الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 97
- بتاريخ: 13 - 05 - 1935
بنك مصر أيضاً
2
نعود إلى الحديث عن بنك مصر مغتبطين كما يعود المطرب إلى تكرير لحنه، والمؤمن إلى ترديد صلاته! وهل كان بنك مصر وعيده في الأسبوع المنصرم إلا لحناً شدا على كل لسان، ودعاء صعد منك كل قلب؟ لقد جاء هذا العيد القومي كما توقعناه دليلاً على رشد هذه الأمة الكريمة: رَحَض عن سمعتها الأذى، ودَحضَ عن كفايتها التهم، وجلا عن نهضتها الشكوك، وبدّد عن مستقبلها السحب، وأعلن - في شاي الحديقة، وعشاء الكونتننتال، ومهرجان القاهرة، وحفلات الأقاليم، بلسان طلعت حرب باشا مدير البنك، وأحمد عبد الوهاب باشا وزير المالية والسِّر إدوارد كوك عميد سياسة الاقتصاد الإنجليزية، والمسيو هنري نوس ممثل رءوس الأموال الأجنبية - أن مصر التي غَلَّها العجز الاجتماعي حيناً من الدهر عن استعمال حقها واستغلال خيرها واستثمار غناها، قد أتاح لها بنك مصر وشركاته أن تشعر بالقوة التي كمنت فيها، وتفطن إلى القدرة التي ذهلت عنها؛ وتخرج من ذلة اليُتم والعُدم والقصور إلى عزة الرشد الوُجْد والأهلية
نعم كانت الأيام الثلاثة التي حفِلت بعيد بنك مصر مظاهرة قومية موفقة، شارك فيها قصر الملك، ودار المندوب، وجميع الأحزاب، وكافة الطبقات، وعامة الشعب، في الساعة التي رجعت فيها السياسة المصرية إلى ذبذبتها الأولى: تتحرك ولا تسير، وتتردد ولا تستقر، وتتصرف ولا تملك. وكان ابتهاج الأمة بها ابتهاجاً بحقها الذي يتخلص من الباطل، وفوزها الذي يتميز من الفشل، ونصرها الذي يتبرأ من الهزيمة!!
تستطيع أن تناقش وتعارض وتستريب إن زعم لك زاعم أن يقظتنا للعلم والأدب، والحرية والسياسة، بلغت الحس العالي المرهف، ولكنك أمام الأرقام التي قدمها إليك بالقول طلعت حرب، والمنتجات التي وضعها في يديك بالفعل طلعت حرب والمؤسسات التي عرضها عليك بالسينما طلعت حرب، تعتقد اعتقاداً رياضياً أن نهضتنا الاقتصادية يقين لا يخامره شك، وواقع لا تزخرفه مبالغة. وإن في تسميتنا هذه النهضة التي نهضها بنك مصر فحلَّت عن الأمة حبوة العجز، بالنهضة الاقتصادية، تسمية لها بالوصف الأشهر والأثر الأغلب. أما الواقع فإنها انتظمت مرافق البلد من كل نوع، وتناولت أمور الناس من كل جهة: أجدْت
على العلم ففتحت له أبواب العمل؛ وعلى التعليم فمهدت له سبل التطبيق؛ وعلى الأدب فاستعملت اللغة في أعمال المال، ونشرت الثقافة بتسهيل الطباعة؛ وعلى الأخلاق فأحيت في الرجال الثقة، وقوَّت في الشباب الرجولة؛ وعلى الاجتماع فوقَت الأمة شر العطلة المجرمة، والأزمة المستحكمة، باستخدامها الألوف المؤلفة من الموظفين والصناع والعمال في شركات البنك وفروعه؛ وعلى القومية فخلقت الروح الجماعية بإنشائها الأعمال التي تقوم على رءوس المال، وتوزع العمل، وتساند القوى، وتضامن الجماعة؛ وعلى السياسة فكفكفت عنها شِرَّةَ النفوذ المالي الأجنبي بمنازلته الجريئة في ميادينه القوية الحصينة؛ وعلى الإسلام، فساعدت على إقامة ركن من أركانه، وكشف الضر عن بيت الله ومنزل قرآنه؛ وعلى وحدة العرب فوصلتها بأسباب التعاون، وثقَّتها بسلاسل الذهب؛ والاقتصاد اليوم وقبل اليوم كان دستور الحياة، وعلة السعي لها، وغاية الجهاد فيها، فلا بدع إذا أثر في كل شيء، وعمل في كل حركة، وهاج في كل ثورة، وصاح في كل نهضة
شهدت كثيراً من المؤتمرات والمظاهرات والاحتفالات في أغراض شتى، فكان شعوري الذي أجده فيها شعور الحالم الذي يتوهم الحقيقة، والفاقد الذي ينشد الوجدان، والأمل الذي يرجو الظفر؛ ولكني شهدت هذه المرة احتفالات قومي بعيد بنك مصر، فكان الشعور الذي ملكني وملك الناس شعور العالم الذي اطمأن إلى التجربة، والواجد الذي اغتبط بالحصول، والظافر الذي انتشى بالنصر، والحي الذي استعز بالكرامة
وكنا نلحظ البشر الذي يجول في المحيا الذي لا ينبسط، والابتسام الذي يجري على الشفة التي لا تَفْتَرُّ، فنتخيل في وجه طلعت حرب وهو يَشِعُّ بالإخلاص الساذج مستقبل بلادنا الذي يتهلل، وأمل شبابنا الذي يبتسم
نضّر الله بالرضى والغبطة وجوه أولئك الأبرار المخلصين الذين شغفهم حب الخير ففكروا وأمِلوا، ثم آمنوا وعملوا، ثم استمسكوا بِرَوح الله وقوة الشعب على عصف الخطوب وإلحاح المكايد، حتى استقر بهم الإيمان على الفوز، واستقام بهم الإخلاص على الطريقة، فكانوا مثلاً لجهاد الصابر المثابر الذي يتلمس القوة من جوانب الضعف، ويتطلب الكثرة من أشتات القلة، ويخلق النجاح اليقين من أحاديث المني، ويرفع في مُعترك الشُّبَه والظنون هذا الصرح الباذخ فيكون قاعدة للمصلح الباني، ومنارة للمتخلف الواني، ومثابة للمتنكب
الشريد!
أحمد حسَن الزيات
3 - الانتحار
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال المسيْبُ بنُ رافع: وكان الإمام قد شَغَل خاطرَه بهذه القصة فأخذت تمدُّ مدّها في نفسه، ومكَّنت له من معانيها بمقدار ما مكن لها من هَمه، وتفتَّق بها ذهنُه عن أساليبَ عجيبةٍ يتهيأ بعضُها من بعضٍ كما يلدُ المعنى المعنى. فلما قال الرجُلان مَقالها آنفاً وأجابهما بتلك الحكمة والموعظةِ الحسنة، انْقدَح له من كلامهما وكلامِه رأي فقال:
يأهلَ الكوفة: أنشُدكم اللهَ والإسلام، أيُّما رجلٍ منكم ضاق بروحه يوماً فأراد إزهاقَها إلا كشف لأهل المجلس نفسه وصَدَقَنا عن أمره؛ ولا يَجِدَنَّ في ذلك ثَلباً ولا عاباً، فإنما النكبةُ مذهبٌ من مذاهب القَدَر في التعليم؛ وقد يكونُ ابتداء المصيبة في رجلِ هو ابتداءَ الحكمة فيه لنفسه أو لغيره؛ وما من حزينٍ إلا وهو يشعر في بعض ساعات حزنه أنه قد غُيِّبت فيه أسرارٌ لم تكن فيهن وهذا من إبانة الحقيقة عن نفسها وموضعها كما لألأ في سيفٍ بَريقُه
وعقلُ الهمِّ عقلٌ عظيم، فلو قد أُريدَ استخراجُ علمٍ يَعلمُهُ الناسُ - من اللذات والنِّعم، لكان من شرح هذا العلم في الحمير والبغال والدواب ما لا يكون مثله ولا قرابة في العقلاء، ولا تَبلغهً القُوى الآدميةُ في أهلها؛ بَيد أنه لو أُريد علمٌ من البؤس والألم والحاجة لما وُجد شرحُهُ إلا في الناس ثم لا يكون الخاصُّ منه إلا في الخاصة منهم
وما بَانَ أهلُ النعمةِ ولا غَمَروا المساكينَ في تَطاولهم بأعناقهم إلا من أنهم يَعُلون أكتافَ الشياطين؛ فالشيطانُ دابّة الغنيّ الذي يجهلُ الحقِّ عليه في غناه ويحسبُ نفسه مُخَلى لشهواته ونعيمه؛ كما هو دابةُ العالِم الذي يجهل الحق عليه في غناه ويحسب نفسه مخلي لشهواته ونعيمه؛ كما هو دابة العالم الذي يجهل الحق عليه في علمه، ويزعمُ نفسه مخلى لعقله أو رأيه، وما طال الطويل بذلك ولا عن ذلك قصُر القصير، وهل يصحُّ في الرأي أن يقال هذا أطولُ من هذا لان الأول فوق السُّلم والآخر فوق رجليه. . . .
قال المسيَّب: فقام شيخٌ من أقصى المجلس وأقبل يتخطَّى الرقابَ والناسُ يَنفرجون له حتى وقف بازاء الإمام؛ وتَفرّستُه وجعلتْ عيني تَعجمُهُ، فإذا شيخ تبدو طَلاقَةُ وجهه شباباً على وجهه، أبلجُ الغُرًّة مُتهَللٌ عليه بشاشة الإيمان، وفي أساريره أثرٌ من تقطيب قديم، ينطق هذا وذاك أن الرجلَ فيما أتى عليه من الدهر قد كان أطفأ المصباحَ الذي في قلبه مرةً ثم
أضاءه. وعجبتُ أن يكون مثلُ هذا الشيخ قد همَّ بقتل نفسه يوماً وأنا أرى بعينيَّ نفسه هذه منبثقةً في الحياة انبثاق النخلةِ السحوق
وتكلم هذا الرجل فقال:
أمَا إذ ناشدتنا الله والإسلام وميثاقَ العلم ووحيَ الأقدار في حكمتها، فإني محدِّثك بخبري على وصفه ورَصْفه: أملقْتُ منذ ثلاثين سنة ووقف بي من الدهر ما كان يجري، وأصبحتُ في مزاولة الدنيا كعاصرِ الحَجَر يريد أن يشرب منه، وعجزتْ يدي حتى لَظُفْرُ دجاجة في نبشها الترابَ عن الحبة والحشرة أقدرُ مني، وَطرَقَتني النوائبُ كأنما هي تُساكنُني في داري، وأكلني الدهر لحماً ورماني عظاماً فما كان يقف عليّ إلا كلاب الطريق؛ ولي يومئذ امرأةٌ أعقبت منها طفلاً ويَلزمني حقٌّهما ولا أستطيعه، وكان بيننا حبٌّ فوق المعاشرة والألفة قد تركني من امرأتي هذه كالشاعر الغزِلِ من صاحبته، غير أن الشعر في دمي لا في لساني
فلما نكتني المصائبُ وتناولتني من قريب ومن بعيد؛ قلت للمرأة ذات يوم وقد شَحِبَتْ وانكسر وجهها وتَقبضَ من هُزاله: وأيمُ الله يا فلانة لو جاز أن يُؤكل لحمُ الآدميْ لذبحت نفسي لتأكلي وتدِرِّي على الصبي. ولقد هممتُ أن أركبَ رأسي وأذهب على وجهي لتفقداني فتفقدا شُؤمي عليكما؛ ولكن ردّني قلبي، وهو حبسني في هذه الدنيا الصغيرة التي بينكما، فليس لي من الأرض مَشرقٌ ولا مغربٌ إلا أنت وهذا الصبي. ولستُ أدري والله ما نصنع بالحياة وقد كنا من نباتها الأخضر فرَجعنا من حطبها اليابس، وعادت الشمس لا تغذوها بل تمتصُّ منها ما بقى، ولا تستضيء لها، ولكن تَستوقد عليها!
إن من فَقَد الخيرَ ووقع في الشر، حَريٌّ أن يكون قد أصاب خيراً عظيماً إذا قتل نفسَه فخلُص من الشر والخير جميعاً، لا يُكدي ولا ينجح، ولا يألم ولا يَلذْ؛ وكما أنكرته الدنيا فلينكرها. أما إنه إن كان القبرُ فالقبرُ ولكن في بطن الأرض لا على ظهرها كحالنا؛ وإن كان الموتُ فالموتُ ولكن بمرًّة واحدة وفي شيء واحد لا كهذا الذي نحن فيه أنواعاً أنواعاً. قد ماتت أيامنا وتركتنا نعيش كالموتى لا أيام لهم، وزاد علينا الموتى في النعمة والراحة أنهم لا يتطفَّلون على أيان غيرهم فيطُردوا عن يوم هذا ويوم ذاك
قال: فاستعبرَت المرأةُ باكية، ولما فرغتْ من كلام دموعها قالت: كأنك تريد أن تفجعنا
فيك؟ قلتُ: ما عَدَوْتِ ما في نفسي؛ ولكن هل بقي فيّ من تُفجعين فيه؟ أما ذهب مني ذاك الذي كان لك زوجاً وكاسباً، وجاء الذي هو هُّمك وهُّم هذا الصبيّ من رجلٍ كالحفرة لا تنتقل من مكانها وتأخذ ولا تعطي؟
أم واللهِ لكأني خُلقتُ إنساناً خطأ، حتى إذا تبين الغلط أُريد إرجاعي إلى الحيوان فلم يأتِ لا هذا ولا ذاك، وبقيت بينهما؛ يمر الناس بي فيقولون إنسان مسكين؛ وأحسبُ لو نطقت الكلابُ لقالت عني كلبٌ مسكين. يا عجباً عجباً! لا ينتهي، أصبحت الدنيا في يدنا من العجز واليأس كأنما هي بَعرةٌ نجهدُ في تحويلها ياقوتةً أو لؤلؤة. . . .
فقالت المرأة: والله لئن حَييت على هذا إن هذا لكفرٌ قبيح، ولئن متّ عليه إنه لأقبحِ وأشد
فقلت لها: ويحكِ وماذا تَنظر العينُ المبصرةُ في الظلام الحالكِ إلا تنظًر العمياء؟
قالت: ولِمَ لا تنظر كما ينظر المؤمن بنور الله؟
قلت: فأنظري أنت وخّبريني ماذا ترَيْن أترَين رغيفاً؟ أترين إداماً؟ أتريْن ديناراً؟
قالت: والله إني لأرى كل ذلك وأكثر من ذلك. أرى قمراً سيكشف هذه السُّدفَةَ المظلمة إن لم يطلع فكأن قَدْ
قال: فغاظتني المرأة ورايتها حينئذ أشدّ علي بقلة ذاتِ عقلها من قلت ذات يدي؛ ولا حبي إياها ورحمتي لها لأوقعت بها. واستحكم في ضميري أن أُزهِق نفسي وأدَعًها لما كُتب لها
وقلت: إن جُبن المرأة هو نصف إيمانها حين لا يكون نصف عقلها، وللقَدَر يدٌ ضعيفة على النساء تَصفعهنً وتمسح دموعَهن، وله يدُ أخرى على الرجال ثقيلة تصفع الرجلَ وتأخذُ بحقله فتعصرُه
قال: وكنتُ قد سمعتُ قولً الجاهلية في هذه الخليقة: أرحامٌ تَدفع، وأرض تَبْلع. فحضرني هذا القولً تلك الساعةَ وشُبِّه لي، واعتقدتُ أن هذا الإنسان شيء حقيرٌ في الغاية من الهوان والضَّعة: حملتْه أمُّه كُرْهاً، وأثْقَلتْ به كُرهاً، ووضعته كُرهاً؛ وهو من شؤمِه عليها إذا دَنَا لها أن تَضعَ لم يخرج منها حتى يضربًها المخًاضُ فتتقلًّب وتصيح وتتمزَّق وتًنْصَدع؛ وربما نَشِبَ فيها فقتلها، وربما التوى فيُبْقرُ بطنُها عنه. وإذا هي ولدته على أيِّ حالِهْا من عُسرٍ وتطريق بمثل المطارق المحطِّمة، أو سَرَاحٍ ورَواحٍ كما يتيّسر - فإنما تلده في مَشِيمَةٍ ودماءٍ وقذَرٍ من الأخلاط كأنما هو خارج من جُرْح. ثم تتناوله الدنيا فتضعُه من معانيها في
أَقبحَ وأَقذرَ من ذلك كله. ثم يستوفي مُدَّته فيأخذه القبر فيكون شراً عليه في تمزيقه وتعفينه وإحالته
قال: وحضرني مع كلمة الجاهلية قَولُ ذلك الجاهل الزنديق الذي يُعرفُ (بالبَقلْيّ) إذ كان يزعم أن الإنسان كالبَقْلة - فإذا مات لم يَرجع. وقلت لنفسي؛ إنما أنتِ بقلةٌ حمقاءُ ذاوية في أرض نشَّاشَةٍ فقتلها مِلْحُ أرضها أكثرَ مما أحياها
قال: وثُرتُ إلى المُدْية أريد أَن أتوَجَّأ بها، فتبادِرُني المرأةُ وتحولُ بيني وبينها؛ وأكاد أبطُشُ بها من الغيظ، وكانت روحُ الجحيم تَزْفِرُ من حولي، لو سًمِعوا سمعوا لها شهيقاً وهي تفور؛ فما أدرى أَيُّ مَلكٍ هبط بوحي الجنة في لسان امرأتي
قلت لها: إنها عَزْمةٌ مني أن أقتلَ نفسي
قالت: وما أريد أن أنقُضها ولستُ أرُدَّك عنها وستُمضيها
قلت: فخلى بين نفسي وبين المُدية
قالت: كلنا نفسٌ واحدةٌ أنا وأنت والصبيّ فلنقْضِ معاً؛ وما بنفسي عن نفسك رغبةٌ، ولا ندعُ الصبيّ يتيماً يصفعُه من يُطعمه، ويضرُ به ابنُ هذا وابنُ ذاك إذ لا يستطيعُ أن يقول فيأولاً د الناسِ أنا ابن ذلك ولا ابنُ هذا
قلت: هذا هو الرأي
قالت: فتعالَ اذبح الطفل. . . .
قال المسيَّب بن رافع: وما بلغ الرجل فبي قصته إلى ذبح ابنه حتى ضجَّ الناسُ ضجةً منكَرة؛ وتوهم كل أبٍ منهم أن طفله الصغير مُمدَّدٌ للذبح وهو ينادي أباه ويشُقُّ حَلْقَه بالصراخ: يا أبي؛ أدركني يا أبي
أما الإمام فدَمًعتْ عيناه وكنتُ بين يديه فسمعتُه يقول: إنا لله، كيف تصنعُ جهنمُ حطَبها؟
وأنا فما قَطُّ نسيتُ هذه الكلمة، وما قطُّ رأيتُ من بعدها كافراً ولا فاسقاً فاعتبرتُ أعمالَه إلا كان كلُّ ذلك شيئاً واحداً هو طرقة صنعته حطباً. . . كأن الشيطان لعنه الله يقول لأتباعه: جَفِّفُوه. . . .
وكانت هُنيهاتٌ، ثم فاءَ الناسُ ورجعوا إلى أنفسهم وصاحبوا بالمتكلم: ثم ماذا؟
قال الرجل: ففتحتُ عيني وقلبي معاً ورمقْتُ الطفلَ المسكين الذي لا يملك إلا يديه
الضعيفتين ونظرتُ إلى مَجرى السكِّين من حلقه وإلى مَحزِّها في رقبته اللينة؛ ورايتُه كأنما تَفرَّقَ بصرُه من الفزَع على كل جهة، ورأيته يتضرّع لي بعينيه الباكيتين ألا أذبحَه، ورأيته يتوسل بيديه الصغيرتين كأنه عرف أنه منى أمام قاتله؛ ثم خُيِّل إلى أنه يتلوّى وينتفضُ ويصرخ من ألم الذبح تحت يد أبيه
يا ويلتاه! لقد أخذني ما كان يأخذني لو تهدّمت السماء على الأرض، وحسبت الكونَ كلَّه قد انفجر صُراخاً من أجل الطفل الضعيف الذي ليس له إلا ربُّه أمام القاتل
فَهرُولْت مسرعاً وتركت الدارَ والمرأةَ والصبيْ وأنا أقول: يا أرحمَ الراحمين. يا من خلق الطفل عالَمُهُ أمُّه وأبوه وحدهما وباقي العالم هباءٌ عنده. يا من دبّر الرضيعَ فوهبه مُلكاً ومملكة وغنى وسروراً وفرحاً، كلًّ ذلك في ثَدْي أمِّه وصدرِها لا غير. يا إلهي: أنسني مثلَ هذا النسيان، وارزقني مثل هذا الرزق، واكفلني بمثل هذا التدبير فإني منقطعُ إلا من رحمتك انقطاعَ الرضيع إلا من أمِّه
قال الرجل: ولقد كنتُ مغروراً كالجيفة الراكدة تحسب أنها هي تفور حين فارت حشراتُها. ولقد كنت أحقرَ من الذباب الذي لا يجد حقائقه ولا يلتمسها إلا في أقذر القذر
وما كدت أمضي كما تسوقني رجلاي حتى سمعت صوتاً ندِياً مطلولاً يُرجِّع ترجيع الورقاءِ في تحنانها وهو يُرتل هذه الآيةِ:
(واصبرْ نفسك مع الذيِن يدْعون ربّهم بالغداةِ والعشيِّ يريدون وجهه ولا تَعْدُ عيناكَ عنهم تريد زينةَ الحياة الدنيا، ولا تُطعْ من أغفلنا قلبَه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطا.)
قال: فوقفت أسمع وماذا كنت أسمع؟ هذه شُعَلٌ لا كلمات، أحرقت كلّ ما كان حولي ولستْ مصباحَ روحي المنطفئ فإذا هو يتوهج، وإذا الدنيا كلها تتوهج في نوره، وارتفعتْ نفسي عن الجدبْ الذي كنت فيه وكأنما لفّتني سحابةٌ من السحب ففي روحي نسيم الماء البارد ورائحةُ الماء العذب
لعن الله هذا الاضطرابَ الذي يُبتلى الخائفُ به. إننا نحسبه اضطراباً وما هو إلا اختلاطُ الحقائق على النفس وذّهابُ بعضها في بعض، وتَضُّبُ الشرّ في الخير والخيرِ في الشر حتى لا يَبينَ جنسٌ من جنس، ولا يُعرف حَدُّ من حد، ولا تمتاز حقيقة من حقيقة. وبهذا يكون الزمنُ على المبتَلى كالماء الذي جَمدَ لا يتحركُ ولا يَتَسايَرُ، فيلوحُ الشرُّ وكأنه دائماً
لا يزال في أوله يُنذرُ بالأهوال، وقد يكون هَوْلهُ انتهى أو يُوشك
قال الرجل: وكنت أرى يأسي قد اعْتَرى كل شيء، فامتد إلى آخر الكون وإلى آخر الزمن؛ فلما سكن ما بي إذا هو قد كان باسَ يوم أو أيام في مكان من الأمكنة؛ أما ما وراء هذه الأيام وما خلف هذا المكان فذلك حكمُهُ حكمُ الشمس التي تطلع وتغيب على الدنيا لإحيائها؛ وحكم الماء الذي تَهْمي السماءُ به ليسقي الأرض وما عليها، وحكم استمرار هذه الأجرام السماوية في مَدَارِها لا تُمسكها ولا تزنها إلا قوة خالقها
أين أثر الإنسان الدنيء الحقير في كل ذلك؟ وهل الحياةُ إلا بكل ذلك؟
وما الذي في يد الإنسان العاجز من هذا النظام كله فيَسُوغَ له أن يقول في حادثةٍ من حوادثه إن الخير لا يبتدئ وإن الشر لا ينتهي؟
تعتري المصائب هذا الإنسان لتمحوَ من نفسه الخِسَّة والدناءة، واكسر الشرَّ والكبرياء، وتَفثَأ الحدَّةَ والطيش؛ فلا يكون من حمقه إلا أن يزيد بها طيشاً وحدة، وكبرياءَ وشراً، ودناءة وخسة، فهذه هي مصيبة الإنسان لا تلك
المصيبة هي ما ينشأ في الإنسان من المصيبة
قال: وردًّدتُ الآية الكريمةَ في نفسي لا أشبع منها، وجعلتُ أرتلها أحسنَ ترتيلٍ وأَطرَ به وأشجاه فكانت نفسي تهتزُّ وترّبحُّ كأنما هي تبدأُ تنظيمَ ما فيها لا قرار كل حقيقة في موضعها بعد ذلك الاختلاط والاضطراب
صبرُ النفس مع الذين يمثلون روحانيتها تمثيلاً دائماً بالغَداة والعشيّ، وعلى نور الحياة وظلامها، يريدون وَجهَ الله الذي سبيلُه الحبُّ لا غيرُه من مال أو متاع. وتقييدُ العينين بهذا المثل الأعلى كما يكون الأمر في الجمال والحب؛ والربطُ على الإرادة كيلا تَتَفَلَّت فتُسفًّ إلى حقائر الدنيا المسمى هُزُءاً وتهكما زينةَ الدنيا، تلك التي تشبه حقائق الذباب العالية. . . فتكون قذرةً نجسةً، ولكنها مع ذلك زينة الحياة لهذا الخلق. . . .
