المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 971 - بتاريخ: 11 - 02 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٧١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 971

- بتاريخ: 11 - 02 - 1952

ص: -1

‌بين سبت وسبت

قال بعضنا لبعض بعد يوم السبت الذي خرب العامر وقوض السامر وأطفأ المضيء: ليس لنا من سبيل إلا أن نلوذ بالريف ريثما تعيد الوزارة الجديدة الأمن إلى النفوس والأنس إلى العاصمة.

وفي صباح يوم السبت الذي وليه كنا في الطريق إلى القرية؛ وكان الجو سافرا والنسيم فاترا والحقول بهيجة؛ ولكننا لم نكد نقطع بعض الطريق حتى برد الهواء وأضبَّت السماء وأنهمل المطر. وظل أنهمال المطر أربع ساعات متواليات تركت بعدها الطريق ترعة متصلة الماء بالسماء تجري فيها السيارة كما يجري الزورق البخاري في النهر. ثم كانت عاقبة هذا الغيث الهتون أن تخلص الجو من الغبار، وتطهر الشجر من الأقذار، وتألقت القرى والحقول بالجمال والنضرة. فقلنا: يا لله! ما أبعد الفرق بين سبت وسبت! ذلك سبت كان فيه النار والدمار واليأس نهاية مرحلة، وهذا سبت كان فيه الماء والنماء والأمل بداية مرحلة!

ودخلنا القرية والتأم شمل الأهل وانتظم عقد المجلس، وأقبل شيوخ الفلاحين ممن يقرءون الصحف أو يسمعون الإذاعة يتناقلون أحاديث القنال وأحداث القاهرة وتغيير الوزارة. وقد لاحظت من مناقلة الرأي أن القرويين لم يعودوا يزنون أعمال الحاكمين بميزان المواد الخسيسة كتخفيض (المال) وإسقاط (الخفر) ورفع (السخرة)؛ وإنما أصبحوا يزنونها بميزان المعاني الكريمة كالدراية الواسعة، والكفاية الممتازة، والسياسة الرشيدة، والإرادة القوية، والإدارة النزيهة، والغاية الشريفة. وهذا الفضل كله إنما كانوا يعتقدونه في وزيرين اثنين كانت صلتهما بالجمهور صلة معنوية تتمثل في تعليم الشعب واستقلال الوطن، هما طه حسين وصلاح الدين! فإذا أسف الناس على أحد من أعضاء الوزارة المعفاة من الحكم فإنما يأسفون على هذين الرجلين اللذين سَموا بالمنصب على الشهوات، وربآ بالحكم عن الشبهات، وكانا للأمة بين ذوي الآراء المرتجلة والأهواء العابثة، العوض من الخسارة والعزاء عن المصيبة. فلو أنهما خرجا على نظام الحزبية ودخلا في الوزارة الماهرية لكانت الوزارة الجديدة فوزا كاملا وفرحة خالصة.

أما رأيهم في علي ماهر فهو رأي الغريق في مِنطقة النجاة! لم يعرفوا عنه إلا أنه عدو الإنجليز وعدو الفوضى وعدو المحاباة وعدو الروتين وعدو التلكؤ، فهو رجل الساعة

ص: 1

وبطل الموقف. هو رجل الساعة لأن الحرج الخارجي الذي دُفِعنا إليه يحتاج إلى حزمه. وهو بطل الموقف لأن الهرج الداخلي الذي وقعنا فيه يفتقر إلى عزمه. وهو فوق أولئك كله صديق العامل وصديق الصانع وصديق الفلاح وصديق الفقير ورئيس (جبهة مصر).

ذلك مجمل الرأي القروي في سياسة الوقت وساسته؛ وهو رأيي، ولعله رأي جميع الناس.

ريف المنصورة

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌اللغة الإنجليزية في مصر

للأستاذ محمد محمود زيتون

اللغة الإنجليزية في مصر - أو على حد تعبير وزارة المعارف - (اللغة الأوروبية الأولى) - قد أصبحت غير ذات موضوع لأنها استنفدت جميع أغراضها، وفقدت صلاحياتها، فلا مناص من إلغائها، لأنها أول معقل للاستعمار في بلادنا سبق إلى الانهيار.

وإذا كانت الظروف اليوم قد أتاحت لقادة الرأي في مصر أن تعمل جاهدة على المطالبة بإلغاء وتحرير العقلية المصرية منها على أثر إلغاء معاهدة الذل والاحتلال، واتفاقيتي القهر والاستعمار، فإن لصاحب هذا القلم شرف السبق إلى الكتابة في هذا الموضوع في وقت كان الجهر فيه بهذا يعد ضربا من المجازفة.

وكان ذلك في 3يوليو سنة 1948 يوم كانت جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية ترفع لواء الحرية، في هذا المعترك الصاخب من الأفكار، قلت يومئذ بالحرف الواحد:

(إن هذه اللغة قد دخلت مصر وستخرج منها وكأن لم تكن، لأنها لم تهدف إلى التثقيف وتبادل روائع الأفكار وبدائع العرفان وإنما كان هدفها الحقيقي هو إشاعة الذعر والخوف والفزع والهلع والذل والانكسار إلى غير ذلك من مترادفات (تحطيم الأعصاب) في بلد لا يزال بخير وعافية كمصر.

ونظرا لما حق لدينا من دراسة العلوم الاجتماعية ومن بينها (علم اللغة) وما لكل من تطورات وانحرافات ولهجات تبنت قوانينها الصارمة، فإننا بالقياس إلى هذه القوانين نرى أن اللغة الإنجليزية قد أريد بها أن تشذ شذوذ أهلها عن قوانين اللغة فلبست مسوح العلماء وقفافيز الساسة، (إمعانا في إحكام القيود والأغلال على الشعوب المستضعفة جميعا وفي آن واحد، وتسويدا للهمجية في بعضها على المدنية في البعض الآخر، فقد ظلت هذه اللغة تدرس في مصر أكثر من نصف قرن منذ بدء الاحتلال وكانت لغة التدريس في جميع المواد ما عدا اللغة العربية وما يتصل بها)

ولقد فطنت الجمعية العمومية إلى أساليب الاستعمار الإنجليزي منذ فجر الحركة القومية، فطالبت الحكومة في مارس سنة 1907 بجعل التعليم في المدارس بالعربية، وعلى ذلك الرأي اجتمعت الأمة الناهضة؛ ولكن مما يؤسف له أن قام أحد أذناب الاستعمار فقال فيما

ص: 3

قال:

(إن الحكومة لم تقرر التعليم باللغة الأجنبية لمحض رغبتها أو اتباعا لشهوتها، ولكنها فعلت ذلك مراعاة لمصلحة الأمة. .)

واستطرد يقول - وهو سامحه الله ممن وكل إليه زعامة هذه الأمة - (وإذا فرضنا أنه يمكننا أن نجعل التعليم من الآن باللغة العربية وشرعنا فيه فعلا فإننا نكون قد أسأنا إلى بلادنا وإلى أنفسنا إساءة كبرى لأنه لا يمكن للذين يتعلمون على هذا النحو أن يتوظفوا في الجمارك والبوسطة والمحاكم المختلطة والمصالح العديدة المختلفة التابعة للحكومة)

على أن الأمة الممثلة يومئذ في الجمعية العمومية قد خذلت هذا الاعتراض بإجماع رائع هز أركان التاريخ وتبوأ مكانة من الحركة القومية.

وعلى الرغم من هذا فإن هذه اللغة الاستعمارية قد مضت في طريقها في غفلة من سدنة القومية فاعتبروها (اللغة الأجنبية الأساسية) حتى كانت سنة 1935 حيث ابتدع (ميخائيل وست) طريقته الأمريكية اليهودية التي بها وحد النطق على أسس خاصة. وذلك لتتحقق المساواة في الاستعمار والاستذلال والاستغلال ولتكون العدالة شاملة في الظلم عملا بالقاعدة المشهورة (إذا عم الظلم كان عدلا)

وما لبث الإنجليز - بفضل هذه البدعة الأمريكية - أن قذفوا بملايين الكتب المدرسية الإنجليزية إلى مصر والسودان وفلسطين والحبشة وجنوب أفريقية وأوغندة وكينيا وأستراليا والهند، وبذلك ألغيت كل الحواجز الجمركية أمام هذه البضاعة الإنجليزية الموحدة في هذه الأقطار، فإذا نحن منذ ذلك التاريخ أمام تيار جارف من خرافات وأساطير وخزعبلات فرضوا علينا أن نحشرها حشرا في أدمغة الناشئين الأبرياء.

يسأل التلميذ أستاذه: هل من المعقول أن (جاك) إذا قتل الدب وأخذ قلبه ورمى به في النار تخرج حبيبته منها!. . وهل صحيح أن (كاليبان) و (أريل) عفريتان من عفاريت (الجزيرة المسحورة) كما جاء في رواية (العاصفة) التي دبجتها براعة (شكسبير)؟. .

يا بني. . هذا كلام إنجليز؛ وليس عليك إلا أن تتعلم اللغة ودعك من خرافاتهم. وهنا يريد المدرس الفيلسوف أن يشرح لتلميذ السنة الأولى (فلسفة التناسخ والحلول) الشائعة في عقائد البرهمانيين والبوذيين. ولكن كيف يستطيع مدرس أن يشرح هذا اللغز الغامض لذلك

ص: 4

الناشئ البريء!. . وهنا يغضي كلاهما على حسرة ملحة، وألم صارخ، والأمر بينهما لله وحده.

وهكذا أراد الإنجليز أن يغلفوا قلوبنا بطبقة من القطران الأسود المصنوع من خرافات الهمجية الأولى، وبذلك تموت الروح الدينية. وعقيدة التوحيد في جوانح أبناء الأمة فيشب الواحد منهم كافرا بالله والرسل والأنبياء والملائكة واليوم الآخر، كافرا بالمروءات والمثل العليا ومكارم الأخلاق متأثرا بدروس الكفر البواح التي يتلقاها في مدارس الدولة.

وليت هذا الناشئ المسكين يتعلم هذا الكفر في كتاب واحد أو اثنين، ولكن الدولة القيمة على العقل والروح والبدن تأبى إلا أن تغمر تلميذ السنة الأولى الابتدائية بفيض من الكتب الإنجليزية بعضها رئيسي والبعض الآخر إضافي.

وأذكر أن الوزارة كانت توزع على تلاميذ السنة الثانية سبعة كتب إنجليزية منها ثلاثة للعمل بها في المدرسة، والباقي للاطلاع الخارجي بالمنزل، ويعلم الله أن هذا الاطلاع المزعوم ما كان له من وجود إلا في خيال (ميخائيل وست) ومن يدورون في فلكه من صنائع الاستعمار الثقافي.

والنتيجة الطبيعية أن التلميذ لم يفتح كتب (العفاريت) إلى آخر العام حتى إذا بدأت العطلة صفى حسابه مع هذه الكتب وباعها مقابل عدة أقراص من النعناع والحلوى. وأما الدولة فهي التي دفعت لتجار الكفر وسماسرة الاستعمار دماء الفلاحين ثمنا لبضاعة كلها غش وزيف.

وأساليب الاستعمار - على العهد - بها أعقد من حيل الثعالب وأضيق من شراك الصيد على فريستها، فهي تصيد العقول والقلوب؛ وتمتص الدماء وتستنزف الأموال، وتقتل الأرواح وتشل النشاط وتخدر الأعصاب، وتستأصل الحمية من الأنوف إلى غير ذلك من ضروب النصب والاحتيال.

وليس أدل على ذلك من طريقة الامتحانات المتبعة في مراحل التعليم: ففي المرحلة الابتدائية يسهل على التلميذ اجتياز الامتحان لأن طرق وضع الأسئلة مرسومة محدودة، ويكفي أن يحفظ التلميذ مفرداته المقررة عليه، وأن يعرف كلمات الاستفهام وقواعد الزمن ليكون من الناجحين.

ص: 5

وهذا التسهيل المفتعل ليس إلا خطة موضوعة تتبعها في المرحلة الثانوية أسلاك شائكة وألغام فاتكة: ففي بدئها يرغم التلميذ على كتابة موضوعات إنشائية - ولم يتعلم قبلا تكوين جملة - ويرغم أيضاً على الإجابة على أسئلة الأجرومية المعقدة - وكان محظورا عليه أن يعلم شيئا مطلقا من المصطلحات. فهو يتجرعها في مدى أشهر معدودات وتكثر ضحايا الامتحان في بداية هذه المعركة، وتعود أساليب الاستعمار إلى قواعدها سالمة حسب الخطة المرسومة.

وإذا جاز هذه المرحلة والتحق بالجامعة، فإن صدمة عنيفة تجبهه عندما يحاول متابعة أستاذه في شرحه بهذه اللغة فيسقط في يده ولا يجد ما يستعين به على الدراسة التي تخصص لها إلا بعد مشقة وعناء.

مراحل كلها صخور وأشواك ملقاة في الطريق وعلى الجانبين لتوهم الناشئ بالضعف والغباء، وتقذف في نفسه الرعب والذل والانكسار فتتحطم أعصابه، ويتبلد ذهنه.

وتعمد الوزارة كل سنة إلى تغيير الكتب الإنجليزية التي تدرس فيها طلبة الثقافة والتوجيهية. فما الحكمة من ذلك؟ اللهم أنه ابتزاز أموال الدولة سنويا باسم العلم. وإلا فأي ضرر عقلي أو تربوي إذا استمر تدريس كتاب واحد بعينه لعدة سنوات؟ وهل كتب المطالعة العربية المقررة أساءت إلى عقلية التلميذ لمجرد استمرار تدريسها لسنوات عديدة؟

أراد المستعمرون أن يؤخروا مصر إلى عصر ما قبل التاريخ حيث الهمجية الروحية والفكرية، وهذا هو الوضع الذي جاز على مصر ولم تتنبه إلى خطورته، ولولا بقية من إيمان، وشعاع من عقل (لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)

وفي إبان الحرب الماضية كان الأساتذة الإنجليز أنفسهم رسل دعاية للاستعمار في مصر، فهذا مستر سكيف رئيس قسم الأدب الإنجليزي يبشر تلامذته من طلبة الآداب بأحسن وأروع ما كتب في هذا الأدب قديمه وحديثه، ذلك هو (خطاب من طيار لأمه) وقد تطوع بترجمته إلى العربية سعادة هيكل باشا ونشره الاتحاد الإنجليزي المصري.

وكان مقررا على طلبة التوجيهية منذ سنوات مقالات عن (مشروع بيفردج) و (التأمين الاجتماعي) و (الخدمات العامة) ولم يتكلف أحد من قادة الفكر وسادة الرأي عناء الاطلاع على ما يدرس للشباب وتبيان مدى ما ترمي إليه هذه الأفكار الوافدة، ولم يعن أحدهم يوما

ص: 6

بنقد ما يراد منه فتنتنا عما لدينا من تراث اجتماعي نستطيع به أن نجابه هذه الأفكار السطحية وندفعها بالحق. وهل الزكاة التي افترضها الإسلام عاجزة - إذا أحسن أداؤها - عن تعديل الأوضاع الاقتصادية وكفالة الأمن والسلام.

