل بعيدا عنك. .

- كما يحلو لك. . آه. . . نسيت أن أترك لك العنوان.

وانتزع من مفكرته ورقة قذف بها إلى صديقه وهو يتابع في برود وعدم اكتراث:

- هاك العنوان. . وحذار أن تتأخر كثيراً، فسنكون في انتظارك. . .

وغادره وصدى ضحكاته الساخرة يرن في أذنيه. . .

وصاح (جلال) به يستمهله. . ولكن صوته لم يصل إلى سمعه. . فاختطف معطفه وغادر المنزل بدوره.

. . . وهناك على الفراش. . كانت الفتاة مستلقية في استرخاء، وقد ارتدت غلالة رقيقة، يشع من تحتها بريق الفتنة الطاغية، وسحر الجسد البديع التكوين، وعبق جو الحجرة برائحة عطر نفاذه تدبر الرؤوس، وتخدر الأعصاب. . وعلى قيد خطوة من الفراش، وقف (كمال) بقوامه الفارع، وجسمه الرشيق الفتى. . برغم أنه يحمل كاهله عبء أربعين عاماً سلخها من حياته. .

ونهضت الفتاة في استرخاء محبب، ولم تلبث أن قفزت من الفراش في رشاقة وخفة، وطبعت على شفتيه قبلة خاطفة، وأسرعت بالابتعاد قبل أن تنطبق عليها ذراعاه، ويهصر عودها الرطب بين أحضانه. . وراحت تنثني وتنفرد أشبه بحية تتلوى وهي تدور في الحجرة راقصة منتشية، وقد لمعت عيناها ببريق عجيب. . .

وفارق (كمال) ثباته، وثارت مشاعره، واستيقظت غرائزه البهيمية فراح يضيق عليها الخناق حتى تمكن من الإمساك بها. . . وجذبها إليه في عنف، ورغبة جامحة. . فكاد يحطم عظامها. ولكنه ما عتم أن تراخت ذراعيه، وتخلى عن الجسد الغض الطري الذي

ص: 52

كان يدفئ أحضانه. . واستقرت نظراته الملتهبة على تلك الدميمة الجميلة التي ابتدعت على عجل، ولاذت بالحائط ترتعد كريشة في مهب ريح صرصر عاتية. وتمالك واستجمع أشتات أنفاسه. . واقترب منها مترنحاً أشبه بسكير شرب حتى طفح وقد امتدت ذراعاه المتخاذلتان، محاولا أن ينال عنقها، فيزهق روحها الخبيثة. ولكن قواه خانته، وتخلت عنه، فهوى يتلوى من الألم وقد ندت عنه صرخة قهر وكمد.

ودبت الحركة في جسد الفتاة الجامدة. . فاندفعت إلى الأمام تصرخ في صوت مختنق متحشرج، وقد أذهلتها رؤية الدماء. . فتلقفتها ذراعان خارج الحجرة، وعادت بها إلى الداخل. . وارتفع صوت (جلال) يسأل في عجب: ماذا حدث يا. . .؟! بيد أن الكلمات ماتت على شفتيه، واتسعت حدقتاه فزعا وهو يرى صديقه منكفئا على وجهه وقد غاص بين كتفيه خنجر حتى مقبضه. .

وتهافت (سلوى) على الفراش مضعضعة الحواس، خائرة القوى ودفنت وجهها بين راحتيها، وقد شملت بدنها رعدة عنيفة. . وراحت تهذي كالمحمومة:

- لقد قتلته. . أجل قتلته يا أماه. . فلعلك الآن راضية في مثواك الأخير. . كانت رغبتك أن أنتقم لك، وها قد انتقمت. . فأنهضي لترى أي منقلب ذلك الفاسق. . . لقد غرر بك، وتركك تنوئين بعبء العار والفضيحة تسعة عشر عاما، قضيتها في عذاب مر أليم. . . لقد ظلت صورته منطبعة في ذاكرتي من خمس سنين مضت منذ آخر لقاء كان بينكما، حين انهال عليك ضربا في قسوة ووحشية وغادرك، مقسما أنك لو عدت إليه ليقتلنك شر قتلة، ولكنك لم تكوني في حاجة إلى العودة إليه، فقد فاضت روحك في تلك الليلة، وتركني فتاة لم تتجاوز الخامسة عشر بعد. . لا يعرف ذلك العربيد عنها شيئا، ولا يعلم بوجودها. . . فأقسمت أن أنتقم لك منه، ولو كرست حياتي كلها لذلك. . . ولقد فعلت. . . فليرحمني الله. . .!!

وزاد ارتعاد جسدها، وعلا صوت نحيها المؤلم، ونشيجها المكتوم. وانبعث صوت واهن، كأنه آت من أغوار سحيقة، فيه مرارة وفيه تساؤل وعجب:

- سلوى. . . ابنتي

ولكن القضاء لم يمهله، ولم يتريث به ليقول شيئا آخر. . . فسكنت حركته إلى الأبد.

ص: 53

ورددت جنبات الحجرة دقات حزينة منتظمة، كانت أشبه بأجراس قوية تدق في ذلك المكان الرهيب. . . تعلن بأن الليل قد انتصف.

واقترب (جلال) من الجثة المسجاة. . . وانحنى على الجسد العاني فحمله بين ذراعيه، وتريث قليلا ينظر إلى الفتاة، وقد انحدرت على خده دمعة كبيرة. . . وقال في صوت متهدج برج به الثأر:

- لقد انتهى. . مات صديقي. . . ولكنه منحني الفرصة التي أكفر فيها عن آثامي. . فأنا ذاهب، أجل ذاهب لأنال الجزاء. . فما احقني به منك.

وتنفس عميقا، وكأنما أزيج عن عبء ثقيل. . . ثم دار على غادر الحجرة بحمله الثمين. .!!

دمنهور

محمد رشدي

ص: 54