الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 972
- بتاريخ: 18 - 02 - 1952
طريق وحيد
للأستاذ سيد قطب
يوماً بعد يوم يتبين أن هنالك طريقاً معيناً للشعوب الإسلامية كلها في هذه الأرض، يمكن أن يؤدي بها إلى العزة القومية، وإلى العدالة الاجتماعية، وإلى التخلص من عقابيل الاستعمار والطغيان والفساد. . طريقاً وحيداً لا ثاني له، ولا شك فيه، ولا مناص منه. . طريق الإسلام، وطريق التكتل على أساسه.
إن أحداث العالم، وملابسات الظروف، وموقف الشعوب الإسلامية. . كلها تشير إلى هذا الطريق الوحيد، الذي لا تمليه عاطفة دينية، ولا تحتمه نزعة وجدانية. إنما تمليه الحقائق والوقائع، ويمليه الموقف الدولي، ويمليه حب البقاء، وتلتقي عليه العاطفة والمصلحة، ويتصل فيه الماضي بالحاضر، وتشير إليه خطوات الزمن، ومقتضيات الحياة.
لقد أكلنا الاستعمار الغربي فرادى، ومزقنا قطعاً ومزقاً يسهل ازدرادها، وأرث بيننا الأحقاد والمنافسات لحسابه لا لحسابنا، وجعل له في كل بلد إسلامي طابوراً خامساً، ممن ترتبط مصالحهم بمصالحه، وممن يرون أنفسهم أقرب إلى هذا الاستعمار منهم إلى شعوبهم وأوطانهم؛ وأقام أوضاعاً معينة في كل بلد إسلامي تسمح له بالتدخل، وتملي له في البقاء، وتضمن له أنصاراً وأذناباً في كل مكان.
فإلى أين نتجه لنكافح الاستعمار وأذنابه وأوضاعه؟ إن أناساً من المخدوعين والمغرضين، يدعوننا أن نتجه إلى الكتلة الشرقية. الكتلة الشرقية التي تمحو الإسلام والمسلمين محواً منظما ثابتاً في أرضها، منذ أن استقرت فيها الشيوعية، والتي تتخذ مع المسلمين في أرضها من وسائل الإفناء المنظم ما لم يعرفه التتار ولا الصليبيون في أشد عصورهم قسوة وفظاعة.
لقد كان عدد السكان المسلمين في الأرض الروسية اثنين وأربعين مليوناً عند ابتداء الحركة الشيوعية، فتناقص عددهم تحت مطارق الإفناء المنظم، والقتل والتجويع والنفي إلى سيبريا حتى وصلوا في خلال ثلاثين عاماً فقط إلى ستة وعشرين مليوناً. . ستة عشر مليوناً من المسلمين في الأرض الروسية وحدها قد أبيدوا. . أما في الصين الشيوعية فالمأساة تتكرر الآن في تركستان الشرقية، بنفس الوسائل ونفس الشناعة. . وفي يوغوسلافيا تتم حركة
التطهير من العنصر الإسلامي. . وفي ألبانيا كذلك. . كل أرض مستها الشيوعية قد نزلت فيها النقمة على رؤوس المسلمين بشكل وحشي يروي الفارون منه أخباره وتفصيلاته، كما تروى أساطير الهمجية الأولى.
ولقد ذاق المسلمون من قبل على يد القيصرية الروسية ما ذاقوا باسم العصبية الدينية. . فأما اليوم فهم يذوقون الويل نفسه، بل أشد وأشنع ولكن باسم العصبية الشيوعية. . وهي في حقيقتها روح واحدة: الروح الصليبية التي لا تنساها أوربا أبداً، مهما تبدلت فيها النظم. . الروح الصليبية التي نطق باسمها المارشال (ألنبي) وهو يدخل بيت المقدس في الحرب العظمى الماضية فيقول:(الآن انتهت الحروب الصليبية) والتي ينطق باسمها الجنرال كاترو في دمشق سنة 1941 فيقول: (نحن أحفاد الصليبين، فمن لم يعجبه حكمنا فليرحل!) وينطق باسمها زميل له في الجزائر سنة 1945 بنفس الألفاظ والمعاني. . إنها هي هي في أوربا كما هي في أمريكا، وكما هي في البلاد الشيوعية. . كلها تنضح من إناء واحد: إناء الحقد على الإسلام، والتعصب الصليبي الذميم. يضاف إليه تعصب الشيوعية ضد الأديان جميعاً. وضد الإسلام على وجه الخصوص.
ويتشدق أقوام هنا بالحرية الدينية في الكتلة الغربية، كما يموه أقوام بالحرية الدينية في الكتلة الشرقية. . وكلهم خادع أو مخدوع، والحوادث والوقائع تنطق بأن المسلمين غير مرحومين عند الغرب أو عند الشرق. . فكلاهما عدو غير راحم! إن الغرب الذي يمتص دماء المسلمين بالاستعمار القذر اللئيم. وإن الشرق لهو الذي يبيدهم إبادة منظمة تتولاها الدولة تحت شتى العناوين!
ويعرض علينا المخدوعون أو الخادعون أحياناً نصوص الدستور السوفييتي، ومادة فيه تنص على حرية الاعتقاد. . نعم لك حرية الاعتقاد في الاتحاد السوفييتي، على ألا تسلم لك بطاقة للتموين - وليس هنالك وسيلة غير هذه البطاقة لتحصل على الطعام والشراب والكساء - ولك أن تعبد الله إذن كما تحب، ولكن ليس لك أن تأكل من مخازن الدولة! وأنت وما تشاء: الموت جوعاً مع الله! أو الحياة الحيوانية مع ستالين!
إنه ليس الطريق أن ننضم إلى كتلة الغرب أو كتلة الشرق كلتاهما لنا عدو، وكلتاهما كارثة على البشرية، وعلى الروح الإنسانية. . لقد تكون الشيوعية في أرضها نعمة على أهلها،
ولقد تكون الديمقراطية في أرضها نعمة على أهلها. . ولكن هذه وتلك بلاء ونقمة على الشعوب الإسلامية. الاستعمار بلاء واقع يجب كفاحه وإجلاؤه. والشيوعية بلاء واقع كذلك على ملايين المسلمين الواقعين في براثنه. والوطن الإسلامي كله وحدة، ومن اعتدى على مسلم واحد، فقد اعتدى على المسلمين أجمعين.
إنه ليس الطريق أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة هنا أو هناك؛ فلقد حارب الاستعمار الغربي كل مقوم حقيقي من مقومات الإسلام، وإن تظاهر بالإبقاء على المظاهر المموهة التي لا تقاومه ولا تكافحه. . وحينما اجتمع مؤتمر جميع المبشرين في جبل الزيتون بفلسطين عام 1909 وقف مقرر المؤتمر ليقول: إن جهود التبشير الغربية في خلال مائة عام قد فشلت فشلا ذريعاً في العالم الإسلامي لأنه لم ينتقل من الإسلام إلى المسيحية إلا واحد من اثنين: إما قاصر خضع بوسائل الإغراء بالإكراه، وإما معدم تقطعت به أسباب الرزق فجاءنا مكرهاً ليعيش. وهنا وقف القس زويمر المعروف للمصريين ليقول: كلا! إن هذا الكلام يدل على أن المبشرين لا يعرفون حقيقة مهمتهم في العالم الإسلامي. أنه ليس من مهمتنا أن نخرج المسلمين من الإسلام إلى المسيحية. كلا! إنما كل مهمتنا أن نخرجهم من الإسلام فحسب، وأن نجعلهم ذلولين لتعاليمنا ونفوذنا وأفكارنا. ولقد نجحنا في هذا نجاحا كاملا؛ فكل من تخرج من مدارسنا، لا مدراس الإرساليات فحسب، ولكن المدارس الحكومية والأهلية التي تتبع المناهج التي وضعناها بأيدينا وأيدي من ربيناهم من رجال التعليم. . كل من تخرج في هذه المدارس خرج من الإسلام بالفعل وإن لم يخرج بالاسم. وأصبح عوناً لنا في سياستنا دون أن يشعر، أو أصبح مأموناً علينا ولا خطر علينا منه!. . لقد نجحنا نجاحا منقطع النظير. .
هذا موقف الكتلة الغربية. فأما الكتلة الشرقية، فقد اختارت الإفناء المنظم، والإبادة الوحشية بمعرفة الدولة، وما تزال ماضية في طريقها لمحو الإسلام والمسلمين!
إن طريقنا واضح. طريقنا الوحيد أن نمضي في تكتل إسلامي، هو وحده الذي يضمن لنا البقاء، ويضمن لنا الكرامة، ويضمن لنا الخلاص من الاستعمار وأذنابه وأوضاعه، كما يضمن لنا أن نقف سدا في وجه التيار الشيوعي المهلك المبيد.
والتكتل الإسلامي لا يعني التعصب في أي معنى من معانيه. . إن الإسلام هو الضمانة
الوحيدة في هذا العالم اليوم لوقف حركة التعصب ضد المخالفين له في العقيدة. فهو وحده الذي يعترف بحرية العقيدة ويرعاها، في عالم الواقع لا في عالم النصوص. وهو وحده الذي يمكنه أن يضمن السلام للبشرية كلها في ظلاله، سواء من يعتنقونه ومن لا يعتنقونه. . أنه لا يستعمر استعمار الغرب الآثم الفاجر، ولا يبيد مخالفيه إبادة الشيوعية الكافرة الجاحدة. . أنه النظام العالمي الوحيد، الذي تستطيع جميع الأجناس، وجميع العقائد، أن تعيش في ظله في أمن وسلام.
وطريقنا إذن أن نرفض كل ارتباط يشدنا إلى عجلة الاستعمار - تحت أي أسم وأي عنوان - وأن نرفض في الوقت ذاته كل دعاية تدفعنا إلى فكي ذلك الغول الشرقي، الذي يبيد العنصر الإسلامي في أرضه بقسوة وشناعة، لا يقرها الهمج في أحلك عصور التاريخ.
إنه طريق وحيد. طريق الكرامة. وطريق المصلحة. وطريق الدنيا. وطريق الآخرة: أنه الطريق إلى الله في السماء والى الخير في الأرض. والى النصر والعزة والاستعلاء: أنه هو الطريق!
سيد قطب
بنات العرب في إسرائيل
للأستاذ علي الطنطاوي
هذه قصة واقعية قرأتها ملخصة في سطور في كتاب (من اثر النكبة) للأستاذ نمر الخطيب، بطلها رجل من فلسطين يحسن الإنكليزية كان له صديق من أعضاء اللجنة الدولية، سأله أن يأخذه إلى تل أبيب ليجدد ببلاده عهدا، فأجابه إلى ما سأل وألبسه لباس أعضاء اللجنة حتى غدا كأنه واحد منها.
ووصلوا تل أبيب، فأنزلهم اليهود في فندق عظيم، وأولوهم أجمل العناية وأكبر الرعاية، حتى لقد أخبروهم أن إدارة الفندق ستبعث إلى غرفة كل واحد منهم فتاة بارعة الجمال، لتكون رفيقته تلك الليلة. قال:
ولما أويت إلى غرفتي، تمثلت لي الفتاة التي وعدت بها، فملأت صورتها نفسي وهاجت فيها أدنأ غرائزها، وأحط شهواتها، ونسيت أني في بلد العدو، وأن علي التوقي والحذر، وارتقبت ليلة (كما يقولون) حمراء، تلتهب فيها الأعصاب بنار الشهوة الجامحة، وخيل إلى منطق الغريزة أني إن نلت امرأة من يهود فقد غزوت يهود في ديارها. وثقلت علي الساعات الباقية دون الليل، وطالت دقائقها، وجثم وقت الانتظار على صدري فتقارب نفسي، وازداد خفقان قلبي، وأحسست بركبتي تصطكان، وكنت أقعد فلا أطيق القعود، فأقوم فلا أرتاح إلى القيام. وحاولت القراءة فكانت الكلمات تتراقص أمام بصري، ثم تستحيل إلى صور صبايا عاريات، وتضيع المعاني فلا أدرك إلا المعنى الواحد الذي هو في ذهني.
وكذلك تصرمت ساعات، ما أظن أنه مر علي في عمري أثقل منها. وما أظن لذائذ الوصال لو جمع لي ما يلقاه الناس كلهم منها، تعدل آلام هذه الساعات.
. . . وجاء النادل (الكارسون) يقدم إلي فتاة، جرفتها ببصري في لمحة واحدة، وجردتها بخيالي من ثيابها في ثانية، فرأيتها عارية أمامي، وجمحت بي الغريزة حتى لا أقدر على الصبر عن عناقها دقيقة، وعن ضمها إلي، وعن أن أشد يدي عليها، ثم آكلها عضا.
وكانت شقراء لها شعر ما علمت قبل اليوم كيف يكون الشعر كأسلاك الذهب، يتموج ويسترسل على كتفين مستديرتين كأنهما. . . ولكن مالي وهذا الولع بالتشبيهات، وبماذا أشبه كتفي فتاة عبلة في السابعة عشرة؟
وكان يبدو من جيب ثوبها الفاضح خط ما بين نهديها، كأنه خيط يسحب القلب من صدر رائيه، وأنف أشم كأنف صبي من ولد الإغريق الأولين، وفم كأنه زر ورد أحمر.
وكان ثوبها ينحسر عن ساقين ممتلئتين مستديرتين، يقطر الصبا منهما والجمال، ولم تكن فتاة ولكنها كانت فتنة في ثوب امرأة. وكان الحب الذي غنى له الشعراء، وسبحوا بحمده مصورا فتاة. كذلك كنت لما ثبت النظر أخيرا على عينيها.
لقد كانت لها عينان، لا يستطيع السمو إلى وصفهما البيان؛
عينان فيهما شيء لا أدري ما هو، ولكني أحلف أني ما مكنت بصري منهما حتى أحسست بأن أعصابي المشدودة قد استرخت، وأن دمي الفائر بالشهوة قد برد، وأن قد طارت من رأسي كل فكرة جنسية، وامتلأ قلبي عطفا وحنانا، كأن أمامي قطة صغيرة وديعة حلوة الوجه، ناعمة الشعر. هذا ما شعرت به وأن أعتذر من غرابة هذا الشعور، وتوهمتها من طهر عينيها زنبقة من زنابق الجبل، بيضاء كالثلج، نقية كالندى، لم يمسسها إلا نسيم الأصيل، ولم تقبلها إلا أشعة الشمس، ولم تبصر عريها إلا عين الشتاء.
وعجبت أنا من نفسي، مما عراني، قبل أن يعجب القارئ مما أروي.
عجبت كيف تكون لي هذه العاطفة على بغي!
أو ليست بغيا هذه التي يقدم جسدها اليهود قرى لضيوفهم كما يقدمون لحوم الخراف وشحوم الخنازير؟ وعدت أنعم النظر إليها، فأرى صبية في ثياب الغواني، ولكن في عينيها حياء العذارى، وأرى فيها ملامح رقة وتهذيب كأنها ملامح طالبة من طالبات المدرسة، لا فتاة من فتيات الليل، فرحت أحاول أن أوحي إلى نفسي أنه دل البغايا حين يسرقن نظرات الأبكار.
ووقفت ووقفت وساد الصمت والسكون، فلا حركة ولا كلام.
وعجبت هي مني أكثر من عجبي من نفسي، كأنها ما تعودت من قبل إلا لقاء وحوش في ثياب بشر، لا يرون فيها إلا ما يراه الذئب في جسم النعجة، لا يعنيه منه لونه في نظره، ولا ريحه في أنفه، ولا لينه في كفه، ولكن طعمه تحت أنيابه، وإن كان جسد النعجة ينال مرة فتموت وتستريح، وهذه (نعجة) يتعاورها الذئاب كل يوم، فهي تموت كل يوم ميتة جديدة.
وقفت متململة تحاول الابتسام فلا يلوح على شفتيها إلا بقايا ابتسامة ماتت من زمن طويل. وثقل الموقف ولم يفتح علي بكلمة، فأرادت الخلاص فأشارت إشارة المحكوم عليه إلى الجلاد ليعجل عليه بالإنقاذ ويخلصه من الانتظار الذي هو شر من الإنقاذ.
أشارت بيد إلى الفراش. كأنها تقول: تريد؟ وبالأخرى إلى ثيابها كأنها تقول: أنزع؟ وعاودت أعصابي هياجها، ولكني نظرت إلى عينيها فرأيتهما تقولان لقلبي شيئا غير ما تقول اليدان، فأجبت برأسي أن لا!
ودعوتها فقعدت إلى جنبي، وهمت بأن تلقي بذراعها على كتفي، وبصرها تائه في الأفق البعيد، كأنها تتحرك وهي منومة، فمنعتها برفق، وكلمتها بالإنكليزية، فأومأت بأنها لا تفهمها، فكلمتها الكلمات القليلة التي أحفظها من العبرية، فعلت وجهها سحابة سوداء من الألم، وغامت عيناها لحظة، ثم أومأت بأنها لا تفهمها، فكلمتها بالفرنسية فلم تفهم.