وليس غلوا منا إذ نقول إن اللغة الإنجليزية وآدابها لا تصلح لأن تكون عاملا من عوامل التثقيف أو التهذيب في مصر لأنها تقوم على مبادئ هدامة نذكر منها: فرق تسد - تمسكنت فتمكنت - المصلحة أولا - اعمل بما أقول لا كما أفعل - حتى أنت يا بروتس. -

كل ذلك وما إليه إنما ينطوي على الدس والخبث والنفاق والمادية والأنانية واللولبية الأفعوانية، وقد سبق لي أن قلت في مقال (عصابة روتشيلد) بأن الإنجليز هم الورثة الذين تبنوا اليهودية التي فككت أوصال أوربا في القرن الثامن عشر كما سبق أن قلت إن هذه اليهودية تتمثل في النزعة المادية وهي خاصية من خصائص لغة الإنجليز كما وضحنا ذلك في مقالنا عن (اللغة والفكر) حيث يقول الإنجليز: أي ادفع انتباها ويقولون: أي ادفع زيارة، كأن الانتباه والزيارة نقود تدفع.

ولو قدر لهذه اللغة البقاء في بلادنا أكثر من ذلك بهذا الوضع وبتلك المكانة فإنها تسيء إلى نفسها أكثر مما تحسن إليها، لأنها لغة أشاعت الذعر في النفوس، سدت مسالك التفكير، وضيقت من آفاق العقيدة، وزعزعت من أركان الآداب السامية والأخلاق الفاضلة، واستعبدت المدرسين حتى صاروا كالآلات الصماء حتى لقد استعاضت عنهم بالفوتوغراف.

وليس أمامنا الآن إلا خطوة عملية واحدة لرد اعتبارنا وحفظ كرامتنا كأمة ذات سيادة، وهذه الخطوة هي ألا نجعل لهذه اللغة في بلادنا أكثر من الوضع الذي صارت إليه بلادها، فقد أصبحت إنجلترا أفقر الدول بعد أن كانت أغناها، وأصبحت ذيلا بعد رأس، وصار لها في بلادنا (سفير) بعد أن كان لها (مندوب سام) وأصبحت في نظر العالم كله وباء، وبلاء، فلا أقل من أن تكون لغتها في بلادنا كذلك شر بلاء وأخبث وباء.

ومن العار أن يكون عدد حصص هذه اللغة أكثر من عدد حصص اللغة القومية. ومن العار أيضاً أن نطالب بجلاء الجيوش الاستعمارية بينما أكبر أصنام الاستعمار في مصر لا يزال حيا يعبد. ومن العار أن يتعطش شبابنا إلى معرفة مواطن البطولة في تاريخنا المجيد، فلا

ص: 7

يجدون ما يرى غليلهم بينما نجرعهم غصص لغة لا يستسيغون لها طعما ولا لونا ولا رائحة.

ومن موجبات حمد الله وشكره أن هذه اللغة لم تتمكن من جوهر حياتنا ولم تنجح في أن تكون لغة تخاطب ولا لغة كتابة. .)

هذا ما قلناه بالحرف الواحد منذ شرعنا هذا القلم لهدم هذا الصنم الغليظ، ولعل الحكومة المجاهدة تستطيع اليوم أن ترفع معولها وتهوى به دفعة واحدة للقضاء على هذا الخبث بعد أن فتح الله علينا وهدانا إلى الصراط القويم بإلغائنا روابط الذل وحبائل الاحتلال. ولتكن بعد ذلك مادة اختيارية من بدئها إلى ختامها، فمن شاء دراستها فعليه أن يتخذ لنفسه الوسيلة، ومع ذلك فالدين النصيحة، فليعلم من لا يعلم أن هذه اللغة إنما هي لغة الأنانية بكل ما في هذه الصفة من أوضار. ألا يرى معي القارئ كيف يجعلون ضمير أنا هو الضمير الوحيد الذي يكتبونه بحرف كبير؟ فما هو السر في هذا إن لم تكن الأنانية.

ونقولها صريحة لأبناء العراق الشقيق: إننا كما يقول أمير الشعراء (كلنا في الهم شرق) ولكننا كما نحصي على أنفسنا أخطاءنا، لا نضن عليهم بالنصح لوجه الله والعروبة، فليعملوا فورا على تخلص لهجتهم ولافتاتهم ومكتوباتهم من الألفاظ الإنجليزية الدخيلة واستبدال الألفاظ العربية بها مثل (السائق) و (الكوب) و (القنينة) ولا داعي مطلقا لأن نقول التي شاعت في العراق وتسيء إلى القومية العربية التي نعمل على تدعيمها وأنف المستعمرين في الرغام.

محمد محمود زيتون

ص: 8

‌بين مجزرة (دير ياسين) ومشنقة (الباب المعظم):

الجمل اليهودي وسم الخياط

للأستاذ على حيدر الركابي

عثرت البشرية خلال تاريخها الطويل على مبادئ خلقية سامية اتفقت عليها وجعلتها معالم بارزة في مجرى حياتها فإذا ما اقتربت منها أمة من الأمم وتمسكت بعراها كانت في أوج تقدمها وإذا ما أهملتها وابتعدت عنها كانت في أسفل دركات انحطاطها لا فرق في ذلك بين أمة شرقية أو غربية ولا بين أمة حديثة أو قديمة.

وتشذ أمة يهود عن ركب البشرية في ذلك فتقرر لنفسها مقاييس خلقية خاصة وتبالغ في هذا التخصص حتى تحتكر الخالق، وبهذه الطريقة اليهودية الفذة تصبح العدالة شيئا نسبيا ومثلها الصدق والشرف إلى آخر ما تضمه الأخلاق من صفات معروفة وغير محصورة.

وبالاستناد إلى هذا المذهب اليهودي الخاص في الأخلاق ينقلب الكذب اليهودي صدقا والنذالة اليهودية شرفا والظلم اليهودي عدلا رائعا!. . بينما ينقلب صدق غير اليهود كذبا وشرفهم نذالة وعدلهم ظلما إذا كان في ذلك ما يمس مصلحة يهودية كبرت أو صغرت.

لقد طالبوا بتقسيم فلسطين وأصروا عليه وجندوا الدنيا لإقراره. فلما حققوه أعلنت أبواقهم في كل مكان أنه الحل العادل الوحيد للمشكلة الفلسطينية لأنه يستند إلى حق اليهود التاريخي في أرض الميعاد. أما أن تكون فلسطين مأهولة بأكثرية ساحقة عربية، أما أن تكون هذه الأكثرية مالكة لمعظم أراضي فلسطين منذ قرون، فأمر لا يؤبه له وحق العرب المستند إلى تلك الأكثرية ليس بحق. لماذا؟ لأنه ليس حقا يعود ليهودي!

وطالب العرب بتدويل القدس على الأقل، فقامت قيامة اليهود وأرغوا وأزبدوا. لماذا؟ لأن أكثرية سكان القدس يهودية، وهذه الأكثرية لا تريد تدويل القدس فيجب احترام رأي الأكثرية. .

عجيب والله أمر يهود! تفرض إسرائيل فرضا ضد رغبة الأكثرية من السكان ثم ترفض تدويل القدس احتراما لرأي الأكثرية. . مثال رائع للعدالة النسبية التي تتعشقها يهود!

وينظم اليهود مذابح وحشية لكي يحملوا العرب على ترك ديارهم ويعترف بذلك كبير زعمائهم الإرهابيين - مناحيم بيكن - ويسجل اعترافه في منشورات إنكليزية أشار فيها

ص: 9

إلى مذبحة دير ياسين وأنه تولى بنفسه تنظيمها والإشراف عليها لكي يضمن تحقيق التنكيل المتقن بالعرب، ثم يزور بيكن أمريكة فيستقبل في نيويورك ومدنها اليهودية الأخرى استقبال الأبطال الفاتحين. ويمعن اليهود في اضطهاد العرب ومصادرة أملاكهم حتى بعد قيام إسرائيل. يفعلون ذلك دون تردد وبضمير هادئ لأنهم يهود وأعمالهم الوحشية موجهة ضد غير اليهود؛ وإذن فهي في نظرهم تمثل منتهى العدالة، وإذن فهي تمثل منتهى الأخلاق!

وينظم اليهود إرهابا يهوديا منقطع النظير خارج حدود إسرائيل: في دولة عربية؛ ويصبون في هذه الدولة سيلا متدفقا من الجواسيس يتآمرون على سلامتها. وهذا عمل صالح لا غبار عليه لمجرد أنه عمل يهودي موجه ضد غير اليهود! أما أن تفطن تلك الدولة العربية إلى نوايا اليهود نحوها، وأما أن تقوم بإلقاء القبض على أولئك الجواسيس والإرهابيين من يهود، وأما أن تحيلهم إلى المحاكمة العلنية، وأما أن تصدر الهيئة القضائية المختصة حكمها بإعدام بعض وسجن بعض فهي جرأة عجيبة لا تغتفر وهي الظلم بعينه! لماذا؟ لأن الدولة غير يهودية والمحكمة غير يهودية والمتهمين يهود. . . وتحب أمة يهود أن تتجاهل أن التحقيق كان أصوليا وشاملا وأن المحاكمات كانت علنية وأن محامين من غير اليهود تولوا الدفاع عن المتهمين وأن الحكم صدر ببراءة بعضهم. تتجاهل أمة يهود ذلك كله وتكذب لأن كذب اليهود لمصلحة يهودية هو الصدق بعينه.

هذه هي المقاييس الخلقية المقلوبة عند اليهود!. .

من حق (موشي شاريت) أن يعلن حزنه العميق أمام زملاءه أعضاء (الكنيست) اليهودي، ومن حق هؤلاء أن يوقفوا الجلسة حدادا، ومن حق (أوبري إيبان) أن يمتنع عن حضور جلسات هيئة الأمم لشدة حزنه، ومن حق (راديو إسرائيل) أن يبدل برامجه ليذيع الكئيب من موسيقاه اليهودية البغيضة: من حق أمة يهود أن تفعل هذا وأكثر لتعرب عن شعورها لإعدام يهوديين في بغداد وسجن آخرين. ولكن ليس من حقها مطلقا أن تختلق وتغالط وتكذب وتحتال لكي تتهجم على الشرطة العراقية والقضاء العراقي والعدالة العراقية بأسرها وتوجه لها الشنيع من التهم بالبذيء من الألفاظ.

عفوا! قلت ليس من حقها ونسيت أن الحق اليهودي في عروقها له مفهوم يهودي خاص

ص: 10

وهو حق ثابت لأنه حق يهودي. ولهذا أعود فأقول: إن من حقها اليهودي أن تفعل ذلك وأكثر، ومن حقها اليهودي أن تستجير بالضمير الإنساني ليثور على حكم قانوني قضى بإعدام يهوديين، بعد أن سخرت كل ما تملك من وسائل جهنمية لتحول دون ثورة ذلك الضمير الإنساني بعينه ضد فظائع فلسطين ومذبحة دير ياسين!

ولا أحب أن أعتقد أن الضمير الإنساني قد ماع إلى هذا الحد الذي يصبح معه أداة طيعة في أيدي اليهود: يثيرونه أو يخمدونه حسب مقتضيات المصلحة اليهودية وإن كان حقا أن الضمير الإنساني قد تدنى إلى هذا الحد في يوم الناس هذا فلا حول لنا ولا طول إلا أن نستجير بالله من يهود!

ولكن الضمير الإنساني في حقيقته السامية لا يمكن أن يصبح يهوديا لأن هناك تناقضا ثابتا بين الإنسانية في معانيها السامية وبين اليهودية. وعليه فلا بد للضمير الإنساني من يوم قريب بإذن الله يثور فيه على اليهودية العالمية وعلى طغيانها في هذا العصر.

وما ذلك على الله بعزيز. . .

بغداد

علي حيدر الركابي

ص: 11

‌الخوف

للكاتب الفرنسي جان جاك روسو أحد زعماء الثورة الفرنسية

للأديب محمود البكري محمد

. . . كنت في الريف ملقيا رحلي عند راهب بروتستانتي أسمه السيد (لامبير سيه)، واصطنعت من أبن عمي (برنار) صديقا لي. . ولكنه كان جبانا إلى حد يثير الدهشة، ولا سيما حين يجن الليل! وكنت أسخر من خوفه دائما حتى ضاق (لامبير سييه) ذرعا فأراد أن يضع شجاعتي تحت التجربة. . .

وفي ليلة داجية من ليالي الخريف دفع إلي بمفتاح المعبد. . ودعاني إلى أن أذهب إلى المنبر، لأبحث عن الإنجيل الذي كان قد تركه هناك. وحتى يثير في حب الذات أضاف كلمات لم أستطع معها أن أتراجع. . .

وانطلقت بلا ضوء. . وربما كان شرا أن يكون معي. . وكان لزاما أن أمر بالمقبرة، فعبرتها في تسرع، لأني حين أجدني في الهواء الطلق تنطلق تهاويل الدياجي من مشاعري. . .

. . وعندما كنت أعالج فتح الباب سمعت أصداء تنبعث من القبة خيل إلي أنها أصوات. . وبدأ ثباتي (الروماني) يتزعزع وانفتح الباب، وهممت بالدخول، ولكني لم أكد أخطو بضع خطوات حتى توقفت، أخذت أتأمل الظلام المطبق في هذا المكان الفسيح. . . ورأيتني مشدودا برعب قف منه شعري، فعدت أدراجي، وخرجت ألتف في خوفي. وفي الردهة بصرت بكلب صغير كان يسمى (سيلتان). لاطفني فرد إلى بعض الطمأنينة. . .

واستحيت من رعبي. . فعدت من جديد. . وتمنيت لو صحبني (سيلتان). . ولكنه أبى أن يتبعني!

اجتزت الباب مسرعا. . ودخلت الكنيسة. . ولم أكد أدخل حتى ملأني الفزع، وطار صوابي! ومع أن المنبر كان على يميني وكنت أعرف ذلك حق المعرفة، فكنت أدور بلا وعي، وأبحث عنه كثيرا في الشمال، وأتخبط حائرا بين المقاعد، وما عدت أعرف أين أنا، وما عاد في مقدوري أن أعثر لا على المنبر ولا على الباب، ووقعت في قلق حائر لا يصفه تعبير!

ص: 12

وفي النهاية لمحت الباب، فاندفعت إليه، ومرقت منه - كما دخلته - في سرعة، مصمما على ألا أدخله إلا في ضوء النهار. . .

ورجعت على عقبي إلى المنزل. . وهممت بالدخول، ولكن صوت السيد (لامبير سييه) رن في عاصفة من الضحك. . وحسبت أن هذه الضحكات مني، وخشية أن يفتضح أمري ترددت في فتح الباب. . . وفي هذه اللحظة سمعت ابنة (لامبير سييه) تبدي قلقها علي. . وتأمر الخادمة أن تأخذ المصباح - بينما يعارض الراهب - وتصحب معها ابن عمي الشجاع، الذي لن يقصر أحد في تهنئته بهذا الشرف! وفي تلك اللحظة، تلاشت كل مخاوفي، إلا خوفي من أن أصبح مثار الدهشة من رعبي، فجريت وطرت إلى المعبد، لا خائفا ولا ضالا. . ووصلت إلى المنبر، وصعدته، وتناولت الإنجيل. . ثم هبطت في سرعة، وفي قفزات ثلاث كنت خارج المعبد الذي نسيت أن أقفل بابه، ودخلت مثواي لاهثا، ورميت بالإنجيل على المنضدة مكدودا، إلا أنني كنت مفعم القلب بالسرور لأنني سبقت النجدة التي كانت قد أعدت للبحث عني.

