الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 970
- بتاريخ: 04 - 02 - 1952
بداية النهاية
للأستاذ سيد قطب
أيا كانت الظروف والأحوال، فإن الاستعمار الغربي قد بدأ نهايته. بدأها في كل مكان، وبخاصة في العالم العربي الإسلامي الذي يصطدم بالاستعمار اليوم في جبهات متفرقة، ولكنها كانت متصلة. . يصطدم به اصطداما ظاهراً واضحاً في مصر، وفي تونس، وفي مراكش، وفي إيران، كما يصطدم بهد اصطداما خفياً في العراق وفي سورية. وحركة الجزائر ما تزال مستمرة، وفي هذه الأيام يقع اصطدام جديد على حدود اليمن. . وكلها حركة واحدة للخلاص. . وكلها تشير إلى النهاية المحتومة رغم جميع الظروف والأحوال.
ولقد كانت فرنسا تصطدم بالشعب التونسي وتسلط عليه الحديد والنار، وفي الوقت الذي تصطدم فيه إنجلترا بشعب الوادي وتسلط عليه الحديد والنار. . . نفس الوسائل، ونفس الأهداف، ونفس العقلية: عقلية الاستعمار، وعقلية المكافحين ضد الاستعمار.
إنها لم تعد حركات وقتية متقطعة محلية، تخمدها هجمة هنا وهجمة هناك. . إن الشعوب بأسرها تندمج في هذه الحركات التحررية. وبذلك تصبح هذه الحركات قوة تمثل اتجاه الزمن، وتشير إلى إرادة الله في الأرض، وتستمد الوقود من الشعوب لا من الأفراد. . وهيهات هيهات أن تقف القوة ضد اتجاه الزمن، وضد إرادة الله. .
ولقد كان الاستعمار يلجأ دائماً إلى الهيئات الحاكمة في كل بلد مستعمر، فيستعين بها الشعوب بها على الشعوب؛ ولكن الهيئات الحاكمة لم تعد تملك أن تقف في معزل عن حركة الشعوب. . وها نحن أولاء نرى مصداق هذا القول في مصر وفي تونس على السواء.
ففي مصر كانت حركة إلغاء المعاهدة تلبية مباشرة لضغط الشعب. . ولقد تغيرت الوزارة وجاءت وزارة سواها، فكان أول تصريح لرئيس الوزارة الجديدة هو السير في نفس الطريق التي رسمها الشعب، وإعلان الأهداف ذاتها بلا تلثم ولا تردد؟ لأن إرادة الشعب الواضحة لا يمكن أن يتجاهلها متجاهل، مهما تغيرت الوزارات.
وكان الحال كذلك في تونس. فالوزارة هي التي تصطدم بالاستعمار هناك، مع الشعب خطوة بخطوة. ورئيس الدولة الأعلى هو الذي في وجه العاصفة، فيعرض قصره للحصار،
ويعرض عرشه نفسه للهلاك. . ولكنها إرادة الشعب القاهرة، التي تمثل حركة الزمن، والتي تمثل إرادة الله. ولله غالب على أمره. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وما من شك أن النصر في معركة الحركة سواء وقفت الهيئات الحاكمة مع الاستعمار أو ضد الاستعمار. ولكن وقوف هذه الهيئات الحاكمة في كل مكان بجانب الأهداف الشعبية سواء كان ذلك اختيار أم اضطرارا، هو أمر له دلالته وله معناه. . ومعناه الواضح الصريح: أن حركة التحرير. وأن قوة الشعوب، قد بلغت المرحلة التي تجرف معها خصومها وأنصارها على السواء، والتي تتحكم في الوقوف، وتملى على الهيئات الحاكمة ما تشاء.
ولم يكن إلا هذه الظاهرة ومدها لكفى بها دليلا على قرب النهاية، لتقلص ظل الاستعمار البغيض، الذي دام أكثر مما ينبغي، وعاش أكثر مما تقتضي طبيعته أن يعيش. . ولكن هذه ليست الظاهرة الوحيدة في معركة التحرير. . فالظاهرة الأخرى في المعسكر الآخر هي ظاهرة الضيق والتبرم العنيف بالحركات التحريرية، ظاهرة هياج الأعصاب، وفقدان الصبر، والفزع والقلق والاضطراب. . ولهذه الظاهرة دلالتها على الضعف الذي ينشأ عنه الزعر والهلع. فدولتا الاستعمار الغربي: إنجلترا وفرنسا كلتاهما تعاني حالة من الإفلاس المالي والضعف العسكري، تشير إلى بداية النهاية كذلك. وليست واحدة منهما أو كلتاهما بقادرة على خوض معركة طويلة الأمد مع الشعوب التي لا تفنى. لا مواردهما المالية ولا مواردهما العسكرية تسمح لها بخوض مثل هذه المعركة، في أرض خارجية تفصلها عنهما مئات الأميال؛ لذلك تريدان أن تضربا حركات التحرير ضربة قاضية، سريعة، قبل أن ينكشف ضعفهما، لعل هذه الضربة أن تخلصهما من التكتل الشعبي الذي تصطدمان به كل مكان.
ولكن هيهات هيهات! لقد مضى الزمن الذي كانت الحركات الشعبية فيه لا تزيد على أن تكون فورات وقتية، تطفئها ضربة قوية، أو انقلاب سياسي، أو مناورة دبلوماسية. . لقد استحالت الحركات الشعبية تصميماً شعبياً لا يتزحزح - مهما تغيرت الأحوال - وإرادة واعية تستمد وقودها من رجل الشارع، لا من المفكرين والمتحمسين والزعماء.
ولا أحسب أن إنجلترا أو فرنسا تشك لحظة في النهاية المحتومة! فإن تجارب البشرية كلها
معروضة أمامهما؛ وهذه التجارب كلها تؤكد أنه ما من فكرة اعتنقها جمهور الشعب، حتى صارت فكرته الخاصة، أمكن أن تقف في طريقها قوة من القوى، في أي زمان أو مكان. . ولكن الاستعمار إنما يتشبث بمواقع أقدامه ليحصل على بعض الامتيازات الأخيرة في مقابل الجلاء. وحتى هذه الامتيازات قد أدركها الوعي الشعبي، واحتاط لها، وما عاد يسمح بشيء منها على أي شكل من الأشكال.
لقد حرق الاستعمار مراكبه مع الشعوب، بما ارتكب معها من حماقات. وبخاصة في هذه الحركات الأخيرة. ولقد استحال الصراع بينه وبين الشعوب. ثارات مقدسة، وأحقادا عميقة. فما عاد يمكن أن تستجيب الشعوب لأي صوت يدعوها إلى الارتباط بعجلة الاستعمار على أي وضع من الأوضاع.
وكل من يتصور أن الشعوب سترجع القهقري عن موقفها الذي انتهت إليه، تحت أي ظرف، وتحت أية مناورة. . إنما يخطئ في فهم طبيعة الحركات الشعبية، وينسى عبر التاريخ وشواهده. . إن كل خطوة يكسبها الشعب لا يمكن أن يتخلى عنها، لأن حركة الشعب هي حركة الزمن. والزمن لا يرجع القهقري، ولا يتحرك مرة إلى الوراء.
ولقد يخفت صوت الشعوب أحياناً، وتتوارى حركتها. . ولكن هذا ليس إلا ستاراً ظاهرياً لحركات خفية إلى الأمام. حركات تتم في ضمير الشعب، وتنضح في أعماقه، ثم تبدو في صورة فورة جديدة، وقفزة واسعة، يخيل إلى بعض الناس أنها مفاجئة. وليست في حقيقتها إلا امتداداً طبيعياً لم تظهر خطواته، لأنها كانت تتم في صمت، في أثناء فترة السكون.
إنها بداية النهاية، فعلى بركة الله فلتسر مصر، ولتسر تونس، وليسر كل بلد يشتبك اليوم في معركة التحرير الخالدة التي أوقدها الله.
سيد قطب
بين الفصحى ولهجاتها
لمعالي الدكتور محمد رضا الشبيبي
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
اجتاز الشرق القريب في الفترة الواقعة بين الحربين الكونيتين الأولى والثانية مرحلة حافلة بالأحداث، اتسعت بنمو الحركة الفكرية؛ ويصح أن تدعى فترة الوعي واليقظة.
امتازت هذه المرحلة بإثارة كثير من الموضوعات حمى فيها الوطيس، وتعددت فيها المعارك، ومنها معركة القديم والجديد في مختلف نواحي الحياة، من سياسية إلى اجتماعية واقتصادية، ثارت بين المجددين والمحافظين أينما وجدوا، وفي مقدمتها معركة اللغة والكتابة العربية واللهجات، إذ ظهرت دعوة ترمي إلى اصطناع هذه اللهجات الإقليمية المحرفة عن الفصحى في بعض أقطار الشرق القريب. وحاول المحاولون أن يثيروا حرباً عوانا على اللغة، ووضعوا في هذا الباب ما وضعوه من كتب ورسائل ومقالات.
يهول بعض المعنيين في هذا الشأن بعنف الصراع القائم بين الفصحى واللهجات المحلية، ويشيرون إلى قيام ضرب من تنازع البقاء بين الجانبين، ويضربون الأمثال من اللغة اللاتينية ولهجاتها، بل من اللغة العربية وأخواتها الساميات على اعتبار أنها لهجات تفرعت من أصل سامي بائد، ثم يسرفون في التكهنات والاحتمالات.
ظن فريق من هؤلاء الباحثين أنهم أول من طرق باب البحث عن اللهجات على هذا الشكل الحديث، وانه لم يحم حول هذا الموضوع أحد من قبل، مع أن غير واحد من أعلام الأدب واللغة وأئمة القراءات أشاروا إلى فساد اللسان، وإلى اضطراب اللهجات اللغوية المحكية، وشذوذها في عصورهم. ولهؤلاء اللغويين القدماء عناية فائقة بالبحث عن اللهجات، ومن هذا القبيل تلك الرسائل والكتب التي جردت فيما تلحن فيه العامة أو الخاصة. وكم من معركة أثيرت بين اللغويين في هذا الباب مرماها انتقاد اللهجات وإصلاح ما اعتراها من فساد، وهي كتب كثيرة، وجلها متداول معروف. ولما استفحل شأن اللهجات في العصور الأخيرة، وطغى على اللغة سيل جارف من الكلمات الدخيلة، وفطن المعنيون بذلك إلى الخطر الذي يتهدد العربية من الناحية، بادر اللغويون المحدثون إلى العناية بالبحث عن أصول الكلمات العامية وردها إلى الفصحى، وأوجدوا أوضاعاً لغوية، ومصطلحات عربية،
تقابل الأوضاع والمصطلحات الدخيلة، واختاروا أسماء لمسميات هجمت بها علينا هذه الحضارة الحديثة، وقد وضعت في ذلك معجمات ورسائل لغوية كثيرة.
من ذلك يتضح لنا لن البحث عن اللهجات قد اتخذ أطوارا شتى يعرفها من ألم بتاريخ آداب اللغة العربية في مختلف العصور. وهذا ابن خلدون عالج موضوع اللهجات المتفرقة عن لغة مضر على وجه يفهم منه أنها كانت متميزة في عصره وهو يسميها (لغة الجيل) ويقولون بينها وبين (اللغة المصرية) وقد أفرد في مقدمته المشهورة فصولا للبحث في هذا الشأن. منها فصل عنوانه (لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير) وآخر عنوانه (لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر) إلى فصول أخرى، يشير ابن خلدون في بعضها إلى مميزات لهجة عصره أو لغة جيله كما يقول، ومن تلك المميزات زوال الأعراب، وظهور الوقف في آخر الكلمات.
من ذلك نعلم أن اللهجات بمعنى من المعاني قديمة قدم اللغة. ومن هذا القبيل لهجات القبائل اللغوية في الجاهلية وصدر الإسلام، وهي لهجات استند إليها القراء في تخريج القراءات، وأشار إليها المؤلفون في هذا الفن. وتعتبر هذه اللهجات كلها فصيحة مع أن بعضها شاذ مهجور. ثم تفرع عن الفصحى نوع آخر من هذه اللهجات المحلية نشأ فيه التحريف وفسد النطق، فأصبح للكتابة لغتها، وللكلام لهجته، وذلك في الأقطار التي استقر بها العرب والمسلمون الفاتحون في أولى عصور الدول الإسلامية بعد عصر الراشدين.
ما من شك في أن الشقة تباعدت، ولم تزل، بين اللغة الأصلية وفروعها، وأن الجفاء والشذوذ تفاقم بمرور الأيام حتى زعم من أن بين هذه اللهجات المتعددة من جهة أخرى، صراعا مريراً، وأن نتيجة هذا الصراع تغلب إحدى هذه اللهجات واندماج سائرها في لهجة بعينها، ثم تصبح لغة مستقلة نصطنعها في الكتابة والكلام سواء بسواء. ومن المحال في زعم هؤلاء الزاعمين أن تبقى الفصحى محتفظة بوحدتها الأولى زمنا طويلا ًمع هذه الفوارق. وهم يتوقعون أن تتحول هذه اللهجات يوما ما إلى لغات مستقلة قائمة بنفسها، غير مفهومة آل للمتكلمين بها، كما أن الفصحى ستكون لغة غير مفهومة للمتكلمين بهذه اللهجات بالمرة، وهو فيما نرى - إسراف في التكهن والرجم بالغيب. ويزيد بعضهم على ذلك قائلاً: أن لهجة القاهرة الشائعة هي لغة المصر بين في المستقبل. ولماذا لا يقال في لغة المجتمع
المصري هذه أنها هي لغة الطبقة المثقفة المتعلمة بعينها، وهي هذه الفصحى السليمة الموحدة من حيث النطق، وخارج الحروف، وأن كانت عارية من الاعراب، لا تلك اللهجات الشاذة.
يغالي أنصار اللهجات بآرائهم قائلين: إن هناك صراعا بين الأم وفروعها، أو بين الفصحى ولهجتها، ونحن نقول لهم: لماذا لا يسفر هذا الصراع أو تنازع البقاء عن نتيجة حاسمة يصح فيها الصحيح، ويبقى الأصلح نزولاً على حكم مذهب النشوء والارتقاء.
أو يدوم صراع لغوي مدة تشارف الألف والثلاثمائة سنة؟ والحق أنه ليس هناك صراع بل هناك شذوذ وجفاء، وهنك ازورار وانحراف في هذه اللهجات الملية، من مصرية وعراقية وشامية ومغربية، فما هذه اللهجات سوى اللغة العربية محرفة عن أصلها. كانت الفصحى معرية فحل الوقف محل الأعراب، وكان التلفظ والنطق موحدا فطرأ ما طرأ عليها من الاضطراب والفساد والتحريف والتشويه بسبب هجرة المسلمين والعرب الفاتحين إلى شتى الأقطار البعيدة عن الجزيرة العربية.
ليس من الإنصاف ولا من الصواب أن ندعو ما نحن بصدده صراعا بين الأصول والفروع، بل هو ضرب من الشذوذ والانحراف لا بد أن ينتهي إلى صلح ووئام. ومن الخطأ قياس من يقيس ما حدث للفصحى بما حدث للاتينية، أو السامية البائدة، ثم يسرفون في التكهن، والاحتمالات البعيدة، ويتوقعون أن تتخلى الفصحى عن مكانها لتدخل في ذمة التاريخ في الأقطار المأهولة بالشعوب اللاتينية وقد تكلفت بحفظ الفصحى وحياطتها وخلودها معجزة القرآن؛ فلولا إعجاز القرآن لجاز أن يحدث لهذه اللغة ما حدث من قبل للغة اللاتينية.
تجتاز هذه الأقطار المأهولة بالناطقين بالضاد عصبية، وهذه الشعوب الآن أحوج ما تكون إلى التفاهم والتعاون، ووحدة اللغة. ولو اصطنعنا هذه اللهجات الفاسدة لاستحال تحقيق الوحدة اللغوية، ولتعسر التفاهم أو التخاطب أو التخاطب بين الشعوب المذكورة.
ما أكثر عيوب هذه اللهجات ومساوئها، وفي مقدمتها أنها عاجزة عن تكوين تلك الوحدة؛ فلكل قطر لهجته ومميزاتها التي تجعل منها أداة غير صالحة للتفاهم في أمة تسعى وحدتها اللغوية.