ففكرت هل أخاطر وأكلمها بالعربية، وكنت أعلم ما في ذلك من الأذى لي والضر بي، ولكني أقدمت وقلت لها: هل أنت عربية؟
فانتفضت انتفاضة لو كانت بصخرة لصبت فيها الروح، ولانبجست فيها الحياة. وأضاء ذلك الوجه الجميل، الذي كان عليه نقابان: نقاب من التبذل الظاهر، ونقاب من الألم المخفي، وأشرق بنور سماوي وحدقت في بعينيها العجيبتين، وفيهما لمعة الفرح، وفيهما حملقة الذعر، وقالت:
- هل أنت عربي؟
فترددت ما بين خوفي منها، وبين عطفي عليها، فخفت أن تكون يهودية فتشي بي، وأشفقت أن تكون عربية تحتاج إلى، ثم غلبت ثقتي بها، فقلت لها:
- نعم
- قالت: وأنا عربية، من أسرة (كذا) من بلدة (كذا) ومعي خمس وثمانون من بنات العرب. . . فأحسست كأن خنجراً مسموما قد أوقد عليه وغرز في قلبي، وكأن الأرض تدور بي، ولكني تثبت ولم أحب أن أفجع المسكينة بهذا الحلم البهي الذي رأيت ظلاله على وجهها، لقد حسبت من خلال الفرحة الطارئة أنها من يافا العربية، وأنها قد عادت إلى طفولتها المدللة، وعادت لها طهارة تلك الطفولة، وأنها لا تزال العذراء البكر تعيش بين أهليها
وذويها في حمى الأبطال العرب الذين كانوا يحرسون أرض الوطن، وعرض بنات الوطن، وحمى الجيوش العربية التي كانت أعلامها تلوح على الآفاق الأربعة البعيدة، من وادي النيل، وجنبات الأردن، وخمائل الغوطة، وسهول العراق، وبطاح نجد، فتبعث في نفوس عذارى فلسطين الدعة والأمن، وفي قلوب شبابه الزهو والكبر، وتمنعها أن تطيف بها رهبة من يهود.
ولكن هذه الإشراقة ما لبثت أن بدت حتى اختفت. إن الصبح الذي حسبته قد انبلج بعد ما طال منها ارتقابه لا يزال بعيدا، والشاطئ الذي ظنته دنا بعد ما اشتد إليه حنينها لا يزال ضائعا في الضباب، ولا يزال مكتوبا عليها أن تقاسي الذل آماداً أخرى - لا يزال في الكأس المريرة بقايا عليها أن تتجرعها.
خبت إشراقة النور التي وقدت على جبينها. وانطفأ البريق الذي لمع في عينيها، وهيض الجناح فهبطت من سماء الأحلام إلى أرض الحقيقة التي قيدتها بها قيود اليهود. وصحت من سكرة الفرح فإذا هي حيث كانت، لا الحرية عادت ولا الأهل، ولا الليالي الماضيات تعود.
وفاضت النفس رحمة بها وحنانا عليها، فطوقتها بيدي فانكمشت والتصقت بي، كما تفعل القطة الوديعة، وأخفت وجهها في صدري، وهي تنشج نشيجا خافتا، تمنيت معه لو أستطيع أن أشتري سعادتها التي فقدتها بحياتي لأردها عليها، وأحسست أني أحبها منذ الأزل، وأني لم أعش يوما منفردا عنها، ولا أعيش يوما بعد فراقها، وأن قد امتزج منا الجسمان، واتحد الروحان، واختصر الزمان حتى كان هذه اللحظة وحدها، كما يختصر شعاع الشمس في عدسة الزجاج في نقطة واحدة، وفي هذه النقطة الأشعة كلها، فلا ماض مضى ولا آت يجيء. . .
وهتفت بي ووجهها خلال ثيابي، وأنا أحس خفق قلبها فوق صدري، كأنه حديث من قلبها إلى قلبي:
- لن أعود إلى حمأة الرذيلة. لن أعود. خذني معك، إلى الشام، إلى الأردن، إلى الصحراء، إلى أي بلد عربي لا حكم فيه لليهود. خذني أكن خادما لك، أكن أمة، أو فأعني على الموت، فإني لا أجرؤ وحدي عليه، حتى لا أهين بجسدي الملوث الأرض التي احتوت
رفات الجدود.
لقد رأت في المسكينة شعاعة تخلفت من نهارها، وزهرة بقيت من روضها، فحسبت أن النهار الذي ولى وغربت شمسه يعود، وأن الروض الذي جف وصوح نبته يرجع. وهيهات هيهات! لقد فقد العرب كبرياء العرب، وأضاعوا عزة العرب، وشهامة العرب.
لقد هتفت أسرة عربية في قديم الدهر، باسم ملك العرب المعتصم فنحى الكأس وقد دعا بها ليشربها، ووثب من فوره يجيبها
(أجابها) معلنا بالسيف منصلتا
…
ولو (أجاب) بغير السيف لم يجب
حتى اقتحم من أجلها جيش هرقل صاحب البرين والبحرين ونازل الروم من كانوا يوما سادة الأرض، وعاد بالمرأة وعاد بالنصر الذي طبق خبره الأرض، وطاول مجده السماء.
فهل من ينقذ اليوم آلاف النساء، نساء العرب، من سبي أذل الأمم: اليهود؟ هيهات! لقد فقد العرب كبرياء، العرب، وعزة العرب!
وعادت تقول وهي مخفية وجهها خجلا:
إن ترني اليوم ماشية في طريق الفجور، فلقد كنت يوما بعيدة عنه، جاهلة به، وكان لي أبوان شريفان وكانت لي أخت، وكانت. . .
وشهقت شهقة أليمة
. . . فهل يعلم أحد أين هي أختي؟
لقد أراد لي والدي الحياة الماجدة الكريمة - فربياني على الدين والخلق - وعلماني حتى نلت الشهادة المتوسطة، وتهيأت للبكالوريا، وأطلعني أبي على روائع الأدب، وكنوز المعرفة، وكان يرجو لي مستقبلا فكان مستقبلي. . كان. . . كان. . .
وشرقت بدمعها
لقد قتلوا أمي يوم الواقعة، أفتدري كيف قتلوها؟ إنهم وضعوا البندقية في. . . كيف أقول؟ في مكان العفاف منها، فوقعت أمامي تتخبط بدمها، أما أبي فهرب بي وبأختي وانطلق يعدو حتى لحقوه، فجعلوا يضربونه بأعقاب البنادق وبأيديهم وبأرجلهم حتى سقط. واستاقونا. . .
ورحت أتلفت وأنا أكاد أجن من الذعر، أنادي: أبي! أبي!
أحسب أن أبي يسمع ندائي بعد الذي نزل به أو يقدر على حراك. ولكن أبي قد سمع
وشدت روح الأبوة، وسلائق العروبة من عزمه، فنهض يسعى لينقذني وكلما ونى ذكر أن ابنته التي رباها بدمه وغذاها من روحه ورجا لها المستقبل البارع ستغدو أمة لليهود، فتعاوده القوة حتى استنفد آخر قطرة من قواه، فسقط مرة ثانية قبل أن يدركنا.
تمر على الإنسان المصائب الثقال فينساها. يمرض حتى يتمنى الموت ثم يدركه الشفاء فينسى أيام المرض. ويموت أليفه فيألم حتى يعاف العيش ثم ينسى موت الحبيب، ولكن مصيبة الفتاة بعفافها لا تنسى حتى ترد ذكراها معها الموت.
لقد كانت هذي الساعة بداية آلامي التي سأحملها معي إلى القبر. فقدت الأب والأم، ثم فقدت العفاف وغدوت مثل البغايا، فأين عينا أبي ترياني؟ أين أبي؟ هل هو حي معذب مثلي أم قد مات واستراح؟
إني لأرجو أن يكون قد مات. أفرأيت ابنة تتمنى الموت لأبيها؟ نعم. حتى لا يرى ما حل ببنته فيجد ما هو أشد عليه من الموت.
ولما غدوت وحيدة في أيديهم، وعرفت أنه لا معين لي بعد أن فقدت أبي، تنبهت في القوى الكامنة، وأمدني اليأس بالعزم، وشعرت بأني كبرت فجأة حتى أصبحت بجنب أختي الصغيرة أما لها بعد أمها، وأبا بعد أبيها، وأن علي أن أحميها. وقلت لنفسي: إذا كانت الدجاجة تدفع عن فراخها هجمة النسر، والقطة إن ضويقت واستيأست تقاتل الذئب؟ فلم اعجز عن حماية هذه الطفلة؟ وقد كانت طفلة حقا، كانت في الثالثة عشرة تبكي بكاء، ما رأيت قط مثله، وترتجف كل عضلة من جسمها كما ترتجف كل ورقة في الشجرة هبت عليها رياح الخريف.
وتنمرت واستبسلت دونها ولكنه غلبوني وأخذوها مني ثم وضعوني في سيارة جيب مع ثلاثة من جنود يهود.
وطفقت أدافع بيدي ورجلي، وأعض بأسناني حتى عجز عني أنا البنت الضعيفة ثلاثة الرجال. فلو أن كل عربي من أهل فلسطين وكل امرأة وكل ولد، كان قاتل بسلاحه وقاتل بعصاه إن لم يجد السلاح، وبحجارة أرض الوطن وبيديه وأسنانه لما استطاع اليهود. . .
ولما ذكرت اليهود ارتجفت من الخوف. وتلفت حولها تخشى أن تسرق همسها آذان خفية في الجدار فتنقله إلى جلاديها قالت:
وصب في الخوف على أختي قوة لم أكن أتصور أنها تكون لأحد، فاغتنمت لحظة غفلة ممن معي ووثبت من السيارة فوقعت على ركبتي.
وكشفت عن ركبتيها وقالت: أنظر، ثم عاودها حياء العذراء التي كانتها يوما والتي تقص قصتها فأسرعت فسترتهما.
قالت:
وجعلت أعدو حافية وقد سقط الحذاء من رجلي على التراب والشوك حتى لحقوا بي وأعادوني.
ورجعت أدافع، فأحسست غرز إبرة في يدي، ثم لم أعد أشعر بشيء.
وسكتت لحظة وكادت من الحياء يدخل بعضها في بعض. وصار وجهها بلون الحمرة ثم تكلمت بصوت خافت كأنه آهات مكتومة لم أتبينها حتى دنوت منها ولفحت أنفاسها الحري وجهي.
قالت:
ولما صحوت وجدتني ملقاة على أرض السيارة، مكشوفة. . . وعلى فخذي آثار دم!!
وعادت تنشج ذلك النشيج الذي يفتت القلب.
لقد أراقت دم عفافها لأن رجال قومها لم يريقوا دماء أجسادهم في سبيل الأرض وفي سبيل العرض. لقد خدروها بهذه الإبرة كما خدروا زعماء العرب بالوعود وبالخدع وبحطام من الدنيا قليل.
قالت:
وصرنا ننتقل من يد إلى يد أنا وبنات قومي العرب، كالإماء في سوق الرقيق لم تهدر كرامتنا وحدها ولم تضع أعراضنا فقط، بل لقد فقدنا صفات الإنسانية. غدونا (أشياء) تباع وتشرى، ويساوم عليها، صارت لحومنا قرى لضيوف اليهود!
إن البائس ليلقى في مغارات اللصوص، وفي سراديب السحرة قلبا طيبا يحنو عليه، ويخفف بؤسه. . ولكنا لم نلق هنا رحمة من أحد.
لقد قرأت مرة في قصة كان دفعها إلى أبي مترجمة عن الكاتبة الأمريكية أ. بيشرستو، أنه كان من أحلى أماني الرقيق أن يباع معه قريبه وألا يفصل الرق الأم عن بنتها والولد عن
أخته، فكنت أعجب من تلك العصور وهوان الإنسانية فيها، فأي حقيقة مروعة مرعبة رأيت؟ بنات العرب صرن رقيقا لليهود لا للعمل ولا للخدمة بل للخزي والفجور. . . وهأنذى مثل ذلك الرقيق: كل ما أتمناه أن يجمع الرق الأبيض بيني وبين أختي!
هذا ما تتمناه بنت الأسرة العربية الشريفة بعد نكبة فلسطين. أما حنان الأب، أما حب الأم، أما عزة العفاف وكرامة العروبة، وتلك الأيام التي كانت ترتع فيها في روض الطفولة فلم يبق من ذلك كله إلا صور باهتة في أعماق الذاكرة، لا تجرؤ هي أن تحدق فيها. . كلا إنها لا تستطيع أن تسمو إلى بعث هذه الذكريات. . إن الرأس الذي أحنته وصمة العار لا يقدر أن يرتفع بنظره إلى السماء.
ولكن الوصمة يا أختي - يا أختي على ما أنت عليه، الوصمة ليست على جبينك أنت، إنها على جبين كل عربي يرضى لك هذا الذي أنت عليه.
وكانت ليلة ليلاء، ما عرفت فيها إلا لذع الآلام.
لقد كان من المستحيل أن نفكر بالغاية التي بعثوا بها من أجلها، ذلك لأن الشهوة لا تنام على فراش حشي بأشواك الذعر، وغريزة الجنس لا تسكن قلبا ملأته بالآلام نكبات الوطن.
لقد صيرتها جوامع الأحزان، أختي. ولا يستطيع الشيطان أن يدخل بين أخوين جمعتهما في ظلمة الليل أوجاع القلب الجريح.
وانتهت الليلة وجاء النادل في الصباح ليقدم الفطور قوت الصباح، ويحمل الفتاة قوت الليل، فاضطرمت في رأسي نار النخوة لما أبصرته، ولكنها كانت (يا للعار) نار القش لا تضطرم فلا تجد الحطب الجزل فتنطفئ.
وودعتني بنظرة. . . بنظرة لا يمكن أن يعبر عن وصفها ومعناها لسان بشري.
وجاءت السيارات تحملنا لنعود من حيث أتينا، نعود ونترك بناتنا يفتك بأعراضهن اليهود؛ ومررنا بيافا، ونظرت إلى هذه المنازل التي كانت بالأمس لنا فصارت لغيرنا، خرجنا منها في ساعة واحدة انحطت علينا فيها النكبة كما تنحط الصاعقة، الأثاث الذي نضدناه قعد عليه غيرنا، والطعام الذي طبخناه أكله غيرنا، والفراش الذي مهدناه، آه. هل أستطيع أن أنطق بالحقيقة المرعبة؟
ولكنها حقيقة، إن الفرش التي مهدناها، هتك اليهود عليه عفاف بناتنا!
ويبقى إلى ظهر الأرض عربي لا ينقع وجهه حياء، ولا يواري وجهه خجلا، خجلا من أمجاد الأجداد، خجلا من سلائق العروبة، خجلا من عزة الإسلام!
يا رجال العرب إن لم تحموا أعراض نسائكم فلستم برجال.
يا جنود العرب، إن لم تدفعوا الأذى عن وطن العروبة وعن أعراض بناتها، فاخلعوا عنكم ثياب الجنود يا من أضاعوا فلسطين، عليكم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
واختفت يافا، وغابت وراء الأفق وأنا لا أزال أرى تلك النظرة التي ودعتني بها. لن أنساها أبداً، ولن أنسى أني تركتهم يأخذونها وأنا حي، وأني كنت جبانا، وكنت نذلا كالآخرين!
علي الطنطاوي
ذكرى وفاة الشيخ مصطفى عبد الرازق
للأستاذ محمود الشرقاوي
في 15 فبراير الحالي تتم سنوات خمس على وفاة المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق. وقد أحببت، في هذه المناسبة، أن أبعث (للرسالة) بهذه الكلمة، لا عن مصطفى عبد الرازق الأستاذ في الجامعة، أو الوزير، أو السياسي، أو شيخ الأزهر. وإنما عن مصطفى عبد الرازق. فمصطفى عبد الرازق، بصفاته، وخصائصه، ومميزاته، هو الذي أريد أن أكتب فيه هذه الكلمة.
كانت أبرز صفات مصطفى عبد الرازق: رقة العاطفة، والتواضع، وحب الخير، والاعتداد بالنفس.
تحدث بعض تلاميذه - وقد تولى منصبا جليلا في القضاء - فقال: كان الشيخ مصطفى يدرس لنا في الأزهر مادة (الإنشاء) فوجد واحدا من طلبته زري الهندام، ولاحظ بعض إخوانه يكاد يعيره بذلك، وظن طلبة الشيخ أنه غير منتبه لما يجري بين هذا الطالب وإخوانه. ولكنه في أثناء الدرس، تطرق إلى موضوع القيمة الذاتية للفرد، وأنها لا تخضع لمقياس الثروة والجاه، وأن المال والثياب لا تجعل الرجل عظيما، وإنما قيمة الرجل وعظمته في فضائله وعلمه وآدابه.