تلك والله هي أسباب السعادة والقوة. أما المصائب كلها، فهي في إغفال القلب الإنساني عن ذكر الله
قال: ولما صحَّت توبتي، وقوىَ اليقينُ في نفسي، كَبُرَت روحي واتسعت، وانبعثت لها بواعث من غيره حقائق الذباب، وأشرق فيها الجمال الإلهي ساطعاً من كل شيء، وكان
الصبح يطلع علىًَ كأنه ولادة جديدة، فأنا دائماً في عمر طفل. وجاءني الخير من حيث أحتسبُ ولا أحتسب، وكأنما نمتُ فانتبهتُ غنيّاً، وعَمِلَ القلبُ الحيُّ في الزمن الحيّ
ولقد أَفدْتُ من الآية طبيعةَ لم تكن فيَّ، ولا يثبتُ معها الشر أبداً؛ فاصبح من خِصالي أن أرى الحاضرَ كلَّه متحركا يمرُّ بما فيه من خيره وشره جميعاً، وأستَشْعِرَ من حركته مثلما ترى عيناي من قِطَار الإبل يهتزُّ تحت رِحاله وهو يُغِدُّ السَّير
لم أُبْعِدْ قليلاً وأنا أمشي مطمئناً تائباً متوكلاً حتى دعاني رجلٌ ذو نعمة ومروءة وجاء، وكأنما كلَّمه قلبه أو كلمه وجهي في قلبه فاستَنْبأني، وبثَثْتُه حالي واقتصصتُ قصتي. فقال: سيُحييك الله بالطفل الذي كدتَ تقتله فارجع إلى دارك. ثم وجَّه إلى دنانير وقال: اتَّجِر بهذه على اسم الله وبركته فسينمو فيها طفلٌ من المال حتى يبلغ أُشدَّه. وقد صدق إيمانه وإيماني فبارك لي الله ونما طفلُ المال وبلَغَ وجاوز إلى شبابه
قال المسيَّب: وجلس الرجل وكان كالخطيب على المنبر، فقال الإمام: وما أشبه النكبَة بالبيَضةُ تحسَب سجناً لما فيها وهي تحوطُه وتربِّيه وتُعينُه على تمامه، وليس عليه إلا الصبرُ إلى مدة، والرضى إلى غاية، ثم تَنْقُفُ البيضةُ فيخرجُ خلقاً آخر
وما المؤمنُ في دنياه إلا كالفَرخ في بيضته، عملُه أن يتكوَّن فيها، وتمامُه أن ينبثقَ شخصُه الكامل فيخرج إلى عالَمِه الكامل
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
السكون في الظلام
للأستاذ أحمد أمين
ما ألذه، وما أهنئه، وما أحلاه!
يذهب بالأوصاب، ويرد العافية إلى الأعصاب
فترة سكون في ظلام يجب أن يقضيها كل إنسان في كل يوم - وإذا كان كل الناس في حاجة إليها فرجال الفكر إليها أحوج، هي راحة من عناه مجهودهم، واسترداد لما فقدوا من رءوسهم، واسترجاع لما قطروا من عصارة عقولهم
وهي فوق ذلك أدعى لصفاء الذهن، وصحة التفكير، وجودة الإنتاج - فالبذرة لا تنبت في جلبة وضوضاء وضياء، إنما تنبت في جوف الأرض، حيث لا تراها عين، ولا تؤذيها حركة، وحيث تستمتع بكل ما في السكون والظلام من قوة، حتى إذا تم نضجها خرجت إلى السكون والظلام من قوة، حتى إذا تم نضجها خرجت إلى النور والهواء والحركة بساقها وفروعها، لا بنفسها -
لا وردة تفتن بجمالها ومنظرها وعبيرها قبل أن تدفن بذرتها، يجب أن تمر بها أيام وأيام، تشعر بنفسها ولا يشعر الناس بها، وحتى إذا أعجبت الناس ونفحتهم بنعيمها يجب أن يبقى اصلها منعماً بظلامه وسكونه، فإذا أقلقًتَ مضجعها، وسلبتها هدوءها سلبتك محاسنها
وكذلك كل حي لابد أن يموت ليحيا، وهل النوم إلا ضرب من الموت، ونوع من الفناء. دع الحي يحيا أياماً من غير نوم تره وقد تهدلت أعصابه، وتهدمت قواه، وقرب من الفناء الأبدي
وليس يكفي النوم للمفكر، فهناك ضرب خير من النوم هو أويقات يمضيها في هدوء وسكون وظلام، يكون فيها منتبهاً نائماً، وشاعراً حالماً، يلذ فيها لذة النوم، كما يلذ لذة الصحو، يتعرض فيها لنفحات الله، ويلمع في روحه قبس أشبه ما يكون بالإلهام، وتأتيه الفكرة الناضجة، أو الخَطْرة الكاشفة، أو اللمحة الدالة؛ فتكون خيراً من ساعات وساعات يقضيها في العمل، وبين المحبرة والقلم، والصحف والكتب
قرأت مرة أن متعلماً كان يقص على معلمه أنه يصبح مبكراً فيقضي ساعات في استذكار دروسه، وساعات في تعلم لغات أجنبية، وساعات في أخذ دروس جديدة في علوم مختلفة،
حتى يمضي جزء كبير من الليل فيذهب إلى فراشه وقد أنهكه التعب، وأخذ منه كل مأخذ، فقال له أستاذه: ومتى تفكر، وأين تجد نفسك؟
وهو سؤال له دلالته ومغزاه، فاكثر الناس لا يفكرون، وإن ظنوا أنهم فيما يقرءون ويكتبون ويفكرون، وأكثر الناس يفقدون أنفسهم في ثنايا صحفهم وكتبهم
ولأمر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم (يخلوا بغار حراء، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد يتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء)
في غار حراء حيث السكون والظلام. بعيداً عن الخلق قريباً إلى الحق، قد انقطع عن العالم وضوضائه، والدنيا وألاعيبها، قد صفت نفسه من صفاء محيطه، ووجد نفسه فوجد ربه، وتعرض للإلهام فجاءه الإلهام، وتهيا للوحي فنزل عليه الوحي
لكَمْ تمنيت أن يكون للمسلمين تكايا أو خانقات في أمكنه نزهة منقطعة، ليست من هذا النوع الذي يأوي إليه العاجزون والعاطلون، والذين يأكلون ولا يعملون، ولكنها من طراز حديث يهرع إليها من أراد أن يَسْتجِم نفسه، ويريح قلبه، ويسترد هدوءه، بعد أن أتلفتها ضوضاء المدينة، وجلبة الحياة العصرية - تكون مستشفى للنفوس بجانب مستشفيات الأبدان، ويترهب فيها من أضناه العمل، وأعياه الجهد، رهبانية مؤقتة يجدد فيها نفسه، ويغذي بهدوئها وسكونها عقله وحسه، ويُبعْث إلى العالم خلقاً جديداً كما يبعث النوم الحياة - إذَنْ لقلّت أخطاء الناس ومظالمهم، فأكثرها مبعثه فساد الأعصاب - وإذن لقلّ إلحادهم فأكثره منشؤه الانغماس في المادة وشؤونها، فإذا تجرد المرء منها زمناً وخلا بنفسه وأتيحت له فرصة التفكير في هدوء وسكون وظلام تحرك قلبه للعبادة، ونزع إلى الإيمان، فاستجاب لفطرته، واستمع لطبيعته - وإذن لقلة مطامع الناس، وتكالبهم على الحياة، فحياة الهدوء والسكينة توحي بأن الحياة ظل زائل، ومرحلة مسافر
لقد اعتاد الناس أن يفروا من متاعبهم إلى المقاهي والفنادق في الهواء الطلق، وعلى شواطئ الأنهار والبحيرات والبحار، ولكنها كلها تفيد الجسم ولا تفيد - كثيراً - الروح والنفس، هي من نوع المستشفيات البدنية لا المستشفيات الروحية والنفسية، فيها - عادة - كل مظاهر المدينة وتعقيداتها وأخيلتها وتكاليفها، فهي لا تغني غناء صحيحاً في العلاج النفسي والروحي - إنما يغني هنا الغناء أنواع من المعاهد والمؤسسات قد بني على أساسٍ
نفسي وروحي لا يعبأ بزخارف المدنية وزينة الحضارة، يربح النفس من عناء التكاليف والتقاليد، ويسمو بها فوق المواضعات والمصطلحات. فتجد النفس راحتها الطليقة، وتعود إلى طبيعتها الحرة. وتسبح في تأملاتها، وبذلك تسترد حيويتها ونشاطها
في سكون الظلماء يرى الإنسان بعينه ما لا يراه في الضياء، ويسمع بأذنه ما لا يسمع في الضوضاء، على أنه هو لا يرى بعينه فحسب، ولا يسمع بإذنه فحسب، بل كل شيء فيه يسمع ويرى، يفهم منطق الطير، ويتذوق موسيقاه، ويدرك معاني المياه في تحريرها، والرياح في هبوبها، والأشجار في حفيفها - فكأنه منح من الحواس ضعاف حواسه، وملك من الملكات ما لا يعد بجانب ملكاته - وكأن عالم الصخب والجلب يغشي عينه، ويثقل سمعه، ويبلد عقله ويثلم ذوقه، فلئن كان الصوت في عالم الحس له حدود، فإذا قلت تموجاته عن حدوده أو زادت انعدم السمع، فليس في عالم الروح حدود للصوت، ولئن كانت العين في عالم الحس لا تدرك من الألوان إلا اقلها، وتعجز عن إدراك أكثرها، فعين الفكر لا يحدها حد ولا يعجزها لون، ولئن كانت عيننا البصيرة لا تبصر إلا في ضياء، وأذننا لا تسمع إلا من قرع هواء، فعيوننا وآذاننا الروحية تستعين بالسكون والظلماء، أكثر مما نستعين بالضوء والهواء
إني لأرثي لهؤلاء الذين يضيعون كل حياتهم في هزل بل أرثي كذلك لهؤلاء الذين يقضون نارهم في وظائفهم وأعمالهم. ثم ينصرفون إلى لهوهم حتى يناموا، بل أرثي أيضاً لهؤلاء الذين يقضون أوقاتهم بين بحث علمي، وقراءة وتأليف وتعليم. ثم لهو قليل ونوم، واعتقد أن هناك عنصرا في الحياة ينقصهم وهو عنصر التأمل، ولست أعني بالتأمل ذلك الضرب من الأسلوب المنطقي العلمي في البحث والتفكير، إنما اعني ذلك الضرب الذي عناه القرآن بمثل قوله:(وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وقوله: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) هو نوع من العقل قد مزج بنوع من الشعور، وقد امتاز به الشرق على الغرب قديما، ومن ثم كان مبعث الأديان، ومصدر الإلهام
في هذا الضرب من التأمل يجد الإنسان نفسه حيث لا يجدها في هزل ولا جد، وفيه يعرف نفسه على حين أنه يعرف غيره أكثر مما يعرف نفسه، وفيه يجلس إلى نفسه ويصادقها ويصارحها على أن أكثر الناس يجالسون الناس ولا يجالسون أنفسهم، ويصارحون الناس
ولا يصارحون أنفسهم، ويصادقون الناس وهم أعداء لأنفسهم
وأظن أن في الاستطاعة أن يوضع برنامج متسلسل للتأمل كبرنامج القراءة والكتابة وتعلم اللغات وتعلم العلوم، يبدأ فيه بألف باء التأمل، وينتهي بيائه إن كان له ياء، وتخصص له حصص يومية كحصص المواد العلمية، وإن كانت حصصه تمتاز بأنها في ميسور كل إنسان، ليست تحتاج إلى مدرسة يتردد عليها، ولا إلى معلم يأجر، ولا أدوات وكتب يتداولها، وإنما هي من قبيل تربية النفس بالنفس - وليست تحتاج إلا إلى مران واعتياد وعرفان بكيفية السلوك
أول دروسها أن تخلو بنفسك، ولا يكون ذلك إلا في هدوء وسكون، وخير أن يكون في ظلام. ثم تجرد في هذه الحصة من شواغل الدنيا وهمومها؛ واستعرض نفسك من حيث بدنك كيف تؤذيه ببعض عاداتك؛ وهل تدبره تدبير عاقل حكيم، أو مستبد جاهل، وما خير الوسائل لإصلاح ما تقع فيه من أغلاط؟
وتدرج من هذا إلى التأمل في ناحية أخرى نحو علاقتك بعقلك، وعلاقتك بالناس واستعراض ما يكون منك ومنهم
وارق إلى خطوة ثالثة تسائل فيها نفسك، ما غايتك وما مبادئك في الحياة، وهل وضعت لها خططاً؟ وما مقدار تقدمك إليها أو تأخرك عنها؟
سيسلمك ذلك - من غير شك - إلى خطوات أوسع، وتأمل أعمق حسب جهدك واستعدادك؛ وستكون لك في النهاية فلسفة لا من جنس فلسفة أفلاطون وأرسطو، ولكنها فلسفة شخصية قد بينت على تأملك وشعورك لا على حفظك وقراءتك. وستتصل من هذا الطريق بأفق أوسع وملكوت أعلى
في الحديث: (الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا) ولعل هذا الضرب من التأمل ينبههم في حياتهم، من غير أن ينتظروا أن ينتبهوا بموتهم
ربما كان هذا ضرباً من التصوف يتفق وروح العصر، وإن شئت فقل إنه نوع من التصوف على أحدث طراز وأبدع نمط، يبعث على الحياة لا الموت، ويدعو إلى النشاط والعمل لا إلى الخمول والسأم، ولعل الإنسان يجد في الركون إليه بعض أوقاته راحة مما رمتنا به المدينة الحاضرة من عناء، وما أرهقتنا من عنت، ولعلنا نستروح من هذا
البرنامج نسيم الراحة فيراجعنا نشاطنا، وتثوب إلينا قوتنا، وتعود إلينا نفوسنا
أحمد أمين
عصر الخفاء في مصر الإسلامية
6 -
الحاكم بأمر الله
ختام البحث
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 10 -
إلى ذلك الحين سلخ الحاكم زهاء خمسة عشر عاماً في الحكم؛ وكانت فترة تحمل طابع الاضطراب والعنف والمفاجأة بما تخللها من غريب الأحكام والتطورات التي أتينا على ذكرها. . ولكن الحوادث تدخل من ذلك الحين في طور آخر، ويميل العهد إلى نوع من الهدوء، ويتجه الحاكم وجهة أخرى. كان ذلك الذهن المضطرم الهائم معاً لا يسكن إلى ركود الحياة العادية، وكان دائماً يؤثر التوغل في عوالم الحياة الروحية. وكانت أعوام العصر الأخيرة مليئة بهذه التيارات الخفية التي تحجب عنا أغوارها ريب وظلمات كثيفة. كانت مصر في هذه الأعوام مهداً خصباً لعصبة من الدعاة المغامرين الذين هبطوا إليها يبشرون بأديان وعقائد جديدة؛ وكان الحاكم من وراء هذه الدعوات يرعاها ويرقب تطوراتها حتى استحالت في أواخر عهده إلى دعوة جريئة إلى (ألوهيته)، ونعت الحاكم عندئذ بقائم الزمان وناطق النطقاء. وقد سبق أن فصلنا عناصر هذه الحوادث والدعوات في (الرسالة) في بحثنا (الدعوة الفاطمية السرية) فلا نعود إليها هنا
وكانت خاتمة الحاكم، كحياته، خفية مدهشة؛ فقد أغاض من هذا العالم وزهق في ظروف غامضة مازالت على التاريخ سراً عسير الجلاء
وهنا نحاول، بعد استعرضنا أعمال الحاكم بأمر الله وغريب أحكامه وتصرفاته، أن نعرض إلى أدق وأصعب نقطة في دراسة هذه الشخصية العجيبة
ماذا كانت حقيقة هذه الشخصية التي جمعت بين خلال وصفات يحمل أكثرها طابع العنف والشذوذ والتناقض؟ وبأي عين يجب أن ننظر إليها، وبأي معيار نستطيع أن نقدر صفاتها وأعمالها؟ وأي أحكام يسوغ لنا أن نصدرها لها أو عليها؟
لدينا في ذلك مادة منوعة: أقوال الرواية الإسلامية المعاصرة والمتأخرة، وحوادث العصر،
وأعمال الحاكم وتصرفاته ذاتها. فأما الرواية الإسلامية، فلا ترى في أمر الحاكم لغزاً يصعب استجلاؤه؛ ولنلاحظأولاًأن ما انتهى إلينا من أقوال الرواية الإسلامية، إنما هو في الغالب أقوال المؤرخين السنيين، خصوم الشيعة وخصوم الدولة الفاطمية، وإننا لم نلتق من تراث الشيعة الذي بددته الحوادث والدول الخصيمة ما يلقي ضياء كافياً على ذلك الخفاء الذي يحيط بشخصية الحاكم وأعماله. والحقيقة أن الرواية الإسلامية تأخذ بظواهر الحوادث المادية، وتكتفي بأن تقدم إلينا الحاكم في تلك الصور المروعة المثيرة التي أشرنا إليها؛ وقلما تحاول أن نلتمس في ما وراء ذلك شيئا من البواعث والأسباب التي يمكن أن نعلل بها بعض نزعات الحاكم وتصرفاته العجيبة. وقد أوردنا بعض أقوال الرواية الإسلامية في وصف الحاكم؛ فهي لا ترى فيه أكثر من أمير مضطرب العقل والتفكير، عنيف الأهواء والنزعات، كثير العبث والسفك، شديد التناقض، لا يصدر عن رؤية أو منطق متزن، ولا يتحرى غاية أو مثلاً معقولة. هذه هي الصورة العامة التي يقدمها إلينا المؤرخون المسلمون عن الحاكم؛ وهي صورة بسيطة ساذجة مستمدة من ظاهر الحوادث المادية؛ فقد كان الحاكم طاغية شديد البطش والسفك، ولكنه كان يتخذ السفك وسيلة لا غاية، وكان القتل في نظره خطة سياسية؛ وكان عنيف الأهواء والنزعات، ولكنها لم تكن نزعات شهوة نفسية، وإنما نزعات ذهن يرتفع عن الوسائل العادية لتوجيه مجتمع يراه جديراً بالتغيير والتطور؛ وكان متناقضاً في كثير من تصرفاته، ولكن تناقض الذهن الذي يحاول مختلف الوسائل والتجارب لتحقيق غايات معينة. ومع ذلك فإنه لم يفت بعض المؤرخين أن يلاحظ أن عقلية الحاكم لم تكن بتلك البساطة التي تصور بها، فقد وصفه الذهبي بأنه كان (خبيثاً، ماكراً، ورديء الاعتقاد)، وهي صفات ليست من خواص الذهن المضطرب السقيم الذي يفكر دون تدبر ويعمل دون غاية
والواقع أن الحاكم بأمر الله كان عقلية مدهشة، وكان لغزا عسير الفهم؛ وإذا كان قد أشكل على المؤرخين المسلمين من معاصرين ومتأخرين فلم يحاولوا فهمه، فإنه مازال أيضاً في بعض نواحيه لغزا على عصرنا، وإن كنا نستطيع أن نحاول فهمه من بعض النواحي، وتعليل كثير من أعماله وأحكامه. ويصفه العلامة الألماني ميللر بأنه (من أعجب وأغمض الشخصيات التي عرفها التاريخ)؛ ويقول: (إن من يقرأ ما أورده المؤرخون المتأخرون من
مختلف الأساطير والقصص يخرج بأنهم لم يفهموه، وأنهم اعتبروه مجنونا فقط؛ وقد جرى رأيهم فيه مجرى الحقيقة، ولكن توجد ثمة شواهد واضحة على أن هذا الأمير الذي هو أعجب من أنجبت أسرته، كان أشدهم إثارة للأساطير من حوله، وأن حجابا كثيفا قد أسبغ على صورته فلا نستطيع أن نظفر منها إلا بلمحات)
والآن ماذا نستطيع أن نقول في قوانين الحاكم وتصرفاته؟ وكيف ننظر إليها؟ هل كان في مجموعها فورات مجنون ونزعات مخبول كما تصورها معظم الروايات الإسلامية؟ إن كثيراً من هذه القوانين والأحكام يحمل طابع القسوة والإغراق، ولكن من التحامل والظلم إن نصفها بالسخف المطبق، وان ننعت صاحبها بالجنون ولقد ظلم التاريخ الحاكم كما ظلم كثيراً من الطغاة المصلحين؛ وقد كان الحاكم طاغيا، ولكن مصلحا على طريقته، وكان يرمي بما يصدر من القوانين والأحكام إلى تحقيق غايات معينة، دينية وسياسية واجتماعية، ربما خفيت على الكافة، لأنها تتعلق بسياسة الدولة العليا؛ ومن ثم كان الريب في حكمتها والسخط عليها؛ وكانت القسوة في تطبيقها
فأما معاملة الذميين: أعنى اليهود والنصارى، وما صدر في شأنها من الأوامر والأحكام المشدودة، فلم تكن بدعة في ذاتها ولم تكن حدثاً جديدا في الخلافة الإسلامية؛ ولم يكن فيها من الجديد سوى روحها ووسائلها الشديدة التي جعلت منها نوعا من الاضطهاد المنظم. ولقد كانت الخلافة الإسلامية تأخذ بسياسة التسامح الديني وتطلق لرعاياها الذميين الذين يؤدون الجزية حرية الاعتقاد والشعائر؛ ولكن الذميين كانوا يلقون من الوجهة الاجتماعية دائما نوعا من المعاملة الخاصة؛ ومنذ خلافة عمر فرضت عليهم بعض الأحكام والقيود التي تجعلهم من الوجهة الاجتماعية أدنى من المسلمين، وكان منها قيود تتعلق بالأزياء وركوب الخيل، وحمل السلاح واقتناء العبيد؛ وكانت هذه الأحكام تتخذ في عصور الحماسة الدينية لوناً من الشدة يختلف باختلاف الظروف والأحوال. قد رأينا إن الخلافة الفاطمية كانت تتبع سياسة التسامح الديني نحو اليهود والنصارى، وإنهم في ظلها ازدهروا وتبوءوا أرفع مناصب الثقة والنفوذ وإن موقف الحاكم نحوهم، واشتداده في معاملتهم على هذا النحو، كان انقلابا في السياسة الفاطمية. وقد نستطيع أن نفسر هذا التطرف من جانب الحاكم، بأنه نوع من الغلو الديني له بواعثه السياسية؛ ففي هذه المرحلة التي أشتد فيها الأمر على اليهود