محمود البكري محمد

ص: 13

‌نفس كبيرة ثائرة وعقل راجح حكيم:

السيد جمال الدين الأفغاني

للأستاذ حمدي الحسيني

- 3 -

أقام السيد جمال الدين في الهند فترة من الزمن وضع خلالها رسالته في الرد على الدهريين. وما أن حدثت ثورة عرابي في مصر حتى أسرعت حكومة الهند فوضعته في نطاق من الرقابة الشديدة خشية أن تهب نسمة من روحه القوية على تلك الحركة الثورية فتزيد في اشتعالها وتؤجج من نيرانها فتقطع على الاستعمار الإنكليزي طريقه إلى مصر واحتلال مصر. ومنذ اطمأن الإنكليز على خطتهم في مصر سمحوا له بمغادرة الهند فغادرها إلى باريس حيث التقى بصديقه الأستاذ العلامة الشيخ محمد عبده رحمه الله فأصدر جريدة العروة الوثقى لدعوة المسلمين إلى الوحدة الإسلامية تحت لواء الخلافة العظمى حتى اشتدت مقاومة الاستعمار الإنكليزي لها فأغلق دونها أبواب الهند ومصر فتوقفت عن الصدور، وكان قد وصل في ذلك الوقت صدى تلك المقالات القوية التي نشرتها العروة الوثقى عن الاستعمار الإنكليزي في البلاد العربية والإسلامية إلى لندن، وكانت حركة المهدي لا تزال في السودان مندلعة النار فيتخذ الاستعمار الإنكليزي من الحجة في إخمادها وسيلة للسيطرة على مصر والتدخل في شئونها. فاستدعى سالسبري رئيس وزراء إنكلترا في ذلك الوقت السيد جمال بحجة استطلاع رأيه في المهدي وظهوره وقصده الحقيقي أن يحك هذه النفس الكبيرة بما عنده من جاه وسلطان ظنا منه أن مثل هذه النفس تلين بمثل هذا الإغراء الرخيص الذي كان الاستعمار يستعين به على كم أفواه الرجال فذهب جمال الدين إلى لندن واجتمع بسالسبري اجتماعا عرض سالسبري فيه على السيد جمال الدين أن يعينه سلطانا على السودان ليستأصل جذور فتنة المهدي ويمهد السبيل لإصلاحات بريطانيا فيه:(تكليف غريب وسفه في السياسة ما بعده سفه) بهذا أجاب السيد جمال الدين رئيس وزراء بريطانيا العظمى ثم قال له: هل تملكون السودان حتى تريدون أن تبعثوا إليه بسلطان؟ مصر للمصريين والسودان جزء متم لها. وصاحب الحق الخليفة الأعظم حي

ص: 14

يرزق ولديه من الجيش المادي والمعنوي ما يتذلل معهما كل صعب وفتنة في الكون الإسلامي وأجزاء ممالكه. قال هذا وخرج ثم عاد إلى باريز فالتقى بالفيلسوف الفرنسي - رينان - وجرى بينهما حديث في العلم والإسلام وحقيقة القرآن والعمران (فشهد له رينان بصحة العلم وقوة الحجة ورجع عن كثير من آرائه في أن الإسلام والقرآن مانعان للحضارة والعمران).

قضى السيد جمال الدين ما يزيد على الثلاث سنوات في باريز بذل خلالها من الجهود العظيمة الموفقة في مكافحة الاستعمار الأوربي الطامع في البلاد العربية والإسلامية ما جعل هذا الاستعمار يشعر بالقلق والاضطراب في حركاته وسكناته والخوف والذعر في آماله وغاياته. وبينما كان هذا النسر المحلق في سماء مجده يهم برحلة واسعة شاملة في البلاد العربية إذ بشاه إيران يستقدمه إلى طهران فآثر تلبية الدعوة وذهب إلى طهران فاستقبله الشاه بالإكرام والإعظام واسند إليه وزارة الحربية في حكومته وجعله فوق مستشاره الخاص، فحمل أعباء عمليه العظيمين في الدولة وراح يرشد الشعب الفارسي إلى ما له من حقوق وما عليه من واجبات فالتفت حوله أمراء البلاد وعلماؤها وأقسموا له أن يصدعوا بما يأمرهم به فأوجس الشاه خيفة فتنكر له، فرأى أن يستأذن الشاه بمغادرة البلاد فغادرها إلى روسيا وكانت شهرته قد سبقته إليها فاستقبل فيها بالإجلال والاحترام. ودعاه القيصر واجتمع به وسمع حديثه عن أسباب الخلاف بينه بين شاه إيران، فقال له القيصر إني أرى الحق في جانب الشاه إذ كيف يرضى ملك أن يحكم فيه فلاحو مملكته. فقال له جمال الدين أعتقد يا جلالة القيصر إن عرش الملك إذا كانت ملايين الرعية أصدقاء له خيرا من أن تكون أعداءَ يترقبون الفرص ويكنون في الصدور سموم الحقد ونيران الانتقام. فغضب القيصر وأوعز إلى رجال بلاطه بأن يخرجوه من بلاده بأقصى حدود السرعة. فخرج منها إلى أوربا وأخذ يتنقل في عواصمها حتى التقى في ميونيخ بصاحبه شاه إيران ثانية فاعتذر له الشاه عما فرط منه نحوه، ودعاه لمرافقته إلى طهران فقبل جمال الدين الدعوة وسار معه إلى بلاد فارس. ولم تكد رجلاه تطاءان أرض فارس حتى عاد الناس فالتفوا حوله كما فعلوا في المرة الماضية وقد كلفه الشاه هذه المرة أن يضع ما يراه مناسبا للمصلحة العامة من القوانين، فسن قانونا أساسيا للمملكة يقضي بأن تكون الحكومة

ص: 15

ملكية شورية (دستورية) ولكن ما كاد الشاه يطلع على ذلك حتى طار صوابه. فقال للسيد جمال الدين: أيصح يا حضرة السيد أن أكون وأنا ملك ملوك الفرس كأحد أفراد الفلاحين؛ فقال له جمال الدين اعلم يا حضرة الشاه أن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك ستكون بالحكم الدستوري أعظم وأنفذ وأثبت مما هي الآن. فنفر منه الشاه وأعرض عنه فأحس بهذا النفور فأستأذن بالذهاب إلى بلدة (شاه عبد العظيم) فأذن له. فذهب إليها وتبعه عدد كبير من الزعماء وقادة الرأي في البلاد فخاف الشاه عاقبة ذلك فأمر بالقبض عليه فأنتزع من فراشه وهو محموم وأوصل إلى حدود العراق، فذهب إلى البصرة وأقام فيها حتى عادت إليه صحته فغادرها إلى لندن. وهناك جاءته من عبد الحميد دعوة إلى الآستانة فذهب إليها وكان في استقباله ياور السلطان فسأله أين الصناديق أيها السيد؟ فقال له: ليس معي غير صناديق الثياب وصناديق الكتب. فقال الياور أين هي؟ فقال جمال الدين أما صناديق الكتب فها هي، وأشار إلى صدره، وأما صناديق الثياب فهذه وأشار إلى جبته. ذهب السيد جمال الدين لمقابلة السلطان فاستقبله أحسن استقبال وأرسله إلى قصر كان قد أمر بإعداده له. وما أن خرج من حضرة السلطان حتى قال له كبير الياوران في شيء من الاستغراب والعتاب: إن إجلال السلطان لحضرتك لم يسبق له مثيل. واليوم رأيناك تخاطبه بلهجة غريبة وأنت تلعب بالمسبحة في حضرته. فقال له جمال الدين: سبحان الله! إن جلالة السلطان يلعب بمقدرات الملايين من الأمة على هواه ولا يعترضه منهم أحد؛ أفلا يكون لجمال الدين حق أن يلعب بمسبحته كيف يشاء؟!

أما إكرام السلطان لجمال الدين واحتفاؤه به وإقباله عليه فكان عظيما جدا. وأما إعجاب جمال الدين بالسلطان فكان إعجابا آخذا عليه جوانب نفسه؛ ولكن إعجابه هذا بالسلطان لم يمنعه من أن يقول له في صراحة ووضوح وفي شجاعة وعزم: خذ بعزم جدك محمود، وأقص الخائنين من خاصتك، واظهر للملأ ظهورا يقطع من الخائنين الظهور، واعتقد أن نعم الحارس الأجل. مما جعل السلطان يتنفس الصعداء ويعتذر له عما دعاه إليه بما في بيئته من الفساد، ويعده أن يفعل ما دعاه إليه في المستقبل.

قد عرض السلطان على جمال الدين مشيخة الإسلام ليصلحها فأبى ذلك وطلب من السلطان أن يعمل عملا يتغير معه شكل الحكم تغييرا أساسيا وهو يعني بهذا الرجوع إلى الشورى

ص: 16

في الحكم، كما عرض عليه أضخم الوظائف وأعلى الرتب وأسمى النياشين فرفضها كلها قائلا: إن وظيفة العالم ليست بمنصب ذي راتب بل بصحيح الإرشاد والتعليم، ورتبته ما يحسن من العلوم مع حسن العمل بالعلم.

قضى جمال الدين في الآستانة أربع سنين ضيفا على السلطان كان خلالها حركة خير دائمة، بوعظه وإرشاده حتى دهمه داء السرطان فمات رحمه الله سنة 1897 ميلادية.

رمى السرطان الليث والليث خادر

ورب ضعيف نافذ الرميات

حمدي الحسيني

ص: 17

‌ثورة الشرق

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

في مصر ثورة

وفي إيران ثورة

وفي تونس ثورة

وفي مراكش ثورة

جميع هذه الثورات تهدف إلى غرض واحد هو تحرير الشرق من سيطرة الغرب وسيادته.

فمصر قد قامت تناضل وتكافح من أجل حريتها واستقلالها ووحدة واديها، وقد أقسم أبناؤها ألا يهدأ لهم بال، أو يغمض لهم جفن، إلا إذا حققوا لوطنهم أهدافه المشروعة ولن يعبئوا بما يبذلون من تضحيات ودماء.

ولكن إنجلترا ترفض أن تسلم بحق مصر المشروع ويمعن جنودها في تحديهم لمصر وأبنائها، بل أكثر من هذا لقد خرج الإنجليز على كل المبادئ الإنسانية والقوانين الأخلاقية فارتكبوا من الجرائم الوحشية ما يخجل من ارتكابه أحط الشعوب وأقلها حظا من المدنية. لقد اعتدوا على الشيوخ الضعفاء في صلواتهم وهاجموا الأطفال والنساء وانتهكوا حرمات المنازل فطردوا أهلها منهم، وشردوا عائلاتهم في الطرقات والشوارع تحت وابل من رصاص مدافعهم ودباباتهم وطائراتهم، وارتكبوا ما لا يحصى ولا يعد من حوادث السلب والنهب. ثم عمدوا أخيرا إلى نسيان جميع القوانين الدولية، فعذبوا الأسرى وأطلقوا عليهم الوحوش الضارية فنهشت لحومهم وهم أحياء ثم أعدموهم رميا برصاص دمدم. حتى بيوت الله من مساجد وكنائس بل والمقابر لم تسلم من عدوانهم وإجرامهم. ويدعي الإنجليز بعد ذلك أنهم متحضرون على أكبر جانب من الحضارة والمدنية!

ولسنا نعرف بعد أي قانون أباح لإنجلترا وأبنائها أن ينزلوا في بلاد غير بلادهم على غير إرادة أهله وأن يقيموا كرها بغير رضى أصحاب البلاد ثم يقترفوا في هذه البلاد أشنع الإثم وأفظع الجرم إذا ما طولبوا بمغادرتها! أهو قانون عصبة الأمم البائدة، أم قانون هيئة الأمم المحتضرة؟

فليمعن الإنجليز في ضلالهم فإن هذا يقرب نهايتهم ويدني أجلهم.

ص: 18

وفي إيران ثورة على القراصنة الإنجليز. لقد هال الإيرانيين ما تربحه شركة البترول الإنجليزية من أموال طائلة فقد بلغت أرباح الشركة عام 1950 ما يزيد على مائة مليون من الجنيهات، ومن ثم قررت إيران تأميم البترول في بلادها، وطردت الإنجليز من ديارها. وطأطأت إنجلترا رأسها وانسحب أبناؤها الشجعان تحت جنح الظلام من إيران. لماذا؟ لأن إنجلترا خافت أن تصبح إيران (كوريا) أخرى تأكل الإنجليز الشجعان. والسر في ذلك أن روسيا جارة لإيران، وأن إيران تستطيع في سهولة ويسر استيراد الأسلحة من روسيا، ومن هنا جبنت إنجلترا (الشجاعة) في إيران واستأسدت في مصر. لكن أبناء النيل سيذيقون أبناء التايمز أشد ألوان العذاب والهوان.

وفي الأسبوع الماضي أمرت إيران إنجلترا بإغلاق قنصليتها في ديارها. ومرة أخرى طأطأت إنجلترا رأسها ورفعت إيران هامتها. وهكذا تقلص النفوذ البريطاني من إيران وذهب إلى غير رجعة.

الضمير الأمريكي

في 19 يناير الماضي انتابت إنجلترا وجنودها نوبة من الجنون، فأخذ الجنود الإنجليز يصلون مدينة الإسماعيلية نارا حامية وكانوا يطلقون نيرانهم على غير هدى وفي وحشية منقطعة النظير. وقد أصابت إحدى رصاصاتهم قلب راهبة أمريكية فخرت صريعة. وبرغم هذه الحقيقة راحت إنجلترا أكذب أهل الأرض جميعا تذيع أن الراهبة قتلت برصاص أطلقه الفدائيون المصريون، وكانت ترمي بهذا إلى كسب عطف الرأي العام الأمريكي وإثارته ضد مصر. وإنجلترا كما عرفناها دائما لا تتعفف في الوصول إلى غايتها عن استخدام أحط الطرق وأدنى الوسائل من كذب ونفاق وغدر وخيانة.

وقد ثارت أمريكا وكلف السفير الأمريكي في القاهرة ببحث الحقيقة، وقد قام القنصل الأمريكي ببور سعيد بعمل التحقيق وأعلن السفير أن التحقيق لم يثبت إدانة المصريين.

إلى هنا انتهت مسألة الراهبة، ولكني أحب أن أتساءل:

لقد ثار الأمريكان لمقتل راهبة واحدة فلم لا يثورون ضد إنجلترا وهي تقتل وتشرد كل يوم آلاف الأبرياء من المصريين لا لذنب جنوه ولكن لأنهم آمنوا بوطنهم وطالبوا إنجلترا بالخروج منه؟ أين الضمير الأمريكي؟

ص: 19

ولكنا قد عرفنا الأمريكان وغيرهم من أهل الغرب. ألم يشردوا مليونا من العرب وطردوهم خارج ديارهم! واليوم تشرد إنجلترا سكان منطقة القنال! ولكن مهلا! إن نصر الله قريب.

وتونس

في 1830 احتلت فرنسا الجزائر، وفي 1881 ادعت فرنسا أن القبائل التونسية تهدد سلام الحدود الجزائرية، ثم أرسلت قواتها فاحتلت تونس بعد نضال مرير، وأرغمت (الباي) على توقيع معاهدة تعهد فيها أن تسير حكومته وفقا لرغبات فرنسا، وكان معنى هذا انتقال إدارة تونس إلى يد الفرنسيين.

وقد قام التونسيون منذ قليل يعلنون أنهم قد بلغوا سن الرشد وأن من حقهم أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. ولكن فرنسا لم تقبل هذا وانطلق أبناؤها يقتلون إخواننا الأبرياء من التونسيين، وفي كل يوم يسقط منهم جرحى وشهداء.

وهكذا يتآمر أهل الغرب ضد الشرق وحرياته وتقف دوله وخاصة إنجلترا وفرنسا في وجه الأماني المشروعة لأهل الشرق، وترتكب الدولتان في سبيل إبقاء سيادتهما أشنع الإثم وأفظع الجرم، ولكن الحركات القومية في الشرق لن يخمد أوارها حتى يعود للشرق مجده وكرامته وحريته واستقلاله.