وكان ليقظة الشيخ، ولطف توجيهه لأبنائه، وعدم إشارته أي إشارة للطالب الفقير، أكبر الأثر في تقويم تلاميذه وإدراكهم لما يقصد، واستقامة نفوسهم بعد ذلك، وصدق مودتهم بعضهم لبعض.
وقص تلميذ الشيخ فقال: وشكا واحد من طلبة الشيخ مصطفى إلى صديق له قلة ماله، وأنه يخشى أن تقطعه الحاجة عن طلب العلم، واستشاره، فقال له صاحبه، بعد تفكير، ليس لك إلا أستاذنا الشيخ مصطفى عبد الرازق. فقصد الطالب المحتاج بعد تردد، بيت شيخه، وكان لا يزوره، فلما أقبل على الشيخ وفي مجلسه جمع كبير من العظماء وأهل المكانة، قام الشيخ لاستقباله مرحبا، وقدمه لضيوفه مادحا له، ذاكرا نبوغه في الطلب وحسن استعداده وذكاءه، ثم أدرك الشيخ بعد قليل، من حياء تلميذه وتهيبه، أنه يعالج في نفسه شيئا، فأستأذن ضيوفه واختلى بتلميذه، فلما سمع منه قصته قال له: أمهلني أسبوعا ولا تجزع، وعد إلي
بعده.
وبعد أسبوع مر الطالب على شيخه فوجده قد وفق لتعيينه في وظيفة أعانته على مداومة الطلب. وأبلغه ذلك وكأنه يعتذر عن تقصيره.
وكثيرون من أبناء الشيخ وخاصته يعرفون عشرات من مثل هذه الحادثة.
وعندما عاد الشيخ مصطفى عبد الرازق من فرنسا في سنة 1914 وكان شقيقه المرحوم حسن باشا وكيلا للديوان الخديوي اختير سكرتيرا لمجلس الأزهر الأعلى. وحدث في إحدى الجلسات أن اشترك في مناقشة المسائل المعروضة، وتأثر بعض أعضاء المجلس من مناقشته، أو من أسلوبها، فقال له المرحوم حسن باشا جلال، وكان عضوا بالمجلس: يا شيخ مصطفى، أنت سكرتير، ولست عضوا معنا. أنت تكتب ما نقول ولكنك لا تشترك في المناقشة. فسكت الشيخ قليلا، ثم قام، ولم يتكلم فأخذ ورقة، وأقفل درج مكتبه، وذهب إلى بيته ولم يعد للأزهر. فلما عرف شقيقه حسن باشا ما حدث، اتصل بحسن باشا جلال معاتبا، فقال له: إن مصطفى ابني، وقد أردت توجهيه وإفادته. وزار جلال باشا بيت عبد الرازق، ثم عاد الشيخ مصطفى سكرتيرا للمجلس.
وقد قص علي هذه القصة من كان يحضر مجلس الأزهر الأعلى في ذلك الوقت.
وقص علي الشيخ، يرحمه الله، هذه الواقعة، قال:
كان أبي رحمه الله، وأنا أطلب العلم في فرنسا، يرسل إلى في أول كل شهر نفقاتي وكانت تصلني في موعد لا يتخلف. وفي شهر من الشهور ترقبتها في موعدها ولم ترد، وبقيت أنتظر يوما بعد يوم، حتى قل ما بيدي من المال قلة شديدة. وكنت شديد الحرص ألا يعلم إنسان ما أنا فيه. فلما خشيت أن يعلم أمري قصدت متسللا إلى السوق أبحث عن أرخص طعام في ذلك الوقت أشتريه بما بقي معي من فضلة مال، فكان أرخص الأشياء الموز، فابتعت منه كمية كبيرة بمال قليل، ووضعتها في حجرتي، وجعلت أنفرد فيها وقت الطعام لآكل منه ثم أدركت بعد ذلك أني تركت مسكني إلى آخر ولم أبلغ البنك ذلك. فلما ذهبت إلى البنك وجدت نفقاتي فيه في موعدها، ولكنه لا يستطيع إبلاغي وحمدت الله أن سترني ولم يعرف أحد كيف قضيت أيامي تلك.
وفي سنة 1936 - على ما أرجح - اختير رحمه الله ممثلا لمصر في مؤتمر المستشرقين.
وقبل سفره بأيام، قصدت إليه عن جريدة (البلاغ) أتحدث إليه في سفره ومهمته، وموضوع بحثه. فلما تحدث إلى في ذلك بما كفاني طلبت منه صورته لأنشرها مع حديثه، فعند ذلك رأيت وجهه قد كسته حمرة وقال: وهل أنا رجل كبير حتى تنشر صورتي في الصحف. . .؟ ومع أني حاورته في ذلك محاورة شديدة وألححت عليه إلحاحا شديدا فإنه غلبني بقوله: أرجوك أن تقدر رغبتي وتعفيني من هذا الطلب. فأعفيته وقد زاد إعجابي به وحبي له.
ولكن هذه الصفات نفسها، من الحياء، والتواضع، ورقة العاطفة، وحب الخير، وهي كلها فضائل، كانت سببا في متاعب عاتية وقع فيها وهو شيخ للأزهر. وتعبيري بكلمة (متاعب) فيه كثير من التساهل، وعندما يكتب تاريخ هذه الفترة، التي قضاها الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخا للأزهر، سيعرف الناس أي ظلم، وأي مضض، لقيه الشيخ في مشيخة الأزهر، لبعد، أو تناقض ما بين طبيعته وبيئته إذ ذاك.
ذهبت إليه، بعد عودته من الحجاز، وكان أمير الحج في سنة 1946 وقبل أن يؤوب إلى مكتبه، وكان في نفسي كثير من الضيق، بسبب أشياء ظالمة كتبها عنه رجال من شيوخ الأزهر، فأخبرته بها وقلت له: إن هذا الذي أحدثك به، كتبه القوم بأسمائهم وأعلنوه على الناس، وهو متداول بينهم مشهور. ولولا ذلك ما حدثتك به. فغضب رحمه الله حتى اضطرب، وفارقه أنسه، وظهر عليه الضيق حتى أشفقت عليه. ثم قال بإصرار وحزم: لن أسكت على ذلك.
وبعد أيام رجع إلى مكتبه، وجاء إليه الشيوخ الذين كتبوا فيه ما كتبوا، وكان قد قرأه، فاستقبلهم مرحباً، وآنسهم، واستبقاهم، وودعهم إلى باب حجرته شاكراً، مكرراً شكره.
وقد عرفني الشيخ، وعرفته دهراً طويلا، وأحببته، وكيف لا أحبه؟ ثم وقعت في نفسه نحوي جفوة لم أدرك أسبابها إلا بعد موته. فعسى أن يغفرها الله لي، وأن يغفرها لي الشيخ أيضاً؛ فقد كان يغفر، حتى لظالميه.
هكذا كان الشيخ مصطفى عبد الرازق في شبابه، وهكذا كان في كهولته وشيخوخته.
رجل وهبه الله أجل هباته من الجاه، والمال، والمجد. ووهبه أجمل هباته من الخلق الطيب والحياء الجميل، الذي يزيد صاحبه رفعة، ومهابة، ومحبة. وجعل حياته كلها مثلا كريما للعمل الخير الدؤوب الذي يصدق أن يقال في صاحبه إن يسراه لا تعرف ما تقدمه يمينه.
من أجل ذلك كان فقده موجعاً أليماً، ومحبته باقية في قلوب الذين عرفوه فأحبوه، وأيقنوا أنه من طراز قل أن يوجد في الرجال.
محمود الشرقاوي
النجم الذي هوى
زكي مبارك
بقلم تلميذه وصديقه الأستاذ محمد رجب البيومي
قابل المتأدبون في العالم العربي نعي الدكتور زكي مبارك بمرارة لاذعة، فقد سمعوا قلمه البليغ منذ أربعين عاما يرن في مختلف الصحف، فيثير العواصف الهوج ناقدا مصاولا، ويرسل النغم العذب شاعراً ملهما، ويتابع الأحداث الأدبية والاجتماعية مؤرخاً فاحصاً، ويدبج الأبحاث العلمية والفكرية مؤلفا باحثا، ثم شاءت طبيعته أن يترك جهاده الدائب في دنيا الأدب والفكر، ويستريح بعض السنوات مما كابده في نضاله الذهني، حتى أدركه الموت في زلة قدم شجت رأسه ومزقت أعصابه، فطارت روحه إلى السماء تاركة وراءها عبرات تترقرق في محاجر الأدباء، وزفرات تتصاعد من صدور تلاميذه وزملائه على السواء.
ولقد بدأ الدكتور حياته - كأكثر أدباء عصره - طالبا بالأزهر الشريف، وكانت لديه حافظة قوية ساعدته على استيعاب كثير من روائع الشعر العربي في سن مبكرة ، ووجد الأستاذ المرصفي مولعا بالأدب والشعر بين أساتذة الأزهر فلازمه دروسه، ونقل أبحاثه في أوراقه، وصاحبه في سمره ولهوه وجده وشغله، وجعل يعرض عليه ما تجود به قريحته الناشئة من نظم ساذج فيفسح له مجال التجويد والإبداع بما يلقنه من توجيه وتثقيف، وقد بدأ الطالب الأزهري يتصل بالصحف، وينشر إلى جانب قصائده التقليدية فصولا إنشائية يبذل في تسطيرها ما يملك من جهد وإتقان، ودفعه طموحه إلى دراسة اللغة الفرنسية في فترات يختلها من حياته الأزهرية، ثم دفعته عزيمته إلى الجامعة المصرية سنة 1916 فأصبح طالبا يتميز بين طلابها بالنشاط والكفاح، ووجد بين أساتذتها شيخا يشبه أستاذه المرصفي في تعلقه بالأدب وكلفه بالنقد، فأخذ يستمع إلى محاضراته، ويدون في صحائفه جميع ما يصله من أستاذه الكبير محمد المهدي، وقد عكف في هذا الطور من حياته على مختارات البارودي، فحفظ أكثر ما بها من قصائد، ومالت به عواطفه إلى الغزل والنسيب فاستظهر رقائق العباس بن الأحنف، وحجازيات الشريف، وروائع مهيار وجميع ما نقله البارودي عن الشريف وابن سنان والتهامي، وقد خرج من ذلك كله بثروة طائلة في الذوق
والشاعرية والأسلوب، وأخذ يجد الغذاء الدسم الذي يوجهه إلى عشاق الأدب في صحيفة الأفكار، فتطلعت الأنظار إلى الأديب الناشئ وعرفت فيه بوادر الألمعية والإبداع.
وحين اشتعلت الثورة المصرية الأولى سنة 1919 جرفت في
تيارها زكيا مباركا، فساهم بقلمه في إذكاء العاطفة الوطنية،
وخطب مع الأستاذ القاياتي في أول احتفال وطني بعيد الجهاد،
ومضى إلى الأزهر الشريف، فجعل من منبره مذياعا قويا
ينشر على الملأ حماسته واندفاعه، وكان الأستاذ أبو العيون
ينتدبه للخطابة بالفرنسية حين يحضر إلى الأزهر بعض
الأجانب من الفرنسيين، وقد أدى ذلك إلى غضب السلطة
الإنجليزية فزجت به في غياهب الاعتقال، وقالت عنه جريدة
الأهرام بعد أن نشرت نبأ اعتقاله بتاريخ 111920 (إنه شيخ
معروف بذلافة اللسان والنظم الرشيق وله في كل مجتمع كلمة
يلقيها أو قصيدة يتلوها، وأصبح في معتقله بالإسكندرية زميلا
للقاياتي ودراز وأبي العيون وغيرهم من خطباء الثورة
الأحرار).
وقد تقدم إلى نيل إجازة الدكتوراه في الآداب سنة 1924 بعد أن نال إجازة الليسانس، فكتب رسالة عن أخلاق الغزالي وكان الشاب الجامعي معتزا بمواهبه فهاجم حجة الإسلام مهاجمة قاسية، وتكشفت أثناء المناقشة جوانب خطيرة أثارت كثيرا من الحاضرين عليه، فتقدم الأستاذ اللبان لمناقشته، واحتدم الحوار احتداما أثار الضجة واللجاج، وأعلن رئيس
اللجنة الدكتور منصور فهمي أن الرسالة الجامعية محاولة عقلية يخطئ فيها الطالب ويصيب، وذلك لا يمنع من نجاحه بدرجة مشرفة. ثم انتقل صدى الرسالة إلى الصحف، فأندفع الدكتور مبارك يناظر الأستاذين الشيخ يوسف الدجوي والشيخ أحمد مكي وغيرهما من كبار العلماء مناظرة حادة، مهدت له طريق الشهرة والذيوع، وإن عادت على عقيدته ببعض الأوهام.
والحق أن الدكتور مبارك كان يحرص على مخاصمة الجمهور فيما يكتب ويذيع، فهو يتعمد مزالق الزيغ تعمدا، كأن له حظا في الثورة والضجيج. ألف في هذا الدور كتابيه (حب ابن أبي ربيعة)(ومدامع العشاق) فقذف بنفسه في مطارح مخيفة، إذ أسهب في الحديث عن النبوة والعشق، ومنزلة الهيام من الدين، مما يثير عليه النوازع، وإن جذب بذلك كثيرا من الشباب إلى رياض الأدب العربي، فهاموا بالشعر الجيد، والنظم البليغ، وعرفوا الكثير عن عمر وكثير وجميل!! وقد انتفع الدكتور بمختارات البارودي في فصول كتابه (مدامع العشاق) فنقل باقات عبقة من زهورها اليانعة وقدم إلى القراء كثيرا من رقائق أبن رزيق والطغرائي وابن نباتة السعدي وأبن الخياط، بعد أن كانت الكثرة الغالبة من الشباب لا يتجاوزون البحتري والمتنبي وأبا تمام!!
وقد عين سنة 1925 معيدا بكلية الآداب، وكان يشرح لطلابه كتاب (مغني اللبيب) في النحو بتكليف من الدكتور طه حسين. وأكد صلته في هذه الفترة بجريدة البلاغ فكان يكتب الصحيفة الأدبية بها دون انقطاع. ولم يعش في ماضي الأدب القديم، بل أخذ يتابع الحركة الفكرية في مصر ويتعهدها بالنقد والجدل العنيف. وقد كتب فصولا طويلة عن شوقي ومعارضاته للشعراء، وهي مجموعة في كتابه (الموازنة بين الشعراء) مع أخوات لها تشابهها في التحليل والاستنتاج، وقد لاحظت وأنا أطالع هذه الموازنات تعصبا ملموسا لشوقي من زكي فهو يفضله دائما على من يزنه به، وكنت أعجب حين أجد المبارك لا يستر ميوله الشخصية عن القراء، وأحار في تعليل ذلك، حتى عرفت من بعض ما كتبه الدكتور، أنه أخذ مبلغا كبيرا من ذهب أمير الشعراء، فرفعه إلى السماء. ولست أريد أن أخفض من قيمة المعارضات الشوقية، فهي تحتل مكانها في التاريخ الأدبي دون نزاع، ولكني أعلن أن الدكتور قد خلع عليها من الإطراء ذيولا ضافيات.
ولم يقنع مبارك بدرجته العلمية التي نالها من الجامعة المصرية، فسافر إلى باريس، واتفق مع جريدة البلاغ أن يمدها بمقالاته وأبحاثه نظير ما تمنحه من أجر يذلل به صعوبة الاغتراب، وأخذ يوالي البلاغ بآثاره العلمية تارة، وبمشاهداته وخطراته عن باريس تارة أخرى، فوق ما يضطلع به من تحضير رسالة علمية لنيل الدكتوراه من السوربون، وتجمع له من ذلك كتابه المعروف عن ذكريات باريس!! ثم وفقه الله فوضع رسالته عن النثر الفني في القرن الرابع الهجري، وهو كما يعلم القراء أخصب عهود العصر العباسي وأحفلها بالإنتاج الفكري، والشخصيات اللامعة من ذوي النقد والصيال. وقد نال برسالته القيمة إجازة الدكتوراه في الآداب من السوربون. وأقيمت له ثلاث حفلات تكريمية بباريس والقاهرة والإسكندرية. ويخيل إلى أن كتاب زهر الآداب للحصري قد أوحى إليه باختيار موضوع رسالته، فهو سجل حافل بالآثار الفنية لأعيان البيان، وقد شرحه الدكتور وحققه، ووضع فهارسه وعرف بأعلامه، فأتاح له ذخيرة ثمينة تستحق العرض والتحليل، فأندفع إلى تسطير رسالته العظيمة، التي يعدها الأستاذ أحمد أمين أعظم آثار الدكتور وأجدرها بالاهتمام.