والنصارى، كان الحاكم يبدي كثيرا من التعصب والغلو سواء من الناحية الدينية العامة أو الناحية المذهبية الخاصة ولكن هذه الشدة استحالت في أواخر عصره إلى نوع من اللين والرفق بالنصارى واليهود؛ ذلك لان هذا الذهن المضطرم يستحيل عندئذ إلى ذهن فلسفي حر التفكير، ينظر إلى الأديان كلها نظرة واحدة؛ وإن كانت السياسة العليا تحتم عليه أن يؤيد دين الدولة ومذهبها الرسمي؛ وقد كان الحاكم ولد أم نصرانية كما قدمنا أفلا نستطيع، أثر هذه الأرومة أيضاً في هذا التكوين الديني المضطرب، وفي هذا التردد بين الشدة واللين؟ ومما يلاحظ في هذا الصدد إن موقف الحاكم إزاء النصارى واليهود هو من المواقف القليلة التي ثبت فيها الحاكم على سياسة واحدة، وإنه لن يجنح فيه من الشدة إلى اللين إلا في أواخر عصره حينما ظهر الدعاة السريون الذين يدعون إلى دين جديد وعقائد جديدة وقوانين الحكم الاجتماعية؟ هل كان تشريعاً جنونياً خاليا من كل باعث وحكمة؟ إن الحكم على هذه القوانين يقتضي أن نفهم روح العصر وخواص المجتمع المصري يومئذٍ؛ كان الحاكم بأمر الله على رأس خلافة مذهبية يقوم سلطانها السياسي على صفة الإمامة الدينية؛ وكانت هذه الخلافة تريد أن تحيط ملكها في مصر بسياج قوي من الخلال القوية التي أحاطت ملكها في المغرب؛ ولكنها الفت في مصر مجتمعا متحضراً يميل إلى الترف والحياة الناعمة، ولم ترد أن تضيق على هذا المجتمع بادئ بدء، لأنها كانت تخطب وده وتسعى إلى تأليفه؛ ولهذا كانت تسايره، وتغيره ببذخها وبهائها، وتطلق له أعنة البهجة والمرح، وتغمره بالمواسم الفخمة والحفلات والمواكب الشائقة؛ فكانت تذكر بذلك مرحه وخفته واستهتاره بدلا من أن تذكر فيه الخلال القوية التي تنشدها. وكانت عوامل الانحلال تجثم في قرارة هذا المجتمع الذي يخفى انحلاله تحث أثواب من الفخامة والبهجة؛ وكانت الرذائل الاجتماعية على اشدها حينما تولى الحاكم بأمر الله، وظهر ذلك الانحلال الاجتماعي في اشد مظاهره حينما نظمت حياة الليل، وشهد الأمير مواكبه الليلية مظاهر هذا الفساد الشامل. عندئذ عمد الحاكم إلى وضع هذه الخطة التي يمكن أن توصف بحق بأنها برنامج للإصلاح الاجتماعي، ولجأ إلى تلك القوانين والإجراءات الصارمة كوسيلة لمكافحة هذا الفساد الاجتماعي الشامل؛ وفيم تحريم الخمر ومطاردة المدمنين، وتحريم الغناء واللهو الخليع إلا أن يكون لتقويم أخلاق الشعب، وحماية أمواله وصحته من الإسراف
والعبث، وحماية المجتمع من ضروب الفساد التي يغرق فيها؟ إن الأمم العظيمة في عصرنا تلجأ في أحيان كثيرة إلى إصدار مثل هذه القوانين لبث الإصلاح الاجتماعي؛ وما عهد التحريم الأمريكي ببعيد، فقد حرمت الخمر في أمريكا مدى أعوام، وكانت تجربة اجتماعية هائلة لا تزال ذاكراها ماثلة في الأذهان؛ وما تزال بعض الدول تحرم بعض الملاهي التي تراها خطرا على الأخلاق العامة؛ وما تزال بعض الحكومات تحد من حريات الشعب في التجوال بالليل في ظروف معينة حرصاً على الأخلاق والأمن العام
ومطاردة المرأة والحجر عليها؟ لا ريب أن الحاكم كان يذهب في ذلك إلى ذروة الغلو والإغراق، ولكن المرأة من أشد عوامل الفتنة والغواية، ولاسيما في عصور الفساد والانحلال، وقد رأى الحاكم، في الحجر على المرأة، والمباعدة بينها وبين الرجل في حياة المدينة، وسيلة لمكافحة الرذيلة وحماية الأخلاق الفاضلة. أما الإغراق في تطبيق التجربة، فهو بلا ريب أثر من إغراق هذا الذهن الهائم في كل ما يعتقد ويبتكر؛ وإذ كنا نستطيع أن نعلل فكرة الحجر على المرأة وإبعادها عن مجتمعات المدينة، فمن الصعب علينا ذلك الإغراق في تطبيقها إلى حدود من القسوة الذريعة. بيد أنه ليس من الإنصاف أن ننكر على الإجراء كل حكمة، فإن من المحقق أنه كان ذا اثر كبير في درء الفساد الشامل وتنقية حياة المدينة، وإنا لنشهد في عصرنا في بعض الأمم العظيمة فكرة مماثلة في الحد من حريات المرأة الاجتماعية وردها إلى حظيرة الأسرة مع فرق في العصر والظروف. ففي إيطاليا الفاشستية، وألمانيا الهتلرية تفقد المرأة كثيرا من حريتها، ويحضر عليها التبذل والتهتك في الأزياء؛ وفي إيطاليا تلزم بان لا يقل ثوبها عن طول معين؛ وفي ألمانيا وإيطاليا يحضر اليوم كثير من ضروب اللهو الخليع، وتمنع الحانات الليلية والملاهي العارية. ولا ريب أن الفكرة التي أملت على الحاكم خطته، وتملى اليوم على ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الفاشستية خطتها نحو المرأة، ترجع في جوهرها إلى اصل واحد، هو مكافحة عوامل الغواية والفساد التي يبثها تهتك المجتمع النسوي وإمعانه في صنوف الاستهتار والخلاعة
وأما تحريم بعض أنواع الأطعمة فقد يرجع إلى أسباب صحية لها قيمتها في ذلك العصر، وإما تحريم ذبح الأبقار السليمة فهو إجراء ظاهر الحكمة وهو المحافظة على النسل. وأما قتل الكلاب فهو تحوط صحي لا يزال يتبع في عصرنا في جميع الأمم المتمدنة
ولسنا ندعي أننا نستطيع أن نعلل كل قوانين الحاكم وإجراءاته وتصرفاته أو أن ننفذ إلى بواعثها وحكمتها جميعاً، فهناك الكثير منها مما لا يستطاع فهمه وتعليله؛ ولكن الذي نود أن نقوله هو إن هذه القوانين والإجراءات، كانت عكس ما تصورها الرواية الإسلامية بأنها نزعات طاغية مضطرب الذهن، تكون في مجموعها برنامجاً إصلاحياً شاملا، وترمي في مجموعها على تحقيق غايات لا ريب في حكمتها وسموها
يقول العلامة دوزي: (لم تكن قوانين الحاكم سخيفة كما يحب أن يصورها الرواد السنيون الذين اعتادوا ان يقدموا إلينا من هذا الأمير شخصية مضحكة لا صورة حقه) ثم يقول: (ولقد أراد الحاكم أن يكافح الانحلال الشامل الذي سرى إلى مجتمع عصره بقوانين بوليسية صارمة، وأحيانا غريبة شاذة) ثم يشرح رأيه بعد ذلك على ضوء هذه القوانين والأحكام المختلفة، ويحدثنا بعطف عن تواضع الحاكم وتقشفه، ويقول ميلر بعد أن يلخص قوانين الحاكم الاجتماعية (إن هذه التصرفات ليست كلها تنم عن الحماقة؛ وإذ كنا لا نستطيع أن نعلل كل أعماله، فليس ذلك مما يحملنا على أن نعتبر تصرفاته فورة أهواء مستبد ولا سيما ونحن نراها في نواحٍ أخرى سليمة معقولة. وكل ما وصلنا من الروايات إنما هو وقائع مجردة، مشوهة ومبالغ فيها بلا ريب؛ وإنه ليكون من المدهش اليوم أن نستطيع أن نحل رموز هذه المعضلة الشاملة) ثم يقول: (وليس لدينا إلا أن نعتقد أنه أما باطني متعصب، توهم في نفسه الإغراق والألوهية، وأما أمير ذكي بارع في تاريخ أسرته ومذبها، وأعتقد أنه يستطيع أن يسمو فوق البشر وأن يحتقرهم ويصنفهم كالشمع طوع إرادته. وربما كان يجمع في طبيعته المتناقضة بين شيء من هذا وشيء من ذاك وربما لا يستطيع أن يظفر بالحقيقة هنا سوى خيال شاعر)
والخلاصة أن الحاكم بأمر الله لم يكن تلك الشخصية الوضيعة الساذجة، ولا تلك العقلية المخرفة التي تقدمها إلينا الرواية؛ ولم تكن أعماله وأحكامه، كما صورت على كل العصور مزيجا من النزعات والأهواء الجنونية؛ وإنما كان الحاكم لغز عصره، وكان ذهنا بعيد الغور وافر الابتكار وكان عقلية تسمو على مجتمعها وتتقدم عصرها بمراحل. وكان بالاختصار عبقرية يجب أن تتبوأ في التاريخ مكانها الحق.
تم البحث
محمد عبد الله عنان
المحامي
سقراط والعالم الإسلامي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد لهجت السنة الأثينيين باسم حكيم لا كالحكماء، وفيلسوف لا كالفلاسفة. لا يتفق شكله وزيه مع جلال الحكمة، ولا يتلاءم أصله ونسبه مع عظمة الفلسفة. فقد كان أفطس الأنف، مرسل الشعر في غير انتظام، حافي القدمين، حاسر الرأس مرتديا كساء غليظا. أبوه نقاش وأمه قابلة: مهنتان ليس لهما من الشرف نصيب كبير وهو مع هذا يناقض أهل أثينا ويبين خطأهم، ويسفه أحلامهم دون أن يدعي الإتيان بجديد، أو تعليم الناس ما لم يعرفوه. أجل لم يك هذا الفيلسوف رئيس مدرسة يجتمع فيها الطلاب ولا صاحب نظرية محدودة يتدارسها الأتباع والتلاميذ. بل كان يبعث حكمته في الأسواق والطرقات ويلقى درسه أمام الحوانيت وفي ملعب الشبان. وما كان هذا الدرس وتلك الحكمة إلا إعلانه دائماً إنه لا يعرف شيئاً وترديده لهذه الجملة المأثورة:(أعرف نفسك بنفسك). ذلكم الحكيم الغريب شكله، القبيح منظره، الشاذة تعاليمه وطريقته هو سقراط الذي نهج بالفلسفة نهجاً جديداً، وكان على رأس طوائف فلسفية متعددة ومتباينة
بين فلاسفة الأغريق ثلاث أسماء لا يكاد الإنسان يذكر واحدا منها إلا وحضر بذهنه الآخرون. ومن ذا الذي يلفظ أسم أفلاطون دون أن يخطر بباله أنه كان تلميذا لسقراط وأستاذا لأرسطو؟ أو من ذا الذي يتكلم عن سقراط ولا يلحظ تلميذه أفلاطون وتلميذ تلميذه أرسطو؟ وفي الحق أن هؤلاء الحكماء الثلاثة يكمل بعضهم بعضا: تضافروا على تكوين نظرية مشتركة نشأت بين يدي الأول، وترعرعت لدى الثاني، وأخذت شكلها الكامل عند الأخير. فكلهم أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض وعني بالإنسان في تفكيره وسلوكه أكثر من عنايته بالشؤون الطبيعية في نظامها وتقلبها. وكلهم بحث عن الفكرة ' في طريق تكونها وأصل نشأتها ودرجة وجودها وبذا كانوا جميعاً أساتذة (الفلسفة الفكرية) التي لعبت دوراً هاماً في تاريخ الدراسات النظرية والتي لا تزال عماد البحث العقلي إلى اليوم
لم يقف نفوذ سقراط عند الشعبة الأفلاطونية والأرسطوية، بل تعداهما إلى مدارس أخرى كانت من أشد الناس عداءاً لأفلاطون وأرسطو. فالميجاريك تلاميذ أقليد الميجاري والسينيك أتباع أنطستين يصعدون إلى سقراط وان كانوا من أول من خرج عن المنطق،
وشكك الناس في الحقيقة وكيفية الوصول إليها. فهم بهذا من أكبر الخصوم (الفلسفة الفكرية) التي تحدثنا عنها. والأخلاق لدى أصحاب الرواق تعتمد على أساس سقراطي واضح؛ فالرواقيون يرون - كما يرى سقراط - أن الحسن ما أملته الإرادة، وما أتفق مع العاطفة الشخصية. وعلى هذا يجب أن تؤسس الأخلاق لديهم جميعا على دعامة من العزيمة والشعور الفردي. وطريقة اللاإداريين في الحوار والمناقشة متأثرة قطعاً بطريقة سقراط ومن قبله من السوفسطائيين
ذلكم هو سقراط في العالم الإغريقي؛ وبودنا أن نعرف على أي صورة وصل إلى العالم العربي هل وجد بين العرب أنصارا وأتباعا مثلما وجد بين الأغريق، وهل عنى المسلمون بشأنه عنايتهم بأفلاطون وأرسطو؟ مما لا شك فيه أن هذين الأخيرين ملكا على العرب الجانب الأعظم من تفكيرهم الفلسفي، وكان موضع شغل الباحثين منهم ولعل ذلك راجع إلى أن قدرا كبيرا من كتبهما ترجم إلى العربية، فساعدا على دراستهما دراسة مستفيضة. أما سقراط فلم ينفذ إلى الفكر الإسلامي إلا بواسطة ما رواه على لسانه أفلاطون وأرسطو وبعض المؤرخين أمثال بلوتارك. بيد أن شيخ أثينا هذا، ورسول (أبولون) وترجمان وحي (دلف) قد أثر في نواحي عربية هامة غامضة؛ وسنحاول الكشف عنها اليوم
في سقراط ظاهرتان هامتان: حياته أن شئت شخصيته الغريبة، وطريقته وتعاليمه؛ وقد يكون ذيوع صوته راجعاً إلى الأولى اكثر من رجوعه إلى الثانية فكثير من الناس يعرف سقراط الزاهد المتقشف الذي أعرض عن ملاذ الدنيا فلم يشرب نبيذا قطاً ولم يتناول طعاماً شهياً؛ وكثير منهم يعرف سقراط القوى العزيمة الذي لا يخضع لإرادة غير إرادة الحق مهما عظم شأنها؛ وكثير منهم يعرف سقراط البطل الذي ضحى بنفسه آمنا مطمئنا في سبيل رايته وعقيدته. كل هؤلاء يعرفون ذلك من سقراط، وان خفيت عليهم آراءه ونظرياته. هذه الظاهرة الهامة في الفيلسوف الأثيني هي التي بهرت المسلمين بوجه خاص، فرعاهم منه شخصه أكثر مما راعهم علمه ودرسه. وإن إذا رجعنا إلى كتب التراجم العربية وجدنا أنها لا تكاد تدرس إلا حياته وقصة موته. فابن النديم الذي ترجم له في اختصار بلغ حد الإخلال اكتفى بأن قال أنه (كان زاهدا خطيبا حكيما قتله اليونانيون لأنه خالفهم)، والقفطي الذي وقف عليه نحو تسع صفحات من القطع الكبيرة بين في
تفصيل كيف حوكم هذا المتهم البريء وكيف نفذ فيه حكم الإعدام. وابن أبي أصيبعة يشارك القفطي في ترجمته المطولة ويضم إليها بعض حكم يعزوها إلى سقراط إلا أن هذه التراجم في جملتها تحوي أخطاء يجدر بنا أن نشير إلى بعضها فمثلا يزعم ابن النديم ومن جاء بعده أن سقراط ألف مقالة في السياسة ورسالة في السيرة الجميلة؛ والحق أن هذا الفيلسوف لم يكتب شيئاً قط. ومن الغريب أن ابن أبي أصيبعة قد تنبه إلى هذا ولاحظ أن سقراط (لم يصنف كتاباً، ولا أملي على أحد من تلاميذه ما أثبته في قرطاس وإنما كان يلقنه تلقيناً لا غير)؛ ولكنه عاد فوقع فيما وقع فيه من قبله من الخطأ. ويكاد يجمع أصحاب التراجم هؤلاء على أن سقراط عاش ثمانين سنة أو جاوزها إلى مائة مع أنه توفي عن إحدى وسبعين سنة. ويروي القطفي عن بعضهم أن سقراط كان شآمياً وهذا خطأ واضح فإن هذا الحكيم أثيني في نشأته ونسبه ويمثل أول خطوة في الحركة الفلسفية التي دامت في أثينا نحو قرن أو يزيد. ومهما يكن من شيء فإن إن غضضنا الطرف عن هذه الهفوات الصغيرة وجدنا أن هؤلاء المؤلفين وصفوا حياة سقراط في جزيئاتها الهامة
لم تلفت هذه الحياة العظيمة نظر مؤرخي العرب وحدهم بل كان لها اثر بين كل طائفة من الفلاسفة والعلماء فالكندي بلغ به حبه للفيلسوف الإغريقي وإعجابه به أن كتب فيه عدة مؤلفات منها: رسالة في خبر فضيلة سقراط، رسالة في ألفاظه رسالة في ما جرى بينه وبين الحرانين، رسالة في موته. وهناك تشابه بين سقراط والكندي لن يفوتنا أن ننبه إليه؛ فلئن كان الأول قد مهد (للفلسفة الفكرية) في العالم الإغريقي ووضحها بأمثلة من الأخلاق والحياة الدارجة، فأن الثاني هو أول من أتجه نحو الدراسات الفلسفية في العالم العربي. وإخوان الصفا يصعدون بسقراط إلى درجة النبوة، ويعقدون لموته فصلاً قيماً في رسائلهم؛ وعلهم استقوه مما كتبه الكندي من قبل. ويرى الرازي طبيب الإسلام الأكبر وفيلسوفه الذي لم يدرس بعد الدرس اللائق به إن سقراط هو الفيلسوف الحق، ويعارض به أتباع أرسطو من زملائه ومعاصريه المسلمين. ومعروف ما بين الرازي وإخوان الصفا من صلات في العقيدة والآراء الفلسفية والسياسية. فلسقراط إذن أبناء وتلاميذ في الديار الإسلامية، كما كان له من قبل في البلاد الإغريقية؛ وهؤلاء التلاميذ ألصق بشعبة الإسماعيلية والمتصوفة الذين شاءوا أن ينهجوا نهج حكيم أثينا في زهده وتقشفه وأن يتفانوا تفانيه في نصرة
مبادئهم
أما تعاليم سقراط وإن بدت ثانوية في نظر مفكري فإنها لم تكن مجهولة لديهم. وقد أختص الشهرستاني بإيراد أكبر قدر منها في كتابة الملل والنحل. فهو يعرضأولاًآراء سقراط الدينية والميتافيزيقية، مبيناً ما قاله في صفات الباري وذاته ومفيضاً في ذلك بدرجة محسوسة. ثم يجاوز هذا إلى الكلام عن مذهب سقراط في المبادئ والعلل، وفي أزلية النفوس الإنسانية ووجودها السابق لوجود الأبدان. وهذه الآراء المنسوبة إلى سقراط قد جاءت بنصها على لسان أفلاطون؛ على أن العرب أنفسهم لم يستقوها إلا من مؤلفات الأخير. وهنا تعترضنا مشكلة تاريخية مشهورة، ألا وهي أنا إن سلمنا بأن كل ما رواه أفلاطون باسم أستاذه من عمل الثاني لم يبقي للأول شيء وعلى العكس من ذلك إن كانت مؤلفات التلميذ تترجم عن رأيه الخاص فإنا لا نكاد نجد لسقراط نظرية مستقلة؛ وقد كنا نأمل أن نحل هذه العقدة التي حار فيها المؤرخون المعاصرون على ضوء المصادر الإسلامية، فلم نظفر فيها بما ينقع الغلة. وفي رأينا إن سقراط لم يعن بتكوين نظريات فلسفية مفصلة، وكل مهمته أنه أشار إلى أفكار عامة تولاها أفلاطون من بعده بالدرس والتحليل
بيد إن لسقراط عمل آخر شخصياً لا ينكره عليه أحد؛ وهو طريقته الجدلية المبنية على الاستنباط والتشكيك. بهذه الطريقة أشتهر، وبها تمكن من قهر جماعة السوفسطائيين وبواسطتها أصلح كثيراً من الأخطاء الشائعة، ومهد السبيل لتكوين الأفكار العامة. وقد وصلت هذه الطريقة إلى العرب - كما وصلت إلى المحدثين - في ثنايا كتب أرسطو وأفلاطون؛ ولفلاسفة الإسلام في شرحها ومناقشتها أبحاث مختلفة؛ فسقراط المثل الأعلى في التضحية، وسقراط الباحث النظري، وسقراط المناظر القوي الحجة قد وجد في العالم العربي أتباعاً وتلاميذ، بل أنصاراً ومحبذين
إبراهيم بيومي مدكور
دكتوراه في الآداب والفلسفة
