المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 974 - بتاريخ: 03 - 03 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٧٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 974

- بتاريخ: 03 - 03 - 1952

ص: -1

‌فقاقيع

للأستاذ سيد قطب

الذين يدعوننا إلى الخلاص والحرية والعدالة الاجتماعية باسم القومية الضيقة التي تحد بالبحر الأبيض شمالا، وبالبحر الأحمر شرقا، وبصحراء ليبيا غربا، وبخط الاستواء جنوبا. . أو دون ذلك.

والذين يدعوننا إلى الخلاص والحرية والعدالة الاجتماعية باسم الشيوعية أو غير الشيوعية من المذاهب المادية التي نشأت وعاشت في بيئات غريبة عنا، لا تربطنا بها صلة روحية ولا تاريخية. . .

هؤلاء وهؤلاء يخطئون فهم طبيعة هذا الشعب، وقوة العوامل الكامنة في ضميره، والرواسب الشعورية التي تحركه، وطريقة تفكيره ونظرته إلى الحياة.

لهذا يفشل هؤلاء وهؤلاء فشلا ذريعا، وتبدو حركاتهم كالفقاقيع التي تعلو وجه الماء فترة، ثم تفتأ وتتوارى!

هذا الفشل منشؤه كما قلت: جهل هؤلاء وهؤلاء بطبيعة هذا الشعب، وطرقة تفكيره ونظرته إلى الحياة. يضاف إليه عدم فهمهم لحقيقة هذا الشعب في العالم، وللعوامل الدولية التي تجعل الشعوب تختار طريقا دون طريق.

إن دعوة القومية الضيقة، التي تنزوي داخل حدود صناعية أو تخوم جغرافية. . دعوة تنافي الاتجاه العالمي إلى الاندماج في وحدات ضخمة، تمهيدا للحلم البشري الكبير. . حلم الوحدة العالمية الكبرى. . وهي تخالف فكرة الإسلام الذي تدين به غالبية هذا الشعب. . فالوطن الإسلامي هو كل أرض يظللها لواء الإسلام. ومن ثم فهو يزيح الحواجز الصناعية والتخوم الجغرافية، ويحل محلها فكرة، تندمج في ظلها كتلة بشرية ضخمة، تحاول دائما أن تضم إليها بقية البشر، تحقيقا للهدف الإسلامي الأكبر، هدف الوحدة العالمية الكبرى.

ومن هذا الاستعراض السريع للاتجاه العالمي اليوم؛ والاتجاه الإسلامي منذ مولد الإسلام، يتبين مدى نظرة الإسلام التقدمية في الماضي وفي الحاضر على السواء. ويتكشف أن الفكرة الإسلامية كانت سابقة لتطورات الفكر البشري قرونا وقرونا. وما تزال فكرة قائدة هادية، ذات مجال فسيح في بناء مستقبل البشرية. . كما يتكشف مدى الضيق والانعزال

ص: 1

والتأخر في دعوات القومية الضيقة التي عمت أوربا في القرون الماضية، وسرت إلينا عدواها في غيبة الروح الإسلامية الراقية السمحة التقدمية، وفتنت بما فيها من تعصب ضيق، بعض صغار العقول والنفوس، ملبية دسيسة الاستعمار في تمزيق أوصال المجتمع الإسلامي الضخم، والوطن الإسلامي الكبير، ليسهل على الاستعمار ازدراد أشلائه الممزقة باسم القوميات الضيقة الهزيلة، وتحت العنوانات الشتى المتفرقة!

ومن هنا كانت تلك الفقاقيع التي تحمل شتى العنوانات في شتى أنحاء العالم الإسلامي. وكانت تلك الزعامات الصغيرة التي تهتف باسم القومية، وتدعو إلى العزلة عن مشكلات العالم الإسلامي، وتسخر ممن يدعون إلى وطنية الإسلام الضخمة، وإلى التكتل الإسلامي الكبير.

ولقد كانت تلك الزعامة البائسة التي قادة ثورة سنة 1919 في مصر مثلا من أمثلة ضيق الأفق، والانعزال عن الفكرة الإسلامية والهدى الإسلامي، والانعزال تبعا لذلك عن الاتجاه العالمي في التكتل، والنظرة التقدمية لمستقبل البشرية.

ومن هذا الضيق والانعزال عن الهدى الإسلامي، جاءت الكوارث كلها، وطال أمد الصراع مع الاستعمار، ووقع ذلك الانحلال الخلقي، والانهيار الاجتماعي، وذلك الفساد الذي تعانيه البلاد، ويفتت كيانها تفتيتا. .

لقد كانت تلك الزعامة فقاعة صغيرة، في زبد الوثبة المصرية الكبرى. ولكنها مع الأسف حولت تلك الوثبة كلها إلى زبد ذهب كله جفاء. .

وما تزال مصر، وما تزال الشعوب الإسلامية تصارع ذلك الخبث الذي دسه الاستعمار في تفكيرها. خبث القومية الضيقة الهزيلة، التي تخدم الاستعمار ولا تخدم الشعوب. . ما تزال تصارع ذلك التمزق في جسم الوطن الإسلامي الكبير، في ضوء الفكرة الإسلامية التي انبثقت هنا وهناك، وتتجمع تحت الراية الإسلامية الخالة، أو تتنادى إلى هذه الراية الكلية الواحدة. التي تحول الوطن الإسلامي كله وحدة تتفق مع الاتجاه العالمي السائر إلى التكتل والاندماج، وحدات كبرى تجمع بينها نظم وأفكار، لا حدود جغرافية، ولا قوميات جنسية أو لغوية.