ولكتاب النثر الفني - على رغم مكانته المحترمة - نقدات توجه إليه، وقد اعترف بها المؤلف، ولعل أبرزها ما نلاحظه في أسلوب الدكتور عامة من سيطرة عواطفه وأخيلته على يراعه، في الأبحاث الفكرية الدقيقة، فقد ارتضى لنفسه أن يكون شاعرا في تحقيقاته العلمية أو يستمد وقودها من القلب والعقل والخيال. وقد قال زكي عن ذلك (وهذا عيب في التأليف ولكنه عيب جميل يقع من المؤلفات العلمية موقع الخال من خد الحسناء)
وحين عاد الدكتور من باريس لم يركن إلى الدعة والراحة، بل واصل حملاته الأدبية في مختلف الصحف، وكان له مع أكثر أدباء العصر الحاضر صيال وملاحاة، فهو يقرأ القصيدة أو المقالة أو الكتاب لغيره من الأدباء، فتنفسح أمامه طرق واسعة للاختلاف والنقاش ويثيرها معركة عنيفة، ينتشر غبارها في الأفق ويكثر حولها الضجيج والخصام، وقد حاولت أن أحصر جميع من ساجلهم الدكتور مبارك فأدركني العجز الذريع!! ومرت أمامي أسماء كثيرة لهؤلاء المتحاورين مع الدكتور في حومة النقاش، وفي طليعتهم أحمد زكي باشا وعبد الله عفيفي ويوسف الدجوي وسلامة موسى، وحسن القاياتي، ومحمد عبد
المطلب، والسباعي بيومي، ومحمد مسعود، وغيرهم. . . ومع هؤلاء أناس ناقشهم الدكتور وآثروا الراحة فلم يعتركوا معه في الميدان كطه حسين وعبد العزيز البشري وأحمد أمين وفريق من أعلام الأدب في الشام والعراق.
ولقد كان زكي فخورا بمعاركه الأدبية، وطالما تحدث عنها في كثير من التيه والإعجاب، وقد قال عن نفسه (أنا لا أرى الحياة إلا في حومة القتال، وليس الأدب عندي مزاحا أتلهى به في الأسمار والأحاديث وإنما هو عراك في ميادين الفكر والخيال) كما نقل في آخر الموازنة بين الشعراء قول بعض أصدقائه عنه (إن مباركا رجل ثائر لا تروقه الحياة، ولا يستطيب العيش إلا بالغزوات العلمية، ولو جاز وصف المساجلة كمعركة حربية، وتشبيه الأدباء بالجيش لتمثلت مباركا ضابطا من الضباط يزدان صدره بالأوسمة والنياشين لكثرة ما نازل من الأقران)
وقد كان مبارك يعتقد أنه طالب علم مدى الحياة، فهو لا يعرف للإجازات العلمية حدا تقف عنده، بل يحب أن يجلس دائما أمام الأساتذة، مهما امتدت به السن، ونال الدرجات، ليجد أمامه فرصة متاحة للصيال والنقاش. وقد تقدم بكتاب ضخم عن التصوف الإسلامي وأثره في الأدب والأخلاق لينال الدكتوراه في الفلسفة من جامعة فؤاد، وتألفت لجنة من كبار أساتذة الجامعة لمناقشته وحسابه، فمنحته إجازة الدكتوراه في الفلسفة بمرتبة الشرف، وكتاب التصوف مشهور متداول، ومزيته الصحيحة - كما قال المرحوم جاد المولى بك (أنه لم يؤلف للدعوة إلى التصوف أو الهجوم عليه، وإنما ألفه مبارك في نقد التصوف فبين ما فيه من محاسن وعيوب، وكشف عما يتضمنه من قوة وضعف، في صراحة رائعة وأسلوب متين) وأجدني مضطرا إلى أن أذكر أن الروح الأدبية قد جمحت بالدكتور في بعض مواضيع الكتاب، فلم تحدد بعض حقائقه العلمية تحديدا يتكشف للقارئ من أقرب طريق. وقد أجهدت نفسي كثيرا لأفهم ما قاله الدكتور عن وحدة الوجود، فلم أخرج بطائل مع أنه ملأ الدنيا تشدقا بما كتبه عنها في التصوف. وقد أكون ذا عقل واهن لم يستطيع السير في هذا المنعرج الدقيق.
وكان الدكتور قد خصص جانبا من كتابه للبحث عن المدائح النبوية، وأطال القول في صلتها بالتشيع، كما تعرض إلى الكميت ودعبل والشريف وغيرهم من شعراء البيت
الهاشمي، واتجه إلى البردة ومعارضاتها، وما تمخضت عنه البديعيات النبوية من مباحث أدبية هامة، ولكن اللجنة المؤلفة لبحث الكتاب قد أشارت بحذف هذا الجانب من القول لبعده عن مدلول التصوف، فظهرت المدائح النبوية بعد ذلك في كتاب خاص، ولعله أول بحث مفصل يعنى بتاريخ هذا الباب، وقد مزج فيه المؤلف بين العرض والتحليل والتاريخ والاستنتاج في طراز موفق شفاف.
وقد كان انتداب زكي مبارك إلى التدريس بدار المعلمين العالية في بغداد ذا أثر هام في حياته الأدبية، إذ أن الفترة القصيرة التي مكثها بالعراق قد ألهبت قريحته وأذكت نشاطه فسطر مئات الصحف في الدعوة إلى العروبة، وتوثيق الصلات بين القاهرة وبغداد، واتصل برجال الفكر والسياسة في القطر الشقيق فنزل بينهم نزلا كريما، وقد وصف الآثار العربية، بحاضرة العراق وصفا بديعا، كما نقل للقراء في شتى بقاع العربية، صورا خلابة عن غابات النخيل في البصرة، وسجع الحمائم في الموصل، وبقايا السحر في بابل، ورسم تألق القباب العلوية في النجف والكرخ، وألقى عدة محاضرات بنادي القلم العراقي، وقاعة كلية الحقوق، ونادي المثنى ، والإذاعة العراقية، حول الثقافة العربية، وجمع كتاب ليلى المريضة بأجزائه الثلاثة كثيرا من آرائه التي تحدد صلة مصر بالأمم العربية، كما شرح معضلات الشباب في مصر والعراق موضحا ما يراه من الحلول والأدواء. . ونحن نحمد للدكتور هيامه بالوحدة العربية، وكفاحه من أجلها أطيب كفاح، وللقارئ أن يستعرض عناوين مقالاته في كتاب وحي بغداد ليعلم أي جهد قام به الدكتور في توثيق الصلة بين القطرين، فقد تكلم عن العروبة في مصر تارة، وعن المذاهب الأدبية المصرية طورا، وعن الجامعة العراقية وما يجب أن يبذل في سبيل إنشائها من مشاق،. . . وحين رجع إلى مصر، تحدث عن الفن المصري في العراق، وعن الأندية الأدبية في حاضرة الرشيد، وعن نهضة التعليم في دار المأمون، وأطنب في ذكرياته عن دجلة والفرات والرصافة والجسر وليلى وظمياء، وفي كتابه (ملامح المجتمع العراقي) أحاديث طيبة عن رجال العراق وقد نشرت أكثر فصوله وفصول ليلى المريضة بمجلة الرسالة الغراء. . .
وقد رجع الدكتور إلى مصر، ومعه فوق ما تقدم من كتبه، مؤلفه عن عبقرية الشريف الرضي، وهو مجموعة محاضرات أدبية ألقاها المؤلف في قاعة كلية الحقوق ببغداد، فكان
أول باحث خص الشريف بجزء ين كبيرين، وقد استمع إليها كثير من الأساتذة والطلاب، وصرح الدكتور أنه وقف من الشاعر موقف الصديق، فتحدث كثيرا عن محاسنه وأشار إلى عيوبه برفق ولين، وقد قسم مواضيع الكتاب تقسيما نسبيا لم تتضح معالمه ورسومه، إذ لاحظت أن ما كتبه عن غراميات الشريف يصلح أن يكون بين ما كتبه عن حجازيات الشاعر، وما كتبه عن غرائب الوفاء يصلح أن يندرج فيما يليه من الأبواب دون التباس، وقد أدت سرعة المؤلف وعجلته إلى ذلك، ولست أجد ما أقوله غير أنه سطر أبحاثه بروح الشاعر الذي لا ينسى التحليق والطيران هذا وقد عين الدكتور مبارك بعد عودته من العراق مفتشا للغة العربية بالمدارس الأجنبية، وكان عمله الرسمي لا يكلفه جهدا كبيرا، فتفرغ للنشاط الأدبي، واتخذ من مجلة الرسالة الغراء ميدانا للصيال والحوار، وكانت هذه الفترة من حياته ألمع عهوده الزاهرة، حيث اعتبره المتأدبون في العالم العربي قائدا يتولى توجيه الشباب في صحيفة ممتازة، وأخذوا يتابعون أبحاثه وقصائده ومعاركه في اهتمام، وكان يسأل فيجيب، ويرشد فيطاع.
وقد حلل على صفحات الرسالة كثيراً من الكتب الأدبية التي تقررها الوزارة لأعلام الأدباء في مسابقة التوجيهية، كفيض الخاطر، ووحي الرسالة، ومطالعات في الكتب، والمختار، وإبراهيم الكاتب، وحديث عيسى بن هشام، والمنتخبات، وتحرير المرأة، والشوقيات، وديوان صبري وحافظ، وغيرها من أشهر المؤلفات. وكان يبدأ مقاله بمقدمة عن الكاتب، مشيراً إلى طريقته في التصوير والعرض. ثم يحلل أبواب الكتاب موجهاً الأنظار إلى نقطه الرئيسية وعناصره الهامة، ويختم بحثه بإرشادات للطلاب تهديهم إلى طريقة الانتفاع بالكتاب، وهو بذلك يفتح أمام الناشئة طرق البحث والاستيعاب، وقد كثرت خواطره الطريفة التي كتبها تحت عنوان (الحديث ذو شجون) ورأى فيها الناس فنا صادقاً يعرض خوالج الكاتب ونوازعه في صور مشرقة آخاذة، وينتقل بالعقول من موضوع إلى موضوع كما ينتقل الطائر من غصن إلى غصن، دون أن يجد القراء أثراً للسآمة والتكلف، بل كانوا ينعشون بنسيم هادئ يحمل عبير الرياض، ولو استمر الكاتب بموضعه في الرسالة لأسعد القراء بلطائفه الرقاق، ولكنه هجرها بعد سبعة أعوام، وكنت أسأل عن سبب هذه القطيعة بإلحاح، حتى وجدت الإجابة في ديوان (ألحان الخلود) إذ أعلن الدكتور أنه تضايق كثيراً
حين سمح الأستاذ الزيات للأستاذ الغمراوي بنقد الدكتور في بعض أبحاثه بالنثر الفني!! فكان ذلك مدعاة القطيعة والحرمان!! وليت شعري كيف يضيق المبارك بالنقد وقد شب في ميدانه، وصال في حلبته راكباً جواده، وشاهراً سيفه؟ ثم هل يستطيع صاحب الرسالة أن يمنع إنساناً ما من النقد في حدود المنهج العلمي الصريح؟ إني لأذكر أن الأستاذ الزيات قد كتب مقالا عن إصلاح الأزهر بالرسالة فرد عليه أستاذنا المغفور له الشيخ محمود الغمراوي ردا صاخباً، وأبى الزيات أن يحذف حرفاً واحداً مما كتب الناقد العنيف، فكيف يجزع الدكتور من نقد علمي بريء؟!
هذا ما كان!!
وقد التحق الدكتور بتحرير البلاغ بعد الرسالة، وواصل نشر أحاديثه ذوات الشجون، ويؤسفني أن أذكر أنه حاد كثيراً عن النهج الذي سلكه بالرسالة، فبعد أن كان يذكر طرائف الأدباء وينقد آثارهم الأدبية وحدها، أخذ ينقد السلوك الشخصي ويتتبع ما يصله من الهنات صدقاً أو كذباً، وقد يختلق - غفر الله له - المثالب اختلاقاً ويلصقها بالناس. وقد هاجم وزير المعارف إذ ذاك مهاجمة أدت إلى فصله من الوزارة، فتعرض للبؤس تعرضاً مؤلماً. . . ثم تداركه الأستاذ علي أيوب فألحقه بالقسم الأدبي في دار الكتب المصرية، ومكث عدة أشهر لا يقبض مليما واحداً، فتشعبت همومه، وعيل صبره، واستسلم إلى السكر والتبذل والاستخفاف!! وكأنه حن إلى الإنتاج الأدبي فجمع أشعاره الكثيرة في ديوان شامل أسماه (ألحان الخلود).
ولن أتعرض إلى منزلته الشعرية الآن ففي نيتي أن أكتب عنها بحثا مستقلا بعد حين، ولكن أذكر أن الدكتور قد مهد لأكثر قصائده بمقدمات مؤلمة كان الأفضل ألا يكتب منها حرفا واحدا، فهي - في أكثرها - تجريح شنيع لأناس أفاضل يحتلون منازل كريمة في عوالم السياسة والأدب والاجتماع. والعجيب أن مؤلفات الدكتور السالفة تحفل بالثناء عليهم وتعدد مآثرهم البيض في شتى ميادين الحياة!! كما لم يدخر وسعا في التحدث عن نزواته ولحظات ضعفه، كأنه مولع بفضيحته والتشهير بنفسه على رءوس الأشهاد. وأنا حين أعلل ما انحدر إليه الدكتور في خريف حياته من إسفاف، أحيل ذلك إلى ما وقر في ذهنه من أن الأدب لا يبلغ ذروته إلا إذا كشف عن النزوات البشرية وجلا للقراء ما يكمن في أعماق
الكاتب من رواسب هابطة، وشهوات مسفة!! وذلك مذهب محرج لاحت بوادره - بصورة خافتة - قبل ذلك في بعض مؤلفات الدكتور، ثم اشتعلت على صفحات البلاغ وفي ديوانه ألحان الخلود بنوع خاص!!
وقد كان الدكتور ذا صلات كبيرة بأعلام عصره في الأزهر والجامعة ودار العلوم والصحافة والجمعيات العلمية، فسجل عن تاريخهم الشيء الكثير في مؤلفاته، حتى لتصلح أن تكون مرجعا للحركة الفكرية في العصر الحديث! وفي كتاب الأسمار والأحاديث تشريح هام لآراء المفكرين من أدباء وشعراء، وقد أجرى الدكتور على ألسنتهم كثيرا من المعاني التي يحتمل أن تصدر عنهم، إن لم يكن بعضها صورة حقيقية لما قالوه. وقد اختص المدرسة الاتباعية في الشعر بحوار كبير، ونقل كثيرا من آراء الهراوي والأسمر والجارم والزين وعبد الجواد رمضان والقاياتي وعبد الله عفيفي، وكلها تدور حول الشعر والشعراء في نسق مؤتلق وضيء. ومهما يكن من شيء فسيظل القراء يذكرون لمبارك أسلوبه الجميل الرقراق، ويشهدون أنه قد نقل الغزل الرقيق من ميدان الشعر إلى ميدان النثر، فوصف في مقالاته العواطف الثائرة، وشرح الأحاسيس الملتهبة، ونقل للقراء زفرات مبثوثة من الوجد الصارخ، إذ تحدث عن مسارح لهوه وملاعب صباه في سنتريس وأسيوط وباريس ومصر الجديدة وبغداد وحلوان، وأحسن القول في صدود الحسان، ومعاقرة الكؤوس، ونزق الصبا، ومفاتن الشباب، في طراز فاتن يأخذ بالألباب.
لقد كان الدكتور مبارك رحمه الله حركة دائبة مؤثرة في الأفق الأدبي، ولو قدر له أن يجتاز الأعوام الثمانية التي مرت عليه في خريفه كما اجتاز عمره السالف بين الصحف والأوراق لكان ذا شأن عظيم، ولكن القدر شاء أن يأسف عليه الأدباء مرتين، فهم يأسفون لما غمره في أخريات أيامه من القلق والاضطراب، كما يأسفون لرحيله الصامت الساكن بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس، فجف الغدير المترقرق، وصوح الزهر الناضر، وطار البلبل الصداح
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
أبو تيج
محمد رجب البيومي
صور إسلامية رائعة.
. .
للأستاذ عيسى متولي
كان النبي صلى الله عليه وسلم، يتأهب لإحدى الغزوات، وأخذ يعبئ الشباب للميدان، فإذا بغلام - هو رافع بن خديج - يندس بين الصفوف، ويتطاول على أطراف قدميه، ليبدو للرسول الكريم في طول من هم أكبر منه سنا. . فيضمه إلى من يختارهم للميدان!. .