رسالة الأزهر للأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر
الشيخ محمد مصطفى المراغي
. . . قد يسال بعض الناس: ما فائدة الأزهر، أو ما هي رسالة الأزهر كما يقال اليوم؟ فأقول لهؤلاء: رسالة الأزهر هي حمل رسالة الإسلام. ومتى عرفت رسالة الإسلام عرفت رسالة الأزهر
الإسلام دين جاء لتهذيب البشر ورفع مستوى الإنسانية والسمو بالنفوس إلى أرفع درجات العز والكرامة. قد طوح بالوسطاء بين الناس وربهم، وصل بين العبد وبه. ولم يجعل لأحد فضلاً على أحد إلا بالتقوى، وقدس العلم والعلماء، وقرر في غير لبس ما يليق بذات الخالق من الصفات. وما قرره في ذلك هو منتهى ما سمت إليه الحكمة، ووصل إليه العقل. وفرض عبارات كلها ترجع إلى تهذيب النفس، وتلطيف الوجدان، وأبان أصول الأخلاق، وقرر التمتع بالطيبات ولم يحرف إلا الخبائث، ووضع حدوداً تحد من طغيان النفوس ونزوات الشهوات، ووضع أصول النظم الاجتماعية وأصول القوانين: قواعد كلها لخير البشر وسعادة المجتمع الإنساني
هذه صورة مصغرة جداً للدين الإسلامي، ورسالة الأزهر هي بيان الدين الإسلامي، وشرح قواعده وأسراره، ومتى أدى هذه الرسالة على وجهها فقد أدى نصيباً عظيماً من السعادة والخير للجمعية الإنسانية
في القرآن الكريم حث شديد على العلم، وعلى معرفة الله وعلى تدبر ما في الكون، وليس هناك علم يخرج موضعه عن الخالق والمخلوق. فالدين الإسلامي يحث على تعلم جميع المعارف الحق. وليس في المعارف الصحيحة المستقرة شيءٌ ممكن أن يناقض أصول الدين ويهدمها
نعم قد توجد معارف تناقض بعض ما وضعه العلماء في شرح القرآن والحديث والفقه وغير ذلك، ولكن لا نهتم لهذا. فليس العلم في طريقه، ولنصحح معارف الماضين، لكن على شريطة أن يكون ما يخالف معارفنا من العلم البرهاني المستقر
ولست أقصد بحديثي هذا أن يكون الأزهر مدرسة طب أو هندسة، أو كلية للكيمياء أو ما يشابه هذا: ولكني أعني إن هناك علوماً ومعارف لها صلة بالدين وثيقة، تعين على فهمه،
وتبرهن على صحته، ويدفع بها عن الشبهات. فهذه العلوم يجب أن يتعلمها العالم الديني ويتعلم منها القدر الضروري لما يوجه إليه
قد تغيرت في العالم طرق عرض السلع التجارية، وأصبح الإعلان عنها ضرورياً لنشرها وترغيب الناس فيها. ولديكم الحوانيت القديمة ومخازن التجارة الحديثة، فقارنوا بينها تدركوا ما في طريقة العرض الحديثة من جمال يجذب النفوس إليها وما في طريقة العرض القديمة من تشويه ينفر الناس منها. وقد توجد في الحوانيت القديمة سلع أحسن صنفاً وأكثر قيمة وأمتن مادة، ومع ذلك فهي في كساد
وكما تغيرت طريقة عرض السلع تغيرت طريقة عرض العلم، وأحدث العلماء طرائق تبعث الرغبة الملحة في العلم، وتنفي عنه الملل والسأم
حدثت هذه الطرق في إلقاء الدروس والمحاضرات، وحدثت في تأليف الكتب أيضاً. وهذا المثل ينطبق علينا. ففي جميع الكتب التي تدرس في الأزهر، وفي جميع العلوم التي تدرس في الأزهر، أعلاق نفسية لا تحتاج إلا إلى تغيير طريقة العرض في الدرس والتأليف، وفي الفقه الإسلامي نظريات تعد الآن أحدث النظريات عند رجال القانون، وفي الفقه الإسلامي آراء يمكن أن يسير عليها الناس الآن من غير حرج، وهي تحقق العدالة في أكمل صورها. ولكن هذه النظريات البالغة منتهى الجمال والحكمة يحجبها عن الناس أسلوب التأليف القديم
على الأزهر أن يسهل فهم علومه على الناس، وان ييسر لهم هذه المعارف وأن يعرضها عرضاً حديثاً جذاباً مشوقاً
ومسألة أخرى يجب أن يعنى الأزهر بها: هي تطهير الدين الإسلامي من البدع، وما أضيف إليه بسبب الجهل بأسراره ومقاصده. فهناك آراء منثورة في كتب المذاهب وفي غير كتب المذاهب يحسن سترها ظناً بكرامة الفقه والدين
ومن الواجب أن يعترف بأن المذاهب الإسلامية جملة تغني عن الاجتهاد في المسائل التي عرضت من قبل متى تخير العلماء منها وأذكر قصة طريفة تجدونها في كتاب الولاة والقضاة للكندي:
(كان في مصر قاضٍ شافعي المذهب في عصر الإمام الطحاوي. وكان يتخير لأحكامه ما
يرى إنه محقق للعدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب. وكان مرضي الأحكام لم يستطيع أحد أن يطعن عليه في دينه وخلقه. سأل ذلك القاضي إمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الواقعات فقال الطحاوي: أتسألني عن رأي أو عن رأي أبي حنيفة؟ قال القاضي: ولما هذا السؤال؟ قال الطحاوي: ظننتك تحسبني مقلداً. فقال القاضي: ما يقلد إلا عصبي أو غبي؟)
فتخير الأحكام نوع من الاجتهاد ولكنه الاجتهاد الذي لم يغلق الناس أبوابه
إصلاح التعليم في الأزهر واجب اجتماعي لإصلاح الأمم الإسلامية على مختلف أقطارها وأجناسها، وعلى كل مسلم أن يساهم فيه إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً
وأنا ارجوا الله سبحانه أن يوفق العلماء وطلاب العلم إلى الإخلاص في النهوض بالأزهر، فإن الإخلاص في ذلك إخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين ولدين الحق الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله، وجعله هداية عامة لجميع البشر
ونصيحة أقدمها إلى العلماء وطلاب العلم في الأزهر راجياً تدبرها، هي احترام حرية الرأي، والتحرج من الاتهام بالزندقة والكفر ولا أطالب بشيء يدعى بدعة. ولا أحدث في الدين حدثاً لهذه النصيحة. فهي موافقة للقواعد التي وضعها سلف الأئمة رضى الله عنهم. وترونها مبسوطة واضحة في كتب الأصول وفي جميع كتب الإمام الغزالي
وحاصلها - على ما أذكر - أن المسائل الفقهية يكفر منكر الضروري منها كالصلاة والزكاة وحرمة الزنا وشرب الخمر وقتل النفس والربا
أما إنكار أن الإجماع حجة، وخبر الواحد حجة، والقياس حجة، فلا يوجب الكفر، وما عدا ذلك من المسائل الفقهية لا إثم في إنكاره مطلقاً. على شرط أن يكون الإنكار غير مصادم لنص أو إجماع على هذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم، وأجمع عليه الأئمة، ولم يعرف أن بعضهم أثم بعضا
وعلى الجملة فما دام المسلم في دائرة القرآن لا يكذب شيئاً منه، ولا يكذب ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم بطريق قاطعة فهو مسلم لا يحل لأحد أن يتهمه بالكفر
عرضت لهذه النصيحة لأنها تسهل على أهل الأزهر معاشرة الناس، والعمل بها يمكن من نشر الدعوة ومن الجدل بطرقه المقبولة. والعمل على خلافها منفر يحدث الشقاق ويورث العداوة
أسأل إليه أن يهبنا رشداً، وأن يملأ قلوبنا خشية وهيبة من جلال الله، ويملأها عزاً وشفقة ورحمة لعباه
وإذا كانت مهمة الأزهر حمل رسالة الإسلام للعالم فمن أول واجب على أهله أن يعدو أنفسهم لتعلم اللغات، لغات الأمم الإسلامية وغير الأمم الإسلامية، والله لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبين لهم
فليحقق الأزهر القدوة، وليرسل إلى الناس رسلاً يفقهونهم في دينهم بلسانهم: وسأعنى بهذه المسألة كما أعنى بتثقيف إخواننا الذي أسماهم القانون (أغراباً) فإن لهم من الحقوق والحرية في هذا الوطن ما لكل فرد من أهل البلاد، وأرجو أن يفكروا طويلاً فيما يفرضه عليهم دينهم من الهداية والإرشاد وإسعاد المجتمع
في طريق المدينة
للأستاذ علي الطنطاوي
لفح وجهه نسيم الفجر البارد، فهم بأن يقوم إلى النافذة فيغلقها ويعود إلى سريره، ثم تخاذل واسترخى، ولبث مستلقياً، فسمع أصواتاً غريبة، خيل إليه أنها أصوات الوحوش، أو أحاديث الجن، فجمد من الخوف، وحدق فيما حوله، فرأى كأنما هو نائم في أرض الشارع، وعلى جانبيه أبنية فخمة عالية، مربعة ومستديرة، والوحوش تطل عليه من أعاليها، تصرخ صراخاً مرعباً، فاستعاذ بالله من هذا الحلم - وتقلب في فراشه، وألقى بيده على طرف السرير، فأحس كأن قد وخزته إبرة، أو كأن حية لدغته، فقفز مذعوراً. وإذا هي بالحقيقة لا الحلم، وإذا حيال يده نبت من نبت الصحراء، قصير شائك يقال له القتاد. . . كانت تضرب به الأمثال، وإذا هو في البادية، في (خور حمار) وإذا هي الرحلة تمتد به ثلاثة عشر يوماً، وهو لا يزال دون (العلا)، ولا يزال بينه وبين المدينة جبال وصحاري تسير فيها السيارة أياماً
فجلس يذكر ما رأى في هذه الرحلة من ألوان العذاب، وأشكال الخوف، وما مر به من مشاق وصعاب أبصر فيها الموت عياناً، ويئس فيها من النجاة. . . . وذكر أنهم طالما تمنوا الموت لما وجدوا من العذاب، وأنهم طالما سلكوا من شعاب تقوم فيها السيارة وتقعد، ولا تنجو من شدة إلا إلى أشد منها، وطالما ساروا في رمال كانت تغوص فيها السيارة إلى المرقاة فيدفعونها دفعاً، ويمدون لها الخشب على الأرض مداً، وطالما صعدوا جبالاً يعجز صعودها الماشي على رجليه، فكانوا يجرون السيارة بالحبال، وطالما هبطوا أودية لا يهبطها ممثلو الروايات الأمريكية. . . وأنهم ساروا ألفاً وثلثمائة كيل في أرض لم تطأها قط سيارة. . .
وأنهم سلكوا بين تبوك والعلا مسلكا في جبال الطلع، ساروا فيه بالسيارة من ضحوة اليوم إلى عصر الغد، فلم يقطعوا من الطريق خمسة عشر كيلاً. . . وكانوا يدورون فيه كما دار بنو إسرائيل في التيه. يمشون ما يمشون ثم يعودون من حيث جاءوا، وجبال المطلع جبال عظيمة غريبة الشكل، ليست سلاسل، ولكنها آكام عالية، وجبال منفردة، عالية الذرى محددة القمم، تشبه ذراها رءوس المآذن وهام البروج، لها منظر جميل فتان، فيه هيبة،
وعليه جلال، وهي منثورة نثراً، تفصل ما بينها مضايق وطرق صخرية ملتوية متشابهة، حار فيها الدليل؛ وكان معهم دليل حاذق شيطان من شياطين العرب، يقال له محمد الأعرج من مشايخ بني عطية، وهو أعرج طويل له عينا ذئب، حاد الذكاء، ضيق الصدر، مخيف كانوا يتهيبون سؤاله، فداروا في هذه المسالك حتى نفد منهم الصبر، وأدركهم اليأس، فصعد الدليل قنة أكمة، فنظر يميناً، ونظر شمالاً، ثم صاح: لا إله إلا الله، وتلك عادتهم: إذا أبصروا وادياً، أو رأوا سهلاً، أو طلع عليهم جبل، تشهدوا. . . ثم نزل يظلع وقادهم في طريق ملتوية حتى جاوز بهم المطلع، وأشرف بهم على السهل الفسيح. وكان عليهم أن يهبطوا السهل ليخترقوا جبل الأقرع وهو قبالتهم، فنظروا فلم يجدوا مهبطا، وكانوا على رأس جدار قائم من الصخر، ارتفاعه أكثر من أربعين متراً، والنزول منه خطر محقق، ولكن الرجوع موت أكيد، وإذا هم رجعوا وضلوا أياماً نفذ فيها ما معهم من ماء، فهلكوا لا محالة عطشاً، فاستخاروا الله ونزلوا نزولاً ما نظن سيارة نزلته مذ خلق الله السيارات: تتدحرج من تحتهم الحجارة إلى قرارة المنحدر، فيكون لها قرقعة مخيفة، والسيارة كأنما هي من الانحدار قائمة على مقدمها، والركاب شاخصة أبصارهم، ينظرون عن أيمانهم وعن شمائلهم، لا يدرون من أين يأتيهم الموت وقد تابوا واستنفروا، واستودعوا اللهأولاً دهم وأموالهم.
ومرت عليهم ربع ساعة أهون منها رباط سنة في جبهة الحرب، ثم وفق الله فبلغوا السهل، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله. . . ويهبون كمن حلم مروع!
وكانت الشمس قد غابت، والليل قد ارتفع، فنزلوا للمبيت يستعدون لوادي الأقرع، وكانوا على رغم ما لقوا يسمعون من الدليل أنه هين بجنب خور حمار، وان العناء والبلاء إنما هما في خور حمار، فكانوا يرون خور الحمار هذا في أحلامهم، ويبصرونه فاتحاً فاه لابتلاعهم، ويرون حيال رأسه حجراً مكتوباً فيه: هنا مات الوفد الأول الذي ذهب لفتح طريق السيارات. . .
وتلقوا من الغد وادي الأقرع، فلما ولجوه ذكروا بالخير جبال المطلع، ووجدوها حيال نار الأقرع جنة النعيم، والوادي عريض فسيح ولكنه وعر، كله صخور عظيمة، ورمال خطرة، إذا نجت السيارة من رملة صدمتها صخرة، وان خلصت من الصخر غاصت في الرمل،
فداروا فيه كما يدور الحمار في الساقية، وكان سيرهم سير السواقي، سفراً لا ينقطع. . . . ثم فتق لهم التفكير وجه الحيلة، فأجمعوا الرأي على أن يركبوا السكة بالسيارات وعجبوا من أنفسهم كيف حملوا هذا العناء كله، ولم يهتدوا إلى هذا الرأي. . . وكانت السكة عالية تمشي فوق الوعرة كأنها الصراط ممدوداً فوق جهنم، فامضوا ساعتين في ارتقائها، ثم لما ركبوها تعذر المسير عليها، فعجبوا من أنفسهم كيف ارتكبوا هذه الحماقة، ولم يعلموا أن السيارة لا تمشي على سكة القطار، وأنفقوا ساعتين أخريين في النزول عنها، حتى إذا نزلت جلسوا على الأرض. قد طحن الجهد أجسامهم، وملأ اليأس نفوسهم، وانقطع أملهم من كل شيء إلا من الله، وضل من يدعون إلا إياه، فاقبلوا على الله بالدعاء والاستغفار، وذاقوا من حلاوة الإيمان وبرد اليقين، ما اطمأنت به نفوسهم، وارتاحت له ضمائرهم؛ ثم لم يلبثوا أن استجاب الله دعاءهم، وجاءهم منه الفرج، وسمعوا هتاف الجند الذين بعث بهم أمير العلا بأمر جلالة الملك عبد العزيز لمعونتهم وخدمتهم. . .
جلس يفكر في هذا كله، فيراه هيناً إذا قيس بخور حمار وذكر كيف أمضوا نهاراً بطوله، يستعدون لدخول الخور، فلما أقبلوا عليه رأوا مدخله كالشارع العظيم، على جانبيه صخور كبيرة مكعبة مستوية قائمة كالبنيان، كأنما قد بنتها يد بناء حاذق، بميزان الزئبق والشاقول، وفي وسطها جدار من الصخر عرضه ستة أمتار، يشبه غي شكله سفينة عظيمة لم تنزل بعد إلى البحر، لها مقدمها وجوانبها، وقد قدر أصحابنا علو هذه الصخور من مائة إلى مائة وخمسين متراً، فامتلأت نفوسهم رهبة وخشوعاً، وأحسب أن لو رأى هذا الممر سياح الأمريكان لحملوا في سبيل رؤيته عناء السفر في البادية مهما طال وشق. . .
وأرض هذا المضيق رملية حمراء يغوص فيها الماشي إلى الركبة، لها شكل متموج جميل يشبه شكل البحر، يلذ المرء أن يلقي بنفسه عليها، فيشعر كأنما يلقي بنفسه على فراش ناعم حلو. أو ينام على سطح الماء. . .
وذكر كيف انقضى النهار وانقضى الغد ولم يجاوزا نصف المضيق، ورفع رأسه وكان الفجر قد انبلج، وبدت طلائع النهار، فرأى هذه الصخور الشاهقة المستوية، وهذه الشقوق التي تحدث فيما بينها مثل الأزقة، يملأ مرآها النفس خشوعاً
وذكر كيف بذلوا جهدهم، واستعانوا بعشرين من الجنود الأقوياء ثم لم يقطعوا في يومين
أكثر من كيلين في هذا المضيق، وخالط نفسه الضيق والملل من طول هذه الرحلة وعنائها وما قاسى فيها من التعب والجوع والعطش والنعاس، وما عانى من سوء الصحبة، وقبح الأخلاق، وخلف أن تعطل السيارة، أو يضلوا الطريق، أو تمسكهم وعرة، فينفد الماء ويموتوا عطشاً. . ولم يخف لصاً ولا سارقاً، فقد جعل ابن السعود خور حمار وهو أفظع مكان في البادية، آمن من ميدان النجم في باريز!
وفكر أيبلغ المدينة أم يهلك من دونها، وهاجمه تصور المدينة، وأحيا في نفسه الأمل مرأى القبة الخضراء وهي طالعة عليه من وراء الأفق البعيد، وطار بها إلى الملأ الأعلى تخيله الوقوف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلاته في الروضة، وقيامه من بعد أمام الكعبة، وشربه من ماء زمزم، وسعيه بين الصفا والمروة، وشهوده هذه الأماكن التي ولد فيها الإسلام وعاش فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت مهبط الوحي، ومطلع شمس النبوة، ومعقد الآمال من نفس كل مسلم.
واستغرق في تفكيره فلم ينبه إلا صوت مؤذن القوم يرن في هذا الوادي الساكن: الله أكبر، لا إله إلا الله فتردد نداءه هذه الصخور الشم. وتمد الإبل أعناقها مصيخة هادئة، ويهب البدو من منامهم ليقيموا الصلاة، وأصحابنا السواقون ومعلموهم يغطون غطيط البكر. . .
ثم قاموا إلى الصلاة، فأمحى الخوف من نفسه، وصغرت عليه البادية، وهانت عليه مشاقها، وتضاءلت هذه الجبال القائمة حتى كأنما لصقت بالأرض، وكأنما طويت له الغبراء فلم يعد ملقى في البادية على بعد ألف وثلثمائة كيل من منزله في دمشق كحبة من الرمل، أو هو أهون على الحياة منها، لأنها وان طار بها ريح، أو حملها سيل، باقية كما كانت، لا تموت ولا تندثر، وهو يموت من أجل رغيف من الخبز وكأس من الماء، بل أحس كأنما هو في منزله، ولم لا؟ وما يناله في البادية إلا ما قد كتب عليه، ولا ينال في منزله إلا ما كتب له، وإذا كان يأمن على نفسه اللصوص والأعراب وينام في عرض الصحراء، كما ينام في أرض غرفته، لا يمنعه باب، ولا يحميه حارس، ولا يخالط نفسه خوف ولا جزع، لأنه في حمى ابن السعود وأرضه، أفلا يأمن من كان في حمى الله رب ابن سعود وأرضه؟
وكان القوم قد هبوا فأقبلوا يضمون الشاي والقهوة، وجلست حيال صخرة أكتب هذه الكلمة (للرسالة)، لأبعث بها مع جندي من البدو إلى بريد العلا. . . . . ولست أدري أتخرج من
هذه البادية فنقرؤها، أم تبتلعنا هذه الصحراء التي ابتلعت دولاً وأمماً وجيوشاً
وسيقرأ هذا الفصل قراء (الرسالة) وهم في دورهم ومساكنهم، لا يدرون ما الصحراء، ولا يعرفون منها إلا ذكرها في الكتب ووصفها في الأشعار، فيحسبونها تسلية أو خيالاً، وما هي بالتسلية ولا بالخيال، ولكنه مقام بين الموت والحياة. . . اللهم سلم!