يا بغاة الغرب

أكثروا من ظلمكم وبغيكم فإن فيهما مصرعكم، واعلموا أنكم كلما أمعنتم في الطغيان سفك الدماء قربنا من حرياتنا وأهدافنا.

أبو الفتوح عطيفة

ص: 20

‌3 - دعوة محمد

لتوماس كارليل

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

دين القوة والعدل

لقد اتهم كثيرون الدين الإسلامي بالشهوانية والدعوة إلى الاستكانة والخلود إلى الكسل، ولكني أرى أن كل ما كتب في هذا الموضوع وكل ما قيل فيه إنما هو جور وظلم لا يقبلهما منصف ولا يقرهما عاقل، فإن ما أباحه الإسلام مما تحرمه النصرانية، لم يكن من عند محمد وإنما كان متبعا لدى العرب جاريا عندهم من قديم الزمان. وكل ما عمله الإسلام أنه أراد أن يقلل من عادات العرب المستهجنة جهد استطاعته، وجعل عليها من الحدود والأحكام مما جعل الدين الإسلامي ليس سهلا هينا كما يدعي أولئك الحاقدون.

وكيف يكون الإسلام دينا هينا وفيه من القواعد الصعبة التي تربي المسلمين على الطاعة والنظام والنظافة والأخذ بأسباب القوة والمتعة؟ إن دينا فيه الوضوء وإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم والصوم شهرا كاملا كل سنة، وتحريم الخمر والميسر والزنا وأكل أموال اليتامى وغير ذلك، لا يكون إلا دينا يعمل لخير البشرية جمعاء. وإن دخول الناس في الإسلام أفواجا، وإقبالهم عليه، لم يكن كما يدعون، لسهولته ويسره وقلة تكاليفه، لأنه من أفحش الطعن على بني البشر والقدح في عقولهم وذم أعمالهم، أن يتهموا بأن السبب في محاولتهم القيام بجلائل الأعمال والإتيان بعظائم الأمور، هو الراحة والدعة والإخلاد إلى الهدوء، والتماس الجانب اللذيذ من الحياة الدنيا والتمتع بما في الآخرة بأيسر السبل، فإن أي آدمي لا يخلو من العظمة ومحاولة الوصول إلى جلائل الأعمال.

فنحن نجد الرجل المقاتل الذي يؤجر روحه ويمينه بأبخس الأجر، يتمسك بالشرف والرفعة ولا ينفك يقول: لأفعلن ذلك وشرفي. ولن نجد آدميا مهما كان وضيعا يقبل أن يكون كل همه من الحياة ملء جوفه بالطعام، ولكنا نجده يحاول دائما أن يأتي بأعمال شريفة يذكر بها ليثبت للناس أنه يستحق الحياة، وأنه ليس أقل من سواه من بني البشر. وما أشد تعس الذين يرمون الإنسان بأنه ميال بفطرته إلى الراحة والدعة وأنه يحب الترف ويستكين إلى

ص: 21

اللذة، وفاتهم أن الذي يجذب الإنسان ويستهويه إنما هي الأهوال والصعاب والقتل والاستشهاد. ومن أراد دليلا على قولي هذا، فليعمد إلى أبلد إنسان ويرشده إلى سبيل المكرمات والمحامد، فإنه لا يلبث أن يراه وقد اتقدت نفسه غيرة وتأجج قلبه حماسة، بل وإنه سيصبح بطلا عظيما. وما علينا إلا أن نقدح ما بنفس المرء من زناد الفضل فإنه لا بد وأن تشتعل نفسه نارا تحرق ما فيه من أوشاب ونقائص.

فمن الخطأ الفاحش أن نعتقد أن اعتناق الناس لدين من الأديان، عما يجدون فيه من يسر ودعة ومتاع ولذة، ولكنهم يدخلونه لما يثير في قلوبهم من عوامل الشرف والعظمة، ولما يبعث في نفوسهم من دواعي المجد والبطولة، والإسلام على الخصوص، ليس كما يتهمه خصومه دين راحة ودعة واستكانة ورضى بأي الحياة تكون، ولكنه دين عزة ومتعة ودين تربية وقوة، ودين شرف وفضيلة. وليس أدل على ذلك من سرعة انتشاره في أكثر بقاع الأرض في أقل من قرن من الزمان، صار العرب فيه سادة العالم وأساتذته.

وهذا ما للإسلام من مزايا وخلال عظيمة لا توجد - كما قلت - في دين غيره. وإن أشرف هذه المزايا وأجلها هي مساواته بين الناس، وهذه أكبر دليل على صواب الرأي وصدق النظر فالناس في الإسلام سواء لا يفضل أحدهم غيره إلا بالتقوى والعمل النافع (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)، (الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لابن البيضاء على ابن السوداء إلا بالتقوى والعمل).

ومن خلاله الحميدة، أنه لا يقتصر على جعل الصدقة سنة محبوبة بل جعلها فرضا على كل مسلم، وأنها إحدى قواعد الإسلام الخمس وقرنها بالصلاة (وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة) وجعلها جزءا مقدرا من مال المسلم الذي يستطيع إخراجها، توزع على الفقراء والمساكين وغيرهم ممن هم في حاجة إلى العون والمساعدة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم).

ما هذا؟ أنه صوت الإنسانية الطاهرة الكبيرة. أنه نداء الرحمة والإخاء والمساواة يخرج من ذلك القلب الكبير قلب ابن الصحراء، يحث الناس أن يواسي أغنياؤهم فقراءهم ويقول لهم

ص: 22

إن ما ستنفقونه سيرد إليكم أضعافا مضاعفة. (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء)، (مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل) ثم يحذرهم ويخوفهم عاقبة شحهم وكنزهم المال وعدم إنفاقه على من يستحقونه (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)

وأي دليل أقوى على تبرئة الإسلام من الميل إلى الملاذ والشهوات، من صيام شهر كامل كل سنة تزجر فيه النفس عن مطالبها وتحبس عن غاياتها، وتلجم فيه الشهوات، ويحال بينها وبين مآربها؟ وليس بالمهم أن يباشر المرء اللذات، وإنما المنكر هو أن تذل النفس وتخضع ضارعة لجبار الشهوات وتنقاد ذليلة خانعة لرغبات الشيطان، فإذا استطاع المرء أن يكون له على نفسه سلطان يكبح جماحها ويسلسل قيادها فإنه بذلك يكون قد بلغ أشرف المكارم وأمجد الخصال. وبهذا يستطيع أن يجعل من نفسه هاديا إلى الرشاد والخير، ومن لذائذه بدل أن تكون سلاسل وأغلالا تعييه وترهقه، يجعلها حليا وزخارف تزينه وتشرفه. وهذا هو المقصود من صوم شهر رمضان كل عام. وسواء أكان مقصودا من محمد لمسايرة ما كان عليه العرب قبل الإسلام أو كان من وحي الله له فهو والله نعم الأمر (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)

القرآن

أما القرآن فهو الكتاب الذي جاء به محمد من عند ربه، وضمنه تعاليم الإسلام وقواعده التي يجب على المسلمين اتباعها، وقد ضم بين دفتيه أحكاما لو اتبعها العالم لكان خيرا مما هو عليه الآن. وقد أعجب المسلمون به وحفظه أكثرهم عن ظهر قلب. وإن إعجابهم به وقولهم بإعجازه لأقوى دليل على اختلاف الأذواق في الأمم.

وقد ادعى كثير من الأوربيين أنه كتاب خال من الجمال والروعة، وفاتهم أن الترجمة هي التي تفقده روعته وتذهب بكثير من حسن صياغته وجمال صنعته. فإذا وجد غير العربي عناء ومشقة في فهمه ومعرفة وأسراره وأنه يخيل إليه وهو يقرأه أنه يقرأ صحيفة لا شيء فيها ويحمل نفسه المشاق والتعب ويحمل على ذهنه جبالا وهضابا من الكلم لا يجد بينها

ص: 23

كلمة لها معنى في نفسه؛ ذلك لأنه قد ذهبت روعة المعاني وجمال الألفاظ بالترجمة التي لا يمكن أن تكون كالأصل.

أما العربي فإنه يرى القرآن على عكس ما يراه غيره؛ لأن هناك صلة قوية بين لغة القرآن وبين لغة العربي، بل أنه نزل بها وهي اللغة الفصيحة المحببة إليه (إنا أنزلناه قرآناً عربياً غير ذي عوج)(بلسان عربي مبين) ولما بينه وبين الذوق العربي من الملاءمة والاتصال، ولذلك عرف العرب قدره وعظموه وأعطوه من التبجيل والاحترام، ما لم ينل بعضه الإنجيل من أتقى النصارى، بل إنهم عدوه معجزة خارقة. وكيف لا يكون كذلك وقد عجزوا وهم البلغاء والفصحاء على أن يأتوا بسورة من مثله (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين).

إنه الوحي المنزل من عند الله هدى للناس وتبصرة وسراجا منيرا يوضح لهم سبل العيش ويهديهم صراطا مستقيما، ومنذ أن نزل القرآن وهو قاعدة التشريع والعمل والقانون المتبع في شؤون الحياة ومسائلها، وما برح في كل زمان ومكان مصدر أحكام القضاة ومرشدهم يستنيرون به ويهتدون بهديه، ومن تعظيم العرب له أنهم جعلوه درسا واجبا على كل مسلم حفظه ودرسه والاسترشاد به في أمور الحياة ومشكلاتها. وفي البلاد الإسلامية مساجد يرتل فيها القرآن صباح مساء وفي بعضها يتلى القرآن جميعه كل يوم مرة، يقوم بهذا العمل نحو ثلاثين قارئا.

إن هذا الكتاب ما يزال رغم انقضاء اثني عشر قرنا على نزوله، يرن صوته في آذان آلاف من المسلمين وفي قلوبهم تتجاوب أصداؤه جنبات كثير من بقاع الأرض في كل يوم وساعة ولحظة. وقد قيل إن بعض الفقهاء قد قرأه أكثر من سبعين مرة.

وما أبعد الفرق بين القرآن والكتب الأخرى إذ أن تلك الكتب قد أصبحت كلمات لا صلة لها بالله الذي نزلها، بعد أن شوهها أهلها بالتحريف والتزوير لتناسب أغراضهم وتقضي حوائجهم. أما القرآن الذي بقى كما هو فإنه لا يزال يتخذ المكان الأول من قلوب المسلمين، بل أنه كثيرا ما يستولي على أفئدة السامعين من غير المسلمين، فإن الكلام إذا خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان أما إذا خرج من القلب فإنه ينفذ إلى قلب سامعه، وهذا هو حال المسلمين مع القرآن إذ أنهم يخرجونه من قلوبهم بعد أن طهرها من كل رجس ونقاها من

ص: 24

كل غل وبغض.

لقد اتهم بعض الحاقدين محمدا، بأنه هو الذي وضع القرآن، وأن القرآن ليس إلا بعض الخدع والحيل البلاغية لفقها محمد ليشغل بها الناس عما يرتكب ويلهيهم عما يقترف ولتكون له أعذاراً وذرائع ليبلغ بها ما تصبو إليه نفسه من مطامع وأهواء وغايات. وهؤلاء قد أعماهم التعصب البغيض عن التمييز بين الحق والباطل. وقد آن لنا أن نرد لهؤلاء أقوالهم في نحورهم، ليعلموا أنهم قصيرو النظر وأن الحق لا بد منتصر يوما وواجد أعوانا ومدافعين. إن هؤلاء شديدو البغض للحق بعيدون عن الصراحة. ولولا ما استولى على نفوس هؤلاء من حقد على محمد والإسلام لوضعوا الحق في نصابه ولكانت الصراحة رائدهم، فإن من كان صادق الحس ثاقب النظر، لن يرى في القرآن ذلك الرأي الباطل الذي لا يصدر عن عاقل يقدر الأمور ويضعها في مواضعها.

إني والله لأمقت كل من يحاول أن ينال من محمد ويرميه بمثل هذه الاتهامات والأكاذيب. فالقرآن لو تدبرتموه وعرفتموه لوجدتموه جمرات ذاكيات من الحق والصدق والخير والهدى والرشاد. . . التي يحتاجها العالم وبغيرها يهوى إلى قرار سحيق. إنها جمرات قذفت بها في نفس محمد الكبير، القوة القاهرة، بعد أن أذكت هذه النفس وأوقدتها الأفكار الطوال في الخلوات الصامتات. إننا لو عرفنا سيرة محمد لوجدنا أن تدفق الحوادث وتدافع الخطوب يحول بينه وبين تنسيق الكلام والروية في القول. ويالها من خطوب كانت تحدق به من كل جانب وتحيط به من كل مكان، فقد قضى الثلاث والعشرين سنة التي أخذ يدعو الناس فيها إلى الإسلام قطبا لرحى حوادث ومصادمات وحروب طاحنة مع قريش ومن ألبتهم عليه من العرب، ومصادمات مع أطراف الدول الأخرى المتاخمة لجزيرة العرب، وغير ذلك من عالم كله هرج وفتن ومحن قاسية، كل ذلك جعله في عناء دائم ونصب مستمر بعد تكليفه بتبليغ الرسالة التي أوحيت إليه، فلم تذق نفسه الراحة والهدوء من ذلك الوقت، فمن الخطأ أن نقول: أنه هو الذي وضع هذا الكتاب البليغ الأسلوب المنمق العبارة، الشامل لمسائل الحياة، الدنيا والآخرة والذي أعجز بلغاء العرب عن الإتيان بمثله. إن من أكبر العار على العالم أن يتهم محمدا بهذا الاتهام الباطل الجائر.

وإني لأتخيل محمدا ذا الروح الوثابة والقلب الكبير وهو يتململ ليله ساهرا، فإذا ظهرت له

ص: 25

بارقة نور استبشر وفرح بنزول الخير من عند الله.

إن هذا القلب الكبير، محال أن يكون قلب محتال أفاك. وإن هذه النفس الصافية التي تفور بالوجد وتتأجج بالخير لا يمكن أن تكون نفس مشعوذ دجال، كما يزعم الجهلة الأفاكون. كلا ثم كلا، فلقد كانت الحياة في نظره حقا، وكذلك الكون في نظره حقيقة كبرى تدل على قدر صانعها الذي أحسن كل شيء خلقه.

عبد الموجود عبد الحافظ

ص: 26

‌3 - عالم الذباب

بقلم المرحوم الأستاذ معروف الرصافي

(تتمة)

تكلم الدكتور في الفصل المذكور عن دوريل مكتشف البكتريوفاج. وقال أنه أثبت أن البكتريوفاج هو العامل الوحيد على إطفاء جائحات الهيضة المسماة بالهواء الأصفر أو الكوليرا، وإنه موجود في براز من هم في دور النقاهة من المرض المذكور، وإن الذباب يأخذه وينقله من براز هؤلاء، وإنه متى ظهر وانتشر الذباب الحامل للبكتريوفاج بكثرة في البلاد انطفأت جذوة الهواء الأصفر، وانقطع دابره بسرعة.

فيفهم من هذا، أن البكتريوفاج لا يوجد إلا في أيام الهيضة، لأن الذباب إنما يأخذه من براز الناقهين من هذا المرض، فإذا انقطعت الهيضة لم يبق للبكتريوفاج وجود. ولم يذكر لنا الدكتور في كتابه لا صراحة ولا ضمنا أن البكتريوفاج موجود في كل براز من براز الإنسان والحيوان لأنه إذا كان موجودا في كل براز لزم أن يكون موجودا في الذباب دائما وأبدا فأينما وجد الذباب وجد معه البكتريوفاج وإلا فلا.