ولنا أن نقول في مساوئ اللهجات أكثر من ذلك، فإنها في القطر الواحد يسرع إليها الانحلال، فهي عرضة للاضطراب والفساد فها نحن أولاء نجد لكل إقليم عندنا في العراق، بل لكثير من الحواضر أحيانا لهجة خاصة؛ فأهل الموصل في الشمال لهم لهجتهم، وهي لهجة لا يستسيغها أهل بغداد وأواسط العراق لاختلاطها عن المألوفة. وأهل الصرة في الجنوب، يعرفون بلهجة تختلف بعض الاختلاف عن لهجة بغداد. وعلى كل فإن لهجة أهل الريف عندنا تختلف عن لهجة أهل الحواضر اختلافا ظاهرا. ومثل ذلك الاختلاف بين لهجات الريفيين القاطنين في البطائح والبحيرات ولهجات القبائل الراحل في العراق. وفي وسعك أن تعرف بلد المتكلم أو قطره من لهجته. وليس هذا الأمر فيما نرى خاصا بالعراق؛ فمصر وسورية وأقطار الغرب لا نختلف عن العراق من هذه الناحية. والمعروف هنا أن لأهل الصعيد لهجة خاصة، وتشبهها فيما قيل لي لهجة أهل الشرقية والبحيرة. ويبدو لي على ما أكد لي غير واحد من أدباء مصر أن لهجة أهل الصعيد أقرب إلى لهجات أهل البادية في بعض أقطار الشرق العربي كالعراق والشام، فإن الحروف التي أصبحت أثرا بعد عين في منطق أهل القاهرة والإسكندرية وما إلى هذه الجهات مثل القاف والتاء المثلثة، والجيم الفصيحة، لا تزال باقية على حالها في منطق أهل الصعيد، وهي كذلك في لهجة أهل العراق. فنحن بأمس الحاجة والحالة هذه إلى لهجة موحدة، ولا عنى لنا إذا أردنا التفاهم عن تكوين هذه الوحدة. وقد اعترف غير واحد من الأساتذة المصرين الذين زاولوا مهنة التدريس في مدارس العراق بأثر الفصحى في تكوين الوحدة اللغوية المنشودة.
لماذا يعنى أبناء الشرق العربي، بل شعوب الشرق الإسلامي باقتناء المؤلفات المصرية الحديثة، بل باقتناء المطبوعات المصرية مهما كانت؟ ولماذا هذا الإقبال العجيب على مؤلفات أعلام المصرين المعاصرين؟ ولماذا يعجب بترسلهم؟ ولماذا يؤخذ من يؤخذ بسحر بيانهم في أقطار الشرق والغرب المأهولة بمن ينطق الضاد.
قد تعجبون إذا قلت لكم إن مرد ذلك لا معالجة الأبحاث العلمية أو الموضوعات الأدبية في حد ذاتها، وإنما لسبك تلك الموضوعات وأدائها بأساليب لغوية أصيلة البيان مشرقة الديباجة. فهذه الطبقة من الكتاب والمؤلفين المصريين طرست على آثار الطبقة الأولى من المترسلين في الفصحى، وحذت حذو الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب والصابئ،
وغيرهم من أئمة المرسلين، ونهجت منهجهم في البيان والبلاغة. فشعوب العرب ولإسلام وقد أصبحت شعوبا واعية يقظة في عصرنا يقظة في عصرنا هذا تغنى العناية كلها يبعث الأساليب العربية الأصيلة، وتعتز بإقالة الفصحى من عثرتها بعد كبوة طويلة. فعصرنا هذا يمتاز بنمو العاطفة القومية، والشعور الصادق، والاعتزاز بالأدب القيم، والتطلع إلى بعث تراثه القديم.
ولو أن هؤلاء الأعلام المصريين استجابوا لدعوة الدعاة إلى اصطناع اللهجات فيما يكتبون وينشئون لأغراض الناس في الشرق كله من عرب ومسلمين عن اقتناء ما يدر إليهم من مطبوعات هذه البلاد. ولا نبالغ إذا قلت لكم إننا نعتبر هذه الدعوة خطرا على اطراد على ونمو الشعور. ونحن واثقون أنها دعوة ضعيفة لا تستطيع الصمود في طريق هذا الوعي المطرد إلا كما بصمد الهشيم في سبيل السيول الجارفة. فهذا الوقوف في طريق اليقظة الراهنة مخالف لطبيعة الأشياء، وهو إذا جاء عن طريق التساهل في الوحدة اللغوية أدهى وأمر.
لا غنى لشعوب الشرق العربي وفي طليعتها العراق والشام، ولا غنى لشعوب الغرب الغربي وفي طليعتها مصر وأفريقية في الفصحى دون غيرها من اللهجات.
نعم إن الصعوبة في الفصحى تأتي من ناحية الإعراب، وقد زال هذا الإعراب، وقد زال هذا الإعراب لأنه لم يعد عملياً في عصرنا الحاضر على الأقل، فلنحافظ على سلامة لغتنا الفصحى وتوحيد لهجاتها، وتقوم النطق بها، ولو بالتخلي عن الإعراب إلى حين إلا في التلاوة وما إليها، على أن ينظر في حل المشكلة الإعراب، وأن يعهد بذلك إلى المتخصصين المنقطعين لهذه الإعراب. وقد يعلل زوال الحركات أو الإعراب عن أواخر الكلمات بأن العرب كانوا في الجاهلية، وفي صدر الإسلام مطبوعين على الحركة واحتمال المشاق في حلهم وترحالهم وفي مغازيهم، فما كانوا يجدون جهداً أو كلفة في تحريك أواخر الكلمات. فلما خلدوا إلى الترف، وسكنوا إلى النعيم في المدن الزاخرة مالوا إلى الوقف والسكون. ولا يخفى أن الإعراب أو تحريك أواخر الكلمات يقتضي جهداً لا يقتضيه الوقف والإسكان، ويمثل ذلك بعلل تسهيل بعض الحروف أو زوالها من النطق بتاتاً في هذه اللهجات حيث يتطلب النطق بها بذل بعض الجهد والطاقة.
يجب أن تنظم هذه الأقطار رابطة وثيقة من الوحدة اللغوية أو الوحدة الأدبية، ولا يمنع ذلك قطرا من هذه الأقطار أن يستقل سياسيا عن سواه. وهكذا نحن نرى رابطة الشعوب البريطانية تعززها رابطة وثيقة من الوحدة اللغوية. وكم نوه قادة هذه الشعوب، وكم أشادوا بذكر هذه الرابطة، لأن في تعزيز هذا النوع من الوحدة ضمانا أكيد لكثير من مصالح الشعوب المذكورة معنوية ومادية، ومدعاة لتعاونها وتضافرها، واتحادها في الملمات.
يروي فيما يروي عن بسمارك بطل الوحدة الألمانية أنه قال: أهم حقيقة يمكن تسجيلها في القرن التاسع عشر هي الوحدة اللغوية بين بريطانيا وأمريكيا. والظاهر أن هذا الداهية الألمانية كان يحسب حساب هذه الوحدة، وخطرها البالغ على الشعوب الألمانية. وقد قال تشرشل منذ أسبوع فقط أي في اليوم السابع عشر من هذا الشهر، وهو يخطب الأمريكيين بواشنطون ما هذا نصه: يجب أن نعمل في القرن العشرين على تحقيق ما قاله بسمارك في القرن التاسع عشر) هذا ما قاله تشرشل وهو يعني تعزيز رابطة اللغة الإنجليزية في بريطانيا وأمريكا. وقد عملت الأمتان - والحق يقال - كل شيء في سبيل تعزيز هذه الرابطة حتى قادها ذلك إلى الظفر الحاسم في الحروب الأخيرة.
إذا أرادت مصر أن يدري صوتها في المجامع الدولية، بل إذا أرادت أن تكون مرهوبة الجانب فعليها أن تستند إلى تعزيز رابطتها معنويا وماديا بشعوب الشرق، غير عابثة أن بهذه النعرات الإقليمية الهدامة، واللهجات المضرة بتلك الجامعة اللغوية.
أدى تشعب اللهجات واضطرابات من ناحية الاختلاف البعيد في المنطق، وفي إخراج الحروف وما يترتب على فساد النطق بها من الانسجام إلى تكون مشكلة من المشكلات الاجتماعية، بيد أن حلها ليس بمعتذر، وهو يتوقف على إزالة هذه الفوارق بين لهجاتنا، وتوحيد النطق والتلفظ، وضبط الكتابة بموجب قواعد عامة توضع لهذا الغرض. وليس ذلك بمستحيل على العاملين المجتهدين. ولنأخذ مثلا كلمة (يصفق) إذ نجدها في اللهجة المصرية:(يسأف)، وهي كلمة مستحيلة اجتمع فيها القلب والإبدال، وما اجتمع الداء أن إلا ليقتلا. وفي سوريا يقولون (يصفأ) بقلب القاف همزة، وفي العراق يقولون (يصفج) تنطق القاف كافا فارسية في العراق. ومثل ذلك في كلمة (أول) التي تلفظ بفتح الواو في العراق، بينما يقال في اللهجة المصرية:(أول) بكسر الواو. وفي كلمة (اضرب) كما تلفظ في
العراق بكسر الواو. في كلمة (اضرب) بفتح الراء مع قلب الضاد دالا، إلى ضروب أخرى من اضطراب المنطق وفساده في هذه اللهجة المختلفة باختلاف الأقطار. وعلى هذا لا مناص لنا من إصلاح المنطق، وتقويم الألسنة، الحل الوحيد لهذه المشكلة، وفيه المحرج من هذا المأزق.
إنا نقرهم على أن الإعراب في اللغة المحلية لم يعد علمياً وليس من السهل الالتزام به، ولكن التخلي عن الإعراب في المنطق شئ، والتخلي عن سلامة المنطق وتقويم اللسان وفتح الباب على مصراعيه للكلمات الدخيلة أو العامية الفاسدة شتى آخر. وفي وسع الدول التي تعتز الآن بالفصحى وتنص في دساتيرها الأساسية على ذلك، وهي الدول العربية، وفي وسع الجهات المعنية بشئون الثقافة في الدول المذكورة أن تعمل كثيرا في هذا الشأن.
فما المانع الذي يمنعها من العناية بتوحيد المصطلحات في معاهد العلم وفي غيرها من سائر مصالح الدولة؟ وما المانع الذي يمنعها من السعي إلى إصلاح المنطق وتوحيد اللفظ في اللهجات المختلفة على وجه يسهل التفاهم بها في المجتمع وبين الطبقات؟ وما المانع الذي يمنعها من توحيد مناهجها في تعليم اللغة العربية؟
لا نبالغ إذا قلنا إن المصري في لهجته إلا بعناء. ولا يعد تغاير الكلمات، والتعابير المولدة خطراً كبيراً في حد ذاته على اللغة، الذي الكلمات عربي الأصل والمادة، ولكن الخطر الذي يتهدد الفصحى كامن في واضطراب واختلاف النبرات وتباين اللفظ، ليخشى أن تصطنع اللهجة الفاسدة المولدة في بعض الأقطار مع الأيام، وتنسى الأم التي ولدت منها. ولولا الثقافة الإسلامية التي تقوم على أساس متين من مدارس الكتاب وتفسيره، ورواية الحديث وحفظه، لوقع ما كنا نخشاه.
لقد آن للمجامع اللغوية، وفي طليعتها هذا المجمع المعنى بشئون الفصحى، وجعلها وافية بمطالب الحياة والحضارة في هذا العصر، أن تعني بهذه الناحية، وبالبحث عن طريقة لضبط النطق واللفظ في الأقطار، وتخليص لهجاتها من هذا الاضطراب. ولا يستحيل ذلك في عصر تعددت فيه وسائل التفهيم والتلقين. والمجمع بحكم وظيفته مطالب بالكف من غلواء دعاة اللهجات وتغليبها، خصوصا إذا علمنا بأن هذا الجفاء القديم بين الأم وبناتها الناشزات يسير إلى غاية تلك التي انتهت إليها اللغة اللاتينية مع فروعها، إذ سينتهي
الخلاف فيما نحن فيه إلى وئام، وهو وئام تمهد له الآن صحافتنا العاملة في سائر الأقطار العربية، ولهذه الصحافة الراقية، ولدور النشر أثرها المحمود في هذا الشأن. ولا ينكر أثر الصحافة المصرية في لهجة المجتمع أو الشعب، الآن أدنى إلى الفصحى مما كانت عليه قبل جيل. ومرد ذلك إلى انتشار الصحافة المصرية الراقية، وتكاثر يوما بعد آخر، وازدياد عدد المتعلمين. وكما تقلصت الأمية، وكوفحت في مصر، وفي أقطار الشرق العربي - وهي تتقلص وتكافح الآن في كل مكان - تضاءل خطر اللهجات على الوحدة اللغوية، ومرنت الألسن على المنطق السليم.
محمد رضا الشبيبي
إليَّ الشعب المصري
للأستاذ علي الطنطاوي
يا أهل مصر، اثبتوا على جهادكم، فإنا جميعاً معكم. قضيتكم قضيتنا، وعدوكم عدونا. ما ضرنا أن تفرق بيننا الحدود على الأرض، والألوان على المصور، ما دام يجمعنا الإسلام، وتوحد بيننا العروبة، وتربطنا الآلام والآمال، وذكر الماضي، وأماني المستقبل. فنحن الاخوة، تعددت بيننا المنازل؛ ولكن الدم بجمع الاخوة جميعاً، والجب والمنشأ والمصير. ومصر أختنا الكبرى، فلئن خذلنا مصر، إنا إذن لشر أخوة في الدنيا.
وما نسينا، والله يا أهل مصر، وموقفكم منا يوم عدا العادون من بني السين، دعاة الحرية. . وأحفاد من نادوا بحقوق الإنسان. . على جمهوريتنا وبرلماننا، وحريتنا في أوطاننا، أفتروننا نقعد عن نصرتكم وقد عدا عليكم العادون من أبناء التايمس، أدعياء الديمقراطية. وأبناء من (ابتدعوا) البرلمان!
فأين إذن، حقوق الأخوة، وأين واجبات الوفاء؟
أننام على فرش الأمن، وننعم بالدعة والخفض، ونشرب العذب من يردى، ونؤم الضاحي من سفوح قاسيون، نلهو ونتمتع، وإخواننا على حفا في النيل، وجوانب القناة، يخوضون اللهب، ويقحمون الحديد؟ وإخواننا هناك تهد بيوتهم، ويصرع فتيانهم، ويعتدي عليهم في أوطانهم؟
لا والله، ولكن تألم إن ألموا، ونجزع إن جرعوا، ونخوضها حمراء عابسة الوجه، يرقص فيها الموت، إن دعتنا إلى خوضها الأخوة، ونادانا الجذم والدين والسان، ولا منة لنا ولا فضل.
ولن نعيد مأساة فلسطين!
لن نعيدها. حلفنا وأيدينا مغموسة بدماء شهدائنا الذين أرادتهم المعركة مع اليهود، ونسائنا اللاتي بقرب بطونهن أكف يعود، وأطفالنا الذين ذبحهم أيدي يهودا!.
حلفنالنثأرن لهم، ولن ندع مأساة كمأساة فلسطين تمثل في ديارنا، بتخاذلنا وانقسامنا، واستسلامنا لخدع أعدائنا: الإنكليز وأحلاف الإنكليز.
نهضنا لنصر مصر على قدم واحدة، اجتمعنا على ذلك على اختلاف الأحزاب والمذهب
والآراء. وتعالوا انظروا، تروا الشباب في الطريق، والشيوخ في الأسواق، والطلاب في المدارس والنساء في البيوت، وحول كل راد، وأمام كل بائع جريدة، على ألسنتهم جميعا حديث مصر، وفي قلوبهم جميعا حب مصر، وفي عروقهم تغلي الدماء لمصر، وشوقا إلى السفر لمصر، للجهاد مع أهل مصر.
الشعب هنا كله معكم، والحكومة معكم، كلهم مع الحق الذي هو معكم، وعلى الباطل الذي هو مع عدوكم.
وسيكون الظفر والله معكم.
أن هذا المصائب امتحان للشعوب، لصبرها ولرجولتها. وإن هذا الشعب العربي قد جاز آلاف المحن، وخرج منها فائزا مجليا.
أي أرض فوق الأرض، وأي مكان تحت النجم، لم يوار فيه هذا الشعب شهيدا من شهدائه، ولم يبلغه رائد من رواده، ولم يرفع علمه يوما عليه، ولم يشهد ظفرا له، ولم يسمع العسكري، يهتف به الجندي المسلم، فيرتج منه كل واد، ويرتجف كل جبل، وتميد كل فلاة:(الله أكبر).
(الله أكبر) هذا هو نشيدنا في حزبنا، وهتافا لصلاتنا، لأن (الله أكبر) من إنكلترا، ومن يشد أزرها. (الله أكبر) من مدافع الإنكليز، ودباباتهم، وطياراتهم، وأسطولهم.