علي الطنطاوي
هل تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني؟ أو الحقيقة
هي العكس؟
بقلم صالح بن علي الحامد العلوي
اطلعت في العدد الحادي والتسعين من (الرسالة) الغراء على مقالين أحدهما للأستاذ أمين الخولي، والآخر للأستاذ علي الطنطاوي؛ وكلا المقالين دائر على مقال آخر قد نشرته الرسالة عن الإمام الأوزاعي للأديب الفاضل عبد القادر الجاعوني
ولم يستثر كتابتي من هذا ولا ذاك شيء إلا نقطة واحدة طرقها الثلاثة وكانوا فيها جد مختلفين، وكادت بل شاءت الرسالة أن تساهم في المعمعة ولكن بإيجاز وإيماء. والنقطة المختلف فيها هي ما جعلته عنواناً لأسطري هذه وهي: هل تأثر الفقه الإسلامي بالقوانين الرومانية أم الحقيقة هي العكس؛ إذ تعرض الكاتب الجاعوني فيما كتبه عن الأوزاعي لقولة كولد زهير يتأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني وقال: (إن كان هذا صحيحاً فأحر بالأوزاعي أن يكون آخر المتأثرين به لأنه من أبعد الفقهاء عن الرأي ومن أقربهم إلى اتباع الكتاب والسنة، والكتاب والسنة ابعد الأشياء عن التأثر بالفقه الروماني) فكان الأستاذ الخولي فيما كتبه مؤيداً لرأي تأثر الفقه الإسلامي بغيره، وكان الأستاذ علي الطنطاوي في مقاله منكراً كل الإنكار أن يكون الفقه الإسلامي مأخوذا من الفقه الروماني، وتشاء الرسالة أن تعلق عليه بان هناك فرقاً شديداً بين التأثر والأخذ
وعلى تسليم صحة الفرق بين التأثر والأخذ فمحصل كلام الأستاذ الطنطاوي إنكارهما معاً والجزم بان ذلك في زمن العلم خرافة من الخرافات
هذه هي وجهات نظر هؤلاء الكتاب. ومهما قلنا بالفرق بين الأخذ والتأثر فكلا المعنيين بجريان إلى مدى واحد، وهو أن يكون في أصل الفقه الإسلامي ومزاجه شيء من الفقه الروماني. غير أنه على الأول بوجه مباشر، وعلى الثاني بواسطة الثقافة كما يقول الأستاذ الخولي
وموضوع مناقشتي الآن هو ما ارتآه الأستاذ أمين الخولي - من تأييد دعوى كولدزهير بأن الفقه الإسلامي متأثر بالفقه الروماني. وقد كنت في غنية عن كتابة هذه الأسطر لو كان الأستاذ علي الطنطاوي - الذي أؤيده الآن - أسهب في الموضوع ووفاه حقه من البسط
والتدليل، لكنه على قوة حجته نحا في الموضوع منحي الإيجاز والاختصار، وذاك ما حملني على أن أعود - على بعد الدار - للفت أنظار قراء الرسالة للموضوع مرة اخرى، وبما أن مثار مناقشتي إنما هو ما كتبه الأستاذ الخولي أذكرأولاًما قاله في هذا الصدد قال:(. . ومع عدم تعصبي للقول بهذا التأثر ومع القصد في بيانه فإني أرى هذا الاستدلال على عدم تأثر الأوزاعي غير مقبول من الوجهة الاجتماعية والنفسية، فإن متبع الكتاب والسنة لابد له من أن يفهمهما أو يتبين مراميهما وأغراضهما وعللهما وحكمهما، ولكل شخص في هذا الفهم والتبين عقله الخاص وشخصيته الخاصة ومنهجه الخاص، وذلك كله من أشد ما يكون تأثراً بالثقافة والبيئة، فلا غرابة في أن يتأثر منهم الفاهم للكتاب والسنة المتبع لهما تأثراً جلياً بعوامل تثقيفه وظروف حياته كما تأثر بذلك تفسير القرآن في كل الأزمنة، بل كما تأثر بذلك فهم العقائد وأصول الدين ذاتها تأثراً لا يسعنا إنكاره، ولا قيمة لحرصنا على هذا الإنكار لأننا بذلك نقاوم سنن الله في خلقه)
وقبل كل شيء نقول إن الإسلام في ذاته جاء خارقاً لقاعدة البيئة والثقافة، إذ قام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي الذي نشأ من ابعد الناس عن يطلع على قانون روماني أو حكمة منقولة، وأتى بهذا الدين الأقدس مناقضاً كل التناقضات لما عليه قومه، مبايناً لهم في عاداتهم وعقائدهم إذ وجد في وسط بعيد عن العلم، ودرج في بيئة كلها شرك، وجو كله خرافات وأوهام، وبينما هو في هذا المحيط المشبع بالشرك والجاهلية إذا هو ينهض بدين كله حكمة، ونور يسفه الشرك وينبذ الخرافات، ويدعو إلى شريعة سمحة بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
ورداً على زعم التأثر نقول: إن الشريعة الإسلامية وجدت كاملة دفعة، أو بعبارة أصح جاءت في زمن واحد، واستقيت من ينبوع واحد، هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جميع الجزيرة العربية إلى العراق وأطراف الشام، ولم يلحق الشارع الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى إلا وقد تركنا على المحجة البيضاء، وهيأ لنا شريعة كاملة وقانوناً ربانياً منظما يصلح لأن يطبق على أي جيل، وعلي أية أمة، ولم يزد فيه الفقهاء بعده شيئاً قط إلا تصنيفه ونقله، غير أنهم فيما لم يجدوا فيه نصاً صريحاً يطبقونه على قواعده الأساسية. والنصوص الفقهية كلها
صريحة بينة الأغراض واضحة المرامي، أما الأغلب منها فمن الحديث والسنة، وبعضها عن الكتاب مفسراً بالسنة، فكيف يكون لكل شخص فيها فهمه الخاص وشخصيته الخاصة ومنهجه أو عقله الخاص، متأثراً بالثقافة والبيئة كما يقول الأستاذ الخولي؟ إن الكلام الصريح لا يحمل معنى غير ما يتبادر لذهن سامعه، فإذا قلت مثلاً: لا تكذب فليس معناه إلا لا تخبر بغير الواقع، سواء كان ذلك في القرن الأول للهجرة أو في يومنا هذا في القرن الرابع عشر، وسواء أكان السامع متأثرا بثقافة عربية أو رومانية أو صينية فلن يستطيع بعامل ثقافته وظرف حياته أن يزيد في معناها شيئاً، وأرى أننا لو نقلنا خطبة رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع مثلاً ونشرناها اليوم لما فهم منها من يعرف مدلولات الكلام العربي من مثقفي اليوم إلا ما فهمه عشرات الألوف من المسلمين حينما خطبهم رسول الله صلى عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الرهيب قبل ثلاثة عشر قرناً ونصف
ولا يجوز أن يقاس الفقه بالتفسير، إذ لا يقاس بكتاب الله شيء لبلاغته وأسلوبه العجز، مع عمق معانيه وبعد أغراضه التي لا يستطيع حصرها واكتناهها فهم أو فكر، وهذه فيه من أعظم الدلالات على إعجازه، فهو لا يزال على الأحقاب والأجيال ينفحنا بمعانيه ومراميه بما يشرح الصدور ويقوي الإيمان
على أن الاختلاف في تفسيره وهو ما يراه الكاتب من تأثير البيئات - ليس إلا لا يجازه المعجز مع بعد مراميه الغيبية مما تاه لبعضه المفسرون الأولون، فجاء الزمن يفسره، فكان هذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم
ثم إن الفقه الروماني الحديث على الرغم أنه اختفى ثم اكتشف لم يظهر ولم يعمل به إلا في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر بعد الميلاد. أما قبل الحادي عشر فإنه لم يكن معروفاً حتى عند الرومان أنفسهم
ولاشك أن الفقه الإسلامي قد قرر وصنف قبل ظهوره بقرون، فكيف يكون متأثراً بشيء لما يوجد بعد؟ وما قيمة زعم تأثر الفقهاء بالقوانين الرومانية إذا كان مصنفو الفقهاء وأئمتهم، ومنهم مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي الخ درسوا وألفوا وصنفوا قبل أن توجد أو تعرف القوانين الرومانية للرومان أنفسهم؟ أليست هذه مهزلة
مضحكة؟
وفحوى هذا كله أنه محال أن يكون الفقه الإسلامي متأثراً بالفقه الروماني فضلاً عن أن يكون مأخوذاً منه، وسنبين بالبراهين القاطعة أن القوانين الرومانية هي المتأثرة به
الفقه الروماني هو المأخوذ من الفقه الإسلامي
وإذا سقط احتمال تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني، فإذا كان هناك تشابه بينهما فالمرجح بل المحقق أن الفقه الروماني هو الذي أخذ مباشرة عن الفقه الإسلامي. وقد كتب أحد علماء العلويين الحضارمة مقالاً في هذا الموضوع وفاه حقه بعنوان: من أين أخذ الإفرنج قوانينهم، نشرته مجلة النهضة الحضرمية قال فيه ما ملخصه:
إن دعوى اختفاء الفقه الروماني ثم ظهوره بعد ستة قرون أكذوبة لا مرية فيها، وقد كان الفقه الروماني معروفاً، وهو أشبه شيء بالفصول المضحكة. أنظر تاريخ الدولة الرومانية للعالم جيبون الجزء 4 صفحة 527، وذكر أمثلة من معاملاتهم ثم قال: يمثل هذه المحاكات القاسية كانت تجري الأحكام لغاية القرن الحادي عشر، ولم تتبدل إلا في الثاني عشر أو الثالث عشر. وقد قال ابن تيمية في القول الصحيح:(إن النصارى في طائفة من بلادهم ينصبون لهم من يقضي بينهم بشرع المسلمين إذ لم يكن لهم شرع عام يحكم به بين الناس، وليس في الإنجيل حكم عام، بل عامته الأمر بالزهد)
فكيف يصح أن ينسب هذا الفقه المشابه للفقه الإسلامي الحكيم بزعمهم إلى أمة معروفة، ولها فقه شائع معروف، وكله قسوة وهمجية؟ وكيف يسوغ عقلاً لأمة عظيمة أن يضيع عليها فقهها جملة، ويبقى غائباً عنها طيلة قرون عديدة ثم يعود إلى الظهور؟ هل يصح هذا إلا إذا صح أن تضيع عن أمة عاداتها وأخلاقها ودينها جملة؟
ثم إن حكاية اختفائها وبروزها في القرن الحادي عشر لم يقل بها غير هولود نيكوس سنة 1501م. ثم راجت، انظر جيبون 4 صفحة 555، وقد اعتبرها بعض العلماء إذ ذاك غير حقيقة، فقد قال القانوني الشهير سافينيه: إن القوانين الرومانية لم تختف لأنها ظلت معمولاً بها إلى البوم من غير انقطاع اه. ويعني بها القوانين القديمة المتقدم ذكرها. وبهذا وذاك تدحض دعوى اختفاء الفقه الروماني ثم ظهوره. ويتضح أن القوانين الحديثة ليست إلا حديثة الوضع، وضعها بعض علمائهم مقتبسة من الفقه الإسلامي وتبريرا لها عند العامة
انتحلوا اختفاءها وظهورها كسراً لتعصبهم
أما أدلة أخذ القوانين الرومانية من الفقه الإسلامي فهي:
(أولاً) ما قدمنا من إقرار الإفرنج بفضل الفقه الإسلامي وإعجابهم بأحكامه، ونصلهم في بعض بلادهم قضاة يقضون به كما نقل ذلك العلامة ابن تيمية
(ثانياً) إن الفقه الإسلامي، كما قدمنا، قد ألف وصنف قبل أن تبرز القوانين الرومانية الحديثة من اختفائها المزعوم، فلم يبق يد من أحد أمرين: إما أن يكون الفقه الإسلامي قد تأثر بها قبل وجودها وظهورها، وهذا محال، أو تكون هي المأخوذة عن الفقه الإسلامي، وهذا هو المعقول والمنقول
(ثالثاً) ما نقله العلامة العلوي الذي اعتمدنا على ما كتبه في مقالنا هذا قال: نقل العلامة المحقق الأستاذ الجرفادقاتي الإيراني في مقالة له في هذا الموضوع من مجموعة للعالم الباحث مفضل بن رضى الفراوي الاسفارنكي (وفراوة كورة من خراسان بين شهرستان ومرو) فيها رسالة في شرائط كمال الفقه للفتوى قال: كتب أبو العباس الكركري من تلامذة بهمنيار، وهو تلميذ الشيخ الرئيس ابن سينا، في رسالته إلى مفتي مرو أحمد بن عبد الله السرخس في معنى كمال الفقه: إن أبا الوليد محمد بن عبد الله بن خيرة نقل في تعليقاته على النهاية: إن طلبة العلم من الإفرنج الذين كانوا يسافرون إلى غرناطة لطلب العلم، اهتموا كثيراً في نقل الفقه الإسلامي إلى لغتهم لعلهم يستعملونه في بلادهم لرداءة الأحكام فيها خصوصاً في المائة الرابعة والخامسة من الهجرة، فقد برعوا في اللغة العربية، ومنهم غربرت والبرت، فإنهما طلبا مساعدة العلماء لإبراز مقصودهما، وقد ساعدوهما حتى دونوا الفقه كاملاً وحوروه إلى ما يوافق بلادهما اه، وقال موسهيم الجرماني إن غربرت المذكور كان مديناً في معرفته لعرب أسبانيا ثم قال:(إن العرب ولا سيما عرب أسبانيا هم أصل وينبوع كل معرفة. . من القرن العاشر فصاعداً) كما نقله الأستاذ العلوي المذكور آنفاً هذه البراهين كلها تؤيد ما قاله الأستاذ علي الطنطاوي من أن الفقه الروماني جديد لفقه جماعة من العلماء وتحقق أنهم أخذوه من الفقه الإسلامي، وهذا ما يجب ألا يعتقد خلافه كل مسلم
ولست أرى دعوى تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني إلا مكيدة دبرها من يريد الطعن في الإسلام بطريق غير مباشر مثل كولدزهير وأمثاله، وتلقنها عنهم منا معشر المسلمين من لم
يدرك مراميهم السيئة وأغراضهم العدائية، وجعل يقررها كأنها قضية مسلمة لا تصادم عقلاً ولا ديناً؛ وعجيب جداً أن تجد هذه الفكرة لها قبولاً في مصر. وأن تطبع وزارة الأوقاف كتاباً في الفقه على المذاهب الأربعة يأتي في مقدمته تقرير هذه الفرية التي انتحلها كولد زهير وتأييدها؛ وعجيب أن يأتي الأستاذ الخولي مستسيغاً لها بل مبرهناً ومؤيداً مطبقاً ذلك على قاعدة تأثير الثقافة والبيئة
وبعد، فلم يبق مساغ لدعوى التأثر في الفقه الإسلامي، ولا مجال للريب في بطلانها، وأنها ليست إلا خرافة وفرية تلقنها بعض المسلمين، وليست إلا أغنية من تلحين مستشرقي المبشرين.
سنغافورة
صالح بن علي الحامد العلوي
22 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
قال سقراط: كفى يا سيبيس حديثاً عن هارمونيا؛ آلهتكم الطيبة، فما أحسبها قد أغلظت معنا الصنيع، ولكن ماذا أقول لكادموس الطيب، وكيف أسترضيه؟
قال سيبيس: أظنك واجداً سبيلا إلى استرضائه، فلست أرتاب في أنك رددت حديث الانسجام بطريقة لم أكن أتوقعها قط. فقد أيقنت حينما تقدم سمياس باعتراضه أن ليس إلى أجابته من سبيل، فأدهشني لذلك أن أرى قوله يخور فلا يثبت أمام هجمتك الأولى، وليس بعيداً أن يلاقي الآخر، الذي تدعوه كالدوس مصيراً كهذا المصير
فقال سقراط: لا يا صديقي العزيز، فما ينبغي أن نزهي خشاة أن تنطلق من عين خبيثة هذه الكلمة التي أوشك أن أنطق بها، فلنا أن ندع الأمر بين أيدي من هم في عليين، حتى أدنو، على طريقة هومر، فاختبر ما يتوقد في عبارتك من حماسة، وخلاصة اعتراضك باختصار هي ما يأتي: انك تريد أن يقام لك الدليل على أن الروح باقية خالدة، وتظن أن الفيلسوف الذي يطمئن إلى الموت إنما يركن إلى طمأنينة فارغة حمقاء، إذا هو ظن أنه سيكون في العالم السفلي أوفر جزاء ممن سلك في حياته سبيلا أخرى، ما لم يستطيع أن يدلل على ذلك، وأنت تزعم أن إثبات ما للروح من قوة وألوهية، واثبات وجودها السابق لوجودنا في هيئة البشر، لا يقتضي بالضرورة خلودها. فإذا سلمنا بأن الروح قد عمرت طويلاً، وأنها في حالتها الأولى علمت وعملت شيئاً كثيراً، فليس هذا الاعتبار دليلاً على خلودها، وقد يكون حلولها في الصورة البشرية ضرباً من الموت الذي هو ابتداء الانحلال، وقد تنتهي آخر الأمر إلى ما يسمى بالموت، بعد أن تفرغ من عناء الحياة. وسواء أكانت الروح تحل في الجسد مرة واحدة فقط أم مرات عدة، فذلك، كما قد تقول، يخفف من مخاوف الأفراد شيئاً، فليس يخلو إنسان من الشعور الطبيعي، فإن لم يكن لديه عن خلود الروح علم وبرهان حق له أن يخاف. ذلك ما أحسبك قائلة يا سيبيس، وهو ما أعيده عامداً،
حتى لا يفلت منا شيء منه، ولكي نستطيع إن شئت أن تضيف إليه أو تحذف منه شيئاً
فقال سيبيس: ولكن، فيما أرى الآن، لا أجد ما أضيفه أو ما أحذفه. إنك عبرت عما أريد
فسكت سقراط هنيهة، وبدا عليه كأنما غاص في تأمله، وأخيراً قال: إن هذا المبحث الذي أثرته يا سيبيس لذو خطر عظيم، فهو يتضمن موضوع النسل والفساد برمته، وذلك ما أود، إن شئتم بعين على حل إشكالكم
فقال سيبيس: لشد ما أرغب في أن أنصت لما تقول
قال سقراط: إذن فهاك حديثي يا سيبيس: لقد كنت في صباي شديد الرغبة في معرفة ما يسمى بالعلم الطبيعي من أبواب الفلسفة، فقد ظننت أن له أغراضا سامية، إذ هو العلم الذي يبحث في علل الأشياء، فينئنا لماذا وجد الشيء، وفيم خلقه وفناؤه، وكنت لا أنى أقلق نفسي بالنظر في مسائل كهذه: هل يرجع الناس؟ أيكون العنصر الذي نفكر به هو الدم أم الهواء أم النار؟ أم قد لا يكون شيئاً من هذا القبيل؟ - فربما كان المخ هو القوة التي تبتدع أحاسيس السمع والبصر والشم، وقد تنشأ عن هذه الأحاسيس الذاكرة والرأي، وعلى الذاكرة والرأي قد يبني العلم، ولكن إذا وقفت فيهما الحركة وأدركهما السكون؛ وبعدئذ مضيت أختبر انحلال الأحاسيس، وأتناول بالبحث أشياء الأرض والسماء، واستخدمت أخيراً أنني عاجز كل العجز عن هذه المباحث، وعلى ذلك سأقيم لك الدليل قاطعاً.
فقد فتنت بها إلى درجة عميت معها عيناي أن ترى الأشياء التي كنت أحسبني، ويحسبني الناس، عالماً بها علم اليقين؛ وقد أنسيت ما كنت ظننته من قبل بديهياً لا يحتاج إلى دليل، وهو أن نمو الإنسان نتيجة الأكل والشرب، لأنه بهضم الطعام يجتمع لحم إلى وعظم إلى عظم، وحيثما تجمعت عناصر متجانسة كبر الجرم الضئيل، وعظم الإنسان الصغير. ألم يكن ذلك رأياً معقولاً؟
قال سيبيس: نعم أظن ذلك
حسناً، دعني أنبئك شيئاً آخر، فقد مر بي زمن كنت فيه أحسب أني أفهم معنى الأكبر والأصغر فهما جيداً، فإذا أبصرت رجلاً ضخماً واقفاً إلى جانب رجل ضئيل، توهمت أن أحدهما أطول من الآخر قيد رأس، أو أن حصاناً كان يلوح لي أنه أكبر من حصان أخر، بل أوضح من ذلك أنني كنت فيما يظهر أحسب العشرة تزيد على الثمانية باثنين، وان
ذراعين أكبر من ذراع واحدة، لأن الاثنين ضعف الواحد
قال سيبيس: وماذا أنت اليوم قائل في مثل هذه الأمور؟ - فأجاب: كان ينبغي أن أنأى بنفسي بعيداً عن توهم أنني اعلم إليه سبباً؛ حقاً كان ذلك ينبغي، فلست أستطيع أن أقنع نفسي بأننا لو أضفنا واحداً إلى واحد صار الواحد الذي جاءته الإضافة اثنين، أو أن الوحدتين مضافتين معاَ تساويان بسبب الإضافة أثنين، فلست بمسيغ كيف أنه إذا انفصلت إحداهما عن الأخرى كانت واحداَ لا أثنين، ثم إذا تلاقيا، فقد يكون مجرد التقارب بينهما سبباً في أن تصبحا اثنتين: هذا ولست أفهم كيف تكون قسمة الواحد سبيلاً للحصول على اثنين، لأنه عندئذ تكون النتيجة الواحدة ناتجة من سببين متباينين - ففي المثال الأول نشأ اثنان من جمع واحد إلى واحد وتقاربهما، وفي الثاني كان السبب هو انفصال واحد من واحد وطرحه منه ولست مقتنعاً بعد ذلك بأنني أفهم لماذا يتولد الواحد، أو أي شيء آخر، ولماذا نزول، بل ولماذا يكون إطلاقاً. إنني لن أسلم بهذا قط وإني لأتمثل في ذهني فكرة مهوشة عن طريقة أخرى
ثم استمعت إلى رجل كان عنده كتاب أناكسجوراس، كما قال، وطالع فيه أن العقل هو المصرف والعلة لكل شيء، ولشد ما اغتبطت لذكر هذا الذي كان باعثاً على الإعجاب. وقلت لنفسي: إذا كان العقل هو المسير فإنه سيسير بكل شيء إلى الصورة المثلى، ويضع كل شيء أحسن موضع، وزعمت أن من يرغب من الناس في استكشاف علة تولد أي شيء أو زواله أو وجوده، فعليه أن يرى كيف تكون الصورة المثلى لذلك الشيء من حيث وجوده وسعيه وعمله، لذلك كان لزاماً على المرء ألا يضع نصب عينه إلا الحالة المثلى بالنسبة إلى نفسه وإلى الناس، ثم عليه بعد ذلك أن يعلم الأسوأ أيضاً، فالأمثل والأسوأ يحويهما علم واحد. وسرني ما ظننت أي واجد في اناكسجوراس من يعلمني ما وردت أن أعلم من أسباب الوجود، وخيل إلى أنه منبئي أول الأمر عن الأرض أمسطحة هي أم كروية، وأنه باسط لي بعد ذلك علة هذا وضرورته، وأنه معلمي طبيعة الأمثل ومظهري على أن الأمثل إنما هو هذا، فإن زعم أن الأرض قائمة في المركز شرح كيف أن هذا هو الوضع الأمثل، وكنت سأقتنع به ولو بين لي ذلك، وما كنت لأقتضيه غير ذلك سبباً، وحسبت أنني قد التمسه بعد ذلك فأسائله عن الشمس والقمر والنجوم، فيشرح لي سرعتها
المقارنة، ونكوسها ومختلف حالاتها، وكيف أنها تتجه بميولها المتعددة، القابلة منها والفاعلة نحو الأمثل دائماً، وما كنت أتصور أنه إذا ما تحدث عن العقل باعتباره مصرفاً لها، يعلل وجودها على هيئتها الراهنة بغير علة أن هذه هي الصورة المثلى، وظننت أنه بعد أن يفرغ من الشرح المفصل لعلة كل منها وعلتها جميعاً، سيمضي يبين لي الحالة المثلى لكل منها والأسوأ، فتلوثها مسرعاً ما استطعت إلى السرعة سبيلا، وقد رجوت آمالاً لم أكن لأبيعها بكثير.
(يتبع)
زكي نجيب محمود
في الأدب الفرنسي المعاصر
رومان رولان
بقلم علي كامل
تتمة
في (النهار الجديد)(1912) وهو آخر جزء من قصة (جان كرستوف) كتب رومان رولان يقول: (إن أوربا الآن توحي للناظر كأنها في ليلة حرب). كتب ذلك قبل أن تعلن الحرب بعامين. وعندما اندلعت الحرب الشرارة الأولى عام 1914 كان رومان رولان في سويسرا. فكان بعده عن وطنه مساعداً له على أن يكون حر الرأي بعيداً عن التأثر بضروب الدعاية المختلفة التي كان يصيح بها ساسة الدول المتحاربة - ومنها فرنسا - تبريراً للحرب وحثاً للناس على خوض غمار القتال (كإنقاذ المدنية) أو (الحرب من اجل السلام الخالد) إلى غير ذلك من الأقوال
ومنذ التاسع والعشرين من أغسطس عام 1914 شرع رومان رولان يكتب سلسلة مقالات في (جريدة جنيف) بدأها بخطاب مفتوح إلى الكاتب الألماني هويتمان مستنكراً الوحشية الألمانية التي أحرقت بلدة (لوفان) البلجيكية. وقال فيه: (كثير منكم أن يبدو ذلك العنف الذي تعاملون به هذه الأمة الكبيرة النفس - يقصد بلجيكا - التي لا ذنب لها إلا الاستماتة في الدفاع عن استقلالها وعن الحق كما فعلتم أنتم الألمان عام 1813. . .! احتفظوا بهذه القسوة لنا نحن الفرنسيين أعداءكم الحقيقيين. أما أن تتحمسوا ضد ضحاياكم، ضد ذلك الشعب البلجيكي الصغير السيئ الحظ البريء. فيا له من عار!) ثم يقول: (ولم تكتفوا بان تأخذوا البلجيك الحية، فأعلنتم الحرب على الأموات، على مجد القرون، فأمطرتم (مالين) بالقنابل وأحرقتم (روبان)، وأصبحت لوفان تلاً من الرماد، لوفان بكنوزها الفنية وعلمها، لوفان المدينة المقدسة. . . . هل تحاربون الجيوش أم الفكر الإنساني؟ اقتلوا الرجال لكن احترموا الأعمال الفنية، إنها تركة الجنس البشري الذي أنتم منه والذي نحن جميعاً الأمناء عليه. إنكم حين تحطمونه كما تفعلون الآن تثبتون أنكم غير جديرين بذلك
التراث العظيم).