ثم تكلم الدكتور في الفصل المذكور، فبين كيف كان دوريل يعمل على تكثير البكتويوفاج بازدراعه، وكيف كان يداوي به المريض بمرض الهيضة، وقال ثم أخرجت تجارب عديدة في الهند فأتت بنتائج باهرة فيما يختص بباسيل الدوز نطاريا الحادة، إلى أن قال فحصلوا على نتائج باهرة. وكان البكتريوفاج العامل في شفاء الكوليرا والدوزنطاريا الحادة. وقال ثم جاءت مجلة التجارب الطبية في عددها (54) الصادر في عام 1927 بمقال عنوانه البكتريوفاج في ذباب البيوت، قالت فيه لقد أطعم الذباب الذي يألف البيوت زرع الجراثيم المرضية، وبعد حين اختفى أثر هذه الجراثيم في الذباب فماتت كلها وتولد في الذباب مادة قاتلة تسمى البكتريوفاج. ويدعي الكاتب أنها خلاصة من الذباب، ومن محلول ملحي فسيولوجي، وأن هذه الخلاصة تحتوي على مادة البكتريوفاجين القوية المضادة لأربعة أنواع من الجراثيم المولدة للأمراض، أو أنها تحتوي على مادة نافعة أخرى ليست من نوع البكتريوفاج، ولكنها من حيث الجوهر تفيد الدفاع العضوي عند مقاومته أربعة أنواع من الجراثيم المرضية. هذا آخر ما قاله الدكتور في الفصل المذكور.

ص: 27

فيفهم من هذا فهما جليا، أن البكتريوفاج لا يشفي من جميع الأمراض وإنما يشفي من مرض الهيضة والدوزنطاريا لأن هذين المرضين يشتركان في أنهما اختلال في الأمعاء. ويفهم أيضاً أن البكتريوفاج لا يضاد جميع الجراثيم المضادة التي ينقل الذباب بواسطتها الأمراض إلى الناس، وتكلم الدكتور عنها وعددها في الفصل الثاني من رسالته، فذكر منها السل والدراخوما والتيفوئيد والزحار والطاعون والحمرة والجمرة الخبيثة والكوليرا والجذام والتيفوس والرمد بأنواعه.

وبهذا يتضح أن الذباب لا يأخذ البكتريوفاج إلا من براز الناقهين من مرض الهيضة، وهذا لا يوجد في كل زمان ومكان. وأما الخلاصة التي ذكرها عن مجلة التجارب الطبية والتي تحتوي على المادة البكتريوفاجية، فالبكتريوفاج فيها حاصل بالتطعيم ولم يأخذه الذباب من الخارج، إلا أنها تدل على أن الذباب فيه خاصية توليد المادة البكتريوفاجية المضادة لأربعة أنواع من الأمراض لا للأمراض كلها، وهذا لا يلزم منه أن يكون الذباب مطهرا بالبكتريوفاج من جميع الأدواء، ولا شافيا من جميع الأمراض، كما أنه لا يستوجب غمس الذباب في الشراب على الإطلاق. أما الحديث فإنه يطلق الأمر بغمس الذباب ولم يقيده بشيء.

هذا ما نستخلصه من كلام الدكتور للجواب على السؤالين المذكورين في صدر المقال ثم نقول

إن البكتريوفاج لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون موجودا في الذباب دائما وأبدا وشافيا من جميع الأمراض، وإما أن لا يكون كذلك. فعلى التقدير الأول يلزم أن نتخذ الذباب في حياتنا واقياً لنا من جميع الأمراض، وأن نعني كل العناية به وبتنميته وبتكثيره في بيوتنا وألا نتحاشاه، بل نضعه في أطعمتنا وأشربتنا لنأمن به من عاديات الأسقام وجائحات الأمراض.

وإذا كان هذا حقا فلماذا نرى الدكتور في رسالته يصيح بالناس صيحة النذير العريان، فيحذرهم من أخطاره وينذرهم بأضراره، ويستحثهم على محوه واستئصاله، كما أطال الكلام بذلك في الباب السادس والسابع والثامن من رسالته.

وأما على التقدير الثاني، وهو أن البكتريوفاج لا يوجد في الذباب دائما وأبدا، وإنما يوجد

ص: 28

فيه عند حدوث أحوال وظروف خاصة، وأنه لا يشفي من جميع الأمراض ولا يضاد جميع الجراثيم، وإنما يشفي من أمراض خاصة، ويضاد أربعة من الجراثيم المضرة، فنقول فيه أنه يلزم حينئذ أن يكون الأمر بغمس الذباب في الشراب مقيدا بتلك الظروف والأحوال، لا مطلقا. ولا يخفى أن الحديث الذي جعله الدكتور من معجزات الرسول يطلق الأمر بالغمس ولم يقيده بشيء، كما أنه يخص بالشفاء أحد الجناحين دون الآخر.

أما أنا فلا أشك في أن الحديث موضوع لا أصل له كما ذكرت ذلك وبينته في كتابي (الشخصية المحمدية) عند الكلام على الرواية عند العرب. ومن العبث أن نفتش عن معجزات رسول الله في مثل هذه الأمور التي يكتشفها الناس ويصلون إلى معرفتها بالطرق العلمية والوسائط الفنية، ولو كانت معجزة لما قدروا على اكتشافها. ولو جاز أن نثبت معجزة من هذا النوع لجاز أن نثبتها للمتنبي شاعر العرب فإنه قبل عشرة قرون قال:

لعل عتبك محمود عواقبه

فربما صحت الأجسام بالعلل

انتقد المتنبي على هذا وقيل له هذا من قول الطبيب أو الحكيم كما تفي رسالة الحاتمي أو غيره، فأنظر إليها فقد قال هذا في الأيام التي كان التطعيم فيها بجراثيم الأمراض غير معلوم، وفي البكترويولوجيا غير موجود، فأين هذا وأين المعجزات؟

إن الله لم يرسل رسوله إلى الناس لتعليمهم العلم وإنما أرسله إليهم ليصلحهم ويأخذهم بالطاعة وبالأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، ذلك لأن السعادة الإنسانية لا تتحقق إلا في مجتمع، وإن المجتمع لا يتم بناؤه إلا بالتعاون المخلص، والخلق المستقيم الصادق وبالعمل الصالح كما ذهب إليه ابن رشد وغيره من فلاسفة الإسلام، فليس غرض الشارع تلقين العلم، بل غرضه كما قلنا أخذ الناس بالطاعة وبالأعمال الصالحة.

أما المعجزة فهي كل ما خرج عن مقدور البشر عادة، فلا بد للمعجزة من خرق العادة، ولذلك قالوا (لله خرق العادات) وأما هذه الأمور المجهولة فهي داخلة في مقدور الناس عادة. لأنهم يتوصلون إلى اكتشافها ومعرفتها بالتجريب أو بالبحث والتنقيب أو بغير ذلك من الطرق العلمية.

ونحن إذا أردنا أن نعرف معجزة المعجزات فلننظر إلى رسول الله محمد بن عبد الله يتيم مكة وفقيرها كيف قام بالدعوة إلى الإسلام في أيام كان العرب فيها محتربين متعادين

ص: 29

متناكرين، يأكل بعضهم بعضا كالنار تأكل بعضها إن لم تجد من تأكله، وكيف قاومته العرب حتى عشيرته الأقربون، وكيف استمر على الدعوة بنفسه الكبيرة وعزمه العظيم الجبار متحملا في سبيل ذلك من المصائب والمتاعب ما فوق طاقة كل إنسان، حتى جمع أشتات العرب ووحد كلمتهم! وأحدث بهم نهضة كبرى، عربية المبدأ، عالمية المنتهى، فسارت بهم أعلامهم إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب خافقة بالنصر ومرفوفة بالعدل والإحسان، وكان كل ذلك في مدة لا تزيد على عشرين سنة بعد وفاته.

ولو أن سائحا في ذلك الزمان الذي لا واسطة فيه أسرع من البعير، أراد أن يسيح سياحة متفرج لا فاتح في البلاد التي نشروا فيها لواء العدل والتوحيد لما استطاع أن يتم سياحته في أقل من هذه المدة. فهذه معجزة المعجزات التي أظهرها الله على يد محمد، والتي لم يسبق ولن يكون لها نظير في تاريخ البشر.

بغداد 1943

معروف الرصافي

ص: 30

‌شعراء من شعراءهم

عدي بن زيد العبادي

- 1 -

نشأته. . . ثقافته. . . دخوله في خدمة كسرى. . . سفارته بين كسرى وقيصر. . . أبوه زيد وملك الحيرة. . . الصلة بين زيد والمنذر أبي النعمان. . . إجلال المنذر لعدي، تربية عدي النعمان الأصغر. . . العلاقات بين بيتي عدي والنعمان الأصغر.

تزوج حماد بن زيد بن أيوب بن محروف من امرأة من طيء، فأولدها ولدا أسماه زيدا. وكان حماد هذا كاتبا للملك النعمان الأكبر. وكان له صديق من الدهاقين المرازبة العظماء يقال له (فروخ ماهان) وكان الدهقان محسا إلى حماد؛ فلما حضرت حماد الوفاة أوصى بابنه زيد إلى الدهقان، فضمه الدهقان إليه مع ولده. وكان زيد حذق الكتابة العربية قبل أن يضمه الدهقان إليه، ثم علمه الدهقان الفارسية فلقنها، ثم أشار الدهقان على كسرى أن يجعل زيدا على البريد في حوائجه ومهامه، فمكث زيد يتولى ذلك لكسرى زمانا.

ثم أن النعمان الأكبر، وهو والي كسرى على الحيرة، هلك فاختلف أهل الحيرة فيمن يملكونه عليهم حتى يختار كسرى الملك الذي يريد أن يعقد له. فأشار عليهم الدهقان أن يختاروا زيد بن حماد. فكان ملكهم إلى أن عقد كسرى للمنذر بن ماء السماء: المنذر بن النعمان.

وقد تزوج زيد بن حماد نعمة بنت ثعلبة العدوية، فولدت له عديا. وولد للدهقان ولد سماه (شاهان مرد) فلما تحرك عدي وأيفع، طرحه أبوه زيد في الكتاب، حتى إذا حذق أرسله الدهقان مع أبنه إلى كتاب الفارسية، فكان يختلف إليه ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية حتى خرج من أفهم الناس بها، وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر، وتعلم الرمي بالنشاب، فكان من الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصولجان، وغيرها.

وحين ألحق الدهقان ابنه (شاهان مرد) بالخدمة لدى كسرى، سعى ليلحق عديا بخدمة كسرى أيضا، ووصفه بأنه (أفصح الناس، وأكتبهم بالعربية والفارسية، والملك محتاج إلى مثله) فرغب كسرى فيه، وكان جميل الوجه فائق الحسن وكانت الفرس تتبرك بالجميل الوجه، فلما كلمه وجده أظرف الناس وأحضرهم جوابا، فأثبته مع ولد الدهقان.

ص: 31

وعدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى. وقد كان كسرى يأذن له في الخاصة، وكان معجبا به قريبا منه. وكان عدي إذا دخل على المنذر، والى كسرى على الحيرة، قام جميع من عنده حتى يقعد عدي، فعلا له بذاك صيت عظيم، ورغب إليه أهل الحيرة ورهبوه.

وقد سفر عدي لكسرى بعض السفارات، فأرسله إلى ملك الروم بهدية من أطرف ما عنده، فلما أتى عدي ملك الروم أكرمه، وطاف به في أطراف بلاده ليريه سعة أرضه وعظيم ملكه. ومن البلاد التي طاف بها بلاد الشام. ويبدو أنه مكث بدمشق زمانا. وقد قال وهو في الشام يتشوق إلى الحيرة، ويذكر أيامه فيها، ويفضلها على دمشق:

رب دار بأسفل الجزع من دو

مة أشهى إلي من جيرون

وندامي لا يفرحون بما نا

لوا، ولا يرهبون صرف المنون

قد سقيت الشمول في دار بشر

قهوة مزة بماء سخين

ودومة هذا هي الحيرة - وجيرون بناء عند باب دمشق وقام قوم هي دمشق نفسها.

ولما كان عدي بدمشق فسد أمر الحيرة، لأن أهلها أرادوا قتل المنذر، لأنه كان لا يعدل فيهم، وكان يأخذ من أموالهم ما يعجبه. ولما علم بذلك المنذر بعث إلى زيد بن حماد، أبي عدي، وكان قبله على الحيرة كما سبق، وحدثه فيما بلغه من أنباء تبرم أهل الحيرة به وعزمهم قتله، فمحضه النصح وأخلص له، وأرضى أهل الحيرة، وأصلح بينهم وبين ملكهم المنذر، وجعل له اسم الملك والغزو والقتال، وما دون ذلك فهو لزيد. وقد شكر المنذر هذه النعمة وأقسم أن يحفظها له.

وبعد مدة قدم عدي المدائن على كسرى بهدية قيصر، فصادف أباه زيدا والدهقان المرزبان قد هلكا جميعا، فأستأذن كسرى في الإلمام بالحيرة فأذن له، فتوجه إليها. وبلغ المنذر أن عديا قادم إلى الحيرة، فخرج وتلقاه في الناس، ورجع معه.

ولثقة المنذر بعدي، ولما عليه عدي من خلق أعجب به المنذر، ولتطواف عدي في بلاد كثيرة، ولخلطته الدانية به وبالكبراء في معية كسرى، ولمنزلته الرفيعة بين الناس، ولمعرفته بالفارسية والعربية، لكل هذا جعل المنذر عديا مربيا ومؤدبا لابنه النعمان الأصغر، هذا الذي سيكون ملك الحيرة بعد أبيه المنذر، وهذا الذي ستشتد الخصومة بينه وبين عدي حتى يتناكرا، ولا يتعارفا، إلى آخر الزمان.

ص: 32

وقد كان لعدي مكانة عالية ومنزلة رفيعة في أنفس أهل الحيرة؛ إذ هو كاتب كسرى، وهو سفيره إلى قيصر، وهو ابن زيد ملكهم من قبل، وهو المكرم لدى المنذر، ثم هو الرجل العارف بلسان العرب ولسان الفرس والطائف ببلاد الروم - وقد أهل هذا كله عديا ليكون أنبل أهل الحيرة في أنفسهم، ولو أراد أن يملكوه لملكوه، ولكنه كان يؤثر الصيد واللهو واللعب على الملك، وكان يؤثر فراغ البال والارتحال.

ولعلك قد علمت بهذا أن عديا قد تربى في أحضان النعمة، وأنه لم يكن باديا جافيا، وأنه قد استنار بما اطلع عليه من أحوال في ديواني كسرى وقيصر، وأنه قد ثقف وتهذب وسمع بكثير من الأخبار والأحداث، ورأى ما لم يره غيره، وعرف عن الروم كثيرا وعن الفرس أكثر. ولعلك قد عرفت أيضاً أنه لم يكن رجلا كالناس، بل كان أنبل وأعرق من كثير منهم، وكان له فضل منزلة عندهم. وإن كان عدي قد سعى إلى مثل هذه المنزلة العارفة الكريمة، فإنه يجب ألا نغفل فضل أبيه عليه، وتمهيده لهذه المنزلة التي سما إليها ابنه؛ فقد كان الأب ملكا على الحيرة حتى يعقد كسرى لمن أراد، وكان مرجع أهلها فيما ينوبهم من حدث وحال؛ فكأنه كان رجلا نزيها عفا، يلجأ إليه حين تتحرك الشهوات من عقالها فما يتشهى ولا يسعى لخير نفسه، ولكنه يسعى لعامة الناس وجدواهم. وهذه خلة تضفي على الرجل كرامة، وتضفي على من يتصلون به كرامة، فما بالك لو كان المتصلون به أهلا وأولادا كعدي شاعرنا. ولعلك بهذا قد عرفت العلاقات الوثيقة التي توثق بين بيتي عدي والنعمان الأصغر؛ فقد تعارف أبواهما من قبل، وتصادقا، وتعاونا، وكاد يكون ملك الحيرة مراوحا بينهما، وكان أهل البيتين جميعا من المقربين إلى كسرى، وكان عدي أستاذ النعمان ومربيه ومؤدبه ومقومه - هو وأهل بيته.