فأين من هذا الغلام أولئك الشبان، الذين يتهربون من الجندية، ولو كلفهم ذلك بتر أيديهم، ليظهروا بمظهر العجزة. . وأولئك الذين يشيعهم أهلهم بالبكاء والنحيب. . كأنما يساقون إلى الموت!. .
لما علم عمر بن عبد العزيز أن ابنه اشترى خاتما بعشرة آلاف درهم أمر بمصادرته. . وأنبه بقوله: هلا بعته وأطعمت بثمنه عشرة آلاف جائع!. .
ونحن لا نطالب من آتاهم الله بسطة في المال بأكثر من أداء الزكاة. . التي فرضها الله عليهم. فيكون في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم!. .
أصيب أحد الصحابة بعلة استدعت بتر جزء من جسمه، فسألوه عن الوقت الذي يراه مناسبا لهذه العملية، فاقترح البعض أن تجري له عملية البتر أثناء نومه، فلا يشعر بألم. . ولكن الرجل المؤمن قال: لا. . ابتروا ما تشاءون من جسمي. . وأنا أصلي بين يدي الله؟!. . ومعنى ذلك أنه في صلاته ينصرف بكل حواسه ومشاعره إلى الله!.
فأين من هذا الصحابي هؤلاء الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى. . وإذا صلوا ملأت صدورهم الوساوس. . ومشاغل الحياة. . . لاهية قلوبهم!. .
ويروي لنا القرآن الكريم قصة (سليمان) عليه السلام، إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد، فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب. . ففاتته صلاة العصر وهو يستعرض الجياد. . . فأمر أن يردها إليه، هذه الجياد التي شغلته عن الصلاة، وطفق مسحا بالسوق والأعناق. . . حتى قضى عليها. . تكفيرا لذنبه!. .
فأين من هذا العبد الأواب، أولئك الذين تصرفهم مشاغل الحياة من المحراب. . ويشرون الحياة الدنيا بالآخرة. . فتمتلئ بهم المقاهي، ودور اللهو، وهم عن ذكر ربهم غافلون!. .
هذه صور رائعة، مما يزخر به تاريخنا الإسلامي، أسلط عليها أنوار (الرسالة) الوضاءة. .
ليتدبرها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. .
والسلام على من اتبع الهدى!. .
عيسى متولي
دفاع عن العباسة بنت المهدي
للأستاذ عبد الواحد باش أعيان العباسي
- 1 -
كلما كشف الكتاب والباحثون النقاب عن وجوه العصر الذهبي للدولة العباسية، وخاصة في عهد الخليفة هارون الرشيد، تقودهم تتمة البحث أن يتطرقوا إلى البرامكة وأعمالهم ومآثرهم في الدولة. ثم استئصال نفوذهم والتنكيل بهم على يد الخليفة الرشيد. ولقد أضحى هؤلاء الكتاب مرغمين أن يذكروا العباسة بنت الخليفة المهدي وأخت الخليفة الرشيد كلما بحثوا في تلك النكبة وعواملها، لأن بعض كتب التاريخ العربي، ذكرت في اقتضاب، وبعضها قد أسهب في وصف العلاقة بين العباسة وجعفر البرمكي وزير الرشيد وعضده في إدارة أمور الدولة العباسية.
وتلك الروايات وإن تباينت في السرد، تتفق في هذا المعنى: وهو أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر ومنادمته في مجالسه الخاصة، وكذلك ما كان يصبر عن أخته العباسة في الوقت نفسه، لذلك ابتدع أمرا فريدا، وهو أن عقد لجعفر على العباسة ليحل له النظر إليها، واشترط - عليها طبعا - أن لا يكون اجتماعهما إلا بحضرته، وأن لا يتعدى - هذا الزواج - الحديث والنظر. . . وبعد هذا كانت العباسة تحضر مجالس الرشيد مع جعفر فتقضي ساعات في هذا السمر البريء. .
ثم يستمر الرواة في تنظيم خيوط الرواية ونسجها لتظهر النتيجة المتوقعة من اجتماع شباب جميل، بفتاة رائعة الحسن وضاءة المحيا.
فقد ذكروا أن قد حدث اتصال سري (وتفنن بعض الرواة في كيفية هذا الاتصال) بين جعفر والعباسة، فأنتج (أطفالا).
ولما كانت قصور الخلفاء والملوك لا تخلو من عيون ودسائس لذلك انكشف للرشيد أمر هذه العلافة (الآثمة) بين جعفر البرمكي وأخته العباسة، فثار غيظا، وانفجر غضبه بنكبة مروعة فقتل جعفر، وحبس أباه وبقية اخوته وصادر أموالهم، واشتط في الفتك بمن كان يمدحهم، أو يقف باكيا على قبورهم، أو يومئ إلى رزيئتهم. . .
افترق المؤرخون والكتاب - قديما وحديثا - عند هذه الرواية التاريخية بين منكر لحدوثها،
مشمئز من هذه الفرية الباطلة والتشنيع المدبر للحط من مروءة الرشيد وغيرته، وبين مصدق لها، وغير مستبعد أن تكون واقعة لا محالة، وقد اقتنع البعض بأنها كانت السبب الأول في نكبة البرامكة، وتساهل البعض الآخر فجعل تلك العلاقة من أسباب نكبتهم. . . وقد جاهر بهذا الرأي الأخير الدكتور أحمد أمين بك في كتاب الهلال الذي أصدره عن هارون الرشيد. فقد عدد ثلاثة أسباب للنكبة:(أولها) غيرة الرشيد من سلطانهم و (ثانيا) عطفهم على العلويين و (ثالثا) علاقة جعفر بالعباسة. ولتوطيد صحة السبب الثالث أبدى الدكتور رأيا فريدا لم يسبقه إليه باحث إذ قال:
على أنه ما يدرينا، لعل الرشيد نشر في الناس علاقة جعفر البرمكي بأخته، ليستثير كره الناس ويستخرج غضبهم ومقتهم. . .
وقد استغربت مع كثيرين أن يطرح الدكتور هذا الرأي بعد أن اعترف للرشيد (بكبر العقل، وعلو الهمة، وكرم النفس. . . وحدة المزاج) فكيف يتفق من كان في هذه السجايا أن يذيع في الناس خبرا يمس عرضه ويحط من كرامة بني هاشم! وما الذي يهم سواد الناس من تلك الرواية سوى التشنيع بها على الخليفة وأهله. وإن كان ما قال الدكتور حقا فليس في الأمر حكمة أو بعد نظر من الرشيد إن يحط من شأن أخته لدعاية لا تثير نقمة، وإنما تبعث على الاشمئزاز والتندر.
ثم نظرة أخرى في أمر - هذه الدعاية - فإنها لو كانت أذيعت في الناس قبل نكبة البرامكة فما من أحد كان يستطيع أن يجهر بالكره والعداء ما دام الخليفة يظهر مودته لهم وحدبه عليهم حتى اللحظة الأخيرة.
لذلك فإننا نستبعد أن يكون لهذا الرأي صلة بالسبب الذي ظهرت تلك الرواية من أجله. ونعتقد اعتقادا جازما بأن هذا الخبر عن علاقة جعفر بالعباسة ، كان فرية مغرضة، ليس لها ظل من الحقيقة ولا أساس من الواقع، ونرجح أن يكون قد أذيع قبل أيام النكبة، ومصدره آل برمك أنفسهم إن لم يكن جعفر البرمكي ذاته؛ لغرضين اثنين:
أولا - كسب عطف الناس وتمكين سلطة جعفر من نفوسهم، وليرسخ تمثال الهيبة لوزير الدولة وصهر الخليفة في القلوب
الثاني - أن تجعل الخليفة العباسي، أمام مأزق ضيق فالأمر يمس عرضه وشرف أسرته،
فإن فعل ما يضر بجعفر لا يدرك الناس سببا سوى تلك العلاقة بين جعفر وأخت الخليفة عندئذ يهان الخليفة في عرضه ومروءته. وقد تحقق هذا الغرض بعد مقتل جعفر، وما زال حتى اليوم من صدق تلك الفرية الدنيئة.
وفي ثنايا كتب التاريخ ما يشير إلى أن ذلك الخبر كان فاشيا في الناس آنذاك وكان عامتهم ترجح وقوعه، فقد ذكر الجهشياري في كتابه الوزراء والكتاب في الصفحة (204)
(قال عبد الله بن يحيى بن خاقان: سألت مسرورا الكبير - في أيام المتوكل وكان قد عمر إليها ومات فيها - عن سبب قتل الرشيد لجعفر وإيقاعه بالبرامكة فقال - كأنك تريد ما يقوله العامة، فيما ادعوه من أمر المرأة وأمر المجامر التي اتخذها للبخور في الكعبة؟ فقلت له ما أردت غيره، فقال: لا والله ما لشيء من هذا أصل.! ولكنه من ملل موالينا وحسدهم)
إن صحت هذه الرواية للجهشياري - وهي كذلك - فيكون تأكيد مسرور القول الفصل في تفنيد تلك المزاعم وهدمها، لأنه كان أقرب الناس من الرشيد وأعلمهم بخفايا القصر ودسائس الحاشية المقربين! ولتحدث بها (إن كانت حقا) غير هياب ولا وجل.
- 2 -
لقد بحث بعض المؤرخين الأقدمين والمحدثين الذين تبصروا في ظروف وقعة البرامكة في العوامل الجوهرية التي دفعت بالخليفة الرشيد للقضاء عليهم وتعرضوا لخبر علاقة العباسة بجعفر فأنكرته نفوسهم، ولما لم تستسغه عقولهم أن يكون سبباً من أسباب نكبة البرامكة هدموا الخبر وأنكروا أن يكون له ظل في الواقع، كما توصل لذلك ابن خلدون - من الأقدمين - فقد لخص في مقدمته صفحة 15 رواية النكاح والاتصال أولا ثم فندها من ناحية الاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية التي تتمتع بها العباسة عن مواليها آل برمك حيث قال:(. . وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها، وأبويها، وجلالها، وأنها بنت عبد الله بن عباس وليس بينها وبينه إلا أربعة رجال، هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده. والعباسة بنت محمد المهدي بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد السجاد بن علي أبي الخلفاء بن عبد الله ترجمان القرآن بن العباس عم النبي (ص). ابنة خليفة أخت خليفة، محفوفة بالملك العزيز، والخلافة النبوية، وصحبة الرسول وعمومته، وإقامة الملة ونور الوحي ومهبط الملائكة، من سائر جهاتها، قريبة عهد ببداوة العروبة وسذاجة الدين، بعيدة
عن عوائد الترف ومراتع الفواحش فأين يطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها؟ أو أين توجد الطهارة والذكاء إذا فقد من بيتها. . (حتى يقول) وكيف يسوغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته وعظم إبائه؟)
ومن مؤرخي العصر الحديث الذين لم يقتنعوا بذلك الخبر المختلق ولم يعتبروه أساساً لنكبة البرامكة أو طرفا منها. المرحوم جورجي بك زيدان، في كتابه تاريخ التمدن الإسلامي فقد ذكر أن:(الرشيد فتك بالبرامكة لأنه خافهم على سلطانه) وهو الوجه الصحيح لتفسير سبب النكبة.
وكذلك توصل الأستاذ محمد فريد وجدي بنتيجة البحث الدقيق والتحليل المنطقي أن علاقة العباسة بجعفر البرمكي، إنما كان خبراً مختلقا للحط من كرامة الرشيد ومروءته، فقد ذكر في بحثه عن (جعفر بن يحيى البرمكي، لماذا قتله هارون الرشيد) بالعدد العاشر من مجلة الهلال التي صدرت في أول أغسطس سنة 1940؛ أن من جملة الروايات في سبب النكبة:
أولا - أن الرشيد كان له أخت تدعى (ميمونة) يحب أن تكون في مجلسه مع جعفر، فرأى أن يعقد لهما زواجا صوريا ليحل لجعفر أن يراها دون أن تكون له زوجة فبلغ الرشيد أنها ولدت منه ثلاثة أولاد وهي حبلى في الرابع، فاستشاط من ذلك غيظا، وأمر بقتل جعفر والتنكيل بأسرته.
ثم فند الأستاذ فريد وجدي هذه الرواية بلباقة ودقة تفنيداً يقرب من وجهة نظر ابن خلدون في الأمر - فقال: (ليس بمعقول، فإن الرشيد لم يصل من قلة التبصر وعدم النخوة إلى حد أن يعرض أخته لأجنبي في مجالس لهو وشرب وغناء وهما في ميعة الصبا. لو كان السبب هو هذا لما كان هنالك من حاجة إلى إحاطته بهذه الأسوار من الكتمان، بل ولعرف ولم يحصل فيه خلاف، فإن مجرد قتل ميمونة أخته وأولادها، كان يفضح الخبر إلى حد بعيد، ولما كانت تضطر (علية) أخته أن تقول - كما حكاه ابن بدرون:
(يا سيدي. . . ما رأيت لك يوم سرور تام منذ قتلت جعفر. فلأي شيء قتلته؟) فأجابها هارون بقوله: (يا حياتي لو علمت أن قميصي يعلم السبب في ذلك لمزقته.) فهل كان يخفى على مثل (علية) وهي من أعظم نساء الأسرة المالكة ما حل بأختها ميمونة وأولادها؟ الناس مغرمون بسماع الغرائب وروايتها، وهذا مجال يجد فيه الخراصون مكانا رحبا
لإشباع نهمتهم في الاختلاف، فأفرغوا ما في جعابهم حول هذه المسألة وأنتهبه الناس انتهابا وزادوا عليه ما شاءوا)
دحض هؤلاء المؤرخون الثقات تلك الرواية التاريخية المدسوسة عن علاقة العباسة بجعفر بقياس للعاطفة فيه نصيب وافر، وإننا نجد، بالإضافة لذلك أن في استقراء الحوادث والاستنتاج من الوقائع والروايات التاريخية ما يكشف عن بطلان تلك العلاقة ويؤيد الرأي الذي ألمعنا إليه في صدر هذا المقال بأن هذا الخبر قد خلق وأذيع لغرض مقصود.
فلو تعقبنا الخبر في صفحات كتب التاريخ القديم نصطدم لأول وهلة في اضطراب وتباين في تعيين اسم الأميرة العباسية التي كانت لها علاقة أو (زواج صوري) مع جعفر البرمكي، فبعض المؤرخين ذكر اسمها (العباسة) وغيرهم ذكر أنها (ميمونة) وهذا الاختلاف في تعيين اسم بطلة حادثة مروعة - في حينها - هزت الدولة العباسية من شرقيها إلى غربيها لا يصح أن يختلف في معرفة اسمها سواد الناس بل خاصتهم، لذلك فلا حرج أن يرتاب ذوو الرأي بصحة وقوع تلك الرواية.
ومما تزيد فينا الريبة والشك بتلك الوصمة التي ألصقت بالعباسة أن كتب التاريخ والأدب لم تتحدث عن مزايا خاصة للعباسة ترفعها مقاما عن سائر نساء القصر والأسرة المالكة لا في الرأي ولا في الأدب والشعر أو أي شيء آخر، فلم كان الخليفة يصبر عن زوجته زبيدة، أو أخته (علية) التي كانت تجيد أكثر من فن من فنون الشعر والأدب والغناء، أو عن جواريه وإمائه مثل ذات الخال ودنانير، وخاصة في ذلك المجلس الذي كان يعقده للشرب واللهو والسمر مع وزيره جعفر. فإن كان ذلك المجلس - كما ذكر - للشرب واللهو ففي جواريه وإمائه غنى عن حضور أخته العباسة، وإن كان للرأي والمشورة، فالدليل واضح بأن الرشيد قد أبعد النساء عن التدخل في أمور السياسة وشؤون الدولة.
وقد يتبادر هذا السؤال للذهن بأنه: لم كانت العباسة، ولم تكن أختها علية ضحية تلك الدسيسة؟ بلا ريب أن الخبر كان يقبر في مهده آنذاك لشهرة علية ومنزلتها، ولأن العباسة لم تتمتع بشهرة واسعة أو ميزة نادرة بين نساء القصر. فالخبر يوصم العباسة يكون أضمن انتشارا بين العامة وسواد الناس. وآخر ما نستطيع تقديمه لنقض ذلك الخبر المختلق ما ذكره البستاني في دائرة المعارف المجلد 11 صفحة 488 حيث قال: (وعاشت العباسة
خمسين سنة، وتوفيت سنة 210 وقيل 209 هجرية، وصلى عليها المأمون ابن أخيها، وقيل كان سبب وفاتها، أن المأمون ضمها إليه وجعل يقبل رأسها وكان وجهها مغطى، فشرقت من ذلك وسعلت، ثم حمت أياما يسيرة وماتت.) إن صحة هذا الخبر هدم تلك الرواية التراجيدية - الخيالية - التي ابتدعها الأقدمون - لغرض خاص - وتفنن فيها كتاب العصر الحاضر فنظموا فصولا رائعة لقلبين عاشقين وحب وارف جميل، واستخرجوا هذا الخيال الجذاب بالسياسة والتناحر للسيادة والسلطة والنفوذ، وابتدعوا لها نهاية مروعة من بكاء ودماء. .