وفي مقالته الثالثة (فوق المعركة) - التي أطلق عنوانها على مجموعة المقالات حين جمعها فيما بعد، نسمع رومان رولان يوجه اللوم الشديد إلى قادة الرأي العام والرؤساء الدينيين والمفكرين والخطباء الاشتراكيين قائلاً:(بين أيديكم ثروات حية، كنوز من البطولة، فماذا فعلتم بها؟ لقد وجهتموها إلى الصراع والموت!) ثم تراه يظهر استنكاره المرير من أن تنتقل شهوة رجال السياسة إلى رجال الفكر فتتولد بينهم العداوة (فيصبح أوكن ضد برجسون، وهويتمان ضد مترلنك، ورولان ضد هويتمان، وولز ضد برناردشو. كما يتغنى كبلنج ودانونزيو ودو رينييه وبارس ومترلنك بأغاني الحرب والقتال. بينما يطلب الفيلسوف الشيخ قندت - الذي بلغ من العمر الثانية والثمانين - بصوته المحطم من طلبة جامعة ليبنزج الاشتراك في (الحرب المقدسة))
وفي هذا المقال أيضاً صرح رولان أن اعظم هيئتين خانتا مهمتهما وظهرتا بمظهر الضعف أثناء الحرب هما (أولاً) المسيحية: أي السلطة الدينية (وثانياً) الاشتراكية. إذ أن كلا من هاتين الهيئتين من أول مبادئهما الدعوة إلى السلام العالمي والإخاء بين الشعوب. لهذا كان تأييدهما للحرب وقبولهما دخول سعيرها إنكارا لا يليق لمبادئهما السامية. (فهؤلاء الاشتراكيون الذين لم يجدوا في نفوسهم الشجاعة على الموت في سبيل عقيدتهم قد وجدوها للموت في سبيل عقيدة الآخرين)
وعندما يتكلم عن الباعث الحقيقي على الحرب يقول: (إن العدو الألد ليس خارج حدود الوطن بل هو رابض داخل كل أمة. وليس هناك أمة واحدة تملك الشجاعة لمحاربته. إنه ذلك الشبح ذو المائة راس الذي يسمى التوسع الاستعماري. تلك الإرادة في الكبرياء والتسيطر التي تريد أن تمتص كل شيء فإما الخضوع لها وإما الهدم. تلك الإرداة التي لا تحتمل مطلقاً أي عظمة ونمو خارج دائرتها)
وبعد أسبوع من معركة المارن أعلن رومان رولان فكرته العالمية (ووجوب إقامة المدينة الواسعة الممتدة الأطراف التي تزال منها المظالم وأحقاد الأمم وتجتمع فيها النفوس المتآخية الحرة في العالم أجمع) على أنه لم يكن يطلب تحقيق ذلك عن طريق العنف فهو ألد أعدائه. بل يترك للزمن تحقيقه على مهل حين تسمو النفوس عن الصغائر وتتجرد العقول مما
تتعلق به الأوهام
لقد رأينا كيف أن رومان رولان في مقالاته كان متجرداً من كل خضوع لفكرة وطنية، أو التأثر بتيار الحماسة الذي كان يجرف كل الأمم المتحاربة. ولذا لم يتردد - كما رأينا - في السخرية من كل رجال الفكر والدين، لأنهم خانوا مبادئهم النبيلة في الوقت الذي كان يمكنهم فيه تأدية أكبر جانب من مهمتهم في الحياة. كما أنه لم يتردد في إظهار ألمه من تردي العلم في حمأة الأغراض، حين يدعى الأستاذ بيريه مدير المتحف وعضو أكاديمية العلوم في باريس أن البروسيين لا ينتمون إلى ينتمون إلى الجنس الآري. كذلك كان من الأسباب التي زادت عدد مهاجميه احتفاظه بعد أن أعلنت الحرب بصداقة من كان يعرفهم من الكتاب الألمان (إذ ليس حبي لوطني - كما قال - معناه أن أكره أناساً مخلصين يحبون هم كذلك أوطانهم)
كل هذه الأسباب إلى جانب التهم التي وجهت إليه قبل الحرب عن طعنه في العبقرية الفرنسية جعلت عدداً من جرائد بلاده تنشر مقتطفات محرفة من مقالاته في لتثير عليه الرأي العام. ولقد استطاعت بلوغ ذلك إلى حد كبير. فكان جواب رومان رولان على هذا أن نشر مقالاته لتثير عليه الرأي العام. ولقد استطاعت بلوغ ذلك إلى حد كبير. فكان مستقل في سبتمبر عام 1915، حتى يطلع الشعب الفرنسي بنفسه على حقيقة ما كتب ليعرف مقدار اتهامات أعدائه من الحق أو الضلال. وقد قال في مقدمة كتابه ما يأتي:(إذا باغتت الحرب شعباً عظيماً فإنه ليس فقط أن يدافع عن حدوده، بل أمامه عقله أيضاً فإنه ليس عليه فقط أن يدافع عن حدوده، بل أمامه عقله أيضاً يجب أن يحميه من الخرافات والخروج على العدل ومن السخافات. تلك الأمور التي تطلقها من عقالها المصيبة العظمى لكل شخص مهمته، فكما أن على الجيوش أن تحافظ على أرض الوطن، كذلك على رجال الفكر الدفاع عن الفكر؛ فإذا سخروه لخدمة شهوات شعبهم، فقد يستطيعون أن يكونوا آلات نافعة، ولكنهم يخاطرون بخيانة العقل الذي ليس هو أقل جزء من تراث هذا الشعب) ثم يقول في النهاية: (لقد ظللت عاماَ بأكمله غنياَ بالأعداء، والآن أقول لهم أنهم يستطيعون أن يحقدوا علي، ولكنهم لن يستطيعوا أن يعلموني أن أكون حقوداَ. . . أن مهمتي أن أقول ما أعتقده عدلاً وإنسانياً)
والواقع أن التهم التي أسندت إلى مقالات رومان رولان في (جريدة جنيف) لا أساس لها من الصدق، إذ خلقتها عداوة بعض الإفراد والجرائد من جهة، ومن جهة أخرى الرقابة على المطبوعات إبان الحرب التي كانت حين تحذف من مقالاته كثيراً من الفقرات التي ترى فيها تطرفاً لا يجوز نشره، تترك بذلك المجال لأعدائه لتأويل الجزء الضئيل الباقي تأويلاً سيئاً
وعلى كل حال فقد كان هذا الصراع الهائل بين رجل وأمة داعياً لأن تتسع شهرة رومان رولان بعد الحرب، وخصوصاً وقد حصل عام 1916 على جائزة نوبل للآداب، وكانت شهرته خارج فرنسا أوسع من داخل فرنسا نفسها؛ وقد قوبلت كتبه التي ظهرت بعد الحرب بشغف زائد وإقبال عظيم، فطبعت عشرات الطبعات ومن هذه الكتب:(1917) - الذي طبع عام 1914 ولم ينشر إلا عام 1919 - ، ' ' (1920) - (1924) - ' (1925) ' (1926 - 1927) و (1926)(1928) - ' (1930).
ولا يزال رومان رولان يعيش في سويسرا متخذاً إياها وطناً ثانياً له، محافظاً كل المحافظة على تفكيره وآرائه التي أثارت عليه الحملات غير عابئ بها، مؤمناً بذلك الإحساس الذي دفعه إلى أن يقول أثناء الحرب رداً على متهميه في إحدى مقالاته ' إن (الوقت الذي يخصصه الرد على خصم ما إنما يعتبر كزقة من أولئك التساء، أولئك السجناء. من تلك الأسر التي تسعى ونحن في جنيف أن نمد لها أيدينا).
ويرى الناقد رينيه لالو أن هذه الصلابة الشديدة التي نجدها عند رومان رولان في التسمك برأيه والاحتفاظ بنقاء ضميره كرجل أخلاقي قد آذته إلى حد ما - كفنان، إذ أفقدت قصصه كثيراً من الليونة والطراءة. على أن هذا الإخلاص لعقيدته بين عواصف الافتراء الكاذب، وذلك الاحتمال الباسم للاضطهاد الذي بعثنه النفوس الصغيرة، وتلك السعادة في العذاب التي انعكست عليه من أبطاله بيتهوفن وتولستوي وغاندي، قد جعلت جميعاً منه أحد أعاظم قادة الفكر الأوربي الحديث الذين في أعناقهم - هم وسائر مفكري العالم - يقف مصير المجتمع الإنساني
علي كامل
ملوك الغرب
لمناسبة احتفال الإنجليز بعيد ملكهم
للأستاذ فخري أبو السعود
تيهوا بعيد المليك المفرد العلم
…
وفاخروا بِعُلاهُ سائر الأمم
ومجِّدوا فيه عنواناً لمجدكمُ ورمز
…
مُلْكٍ وطيدٍ ثابت الدعم
مُلْكٍ حَوَى مشرقَ الدنيا ومغربَها
…
لم يَرْوِ عن مثلهِ التاريخُ من قِدَم
تيهوا بني الغرب بين العالمين بما
…
بلغتم اليوم من مجد ومن عِظم
ولْتَزْدَهُوا بملوك في عروشكُم
…
همْ زينة المُلْكِ والأحكام والنظم
تأوي الشرائع منهم والحقوقُ إلى
…
حصنٍ حصينٍ وركنٍ غير منهدم
هم أول الحارسي الدستور من عبث
…
والحافظين لِما أولوه من ذِمم
وهم مَناَطُ أمانيِّ البلادِ وَهُمْ
…
أبُوَّةُ الشعب في الأحداث والغُمم
في كل يومٍ لهم في الشعب مأثرة
…
تُغيث منه مكان الداء والألم
ملائكُ النور في سلم وفي دعة
…
وهم حُماةُ وَأوج كمال الخُلق والشيم
وسادة الناس في علم وفي أدب
…
هُمُ وُأَوْجُ كمال الخُلق والشيم
نالوا من العز شَأواً لم يُنَلْ ولهم
…
محبةٌ في قلوب الشعب لم تُرَم
محبةُ الشعب ترعاهم وتحرسهم
…
لا الشاهقاتُ من الأسوار والأُطم
محبةٌ هي أغلى لِلْمُدِلِّ بها
…
من منظرٍ فارهٍ أو مظْهَرٍ سَنِمِ
تَوَارَثوا صولجانَ المُلْك في أُمم
…
لا تبتغي بَدَلاً - لو خُيِّرَتْ - بهِم
لا كالملوك الأُلى - بالأمس - إذ حَكموا
…
ساقوا الرعيةَ سَوْقَ الشاء والنَّعَم
ولم يخالوا شعوباً تحت رايتهم
…
سوى عبيدٍ لرَبَّ التاج أو حَشَم
ولم يرَوا لهمُ جاهاً ولا حَسبَاً
…
في الناس حتى يُذلُّوا كلَّ ذِي شمم
يقُصي الأبيُّ ويَشْقَى الحُرُّ عندهم
…
ويَمْرَحُ المالٍقٌ الأفَّاكُ في النِّعَم
باسم المكارم أعْلَوْا مُلكَهُم وهُم
…
حَرْبٌ على كَرَم الأخلاق والهمِم
عن حاجةِ الشعب باللذات في شُغُلٍ
…
كانوا وعن دعوة المهضوم في صمم
سِيَّانِ إن سَعِدَتْ في ظل دَوْلتهِم
…
رعيةٌ أو هَوَتْ في البؤس والوصَم
لا يِرْقُبُ الناسُ منهم فضلَ مكرمة
…
لكن يخافون منهم بطش محتكم
ذيَّاك عهدٌ تولى غيرَ مرتجَع
…
هيهات يَبعْثَهُ باغٍ من العَدَم
وعاصرتْنا ملوكٌ في ممالكهم
…
همُ لمن حكموهم أول الخدم
يشاطرون صروفَ الدهر قومَهُمُ
…
ويعطفون عليهم عطفَ ذي رحم
وهم على شعبهم في كل ما صنعوا
…
فيضٌ من البرِّ لا صوبٌ من النِّقم
تَسَنَّمُوا ذروةَ العليا، وباسمِهم
…
تُزْجى الجحافلُ في الوديان والأكَم
وينزلون - إذا ما الجِدُّ جَدَّ - على
…
ما قالهُ قائلوا الساداتِ والعَمَم
ولا يرَوْنَ لهم من دون أُمتهِم
…
مجداً ولا دون حب الشعب من عِصم
فخري أبو السعود
يعجبني.
. .
للأستاذ محمد الحليوي
يُعجبني الحطَّابُ في غابه
…
وفأْسُه تعملُ في جذعِهِ
يِهوِي بها - فهي قضاً نازلٌ
…
تَرْتجف الغابة من وَقْعِهِ
وتحملُ الريحَ إلى مسمعي
…
صَدَى نحيب الغاب في رجعه
يُعجبني المِزْمار في ساَمِرٍ
…
في هَجعة اللَّيل وفي وَهْنهِ
غناؤه في الحيِّ يَهْتاَجُني
…
ويستبيني بشجي لَحْنِهِ
وتحمِلُ الرِّيحُ صدَى شاكياً
…
مثْلَ شَكاةِ الْقَلْبِ في حُزْنِه
يُعجبني الآذانُ في هَدْأَةٍ
…
يُرْسِله العابدُ من جوِّه
يُرسله شَفْعاً يهز الفضا
…
مُرَجَّعاً يهتاَجُ في شَجْوِهِ
وتحمل الرِّيح صدَى هائماً
…
تَنْجَذِبُ الرُّوح إلى نحوِه
يعجبني الدُّولاب في رَوضَةٍ
…
وصوتُه الآتي على رِودِهِ
وَجُلْجُلُ الناقِةِ في عنقها
…
والماءُ إذ يهمس في وخْدِه
وتحمل الريح صدَى غامضاً
…
يستَوْقِف الآذانَ في بُعدهِ
وإذ تَؤُمُّ الريحُ في سيرها
…
بَيتِيَ أو تجثُمُ في قُربهِ
أُحبُّ أن تحمل أمواجها
…
شتَّى اللُّغَي، كلٌّ على ضربهِ
وهْمسةُ الأورَاق في دَوْحِها
…
وغُنَّةُ الطائرِ في سِرْبِهِ
وَنَقَّةُ الضِّفْدعِ في مائها
…
وهزمةٌ للرعدِ في سُحْبِهِ
تُبهجني، تُعجبُني كلّها،
…
وتلك حسبُ القلب من حبِّهِ
يا عجباً! قد تأملُ الأذْنُ أنْ
…
تستوعب الكونَ على رُحْبِهِ
(تونس)
محمد الحليوي
الدبكة
ليلة عرس في القرية
بقلم محي الدين الدرويش
سكب البدر على القر
…
ية ضوءاً فزهاها
وبدت حالية الأك
…
ناف تهتزُّ رُباها
نَفَحتها نسمةٌ عط
…
ريةٌ يُغرى شذاها
يا لها من ليلة قد
…
أغرقتني في سناها
جُليتْ فيها فُتو
…
نٌ ضلّ عقلي في مداها
وَفَدَ القوم إلى السّهلِ
…
نساءً ورجالا
يتهادون نَشَاَوي
…
ويميلون دلالا
موكبٌ للعرس أضحى
…
يملأ العين جلالا
علت الضّوضاء فيه
…
وكذا الطبل تعالى
وبدت فيه العذا
…
رى كنجوم تتلالا
يا عذارى الحيّ هذى
…
فَرحةُ العرس السعيدِ
عرس هند إتها
…
كالظّبي في لحظٍ وجيد
غادةٍ عوذتها با
…
لله من عين الحسود
يا عذارى لا رأي
…
تنْ سوى عيشٍ رغيد
كمل الأنس فبادِ
…
رْنَ إلى رقص فريد
علت الأنوار حتى
…
أصبح الليل نهارا
وغدا كلُّ فؤادٍ
…
من رُؤاها مستطارا
بُسُطُ الديباج صُفَّتْ
…
فبدت تحكي إطارا
جلس القوم عليها
…
وبها الرَّقص استدارا
جُنَّ صوت الطبل في
…
البطحاء والزَّامر ثارا
عقدوا الأيدي وداروا
…
هالةً فيها النُّجومُ
كهرباءُ قد سرت
…
فارتعشت منها الجسوم
مالت الأعناق وال
…
أعطافُ تهوى وتقوم
والنُّهود اختلجت، في
…
حسنها تَغْوَى الحُلُو
لُجَجٌ فوق صُدورٍ
…
ليتني فيها أعُومُ
وقَّع الزّامر أنغا
…
ماً فمالت بالصُّفوفِ
من رجال ونساءِ
…
وغويّ وعَزُوفِ
أرسلوا الأرجلَ في الأرْ
…
ض وعادوا للوقوف
ماجت الأعطاف فالقا
…
ب بها جِدُّ شَغُوف
يا لأعطاف العذارى
…
فتنتْ كلَّ عفيف
وتعالتْ نغماتٌ
…
سلبت منّى نُهايا
مشجيات ردَدَت أص
…
داَءها كلُّ الزَّوَايا
وأثارت ذكرياتٍ
…
رَقَدَتْ بين الحنايا
يا صبايا حسبكنَّ اليو
…
مَ شجواً يا صبايا
نحن نهواكنَّ فأر
…
فُقْن قَليلاً بالضْحايا
حمص (سوريا)
محي الدين الدرويش
13 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثه
وصل الفائت: أثبت بستور أن المكروب ضروري للحياة على ظهر هذه الأرض. فإن الأموات من الحيوان والنبات لابد من تعفنها وتحللها وأكسدتها لتتسع البسيطة للنبات الجديد والحيوان الوليد. وأن هذا التحلل لابد له من الأكسجين. ولكن أكسجين الجو عاجز عن هذه الأكسدة فإنها لا تتم إلا بواسطة المكروب. ثم أثبت بستور بعد ذلك أن المكروب منشؤه الهواء، يحمله غباره. وأنك لو أدخلت الهواء دون الغبار إلى اللبن والأمراق ونحوها بعد إغلائها جانبها الفساد، فقضى بذلك على نظرية الانبعاث التلقائي التي تقول إن المكروب ينشأ في الأمراق والألبان وأمثالها من تلقاء نفسه، من العدم
وبعد ذلك قام بستور بتجربة يدلّ البحث الدقيق بين المخلفات والسجلات أنها من صنع نفسه. تجربة هائلة، ركب لها القطار، وصعد من أجلها الجبال، ودار في أعاليها في حذر وريبة حول ما انجمد بها من الأنهار. وعاد معمله مرة أخرى فازدحم فيه القباب، ورنّ الزجاج، وغلت الأحسية فأرغت وتفقعت. وقام أعوانه على العمل قومةً واحدة، فلم تر فيهم إلا رائحاً مسرعاً أو غادياً مهرولاً، حتى لكائنهم عبيد مسترقّون السياط، وما كان وراءهم إلا قلوب مؤمنة وعزمات صوادق. قاموا يجهزون مئات القوارير، ويملئونها بالأحسية بعض الملء، ثم يُغلون كل واحدة منها دقائق، وبينا هي تغلي يسيحون رقابها في نفخات اللهب الشديد، ثم يمطونها ويختمون على القوارير وقد ذهب هواؤها. فإذا بردت لم يكن بها غير الحساء فوقه فراغ. وقاموا على هذا التجهيز ساعات عديدة طويلة حسبوها دقائق من فرط اهتمامهم
وبدأ بستور رحلته بهذه القوارير. فذهب أول ما ذهب إلى مرصد باريس فنزل إلى حجراته المطمورة تحت الأرض. وأجال نظره فيها ثم التفت إلى صبيته وقال: (كيف تجدون هذا المكان؟ إنه هادئ بالغ الهدوء، ساكن بالغ السكون، قل فيه الغبار فعز فيه المكروب)، وقام الصبية إلى القوارير فامسكوها بعيداً عن أجسامهم بمقابض من المعدن أحميت في النار قبل ذلك، وأخذوا يفضون أختامها حتى بلغ المفضوض منها عشر قوارير، وكلما فضوا ختم قارورة دخلها الهواء فسمعوا له صفيراً. وما كاد يدخلها الهواء حتى عادوا فختموا القارورة على التو مرة أخرى، وذلك في لهب مصباحٍ زيته الكحول. وذهبوا إلى فناء المرصد ففضوا فيه عشر قوارير أخرى على مثال ما وصفنا: ثم أسرعوا عائدين إلى معلمهم، إلى ذلك المحضن تحت حنية السلم، فوضعوا القوارير فيه
وبعد أيام كنت تجد بستور قاعداً القرفصاء أمام هذا الفرن ينظر قواريره في رفق وحنان، وعلى فمه ابتسامة من ابتساماته النادرة، فإنه لم يكن يضحك إلا إذا جاءه التوفيق والنجاح. وكتب شيئاً في كراسته وحرج يزحف من هذا الحجر ليخبر أعوانه أنه وجد تسع قوارير رائقة من العشر التي فتحوها في قاع المرصد، (فهذه القوارير التسع لم يدخلها مكروب واحد. أما العشر التي فتحناها في الحوش فتعكرت كلها بالملايين من تلك الخلائق. إن الهواء هو الذي أدخلها في القوارير. إن هباء هذا الهواء هو الذي حملها معه!)