فلا تخافوا سلاحهم فإن أجدادنا ما حاربوا الأبيض والأسود، ولا فتحوا الشرق والغرب، ولا ملكوا ثلثي العالم المتمدن في الثلث قرن، لأن سلاحهم أمضى، أو لأن عددهم أكثر ما انتصروا إلا بالإيمان.
الإيمان مكن للفئة منهم أن تغلب الجيش الكبير من أعدائهم. الإيمان جعل السيوف الملفوفة بالخرق، أمضى في أيديهم من المهندات المذهبات في أيدي خصومهم. الإيمان أظفر الأمة البدوية الجاهلة المتفرقة، وإمبراطوريتي الزمان: فارس والروم، ففتحت بلادهما، ووزنت أرضعتها، ثم أنشأت حضارة خيرا من حضارتهما، ومدينة أزهى وانتفع من مدنيتها.
الإيمان بالله، والإيمان بأن الحق معهم.
فإذا كنتم مؤمنين بأنكم تدافعون عن حقكم، فلن يغلبكم أحد، لا الإنكليز ولا حلفاء الإنكليز.
ولقد حاربت جماعات من أهل الشام فرنسا، يوم كانت فرنسا أقوى دول أوربة في البر، في
أعقاب الحرب العالمية الأولى وما كان لهم سلاح إلا الذي يأخذون من جنود فرنسا؛ ومع ذلك فقد وقفت فرنسا بدباباتها ومدافعها سنتين أمام مئات من الثوار، يقودهم خفير عامي من دمشق اسمه حسن الخراط.
فكيف ومصر الدولة العربية الكبرى، وفي مصر العدد والعدد والمال، ومع مصر كل قطر عربي، وكل بلد مسلم!
إنه ليس على ظهر الأرض شعب كهذا الشعب الذي صب محمد البطولة في أعصابه، حتى لا يكون المرء عربياً ولا يكون مسلماً حتى يكون بطلاً.
أما ترون العربي إذا دعى باسم العرض، أو دعى باسم الأرض، أو دعى باسم الدين، كيف تغلى دماؤه في عروقه فيحس حرها في قحف رأسه؟ وكيف تشتد أعصابه، وتفور عزيمته، حتى ليقحم النار، ويركب الأخطار؟
أما ضرب هذا الشعب على بطولته ونخوته الآلاف الأمثلة في الماضي وفي هذه الأيام؟
أما حارب عبد القادر فرنسا سبع عشرة سنة؟ أما نازل عبد الكريم فرنسا وأسبانيا معاً؟ أما قاتل العراقيون الإنكليز في الرميثة؟ أما فعل الفلسطينيون سنة 1936 الأفاعيل؟
أما كان لمصر سنة 1919 الأيام الغر المحجلات في مواكب الزمان؟
فإن مضى سعد، فكلكم يا أهل مصر سعد تسعد به مصر.
فإلى السلاح جميعاً، وإلى الحرب. وإن فقدتم السلاح فحاربوا بالعصي، وحاربوا بأيديكم، واطلبوا الموت يعجزوا عنكم، لأنهم لا يستطيعون أن يقتلوا عشرين مليوناً تريد الموت.
وقبل حرب الميدان، حاربوهم بالعلم، وبالأخلاق، وبالدستور الاقتصادي الصحيح، وأعدوا لهم كل أنواع القوى: قوة الجسم وقوة العقل وقوة القلب وقوة المال وقوة الجيش.
ونحن جميعاً معكم:
هذي يدي عن بنى (قومي) تصافحكم
…
فصافحوها تصافح نفسها العرب
دمشق
علي الطنطاوي
قاضي دمشق
جلاء. . . وجلاء
صفحة من الكفاح المصري منذ 150
للأستاذ محمد محمود زيتون
ابتليت كنانة الله في أرضه بالاحتلال الفرنسي، والأمراء المماليك يسومون أهلها سوء العذاب، وسلطان العثمانيين يتقلص ظله من حيث لا يشعرون. ثم إن هذه الفترة قد سجلت صراعاً محتدماً بين إنجلترا وفرنسا من جانب، وبين تركيا والمماليك من جانب آخر.
زعم نابليون أن مصر ستنقاد له بمجرد إذاعة المنشورات التي أعدها وهو لا يزال يمخر عباب البحر، ولم يكن يدري أن المصريين يستعدون للمقاومة الشعبية منذ ترامت إليهم أبناء تحرك سفن الحملة من جزيرة مالطة في طريقها إلى الإسكندرية.
وفي الحق أن الحملة كان مقضياً عليها بالفشل، منذ ألقت مراسيها بالإسكندرية في 20 يوليو سنة 1798 لأن المتاعب التي ستواجهها ستزيد على الحصر. وإذا كان في الإمكان ضرب عدو بآخر للتخلص منهما معاً مما لا يحتاج في العرف السياسي إلى غير الحنكة والدهاء، فإن اليقظة الشعبية كانت بمثابة الصخرة الغليظة في حلق الاحتلال.
ومنذ الساعة الأولى بدأت قوات الاحتلال تطارد المماليك حتى تشتت شملهم في أقاصيالصعيد، وخذلوا الشعب الذي لم يريدا من الدفاع عن شرفه ولو لم يكن لديه من سلاح إلا الحجارة والقلاع وأبواب الحارات والسلاسل والمتاريس.
وبينما كان الفرنسيون يتوغلون في البلاد كانت الأنباء تترامى شرقاً وغرباً. أما تركيا فكانت مشغولة ببلواها عن بلوى غيرها؛ وحسبها قلاقلها الداخلية ومشاكلها الخارجية. وعز على إنجلترا - وهي سيدة البحار وأم الاستعمار - أن تنافسها فرنسا في مصر وهي مفتاحها إذا هي أرادت الإبقاء على أكبر جوهرة في تاجها الإمبراطوري الذي لا تغيب عنه الشمس.
ولم يكد شهر يمضى على المحتلين حتى كانوا مضرب المثل في الإجرام: سفكوا دماء الأبرياء، وأعدموا زعماء الوطن رميا بالرصاص، وملئوا السجون والمعتقلات بعلماء الدين، فما وقروا شيبتهم، ولا رحموا ضعفهم، ومضوا بعد ذلك إلى المدن والقرى ينهبون ويسلبون، وهتكوا الأعراض في غير رحمة، وانتهكوا حرمات بيوت الله والناس، وتجردوا
تماماً من العاطفة الإنسانية أو ما يشبهها، وتفننوا في التنكيل بالشعب من كل لون. فأحرقوا الدور بعد انتهاب ما فيها، وأشعلوا النيران في محاصيل الفلاحين، وبعثروا أقواتهم واستاقوا مواشيهم، وأثقلوا كواهلهم بالضرائب والغرامات والفروض، فلم ير المواطنون يدا من الهجرة على غير هدى تاركين ديارهم خرابا يبابا ليس بها ديار ولا نافخ نار. وأما الذين لم يهاجروا فقد أرغمتهم السلطة الغاشمة على دفع الغرامة عنهم وعن جيرانهم المهاجرين.
وفي أول أغسطس أوقع الأسطول الإنجليزي بالأسطول الفرنسي هزيمة منكرة في مياه أبو قير، وعلى أثرها غير نابليون سياسته العنيفة فأقام الحفلات بمناسبة المولد النبوي تمليقاً للعاطفة الدينية عند المسلمين وهم السواد الأعظم، ومع ذلك فإنه ما وجد منهم غير الإعراض التام. حتى إذا جاء يوم 22 سبتمبر وحلت الذكرى الأولى لعيد الجمهورية الفرنسية، دعا نابليون علماء مصر وأعيانها إلى حفل كبير بالأزبكية توسطه عمود ضخم يرمز إلى شجرة الحرية التي يزعمون أن الثورة الفرنسية قد تمخضت عنها، وما أرى المصريون فيها إلا رمزاً على الاستعباد فسموها (خازوق الاحتلال).
اغتاظ نابليون من هذا الموقف السلبي، وأسرها في نفسه وعاودته غريزة الذئب الغادر، فقسا ليزدجروا، وزاد تنكيلا ليرجعوا، وأصدر بذلك أوامره المشددة إلى حكام الأقاليم، كتب إلى قومندان المنوفية يقول (يجب أن تعاملوا الترك (الأهالي) بمنتهى القسوة، وإني هنا (في القاهرة) أقتل كل يوم ثلاثة وآمر بأن يطاف برءوسهم في شوارع القاهرة. وهذه هي الطريقة الوحيدة لإخضاع هؤلاء الناس، وعليكم أن توجهوا عنايتكم لتجريد الشعب قاطبة من السلاح).
وكتب إلى الجنرال مينو قومندان رشيد بأنه يأمر بقتل خمسة أو ستة يومياً ثم يقول له (لقد كنا نتفادى التعرض لهم حتى نزيل عن سمعتنا وصمة الإرهاب تلك التهمة التي كانت تسبقنا إلى أذهان الناس) وصدق المثل: رمتني بدائها وانسلت، ولكن هيهات هيهات أن ينفذ شعاع من رحمة إلى قلوب المتوحشين الذين جاءوا من أوربا الجائعة ليشبعوا جوعتهم من دماء الوادعين في بلادهم.
وإذ ذاك كانت (لجنة الثورة) تنعقد بالجامع الأزهر، وقد استنفذ والحكماء كل السبل لحقن الدماء واستتباب الأمن؛ فكان لابد أن تنفجر مراجل الصدور بهذه المظالم الفادحة والمجازر
البشرية.
وفي 21 أكتوبر انطلقت الأنفاس المحبوسة، واندفعت القاهرة اندفاع الصاعقة، ولم يعد بالديار داع أو مجيب. وتجسمت ثورة القاهرة سخطاً وحنقاً على الغاصبين، واغتيل القائد الفرنسي (ديبوي) واحتمى الثوار بالأزهر بعد أن أقاموا جميع الاستحكامات على المنافذ المؤدية إليه.
وذهل الفرنسيون أمام هذه اللعنة المنصبة عليهم من كل جانب، فأصدر الجنرال بون أمر في 23 أكتوبر (يهدم الجامع الأزهر ليلا إذا أمكن، وترفع الحواجز والبوابات التي كانت تسد الشوارع).
وأطلق الفرنسيون مدافعهم الثقيلة على الثوار، فكانت ضحايا المصريين أكثر من أربعة آلاف حسب تقدير الجنرال (بليار). ولنترك للجبرتي مؤرخ العصر يصف لنا هذا المشد الأليم إذ يقول (ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر، وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشموا خزائن الطلبة، والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها. .).
وفي هذه الغمرة يفتح نابليون صدره العريض لإحدى نوافذ قصر الألفي وما يلبث أن يعود إلى مكتبه فيصدر الأمر الكريم (. . يقطع رءوس جميع المسجونين الذين أخذوا ومعهم الأسلحة، وعليكم إرسال الجثث في هذه الليلة إلى شاطئ النيل فيما بين بولاق ومصر القديمة وإغراقها في النهر).
ولم يكن خافيا على فطنة العلماء أن للمماليك يدا في تحريض الأهالي ضد الفرنسيين مما زاد النار اشتعالا، فأذاعوا البينات في الناس بغية التزام السكينة والتذرع بالصبر (فلا تعلقوا آمالكم بإبراهيم ومراد، وارجعوا إلى مالك الملك وخالق العباد؛ وذهب وفد العلماء إلى نابليون يتشفعون في جلاء خيوله عن الأزهر، فأجابهم إلى طلبهم. ثم أحصى المحرضين على الثورة من العلماء فسرعان ما ألقى القبض عليهم، وعجلان ما حوكموا سرا وأعدموا رميا بالرصاص. وضاعف الفرنسيون من تحصين القاهرة وإقامة المعاقل في
أهم شوارعها استعدادا لكل ما عساه يجد من أحدث.
ومن وسائل الاحتياطات التي اتخذها نابليون أن أرسل المحصلين لجباية الغرامات من الأهلين، وهم الذين كادوا يهلكون جوعا وعريا أن هام أكثرهم على وجوههم في القرى، وبعد أن أصبحت البيوت لا عائل لها يدبر أمرها، تلك البيوت التي اقتلع المهندسون الفرنسيون أبوابها وأبواب الحارات التي تضمها ونبشوا القبور ونقضوا البيوت ليتخذوا من الحجارة والأخشاب تحصينات للقلعة، مما كان سببا قويا لاستفزاز الأهالي، وانقضاضهم على كل من يلقونه في وجوههم فكانت الضحايا من المهندسين فوق الحصر.
وسرت الثورة في كل مكان سريان الغار في الهشيم حتى عمت الدلتا والصعيد. فاتسع الخرق على الراقع، وضاق بونابرت ذرعا العدو الذي ما من صداقته بد، والذي استعصى على الترويض، والذي أنزل برجاله هذه الخسائر وهو الذي لا مدفع معه ولا رصاص.
واعتزم نابليون أن يخضد شوكة المصرين ويزعزع يقينهم بالكفاح المرير في سبيل الحرية والاستقلال، فأنفذ حمله الشام التي لم تأت بالثمرة المشتهاة، فلا هو فتح الشام ولا هو أذل مصر.
فاشتعلت الثورة من جديد في الشرقية بينما كان جيشه يرتد مهزوما أمام عكا الحصينة ومعه الجرحى والقتلى ممن لا عداد لهم.
واضطربت الأحوال في فرنسا حينذاك، فاستطاعت حكومة الدكتور قائد الحملة علة مصر، ولكن الأسطول الإنجليزي المتربص لفرنسيين في البحر حال دون وصول الرسالة إلى مصر. ومع ذلك تمكن الماكر الداهية من الإفلات فغادر الإسكندرية في ليلة 23 أغسطس بعد أن أناب عنه كليبر وزوده بالتعليمات الكافية، يضمن ثقة الشعب المصري) ورأى نابليون قبل مغادرته مصر أن تركيا قد بدأت تحالف الإنجليز ضد فرنسا على حساب مصر، ففوض كليبر في عقد الصلح مع تركيا ولو كان ثمن ذلك جلاء الفرنسيين عن مصر نهائيا.
أحاطت المشاكل بكليبر من كل جانب، فالفرنسيين قد انهارت روحهم المعنوية، وتفشت الأمراض فيهم، وقضت الثورات على مهندسيهم، ونهب الثورات آلانهم الفنية النادرة، ولم يسلم القواد أنفسهم من الإصابات والجروح حنى نابليون نفسه، ونقص الإيراد وضعف
الإنتاج وتراكمت الإتاوات والغرامات وتربص الإنجليزي والترك للفرنسيين على الشواطئ، وقطع الحصار البحري على الحملة الإرهابية كل سبيل، وكتب المسيو بوسليج في تقريره إلى حكومة الدير كتوار يقول (. . إن اختلاف العادات - وأهم منه اختلاف اللغة وخاصة اختلاف الدين - كل ذلك من العقبات التي لا يمكن تذليلها والتي تحول دون؟ إيجاد صلات الود بيننا وبين المصريين. إنهم يمقتون حكم المماليك، ويرهبون نير الآستانة، ولا يحبون حكمها، ولكنهم لا يطيقون حكمنا ولا يصبرون عليه إلا بأمل التخلص منه).
وظل كليبر يماطل في الجلاء كلما تغلب على المحاولات البحرية العثمانية التي دأبت على مناوشته على شواطئ مصر، فلما تمت معاهدة العريش المعروفة في24 يناير سنة 1800 بين فرنسا وتركيا قبل القائد الفرنسي الجلاء عن رغبة منه حد قوله في (وضع حد لسفك الدماء، وإنها النزاع القائم بين الجمهورية الفرنسية والباب العالي).
وفي غضون الأشهر الثلاثة المقررة للجلاء نزلت القوات التركية تدريجيا بالأراضي المصرية وأمعنت تعسفات غاشمة من التهب والسلب والإرهاب وابتزاز الأموال بحجة الحاجة إلى مصاريف إبعاد الفرنسيين، فجمعوا الغلال، واحتكروا المؤونة وشاركوا المواطنين في الحرف ونافسوا في أرزاقهم مما أثار السخط العام على الأتراك والفرنسيين من قبلهم.
وتأججت نيران الثورة من جديد لعدم اعتراف إنجلترا بمعاهدة العريش تلك، وألبث المصريين على كليبر، فلم يجد بدا من التفريق بين فلول المماليك وبين المصريين من جهة وبين هؤلاء وبين العثمانيين من جهة أخرى، فاتفق مع مراد بك على أن يطلق يده في الصعيد نظير دفاعية وأموال وغلال. فلما شبت ثورة القاهرة في 20 مارس سنة 1800 أشار مراد بك على كليبر بإضرام النار في العاصمة.