وبعد هذا كله لو صحت تلك العلاقة (الآثمة) بين العباسة وجعفر لكان الرشيد قد أوردها حتفها - كما استنتجت كتب التاريخ القديمة - ولما تركها تعيش أمام سمعه وبصره رمزا للعار والفضيحة والنكبة.
ولكن العباسة عاشت إلى ما بعد حياته، لأنها كانت عفيفة نقية طاهرة.
البصرة - عراق
عبد الواحد باش أعيان العباسي
رسالة الشعر
الصخرة
للآنسة فدوى طوقان
انظر هنا! الصخرة السوداء شدت فوق صدري
بسلاسل القدر العتي
بسلاسل الدنيا البغي
أنظر إليها كيف تطحن تحتها ثمري وزهري
نحتت مع الأيام ذاتي
سحقت مع الدنيا حياتي
دعني فلن تقوى عليها. لن تفك قيود أسري
سأظل وحدي في انطواء
ما دام سجاني القضاء
دعني سأبقى هكذا، لا نور، لا غد، لا رجاء
الصخرة السوداء، ما من مهرب، ما من مفر
عبثا أزحزح ثقلها عني بنسياني لنفسي
كم خضت في قلب الحياة
وضربت في كل اتجاه
ألهو، أغني، في ينابيع الشباب أغط كأسي
وأعب في نهم شديد
حتى أغيب عن الوجود
دنيا المباهج كم خدعت بحضنها ألمي وبؤسي
فهربت من دنيا شعوري
ورقصت في نزق الطيور
وأنا أقهقه في جنون، ثم من أعماق يأسي
يرتج في روحي نداء
ويظل يرعد في الخفاء:
لن تهربي. إني هنا. لن تهربي. ما من مفر
ويهيب طيف الصخرة السوداء ممسوخ الصور
عبثا أزحزحها، سدى ألغي الهروب فلا مفر
كم جست في أرض الشقاء
أشتف إكسير العزاء
من شقوة السجناء أمثالي ومن أسرى القدر
فولجت بين الجموع
حيث المآسي والدموع
حيث السياط تؤز، تهوي فوق قطعان البشر
فوق الظهور العاريه
فوق الرقاب العانيه
حيث العبيد مسخرون تدافعوا زمرا زمر
من كل منسحق غرق
بالدمع، بالدم، بالعرق
وبقيت التمس العزاء من الشقاء. . ولا مفر
فالصخرة السوداء لعنه
ولدت معي لتظل محنه
بكماء، تلحقني، يتابع ظلها خطوات عمري
أنظر هنا كيف استقرت في عتو فوق صدري
دعني. فلن تقوى عليها. لن تفك قيود أسري
ستظل روحي في انقفال
سأظل وحدي في نضال
وحدي مع الألم الكبير. مع الزمان. مع القدر
وحدي وهذي الصخرة البكماء تطحن. . لا مفر!
فدوى طوقان
بني مصر
للأستاذ أحمد محمود
بني مصر خلوا القول للسيف والقنا
…
فليس بغير السيف يكتسب الحق
ولا تخدعنكم في الكفاح وساطة
…
ظاهرها نصح بواطنها رق
وكونوا تجاه الغرب صفا موحدا
…
متين الحواشي جلمدا ليس ينشق
وثوروا على جونبول ثورة عارف
…
بما سيبت للكون أنيابه الزرق
هم الإنجليز المجرمون نفوسهم
…
رذائلها لم يحص تعدادها خلق
زنادقة سادوا العباد بظلمهم
…
قراصنة يأباهم الأصل والعرق
يظنون أن الشرق ما زال غافلا
…
وما علموا أن سوف يفنيهم الشرق
بنوا ليهود اللؤم في عقر دارنا
…
كيان ضلال أسه الفحش والفسق
يريدون أن يحموه خزيا أصابهم
…
بإيران لكن سوف يبقى ولن يبقوا
كما شردونا من فلسطين شردوا
…
ورغم اتساع الأرض ضاقت بهم طرق
لقد خرقوا الميثاق والعهد وادعوا
…
بأن بلاد العرب شيمتها الخرق
فلا عجب أن يرفض العرب
…
كلهم دفاعا ذميما ليس في متنه صدق
خبرناهمو أيام ثارت جحافل
…
من العرب ضد الترك يدفعها عتق
فما نالنا منهم سوى الغدر سافرا
…
فكيف نجاريهم وليس بنا حمق
بني مصر هذا اليوم يوم تحرر
…
فلا يأخذنكم في عدو العلا رفق
قفوا وقفة شعب البوير سما بها
…
وقد منعت عنه الموارد والرزق
ولا تيئسوا فالله جل جلاله
…
سينصركم والليل يعقبه فرق
كتائب تحرير البلاد تقدموا
…
فمن خلفكم شعب تحفزه صعق
فدى مصر والسودان كل حشاشة
…
لها بهما من بعد رب السما عشق
ويا رب أهلك كل مستعمر بغى
…
فينتصر الإخلاص والأمن والخلق
أحمد محمود
وداع الريف
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
يا ظلال النخيل يا نفحات الز
…
هر يا شاطئ الغدير وداعا!
يا خدود الورود تحت شفاه الط
…
ل م للندى يذوب التياعا؟!
يا عشاش الطيور في كل روض
…
يا نسيم الأصيل هب وضاعا
لم أكن أحسب الفراق جحيما
…
والنوى حرقة وحظا مضاعا
أين مني ظلال صفو رطيب
…
يغمر القلب بهجة ومتاعا؟
وحياة تمتد في كنف الري
…
ف امتداداً ترى به الدهر ساعا
كحياة الخلود في جنة الفر
…
دوس تمضي بها الليالي سراعا
في سبيل الغد الجميل المرجى
…
شاب رأسي وضاع أمسي ضياعا
أعلى النازحين للمجد والعل
…
ياء أن يقطعوا الحياة صراعا؟!
على الخانعين في قبضة الرا
…
حة أن ينعموا بها استمتاعا؟
فكأن العزيز يحيا ذليلا
…
وكأن الجبان يحيا شجاعا!
وبرغمي فارقت أهلي وأحبا
…
بي وأرسلت زورقي والشراعا
يا قلوبا تحنو علي وترعا
…
ني وتهوى قياثري واليراعا
لك في القلب ذكريات وضاء
…
سطعت كالسنا وأصفى شعاعا
لم أزل بالخمائل الخضر مغرى
…
مولعا بالظلال أطوي البقاعا
إن نسيت الصفصاف ذكرني الزي
…
تون صفو الحياة ظلا مشاعا!
وإذا عقني الصديق فما زل
…
ت وفيا وسره لن يذاعا
حينما تمزج الضغينة بالحق
…
د يطول اللسان بالعيب باعا!
والذي يحسب الصديق عدوا
…
كالذي يحسب النقاء خداعا
أيها المنذري بشر حناني
…
ك ترى الشر حولك الآن شاعا
لن تجوع الأشبال في كنف اللي
…
ث وتحيا الكلاب ظمأى جياعا
وأنا النازح المقيم على العه
…
د ولن تصبح الطيور سباعا
التمس بهجة الحياة من الده - ر فإن ضن فأنتزعها انتزاعا
أحمد أحمد العجمي
الكُتُب
محمد رسول الله
تأليف مولاي محمد علي
تعريب مصطفى فهمي وعبد الحميد جودة السحار
للأستاذ محمد محمود زيتون
الكاتبون في السيرة النبوية في العصر الحديث على ثلاث فرق: فريق خصوم الإسلام من الغربيين، وفريقان من المسلمين أحدهما مقلد والآخر مجدد.
أما الخصوم فقد أخذتهم روعة السيرة فعكفوا على دراستها يبتغون إحصاء المآخذ على الإسلام وترويجها في أوساطهم، وقلما يعترف أحدهم بمواطن العزة والفخار في تراثنا، لأنهم يخشون انهيار ما يستمسكون به من مبادئ واهية، إذا هي قيست بالصروح العالية التي أقامها الإسلام.
وهؤلاء - على خصومتهم الظاهرة - لم يكن بمكنة بعضهم أن يغمط الحق - لأنهم وهم المبشرون بحرية البحث، والمنهج الموضوعي، يخشون أن يتناقضوا مع أنفسهم حين تزل أقلامهم إلى مزالق التعصب الوخيم، ومع ذلك فهم طالما يلبسون الحق بالباطل ابتغاء الفتنة.
وهذا الفريق كان - ولا يزال - خطراً على الدعوة للإسلام في الغرب. حتى لقد وقع فلاسفة القانون ومنهم منتسيكو في أخطاء جسيمة، نتيجة للاستقراء العاجز، الذي قدمه لهم شركاؤهم في الإفك والتضليل.
والفريق الثاني من كتاب السيرة هم أصحاب المدرسة التقليدية أو بتعبير آخر هم الذين يؤمنون إيمان العجائز يصدقون كل ما ورد في السير، فلا يفرقون بين الغث والسمين، أو بين الأصيل والدخيل، فجاءوا بموجزات لا يكلفون أنفسهم فيها عناء التمييز، ولا يسعون إلى البحث وفق منهج خاص، وهؤلاء لا قيامة لهم في موازين النقد، ولا سيما في انحدارهم وراء المتواتر من الأنباء غير ملتفتين إلى الإسرائيليات المدسوسة في السير، والإسلام منها بريء.
والفريق الأخير هو المدرسة التجديدية التي أصحابها من المسلمين المثقفين الآخذين من الطريف والتليد على السواء، وهؤلاء هم طلائع الأغيار على تراثنا المجيد الذين سارعوا إلى رد المضللين إلى جادة الصواب في رفق المؤمن وتؤدة العالم. وهذا الفريق هو الذي يعور كتيبة الثقافة الإسلامية التي جندت رجالا يحجزون الفتنة في أقماع السمسم كلما أطلت بقرنيها.
وهم - لاختلاف مشاريعهم الثقافية - يختلفون منهاجا وأسلوبا، ومن هنا تكون الطاقة الثقافية مميزة للواحد منهم عن الآخر، ومن وراء ذلك كله تتوفر لدى القارئ ذخيرة قيمة من المعلومات فضلا عن الأثر الموصول بين المؤلف والمطلع.
وفي الرعيل الأول من هذا الفريق مولاي محمد علي رئيس الرابطة الأحمدية لإشاعة الإسلام بلاهور مؤلف كتاب (محمد رسول الله) الذي اضطلع بنقله عن الإنجليزية الأستاذان مصطفى فهمي وعبد الحميد السحار.
ونحن إذ نقدم هذا الكتاب القيم إلى القراء على صفحات الرسالة الغراء يلزمنا التنويه بفضل المؤلف والمترجمين جمعيا.
وليس من شك في أن علماء الباكستان يعلون علوا كبيرا في مباحثهم الإسلامية التي يطلعون بها على العالم بين الفينة والفينة، وهذا مولاي محمد علي يسير في كتابه هذا في فلك فريد سواء في طاقته العلمية أو المنهجية، فهو - على خلاف المؤلفين في السيرة - يصدر عن ذخيرة وفيرة من الاطلاعات والبراهين، فجاء كتابه هذا ثمرة طيبة لمجهود عميق دقيق على سعة في الأفق، وتسلسل في الاستدلال، واعتزاز في الرأي في غير اغترار، وبشخصية عاملة ناقدة.
ويبلغ به الحرص على دفع فرية إلى حد الاستباق إلى تكذيب واقعة تاريخية أجمع عليها المؤلفون الأولون في السيرة، فيتهجم على الواقعة، ويمضي في الإلحاح على زحزحتها بكافة البراهين المنطقية والأسانيد الصحيحة حتى يخرج من المعركة ظافرا، فيشعر القارئ البريء بأنه قد نجا من فتنة ووهم وضلال، ما كان لينجو منها لولا هذا الصراع الفكري العنيف الذي قام به المؤلف البطل.
تابعت المؤلف في جميع فصول الكتاب، فوجدته قد نأى بقلمه عن الاستدراكات
والاستطرادات التي تعوق عن الهدف، وتشتت الذهن، وبذلك لم يكن من طائفة المقلدين الذين يقعون في أخطاء المؤلفين القدامى.
ومما حرص عليه مولاي محمد علي تجنب كثرة الردود على الخصوم في ثنايا الفصول، ولكنه اضطر في أكثر من مناسبة إلى إزهاق باطل شائع في أذهان الأوروبيين وهو أن الإسلام لم ينتصر إلا بالسيف، فكان لا بد من تحين كل فرصة لدحض هذه الدعوى وإبطالها بالحكمة والموعظة الحسنة، ويمتاز أيضاً بسعة اطلاع جعلته يعقد مقارنات بين ما ورد في التوراة والإنجيل وبين ما تحقق منهما من نبوءات بمحمد الرسول الغازي، ولذا فهو يعمل على تجميع الخطوط الرئيسية حول حادث ما.
ولقد تجلت مزاياه الثقافية، وحججه البارعة في (غزوات النبي) و (دعوى المثلة الكاذبة) و (مميزات النبي الصالح). ففي هذه الفصول بنوع خاص، ارتفع مولاي محمد علي من المستوى العادي في تحليل الجهاد في الإسلام، ونفى نفيا حاسما حوادث اغتيال قيل إن النبي هو الآمر بها، وأجمعت عليها روايات الثقات، كما استبعد فكرة (العزل) عن نساء السبي، وفي هذا كله يصدر عن (ذوق إسلامي) مرهف مؤيد بالمنطق الثابت والسند الصحيح؛ تبرئة للنبي مما قد يعلق بالوهم من شبهة، لو تركت قد تنقلب مع التبرير إلى شريعة.
وفي الحق أن الأستاذ السحار وزميله قد خدما الثقافة الإسلامية أجل خدمة بترجمتهما هذا الكتاب القيم الذي سد نقصا كبيرا في المكتبة العربية المعاصرة، وذلك لاختيارهما في هذه الترجمة أسلوبا سهلا يتمشى مع سهولة الأداء التي حالفت المؤلف في هذا الكتاب.
ومن دواعي التوفيق إلى هذه الترجمة الدقيقة الرشيقة أن الأستاذ السحار أديب إسلامي مطبوع؛ فهو مؤلف ومترجم ومؤرخ وناقد وقاص. وله في كل مجال من ذلك مكان مرموق وهو - بالاشتراك مع محمد فرج - مترجم كتاب (الرسول) لمؤلفه بودلي الذي يعد من الفريق الأول، ثم أن الأستاذ السحار هو مؤلف هذا الكتاب القيم (المسيح عيسى بن مريم) الذي نأمل أن نقدمه للقراء قريبا.
لقد أفاد السحار حقا من اطلاعه على أمهات كتب السيرة فكان تعاونه مع زميله صادقا ودقيقا في ترجمتهما كتاب (محمد رسول الله) ومما يجدر بنا التنويه عنه قول النبي يعاتب
الأنصار بعد غزوة حنين (أوجدتم يا معشر الأنصار في العلالة من الدنيا. . . ص166 وصحتها لعاعة (بفتح اللام والعينين) وذاك كما ورد في سيرة ابن هشام وسيرة السهيلي، وهو يفسرها بأنها بقلة خضراء ناعمة. وقد شبه بها زهرة الدنيا وزينتها.
على كل حال فإن الاطلاع على الأصول العربية قد مكن من تفادي مواطن الإعراب والتورط فجاءت الترجمة سهلة مستساغة تستحق التهنئة الصادقة، أما لجنة النشر للجامعيين فقد استفتحت بهذا الكتاب عهدا جديدا من دارها الجديدة (دار مصر للطباعة) فجاء الكتاب في حجم مقبول اجتمعت فيه عوامل الذوق من طبع وبساطة وإتقان مع هنات مطبعية لا تذكر.
محمد محمود زيتون
القطر الجزائري
للأستاذ كمال دسوقي
لا أعرف كتابا مصورا ظهر في العصر الحديث للدعاية لقضية وطنية أجمل ولا أبلغ في الدلالة على هذه الدعاية الطيبة من كتاب (القطر الجزائري) الذي أصدره مكتب الاستعلامات والوثائق بديوان الحاكم العام الجزائري؛ والذي أطرف ما فيه صدوره عن دار بابا علي الجزائرية وطبعه بالمطابع الباكونية الجزائرية أيضا.
فهذا الكتاب صور حية ناطقة بل هاتفة وصارخة بجمال هذه البلاد وروعة معالمها وآثارها الطبيعية والفنية بما لا يحتاج معه القارئ في غمرة إعجابه ودهشته إلى بيان من البيانات المكتوبة معها باللغات الفرنسية والعربية والإنجليزية والإسبانية؛ فحيوية الصور ودقة اختيارها وعرضها تغني عن بيانها وتسترعي النظر والانتباه قبل أن تثير اللغات المكتوبة فضول القراءة.