وكان الوقت صيفاً، ودراسات المعاهد معطلة والأساتذة يستجمون، وحق لبستور أن يستريح مثلهم، ولكنه جمع ما بقي من القوارير وأسرع إلى القطار، إلى بلده القديم في جبال الجورا فصعد جبل بوبية وهناك فض أختام عشرين قارورة ثم لحمها. وذهب بالقوارير إلى سويسرا، وتسلق جبل مونت بلان مغامراً مخاطراً، وعلى أكتاف هذا الجبل العظيم فض أختام عشرين قارورة أخرى فدخلها الهواء صافراً. ورجا بستور أنه كلما علا في الجو قل العدد الذي يتعكر من قباباته. وقد تحقق رجاؤه. قال:(هذا ما كنت أرجو، وهو ما يجب أن يكون. فإني كلما صعدت في الهواء قل الغبار فقل المكروب الذي يركبه دائماً). وعاد إلى باريس فخوراً، وأخبر الأكاديمية أنه اصبح من الثابت المحقق أن الهواء وحده لا يستطيع إحداث المكروب في الأمراق، وأن لديه على ذلك براهين سيدهش لها كل إنسان. صاح فيهم يقول: (هنا، بهذا المكان توجد مكروبات. وهنا، على مقربة من المكان الأول لا توجد
المكروبات. وهناك، في ذلك المكان الأبعد توجد مكروبات غير تلك التي وجدناهاأولاً. . . . وهذا مكان آخر، قد هدأ هواؤه هدوءاً بالغاً، فلم نجد فيه مكروبا أصلاً). وأراد أن يمهد لانتصارات أخرى، فقال:(لوددت أن أصعد في منطاد إلى طبقات أعلى في الجو فأفتح فيها قباباتي). ولكن سامعيه اغتمروا حساً بحديثه، واكتفوا بالذي كان، ووثقوا بالذي يقول، فلم يعد بستور عندهم عالماً باحثاً عادياً فحسب، بل وقع من حسبانهم موقع أولئك الأفذاذ الذين يجود الدهر بهم آنا بعد آن. كان بستور أول الأبطال المخاطرين في عصر المغامرة الذي تلا، والذي سنتحدث عنه في هذه القصة بعد حين
وكان بستور كثيراً ما يفور في خصوماته بالتجارب البارعة التي كانت تترك خصومه طرحى صرعى. ولكن في بعض أحايين كان فوزه لضعف في خصومه أو لغباوة فيهم. وأحياناً كان يأتيه الفوز حظاً ومصادفة. قام بستور يوما في جماعة من الكيميائيين فحط من المقدرة العلمية للطبيعيين صاح فيهم: (فإن أعجب فعجبي لهؤلاء القوم كيف لا يدخلون على العلم من بابه، من باب التجربة. فإنهم لو فعلوا، إذن لنفخوا في علمهم روح الحياة). وأنت تستطيع أن تتصور ما كان من كره الطبيعيين لهذا المقال. فقد كرهه بخاصة المسيو يوشيه مدير متحف روان وشركه في كرهه الأستاذ جولي والأستاذ موسيه وهما الطبيعيان الشهيران بكلية تولوز. ثلاثة من أعداء بستور لم يستطع شيء في الدنيا أن يقنعهم بان تلك الأحياء المكرسكوبية إنما تتخلق من آباء. لم تستطع حجة أن تذهب باعتقادهم في إمكان نشوء الحياة والأحياء من ذوات أنفسها. ومن أجل هذا أجمع الثلاثة أمرهم على أن ينازلوا بستور في أرضه وبنفس سلاحه
فملئوا مثله القوارير، ووضعوا فيها الأحسية على مثال ما صنع، وأغلوها وختموها كما أغلى وختم، إلا أنهم اتخذوا أحسيتهم من مرق الأعشاب الجافة لا كما اتخذها هو من أمراق الخمائر. وحملوا قواريرهم إلى جبل مالاديتا في البرنيز فأخذوا يصعدون فيه ثم يصعدون حتى بلغوا مكاناً أرفع مما بلغ بستور على جبل مون بلان في سويسرا. وهناك خرجت عليهم من مغاور الثلوج رياح قارسة نفذت من خلال أكسبتهم الغليظة إلى جلودهم. وزلقت رجل المسيو جولي من فوق كتف الجبل، فكاد يذهب ضحية العلم لولا أن أمسك بعض الأدلاء بذيل كسوته. وقاموا وهم في هذه الحال بفتح القوارير وملء فراغها بالهواء ثم
ختمها. ونزلوا يجرون أقدامهم، وقد نال الجهد منهم والبرد، فدخلوا إلى خان في الطريق فنصبوا فيه محضنا حيثما اتفق، ثم أودعوه قواريرهم. وبعد أيام نظروا إليها فبرقت أساريرهم لما رأوا أمراقها تعج بالخلائق الصغيرة. إذن لقد أخطأ بستور
وعندئذ أشهروا الحرب بينهم وبينه. وقام بستور يهزأ في الناس بتجارب الأسياد: يوشيه وجولي وموسيه. وقارعهم بحجج نعلم نحن اليوم أنها كانت تمحكا ولجاجة
فرد عليه يوشيه. قال فيما قال: (إن بستور قدم قواريره هو إنذاراً أخيراً للعلم ليدهش كل إنسان). فغضب بستور واهتاج، ووسم يوشيه بالكذب، وطلب اعتذاره على رؤوس الأشهاد. وخيل للناس أن الفصل بين الحق والباطل سيكون للدماء الصبيبة بدل التجارب الهادئة. وكان من بعد ذلك أن احتكم يوشيه وصديقاه إلى تجربة يجرونها بين رجال أكاديمية العلوم، فإذا وجد واجد أن قارورة واحدة من قواريرهم خالية من المكروبات عقب فتحها، إذن لأقروا بأنهم مخطئون. وجاء اليوم الموعود، واقتربت ساعة النزال، ساعة الاحتكام إلى القوارير، واشرأبت أعناق الناس، ودفئت قلوبهم في انتظار ما يكون. ولكن خصوم بستور رجعوا على أعقابهم ناكصين. فروا من المعركة قبل أن تكون. فقام بستور نفسه بتجاربه أمام المحكمين، أجراها في وثوق واطمئنان، وسخر من خصومه وهو يجريها. وبعد قليل أعلن المحكمون (أن الوقائع التي ارتآها المسيو بستور، فخاصمه فيها يوشيه والمسيو جولي والمسيو موسيه حقائق لا تحتمل النزاع ولا تسمح بالخصومة)
انتصر بستور بالحق، وكذلك انتصر بالحظ، فإن خصومه لم يكونوا مخطئين في الذي وصوفه من تجاربهم. لأنهم لسوء الحظ اتخذوا أمراقهم من العشب، لا من حساء الخمائر. وقد أثبت العالم الإنجليزي تندال بعد ذلك بسنوات أن هذه الأعشاب تحمل جراثيم مكروب تصمد للغليان ساعات فلا تموت. فالذي أنهى الخصومة بين بستور وأصحابه إنما هو في الحق تندال. وهو هو الذي أثبت ان بستور مصيب
- 5 -
وعندئذ حظى بستور بالمثول بين يدي الإمبراطور نابليون الثالث. فقال لهذا الملك الحلام إن كل أمله أن يعثر على تلك المكروبات التي تتسبب عنها الأمراض يقيناً، ودعاه الملك إلى نزهة ملكية في كومبين وهناك صدر أمر الملك إلى ضيوفه بالاستعداد للصيد، فتوسل
بستور ورجا أن يعفى من هذا، لأنه كان في انتظار حمولة عربة من الأجهزة ستأتيه من باريس، مع أن ضيافته في القصر الملكي كانت لأسبوع واحد. وأكبره الملك والملكة لما رأياه مكباً على مجهره، بينا يكب الآخرون من الأضياف على صنوف اللهو والخلاعة
لابد أن يعلم الناس أن المكروب لابد له من آباء! وفي باريس، في سهرة علمية بالسربون، قام بستور فالقى خطاباً سهلاً في الجمهور الحاضر، وكان من بينهم اسكندر دوماس القصصي الشهير، وجورج ساند المرأة العبقرية المعروفة، والأميرة ماتلدا، ومئات من ذوات البلد وأعيانه. وقام في هذا الحشد بقطعة مسرحية رجعوا من بعدها إلى بيوتهم يثقلهم الهم ويساورهم الخوف. فقد أراهم بستور على الشاشة صوراً عديدة من مختلف المكروبات. وبدون إنذار أظلم المكان فجاءة، وأرسل في كتلة الظلام الأسود شعاعاً ابيض من الضياء. وصاح فيهم:(انظروا إلى هذا الشعاع، وانظروا إلى العدد الهائل من ذرات التراب التي ترقص فيه، ثم اعلموا أن الهواء الذي انتم فيه مليء بهذا الهباء، ثم تعلموا إلا تحتقروا دائما شيئا لصغره، فتلك الذرات الصغيرة قد تحمل المرض والموت، قد تحمل فوق ظهورها مكروب التيفوس والكوليرا والحمى الصفراء، وأنواع كثيرة غير هذه من الوباء). هذا هو النبأ الفظيع الذي جمعهم من أجله! ألقاه إليهم في صوت يتهدج غيرة وإخلاصا، فآمنوا به وارتجفوا ارتياعا منه. بالطبع لم يكن هذا النبأ صادقا كله، ولكن بستور لم يكن كذاباً فياشا، بل كان يؤمن كل الإيمان بالذي يقول. فهذا الهباء، وهذا المكروب الذي حمله، أصبحا من ضرورات حياة صاحبنا. إذا فكر ففيهما التفكير، وإذا نظر فإليهما النظر. ويدعوه الداعون من رجالات المجتمع إلى موائدهم فلا يبالي أن يرفع إلى أنفه الصحون والمعالق، فيحملق فيها، ثم يدور عليها يمسحها بمنديله. كان كل عمل يأتيه إعلانا بعيد المدى عن تلك المكروبات
نعم أغرق بستور كل فرنسي أن يهتم لهذه المكروبات، من الإمبراطور في عظمته وأبهته، إلى الزبال بين قمامته. وتسارق الناس الأخبار من أبواب مدرسة النرمال عن أحداث مريبة غريبة، حدثت أو تحدث قريباً: ومر الأساتذة والطلاب بتلك المعامل، وفي خطاهم بعض سرعة، وفي قلوبهم شيء من فزع؛ وكأني بك تسمع الطالب يتحدث إلى رفيقه الطالب، وقد مرا في طريقهما بمدرسة النرمال فأظلتهما حيطانها العالية الغبراء، فيقول له:
(إن وراء هذه الحيطان رجلا يدعى بستور يكشف أموراً عجيبة عن مكنة الحياة، وقد بلغ من علمه أنه يعرف كيف تنشأ الحياة، ويقولون إنه ربما كشف منشأ الأمراض وأسبابها) ونجح بستور في إغراء السلطات بزيادة سنة على سنوات الدراسة، وبدأت المعامل تزداد عدداً، وخطب في تلاميذه خطباً من نار، فبعث بفصاحته الدمع إلى عيونهم، وتحدث عما تحدثه المكروبات من العلل في الأجسام قبل أن يعلم عن هذا شيئاً، فلم يكن بعد بحث الطاعون، ولم يكن بعد كشف غيره من الأوبئة القتالة، ولكنه فعل ذلك ليحمس الجمهور، والجمهور الفرنسي عنيد، عسير تحميسه
كتب يوماً رسالة صغيرة حارة يخاطب فيها جمهور الفرنسيين قال: (أرجوكم، أتوسل إليكم أن تعيروا شيئاً من اهتمامكم هذه البيوت التي أسميت معامل عمداً وقصداً. طالبوا بزيادتها. طالبوا بتكميل ما نقص منها. إنها معابد الغد. ومنها ستخرج لكم أسباب الرفاهية وأسباب الغنى). بقد سبق بستور زمانه بنصف قرن، وكان كالنبي الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، فنصب لقومه مثلاً للكمال عظيمة، ولكنه لم ينس أن يذكرهم بما سيكون لهم كذلك من متع مادية دون تلك المثل عظماً، لم يكن بستور بحاثاً كبيراً فحسب، بل كان خبيراً بأمور دنياه خبرة فائقة
(يتبع)
أحمد زكي
القصص
من أساطير الإغريق
ثيذيوس يقتل المينوطور ويخلص أثينا
لعب يثير حرباً
للأستاذ دريني خشبة
كان الملك إيجوس، ملك أثينا، في شرخ صباه وعنفوان شبابه زير نساء، وأخا شهوات؛ وكان ذا نزواتٍ تكاد تسعى به إلى حتفه. . . . بظلفه. . .
ذهب مرة يجوب ريف مملكته، فلمح وجهاً مشرقاً ينبثق من كوة كوخ في إحدى القرى، تتراقص حول ثغره الصغير بسمات هن رسل الحب، وتنطلق من عينيه النجلاوين نفثات تصرعن ذا اللب. . . حتى لا حراك به. . .
وطرق الباب يستسقي، وما به ظمأ، فامتدت إليه ذراع عاجية لدنة، تحمل كوباً من البلور مفعماً برحيق الحب، وإن لم يحو غير الماء القراح!
وتناول الكوب ولبث لحظة يشرب ما به بعينيه، دون أن يمتد فمه إليه، ثم أرسل زفرةً دفعت الباب فانفتح على مصراعيه، ودخل غير مستأذنٍ، فروى فمه، وبرد قلبه، وبل جاحم الحب الذي زلزل أركانه
ثم تزوجها، ومكث عندها شهراً كان عسلاً كله!
ووصل إلى قاعدة الملك، وأم القرى، أثينا، بعد أن ترك وصاته المكتوبة الآتية:(في الغرفة التي ضمتنا لأول مرةٍ نلتذ الحياة وننعم بطيب العيش؛ هنا؛ في هذا المنزل الصغير الذي اتسع لدنيا من الآمال والأحلام؛ وتحت الحجر الكبير الملون، حيث كانت قدماي تحييان في سكرة الهوى قدميك؛ قد استودعت نعلي اللتين حملتاني إليك، وسيفي الذي فربت به رؤوس الأعداء حتى سعدت بك؛ فإذا وضعته غلاماً فسميه ثيذيوس، ونشئيه وطرئيه حتى يصلب عوده، ويشتد ساعده، فخذيه إلى الحجر فليرفعه، وليلبس نعلي وليمتشق سيفي، ثم ليمض إلى أثينا، لا حافظ له إلا قلبه، ولا حارس إلا سيفه، فإذا شاءت العناية فإنه بحول زيوس العظيم ولي عهدي، وصاحب التاج من بعدي.)
وتتابعت السنون
وكانت أثينا تزهى كل سنةٍ بعيدها الرياضي الفخم؛ فتلبس حلةً من البهجة والإيناس، وتؤمها وفود الأقاليم المجاورة تتفرج بالألعاب الجميلة، وقد تشترك فيها
وكان لمينوس ملك كريت، ابن مفتول العضل قوي البنية حبيب الطلعة، كان يقدم إلى أثينا إبان عيدها الرياضي ليباري أبطالها، ثم يعود مشمولاً بحب الأثينيين وإعجابهم الشديد، ولقد كان يحدث ألا يكون للموسم بهجته المعتادة إذا تخلف ابن مينوس فلم يحضر إلى أثينا
ومن غريب المصادفات أن يولد ابن ملك كريت هذا في نفس اليوم الذي تضع فيه القروية الحسناء الغلام ثيذيوس ابن ملك أثينا
ومن يرغب المصادفات أيضا أن ينشأ ثيذيوس هذه النشأة الرياضية التي نشأها ابن مينوس، والتي كانت إماراتها تبهر الأثينيين وتخلب ألبابهم في موسمهم الرياضي
ولم يكن الأثينيون يعلمون أن لملكهم ولداً، هو إن لو يبرز على ابن مينوس في الألعاب الرياضية، فإنه لا يقل عنه شأنا فيها. ولم يكن الملك نفسه يعلم عن ولده شيئاً، ولو قد علم عنه شيئاً لما سولت له نفسه الأثيمة أن يدبر غيلة ابن مينوس في حلك الليل، وفي طريقه المقفرة إلى المرفأ، حين آب بأكثر جوائز الموسم الرياضي، في المصارعة والملاكمة والعدو ورمي القرص. .!
لقد أكلت الغيرة العمياء قلب الملك الجبان، وتلظى فؤاده بحقد أسود حجب بصيرته، فأرسل عصابة من اللصوص وقطاع الطرق والسفاكين، ذبحوا الشاب المسكين، ونبذوا جثته بالعراء، تنوشها الوحوش وسباع الطير!
واهتزت أثينا المضيافة، أثينا أم القرى، لهول الجريمة، ونقموا على القتلة الأشرار اعتداءهم الشنيع على ضيفهم المحبوب؛ وكادت تندلع ألسن الثورة حين استفاضت الإشاعات وراجت سوق الأقاويل، لولا أن وصل في صبيحة ليلة الجريمة، البطل الصغير ثيذيوس ولي العهد فجأة، ومن غير سابق علم، ولا ترقب ولا انتظار!
(ثيذيوس! ومن يكون ثيذيوس هذا؟!
(ولي عهد المملكة، ورجاؤها، ومعقد آمالها
(وأين كان الشاب؟ وابن من؟ ومتى ولد؟
(كان ينشأ في الريف، وهو ابن حسناء من أميرات الأقاليم وولد منذ عشرين
ولم لم تعلم به أثينا من قبل؟
(أراد الملك أن يفاجئ شعبه بهذا الخبر السار، لولا اغتيال ابن مينوس؟!
(وهل هو حقاً أشجع من ابن مينوس؟
(ومن يكون ابن مينوس، وألف بطل كابن مينوس إلى ولي عهدنا ثيذيوس؟ وهكذا راحت الجماهير يتحدث بعضها إلى بعض حديث ثيذيوس
أما كيف وصل هذا الأمير الصغير، فإن أمه لما آنست فيه القوة واكتمال البنية، ولما رأت من تدفق ماء الشباب في وجناته، وسريان كهرباء الحياة في عضلاته، قادته إلى الحجرة التي لقيت فيها لأول مرة أباه، ثم ناولته الخطاب المكنون الذي يحمل وصاة الملك. وما قرأ الفتى ما جاء بالخطاب حتى تأكدت له الأماني العذاب التي كانت أمه تهتف له بها، فتقدم إلى الصخرة فرفعها بأقل جهد، ثم حمل السيف فقبله، ووضعه هنيهة على رأسه، ثم على عينيه، ثم على قلبه، كأنه يطبع به خاتم المحبة الأبوية على أعز جوارحه!
وربط النعلين العزيزتين على قدميه، وانهال على خدي أمه ويديها يقبل هذين ويلثم هاتين، وودعها، وتزود من نصائحها، وانطلق ميمما شطر أثينا
وكانت الطريق إلى العاصمة صعبة شائكة محفوفة بالمكاره، ككل طريق تؤدي إلى جنة أو نعيم؛ فاللصوص وقطاع الطرق والسفاكون يأخذونها من كل حدب، والسباع الضواري تعج في جنباتها، والغيلان والأبالسة تهمهم في جميع منعطفاتها. . . ولكن هذا كله لم يثن من عزم ثيذيوس؛ فلقد قتل كل من تعرض له من لصوص هذه البرية المرعبة، وفري رؤوس سباعها، حتى لقد فر الكثيرون أمامه يذيعون نبأ مقدمة في أثينا. فما وصل إليها حتى كان صيته قد سبقه وشاع فيها. وما إن تقدم إلى أبيه الملك حتى عرفه، ونزل من فوق العرش فعانقه وقبله، ثم عاد فأجلسه بجانبه، وألقى إليه بأذنيه يصغي إلى قصة حياته، ومجازفته في الطريق التي تكتنفها الأهوال إلى أثينا!
وأعلن السرور العام في المدينة، وطفقت النواقيس تدق في الهياكل، وأطلق سراح المجرمين من جميع السجون، وجعل الناس يتندرون بشجاعة ولي العهد وقصته العجيبة، حتى لأنساهم ذلك هول المأساة الدامية التي روعتهم وزلزلت قلوبهم
وانتظر مينوس أوبة ابنه، بيد أنه قلق لانقطاع أخباره، وساورته الظنون من أجله، وحسب أن ريحاً عاصفاً ثارت بمركبه في البحر الإيكاري فأغرقته، لولا أن أحد التجار الكريديين عثر بجثة القتيل فاحتملها إلى الملك، الذي تصدع قلبه من الأسى!
ولا تسل عما انتاب مينوس من الحزن، وما شمل كريد من الهم، حتى لم تبق فيها عين لم تذرف ماءها على ولي العهد!
واتصل بالملك ما كان من فعلة إيجوس ملك أثينا، فاستيقظ الناس صبيحة اليوم التالي على صيحة الحرب، تدوي في غبشة الفجر فتقض المضاجع، وترن في الآذان وتتجاوب لها حبات القلوب! وما تطلع الشمس حتى تكون البطاح مائجة بجنود كريد البواسل، هائجة بالمتحمسين من الشبان والشيب، هرعوا جميعا فدى الملك، وريا لمجد الوطن، وإثئاراً لولي العهد!
وترامت الأخبار إلى أثينا، فاعتكرت أفراح البلاد، وسكن ضجيج الشعب، وسارع الجميع يستعدون للقاء العدو، فها هي القلاع قد سهر عليها حراسها، والسبل منبثة فيها الجنود شاكي السلاح، والمرافئ تعج بالسفائن الحربية، وكل رجل في المملكة قد اضطلع بنصيبه في الذود عن بيضة الوطن!
وأقلع مينوس بأسطوله اللجب، وعسكره المجر، وفرسانه العديدين، مزودين بميرة ليس كمثلها ميرة، وذخيرة يا لها من ذخيرة. . . ومخر الأسطول لا تحول بينه وبين مطمحه عقبة، ولا يقف من دونه محمق ولا مجنون
ووصل الأسطول إلى أثينا، غادة هيلاس، وهدية الآلهة إلى فينوس، وعروس الأحلام الجميلة؛ فوجد الأسوار مخفورة، والبوابات مغلقة، والناس داخل المدينة مستعدين للدفاع عنها، فألقت الفلك مراسيها. واندفع الكريديون يحتلون السهل الواسع المحيط بالمدينة حتى ملأه، وحتى لا ترى إلا خياماً تصل أقصى الشمال بأقصى الجنوب، وتربط أول الشرق بآخر الغرب. . .
جنود وضوضاء. . . وصهيل ورغاه. . . وعسكر كالجراد المنتشر لا تبلغ آخره عين، ولا يذهب إلى آخره خيال!
وصابر مينوس يحاصر المدينة أياما طوالا حتى قلت الأقوات داخلها، وأخذ أهلها يشكون
الجوع والجهد، وزاد شدتهم أن نضب الماء، فعم البلاء
ولم يكن أمام الأثينيين إلا إحدى اثنتين: إما الموت داخل الأسوار صبراً وهذا ما لن يكون، وإما الخروج للقاء المحاصرين ومناضلتهم، وذلك مالا طاقة لهم به، ولا قدرة لهم عليه
أمران أحلاهما مر، وأخفهما فيه الويل، وعقباه الدمار والبوار! وأجمع بعض عقلائهم على أن يذهبوا إلى ملكهم يرجونه أن يذهب إلى الهيكل فيقدم القرابين إلى الآلهة حتى تأتيهم نبوءة السماء ووحي الأولمب بما ينبغي أن يكون. . . ولكن الملك أبي واستكبر، ثم قبل بعد إلحاح أعيان القوم أن ينوب عنه في هذا الشأن أحدهم
وقصد قائم مقام الملك إلى هيكل فينوس فتقرب بالضحايا وعقر القرابين، وقبل الأرض بين يدي تمثالها المنتصب فوق المذبح، ولبث غير قليل. . .
وخشعت الأبصار وسكنت القلوب، وساد المعبد وجوم عجيب. . .
ثم انبعثت الصوت القدسي الضعيف من خلوة الكاهن يقول:
(ليفعل الأثينيون ما يأمرهم به مينوس ملك كريت. . . الويل لهم إن حاربوا؟!)
وهلعت الأفئدة. . . وطاشت الأحلام!!
وتلقاها الملك كما يتلقى الإنسان حكما عليه بالإعدام. . . ولكن ما العمل؟ ولا حيلة لبني الموتى في دفع أحكام القضاء؟ وأرسل إيجوس إلى ملك كريد يعرض عليه الصلح، ويسأله عن شروطه. . . فقال مينوس لرسل الملك: (قولوا لإيجوس، الآن عرفت كيف طعنت فؤاد مينوس تلك الطعنة النجلاء بقتلك ابنه ولي عهده. . . ولقد جئناك نطلب ثمن هذه الفعلة الشنعاء، ولن تكفينا أثينا كلها ثمناً لها! أما وقد ذللت، فحسبنا أن نرجع بسبعة من خير شبابكم وأجمل فتيانكم، وسبع من أبكار الأثينيات وأبهى حسانها، ليكون الجميع غذاء حلالاً للمينوطور، وعلى أن ترسلوا كل عام في مثل هذا الزمن أربعة عشر آخرين من خيرة شباب أثينا وأكرمهم حسباً
إن رضي الملك وسلم فدية هذا العام رحلنا عنكم إلى العام المقبل. . .)
وسكت الملك، وتحدرت من عينيه دموع غلاظ، وثار في قلبه هم قديم. . .
طلب مرعب ينم عن قسوة وغلظة! غير أن قتل ابن مينوس غيلة، في رحاب أثينا، وفي دجنة الليل، وبتدبير الملك، كل ذلك يبرر الغرامة الوحشية التي فرضها ملك كريت!
وكاد إيجوس يرفض هذا الهوان الذي طلب إليه أن يؤديه عن يدٍ وهو صاغر، ولكن الشعب هاج هائجه، وضج الرعاع يطلبون الخبز، أو تسليم المدينة، أو. . . دم الملك!!
فذل إيجوس المسكين وصغر، وقبل شروط مينوس مرغماً، واختير من شباب المدينة سبع كواكب أتراب، وسبع فتيان في ريعان الصبى، وشيع هؤلاء وهؤلاء إلى الأسوار بين بكاء الأمهات وعويل الآباء وآلام المحبين!
وهرع الكريديون إلى خيامهم فاقتلعوها، وإلى شراعهم فنشروها، وأقلعوا في الصباح الباكر بعد أن القوا على كبرياء إيجوس هذا الدرس المهول!
ومضت سنون وأثينا العظيمة تؤدي الفدية عن يد وهي ضارعة، حتى ثارت كبرياء ثيذيوس وفارت نخوته، وتقدم إلى أبيه الملك الشيخ، حين دعا النفير العام لتقديم الفدية، يضرع إليه أن يكون هو الفداء الرابع عشر من شباب هذا العام:(على الأقل يا أبي يكون هذا بعض العزاء للأثينيين، وليثقوا أننا لا نذلهم، وأننا منهم وهم منا، وأننا آخر الأمر، نشرب الكأس التي يشربون!)