وبعد شهر من هذا التاريخ استطاع كليبر أن يخمد الثورة، ويطرد العثمانيين، فوطد مركزه، وأبعد من حسابه فكرة الجلاء. فلما فاوضه الإنجليز والعثمانيون في تنفيذ معاهدة العريش أبى ولج في الطغيان، حتى لقي حتفه بطعنة من خنجر سليمان الحلبي في 14 يونيو وخلفه مينو الذي ورث عن سلفه أفدح الأعباء قائد متخاذل مثل مينو.
أتقن مينو دوره الاستعماري أيما إتقان، فأعلن إسلامه ونزوج أرملة مسلمة من رشيد، وخالط الناس في المساجد والحافل، وأظهر الورع حتى صلى معهم التراويح، وتظاهر بمقته لكليبر حتى لقد سمى ابنة باسم قاتل خصمه، ولكنه ما لبثأن قلب للمصرين ظهر المجن، وبرح خفاؤه، حين اتهم الأزهر بتدبير اغتيال سلفة فأمر بتفتيش وإرهاب علمائه، وحاول أن يقف على شيء يدل طائل، واقترح العلماء غلق الأندر بدلا من أن تشن عليه الحملات الإرهابية وحقنا لدماء المواطنين، وإبراء لذمتهم من دم كليبر.
ومع ذلك ظل مينو سادرا في غلوائه وغطرسته، فلم يكف عن سياسة سابقة. ومما زاد في تعزبز مركزه تلك العدة التي أنفذها إليه نابيلون من فرنسا، واستطاع أن يهربا فأفلتت من الرقابة الإنجليزية المنبثة في أرجاء البحر. غير أن الأمل لم يطل مداه حينما ترادفت قوات الإنجليز والأتراك على مصر عند كانوب في الأسبوع الأخير من مارس، وسقطت المن المصرية صرعى احتلال جديد بينما كان الطاعون لا يزال يفتك بالمواطنين والأجانب فتكا ذريعا.
نكص الفرنسيون على أعقابهم إلى القاهرة وطلبوا المدد من حليفهم مراد بك فعالجه الطاعون في سوهاج وهو في الطريق إليهم، فأدركوا حرج موقفهم، في جلاء الفرنسيين أنفسهم، ولقي ذلك هوى. وفعلا عقد بليار اتفاقية الجلاء في 27 يونيو دون علم مينو، ولم تستطع المعدات الجديدة أن تصل إلى مصر فعادت أدراجها إلى طولون. وكادت تنتهي الخمسون يوما المحددة للجلاء برا وبحرا، ولكن الفرنسيين أخذوا يماطلون حتى حاصرهم الإنجليز حصارا كاد يؤدي بهم، فعقد مينو مجلسا عسكريا من رجاله، فأجمعوا الرأي على الجلاء.
وهنا أملي الإنجليز شروطا أقسى من ذي قبل حتى لقد أوجبت على العلماء الفرنسيين أن يسلموا بحوثهم وأدواتهم وحتمت عيهم هذه الشروط أن يتم الجلاء في مدى عشرة أيام، وأن يسلموا سفنهم بما عليها من عتاد، وبمن عيها من جنود. وبدأ الفرنسيون يسلمون القلاع والذخائر في 2 سبتمبر، غير أن العلماء تذمرهم لحرمانهم من ثمرات فرائهم، وفاضوا هتشنسون في ذلك فأبى عليهم حمل الآثار المصرية معهم، وسمح لهم بما دون ذلك.
وفي هذه الأثناء كان قد انتهى من مفاوضة مع إنجلترا بما يسمى (مقدمات لندن) في أول
أكتوبر سنة 1801 وبمقتضاها يكون الاتفاق على جلاء الطرفين معا عن مصر.
ولم تكد شمس يوم 18 أكتوبر تغرب حتى كانت قوات الاحتلال الفرنسي - وعدتها وقتئذ ثلاثة عشر ألفا - قد أخذت طريقها في البحر تجرر أذيال الخيبة، وفي مؤخرتها عبد الله جاك مينو. وبذلك اليوم انطوت صفحة من تاريخ مصر لطخها الاستعمار بالظلم والإرهاب. وأثقل المحتلون فيها كاهل مصر بالسخط والتذمر على أوربا الغادرة.
وظن الإنجليز أن الجو قد خلالهم فأفسحوا صدرهم للمماليك ليضربوا بهم الأتراك عن يمين والمصرين عن شمال. وظلموا يتلكئون في الجلاء حتى استعجلهم نابليون فتركوا البلاد لأهلها في 16 مارس سنة 1830، ومعهم صنيعهم محمد بك الألفي، وبين يديه البقية مما نهبه من الصعيد، وقد طوى جوانحه على أمل أن يعيده السادة الإنجليز قريبا جدا ليكون ملك المنتظر.
وهكذا قضت مصر هذه الحقبة من تاريخ تحت كابوس الاحتلال الفرنسي ذاقت في خلالها ما بعدها من مرارة. وحسبها أنها اعتمدت على إرادة شعبها الأبي الحر فواجهت الظلم المسلح وهي عزلاء من كل سلاح، اللهم إلا الأيمان بالحق المغتصب، والكفاح في سبيل الشرف الرفيع. ولم يعرف التاريخ أمة غير مصر تداعت عليها القوة الغاشمة مجتمعة فكافحها جميعاً في آن واحد غير معتمدة إلا على الأيمان والوحدة والمصابرة، وبذلك قضت على إنجلترا وفرنسا وتركيا والمماليك والطاعون جميعاً.
وما كان المصريون لينسوا منذ اللحظة الأولى للاحتلال الفرنسي مبلغ ما تنطوى عليه عبارة نابليون في منشورة الأول من مغالطة وقحة إذ يقول أن (الديوان) المشكل إنما يقصد به (تدبير الأمور والنظر في راحة الرعية وإجراء الشريعة).
كما أنهم لم ينسوا كيف نابليون حرم العمال المصريين من العمل في المصانع التي شيدها في مصر ظل الاحتلال حتى لا يطمعوا لذة العيش، وحتى لا يتعلموا صناعة جديدة تعود اقتصادياً على البلاد بالنفع العميم، ولكنه الاحتلال وكفى.
وحسب المصريين أنهم تعلموا منذ 150 سنة أن كفاح الشعوب إنما هو سبيل حريتها واستقلالها، وأن (الطرق السليمة المشروعة) أصبحت غير ذات موضوع. وصدق نبي الجهاد (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا).
محمد محمود زيتون
نفس كبيرة ثائرة وعقل راجح حكيم:
السيد جمال الدين الأفغاني
للأستاذ حمدي الحسيني
- 2 -
أما جمال الدين فظل في كابل لم يمسه الأمير بسوء احتراماً لشخصيته الكبيرة وعشيرته القوية مؤجلاً الفتك به إلى فرصة مناسبة. فرأي جمال الدين أن يغادر البلاد، وللحر عن دار القلي متحول. فعزم على الذهاب إلى الهند والنزول فيها على أحد أصدقائه التجار البسطاء. وكم كانت دهشته عظيمة عندما رأي على الحدود استقبالاً فخماً رسمياً تستقبله به حكومة الهند وليس له من الصفة الرسمية ما يستوجب هذا الاستقبال العظيم فقال: مأرب والله لا حفارة كريم. وأول سؤال ألقى على جمال الدين من الحكومة الهندية ما هو الزمن الذي تريد أن تقضيه في الهند؟ قال لا أكثر من شهرين. قبلت الحكومة ذلك منه ولكنها أحاطته بجيش جرار من الجواسيس والعيون تحصى عليه أنفاسه وتعد عليه حركاته وسكناته؛ ولكن هذه المراقبة الشديدة الدقيقة لم تمنع الهنود من الإقبال عليه والإجماع به والاستماع له فأصبح كعبة يحج إليها الهنود على اختلاف طبقاتهم وتباعد ديارهم، فضاقت الحكومة الهندية ذرعاً وكشفت نقاب الحياء عن وجهها وأرسلت لجمال الدين وهو في مجلس حافل برجالات الهند أحد رجالها ليبلغه بأن حالة البلاد لا تساعد على بقائه في الهند أكثر من المدة التي قضاها. فتأثر الهنود الحاضرون من هذا الأمر وأرادوا أن يحتجوا فكفهم جمال الدين عن هذا والتفت إلى رجل الحكومة فقال له: إن تخوف حكومة بريطانيا من زائر أعزل يسجل عليها وهن عزيمتها وضعف شوكتها وقلة عدلها وعدم أمنها في حكمها، وأنها في حقيقة حكمها لهذه الأقطار أضعف بكثير من شعوبها. ثم التفت إلى زائريه من الهنود وقال: يا أهل الهند وعزة الحق وسر العدل لو كنتم وأنتم تعدون بمئات الملايين ذباباً لكان طنينكم يصم آذان بريطانيا العظمى. ولو كنتم وأنتم مئات الملايين وقد مسخكم الله فجعل كلا منكم سلحفاة وخضتم البحر واحطتم بجزيرة بريطانيا العظمى لجررتموها إلى القمر وعدتم إلى وطنكم أحرارا. فما كاد يتم جمال الدين كلامه حتى أذرف الحاضرون
الدموع فقال لهم حينذاك بصوت داو كالرعد: أعلموا أن البكاء للنساء. والسلطان محمود الغزنوي ما أتي إلى الهند باكياً بل أتى شاكياً للسلاح. ولا حياة لقوم لا يستقبلون الموت في سبيل الاستقلال بثغر باسم: ثم نهض مسرعاً إلى رجل الحكومة لكي يذهب معه حيث شاء فقال له: مهلاً فالسفر غداً. فقال جمال الدين: إلى أين تريدون أن أذهب؟ قال الرجل: إلى حيث تشاء بعد أن تبرج الهند. وفي الصباح سيرته الحكومة إلى السويس ومنها إلى مصر فمكث فيها نحواً من أربعين يوماً تردد خلالها على الأزهر وتعرف إلى الصفوة المختارة من رجال العلم والثقافة، فأحبهم وأحبوه وطلبوا منه أن يقرأ لهم شرح الإظهار فقرأ لهم جانباً منه في بيته. ثم سافر إلى الآستانة فالتقى بالصدر الأعظم علي باشا فعرف له الصدر فضله وأحله محلا لم يسبق لمثله أن حل فيه. وبعد ستة شهور من إقامته في الآستانة عين عضواً في مجلس المعارف فأدى حق النصح لتعميم التعليم بطرق لم يوافقه عليها رفقاؤه في المجلس ومنها ما أحفظ عليه قلب شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي لأنها كانت تمس شيئاً من رزقه فأضمر له الشر حتى كلفه مدير كلية دار الفنون أن يلقى خطاباً يحث به على الصناعات. فألقى ضافياً في هذا الموضوع فشبه المعيشة الإنسانية بالبدن وأن كل صناعة منزلة العضو من ذلك البدن، أما روح ذلك البدن فهي إما النبوة أو الحكمة فاصطنع شيخ الإسلام الحاقد من هذا القول وسيلة للنيل من جمال الدين بحجة أن جمال الدين يزعم أن النبوة حرفة من الحرف، فدافع جمال الدين عن نفسه وطلب محاكمة شيخ الإسلام على هذه القرية، ولكن الصدر الأعظم المعجب بجمال الدين من جهة والمسئول عن الحكومة من الجهة الأخرى رأي أن يغادر جمال الدين الآستانة كحل لهذه المشكلة، فغارها إلى مصر. فكانت فرصة سعيدة لمصر والعالم العربي والإسلامي فقضى جمال الدين فيها ثماني سنين كان خلالها قطب رحا الحركة العلمية والأدبية ومحور دائرة السياسة العربية والإسلامية ليس في مصر فحسب بل في العالمين العربي والإسلامي قاطبة. هبط جمال الدين مصر في عهد إسماعيل وعهد إسماعيل عهد التقى فيه النقيضان، أفراح الإمارة وأفراح الشعب. واختلطت فيه رنات الضحك في قصور الأمراء بأنات الأسى والحزن في كل بيت من بيوت الشعب المصري وذلك بسبب ما كان عليه إسماعيل من التبذير في النفقات مما أضطره أن يقسو في فرض الضرائب على الشعب ويستدين فوق ذلك من الأجانب ما أثقل
به كاهل الحكومة، هذا من ناحية ومن الناحية الأخرى كان الجمود شاملاً جميع نواحي الحياة الدينية والأدبية والاجتماعية والسياسية. حكم مطلق في يد ضعيفة مرتعشة، وقوانين ضائع معها العدل، وأنظمة مفقود في ظلها الخير. هال جمال الدين ما رأى وما سمع وهو الذي وقف حياته على محاربة الظلم والجهل، وشق عليه أن تكون مصر وهي قلب العروبة والإسلام النابض مباءة لكل هذه الشرور التي تبيض وتفرخ فتطاير إلى جميع البلاد العربية والإسلامية فتهددها بالخراب والدمار. فصمم وهو القوي الحازم على خوض المعركة ضد ذينك العدوين اللدودين الظلم والجهل. فجرد عليهما لسانا ذريا في مجالسه الخاصة وحلقات تدريسه العامة فالتف حوله شباب العرب من المصريين والسوريين والعراقيين والحجازيين وغيرهم ممن كانوا في مصر لطلب العلم، فأفرغ السيد جمال الدين في نفوسهم ما في نفسه الكبيرة من قوة، ومس أرواحهم بما في روحه العظيمة من حرارة وحماسة، فداروا حوله مستمدين القوة والعون بعد الله منه، وأخذوا يعملون في محاربة الظلم والجهل مع أستاذهم الأكبر وأمامهم الأعظم فجردوا ألسنتهم وأقلامهم في حرب طاحنة تجاوبت أصداؤها أجواء الشرق والغرب وامتد لهيبها إلى أيدي الظالمين فأحرقتها وإلى عقول الجاهلين فصهرت عنها الجمود والخمود. ولكن كيف يكون كل هذا ولا يتحرك في القلوب المريضة حسد له ولا يتململ في النفوس الصغيرة حقد عليه؟ فاتخذ الحاسدون الحاقدون سبيلهم للطعن عليه والنيل منه. وبينما كان الرجل في هذه المعركة من البناء والهدم إذ بالخديوي توفيق يتولى الحكم فيسر جمال الدين به وأنه شعر بأنه قد العهد أكثر قدرة على خدمة مصر من ذي قبل، فأندفع في مقاومة الاستعمار الإنكليزي وما يحوكه هذا الاستعمار من دسائس لمصر، وأطلق ما في نفسه الكبيرة من قوة تأثير على الأفراد والجماعات لدفعها في مقاومة الاستعمار ودسائسه وتحريك الشعب المصري للمطالبة بحقه في حكم نفسه بنفسه بالطرق الدستورية. وقد جره هذا النشاط السياسي الجبار إلى الاصطدام بالحفل الماسوني الاسكتلندي الذي كان منتسبا إليه وعازما على اتخاذه وسيلة لتحقيق أغراضه السياسية النبيلة، فحمل على المحفل حملة شعواء ندد فيها بما ينطوي عليه المحفل من الضعف والخور في خدمة الشعب المصري الخدمة التي تأخذ بيده إلى الحرية والسعادة. وعندنا اعتقد بأن لا فائدة ترجى من إصلاح هذا المحفل انسحب منه وأنشأ محفلا
وطنيا تابعا للشرق الفرنسي، فأقبل على هذا المحل مئات من أصدقائه وتلاميذه وهم النخبة الطيبة والفئة القوية المؤمنة في مصر. وأول ما صمم عمله في محفل الجديد الدعوة لإصلاح جهاز الحكم كوسيلة لإعداد الشعب المصري ليحكم نفسه بنفسه بالطرق الدستورية. فألف داخل المحفل عدة لجان لتحقيق هذه الأغراض والاتصال برجال الحكومة (النظار) ومطالبتهم بالإصلاح على اختلاف أنواعه بأسلوب حازم ولهجة قوية ترددت أصداؤها في قصر عابدين، فأستزار الخديوي جمال الدين ليراه بعينيه ويسمع عنه بأذنيه، فكانت الزيارة. ورأى الخديوي من شخصية جمال الدين الكبيرة ما بهره ومن دفاعه عن الشعب المصري وحقوقه ما أخافه؛ فأمر بإخراجه من القطر المصري فذهب جمال الدين إلى السويس ليسافر منها إلى الهند فأتاه بعض مريديه من التجار يحملون مبلغا من المال عرضوه عليه فرفضه في أباء وشتم وقال لهم: انتم إلى هذا المال أحوج، والليث لا يعدم فريسة حيث ذهب.