أقول ذلك وقد سبق لي أن زرت أقطارا أوربية كثيرة فطوفت بأشهر مدنها وألممت بصور دعاياتها التي توزعها متفرقة أو في كتالوجات ونشرات؛ مجانا وبالثمن. . . فحتى فرنسا ذاتها - التي هي أكثر الدول الأوربية اهتماما باستخراج صور جذابة لمعالم القرى والربوع المختلفة فيها لا أستطيع أن أقول إني عثرت فيها على مجلد كهذا. . على أنه لا غرو أن
تبز الجزائر هذه الدولة في إتقان الدعاية لنفسها! فإنها تحتاج من هذه الناحية لما قد لا تحتاجه تلك الدول التي تدعو لقضية استقلال بل تدعو للسياحة! وإليك البيان:
الكتاب مقسم إلى فصول تتصدرها عنواناتها بالفرنسية، وتعلو هذه العنوانات رسوم تخطيطية بارعة ترمز لمدلول محتوياتها، وهذه الفصول مرتبة ترتيبا منطقيا بحيث تتناول أولا: البلدة بمعالمها الجغرافية: شواطئها وصخورها، وسهولها ووديانها، جبالها ووهادها وكثبانها، وجناتها الزراعية وحيوانها. . .
ثم يأتي القسم الثاني في أهل البلاد وسكانها؛ وهنا تدرس بالصور كثرة سكان مدينة الجزائر البالغين 450 ألف نسمة كما تدرس أزياؤهم شيوخاً وشباناً - أطفالا، ونساء؛ وموظفين وأجانب، أعرابا ورعاة وغير ذلك من جنود وراقصين وموسيقيين وحراس ورجال دين. . . لوحات رائعة معظمها من المتحف الوطني للفنون الجميلة بالجزائر.
أما حياة السكان فلها قسم خاص بعد ذلك. وهنا مقارنة طريفة بين الجزائر القديمة والجزائر الحديثة بعمائرها الشاهقة وشوارعها الكبيرة وأحيائها الجديدة وفيلاتها الحديثة والعربية الطراز والميناء والمحطة التجارية. . . ومدن قسطنطينة وسكيكدة وغرداية. . . فأهم منشآت المدينة الجزائرية من مساكن للعمال إلى مستشفيات ودور إسعاف ومراكز نقل الدم - إلى مدارس ومراكز للحياة الإدارية (دار الحكومة) والنيابة (المجلس الجزائري) فمساجد وكنائس وأضرحة ومقاهي. . . مظاهر تدعو للإعجاب بحضارة هذه البلاد المادية ورقيها وتقدمها.
وتقوم اقتصاديات هذه البلاد وأعمال أهلها في المقام الأول على الزراعة؛ زراعة الحبوب فالكروم والموالح والتمر (النخيل) والتين (الذي هو ثالث صادرات البلاد في الأهمية) والزيتون
. . . التي يتقدم إنتاجها بفعل الآلات الحديثة وتقوم عليها صناعات العصير والتجفيف لما يتبقى من الاستهلاك والتصدير.
وفي البلاد جهود لتحسين القروي والتدريب الزراعي واختزان الحبوب للاحتياط بواسطة هيئات وجمعيات ومصالح تعمل على مغالبة الطبيعة والانتفاع بمواردها من تربة وخزانات ومساقط (متحدرات) ومصبات وآبار لري النخيل حيث لا يوجد الماء. كما تقوم بها
مشروعات للطاقة الكهربائية وتوليدها والطاقة الذرية مما يضاعف في تقدم البلاد الصناعي - إذ توجد فعلا مصانع هائلة للخزف والسيلولوز والزجاج ومصانع النسيج اليدوية والميكانيكية وعصير البرتقال والفواكه المجففة. . . كما أن من الثروات الاقتصادية الهامة عدا صيد الأسماك الحديد والفحم والفوسفات التي يتقدم استخراجها تقدماً كبيراً. . . عدا صناعات محلية ويدوية مختلفة يحترفها الأهلون.
وميناء الجزائر أهم مرافئ التبادل التجاري الجزائري. وإلى جانبية يوجد مواني وهران وعنابة (بوك) وسكيكدة (فيلييفل) وأرزيو بأرصفتها ومراسيها واستعدادات التفريغ والشحن والتصدير والاستيراد الهائلة. أما في الداخل فتوجد شبكة من السكك الحديدية للقطارات السريعة ذات القاطرات الكهربائية التي تشق البلاد بين المدن والقرى وعبر الجسور الحديثة الفولاذية فوق الوديان؛ كما توجد مطارات أهمها الميزون بلانش والمطار الصحراوي بورقلة ?.
والبلاد غنية بآثارها الرومانية والفينيقية والإسلامية في مختلف القرى القائمة أو المهجورة، ولذا نجد متحف الإتنوجرافيا وما قبل التاريخ يعرض في روعته ومحتوياته نماذج كثيرة من هذه الفنون إلى جانب ما يعرضه المتحف الوطني للفنون الجميلة من اللوحات الحديثة لرسامين عالميين وفرنسيين ورد كثير منها في الكتاب بلونه شاهداً على عظمة الفن الجزائري لدى المواطنين والأجانب الذين يفدون إليها مصورين ورسامين ونحاتين وسينمائيين في ضيافة العبد اللطيف مثلا أو لتصوير أفلامهم في هذه الطبيعة الجميلة.
والنهضة التعليمية سائرة في طريق التقدم. فثمة مدارس قروية وبدوية بسيطة إلى جانب مدارس الأطفال والابتدائي والزراعي والصناعي والليسيه الثانوية داخلية وخارجية للبنين والبنات - كما توجد جامعة الجزائر التي تستقبل خمسة آلاف طالب موزعين على مختلف الكليات بين صالات ومعامل وحدائق ومكتبات. .
وبعد هذا لا يلزمك أن أحدثك عن الفصل الأخير من هذا المجلد القيم عن (السياحة) فإن بعض ما ذكرت كفيل بتشويقي وتشويقك لزيارة هذه البلاد.
وعليك بعد هذا الإعجاب أن تقف وتفكر غير طويل لتدرك أن الفرنسيين حكام هذه البلاد قد تفننوا في إخراج هذا المجلد ليثبتوا به أمام الأمم المتحدة وقبل أن تتقدم الجزائر بدورها
بطلب الاستقلال والتحرر - يثبتون به نهضتهم بهذه البلاد - التي قد تكون نهضة حقيقة ولكنها لا تعفيهم من أنهم محتلون غاصبون. . . فهي تقدم هذا الدليل المادي لعصابة الأمم المتحدة حتى لا يؤاخذ عليها ما أخذ على غيرها في استعمارها لدول أخرى من أنها لا تعمل على النهوض بها ورفاهية شعبها.
هذه هي الفكرة التي يجب ألا تغيب عن ذهن أي معجب بهذا الكتاب.
كمال دسوقي
البَريدُ الأدبيّ
تحية للرسالة من العراق
إلى صاحب الرسالة
واكبتك منذ خمسة عشر عاماً أو تزيد. وأنا في ركب رسالتك، أرشف معين أدبك، وفيض خواطرك، وبي ظمأ أدبي. لا يبله غير رشيح قلمك ووحي رسالتك. لذا جئت منتهزاً فرصة التسعة عشر عاماً التي اجتازتها الرسالة، لأرفع بين الإعجاب والإكبار تحية أدبية هي منك وإليك. فتقبل شيخ أدباء الجيل تحيتي، أكن ممتنا وشاكراً هذا القبول:
حديث الرسالة:
لا شك أن الحديث عن الرسالة متعب، ومتعب جدا. ولا شك وأن المتحدث عن صاحب الرسالة متعب مكدود. قد يجهد هذا المتحدث فكره، ويكد ذهنه، بقضاء ساعات طوال بين صفحات الرسالة، متصفحاً ما تركته من أدب حي خالد خلال رواسب هذه السنين المواضي. يخرج وقد عقد الإعجاب لسانه. لا يدري ما يقول، فيضطره هذا الإعجاب، إلى التقهقر والتراجع، أمام هذا الصرح الأدبي الجبار الذي سيطاول الزمن ولا شك، ويقارع الجهل أنى كان، وحيثما وجد، بأقلام عرفت بطيب المغرس والمنبت. تستقي الوحي من أفكار خصبة وقادة، وقرائح لا تعرف الجدب والمحول؛ فهي دائماً وأبدأ، تطالعنا بكل طريف جديد، ولاذ ظريف. وفي الطليعة صاحبها. يقودها قيادة مدبر حكيم، بسهر متواصل، وحراسة حدب عليها، رفيق بها. بعزيمة أشد صلابة من الصلابة نفسها، وهمة لا تعرف الخور والتراجع فيما هي سائرة نحوه وإليه له قلم طيع يسيره أنى أراد وحيث شاء. هو قاس شديد حين يريد منه القسوة والشدة، ولين مرن حين يريد منه المرونة واللين، وساخر هازل إن أراد منه السخرية والهزل. وجاد حين يريد منه الجد:
هو قاس عنيف، حين يصخب من الحياة ومآسيها، ومن الوضع وشذوذه. فإذا رعف بمأساة من مآسي الحياة تجده جذوة ملتهبة وبركاناً يقذف حمماً وشواظاً من نار. وإذا هدأت نفسه واستقرت يعطيك صوراً من الحياة باسمة ينتزعها قطعاً من قلبه، فينفثها قلمه سحراً حلالا. وفاكهة طيبة ناضجة.
وإذا سخر من الحياة وهزئ بالوضع تجدك أمام المعري في سخريته اللاذعة وتهكمه
المرير. وإن جد ففي جده العبر والعظات، والحكم والأمثال. هو ذو قلم سحري عجيب، يعطيك ألوانا من الحياة، وصورا من الواقع لمختلف الأوضاع والصور فمرة تراه ساخراً هازلا. ومرة جادا، ومرة قاسياً بمنتهى العنف والقسوة. ومرة طيعا لينا بأجمل ما تكون فيه الرقة واللين. وهذه هبة قلما أوتيها أديب.
فإلى ركب الحضارة وموكب المدنية وقافلة الأدب ومنهل الثقافة أزف تحية أديب متواضع طالما ارتشف معين الرسالة، رسالة الجيل الجديد، ومنبر الفكر الحر، ومشعل الثقافة، ومنار الأدب، ومثال الاستقامة والخلق العربي الكريم.
إليك صاحب الرسالة، وإلى صحبك الكرام، أزف هذه التحية المتواضعة، وقديما قيل: الهدية على قدر مهديها.
العمارة - العراق
خليل رشيد
ومن الحجاز
تحية ولا كتحية، ولكنها الحب الخالص يتغلغل في النفس والود الصادق الذي لم تستطع الأيام أن تحد من سورته أو أن يهد البعد من أركانه. حب لم يزل ولن يزال ناميا مع الأيام.
أستاذي! يكتب إليك ابن تربى في أحضان البلاد المقدسة، البلاد التي شعت في آفاقها أنوار الرسالة الإسلامية، ورددت جبالها أصداء القرآن الكريم، وشهدت رمالها الصامتة مذابح الوثنية وتحكيم الرجعية البالية ومحق الأنانية الصارخة.
يكتب إلى أستاذه ابن الكنانة وربيب قاهرة العصور وآية الزمن مصر المحبوبة.
يكتب إلى أستاذه وهو يصغي إلى قول الحق وجعجعة الباطل، يعلو في الفضاء لينتهي.
يكتب إلى أستاذه: ونداء الحق يسري في نبضات القلوب بعد أن طوى الإعصار واخترق حواجز السنين: صوت مصر وهي تحطم القيود الفولاذية بأيد فولاذية أقوى، وتصوب إلى الأحمق الغاصب نظرات المؤمن بحقه الصادق في جهاده المستميت في سبيل حريته واستقلاله.
نظرات فيها القوة المتناهية والشعور بالعظمة الحقيقية قوة الحرية والشعور بالحرية.
يكتب إلى أستاذه: معترفا بحقوق الأبوة الروحية مترجما في هذه الأسطر كلمات مقتضبة - عن خلجات النفس الإنسانية عندما يزاح عنها كابوس الظلام وتغيب في قراراتها أشعة الرحمة، ويسطع في أفقها شفق الهداية. فترى الطريق القويم والصراط المستقيم عندما تستجيب لنداء الحق. يوم يقف الحق وحده في صحراء الحياة.
وعندما يرتفع صوت الباطل محاولا عكس الأوضاع وإضاعة القواعد. تلك يا والدي - قصة مشعل النور: وأعني به الرسالة الغراء التي فتحت صدرها للحق وأنصاره فكانت منبراً رفيعا يعلوه قواد مشعل الثقافة الإسلامية مرددين هتافات الحق بين غابات الباطل وتحت سراديب الغطرسة الاستعمارية.
لقد كانت الرسالة حقلا طيب البذرة طيب الرعاية فأثمر.
ولقد كنت تترك لقلمك (المعجز) وبيانك (الساحر) حق الدفاع عن الحق والحقيقة عن الحر والحرية.
لقد وقفت منذ عشرين عاما على مفترق الطرق تشير بيد الإيمان الصادقة إلى تلك الأمم الحائرة، والشعوب المحتشدة على ضفاف الحياة لترشدها إلى طريق السعادة والسيادة. . إلى طريق الحرية. وإن أريق في سبيل اقتحامه أطهر الدماء وأزهقت أنفس الأرواح.
ولأن من مبدئك ومبدأ رسالتك أن لا ترى الحياة جديرة بالشراء والبقاء إلا إذا قارنتها الحرية الكاملة. . حرية الرأي والقول والفعل العقلي والمادي.
والآن وبعد أن طوى التاريخ تلك الصفحات السود من حياة مصر والمصريين بل ومن حياة الشرق العربي الكريم. وعاد الشرق يبتسم للحياة ابتسامة العز بعد أن قوي فيه الوعي القومي. وثارت فيه روح الدفاع وتربت فيه ملكة الجهر بالحق ولو غضب المستعمرون.
يستقبل الشرق والشرقيون والعرب والإسلام لحظات الكفاح مشاركين مصر العربية في شعورها. . مؤمنين على صوتها حين ينبعث من (بوق) العدل والكرامة، مبتهلين إلى الله بقلوب ملؤها الإيمان أن يشد عضدها وأن يحقق لها آمالها حتى نرى المعركة الدامية التي يخوضها أبناء مصر وأحفاد بناة الهرم وقد تجلت عن حرية كاملة واستقلال غير منقوص.
المخلص لكم وللرسالة: عبد الله الحصين
دار التوحيد - الحجاز - الطائف
وعزل أيضاً
كتب الأستاذ محمد عبد المنعم أبو سيف في البريد الأدبي للعدد970 يقول: إن أعزل لا يجمع على عزل بتشديد الزاي وإنما يجمع على عزل بتسكينها كما هو القياس في جمع أفعل وفعلاء ولكن القاموس أورد هذا الجمع فقال: (والأعزل من لا سلاح له كالعزل بضمتين وجمعهما عزل بضم فسكون وأعزال وعزل كركع) وإذن فقد سمع عن العرب ذلك الجمع، ولا تثريب على المثقفين وغيرهم لو استعملوه ما دامت العرب قد نطقت به. وللأستاذ تحية خالصة.
أبوه حمد حسب الله
القصص
ماريوتو
للكاتب الإيطالي ماسوشبو سالر نيتانو
أحبها ماريوتو ماجنانللي من أعماق قلبه، وجعلها أغنية روحه، ومزج غرامها بدمه، وجعل اسمها الحبيب إنجيله المقدس الذي يردده ويهتف به في يقظته وفي منامه. ثم راح ينشدها في أنفاس الصباح ونسمات الأصيل، ويتخيلها في لآلاء النجوم وصفحة البدر. . وكلما لقيها فوق سيف البحر أرسل عليها حبه وآلامه تتوسل له تحت قدميها الجميلتين وتطلب له الشفاعة حتى عرفت أنه يحبها.
وآنست فيه الفتاة طهارة ونقاء وصدقا فرقت له ومالت إليه وجزته على دموعه وحرقه بابتسامة بريئة ماد لها قلبه، وازلزل من شدة أسرها كيانه، وفتحت له أبواب السماء يطلع منها على عالم من الحب السرمدي، لأنه من صنع اللطيف البارئ. . سبحانه وباركت قلبيهما يد الله، وأخذا يلتقيان خفية ليتعاهدا على الحب وليروياه بدموعهما، وليقطفا من ثمره إذا أينع. . قبلة أو قبلتين. . ثم ليأخذا في حديث ألذ من قطع الروض، وأبهى من وشيه يرف على شفاههما رفيف النسيم، ويتدهدى من أعينهما الظامئة كأنه رقى السحر.