وهذه منزلة تؤهل الناس لحسد الناس. وهي إن جعلت من الأصدقاء كثيرين فهي تجعل من الأعداء الشانئين كثيرين أيضا. ويجب هنا أن نعرف شيئا، وهو أن أصدقاء الرجل النبيل الخدوم إنما يكونون من العامة وأمثالهم - هؤلاء الذين يرجع عليهم فضله ويهب لهم قواه، أما الرؤساء أمثاله والسادة أمثاله، فهم يشنأونه لمنزلته ومكانته وكرامته، ويسعون جاهدين كائدين حتى يخلو لهم الجو وتعبد السبيل.

وقد كان لعدي بن زيد أخوان، أحدهما اسمه عمار ولقبه أبي، والآخر اسمه عمره ولقبه

ص: 33

سمي. وكان لهم أخ من أمهم يقال له عدي بن حنظلة من طىء. وقد كان لهؤلاء الاخوة منزلة عند الأكاسرة، وكان لهم معهم أكل وناحية، يقطعونهم القطائع، ويجزلون صلاتهم، ويقربونهم ويعطفون عليهم.

فكأن الأكاسرة قد رعتهم جميعا: رعت حمادا وابنه زيدا وحفيده عديا واخوته، ورعت المنذر والنعمان. وكأن الأكاسرة كانوا يستعينون بهم جميعا في وظائف شتى، وقد قدم هؤلاء من ناحيتهم ما استطاعوا أن يقدموه لمن رعوهم وأحسنوا إليهم؛ فلقد كان ملك الحيرة في بيت النعمان، ومعروف أن ملك الحيرة كان في معناه إخضاعا لطائفة من العرب لحكم الفرس. وأما حماد فكان كاتب النعمان الأكبر وكان زيد كاتبا لكسرى زمانا، وملكا على الحيرة زمانا، ومعينا للمنذر زمانا. وكان عدي كاتبا لكسرى وسفيرا له لدى قيصر، ومؤدبا ومربيا للنعمان الأصغر.

للبحث صلة

محمود عبد العزيز محرم

ص: 34

‌بين محمد وأصحابه

للأستاذ أحمد الشرباصي

حينما ندرس شخصية محمد صلوات الله عليه من جوانبها المختلفة، نعلم أنه المثل الأعلى الذي يتجلى لكل طامح إلى المفاخر، أو طامع في معالي الأمور؛ وما نريد حين نجلي ملامح هذه العظمة المحمدية أن نضيف إلى صاحبها شرفا جديدا، فليس بعد تكريم الله تكريم، ولكنها أنفسنا نحن التي نبحث لها عن الخير، ونطلب لها المزيد من التربية والتهذيب، وليس كالقدوة الحسنة في الإغراء على التشبه والمضاء. . . وما نريد أن نغلو في شأن رسولنا كما غلا سوانا، فإننا لنعلم أولا أن الله أعلى وأكبر، وأن محمدا بشر، قيل له من قبل:(إنك ميت وإنهم ميتون). وقيل عنه: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الله الشاكرين).

ولو أن هذه العظمة اقتصرت على شخص صاحبها، فلم يستفض نورها هنا وهناك، ولم تلق ظلالها الطيبة على هذا وذاك، لما شغلت التاريخ بهذه الصورة، ولما بقيت لها هذه الروعة الدائمة وذلك البهاء الموصول، ولقال القائل: وما نفع كنز عظيم لا ينال الناس منه خيرا؟ وما قيمة محيط واسع لا يجد الراغبون إليه سبيلا؟. . . ولكن محمدا هو الذي هتف: (ما استحق الحياة من عاش لنفسه فقط). ولذلك كانت عظمته لغيره قبل أن تكون لنفسه. وكأنما خلق الله رسوله على عينه، وجمع له أطراف المحامد والمكارم، ليظهر فيه سر النبوة وسمو الرسالة، ثم أتاح لصفيه وحبيبه بعد ذلك أن يفيض من هذا النبع الذي لا يغيض، على من حوله ومن يأخذون عنه، والرسول حينئذ لا يستطيع أن يخلق من هؤلاء الأتباع صورا مطابقة كل المطابقة لشخصه وذاته، وإلا لصار هؤلاء الأتباع رسلا مثله؛ فليس له إلا أن يهيئ لكل واحد منهم ما يناسبه ويلائمه، فيغترف من حوض الرسول ما استطاع. ومن هنا رأينا العظمة المتجمعة في شخص محمد صلوات الله عليه تتفرق في أشخاص أصحابه، وفي خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين بوجه خاص؛ فهذا أبو بكر مثلا يرث من رسوله نور اليقين والإيمان، ويقوى عنده هذا النور حتى يسطع فيبهر، فيصفه بالصادق المصدوق قائلا: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح إيمان

ص: 35

أبي بكر على إيمان هذه الأمة)!. . .

وهذا عمر يرث عن رسوله حسن التدبير وعمق التفكير وصواب النظر وأصالة الرأي، حتى ليقول فيه المصطفى:(إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه). وحتى يستطيع عمر إبان خلافته أن يسوس دولة ما ساسها قيصر من قبل أو شاه، وأن يجتهد في أمور الدين والدنيا، فيهديه ربه إلى فض مشكلات وحل معضلات ما كان يقتدر عليها لولا أنه تخرج من مدرسة النبوة التي تفيض بالهدى والرشاد. . .

وهذا عثمان يرث عن رسوله رقة الطباع ودماثة الأخلاق وشدة الحياء، حتى يستحي من نفسه وهو منفرد متجرد لاغتساله، وحتى يقول فيه الرسول:(أصدق أمتي حياء عثمان). وإنه ليدخل على الرسول فيستحي الرسول منه، فتسأله عائشة عن سبب ذلك، فيقول:(ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)؟

وهذا علي يرث عن رسوله زهده وتقشفه، حتى تهون في نظره أعراض الحياة وأغراض العيش ولذائذ الدنيا، فيصرخ في وجه الدنيا قائلا:(يا دنيا غري غيري، إلي تعرضت أم إلي تشوقت؟ هيهات، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيهن. آه من طول الطريق، وقلة الزاد ووحشة السفر)

وهناك ناحية أخرى. . . إن القائد يجب ألا ينفرد بالسلطان والمجد، وألا يستأثر بالرأي يستحوذ عليه، أو الثناء يستبد به. وكم من أناس هيأت لهم الأقدار أن يبلغوا مناصب القيادة والرياسة، فخيل إليهم أنهم قد صاروا في الكون آلهة، وما من إله إلا إله واحد، فلا يقضى أمر إلا بكلمتهم، ولا يوجه مدح إلا إلى ذاتهم، ولا يسبح مسبح إلا بحمدهم وشكرانهم، وإن قلوبهم الحاقدة الحاسدة لتتميز من الغيظ وتتقطع من الغل إذا رأوا شخصا غيرهم فعل مكرمة أو استحق تمجيدا، أو بدأ نجمه في الظهور والسطوع. وإنهم ليبذلون كل شيء لكي يقضوا على كل نابغ أو ناهض، ليضمنوا البقاء لأنفسهم، وليرضوا شهوة الأنانية المتعمقة في جذور طباعهم. وأف لزمان تفنى الجماعة فيه ليعيش القائد، وتذل الأمة ليعز فرد على أنقاض أبنائها!.

وعلى العكس من ذلك كان رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام. لقد بعث محمد عظمته في صحابته، وشاركهم فيما منحه الله من صفات وبركات، فحفظ للصغير حقه قبل الكبير،

ص: 36

وشاور قومه في الجليل والقليل، وأعطى كلا منهم نصيبه في التحية والإكرام، وأظهر تقدير كل عامل، وأعلن شكران كل فاضل، وما من مكرمة جرت على يد صحابي إلا فرح لها الرسول، كأنها جرت على يديه، وهكذا يكون القائد الرحيب الأفق المتفتح القلب النقي الضمير الطاهر الشعور. . .

وها هو ذا يمجد أصحابه عامة فيقول: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه). ويقول أيضاً: (أصحاب كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).

ثم ها هو ذا يمجد أصحابه فرادى، فيصف كل واحد منهم بوصف له جماله وبهاؤه، فأبو بكر هو الصديق، وعمر هو الفاروق، وعثمان ذو النورين، وعلي مدينة العلم، وأبن الزبير حمامة المسجد، وسعد بن أبي وقاص مجاب الدعوات، وطلحة بن عبيد الله الشهيد الذي يمشي على الأرض، وأبو عبيدة عامر بن الجراح أمين هذه الأمة، وخالد بن الوليد سيف الله المسلول، وحنظلة غسيل الملائكة، وجعفر بن أبي طالب هو الطيار في الجنة ذو الجناحين؛ إلى غير ذلك من جميل الصفات ورائع النعوت.

نستفيد من هذا أن الأمة يجب أن تهتدي بهدى قائدها وراعيها، حتى تتجلى مواهبه في أفرادها ونواحيها، فيصبح كل إنسان عظيما في ناحية أو عدة نواح، فتكثر الأيدي القوية العاملة؛ وأن القائد يجب ألا يكون أنانياً يستحوذ على الفضل والخير كله، بل يقدر العاملين، ويهيئ فرص النبوغ للنابغين، حتى تتبارى الكفايات وتظهر العبقريات (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)!

وليس بعد أمة محمد أمة، لأنها خير أمة أخرجت للناس، وليس مثل محمد قائد أو زعيم، لأنه رحمة الله للعاملين، فلم يبق إلا المسير، فمتى يكون؟. . .

أحمد الشرباصي

ص: 37

‌رسالة الشعر

إلى الميدان

أرى الميدان - يا أماه - نحو المجد يدعوني

فلا تبكي إذا أسرعت. . في كفي سكيني

لأقتل كل صعلوك وأذبح كل ملعون

وأغسل بالدم المسفوح كل جراحي الجون

وألقي في مياه النيل - ذئب الذل والهون

فترفع مصر رايتها. . وترجع عهد آمون

وتحيا حرة أبدا. . فلا تعنو لمجنون

أرى الميدان - يا أماه - يزخر فيه إخواني

فكل فتى سليل النيل مني بعض أركاني

وأمي مصر - يا أماه - من دلتا لسودان

سقتني من رحيق النيل أعذب من طلي ألحان

سقتني الحب في مهدي وقالت: لست تنساني

إذا ألفيتني يوما أطارد أي ثعبان

فحطم رأسه المسموم في صبر وإيمان

وها هو ذلك الثعبان فوق قنالها الأسمى

يحرك رأسه الملعون - أخشى ينفث السما

فيقتل مصر - يا أمي - أخاف يقسم الأما

ويفعل كل ما يصبو إليه، وينفذ السهما

أراه. . أراه. . يا أمي. . على ضفاتنا. . يرمي

وها هم نسل فرعون أحاطوا حوله جهما

وفي أجفانهم قلق يكاد يمزق الظلما

دعيني أقطع الخطوات نحو المجد لهفانا

وفي كفي سكين تصب الموت ألوانا

ص: 38

توشي الأرض من دمهم وتروى منه ظمآنا

فمصر تصيح أنقذني، فإن لدي ثعبانا

يسمم عذب أمواهي، فأدرك كيده الآنا

فماء النيل لا يروي على الأيام كسلانا

وحاشا مصر، ما ولدت من الأبناء خوانا

دعيني إنني غاد أشق السهل والوعرا

وأمشي حافيا عريان، لا أستصعب الحرا

أبيع ثيابي اللاتي تقيني البرد والقرا

وكتب العلم أدفعها لشار يدفع الأجرا

لأحمل بعد سكينا، وأذهب أقطع القفرا

إلى الميدان أحملها، وأحمل بينها الذعرا

لأدفع كيد مغتصب، وأصرع ذلك الشرا

إذا ما مت في الميدان لا تبكي ولا تهني

فبنت النيل ما خلقت لسفح الدمع والشجن

روحي واسألي الجيران يا أماه عن وطني

وماذا فيه يفرحنا عن الأعداء من محن

فإن أخبرت ما يسلي فؤاد الميت الحزن

فعودي وانثري زهرا على المطمور من بدني

وغني غنوة التحرير أو أنشودة الزمن

شاعر

ترنيمة الشهيد

للأستاذ كامل أمين أيوب

(إنه الصوت الأخير الذي يردده قلب الشهيد في لحظاته الأخيرة. . . أنه صوتي عندما أحظى بشرف الاستشهاد بعد أن أقف أمام الأعداء موقف المصري الجريء الحر. .)

ص: 39

الآن باسم كرامتي وإبائي

أفنى لتخلد أمتي بفنائي

الآن أثبت للكنانة مجدها

وأخط صفحة عزها بدمائي

الآن أصعد للسماء بجوهري

فليفرح الأوغاد بالأشلاء

والله ما قتلوا القتيل وإنما

أحيوا عليهم ثورة الأحياء

فليرقبوا نار القلوب تشب في

نير الطغاة سريعة الإفضاء

وليعلموا أن الكنانة قد أبت

ضيم اللئام وخسة الدخلاء

قد بيتوا الداء العياء لرمينا

فلينظروا فيمن سموم الداء

ما راح منا واحد إلا وقد

ثأرت ظباه لذاهب ولجائي

الموت مفخرة الكرام لدى الوغى

ومن الردى في الحرب خير رداء

إن مت قبل النصر لست بنادم

فلقد تركت لنيله زملائي

ما دام صوت الحق ملء صدورهم

فالله ناصرهم على الأعداء

أماه لا تبكي علي ويا أبي

جفف دموعك وابتهج بقضائي

ما مت وحدي بل مع الأحرار في

يوم الجهاد وساحة الشهداء

جند بقية اخوتي فلعلهم

يبلون في الميدان خير بلاء

لا بد في سبل العلا من فدية

لم لا ننال مكانة الفداء

ما مات من عرف الجهاد، ونافق

من حي في الأغلال دون حياء

يا مصر فيك من الأسود كواشر

تمضي لبغيتها بكل مضاء

أسد إذا ما أنشبت أظافرها

ظفرت بكل محالة غدقاء

لا ترهب النيران أو ضوضاءها

وتسير في النيران والضوضاء

يا مصر أقضي الآن غير مخوف

ما دمت خلفت الأسود ورائي

الله أكبر. . منك كنت وما أنا

إلا صنيعة أرضك الخضراء

واليوم ألقى الموت باسمك فاخلدي

يا مصر. . عالية على الجوزاء

كامل أمين أيوب

ذكرى حبيب

ص: 40

للأستاذ محمد فوزي العنتيل

. . . ذكريات محترقة بذلك اللهيب المقدس، الذي يضيء أرواحنا، (ذكرى حب بغير أمل. . كما كانت تقول. .!!)

تهب على واديك أنسام حبنا. .

تذكرك العهد الذي كنت ناسيا

تذكرك الماضي، وقد كان جنة

وشفنا مع اللذات فيها الأمانيا

وتشرق في دنياك أيامنا التي

تولت وأبقت نارها في دمائيا

سمت بك روحي للسماء، وقادني

إليك حنيني في هواك، وما بيا.!

عشقتك روحا خالدا، وحقيقة

تعالت على وصفي؛ فأعيت لسانيا

وقدست فيك الحزن، والحسن، والهوى

وأحببت منك الحب كأسا، وساقياً

وخلدتني روحا، وإن كنت سائرا

إلى الشاطئ المجهول أفني بقائيا

وألهمتني معنى الجمال فسبحت. .