للكلام بقية
حمدي الحسيني
2 - الإسلام في أوربا الشرقية في أمسية الغزو
المنغولي
للأستاذ المؤرخ أرسلان يوهدانووكز
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
ويثني بار تولد ثناء عاطرا على الدور المهم الذي قامت به الصوفية الإسلامية إن الصوفيين الذين ذهبوا لنشر مبادئ الدين الإسلامي بين الأتراك في سهول الاستبس، قد لاقوا من النجاح أكثر مما لاقاه أولئك الذين ذهبوا للمكان نفسه يبشرون بالأرثوذكسية المسيحية. ومع أن دعاة من الديانات الأخرى، كالبوذية والمانكية، والمسيحية، قد جربوا القيام بدعايات واسعة قبل مجيء المسلمين، إلا لن الدعاية الإسلامية قد لاقت نجاحا واسعا، وخاصة بين الشعوب التي كانت قد عرفت الشي الكثير عن الديانات الأخرى).
ويضيف المستشرق العظيم إلى ما سبق في موضوع آخر من كتابه قوله: (وبسبب سيطرة الثقافة الإسلامية على تاريخ هذه الفترة، فإن كل اتصال بين تعاليم الإسلام، وتعاليم الديانات الأخرى: لم تنشأ عنه غير نتيجة واحدة، هي امتداد ظل الإسلام والتمكين لنفسه في آفاق جديدة. حتى في الزمن الذي تسلط فيه القراقتيون - أولئك المتعصبون الذين كانت الثقافة الصينية عميقة الجذور وبعيدة الغور في نفوسهم، والذين حاربوا الإسلام ولم يعتنقوه، أخذت المناعة التي لديهم ضد الذين تضعف كلما امتد ظلهم على المسلمين، وراح الإسلام يمكن لنفسه في سلطانهم ونفوسهم؛ وهو وإن لم يكن انتشاره على نطاق واسع، كما كان في الفترة المنغولية، إلا أن مجرد الانتشار بين أولئك المتعصبين، يعتبر من معجزات هذا الدين).
رأي بار تولد حول إسلام الكبشاك:
يبدو لنا أن النتيجة المنطقية لآراء بار تولد عن قوة الأغراء العجيبة الكامنة في مبادئ الدين الإسلامي، والتي لعبت دوراً هاماً في إسلام الأتراك، يمكن أن نكون كما يأتي، إن اعتناق عدد لا يستهان به من الخزر لمبادئ الإسلام، قد أبعد بالتدريج كل صلة لهم بالديانات الأخرى بعد خضوعهم للكبشاك، ثم اندماج هؤلاء المسلمين مع الغزاة بعد ذلك قد كانت نتيجته المباشرة عزل المنطقة التي حول مصب الفولجا عن جميع الديانات الأخرى
كالمسيحية والبوذية، ما عدا الديانة الإسلامية. ووجد الإسلام نفسه في هذه المنطقة دون منافس من ديانات أخرى مدة قرنين، فكان هذا الوقت، كافيا لصنع المعجزة في نفوس هؤلاء الكباش الوثنية الذين عرفوا بعض الشيء عن هذا الدين عن طريق صلاتهم السابقة مع الخورزيين ومن تحصيل الحاصل أن يعتنق الكباش الإسلام في مثل ظروف من هذا النوع والتاريخ يعرف أمثلة كثيرة لشعوب رحل، أخضعت شعوبا لسلطاتها شعوبا مستقرة أكثر حضارة منها، ثم اعتنقت بعد ذلك ديانة المغلوبين.
فنرى من ذلك أن تولد لا ينكر الدور المهم الذي لعبه الإسلام بين الخرز، وهو يرى أنه لم يصبح الدين الذي يعتنقه معظم الناس.
أما مصير الإسلام بعد سقوط هذه الدولة، فقد مر عليه في ذلك الكتاب مر الكرام، ولم يفكر فيه. أما ما يتعلق بإسلام الكبشاك بصورة عامة، فيجد في كتابه المذكور الشيء الكثير من التناقض.
وأول ذلك التناقض قوله: (إن قسما من الأوغاز (وهم أقوام من الترك سبقوا الكباش إلى أوربا الشرقية) الذين استقروا في مجرى نهر الفولجا الأسفل، قد اعتنقوا الإسلام أثناء أيضاً، ولكن ذلك لم ينفذ إلى قلوبهم وإنما كان طلاء وزيفا، وبقى عدد كبير منهم يمارس المعتقدات الشامانية. ولا شيء يثير الدهشة إليه من سطحية إسلام هؤلاء الكبشاك، لأن الشعوب التي تعتنق ديانة جديدة ولا سيما الرحل منها، تظل بحكم العادة أقرب في معتقداتها إلى الديانة القديمة منها إلى الديانة الجديدة. وعلى سبيل المثال، فقد كان ذلك، كما هو معروف في التاريخ، شأن قسم من القبائل الروسية حتى القرن عشر الميلادي، وربما بعد هذا التاريخ. ولكن الذي الدهشة، أن يجد المرء في نفس الوجه من كتاب بار تولد الذي نتحدث عنه زعمين متناقضين؛ فهو برغم من جهة (أن المنطقة الواسعة التي استقر فيها الكبشاك، كانت في ذلك الوقت، خارج منطقة النفوذ الإسلامي، وفي القفقاس اشترك الكبشاك في القرن الثالث عشر الميلادي، في الهجوم على البلاد الإسلامية) وبعد اسطر غير قليلة يقول: (والمصادر الإسلامية تدلنا بصورة لا تقبل الشك، أن الكبشاك والقانجلوس (من الشعوب التركية ولعلهم من أبناء عمومة الكبشاك) قد اعتنقوا الإسلام في القرن الثاني عشر عن طريق صلاتهم مع الخورزبين).
وفي صفحات سابغة من الكتاب نفسه يقول البر فسور بار تولد: (كان لا يزال في الشمال الغربي من آسيا عدد كبير من القبائل التركية الرحل، الذين على الرغم من اتصالهم بالحضارة الإسلامية، كانوا يحملون العداء للدين الإسلامي. ونجح الكبشاك في القرن الحادي شر في توسيع مدى هجرتهم إلى عشر في توسيع مدى هجرتهم حتى وصلوا في تلك الهجرة إلى تخوم البلدان الإسلامية في الجنوب، وأصبحوا جيران الخورزبين.
كيف يمكن تعليل هذا التناقض؟.
ليس من اليسير على، ولا من المبهج لنفسي، أن أخالف الرأي علامة من طراز بار تولد النادر، وأشعر وأنا أفعل ذلك بالشيء الكثير من عدم السرور. والذي يشفع لي في تلك المخالفة ويجرؤني على انتقاد آرائه، أن النتائج التي يصل إليها علامة عظيم، إذا لم تدعمها المصادر التي لا مفر من الاستناد إليها (كالتي نحن بصدها)، فإن فقدان تلك المصادر، يولد حالة تنحرف بالحقائق عن مجراها الصحيح، وندفع الآخرين إلى ذلك الطريق الممهد، مهملين التعمق في دراسة المشاكل التي لا يعرف عنها إلا القليل.
والذي أراه أن رأي بار تولد في الأمر، ينبغي أن يفسر كما يأتي: وقبل كل شيء ينبغي أن تعرف أولاً، أنه كان معنياً أشد العناية بتاريخ أواسط آسيا، وحينما امتدتالحوادث إلى القسم الغربي من الفولجا، لم يكن دقيقاً في الإحاطة بها. وثانياً فيما يتصل بالقبائل الكبشاكية التي احتلت مملكة الخزر القديمة، فيجب أن نفرق بين الجماعات الرحل وغير الرحل منهم، فإن أولئك الذين امتزجوا بالخرز واستقروا إلى جانبهم، راحوا يعتنقون الإسلام بالتدريج. وأولئك الذين بقوا على عهدهم الأول من البداوة، استمروا على وثنيتهم الأولى، أو كان الإسلام عند الذين اعتنقوه منهم، ليس غير طلاء خارجي لم ينفذ إلى مواطن الإيمان من نفوسهم.
ومما يجعل طريقة إسلام الكبشاك غامضة نوعا ما، أن المؤرخين من الروس لم يهتموا بهم كثيراً ولا قليلاً. وبهذه المناسبة يجدر بنا أن نذكر أن الأستاذ (ن. بارسوف صاحب المؤلف الرائع (الجغرافيا التاريخية لروسيا القديمة) كان قد أشار منذ مدة طويلة إلى أن مؤرخي الروس كانوا يكرهون التحدث عن الإسلام اشد الكره، وانهم كثيراً ما كانوا - بدافع من بغضهم المتأصل للإسلام - يخلطون بين المسلمين والوثنيين. ومن الجديد بالذكر
أن بعض القبائل الكبشاكية التي اتصلت بالروس غالبا ما كانت تعتنق المذهب الارتوذكسي. وهذا الكلام يصدق فقط على الكبشاك الرحل، أما أولئك الذين سكنوا المجاري السفلى لنهر الفلجا فلا اعتقد أنهم اتصلوا أدنى اتصال بالروس.
ومن حسن الحظ أن أجد تأييداً لما ذهب إليه من مؤرخ روسي آخر يدعى أ. يا كويوفسكي في كتابة عن عصر هؤلاء البرابرة الذهبي نقتطف منه ما يأتي: (أن الغالبية العظمى من الكبشاك عاشت معيشة ارتحالية، غير أن قسما منهم اخذ يستبدل بهذه الحياة الزراعية المستقر تدريجياً. (واستولى الكبشاك على الممتلكات الواسعة التي خلفتها المملكة السابقة، وكان الخزر إذ ذاك يحيون على ضفاف الفولجا حياة زراعية بحتة، واعتاد هؤلاء الغزاة هذه الحياة، ولكنهم راحوا يفقدون لغتهم ومميزاتهم العنصرية. على الرغم من احترافهم الزراعة، وتحضرهم).
ويذكر يا كويوفكسي أن غزو الكبشاك، لم يوفق التجارة بين حوض الفولجا الأسفل والأقطار الإسلامية، تلك التجارة التي كانت منتعشة قبل مجيئهم. وبعد ذلك يمضى في تأييد ما ذهب إليه عن كيفية إسلام الكبشاك حين يقول:(وفي نفس الوقت الذي كانت التجارة آتية من الشرق، كان الإسلام يسير معها، مخترقا مدن الفولجا شيئاً فشيئاً. (وأن اعتناق سكان مدن الفولجا الإسلام، وخاصة المراكز المهمة، مثل بلغار وإتل (عاصمة مملكة الخزر السابقة)، كان نتيجة للأعمال التبشيرية التي قام بها التجار والصناع).
وما أشرت إليه في هذا المقال عن إسلام كبشاك حوض نهر الفولجا الأسفل، يتفق وما جاء في كتاب بار تولد عن إسلام برابرة العصر الذهبي. يقول بار تولد:(لقد كان لثقافة العالم الإسلامي العالمية في ذلك الوقت اثر كبير على إسلام رؤساء الأقوام الذين كانت العقائد المسيحية متغلغلة بينهم، أكثر من تغلغل الديانة الإسلامية بين الكبشاك. أما الأليانين (أو الأوسيتين اليوم فقد كان يصفهم المؤرخون بأنهم مسيحيون. إلا أن ابن بطوطة الرحالة الإسلامي الشهير قابل في سراي (وهي عاصمة مملكة البرابرة)، وتقع في مجرى الفالجا الأسفل، قسيما من الألينين الذين اعتنقوا الدين الإسلامي).
ويصف بعد ذلك بار تولد إسلام ببرك خان شقيق مانوخان (مؤسس عصر البرابرة الذهبي). والذي حكم من 1254 - 1266، واشتهر بتعلقه الشديد بالدين الإسلامي، يقول
بار تولد: (ولم يكن الخان مسلماً فحسب، بل كانت زوجاته من واتباعه مسلمين أيضاً. لقد كان لكل أمير، ولكن زوجة زوجاته مؤذن وإمام خاص، وكانت هنالك مدارس لتعليم الصبيان القران الكريم).
ولقد تم عمل من هذا النوع في مدى عشرين سنة من استيلاء المنغول على حوض نهر الفالجا الأسفل. ولم يكن مثل هذا العمل ممكناً، لو لم يكن الإسلام منتشرا في تلك الأماكن قبل مجيء هؤلاء الغواة الوثنيين.
غرفة التجارة: بغداد
علي محمد سرطاوي
2 - عالم الذباب
بقلم المرحوم الأستاذ معروف الرصافي
يريد الدكتور بهذا الكلام أن الأمر بغمس الذبابة كلها يدل على أن الداء والشفاء موجودان في الجسم كله لا في الجناحين فقط، وإلا لزم أن يأمر بغمس الجناحين فقط، فنقول أن الأمر بغمس الذبابة كلها صحيح، ولكنه لم يأمر بذلك إلا لأجل أن يغمس الجناح الذي فيه الشفاء لأن الجناح الثاني والجسم منغمسان في الشراب وهل من المعقول أن يأمر بغمس المغموس؟
كيف يمكن غمس الأجنحة وحدها حتى يأمر به الرسول؟ أن غمس الجناحين فقط لا يمكن إلا يمكن إلا بصورة واحدة، وهي أن نلقى على ظهرها، ونمسكها بالمنقاش من يدها ورجلها، ثم نضعها وتأن على شراب حتى ينغمس فيه جناحاها فقط دون سائر جسمها، ولا ريب أن هذا متعذر بالنسبة إلى سائر الناس، فكيف يأمر بغمس الأجنحة وحدهما كما يقول الدكتور؟
ويقول في عبارته المتقدمة: (مما يدل على أن الداء والشفاء في الجناحين أمر اعتيادي لا يفيد التخصيص والأمر يغمسها يؤيد ذلك، وهل لأجل تطهير الشراب من الجراثيم وذلك بإدخال البكتريوفاج من جسم الذبابة).
يريد الدكتور بعبارته هذه المضطربة أن يفهمنا أن الجناحين إنما ذكرا في الحديث جريا على العادة، لأن العادة تقضي بوجود الجراثيم المضرة والنافعة في الجناحين أيضاً، توجد في جسم الذبابة؛ فعبارة الحديث لا تفيد تخصيص الجناحين بالجراثيم، بل جاء ذكرهما اعتياديا. هذا هو مراد الدكتور من عبارته هذه فنقول:
قد تقدم ما يفيد بطلان هذا، ولكنا نكرره لمزيد الإيضاح. إن عبارة الحديث تنص على أحد الجناحين بالداء، والآخر بالشفاء. وبيان ذلك أن الحديث أمر أولا بغمس الذبابة كلها ثم بين سبب الغمس وحكمته بقوله أن في أحد الجناحين داء وفي الآخر شفاء، وبين أيضاً أن الذباب عند وقوعه يتقى بالجناح الذي فيه الداء أي يقدم الجناح الذي فيه الداء فيكون منغمسا في الشراب ويبقى الجناح الثاني الذي فبه الشفاء خارجا غير منغمس. فإذا غمس الذبابة كلها، الحاصلة من انغماس الجناح الأول ولولا تخصيص أحد بالشفاء ولآخر بالداء
لكان الأمر بغمس الذبابة عبثا لأن جسم الذبابة مع أحد جناحيها قد انغمس في الشراب فلو كان الشقاء في الجسم كله لم تبق حاجة إلى الأمر بالغمس.
إن هذا المعنى في عبارته الحديث واضح جلي يفهمه كل من سمع الحديث ولو كان أعجميا، ولكن الدكتور حفظه الله يقول إن عبارته الحديث لا تفيد التخصيص إنما جاء ذكر الجناحين اعتياديا جريا على العادة التي تقضى بوجود الجراثيم في الجناحين كوجودهما في الجسم، مع أن العادة تقضي خلاف ذلك، لأن الجناحين يكونان بحكم العادة وبحكم الضرورة أبعد أعضاء الذبابة عن الجراثيم لأنهما لا يباشران المواد التي تقع عليها الذبابة بل يكونان في أعلى الذبابة بعيدين عنها.
ولا شك أن أول شيء من الذبابة يباشر المواد التي تقع عليها هو يداها ورجلاها، ثم بطنها وصدرها، ثم سائر جسمها، ثم جناحاها إذا كلت المادة التي تقع عليها من السوائل، ولكن الحديث يقول إن يقدم الجناح الذي فيه الداء فيه الداء ويؤخر الجناح الذي فيه الشفاء، فينغمس الأول ويبقى الآخر غير منغمس، فلذا أمر بغمس الذبابة كلها لكي يغمس الجناح الذي فيه الشفاء أيضاً.