وكان ماريوتو من أسرة متوسطة من أهل سينا وكانت الفتاة من أسرة ساراسيني التي هي في الذؤابة من أهل المدينة فكان هذا التفاوت بين الأسرتين سبب عذابهما ونبع مأساتهما والهوة السحيقة التي تحول بين أطماعهما في الصلة المقدسة التي تقرب ما بين الجسمين كما قرب الحب بين الروحين.
ولا ريب أن القبلة هي أشهى ثمار الحب وأطيب جناه، لكنها كما يقول الشعراء تلهبه ولا تطفئه. . ومن الشعراء من يدعوها رسول الأبالسة، لأنها أول الغيث. .
من أجل ذلك لم يستطع الحبيبان على هذا الهوى العذري اصطبارا، ومن أجل ذلك صمما أن يكونا زوجين برغم ما بين الأسرتين.
وكان لهما صديق راهب أوغسطي، ما كادا يشكوان له حالهما حتى انبجست الرحمة في قلبه والدموع في عينيه، وانطلق بهما إلى الكنيسة فعقد لهما واستعان على إنجاز ذلك بالكتمان، وهكذا ظل ما بينهما سرهما وسر الراهب. وهكذا تم لهما ما أبته التقاليد
والطبقات. فقطفا من ثمار الجنة على غفلة من الأفعى حتى استيقظت، فذهبت تسعى بينهما وبين الناس لتخرجهما من فردوسها الجميل.
ذلك أنه كان بين ماريوتو وبين أحد النبلاء من سادة سينا عداوة، فاستطاع الشيطان المغيظ أن يؤجج جذوتها بالوقيعة بين الخصمين. . ولم يلبث الجدال أن صار نضالا. . ثم تماسكا. . ثم وكزه ماريوتو فقضى عليه.
وكان عليه بعد هذا أن يفر من الدولة أو يدفع رأسه ثمنا لجريمته، فلبث حيناً مستخفيا عن أعين الناس، فلما ضاعت جهود رجال الشرطة سدى في البحث عنه صدر الحكم عليه بالنفي المؤبد.
وقد تكلمت الدموع ساعة الوداع، وضم الحبيب حبيبته يتنفس في صدره، ويتزود لفراق طويل لا تنتهي مرارته، وليس معروفا مداه!
يا لقسوة المقادير توقظ المحبين من سبات عميق كله أحلام!
لقد راح كل منهما يرنو في عيني صاحبه المغروقتين بالدموع، وكلما هما بالفراق انجذب بعضهما إلى بعض في لوعة وفي شجن فترف الشفاه المعذبة على الخدود المحترقة، هائمة حائرة تلتمس العزاء ولا عزاء، وتنشد السلوان ولا سلوان.
ولقد كان صدر أحدهما يكلم صدر صاحبه بدقات القلب وخطرات النفس ووجيب الروح، حتى سكتت القبل، لأنها لا تغني في ذلك الحال شيئاً، وصمتت الأعين. . . لأن الفراق الذي لم يكن منه بد قد حم.
وطمأنها ماريوتو، فذكر لها أنه نازح إلى الإسكندرية ليقيم عند عمه المثري الغني، وأنه سيكتب إليها من هناك ليتصل القلبان على ذلك البعد، ثم أكد لها أنه لا بد عائد إلى إيطاليا الجميلة وواصل وإياها حبه، ولو كلفه ذلك حياته.
وفي غمرة من الحزن، وثورة من الأسى والفجيعة، افترق الحبيبان، وفي نفسيهما مرارة، وفي حشاهما هم ووجد وألم.
وانطلق ماريوتو إلى شقيق له فكشف له عن سره، وبثه شكواه، وتوسل إليه أن ينشر ظل حمايته على زوجته، وأن يكتب له عن أحوالها، وأن يكون حارسها بالنيابة عنه. . . حتى يعود.
وركب البحر إلى الإسكندرية، فتلقاه عمه بالبشر والبشاشة ووجد فيه مؤنسا له في دار الغربة. . ولما باح له ماريوتو بسره، لم يشأ الرجل النبيل أن يثرب عليه أو أن يعزله، بل أذهب عنه الحزن بكلمات طيبات، وغلا فمناه بصلاح الحال وتلافي ما وقع بينه وبين أسرة القتيل من خصومة وعداء. . ولم يكن ذلك من الجد في شيء، لكنه كان مبالغة في إكرام مثوى الفتى، الذي استطاع أن يخلب لب عمه بأسلوبه الغرامي الحزين الحنون.
وعهد إليه عمه ببعض مهامه التجارية لتشغله قليلا عن أحزانه، ثم أشركه معه في منزله الجميل على شاطئ البحر الأبيض فكان ماريوتو كلما فرغ من عمل النهار، خلا إلى نفسه في الليل ففتح النافذة المطلة على البحر العتيد، وراح يتنسم أنفاسه، ويستروح صباه، ويقرأ من حبيبته أو يكتب إليها، ويغسل ذلك كله بدموعه الحرار الطاهرات، فكانت هذه اللحظات على ما فيها من ألم وما بطنت به من عذاب وهم، أسعد لحظات حياته، لأنها شعر الماضي وأحلامه، تطفو على سطح الحاضر وتعلل بالآمال ظلام المستقبل.
وتحالفت الهموم على جيانوزا فزادتها جمالا، وهام بها شباب المدينة هياماً جعلهم يترامون على قدميها في كل طريق كما يترامى الفراش في اللهب. وذهب كثير منهم إلى أبيها يخطبونها على أنفسهم، ويمهرونها بكل ما يملكون، وكان الوالد كلما كلمها في أحدهم تعللت وانتحلت المعاذير، فكان الأب الحائر يترفق بها ويتلطف، ثم ينزل عند مشيئتها بغير ما حجة ولا برهان مبين، ثم يصرف شباب المدينة في حدب وفي استحياء.
وهكذا ظل السر الرهيب دفيناً في صدر الفتاة يعذبها ولكنه مع ذلك كان مصدر سعادتها الباكية، ولذتها الحزينة، والنبع ذا الخرير الذي تختلط فيه آلام الماضي وآلام الحاضر لتثمر مخاوف المستقبل.
وضاقت بها أفانين المعاذير فلم تعد تدري ماذا تلفق منها وماذا تدع، فلما أحست أن الشكوك أخذت تساور أباها من جراء هذا التمنع، وأنه يلح في معرفة سرها، قلق قلبها الخفاق، وسدرت نفسها المستهامة. . ثم ذكرت الراهب الصغير الذي في وسعه أن يصنع كل شيء. . فانسرقت إليه وذكرت له ما كان من فرار ماريوتو إلى الإسكندرية وما كان من إلحاح أبيها عليها بالزواج، وما حرصت عليه من كتمان زواجها على أبويها، وكرهها أن تبوح به خشية ما يجر إليه من عواقب. . ثم سكبت عبراتها بين يدي القس ونثرتها على قدميه،
وتوسلت إليه أن يخلصها مما هي فيه بجرعة من السم المقدس تريحها من هموم الحياة، وتحول بين الفضيحة وبين سرها وحبها.
وقد تردد الراهب أول الأمر، لكنه سرعان أن رق للفتاة، ولان قلبه للحبيب النازح، فتناول كأسا روية من الخمر وجرع ما فيها. . وكأنما شرب منها شجاعة، وعب حماسة وإقداما. . فتهلل وجهه، وربت على كتف جيانوزا، ثم وعدها عدة جميلة، وأمرها أن تنطلق إلى ذويها فتسلس لهم فتلقاها القياد وترضى بمن يختاره أبوها بعلاً لها. .
وسجدت الفتاة وشكرت له، وانطلقت إلى دارها فتلقاها أبوها بمثل ما كان يتلقاها به كل يوم وكل ساعة، وما كاد يكرر عرضه عليها حتى قبلته، فطفر قلبه من الفرح، وطبع على رأسها قبلة العطف والحنان.
وذهبت في الموعد الذي حدده لها القس، فأعطاها زجاجة صغيرة تحوي الجرعة السحرية الهائلة، ثم ذكر لها أنه لم يصنع لها السم الذي رغبت فيه، بل صنع منوماً يدع شاربه في حالة تشبه الموت لمدة ثلاثة أيام. . (فإذا حسوت هذه الجرعة وتغشاك النعاس، وظن أهلوك أنك ميتة، حملوك إلى قبونا لتدفني فيه، وسأزورك في اليوم الثالث وأتولى إيقاظك بنفسي، وبهذا يكون ما بينك وبينهم قد انقطع، فتستطيعين السفر إلى الإسكندرية حيث تلقين زوجك، وحين تكلأكما عين السعادة. .)
واغرورقت عينا جيانوزا بدموع علوية، ثم قبلت يد القس وانطلقت إلى بيتها تحلم أحلاماً رائعة جميلة.
وجلست تكتب كل ذلك إلى حبيبها ماريوتو. فلما فرغت أهوت على الخطاب تلثم اسمه الحبيب في كل سطر، وخرجت لتدفع بالخطاب إلى من يوصله إلى السفينة الشرقية، فلما عادت، فتحت النافذة، وصلت صلاة قصيرة، وتمتمت باسم ماريوتو، ثم شربت الجرعة الثمينة، وانطرحت في سريرها وأغمضت عينيها.
ودخل الخدم في الصباح بالورد والبنفسج، ورياحين الربيع لمولاتهن، فلشد ما ذعرت قلوبهم وجفلت نفوسهن لأن سيدتهن لم تستيقظ.
وأهرع أبوها وبعض ضيفه فوقفوا فوقها مسبوهين مأخوذين، ثم استدعوا أطباء سينا فما نفع طبهم ولا أفلحت حيلهم، بل ذهبت جميعاً أدراج الرياح.
وقر رأيهم على أن يتركوها حتى اليوم التالي، (فقد تكون نائمة بتأثير شلل في المعدة لا يزول إلا في هذا الميعاد!) لكن الميعاد فات ولم تستيقظ جيانوزا، فلم يعد بد من دفنها، لأنها ميتة ما في ذلك شك.
وخرجت جميع عذارى سينا يتهادين وراء الأران، ويحملن أفنان الزهر إلى مقابر سانت أوجستين. . ثم عاد الجميع وكل قلوبهم حرق، وملء نفوسهم أشجان وأحزان.
وخشي الراهب أن تستيقظ جيانوزا في ظلام الليل البهيم فتذعر، ولا يكون لموتها من هذا السبب من بد، فمضى إلى القبو هو ورفيق له، ونقلا التابوت الحي إلى غرفته الخاصة.
وحانت الساعة الموعودة، واستيقظت جيانوزا من سباتها العميق بين أيدي الراهب المفزوع، وأخذت في الاستعداد للرحلة، الرحلة المنشودة إلى فردوسها المفقود. . إلى ماريوتو. . إلى الزوج العزيز الذي اقتحمت في سبيله أصرم العقبات.
وقد دبر لها القس ثياب راهبة. وبعد أن دعا لها بخير، انطلقت إلى ميناء بيزا، حيث ركبت في سفينة متجهة إلى الإسكندرية مع كثير غيرها.
وقد لعب البحر بهذه الحفنة من السفن شهورا طويلة، وكأنما كان ذلك لتمام المأساة. وذاك أنه لما علم جارجانو - شقيق ماريوتو - بما كان من وفاة الفتاة، فإنه أرسل إلى أخيه كتابا طويلا ينعيها إليه، ويطلب له الصبر والسلوان. وقد وصل الخطاب قبل أن تصل جيانوزا، وقبل أن يصل خطابها الذي سطرته إليه قبيل تحسيها الجرعة. . فواهاً للمحبين إذا عثر بهم الحظ. . وإذا لج بهم العثار. .
مسكين ماريوتو! لقد فض خطاب أخيه بيدين مرتجفتين ومتمناه أن يتلو فيه خبراً يسره. . فماذا قرأ؟
(جيانوزا. . لقد ماتت جيانوزا يا أخي. . فتجلد، وهذه غاية كل حي
(لقد كنت أؤثر ألا أبعث إليك بهذا النبأ، لكني اضطررت أن أفجأك بالحق ليهدأ قلبك، وتستريح نفسك)
ولم تنحدر عبرة واحدة من عيني ماريوتو، وأنى له أن يبكي، وليس أعصى من الدمع في هذه المآسي التي تزلزل النفس ولا تنبجس لها العين.
وشاع في نفسه الحزن الصامت الذي ليس أنكى منه مرارة ولا أحر وجدا.
وعبثا حاول عمه أن يواسيه. . وصمم الزوج الحزين أن يبحر من فوره إلى إيطاليا، ليقف على ثرى حبيبته، وليسقيه بدموعه ولينشق هذا الهواء المريض الذي نشقته قبيل موتها من أجله، وفنائها بسبيله. . ولأنه لا يليق به أن يخشى شيئا في سينا بعد أن قضت حبيبته، وتحملت الأذى والهوان من أجله.
وأرست السفينة في نابلي، وانطلق ماريوتو في ثياب حاج إلى سينا، واشترى آلات رأى أنها لا بد منها لينقب بها حائط القبو، حتى يتيسر له الدخول إلى حيث تقر رفات معبودته، فيجزيها حزنا بحزن ووفاء بوفاء، ثم لينام جنبها إلى الأبد، لأنه لا يطيق البقاء بعدها.
واختبأ في الكنيسة إلى أن جنه الليل، حتى إذا نام الجميع وأمن أن يعثر به أحد، أخذ في نقب جدار القبو، وقبل أن يفرغ من هذا شعر به حارس المقابر، فنفخ في صوره، وظل ينفخ فيه حتى استيقظ الرهبان، واجتمعوا عليه، لكنه كان قد فرغ من عمله، وانفتل داخل القبو، وفي ظل شمعتين صفراوين شاحبتين، وقف على رمس ظنه رمس حبيبته.
وكانت التقارير السرية قد انتشرت في أيدي الجواسيس تعلن وصوله ، فلما قبض عليه وسيق إلى قضاته؛ باح لهم باعتراف جامع ناجع وساعدته دموعه التي كان ينضح بها كلماته، فهاج شجون النظارة وفجر في قلوبهم شآبيب الحنان، حتى إن كثيراً من النساء وبعض أصدقائه، عرضوا على المحكمة أن تسمح لهم بمشاركته في جريرته، أو إلقائها كلها على كواهلهم، إذا كان ذلك شافعا لإطلاق سراحه، ولكن هيهات! لقد زمجر كبير القضاة، وتهدد الحضور إن تدخلوا في إجراءات العدالة، أو اعترضوا سبيلها، فصمتوا. وانتهت المحاكمة، وصدر حكم الظالمين القساة بالإعدام.
ووصلت جيانوزا بعد لأي إلى الإسكندرية، وانطلقت من فورها إلى بيت العم العزيز الذي تلقاها كابنته، وأعز الناس عليه.
ولم يشأ أول الأمر أن يفاجئها بسفر ماريوتو، بل تركها تسرد عليه قصة موتها المدعى، حتى إذا فرغت منها تبسم الرجل الخير، ثم ذكر لها أن ماريوتو قد تسلم رسالة من شقيقه ينعيها له فيها وأنه منذ ذلك اليوم لم يعد إلى البيت، وأن أكبر ظنه أنه رحل إلى الوطن.
يا آخر الأنباء السود ما أشأمك! أبعد طول النضال في البر والبحر، وبدلا من أن تضم إلى صدرها المعذب حبيبها المشوق تحضر إلى الإسكندرية فيبدهها هذا النبأ.
وأخذ الشيخ يواسي جيانوزا، ثم عرض عليها أن يرحل معها إلى نابولي ثم إلى سينا ليلقيا ماريوتو حيا أو ميتا، فاستخرطت جيانوزا في البكاء وشكرت للعم ما غمرها به من عطف ولطف.
وتنكرت جيانوزا من جديد في مسوح الرهبان ويممت شطر الشاطئ التوسكاني، حيث أرست عند بيومبينو، وحلت الفتاة ضيفة عزيزة على السر نيقولا، نيقولا الغني صاحب فيلا نيقولا. . عم ماريوتو، التاجر الإسكندري، وهي فيلا جميلة قريبة من سينا.
وكانت نهاية الفجيعة أن ماريوتو المسكين قد نفذ فيه حكم الإعدام قبل وصول زوجته وعمه بثلاثة أيام.
أوه لقد سكب العم الطيب مواساته في دموعه بين يدي جيانوزا، فماذا صنعت هي.
وقبلت أن تقضي البقية الباقية من حياتها في كسر دير!
ولم تستطع أخواتها الراهبات أن يواسينها فذبلت جيانوزا.
ولم تزل تذبل وتذوي كل يوم، ولم تفتأ تصهر قلبها ودموعها بالبكاء على ماريوتو حتى لفظت نفسها الأخير!
د0س