بحسنك أشواقي، وقلبي، وذاتيا. .!!

ذكرتك والليل البهيم مطوف. .

إلى روحك المحبوب حن فؤاديا

ذكرتك والأزهار تبسم للندى

فيشبعها لثما، ويرتد باكيا. .!!

ذكرتك والأمواج ينساب لحنها

يفسر للشطئان سر عذابيا. .!!

جثوت وأرسلت الدموع سوافحا. .

وغمغمت بالنجوى، وطال دعائيا. .

تضرعت والأكوان حولي خشع. .

وهرتني الشكوى؛ وألقت ردائيا

أغاريد من ذكراك في الفجر رفرفت

على الشاطئ المحبوب أحيت رجائيا. .!

تنسمت منها العطر، والشوق، والمنى. .

وعدت إلى الماضي، وكان ورائيا. .!

وهاجت شجوني؛ فانطلقت مغردا

على غصنك المياد أزجي الأغانيا

وراح نسيم الفجر - والنهر خاشع -

يقبل أزهار الربى، والروابيا.!!

عطفت على روح حزين معذب. .

ورويت قلباً كان قبلك صاديا. .

وفجرت لي نبعا من الشوق دافقا

رشفت به من سلسل الحب صافيا.!!

أيا ليتنا كنا مزجنا فلم نعد

حبيبين ذابا لوعة. . وتنائيا

وكنت أنا الجسم الذي يحمل الهوى. .

وكنت حياتي، ثم كنت فنائيا. .!

ص: 41

ونؤخذ في ذنب، وإن كنت جئته

وننعم في قرب، وإن كنت عاصيا

بلى!. . إنني أرضى، وإن كنت طائعا

أعذب وحدي كي تنعم راضيا

فإن أك قد أخطأت فاغفر خطيئتي

وإلا فأدركني. . فأنت رجائيا. .!!

محمد فوزي العنتيل

ص: 42

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

للأستاذ عباس خضر

الدكتور زكي مبارك:

. . . وأخيرا مات زكي مبارك. . . مات بعد حياة طويلة بعض الطول ولكنها عريضة كل العرض، حياة تتلخص في كلمة واحدة جامعة هي (الصراع). . . كان يصارع في معترك العيش، وكان يصارع في ميدان الأدب، وقد ظل يصارع حتى نال منه الجهد في السنوات الأخيرة من حياته الحافلة فأدمته أشواك كان يبدي لها الجلد، فيضمد جراحه ويحاول أن يمضي في كفاحه، ولكن كان يغلبه الترنح الذي أسلمه إلى التفكك. وكان الناس ينظرون إليه في هذه الحقبة الأخيرة على خلاف في الرأي والمزاج، كان بعضهم يأسف لانتهائه قبل وفاته، وكان قراؤه يلقفون ما يكتب على علاته ويتناولون ثمرات قلمه غير عابئين بما عليها من غبار وما يختلط بها من حشف. وكان أشد ما يجذب القراء إليه ما ظل يشعشع كتابته من روح نابض وظل خفيف.

كان زكي مبارك يمثل في صراعه الفلاح المصري أتم تمثيل، كان فلاحا خارج القرية، شق بقلمه طريقه إلى الجامعة المصرية وإلى السربون وإلى الصدارة في عالم الأدب العربي الحديث، كما يشق الفلاح بفأسه الأرض لاستنباط رزقه. وكان زكي مبارك يحرث حقله في الأدب ليقيم خطوطه، والويل لمن يعترض طريقه، فإذا استوى زرعه وآتى أكله تولى حراسته ووقف بالمرصاد لمن يقترب منه. ولم يفته طبع الفلاح في الجور على حدود جاره وقتاله إذا استدعى الأمر، ويتجلى هذا في صياله مع الأدباء، ذلك الصيال الذي كان يحمل فيه القلم كما يحمل الفلاح (النبوت).

نشأ زكي مبارك في الأزهر، ولكنه لم يكن كسائر الأزهريين ، فلم يكن من المقبلين على (علم) الأزهر العاكفين على طرائقه المأثورة، بل كان من الفئة القليلة التي خرجت من بين تلك الجدران تتلمس الأدب هنا وهناك، وجده أولا في الأزهر على يد أستاذه وأستاذ غيره من تلك الفئة القليلة الشيخ سيد المرصفي الذي كان يقرأ لهم كتب الأدب القديمة ويدني كنوزها من قرائحهم وأذواقهم المتطلعة.

ولم يكن زكي مبارك في الأزهر بالطالب الخامل، فإن فاته الظهور في الدراسة الأزهرية

ص: 43

المأثورة فلن يفوته مجال الشعر والأدب فكان خطيب المحافل وشاعر المجامع، وقد خاض غمار الثورة في فجر النهضة الوطنية وقذف نفسه في أتونها المستعر وعانى الأهوال في السجون والمعاقل.

واتجه صوب الجامعة المصرية القديمة فوجد فيها أفقا أرحب ومرودا أعذب ، فجال فيها ونهل. وبعزيمة الفلاح وقدرته على التقشف رحل إلى طلب العلم في باريس، فقد كان يعيش هناك على النذر اليسير الذي يظفر به أجرا لمقالاته في بعض الصحف المصرية. ثم عاد إلى مصر بعد أن حصل على درجة (الدكتوراه) فتلقفته الجامعة وضمته إلى أحضانها، فاشتغل بالتدريس فيها ردحا من الزمن. على أنه كان متشعب الجهود يعمل في كثير من النواحي ويتنقل بين التدريس والصحافة والتأليف أو يجمع بينهما جميعا.

كان زكي مبارك واضح الشخصية متميز السمات في حياتنا الأدبية، كان فياضا في ثقافته وفي كتابته، حرا في إبداء رأيه، عنيفا في معاركه، وكان لا ينتظر حتى يثني عليه غيره، فيتطوع هو بالثناء على نفسه، ولعله كان يذهب هذا المذهب لاعتقاده الجحود في الناس فيعوض بنفسه ما ينقصه منهم. وكان يلطف عنفه ويسوغ استعلاءه روح خفيف ودعابة مستملحة.

كان زكي مبارك - من غير شك - علما من أعلام الأدب في عصرنا هذا، وقد أكسب الحياة الأدبية أضعاف ما كسب هو إن كان قد كسب شيئا. . وقد قضى بعد أن ترك للأدب ثروة كبيرة من مؤلفاته ومن آثاره في عقول تلاميذه وقرائه. وقد كان كثير الترديد لكلمة (الخلود) فيما يكتب، فإن كان فاته ما أدركه سواه من عرض الدنيا فقد نال ما تغنى به حياته من الخلود.

لغة المجتمع

ألقى الأستاذ محمود تيمور بك محاضرة موضوعها (لغة المجتمع) في الدورة الحالية لمؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية، تحدث فيها عن النزاع بين طوائف من اللغويين وجماعات من الكتاب والباحثين حول الألفاظ والعبارات من حيث وقوف الأولين بالقياس عند الحدود التي رسمها أئمة اللغة في العصور الأولى وبالسماع عند العهد الذي اختلط فيه العرب الخلص بغيرهم من الأمم، واتجاه الآخرين إلى الخروج عن هذا الجمود الذي يسلم اللغة

ص: 44

إلى موت محتوم.

وقد فند الأستاذ تيمور بك ما يتمسك به اللغويون المحافظون فقال إن اللغة ظاهرة من ظواهر الحياة وقانون من قوانين المجتمع، وهذه الظواهر والقوانين تتبدل وتتطور وفقا لما تقتضي به ضرورات الاجتماع. والصواب في اللغة مناطه الشيوع، فمتى ساغت الكلمة في الأفواه فقد ظفرت بحجتها في الاعتداد بها وأصبح لها في الحياة حق معلوم، وإن غلبة اللفظ في الاستعمال أسطع برهان على صلاحيته وأقوم دليل على صدق الحاجة إليه، بل إن غلبة استعمال اللفظ وثيقة تثبت أنه خلية حية في بنية اللغة خليقة بالتقدير والاعتبار.

ثم عرض للمثل القائل (خطأ مشهور خير من صواب مهجور) فقال: ما أصدق انطباقه على اللغة لولا أنه يسمي المشهور خطأ ويسمي المهجور صوابا، فهذه التسمية لا تصح إلا من باب التجوز والتسمح، فليت شعري - أي خطأ في لفظ شهر، وأي صواب في لفظ هجر؟ سواء على القارئ أو السامع أن تروعه بلفظ عربي نافر لا يجد له في نفسه مدلوله الذي نبغيه منه وأن نفجأه بلفظ أجنبي مغلق ليس بعربي الأصل، فاللفظان عنده سواء في الإبهام.

ولكن على من نعول في توثيق الجديد من الألفاظ؟ يجيب الأستاذ عن هذا قائلا: لسنا بمستطيعين أن نعول في ذلك على جمهورنا الأمي العام خشية أن تذوب الفصحى في محيط اللهجات العامية التي لا ضابط لها ولا نظام ، ولكنا نستطيع أن نعول كل التعويل على الجمهور المثقف الخاص الذي تعلم الفصحى وأشرب ذوقها، فهذا الجمهور الضارب في كل علم وفن هو مرآة اللغة المجلوة وقوامها الركين، والويل للغة إن بقيت وقفا على علماء اللغة وفقهائها الذين لا يبيحون لها السير مع الزمن والتجدد مع الأيام. على أن ذلك الجمهور المثقف يتجلى في هذا الفترة من حياة مجتمعنا الحاضر معتزا بالعربية جانحا إلى الإفصاح، مما يدل على أن هنالك وعيا لغويا قويا يجري تياره بين المثقفين جميعا ويبدو أثره في المرافق الاجتماعية على وجه عام.

ثم قال الأستاذ المحاضر: إن أهل صناعة الكتابة هم الذين يحملون القسط الأوفر من أعباء التخالف بين لغة الجمهور العام ولغة الجمهور الخاص ومن أثقال التنازع بين الأصيل والدخيل من الكلام، فالكتابة هي فن الأدب، والأدب هو أرفع مقامات التعبير في اللغة،

ص: 45

وهو المعرض الجميل لنقاء الألفاظ وجودة الأسلوب. والكاتب إذا عرضت المسميات التي لا يجد لها فصيحا شائعا من الأسماء استشعر الحرج والضيق وتعذر على قلمه أن يجري الكلمات العامية أو الدخيلة في تضاعيف بيانه. وبعد أن أشار إلى الصعوبات التي يلاقيها الكاتب من جراء غلبة الألفاظ الأجنبية والعامية على الشؤون العامة وحيرته بين هذه الألفاظ وبين ما تيسر له من الكلمات العربية المهجورة - وقال: لكن الكاتب على أية حال مضطر أن يصف ما في البيت وما في السوق وأن يتناول ما يدور من أسباب العيش، فهو يبذل جهده ويعالج أمره، حينا يصطنع الكلمة الفصيحة على حذر، وآنا يقبل من الكلمات العامية ما ليس منه بد، وساعة يتخذ له اصطلاحا يرشحه للاستعمال.

ثم عرض لما صنعه المجمع في ذلك من أوضاع وما وضعه من أسماء عربية لمسميات في الشؤون العامة وما قوبلت به من سخرية الأقوام والأقلام قائلا بأن مهمة المجمع تقتضيه أن يمضي في طريقه، والحكم الأول والأخير في ذلك هو الجمهور المثقف فما يرتضيه يكتب له الشيوع والبقاء وما لا يستسيغه يسحب عليه ذيل العفاء.

عباس خضر

ص: 46

‌البريد الأدبي

الموسيقى العراقية

في العراق رجال كرسوا حياتهم لخدمة العلم والأدب، وضحوا في سبيل هذه الخدمات كل رخيص وغال، فدرسوا وحققوا ودققوا ونشروا ما كتبوه، وألفوا الرسائل والكتب وطبعوها على نفقاتهم الخاصة، ولكن ويا للأسف لم يجدوا تشجيعا يكفل لهم ولو جزءا قليلا مما يبذلونه بسخاء في هذا السبيل، وأن من أولئك الأفذاذ الأستاذ المحامي عباس العزاوي الذي أخرج لنا مؤخرا من نتاج عمله المضني المستمر كتابا في الموسيقى العراقية في عهد المغول والتركمان 1258هـ 1534م تناول فيهما التطورات التي طرأت على الموسيقى العربية قبل الإسلام، والموسيقى العربية في عهد المغول والتركمان، ثم تطرق من هذه الرسالة إلى من اشتهر في الموسيقى من نوابغ وترجم لهم وذكر ما صنفوه في هذا الفن من رسائل وكتب، وذكر الموسيقاريين والمغنين، وتناول الآلات الموسيقية وأسماءها وأسباب تسميتها، وما اندثر منها وما بقي حتى الآن، وفصل المصطلحات الموسيقية سابقا وقارنها في العهد الحاضر، وختم رسالته هذه بأن نشر للأمة رسائل منها كتاب الملاهي وأسماءها لمؤلفه أبي طالب المفضل بن مسلمة النحوي، اللغوي، المتوفى سنة 290هـ. والذي تناول فيه إثبات معرفة العرب (للعود) والآلات الموسيقية الأخرى وساق الأدلة القوية والبراهين الثابتة على ذلك. والرسالة الثانية نبذة من اللهو والملاهي لابن خرداذبة المتوفى سنة 300هـ نقلها من تاريخ مروج الذهب للمسعودي تناول فيها أيضاً إثبات كون العرب تعرف العود وبقية الآلات الموسيقية.

والرسالة الثالثة، أرجوزة الأنغام لبدر الدين محمد بن علي الخطيب الأربلي، المتوفى سنة 768هـ، وقد نظمها سنة 1328م وفيها ذكر معرفة أصول الأنغام، والمناسبة بين الأصول والأركان والأخلاط، وأبحر الأنغام الأصولية الأربعة والأبحر الثمانية المتفرعة عن الأصول الأربعة وكيفية ترتيب الأنغام الأثنى عشر، وذكر الأوزان الستة والشواذ، والأنغام الزوائد وتأثير الأنغام في الأمزجة من الأخلاق، وبيان الضروب السبعة ووجوب مراعاتها.

والحاصل أن الأستاذ العزاوي - وفقه الله - قد قام بهذه الخدمة الجليلة للأمة العربية، إضافة إلى خدماته الكثيرة التي سبقت له في التحقيق والتنقيب والتأليف والنشر. وسنفرد

ص: 47

لترجمة الأستاذ العزاوي بحثا مستفيضا نقدمه للقراء في فرصة أخرى.