إن عبارة الحديث لا يغرب معناها عن فطانة الدكتور، ولكنه اخذ يتحمل في التوجيه ويتعسف في التفسير لكي يقربها من المعنى الذي يريده هو. إلا أنه رغم هذه التحملات، بقي فلق الخاطر، غير مطمئن الضمير، لأنه يعلم حتى يجعلها مقراً للجراثيم أكثر من سائر الأعضاء؟
والظاهر أنه فكر طويلا حتى وجد طريقا إلى حل هذا المشكل فقال: (وبما أن الذبابة تمسح دائماً رجليها بأجنحتها كانت الأجنحة لذلك مقرا للبكتريايوفاج وللجراثيم أكثر من غيرها من أعضاء الذبابة. فلله دره ما أقدره على قلب الحقيقة بالكلام المجرد. بقول إن الذبابة تمسح رجليها بأجنحتها، إن الباء في هذه العبارة مثلها في قولهم كتبت بالقلم أي هي للاستعانة، فالمسموح الرجل. والماسح الذبابة، والجناح هو لآلة، المسح والظاهر أن المسح يكون بظهر الجناح لا ببطنه، لأن الذبابة إذا خفضت جناحيها وأنزلتها إلى ما تحت رجليها، كان ظهر الجناح الرجل بالطبع، إذ لا تستطيع الذبابة في هذه الحالة أن تقلب جناحيها إلى حيث يكون باطنها إلى الأعلى، وظاهرا إلى الأسفل. ومهما يكن فجناح الذبابة على هذا أصبح
منديلا لها تمسح به رجلها.
إن الدكتور قد أثبت للذبابة بهذا القول طبيعة لا يعرفها الناس، ولم يستند في إثباتها إلى قوله علمي من أقوال علماء الحشرات الذين درسوا حياتها وعرفوا طبائعها وأحوالها، وقد تكلم هو في الفصل الخامس من رسالته عن خواص الذباب وطباعه، فلم يذكر فيه شيئا من ذلك.
لا يقال إن في عبارة الدكتور قلبا، و ' ن أصلها هكذا: إن الذباب وهما في اتجاههما إلى الأسفل معقوفتان إلى الأمام، وليس في استطاعتها أن ترفع رجلها إلى ما فوق جناحها فتمسحه بها، ولا أن تخفض جناحيها إلى ما تحت رجلها فتمسحها به إذ ليس ذلك من طبيعة الذبابة، فمن المحال عادة وطبعا أن يمسح الذباب أجنحة بأرجله أو أرجله بأجنحته، وإنما المعروف من طبيعة الذباب من قديم الزمان هو أنه يحك إحدى ذراعيه بالأخرى كما ذكره عنترة في معلقته، ولم يشاهده أحد يحك إحدى رجليه بالأخرى؛ ولا يحك بجناحيه رجليه، وقد شاهدته أنا في بعض الأحيان يمسح وجه بذراعيه ويمر بهما على رأسه. فمن أين اخذ الدكتور هذا القول عن طبيعة الذباب وكيف تكون أجنحته مقر للجراثيم أكثر من الأرجل والأيدي التي هي متصلة مباشرة بالمواد التي يقع عليها الذباب.
والمشهور عن الذباب أنه ينقل الجراثيم بأرجله وبأيديه، لا بأجنحته، والدكتور نفسه قد ذكر ذلك في رسالته فقال الصفحة (44):(وعلاوة على ذلك تنقل الذبابة الجراثيم برجلها ويديها المكسوة بالشعر) ثم قال: (ومما يجدر بيانه هو أن قدمي الذبابة وكيفتها تشبهان خف البعير، عليهما شيء يشبه الشعر أو الوبر، وهذه تفرز إفرازات لزجة فتلتصق الجراثيم عليها وتستطيع الذبابة بهذه المادة اللزجة وبفضل هذا الخف، أن تقف على السقوف والجدران بأي وضع شاءت).
وعليه فإذا كانت أيدي الذبابة وأرجله كما يقول الدكتور تفرز مادة لزجة؛ وعليها شيء يشبه الشعر أو الوبر، كانت بلا ريب مقر للجراثيم أكثر من سائر أعضائها، لذلك، ولأنها أول ما يباشر الأقذار التي عليها الذباب فكيف تكون الأجنحة مقرا للجراثيم أكثر من أيديها وأرجلها؟ سؤالان، هل البكتريافاج موجود في الذباب دائماً وأبدا؟ وهل هو شاف لجميع الأمراض؟
نريد أن نجيب على هذين السؤالين بما علمناه وفهمناه من كلام الدكتور في رسالته لأننا لسنا من أهل هذا الفن، ورحم الله امرأ عرف قدره ولم يتعد طوره، فلذا نرجو من القارئ أن يقرأ أولاً ما كتبه الدكتور في هذا الباب خاصة في الفصل الحادي عشر من رسالته ثم ينظر فيما نقوله هنا، ويحكم بما شاء.
للكلام بقية
معروف الرصافي
رسالة الشعر
صلاة جنازة
للأستاذ عبد اللطيف النشار
هذي صلاة جنازة: الله أكبر
…
فتياننا قتلوا وهل يبقي المعمر
سبق المقدم منهمو والله أكبر
…
ومش على آثاره من سبق المؤخر
الله أكبر
الله أكبر ما الطغاة بمدركي
…
قتل الجميع. وهبهمو فالله أكبر
لن يخضع المصري بعد لبغيهم
…
فليأخذوها بلقعا والله أكبر
الله أكبر
وعزاؤنا أن العدى نكبوا بأكثر
…
ورجاؤنا أنا بإذن الله نثأر
شهداؤنا سنوا لنا ما ينبغي
…
لمجاهد والعمر في قدر مقدر
والله أكبر
جيش من الأعداء دبر ثم قدر
…
واختار خطته التي تخزي المدبر
فرمى العدو جنازة تسعى إلى
…
قبر ولولا أمنه منها تقهقر
الله أكبر
أمن العواقب فانبرى يعوي ويزائر
…
فانسل منا كل قسورة غضنفر
جملوا العدو على الفرار مغادرا
…
قتلي ولكن بين ضباط وعسكر
الله أكبر
لم يدفنوا من شيعوه ميتا:
…
من قبله دفن العدى حيا تنمر
والموت يخفى نفسه حينا ويظهر
…
والموت بعلن نفسه وسط المعسكر
الله أكبر
بين الضحايا من بنى مصر فتى
…
دون البلوغ فعمره تسع وأشهر
شق الصفوف إلى العدو مقاتلا
…
فأصاب ضعفي بطولة فيهم وأكثر
الله أكبر
ترك النعوش حماتها وتدفعوا
…
كالسيل في ثغرات جيشهم المظفر
فإذا جنود المعتدين تفرقوا
…
ومشيعو الموتى على النكبات أصبر
الله أكبر
ومجلبب طفل رمى جلبابه
…
بالنقط وحي التو لا أمرا مدبر
ماذا تحاول يا (نبيل) فلم يجب
…
أيجيبني من جسمه لهب مستعر؟
الله أكبر
وتلقفت منه خيام عدونا
…
مثل الشرارة في لظى نارتزمجر
فحما غدا أعداؤنا متضرما
…
وغدت خيامهمو بمقلبهم تذكر
الله أكبر
يا رب لا تغفر ولا ترحم ولا
…
ترسل على الدنيا سوى اللهب المدمر
كاد الحليف حليفه في عالم
…
معروفه هذا وفي المعروف منكر
الله أكبر
عبد اللطيف النشار
في موكب الشهداء. . .
للأستاذ محمد علي جمعة الشايب
قلوب دهاها الحزن فهي تذوب
…
ودمع، ولكن جمرة ولهيب
أرى النيل يسعى باكيا ملء جفنه
…
وللموج لطم موجع ونحيب
وتلك المروج الخضر تبدو كأنها
…
مواكب موتى في البلاد تجوب
فلا الزهر بسام يميل صبابة
…
ولا تطير نشوان الجناج طروب
أعيني مالي أبصر الطير شاديا
…
ولكنه في مسمعي تعيب
طوى الروض من أحزانه ثوب عرسه
…
وران على وجه النهار شحوب
سل الوادي الولهان ماذا أصابه
…
يرد أسيفا والدموع نجيب:
بواكير من زهر الشباب تساقطت
…
وصوح دوح للبلاد رطيب
أسود سعوا نحو الخلود بهمة
…
لها بين أنياب الحتوف وثوب
مضوا شهبا تحيي الأمان بنورها
…
وتهوى إلى قلب العدا فتصيب
بأي ذنوب قد أراقوا دماءهم
…
وليس لهم إلا الفداء ذنوب
لئن كان حب النيل ذنبا يرونه
…
فلسنا ورب النيل منه نتوب
ألا إن شعبا قد أناموه قد صحا
…
ولابد من بعد المنام هبوب
محمد علي جمعة الشايب
الينابيع الجديدة
للشاعر محمد الفيتوري
أتخمت قيثاري بهذا الحب، هذا الضعف، هذي اللعنة السوداء
واليوم يوم المحرقين دماءهم
…
في مذبح الحرية الحمراء
لا تلهمينيه غناء. . مائعا
…
متناوحا متماوت الأصداء
لكن أعاصير ممردة الذرى
…
وحرائقا ممتدة الأرجاء
فالويل كل الويل للشادين بين مآتم الأموات والأحياء
الراقصين على الطريق، مشيدا بجماجم التعساء والبؤساء
والويل للمتوشحين بنورهم
…
وربيعهم في ظلمة الفقراء
الباسمين إلى الحياة وحولهم
…
أمواج نهر الأدمع الخرساء
والويل للمتوحشين صباحهم
…
ومسائهم في حيرة الضعفاء
الراقدين على الحرير وغيرهم
…
متوسدين سواعد الظلماء
لا تلهمينيه غناء مائعا
…
متناوحا متماوت الأصداء
فالويل للفن الذي لم يستجب لموجع البشرية الصفراء
والويل للنسيم الذي لم يحترق
…
ليعود عاصفة من الأنواه
والويل للنهر الوديع المستحم بضعفه من قوة الدأماء
والويل للسفح المجلل بالدجى
…
من سخريات القمة الشماء
والويل للميت الذي لم ينتفض
…
في قبره ليعود في الأحياء
يا أيها الشعب العظيم وإنما
…
أدعو ألوهة روحك المتمرد
القيد قيدك أنت نار حديده
…
لا صنع جبار ولا مستعبد
فإذا تشاء سحقته فتلقفت
…
ذراته ريح العتاد الأسود
وإذا تشاء غصصت أفواه الردى برمائم المعبود والمتعبد
فاهتف بأشواق الحياة تجبك أصوات الحياة بقلبها المتوقد
وازحف على ظلمات يومك ينبثق
…
نور الغد القدسي من قبل المتوقد
تلك النباتات المدنسة التي
…
كم عانقتك بشوكها المتجرد
لست الذي يثنيه شوك جذوعها لا كنت إن لم تقتلعها باليد
أنا لن أنوح عليك لن أبكي على
…
نيران المستغرقات الهمد
لا زلت المح في رمادك قوة
…
إن تنطلق تطفئ صباح المعتدى
وأحس في معنى سكونك رعدة
…
ياويح أحلامي إذا لم ترعد
يا رعشة الأشواق أشواق إلى
…
جيشان أرضك بالدم المتسعر
ولو ائك المخضوب يخفق شامخا
…
كجناح نسر في الأصائل مبحر
والأوجه السمراء في جبهاتها
…
وعيونها إبماضة المتجبر
والأزرع المتجمدات وقد
…
تعرقها انتقام المارد المتحرر
حقل من النيران والدم صارخ
…
بزوال مجد الغاصب المستعمر
وبناء إنسانية لم تحتقر
…
ضعف الضعيف ولا أنين المعسر
لم تبن جنتها الجميلة بين
…
آلام الأجير وضحكة المستأجر
لم تبتدع يوما رسوم سقوفها
…
فرشاة مصدور ولا متكدر
لم تجر أنهرها وخلف سياجها
…
تفني الألوف من الهجير الأكبر
لم تزه كرمتها ويحن نخيلها
…
والجوع يعصف بالجسوم الضمر
فهناك يا شعبي ستنبت فرحتي
…
في مهجتي وتعود رقة مزهرى
ويعود بلبلك الجميل معطرا
…
بغنائه قلب الربيع الأخضر
محمد مفتاح القيتوري
جارتي
للأستاذ عثمان حلمي
كان لي جارة بلوت أذاها
…
ساء ني صبحها وساء مساها
تسبق الطير في الصباح بصوت
…
صاخب يسلب العيون كراها
صخب ما له حدود فقد قص
…
ر فيه أضرابها عن مداها
كل يوم لها عراك جديد
…
ورضاء وما يطول رضاها
وإذا ما انتهى العراك فما نس
…
مع إلا عويلها وبكاها
وعلا صوتها على كل مذيا
…
ع ودوى فما سمعت سواها
كلبها وابنها إذا هي صاحت
…
صيحة الشر يحكيان صداها
ولها طفلة أجارك منها الل
…
هـ إن أعملت على الصبح فاها
ولها خادم لها كل يوم
…
وقعة بالجوار من جراها
وكأني بديكها حينما يص
…
رخ يحكي من النداء نداها
كل تلك الأصوات مجتمعات
…
توفر النفس أو تزيد شقاها
ولقد حرت مثلما حار جيرا
…
ني فيها وكلهم من عداها
إن ضحكنا من حادث أزعجتنا
…
بطريف في أي كرب تناهي
وظللنا ندعو الذي خلق الخل
…
ق جميعاً أن لا يطيل بقاها
بيديه الخلاص إن شاء منها
…
وإذا شاء ردها لهداها
وتفقدت جارتي ذات يوم
…
وسألت الجيران ماذا عراها
فاصطخابات جارتي لا تدري
…
لا ولا رجع الفضاء صداها
وتساءلت ما دهاها فلم أل
…
ق مجيبا يجيبني ما دهاها
غير أني أسفت لما رأت عي
…
ني في دارها عجوزا سواها
فهي قد سافرت إلى غير رجعي
…
غير ما يستعاد من ذكراها
وأكيد فراقها وأكيد
…
أنني قد حرمت من ضوضاها
وكذا ساءني نواها كأن ال
…
نفس من بعدها يعز عزاها
عادة المرء في الحقيقة جزء
…
منه حتى في الشر لا ينساها
عثمان حلمي
المسرح والسينما
مسرحية (70سنة)
للأستاذ علي متولي صلاح
بدأ السباق يدق بين الفرقتين اللتين تنهضان بفن التمثيل في مصر، وأعني بهما (فرقة المسرح المصرح الحديث) و (الفرقة المصرية) في تقدم المسرحيات التي تتجاوب مع الموقف الوطني الجليل الرائع الذي تقفه البلاد هذه الأيام. وتتفق مع ما يجري في النفوس ويسري في العروق من لهفة حارة تستبد بالمصريين إلى التحرير والجلاء الناجز ووحدة الوادي بلا إبطال ولا إهمال.
أخذت الفرقتان تتسابقان في هذا، واغلب الظن أن ذلك التسابق سيستمر سجالا بينهما حتى تنجلي الغمة ويتحقق الرجاء، فلن تستطيع النفوس التي تتقد بالوطنية وتمتلئ بها أن نجد فضلة منها لقبول شيء دون ذلك!. . . وكان فضل السبق في هذا المضمار للفرقة الأولى دون شك، فقد تركت ما كانت أعدته للموسم من مسرحيات أخرى وأسرعت تلتمس ما يؤدي المعاني الوطنية التي فارت بها مشاعر الناس وملكت عليهم أمرهم وسواء أوفقت في ذلك أم جانبها التوفيق فلن يسلبها هذا فضل السابقين الأولين من المجاهدين!. . . قدمت - فيما قدمته - مسرحية تصور حادثة من حوادث التاريخ المصري الحديث، فقدمت الفرقة الثانية تصويراً للتاريخ المصري الحديث كله، وكأنها في ذلك تقول للفرقة أولى: أن كنت ريحا فقد لاقيت إعصاراً!!
ونسيت الفرقة المصرية أن الأمر في المسرح ليس أمر زحمة في الحوادث، وليس أمر قدرة على حشد اكبر عدد منها، فذلك مطلب يسير هين، وهو - فوق ذلك - ليس من الفن المسرحي في شيء! فرب لمحة خاطفة يصورها المسرح فيحس تصويرها، أدل على المعنى وابعد في النفوس أثراً من احتشاد الحوادث وتعاقبها وكثرتها!