وصعق الوالد حين تقدم إليه ولي عهده بهذا الطلب، ورفض رفضاً باتاً. . ويغلي الدم في راس البطل، فيقول للملك:(إذن فأنا أحطم كأس الحياة التي أفعمت مذلة وهوانا، وسأريق مع سمها الأسود هذا الدم الأرجواني الذي لا استحقه، ولا أشرف به. . أبتاه! لن تتحرك السفينة الحزينة حاملة ضحايا قسوتنا واستبدادنا حتى أحييها بحياتي، وأرويها بدمي، ليكون قرباناً لمن عليها من عشيرتي ولداتي. . .)
وقبل أن يفصل البطل الشاب، ناداه والده باكياً، ونهض فباركه، وقبل، والهم يمزق أحشاءه، أن يكون بين الضحايا. .
وفي الحق إن ثيذيوس لم يكن يعرض نفسه للتهلكة، ولكنه كان واثقا من شجاعته، مؤمنا بما وهبته الآلهة من جلد وبأس، وقلب لا يفله إلا الحديد، لأنه من حديد. ولقد صمم أن ينازل هذا المينوطور الخبيث، فأما قتله وعد مرفوع الرأس، موفور الكرامة، ليعيش في وطنه منقذا لأثينا، وإما قضى القضاء أمره فيه، وليس هو بأعز ممن راحوا ضحية هذا الوحش المخيف!
وقال لأبيه وهو يودعه، حينما ركب المركب السوداء التي يرفرف عليها علم الموت (أبي!
لا تبك! إنك ملك، ودموع الملوك لا تذرف إلا في سبيل الوطن! إنني ذاهب إلى معركة أرجو أن يكتب لي النصر فيها! لقد كنت أتغلب على عشرات من أمثال هذا الوحش ولما أكن بعد إلا طفلاً. . . ادع لي أن أفوز به، فأريح أثينا العزيزة من شره)
وأقلعت السفينة تحمل هذه الفلذات الغالية من أبناء البلاد، ومخرت في بحر تلاطمت أمواجه، وزخرت أثيابه، واشمخر أنفه، وانتفخت أوداجه، حتى وصلت إلى كنسوس حاضرة كريت. وهرع الناس من كل فج يستقبلون ضحايا المينوطور، وفي وجه كل منهم عبوسة حزن، وملء قلوبهم ثورات مكبوتة من الأسى، على هذا الشباب الناضر الذي أقبل إلى الموت من قرار بعيد!
وكانت في الجماهير فتاة غضة الأهاب، بضة الشباب، حلوة ناعمة، نهضت في مركبتها لمشاهدة الضحايا الأثينيين، وما كادت عينها تصيب نظرة ثيذيوس، حتى أحست في أعماقها بنفحة السماء التي تسبق لفحة الحب!!
(ترى من يكون هذا الشاب الأنيق والفتى الرقيق؟
(إنه يقبل في غير وجل، ويقتحم الجماهير في غير هيبة! أعبر بحار الموت قبل هذا؟
(لا شك يا فتاة أنه أمير إن لم يكن ابن الملك!
(إن الحمرة التي تطير من الورد إذا قطف، ما تفارق خديه، وهو مقدم على الردى!!
(إن صفرة الموت تستحي أن تموه هذه الوجنات!؟. . .
(أمن السماء هذه الزرقة التي تملأ عينيه؟. . .
(بل مثله لم يخلق إلا ليكون زهرة هذه الحياة الدنيا. . .
(أيها الشاب. . . لن تموت!
وهكذا جعلت تتحدث تلك الغادة. . . الأميرة الجميلة بنت مينوس. . .!!
وكأنما قرأت وصيفتها الأمينة ما دهى سيدتها من حب الفتى قي كتاب عينيها، فقالت: (أتحس سيدتي بتعب؟
(لا يا فتاة. . ولكن انظري إلى هذا الفتى المتفتح كالزهرة!
(والله يا سيدتي إنه جدير بعطفك، خليق برحمتك. . .
(وما العمل يا فتاة وليس لنا في إنقاذه يدان!
(هوني عليك يا مولاتي! إنه وايم الله من سلالة الملوك، إن لم يكن ابن ملك! وهو بادي الشجاعة ظاهر الفتوة! وإن له سيفاً طويل النجاد ما حمل أحد مثله، ولم أعهد قط أن من ضحايا المينوطور من جاء بذي غرارين من شنه. . . فلم لا ندبر معه قتل المينوطور!؟. . .)
(قتل المينوطور؟ إنك تهرفين! ومن يجسر أن يدخل والمينوطور في معترك؟
(لا عليك؟ نرشو السجان فيفلت الشاب في ظلام الليل، ونهديه إلى باب اللابيرنث فينطلق إلى الوحش الغاط في نومه العميق فيجذ رأسه بهذا الجراز الذي ترين!)
(ياله من تدبير! ولكن كيف يعود الشاب وأنت تعرفين من منعرجات اللابيرنث وشعابه ما تعرفين؟. . .)
(لا أسهل من هذا أيضاً! خيط طويل من أمراس الكتان يمسك هو بطرفه الأول، ونمسك نحن بطرفه الآخر، يهديه في الأولى ويرشده في الثانية!!)
وطربت بنت منيوس لتدبير وصيفتها، فمنحتها قبلة شهية وخلعت عليها جائزة سنية. . . وانطلقتا تترقبان المساء!
وعرف ثيذيوس أنها ابنة الملك فاستطير من الفرح؛ وعرفت أنه ابن ايجوس؛ فكبر رجاؤها وتلألأت آمالها. . .
وقتل المينوطور؛ وفك اسار رفاقه ورفيقاته، وأقلعت بهم الفلك؛ حاملة جوهرة جديدة غالية: هي ابنة مينوس. . . وربيبة كريد
أما الملك!
فقد صبر! وأرضاه أن يحضر إيجوس فيعتذر له ويصالحه!. . وهكذا حسم الحب هذا الخصام الطويل
دريني خشبة
البريد الأدبي
كتاب العام
أزمة أوربا
بقلم أندريه زيجفريد
صدر أخيرا بالفرنسية كتاب يعتبره بعض النقدة (كتاب العام)، وهو كتاب (أزمة أوربا) ' لمؤلفه الكاتب السياسي والاقتصادي الكبير أندريه زيجفريد، وهو يصدر في ظروف عصيبة تواجهها القارة القديمة. وقد شغلت هذه المعضلة منذ نهاية الحرب كثيراً من رجال السياسة والاقتصاد ولكن لم يلفت الأنظار مما كتب فيها سوى كتب ثلاثة: الأول كتاب (مصير أوربا) ' الذي ظهر غداة الصلح بقلم مسيو آبير ديمانجون، وفيه ينوه بخطورة التقدم الصناعي الذي حققته أمم كاليابان والولايات المتحدة (أمريكا). ثم أصدر مسيو لوسيان رومييه كتاباً ينوه فيه بعجز أساليب الإنتاج الأوربية القديمة عن مناهضة الإنتاج الضخم الذي تتبعه أمريكا؛ وتلاه مسيو شارل بوماريه في كتاب يبحث فيه أسباب نجاح الغزو الذي قامت به أمريكا لأسواق أوربا القديمة في القارة ذاتها
ولما وقعت الأزمة الاقتصادية الأمريكية خفت حدة هذه المسألة الشائكة؛ وخفت حدة الجدل عن الصراع الاقتصادي بين أمريكا وأوربا؛ ولكن الأزمة لما انتقلت إلى أوربا وعصفت بصرحها الاقتصادي، عادت نظرية الغزو الأمريكي والياباني لأوربا تشغل أذهان الساسة والاقتصاديين
وقد جاء كتاب مسيو أندريه زيجفريد يذكر أوربا القديمة أن الداء لا يذهب بداء آخر؛ ويقول مسيو زيجفريد إن أوربا يجب أن تواجه نفس المشاكل التي تواجهها باقي الأمم، ويجب أن تصلح نفس الأخطاء، ولكنها تواجه في نفس الوقت مشاكل خاصة بها؛ وقد لاحظ كثير من الباحثين ذوي النظر البعيد منذ نهاية الحرب أن الأمم الصناعية القديمة تجد نفسها اليوم أمام أمم فتية منافسة لم تكن تتوقع نهوضها؛ أمم تتفوق عليها بأجورها المنخفضة، وإنتاجها الضخم، وحداثة أدواتها واستعداداتها الفنية. ويلاحظ مسيو زيجفريد يحق أن ذلك الاحتكار القديم الذي كانت تتمتع به أوربا قد دخل في دور الانحلال، وهذه
هي ناحية المشكل التي يعالجها ببراعة ووضوح
وأهم قسم في الكتاب هو الذي يشرح فيه المؤلف لنا كيف استطاعت أوربا أن تفرض سيادتها على العالم، وكيف بدأ العالم ينازعها هذه السيادة، ويقدم لنا المؤلف صورة قوية مما كانت عليه أوربا والعالم في أواخر القرن التاسع عشر، حينما كانت أوربا تكاد تحكم العالم في نوع (من الحق الإلهي). وقد استطاعت أوربا منذ عهد الأحياء (الرينصانص)(بوسائلها وشهواتها) أن تتفوق على باقي القارات الأخرى؛ ولم يمض قرنان على ذلك حتى استطاعت أوربا بواسطة ثورتها الصناعية أن توطد احتكارها بلا منازع؛ وكأن عناية إلهية مكنتها من تحويل جميع المواد الأولية التي ينتجها العالم إلى سلع ومنتوجات تستدر بها ثروات العالم كلها؛ وقامت سيادتها على إمبراطوريتها الاستعمارية التي شملت معظم بقاع الأرض، وسادت أساطيلها جميع البحار؛ واستطاعت بالاعتماد على قانون دولي مرن أن تفرض من النظريات والنظم على معظم الأمم ما يوافق مشاريعها ومصالحها؛ وانتهى الأمر بإقامة نظام اقتصادي هائل تستولي أوربا بمقتضاه على جميع المواد الأولية، ثم تردها إلى العالم سلعاً مصنوعة. يقول مسيو زيجفريد: وهذا نظام ضخم ذكي، تخضع فيه الحريات لصولة التوسع، والأخلاق لسلطة الفتح؛ تخضع فيه الحريات لصولة التوسع، والأخلاق لسلطة الفتح؛ ويعتبر فيه الحريات لصولة التوسع، والأخلاق لسلطة الفتح؛ ويعتبر فيه من الأمور المشروعة الخالدة أن يقسم العالم إلى طبقتين متباينتين: أرستقراطية أوربية تحتفظ لنفسها بالعمل الفني المثمر، وطبقة فقيرة يترك لها العمل الخشن المضني
ولكن هذه السيادة تبدأ منذ القرن التاسع عشر دور الانحلال؛ وقد كانت أول خطوة في ذلك تحرر بعض الأمم البيضاء كالولايات المتحدة والمستعمرات الأسبانية والبرتغالية، والدومنيون البريطانية. وفي أوائل القرن العشرين نزلت إلى الميدان بعض الأمم الملونة التي كانت تعتبر منحطة، وجاءت الحرب فزادت في بواعث الأزمة؛ ذلك أنها حطمت الأداة القديمة التي كان يقوم عليها توازن العالم، وحولت الإنتاج الأوربي عن مهمته الطبيعية، فاستطاعت القارات الفتية أن تغتني بسرعة وأن تغدو دائنة، وأن تنظم صرحها الصناعي على قواعد ضخمة، وبعد نهاية الحرب لاحظت أوربا أن منافسيها الجدد يحاربونها بأسلحة لا تستطيعها مثل الأجور المنخفضة في الشرق الأقصى، والإنتاج
الضخم في أمريكا، يقول مسيو زيجفريد:(ولقد نزلنا إلى معترك عام، وحصرنا بين نارين؛ بين آسيا وأمريكا؛ بين الأجر المنخفض في الأولى، والأجر المرتفع في الأخرى؛ ومهما كان من الأمر فأنا نستكين إلى ذلك في ضعف)
ويتساءل مسيو زيجفريد، هل حكم على هذه القارة التي سادت العالم مدى ثلاثة قرون حكماً نهائياً لا مرد له؟ وهنا يعدد المؤلف لنا ما بقى لأوربا من عناصر التفوق ووسائل النضال؛ ويرى أن افضل طريق للسلام هو تمسك أوربا بالإنتاج الفني الرفيع الذي يقتضي علماً وخبرة فنية، بيد أن هذه الطريق ليست أيضاً محققة ولا حاسمة؛ ذلك أن اليابان تخطو نحو الإنتاج ليست أيضاً محققة ولا حاسمة؛ ذلك أن اليابان تخطو نحو الإنتاج الفني خطوات سريعة؛ وقد بدأت أمريكا تحتل مكان ألمانيا في التطبيقات العلمية والفنية. فالمستقبل إذن غامض ومصير أوربا القديمة في كفتي ميزان:(عن لورب نوفيل بتصرف)
تكريم الدكتور محمد حسين هيكل بك
بمناسبة صدور كتاب (حياة محمد) تألفت لجنة لتكريم الدكتور محمد حسين هيكل بك برياسة حضرة صاحب العزة الأستاذ أحمد لطفي السيد بك مدير الجامعة
وسيقام لهذا الغرض حفلة شاي بفندق الكونتننتال مساء يوم الأربعاء 15 مايو الجاري، وستذاع بالراديو الخطب التي تلقى في هذه الحفلة
وسيصدر عدد خاص من جريدة السياسة بآراء وأبحاث رجال الفكر بمصر والشرق فيما ألفه الدكتور هيكل بك، وفي آثاره الأدبية ومؤلفاته المختلفة
وترجو اللجنة أن تكون جميع المراسلات باسم الأستاذ جلال الدين حسن بشارع الناصرية رقم 60 بمصر
كتاب جديد لفرنسيس كاركو
فرانسيس كاركو كاتب فرنسي يعرفه الكثيرون في مصر. وقد زار مصر منذ نحو عامين وكتب عنها سلسلة من المقالات والصور كانت أشنع وأقبح ما كتب منها من الوجهة الاجتماعية والأخلاقية. ذلك أن فرانسيس كاركو كاتب لا يرتع قلمه إلا في عالم الطبقات الدنيا والمجتمعات السافلة، عالم البغاء والفجور والإدمان والتدهور الاجتماعي. ولكن كاركو
يدهش اليوم قراءة بإخراج قصة جديدة جردت عن هذه الخاصة عنوانها (ظلمات) ففي هذه القصة الجديدة يعالج كاركو مأساة عائلية عادية، لا أثر فيها للسفلة والأوغاد والحياة السافلة، قصة زوج فتى متعلم خانته زوجه، وضبطها متلبسة بالخيانة فقتل منافسه، وقدم إلى القضاء فحكم عليه بأعوام في السجن. ويحاول كاركو أن يبدد (الظلمات) التي حاقت بضمير هذا الزوج المعتدى عليه، ويحاول أن يحلل بالأخص تلك العواطف المختلفة التي جاشت بنفسه؛ فهو من جهة يشعر بأنه يحب الزوجة الخؤون أكثر مما كان يتصور، ومن جهة يشعر بأنه يبغضهاأولاًلأنها خانته وسحقت عرضه، وثانياً لأنها صيرته مجرماً يلفظه المجتمع؛ وهكذا. ويرى النقدة أن كاركو بإصدار هذه القصة الجديدة ينحو في الكتابة والتصوير ناحية جديدة ربما كانت فاصلة في حياته الأدبية
بين السياسة والأدب
في أنباء سان فرنسيسكو (أمريكا) إن الكاتب الأمريكي الكبير أوبتون سنكلير قد اعتزم نهائياً أن يعتزل الحياة السياسية. وسنكلير كاتب اجتماعي كبير، ولكنه يخوض غمار السياسة إلى جانب الحزب الراديكالي منذ عشرين عاماً. وكان قد حاول أخيراً أن يرشح نفسه لمنصب حاكم كاليفورنيا، ولكنه فشل في الانتخاب؛ وأثر هذا الفشل في عواطفه ونفسيته، فمرض مدى حين، ومازال مريضاً يستشفي. وقد كان من أثر الصدمة أن عاف الحياة السياسية وقرر أن ينبذها نهائياً
الكتب
كتابا المواقف والمخاطبات للنفري
للدكتور عبد الوهاب عزام
كتبت في عدد الرسالة الماضي كلمة عن كتابي محمود بن عبد الجبار النفري المعروفين باسم المواقف والمخاطبات، ونقلت شذرات من الكتاب الأول، وهو يحوي سبعة وسبعين موقفاً عرف القارئ مثالاً منها فيما قدمت
واليوم أنقل شذرات من الكتاب الثاني كتاب المخاطبات وهو يحوي ستا وخمسين مخاطبة على أسلوب قريب من أسلوب المواقف، وعسى أن أفرغ قريباً لبحث مفصل عن الكتاب، ما استبان من معانيه وما غمض، وما وقع من تحريف في سياقه، وللكلام عما كتب عليه من الشروح. فمثل هذا الكتاب العجيب لا يكتفي فيه بهذه النظرة العجلى:
مخاطبة
يا عبد! قل أعوذ بوحدانية وصفك من كل وصف، وأعوذ برحمانية برك من كل عسف
يا عبد! قل أعوذ بوجهك من كل وجه
يا عبد! قل أعوذ بقربك من بعدك، وأعوذ ببعدك من مقتك، وأعوذ بالوجد بك من فقدك
يا عبد! اجعل ذنبك تحت رجليك، واجعل حسنتك تحت ذنبك
يا عبد! من رآني عرفني وإلا فلا، من عرفني صبر على وإلا فلا
يا عبد! من أبصر نعمتي شكرني وإلا فلا
يا عبد! من شكرني تعبد لي وإلا فلا
يا عبد! من تعبد لي أخلص وإلا فلا، من أخلص لي قبلته وإلا فلا، من قبلته كلمته وإلا فلا
يا عبد! من كلمته سمع منى وإلا فلا، من سمع مني أجابني وإلا فلا، من أجابني أسرع وإلا فلا، من أسرع إلى جاورني وإلا فلا. من جاورني أجرته وإلا فلا، من أجرته نصرته وإلا فلا، من نصرته أعززته وإلا فلا
مخاطبة
يا عبد! إن عبدي الذي هو عبدي هو اللقي الملقي من يدي
يا عبد! عبدي الذي هو عبدي هو الغضبان لي على نفسه فلا يرضي
يا عبد! إن عبدي الذي هو عبدي هو المستقر في ذكرى فلا ينسى
يا عبد! إذا جاءت ترجمتي فانقطع بها عن ملكي وملكوتي، ثم إذا بدت ترجمتي فانقطع عنها إلى نصير التراجم والحروف آلة من آلات معرفتك، ومركبا من مراكب نطقك
يا عبد! أقبل على لا من طريق ولا من علم، تقبل على وأقبل عليك
يا عبد! اجأر إلي بمحامدي في السراء أدافع عنك بنفسي في الضراء
يا عبد! واصل بين طهارتك تواصل بين نعميك، إنك إن لم تفصل بين طهارتك لم تفصل بين نعميك
يا عبد! لن تعرفني حتى تراني أوتى الدنيا ارغد وأهنأ ما عرفت من الدنيا لعبد عصي، وأغنى من عرفت من العبيد فترضى بما زويت عنك، وتعلم أنني زويت إعراضي عنك وزويت حجابي
يا عبد! ميعاد ما بينك وبيتن أهل الدنيا فترى أين أنت وأين أهل الدنيا
مخاطبة
يا عبد بنيت لك بيتاً بيدي إن هدمت ما بنيته بيدك
يا عبد إذا رأيتني فلا والد يستجرك ولا ولد يستعطفك
يا عبد! إذا رأيتني في الضدين رؤية واحدة فقد اصطفيتك لنفسي
يا عبد! ولني أمرك بطرح أمرك
يا عبد! الغيبة ألا تراني في شيء، الرؤية أن تراني في كل شئ!
يا عبد! اجعل لي يوماً ولك يوماً وابتدئ بيومي يحمل يومك يومي
يا عبد! اصبر لي يوماً أكفك غلبة الأيام
يا عبد! إذا لم ترني تخطفك كل ما ترى
يا عبد! لو ألفت بحزنك بين ما يختلف عليك، وارتبطت بفرحك ما يلائمك كان مرادي الغالب
مخاطبة
يا عبد! استغن بي تر فقر كل شيء
يا عبد! من استغنى بشيء سواي افتقر بما استغنى به
يا عبد! سواي لا يدوم، فكيف يدوم به غنى
يا عبد! إن أحببت أن تكون عبدي لا عبد سواي، فاستعذ بي من سواي وإن أتاك برضاي
يا عبد! رضاي يجعل رضاي سكنا بقلوب العارفين، سواي يحمل رضاي فتنة لعقول الآخذين
يا عبد! رضاي وصفي، وسواي لا وصفي، فكيف يحمل وصفي لا وصفي؟
يا عبد! أنا القيوم بكل ما علم وجهل على ما افترقت به أعيانه واختلفت به أوصافه
يا عبد! استعذ بي مما تعلم تستعذ بي منك، واستعذ بي مما لا تعلم تستعذ بي مني
يا عبد! أين ضعفك في القوة، وأين فقرك في الغنى، وأين فناؤك في البقاء، وأين زوالك في الدوام؟
عبد الوهاب عزام
رسالة العلم
تلقينا العدد الرابع من السنة الثانية لرسالة العلم، وهي الصحيفة التي تصدرها جمعية خريجي كلية العلوم بالجامعة المصرية في 166 صفحة من القطع الكبير. وهذا العدد حافل بالمقالات الممتعة والبحوث القيمة في النبات والحيوان والكيمياء والفيزياء والفلك، مدبجة بأقلام الأساتذة والطلاب على أسلوب واضح وغرض مشوق واستيعاب مفيد. و (رسالة العلم) تحمل طابع العلم من خشونة الجد، والذهول عن حركة الكلية، وعن تصوير الحياة الجامعية فيها، فهي لا تعني بأخبار المحاضرات والمناظرات والرحلات والجمعيات والرياضة، وحظها من كل ذلك موفور مشكور يستحق التسجيل ويستوجب الإشادة
صحيفة الجامعة المصرية
كذلك تلقينا العدد الأول من السنة الرابعة لهذه المجلة التي يصدرها مجلس اتحاد الجامعة المصرية في 160 صفحة ممن القطع المتوسط، وهي تعتبر صورة لألوان الثقافة في كليات الجامعة، ولكن أثر كلية الآداب فيها غالب، ولعل هذا العدد بتبويبه وتنويعه وشموله
أقرب إلى الذوق الصحفي من سوابقه؛ وقد يكون في بعض فصوله هبوط عن مستوى التفكير الجامعي، ولكن الآنسة نهير القلماوي رئيسة تحرير الصحيفة تقول في افتتاحها:(والآن تقبلون صحيفتكم فستجدون ثرثرة وجدا، والطلبة ثرثارون دائماً، وثرثرتهم حبيبه إلى كل نفس وقلب، والطلبة جادون أحياناً أو كثيراً. ومن ذا الذي لا يستبشر بجد الطلاب؟ فهذه صحيفتكم دون لكم فيها مختار من ثرثرتكم وكثير من جدكم، لتكون لكم ذكرى جميلة لأجمل أيام الحياة)
جريدة الوفاق
بمناسبة دخول جريدة الوفاق في عامها الثامن. تصدر هذه الجريدة على عادتها صباح الاثنين الموافق 13 مايو سنة 1935 في ثماني صفحات كبيرة مزينة بالصور والألوان، حافلة بالموضوعات الأدبية الطريفة والمقالات الاجتماعية الممتازة. وقد فتحت أبواباً جديدة تعالج فيها قضية المرأة وتعني بكل ما يهم المتأدب الاطلاع عليه مدبجة بأقلام الكتاب البارعين والأدباء الممتازين.