إبراهيم الواعظ

إلى المعقبين

لعل من أخص ما تمتاز به (الرسالة) على زميلاتها الأخريات وأوضح مظاهر قوتها هو هذه الكتيبة المسلحة المرعبة المؤلفة من حضرات المعقبين على شتى مذاهبهم وألوانهم، وإن إعجابي بهذه الكتيبة المسلحة المتيقظة لبالغ حد التعصب لها؛ ولكن هذا الإعجاب لا يمنعني من التصريح بما يدور في خاطري وما يتردد في ذهني من حين إلى آخر بشأنها. فمثلا ألاحظ أن بعض حضراتهم يجهد نفسه في تحقيق بعض كلمات لغوية قد شاعت وأصبح إحلال الكلمة القياسية محلها عسير الهضم على أفكار الأدباء والكتاب، لأن الكلمة قد أخذت مدلولها بين المتكلمين بيد أن تصحيحها لا يضفي عليها معنى جديدا أو زيادة مستحدثة، ولأن عملهم هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنهم لا يقرؤون للفهم والاستفادة بل للبحث عن هفوة لغوية أو سقطة نحوية وبذلك يضيعون على أنفسهم - كما قال الأستاذ عبد الحميد جودة السحار - زبدة البحث وعصارة المقال. ومما يدل على صحة هذه النتيجة أنهم إنما يقرؤون لا لوجه الكاتب أو الشاعر بل للقنص والصيد، أن بعض التراكيب قد يكتبها الكاتب لتؤدي معنى بعينه فإذا بها تؤدي عكس الذي قصده الكاتب ثم تمر على إفهامهم فلا تحرك لهم ذهنا أو تثير لهم خاطرا؛ فمثلا جاء في مقال للدكتور محمد يوسف موسى في عدد الرسالة الممتاز - وكنت أنتظر أن يعقب على ما كتبه أحد منهم فلم يحصل -. . وقد ختم الله رسالاته ورسله ولكنه ترك لنا بعد هذا ما إن تركناه لن نضل وهو القرآن العظيم. . ولكي يكون المعنى الذي قصده الدكتور مستقيما يجب أن يقال ولكنه ترك لنا بعد هذا ما إن تمسكنا به لن نضل (ولكن هذا ذهب في غمار فسح وأفسح ومهيب ومهاب. بقي شيء آخر أحب أن ألفت نظر حضرات المعقبين إليه ألا وهو أدب الخطاب في التعقيب، فقد قرأت في العدد 964 تعقيبا للأستاذ الأبشيهي ختمه بقوله. . فإن كان قد ألقى الحديث على عواهنه فقد علم القاعدة منذ اليوم (فهل في هذه الجملة ما يشعر بالاحترام؟ وإلا فأي كاتب هذا الذي يلقي الحديث على عواهنه؟ وقرأت في العدد 967

ص: 48

تصحيحا لبعض الآيات بصدد الاستشهاد بها في مقالة للأستاذ السوافيري. . ولا أدري أكان الأستاذ حافظا فخانته ملكته أم مستشهدا بآيات سمعها عفوا فذكرها محرفة الخ) إن دل هذا على شيء فإنما يدل على تحامل لا موجب له وتعصب لا خير منه. والأعجب من هذا أن حضرة الحافظ المتثبت جاء ليصحح فأخطأ؛ فليست الآية (محمد رسول الله والذين آمنوا معه) من سورة (محمد) بل هي من سورة (الفتح) فتح الله علينا وهدانا سواء السبيل.

هارون المنيقي

تصويب أخطاء

جاء في مقال (دعوة محمد) بالعدد 967 من الرسالة، بعض الأخطاء نتيجة لتحريف بعض الحروف أو لسقوط بعض الكلمات فرأيت أن أصحح الخطأ ليستقيم المعنى.

فقد جاء في ص51 س3 من العمود الأول (فهناك شبه غريب) والصواب (فهناك شبه قريب).

وجاء في ص51 س6 من العمود الثاني (فقد شاركوهم مرارة الحد) والصواب (مرارة الجد).

وجاء في ص53 س25 من العمود الأول (وأرى أنك تخصها بالحب أكثر) والصواب (وأرى أنك تخصني بالحب أكثر مما كنت تخصها).

وجاء في ص54 س4 من العمود الأول (وتتهدده الخلوف) والصواب (وتتهدده الحتوف).

وجاء في ص54 س19 من العمود الأول (امتشق الحسام الذي يزيل. . .) والصواب (امتشق الحسام ليغل به عوابس الخطوب ويزيل بحده)

وجاء في ص54 س3 من العمود الثاني (بينه وبينهم المهند) والصواب (بينه وبينهم الحسام المهند والوشيج المقوم).

وجاء من نفس الصفحة ونفس العمود س5 (حتى تلين قناتهم عزين) والصواب (حتى تلين قناتهم ويأتوا صاغرين).

كما جاء من نفس الصفحة ونفس العمود س31 (وحسب هؤلاء الطاغين) والصواب (وحسب هؤلاء الطاعنين).

ص: 49

هذه هي الكلمات التي رأيت أن أردها إلى صوابها وإن كان هناك شيء فإنه لا يخفى على فطنة القارئ الكريم والسلام عليكم ورحمة الله.

عبد الموجود عبد الحافظ

ص: 50

‌القصص

الصقر

للقصصي الإيطالي يوكانشو

كان بفلورنسا شاب من النبلاء الأغنياء يدعى فريديريك ألبيريني من أسرة عريقة في المجد، قد هذبه الفن والطبيعة وجعلا منه فتى كاملا كيسا لا نظير له بين أبناء النبلاء الثوسكانيين. وقد وقع في حبائل الحب كما جرت العادة بين أترابه ممن هم في صفه من السراة، فهام بسيدة من الأعيان تدعى جان كانت تعتبر من أجمل وأحب نساء فلورنسا، ولم يدع وسيلة لاستمالتها إلا نفذها، من ولائم فاخرة، وألعاب فروسية باهرة، وهدايا عظيمة. كانت هذه السيدة متمسكة بالتقوى والفضيلة ولم تحفل كثيرا بهذه النفقات الجنونية، ولكنها لم تحتقر قط هذا الشاب الظريف. ولم يتطرق اليأس ولا الملل إلى فريديريك واستمر في طريقه وإسرافه حتى أضاع ثروته ولم يبقى لديه إلا شيء قليل يعيش به في حالة بؤس لم يدخر من ماضيه الفخم غير بازي مدرب على الصيد. ولقد أصبح أشد تعلقا بحبيبته رغم فقره المدقع الذي أوقعه فيه، ورأى أنه لا يستطيع أن يعيش عيشة تليق به في المدينة، فصمم على الاعتكاف في البقية الصغيرة الباقية من أملاكه في الريف، فكان يصطاد في أغلب الأحيان بصقره ليسري عن همومه وليكفيه مؤونة السؤال. واستمر على ذلك الحال ردحا من الزمن مرض في أثنائه زوج حبيبته ثم مات، وقد أوصى بثروته العظيمة إلى الصغير، وبموته دون أن يعقب ينتقل الميراث إلى أمه التي كان يحبها زوجها حبا يقرب من العبادة.

أقبل الصيف فذهبت الأرملة كعادتها لتصطاف في أملاكها في الريف وكان بيتها قريبا من بيت فريديريك. وبمناسبة هذا الجوار تعرف ابنها بفريديريك وكان يتردد عليه ويلهو بكلاب صيده وطيوره، وشاهد البازي الذي تحدث الناس عن مهارته ففتن به، ولم يستطع أن يطلبه منه لأنه كان يعرف شدة تعلق فريديريك به. ولما علم أنه يستحيل عليه أن يحوزه ساوره الهم والقلق حتى مرض، ثم عرف والدته بسبب مصابه قائلا:(أماه، لو كنت تتمكنين من الحصول على بازي فريديريك لعاجلني الشفاء وعاودتني الصحة) وصمتت الأم هنيهة وسبحت في أحلامها وتأملاتها؛ فماذا تعمل مع من أحبها طويلا وبدد ثروته

ص: 51

لإسعادها وهناءتها، فكانت تقابل منه هذا العطف بالفتور؟ وكيف تستطيع أن تطلب منه أعز شيء لديه وما به يعيش ويحصل على قوته من الصيد به، وهل يحسن أن تحرم نبيلا من أنفس شيء لديه؟ احتارت في أمرها ولم تدر ماذا تجيب ابنها والتزمت الصمت، ولكن الطفل ما فتئ مهموما ملحا في طلبه، وفي نهاية الأمر تغلب الحب البنوي على كل اعتبار وعزمت على إرضاء ولدها بأي ثمن كان وصممت أن تعرفه بأنه سينال البازي وستذهب في طلبه، قالت له: (لا تحزن يا بني وفكر في شفائك وصحتك، وأول شيء سأعمله في الصباح هو الذهاب لإحضار الصقر. فسر الولد لهذا الوعد وتحسنت صحته في المساء.

وفي الصباح ذهبت أمه هي وإحدى السيدات إلى فريديريك، ولما دخلت وجدته في الحديقة ينظمها لأن هذا اليوم لم يكن مناسبا للصيد بالبازي، وقالت للخادم أن يعلمه مجيئها لتحدثه في شأن من الشؤون. تصور أيها القارئ دهش فريديريك ومفاجأته بهذا الخبر السار، فطار من الفرح عدوا لاستقبالها، وسلم عليها بكل احترام من بعيد، فتقدمت إليه مدام جان وحيته بكل لطف وأدب. وبعد تبادل التحية قالت له:(لقد أقبلت يا سيد فريديريك لأكافئك على العناية التي بذلتها حينما أحببتني حبا يزيد على المعقول، والمكافأة هي حضوري أنا والسيدة لنتناول الغداء معك) فأجابها بكل لطف وتواضع (إنني لم أخسر شيئا قط لأجلك، بل بالعكس فإنك أعددتني لكثير من المزايا. ولئن عرفت بشيء منها فالفضل راجع إلى العواطف التي نفحتني بها. وهذه المكرمة التي نفحتنيها اليوم لجليلة جدا، وقد أثلجت صدري وشرحت فؤادي. ومع إنني فقير فإنني لا أريد أن أبيع هذه المنة بثروتي التي فقدتها) وبعد هذه المجاملة اللطيفة صحبها إلى الحديقة وترك بصحبتها البستانية وصاحبتها التي أقبلت معها، وذهب ليهيئ الطعام. وهذا النبيل الشريف لم يشعر في حياته بقسوة وطأة الفقر مثل ما شعر بها في هذا اليوم الذي أقبلت فيه أعز الناس لديه، وكان بوده أن يهيئ لها وليمة فاخرة، فما باله إذا لم يجد شيئا لديه في هذه اللحظة الحرجة؟ فاستشاط غضبا ولعن ثروته الضائعة وأخذ يهرول في أنحاء البيت. والأدهى أنه لم يكن عنده درهم ولا شيء يقوم بقيمة حتى يرهنه. ولما اقتربت ساعة الغداء حار في أمره فوقع نظره بغتة على البازي الذي كان مطمئنا في قفصه فصمم على تضحيته ليقدم شيئا مناسبا للأيم التي شرفته بزيارته. ثم لوى عنقه ونتف ريشه ثم وضعه في النار ولما نضج الطعام ذهب إلى الحديقة

ص: 52

ليدعو السيدة وصاحبتها للطعام؛ وبعد انتهاء الغداء دار حديث لطيف ثم رأت مدام جان أن تطلع فريديريك على سر زيارتها قائلة: (أتذكر أيها السيد كل ما صنعته من صنوف العناية وحيائي الشديد الذي جعلك تظن أنني متوحشة. ولا شك في أنك تدهش حينما تعلم السبب الحقيقي الذي قادني إليك، ولو كان لك أولاد لكنت تعرف قوة الحنو الأمي، وإني واثقة أنك ستعذرني، ولكنك لا أولاد لك، ولي ولد واحد، ولا أستطيع أن أهرب من القوانين العامة للأمهات. وهذا الذي يضطرني أن أتعدى المعقول وأخالف إرادتي وأطلب منك شيئا أعلم أنك تعزه كثيرا، لأنه أصبح لك العزاء الوحيد لضياع ثروتك، وما هو إلا بازيك الذي أطلبه. إن ابني مريض وهو تواق للحصول على الصقر وأخشى إن لم أحضره له أن يقتله الحزن؛ ولذلك أتوسل إليك لا بحق الصداقة فلست مدينا لي فيها بشيء، بل أتوسل إليك بطيبة قلبك وحبك للخير العام الذي لم يكذب فيه الظن قط، والذي يميزك عن جميع الناس. وسيكون لك ابني مدينا بصحته وربما بحياته، وستتملك بهذا الصنيع قلبه وقلبي مدى الحياة)

ولما رأى فريديريك أنه لا يستطيع إرضاء هذه السيدة لأنه أطعمها ما تطلبه خنقته العبرات قبل أن يفوه برد، فظنت السيدة أنه يبكي حزنا على فقد بازيه وكادت تغير رأيها فيه وفضلت أن تسكت إلى أن يجيب فقال لها: (إنني منذ فتنت للمرة الأولى بمحاسنك تيقنت أن الثروة كانت تناوئني في كثير من الأمور، وكنت أشكو من شدة ما تفرضه علي، ولكن كل ما مر علي من بؤس وآلام لم يك شيئا بجانب بلية اليوم، وستترك في قرارة نفسي مرارة لا تفارقني. هل تستطيع المصائب أن تسدد إلى طعنة أفظع من صدمة اليوم حينما أرى أنك تفضلت بزيارتي في هذا البيت الحقير مع أنك لم تتنازلي بزيارتي حينما كنت غنيا ثم تطلبين مني شيئا لا أستطيع أن أحضره لك. ما أقساك أيها الحظ العاثر الذي ما فتئ يضطهدني! لقد تحملت بصبر جميل أصناف الرزايا والمحن، ولكنني رزحت تحت هذه الصدمة إذ ليس عندي الآن بازي ، وبمجرد ما شرفتني وأظهرت رغبتك في تشريفي بالغداء معي فكرت أن أحضر غداء أرقى مما اعتاده الناس فذبحت الصقر دون تردد لمهارته العظيمة في الصيد؛ ومن سوء حظي لم أوفق لأن أقدمه إليك حيا. وبعد هذا الحديث رأى أن يقنعها بأن أحضر الرأس والريش والمخلبين.

ص: 53

دهشت مدام جان ولامته لوما شديدا لذبحه صقرا ثمينا ولكنها ارتاحت لهذا المثال العظيم في الكرم الحاتمي الذي لم يؤثر فيه الفقر والبؤس وقالت له: (إنني لا أنسى مدى حياتي هذه التضحية مهما كان تصرف الآلهة في ولدي). ثم استأذنت من فريديريك وانصرفت شاكرة له شرفه وحسن نواياه، وذهبت إلى ابنها حيرى حزينة لا تدري بماذا تجيبه، وقد اشتدت وطأة المرض عليه ومات بعد بضعة أيام وهي لا تدري إن كان الموت نشأ من شدة حزنه على البازي أو كان المرض بطبيعته قاتلا.

وقد آلمها مرض ابنها ووفاته وطفقت تبكيه عدة أيام. ثم توسل إليها اخوتها أن تتزوج لأنها فتية وغنية جدا. فلم تجد عندها رغبة في الزواج، ولكن أقاربها وأصدقاءها طفقوا يلحون عليها ويحثونها، فعاودتها الذكرى وفكرت في مكارم أخلاق فريديريك من شرف وثبات وكرم، وكيف قدم لها صقرا ثمينا للغداء. ثم قالت لأقاربها: إني أستطيع أن أبقى أيما سعيدة إن كان هذا يرضيكم، ولكن احتراما لرغبتكم لا أقبل زوجا غير فريديريك البيريني. فصاح اخوتها بلهجة التهكم. (هل أنت جادة في قولك؟ إننا لا نستطيع أن نتصور ذلك. هل تجهلين أن هذا النبيل أصبح في فقر مدقع؟)

- إنني أعلم ذلك ولكني أفضل رجلا محتاجا إلى المال على ثروة محتاجة إلى رجل. ولما رأى اخوتها أنها مصممة ألا تتزوج غير فريديريك وأنهم لا يستطيعون أن يغالطوا أنفسهم أنه شريف كيس صادقوا على زواجهما وأقاموا عرسا في منتهى الفخامة.

لقد صير البؤس الزوج الجديد حكيما بصيرا بعواقب الأمور فأصبح مقتصدا يدير شؤون الثروة الحديثة بحكمة وفطنة وعاش مع زوجته التي أحبها عيشة سعيدة هنيئة متمتعا بعطفها وحنانها.

م. ح

ص: 54