قدمت هذه الفرقة مسرحية (70) فسردت فيها تاريخ الحركة الوطنية المصرية منذ سنة 1882من التاريخ الميلادي حتى يومنا هذا سردا متصلا متلاحقا انهرت معه أنفاس المؤلف وتكاثرت عليه الحوادث وتزاحمت من حوله الشخصيات، وكان هو حريصا على أن يعرض الحوادث والأشخاص جميعاً دون سهو أو نسيان - كما يقولون في عالم التجارة -
فاصبح لا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع. واستعان الله على هذا كله، ومزج المسرح بالسينما وبالكلام الطويل في الميكروفون، فجاءت المسرحية مسخا شائها عجيباً. وأنا استغفر الله من تسميتها باسم (مسرحية) فلا أجد ما اسميها به غير ذلك مع علمي بأن ليس لها من هذا الاسم نصيب.
نعم. إنه ليس من الفن المسرحي في شيء أن تساق الحوادث سوقها كأنها مطي تحت بالسياط فلا يربط بينها رابط، ولا توحدها حادثة أساسية متصلة تجذب انتباه المشاهد، وتؤجج شوقه إلى نهايته وفك عقدتها، مما تحتمه شرائط المسرحية الصحيحة كما عرفت منذ التاريخ القديم. . . وليس من الفن المسرحي في شيء أن يرى المشاهد حوادث التاريخ تترى كأنها موكب من مواكب الاستعراض لا اكبر ولا أقل! ويراها المشاهد مرة على صورة مسرحية متحركة ينهض بها ممثلون يتحركون على الخشبة ويلعبون أدوارهم أمام الناس، ثم مرة ثانية على شريط سينمائي يعرض أمام انتظارهم لتكمل به الحوادث، ثم مرة ثالثة يسمع الميكرفون وهو يتمتم ما عجز التمثيل والسينما معا عن أن ينهضا به من الحوادث التي ينوء بها العصبة أولو القوة، فيصل ما يوشك أن ينقطع على المشاهدين من الحوادث المتلاحقة!!
ونسى المؤلف الفاضل أن لكل واحد من هذه العناصر الثلاثة غرضا خاصا به واتجاها يتفرد به دون العناصرين الآخرين، ويختلف فيه عنهما اختلافا بينا، وأن الجمع بين هذه العناصر الثلاثة في صعيد واحد إنما هو استغاثة واستعانة من المسرحية الضعيفة التي عجزت عن القيام بمهمتها منفردة مستقلة معتمدة على نفسها فأخذت تطلب النجدة من هنا وهناك!!
ولعل المؤلف الفاضل يعلم أن محاولات قامت في أوربا للجميع بين الفن المسرحي والفن السينمائي معا على خشبة المسرح تمكينا له من أيراد عدد اكبر واضخم من المناظر، وتقريبا له من القدرة الكبيرة التي تتمتع بها السينما دونه، وأن تحويرات وتعديلات أدخلت على تركيب المسارح لتمكينها من ذلك أيضاً، ولكن ذلك جمعية باء بالفشل وخلص المسرح للتركيز في الأسلوب والحوار، وللإيحاء والخيال البديع، والإشارة دون الإفصاح الواضح. وخلص المسرح إلى قيم ومعالم ليس للسينما - وهي واقعية النزعة - أن تجارية فيها.
وتفرد المسرح بالأجمال وترك الحواشي وما إلى ذلك مما يجعل كلا من الفن المسرحي والفن السينمائي يختلفان فيما بينهما تمام الاختلاف، واصبح الرأي السائد الآن في احدث المذاهب أن الجميع بينهما إنما هو جمع بين الأضداد والمتناقضات. .
ولا ادري ما تهدف إليه هذه المسرحية وهي لم تزد على سرد التاريخ سردا خاليا من أي اثر للفن أو أي تجنيح للواقع؟؟ اللهم أن كانت تهدف إلى مجرد ذكر التاريخ الواقع المبذول بين أيدي الناس ففي الكتب المدرسية التي يقرؤها التلاميذ ما يربى عليها وما يفوقها دقة وأمانة وتفصيلا! وأن كانت تهدف إلى استثارة الناس بعرض التاريخ الذي يعرفونه عليهم فإن ملاك أمر في ذلك للفن قدمنا أنها خلت منه خلوا تاما! وأن كانت تهدف إلى أن تشارك في تقدم ما يتفق والشعور الوطني الحاضر على أية صورة - فيجب أن تعلم أن عليها أن تفعل ذلك في حدود المراسم والفن المسرحي الذي تتسم به وتقوم عليه. .
هذا - واجب أن اهمس في إذن المؤلف الفاضل بهذه الملاحظات اليسير ابتغاء أن يتدبرها: -
1 -
لماذا أغرم المؤلف بإبراز وفاة الكثير من أبطال المسرحية أمام الناس حتى جعل من المسرحية جنازات متلاحقة مع أن وفاتهم جميعاً لم تكن تحمل معنى خاصا، فكلهم مات على فراشه وكان في حياتهم الكثيرة من المواقف الوطنية، اللهم إلا إذا كان المؤلف قد أراد بإبراز موت السابق ترشيحا لحياة اللاحق، وهكذا دواليك! فالموت - هو الخيط وهو الرابطة التي تربط أجزاء المسرحية!؟
2 -
كيف يستسيغ المؤلف أن يبعث الوطنية في نفس ابنة الباشا المقيمة معه في منفاه بإهدائها كتابا عن (جاك دارك) ثم يزيد فيشرح قصتها، وهي - كما يرى القارئ - استعارة غير مستحسنة من البطولة الأجنبية؟ وهل خلا التاريخ المصري أو التاريخ العربي من كل صور البطولة في النساء والرجال جميعا حتى يضطر المؤلف إلى استيراد بطولة من الخارج؟؟.
3 -
كيف يتفق أن يخطئ محمود سامي البارودي - وهو أحمد علام - في نطق أبيات قام هو بتأليفه! فيقول مثلا (أجفئ وأجتنب) بيننا الثاني للمعلوم والصواب أن ينطقه مبنيا للمجهول؟ ويقول (النشب) بكسر الشين والصواب بفتحها وتلك أخطاء لا تجوز على
التلاميذ المبتدئين بله محمود سامي البارودي!!.
4 -
كيف يتف أن يرشح مصطفى - وهو يحتضر - محمد فريد للزعامة بعده ويوصى إخوانه وزملاءه بذلك علانية، ثميستدعيه ويجلسه أمامه مجلس التلميذ ويلقي عليه سيلا من الأسئلة عن وطنيته وهدفه ومبدئه وشعاره وعما هو الاحتلال! وغير ذلك من الأسئلة التي لا نراها تلقي إلا على تلاميذ المدارس حتى حسبناه سيستطرد إلى سؤاله عن اسمه وأسم أبيه وسنه وعنوانه وما إلى ذلك! وهي إلى ذلك أسئلة وأجوبة لا تنطوي على معنى غير مفهوم لعامة الناس ولا تزيد على معلوماتهم العادية، وهي إلى ذلك أيضاً تلقي على زعيم أعلن ترشيحه للزعامة!.
5 -
لماذا - وقد كان كل غرض المسرحية استيعاب الحوادث جميعا - أقول لماذا أغفلت الكثير من الحوادث الكبيرة كيوم13 نوفمبر وهو الشرارة الكبرى التي انبعثت عنها نيران الجهاد والكفاح؟ وأغفلت الكثير من الزعماء الذين كان لهم تأثير كبير في مجرى الحوادث بمصر مثل: عدلي يكن وعبد الخالق ثروت ومحمد وإسماعيل صدقي وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وسواهم؟ اللهم إلا إذا أريد بذلك مما لأة الحكومة القائمة وهو أمر إن جاز في عالم السياسة فلا يجوز في عالم الفن.
6 -
يعلم المؤلف أن المسرح للناس جميعا فكيف يجبر استعمال اللغة الإنجليزية في بعض المواقف وهو يدري أن بعض الناس يجهلها؟ وإذا كنا نعيب اللغة العربية نفسها على المسرح إذا جنحت إلى المبالغة في الفصاحة والجزالة لأن المشاهد العادي يعيا بفهمها فكيف نسمع للغة الإنجليزية بالظهور فوق المسرح؟ إلا إذا كان ذلك تمشيا مع المسرفة التي التزمها المؤلف في المسرحية جميعا، ناسيا أن المسرح ليس (الواقع) ولكنه كما قال الأستاذ زكي طليمات بحق في كلمته الجامعة (استثارة الواقع)!!
علي متولي صلاح
البريد الأدبي
أخوة الأم لا يرثون:
نشرت منبر الشرق بالعدد 675 في باب الإفتاء فتوى لصاحب الفضيلة المفتي السابق رداً على سؤال تضمنته (أن متوفاة تركت بعدها أماً وبنتاً لأب وأخوة لأم ذكورا وإناثاً فما نصيب كل واحد منهم) فأجاب فضيلته.
(إذا كان الأمر كما ذكر بالسؤال فللأم السدس فرضاً لوجود الفرع الوارث، وكذا جمع من الأخوة، وللبنت النصف فرضا، وللأخت لأب السدس تكملة للثلثين، وللأخوة للأم الثلث يشتركون فيه بالسوية. فالمسألة من ستة وعالت إلى سبعة. فقسم التركة سبعة أسهم للأم سهم ثلاثة وللأخت لأب سهم وللأخوة للأم سهمان).
وهذا خطأ في التوريث وصحته في هذه المسالة علي النحو الآتي للأم السدس ووللبنت النصف وللأخت للأب الباقي تعصيباً وهو الثلث ولا شيء للأخوة من الأم لأنهم لا يرثون مع الفرع لأبن عابدين (ويسقط بنو الأخياف وهم الأخوةوالأخوات لأم بالولد وولد الابن وإن سفل، وبالأب والجد بالإجماع (وزاد صاحب - والمختار عند قول المصنف بالولد وولد الابن: (ولو أنثى فيسقطون بستة بالابن والبنت وابن الابن وبنت الابن والأب والجد، ويجمعهم كذلك الفرع الوارث والأصول الذكور) وفي شرح الشريف على السراجية صفحة 94 إلى صفحة 97 (وما لأولاد الأم فأحوال ثلاث: السدس للواحد والثلث للاثنين فصاعدا، ويسقطون بالولد وولد الابن وأن سفل، والأب والجد بالاتفاق) وإذا كان أولاد الأم لا يرثون مطلقاً مع الفرع الوارث فتقسم تركة الموفاة المشار إليها آنفا على النحو الآتي:
للام السدس فرضا الفرع الوارث وعدد من الأخوة، وللبنت النصف فرضا، وللأخت لأب الباقي تعصيبا؛ لأن الأخوات مع البنات عصبة، وتكون المسالة من ستة: للام سهم وللبنت ثلاثة وللأخت لأب سهمان ولا شيء من التركة للأخوة من الأم. ولا داعي للعول وزيادة السهام لأنه لا موجب لذلك إذ أن الأخوة لأم لا يرثون مطلقاً. وأرجو إلا رحب الرسالة عن نشر هذه الكلمة لوجه الحق.
الأقصر
علي إبراهيم القنديلي
لمن كتاب الاعتصام؟
جاء في مقال الأستاذ أحمد أحمد بدوي الذي نشر في عدد الرسالة الممتاز عن الشاطئ القراء هذه الفقرة (وللشاطئ كذلك كتاب الاعتصام، وهو في الفقه) وبهذا خلط الأستاذ الفاضل بين عالمين جليلين لقب كليهما بالشاطئ. أحدهما الشاطي القراء الذي كتب عنه الأستاذ يدوي. والثاني هو الإمام إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير بالشاطي. والمتوفى في القرن الثامن من الهجرة، وهو صاحب كتاب الاعتصام الذي نسبه الأستاذ الفاضل إلى الشاطي القراء المتوفى في القرن السادس من الهجرة.
ثم إن كتاب الاعتصام ليس في الفقه، بل في الحوادث والبدع الدخيلة على الإسلام، وهو كتاب جليل في بابه، وقد طبع في مصر مرتين.
عبد الرحمن الوكيل
تصحيح رواية حديث نبوي:
بدأ الأستاذ محرر (شموع تحترق) كلمته في جريدة المصري
بتاريخ 2311952 بقوله:
(قرأت في كتب الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في طريقه بمعلم يقسو على تلاميذه فقال له: رفقا أنجشة بالقوارير) أو شيئاً حول هذا.
والقوارير هم فلذات أكبادنا من صغار النشء رقاق النفس دقاق العظم صغار الأحلام لا يحسنون التقدير ولا يجيدون التدبير. . .).
وحرصاً على قداسة الحديث النبوي الشريف يطيب لي أن أذكر أصل الحديث ليظهر المعنى واضحاً كما أراده الرسول الكريم.
روى البخاري عن أنس قال: كانت أم سليم في الثقل وأنجشة غلام النبي عليه السلام يسوق بهن، فقال النبي عليه السلام: يا أنجش رويدك سوقك بالقوارير).
وكنى الرسول الطاهر عن النساء بالقوارير من لزجاج لضعف بنيتهن ورقتهن. والمراد أن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واشتدت فأزعجت الراكب ولم يؤمن على
النساء من السقوط، فأفادت الكناية من الحض على الرفق بهن ما لم تفده الحقيقة لو قال أرفق بالنساء يا أنجشة. فأنظر يا أخي إلى بلاغة الرسول الأديب الأعظم عليه أفضل الصلاة!
ومن ذلك يتضح أن أنجشة ليس بمعلم يقسو على تلاميذه كما قال الأستاذ المحرر، وإنما كان حاديا وراء الإبل وهي من عادات العرب تؤدي بأصوات طيبة وألحان رائعة!
ولعل الأستاذ رأي في رحلاته أو في قريته حادياً من الجمالين يحدو وراء إبله بغنوة جميلة متى كان في صوته رخامة ليقطع الطريق في راحة ويسر!
شطانوف
محمد منصور خضر
جمع ظفر
جاء في المقال القيم الذي دبجته يراعة الأستاذ الفاضل أحمد قاسم أحمد في عدد الرسالة الماضي بعنوان (الشعب المقلم) هذا التعبير (نشأ جيلا له الأصابع وليست له الأظافر) وقد لفت نظري جمعه لكلمة (ظفر) على (أظافر) مع أن الذي أعلمه من كتب اللغة أن الجمع الصحيح هو أظفار جمع ظفر وأظافير جمع أظفور ولا شيء سواهما، وهذان الجمعان وحدهما هما اللذان ورداً في الصحاح للجوهري وفي القاموس المحيط للفيروز ابادي، فهل لدى الأستاذ الفاضل دليل آخر من كتب اللغة يثبت صحة هذا الجمع أن أنه سها عن الجمع الصحيح وطمأن إلى الخطأ الشائع؟ إن كانت الأولى فإنني أرجوه - شاكراً له الفضل - أن يتكرم فيدلنا على المرجع الذي منه أستقاه؛ وإن كانت الثانية فلا ضير عليه، فإنها كبوة الجواد، وله الفضل على كل حال.
عبد المؤمن محمد النقاش
آداب النقد
في الأدبي بالعد 967 من الرسالة الغراء تعقيب للأديب الفاضل صلاح الدين حسن على ما ورد في مقال (القوة في نظر الإسلام) للأستاذ كامل السوافيري، المنشور في العدد 965
من الرسالة. . . فجعل عليه لأنه حرف الآيات الكريمة التي أستشهد بها.
1 -
قال الأديب الفاضل: إن آية البقرة هي. . كتب عليكم القتال. . الخ) بدون (يا أيها الذين آمنوا. وهذا صحيح. . ومع ذلك فالكاتب لا يستحق كل هذا اللوم (المؤدب) الذي ختم به الأديب تعقيبه؛ لأنه من المعلوم أن سورة البقرة مدنية، وتوجيه الخطاب للذين آمنوا من سمات السور المدنية. وشيء آخر هو أن هذه السورة ورد فيها ما يدعو إلى التشابه والتداعي من مثل: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص. الآية، يا أيها آمنوا كتب عليكم الصيام. . الخ والقرآن غالب لا يغلب.
2 -
ذكر الأديب أن الكاتب (استشهد بالآية 28 من سورة محمد. وصحتها محمد رسول الله والذين لآمنوا. . الخ).
وإذا كان الكاتب قد أخطأ المعقب. . الحصيف مرتين.
أولا: - أن الصواب هو: (محمد رسول الله معه أشداء. . الخ).
ثانيا: - أن الآية ليست من سورة (محمد) وإنما هي خاتمة سورة الفتح!
ويبقى بعد ذلك الفرق بين من لم يستعن بالمصحف فأخطأ، وبين من استعان بالمصحف وخطأ، فأخطأ. . .!
ويبقى بعد ذلك الفرق بين من لم يستعن بالصحف فأخطأ، وبين من استعان بالمصحف وخطأ، فأخطأ. .!
وأما اللوم والتأنيب الذي أفاض فيه المصحح فنتركه، أملين أن يحاسب نفسه، قبل يحاسب الناس، ولأن يستعين بالمصحف لينتقل إلينا الآيات لا زيادة فيها ولا نقصان كما وردت في كتاب الله). . كما يقول. .!
محمد فوزي العنقيل
عزل بضم فسكون
تتردد على الألسنة في هذه الأيام، وحتى من رجال الإذاعة المثقفين ثقافة عالية عبارة (اعتدى البريطانيون على العزل الآمنين) فينطقون العزل بتشديد الزاي؛ وهو مخالف للصواب والأساليب العربية الصحيحة. وبالرجوع إلى قواعد اللغة نراها تقول:
إن أفعل فعلاء ومؤنثة بجمع على فعل بضم الفاء وتسكين العين، مثل حمر - بضم فسكون - جمع أحمر حمراء، ونقول رجل أعزل، ومرأة عزلاء، وهؤلاء الرجال عزل بتسكين الزاي - والنساء عزل كذلك. فالواجب إذن أن ننطق العبارة نطقا سليما صحيحا هكذا. . اعتدى البريطانيون على العزل - بإسكان الزاي - الآمنين).
محمد عبد المنعم أبو سيف
رسالة
أستاذنا محرر الرسالة
أرجوك نشر هذه المقالة
لمجد شعب يأخذ استقلاله
بالعزم والقوة والبسالة
مناضل مستعذب نضاله
وثائر محطم أغلاله
مستضحك للموت إن بداله
والموت في الحق هو النبالة
ياحبذا
(مهداة إلى الكاتب الفاضل الأستاذ أحمد الشرباصي)
يا حبذا هذا الجها
…
د، وقل معي يا حبذا
قد قالها شعب إذا
…
ما قال قولا نفذا
شعب عليه كل شع
…
ب في الوجود تتلمذا
شعب سمت آثاره
…
وعلى الخلود استحوذا
يحمي الحقيقة كلما
…
لج الزمان وشعوذا
ويرى الكرامة أن يمو
…
ت مناضلا مستنقذا
فشعاره: لا يعلم الشرف الرفيع من الأذى
توفيق عوضي
القصص
الجنية العاشقة
للكاتب الفرنسي أميل زولا
أرهفي أذنك يا نينون! إن مطر ديسمبر يلطم الزجاج، والهواء يرسل أنينه، ويردد شكواه. . إنها أمسية من الأماسي الباردة، التي يقضقض البائس فيها من القر، أمام قصر الغني الغارق في اللذائذ تحت توهج الذهب!. . . اخلعي حذاءك هناك. . . وضعي حليتك الثمينة هنا. . وتعالي إلى أحضاني، فسأروى لك قصة من أروع قصص الجان.
نينون! هناك على ذروة الجبل قصر عتيق ساد الظلام فيه وجثم الحزن فوقه. . ما ترين إلا أبراجاً صاعدة نحو السماء، وأسوار منيعة شماء، وجسوراً متحركة جهزت بالسلاسل، وملئت برجال أولى بأس شديد، لبؤسهم الحديد، يسهرون الليل والنهار على الشرفات، ولا يجدون راحة أو سلوة إلا بجانب سيد الحصن الجبار، الكونت أنكيرون.
لو كنت رأيت ذلك الكونت يا نينون، وهو يتنزه في مماشي القصر الضيقة، وسمعت قرقعة صوته بندر بالوعيد، إذن لأصابك الجزع، واضطربت كما تضطرب أوديت أبنة أخيه؛ تلك الحسناء الرعبيب التي تفتحت أنوثتها بين فرسان قساة، كما تتفتح زهرة الأقاح، إذا تنفس الصبح، تحت قبلات الشمس الضحوك بين أشواك الجبال.
كانت وهي طفلة، إذا أبصرت عمها الشيخ، وقد ضمت إلى صدرها الدمى زرت، عيناها وهبت مذعورة. تذرف الدمع. أما الآن فهي في ربيع الحياة. إن ثدييها يا فتاتي يبثان الشكوى ويرسلان الآهات. وما يزال الخوف يستولي على نفسها كلما طلع أمامها هذا المحارب القديم. . .
وكانت تأتي إلى برج بعيد، تتلهى فيه بحياكة أعلام ورايات فإذا أعياها هذا العمل الموئس لجأت إلى الله تبثه حزنها وتدعوه، أو قلبت طرفها في السماء الضاحكة وسرحت بصرها في المروج الحادرة. . . وكم من المرات، يا نينون، كانت تقوم من مهجعها وقد سجا الليل وهف النسيم لتنظر إلى النجوم. . . وكم من المرات كان قلبها يخفق لهذا المشهد الساحر، ويحن إلى تلك المروج المتوائبة نحو الأفق البعيد، ثم تسائل الكواكب عن ذاك الشيء الذي يتلاعب بروحها ويثير شجونها. . .
ودت بعد تلك الليالي التي ساهرت فيها النجم وبعد ذلك الحنين اللاهف للحب لو أنها ضربت يوما عنق هذا الفارس الهرم فوقصتها ولكن، وأسفاه! ما كان لها حول ولا قوة. . . إن كلامه جاف يرعب، وإن نظراته جامدة تفزع. . . فكانت تأخذ الإبرة مضطربة الحواس واجفة القلب وتعود إلى وشيها الشاق!
إنك تأسفين، يا نينون، يا نينون، لتلك الحسناء، إنها كالزهرة الريانة ذات العبير الطيب والأريج الشذي التي يصدف الناس عن رائحتها ويلهون عن جمالها. . .!
كانت ترنو يوما بعينين حالمتين إلى قمريتين تريدان الهرب من الحصن، فسمعت صوتاً عذباً يتعالى عند باب القصر، فانحنت من الكوة، وإذا شاب حلو القسمات وسيم المنظر، تأنس العين لمرآه، يطلب المبيت، مرسلا أنشودة بصوت رخيم ما فهمت لها معنى ولكن خفق لها قلبها. ورأرأ الدمع في عينيها، ثم فاض. . . فساقطت دراً من نرجس، وبللت غصنا من المارجولين كان بين يديها. .
وساد سكون عميق، وبقيت الأبواب مغلقة. ونادى فارس من أعلى الأبراج قائلاً.
أذهب وشأنك أيها الغريب، فليس هنا سوى فرسان محاربين. .
وهم الطارق أن يذهب. ولكن أوديت، التي علق بصرها به، فما يطرف أو يتحول، تركت الغصن رطباً بالدمع، يفلت منها، ليقع تحت أقدامه ورفع الشاب رأسه، فإذا وجه صبوح بطل عليه. . . والتقط الغصن ليشبعه لثماً وتقبيلا. ثم ابتعد عن القصر، وهو ينظر كل لحظة إلى الفتاة.
فلما غيبة الطريق المنحدر قامت أودية تدعوا الله وتصلي له، ثم شكرت للسماء وأحست السعادة فرقصت فرحاً وهي لا تدري لكل ذلك سبباً. . .!
فلما كان الغسق جلست إلى رابة تصلحها، وهي تفكر في ذلك الفتى، ثم داعب النعاس أجفانها فأذبلها وارتمت على فراشها. . . واستسلمت لنوم غرق مضطرب، ورأت حلما. . . إنه حلم ساحر يا نينون! خيل إليها أنها ترى غصن المارجولين الذي أفلت من يديها، وإذا بجنية، ما رأت العين أجمل منها تخرج من زهرة تتفتح بين أوراق الغصن المرتعشة. ولها أجنحة من اللهب، وتاج من الأزهار، تتدثر برداء أزرق، لونه رمز الأمل، وتناديها بصوت حلو النبرات:
أوديت! أنا الجنية العاشقة! أنا التي أرسلت إليك لويس هذا الصباح ذاك الفتى ذا الصوت الحنون. . . أنا التي، وقد رأيتك تذرفين الدمع، جئت لأجففه. . أضرب في الأرض، وأؤلف بين قلوب العاشقين!. . . أزور الكوخ، كما أزور القصر، وأجمع عصا الراعي إلى صولجان الملك. أنا التي أزرع الورد تحت أقدام المحبين. .! ثم أربط بينهم ببنتين تختلج القلوب لهم فرحاً. أعيش بين الأعشاب، وفي جذوة الموقد المتآكلة، وتحت رفارف أسرة الأزواج. .! وحيث أضع قدمي فهناك يقوم حديث الغزل، ويكون همس القبل! لا تبكي أوديت، فقد أتيت لأجفف دموعك. . .
وعادت الجنية إلى الزهرة التي خرجت منها، واختفت هناك. .
أنت تعرفين يا نينونأن جنيتنا في الوجود. . انظري إليها ترقص في الموقد، وتألمي لمن لا يفكر بها.
واستيقظت أوديت وأشعة الشمس تنير غرفتها والعصافير تصدح بالأغاني والنسيم الصافي يداعب شعرها المغدودن الأشقر، وقد حمل عبير القبلة الأولى التي سرقها من الأزهار على عجل. فنهضت والنفس مفعمة بالفرح، وقضت يومها تغني تارة وتنفض الحقول أخرى، وترسل ابتسامة رقيقة لكل عصفور يحلق، والأماني تغريها فتقفز هنا وترقص هناك، ثم تضرب كفيها الصغيرتين بعضهما إلى بعض بقوة وسرور. . .
فلما كان الطفل تركت مخدعها، وهبطت إلى ردهة القصر الكبرى فوجدت فارسا يصغي إلى حديث عمها الكونت، فعمدت إلى مغزلها وانتبذت مكانا إلى جانب الموقد تسمع إلى صرصر يغني.
ونظرت إلى الشاب، فإذا غصن المارجولين بين يديه، يا الله! إنه لوئيس. . . وعلت وجنتيها حمرة ونضرة، وكادت ترسل صرخة، تدوي في فضاء الردهة، ولكنها انحنت على الموقد تؤرث النار فيسمع لها حسيس كأنه بث الأحزان، ويتمايل اللهب، ويفور الموقد، وتهيج النار. وفجأة ينجس من الموقد نور شديد وتظهر الجنية العاشقة، وقد افتر منها الثغر، ومال منها الجيد. . . فتجمع ثوبها الأزرق بين يديها، وتنطلق في الغرفة دون أن يراها أحد إلا أوديت. . .
أما الكونت فكان مسترسلا في حديثه بقص نبأ معركة هائلة وقعت مع الكفار، ويقول:
فتحابوا يا أولادي. . ودعوا أشباح الشيخوخة الزاهدة. أبقوا لها الأقاصيص بجانب النار المشتعلة، ولا تجمعوا الآن إلى زفير النار سوى وسوسة القبل. .! سيكون لكم يا أولادي من ذكرى هذه الساعات التي ذقتم بها اللذة ما يخيف أحزانكم وهمومكم فيها بعد. . . والمرء عندما يحب وهو في السادسة عشرة من عمره، فالكلام لا يجديه آنئذ نفعا. إن نظرة واحدة خير من خطاب طويل. تحابوا يا أولادي وتركوا الشيخوخة تتكلم. . .
وأظلت الجنية العاشقين بأجنحتها، فغدا الكونت لويس الحبيب، وهو يطبع قلبته الأولى على جبين أوديت الحبيبة المرتعشة!
نينون! يجب أن أتكلم لك على أجنحة جنيتي. . لقد كانت شفافة كالبلور، دقيقة كأجنحة الذباب، ولكنها أيضاً كانت تنقلب إلى ظلام دامس كثيف فلا يتجاوزها عندئذ رنين القبلات ووجيب الأفئدة. . . ليكون العاشقان بنجوة من العيون! وهكذا. . . وبينما الشيخ غارق في حديثه عن معركة المؤمنين والكفار، كانت معركة القبل قائمة بين لويس وأوديت. . .!
لقد حضن الجسم الريان، وقبل الخد الأسيل، ودغدغ النهد الناعم، وتمتع بالطرف الوسنان. . . والشيخ في حديثه غارق مسترسل. . .!
ليت شعري ما تلك الأجنحة. . .؟ إن الفتيات ليجدنهن أحياناً - كما قيل - فيأمن الأبوين ويتمعن بالحبيب، أحقاً ما يقال يا نينون. . .!
واختفت الجنية العاشقة، وقد أنهى الكونت قصته، وذهب لوئيس شاكراً لمضيفة الكونت. . . ونامت الفتاة تحفها السعادة، والأماني حولها حومترفرف، والعين قريرة والبال هادئ.
أما هذه الليلة، فقد رأت جبالا كلها أزاهير، زينت بالوف من الكواكب المصابيح نور كل منها أشد وضاءت من نور الشمس. . . .
وأصبح الغد، فلما متع النهار نزلت إلى حديقة القصر والتقت ثم بفارس حياها فردت له التحية، ولما ابتعد عنها نظرت إليه، فأذا غصن المارجولين معه رطب بالدمع. وها هي ذي أوديت تلتقي بالحبيب مرة أخرى. . . لقد عاد إلى القصر بعد أن تنكر بزي فارس. أواه يا نينون! لشد ما يكون السرور عظيما عندما تلقى الحبيبة بفتاها في وضح النهار. . .!
وأجلسها على مقعد مخضوضر من العشب تحت ظلال السنديان، واللسان صامت والعقل
شارد، وراحت العيون تتناجى. . . والأفئدة تصغي. . .
لن أقول لك يا فالتي ما تحدثت به شجيرات السنديان عندما رأت الحبيبين. إن في سماع الحبيبة وهي بين يدي الحبيب لذة، لقد جاءت الطير كلها تستمع إلى لحن الحب، وتبنى أعشاشها فوق تلك الشجرات. . .
وسمعت الفتاة على حين بغتة وقع أقدام الكونت وهو يمشي في الممر الطويل. ز فأصابتها الرجفة وانتظرت شرا مستطيرا. ولكن إن الينبوع لا يزال يرسل خريره الحلو الشجي، وها هي ذي جنيتنا الحسناء تأتي فتظلل العاشقين بأجنحتها والهواء رخي، ويختفيان عن الأبصار، ويعاودان حديث القبلات. . ويقترب الكونت، فيأخذ العجب! إنه ليسمع أصواتا ولا يرى أناسا!.
وانبرات الجنية الحسناء تقول:
- أنا حامية الحب، أضرب على من لا يجب غشاوة فما يسمع أو يرى! لا تخافا بعد اليوم أمرا، أيُها العاشقان الجميلان. . بل أجيبا داعي الحب في وضح النهار، والجو صاف وفي الليل والنسيم يرف، وبجانب الينابيع والأوراق تحف. أرسلني الرب لأصرف عنكم أذى الرجال، هؤلاء الساخرين من كل فضيلة، وحباني بأجنحة من الحب وقال: (اذهبي ولتتحاب القلوب! فيا بشركم. إني هنا أحمي الحب وأرعاه. . .
ثم ذهب تلتقط الندى غذاءها الوحيد تاركة وراءها الحبيبين، وقد علق فم بفم، واشتبكت كف بكف. .
وبقيا حتى الليل؛ فلما دنت ساعة الفراق ظهر الأسى في نظراتهما، فأسرت الجنية إليهما بقول يخيل أنه راقهما، فانبسطت أسارير، ولمست به جبيني العاشقين.
وفجأة. . . أوه! يا نينون. ما لك دهشت.
هكذا. انتظري سأتمم قصتي. . وفجأة انقلب لوئيس مع أوديت إلى غصنين من أغصان المارجولين! نعم من المارجولين الغض الزاهي. نبتا جنبا إلى جنب، ولا مست أوراق الأول أوراق الثاني، واشتبكا. هنا يا فتاتي. تتفتح أزهار لن يمد الذبول إليها يده، بل تبقى. . ويبقى أريجها متضوعا إلى الأبد.
والآن يا نينون، عندما نعود عند المروج الخضراء سنبحث عن أغصان المارجولين
وسنسألها في أية الزهرات تختبئ الجنية الحسناء. إن لقصتي يا صديقتي مغرى، وما كنت لأقصها عليك إلا لأنسيك مطر ديسمبر الذي يلطم الزجاج وأبعث فيك هذ1 المساء شيئاً من الحب. . . نحوي. . . أنا!
ص م