إنهم يفيئون شيئا فشيئا إلى النور الذي انبثق منذ أربعة عشر قرنا، سابقا لتفكير البشرية

ص: 2

كله، فلم تدركه إلا في القرن العشرين. وما يزال هذا النور سابقا لما وصلت إليه البشرية في التفكير.

فأما دعوة الشعوب الإسلامية إلى الشيوعية أو غيرها من المذاهب المادية الأخرى، فهي دعوة مضحكة تثير الهزء والاستخفاف بتلك الفقاقيع الآدمية التي تدعونا إليها؟

إذن ما الذي يدعو شعوبا بأسرها، يتجاوز تعدادها ثلاثمائة مليون مسلم، في شعاب هذه الأرض إلى التخلي عن فكرة أو عقيدة عاشت في ظلها أربعة عشر قرنا؟. .

فكرة سبقت الشيوعية سبقا بعيدا في التفكير الإنشائي المنظم لقيام وحدة عالمية، مقوماتها فكرة ونظام، لا حدود جغرافية، ولا أجناس بشرية، ولا ألوان ولا لغات. وبذلك كانت وما تزال فكرة تقدمية سابقة لقيادة البشرية كلها في طريق المستقبل؛ حافلة بالإمكانيات العملية المنظمة لتحقيق هذه القيادة الرشيدة؟

فكرة سبقت الشيوعية سبقا بعيدا - لا من ناحية الزمن وحده ولكن من ناحية طبيعة الفكرة وإمكانياتها - في تحقيق أساس صالح للوحدة العالمية، بريء من التعصب والقهر والكبت لأنها تسمح لكل عقيدة دينية أخرى أن تعيش في ظل هذه الوحدة، متمتعة بالحماية والرعاية والمشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية، فلا تفرض نفسها على الناس، ولا تحرم مخالفيها حق الحياة والنشاط، كما تحرمهم الشيوعية؛ ولا تفرض عليهم دكتاتورية رجل ولا دكتاتورية نظام كما تفرض الشيوعية في القرن العشرين!

وأخيرا فهي سابقة في تحقيق عدالة اجتماعية كاملة، لا تصدم بالفطرة البشرية. . ولا تقيد النشاط الفردي. في ذات الوقت الذي تقف كل نشاط فردي دون المساس بالمصلحة العامة. وتجعل نتاجه كله ملكا للجماعة التي تعيش فيها.

إن دعوة شعوب تملك مثل هذه الفكرة إلى نبذها لاعتناق الشيوعية أو سواها تبدو دعوة مضحكة، لا يحاولها إنسان يحترم نفسه، إنما تصلح فقاعة هزيلة، ينادي بها بعض الشواذ، الذين يعانون عقدا نفسية مرضية، يجدون في الدعوة إلى الشيوعية تنفيسا عنها وراحة!

إن الدعوة الإسلامية تكتسح وتجرف كل هذه الفقاقيع في هذه الأيام. تكتسح فقاقيع القومية الضيقة الهزيلة في العالم الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه. وتكتسح فقاقيع المباديء المادية على اختلاف مسمياتها. . وهذا الاكتساح هو الذي يتفق مع طبائع الأشياء. ويتفق

ص: 3

مع طبيعة هذا الشعب وتفكيره. ويتفق في ذات الوقت مع الاتجاه العالمي المقبل: الاتجاه إلى تأليف كتل ضخمة تخضع لنظام وفكرة. في الطريق إلى تحقيق الحلم البشري الكبير. . حلم الوحدة الإنسانية الكبرى. . .

(فأما الزبد فيذهب جفاء. وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

سيد قطب

ص: 4

‌المرأة المسلمة

للأستاذ علي الطنطاوي

أنا أغتاظ وأتألم كلما سمعت الناس يضربون الأمثال بنساء اليهود: بقتالهن في الحروب وعملهن في المعامل والحقول، لأني أجد في ذلك جهالة بتاريخنا، وبسلائقنا، وبما كانت عليه المرأة منا.

إنكم تحسبون أن نساء العرب كن - مذكن - كأكثر من نرى من النساء، جاهلات خاملات، يثرن المشكلات، وينغصن عيش الرجال، أو مترفات مدللات همهن صبغ الوجوه، وتلوين الأظفار، وإنفاق الأموال، فتعالوا أخبركم كيف كانت المرأة على عهد الرسول، صلوات الله عليه، كيف عملت في بناء هذا الصرح العظيم، وشاركت في إقامة الدولة الإسلامية، وكيف سعى نساء من النساء في كل مجال كان يسعى فيه الرجال، في مجال الدين والتقوى، ومجال العلم والأدب، ومجال المعارك والحروب.

وكيف كان منهن (المرأة العاقلة) الحكيمة كخديجة التي وضعت ثاني حجر في صرح الدعوة، وكانت ركنا قويا للإسلام في فجر الإسلام، والتي أخذت بيد النبي صلى الله عليه وأيدته بمالها الكثير، وقلبها الكبير.

و (المرأة العالمة) المعلمة كعائشة التي كانت أستاذة عصرها، وكان فحول العلماء تلاميذ لها، وكانت أعجوبة في سعة روايتها، وحدة تفكيرها، وبلاغة لسانها، وقوة جنانها، حتى دفع بها نشاطها إلى ما ليس من شأنها، فاقتحمت ميدان السياسة وما خلقت له وما خلق لها، لا بالسان والرأي بل بالنار والحديد، فكان من ذلك ما كان.

و (المرأة الأديبة) التي خدمت بالدعاية اللسانية، وبالشعر يوم كان الشعر هو الصحافة وهو الإذاعة وهو سبيل الدعاية لا سبيل غيرها، كصفية، ونعم بنت سعيد، وهند بنت أثاثة.

لما انتهت معركة أحد على غير ما يبغي المسلمون، بمخالفة من خالف منهم الرسول، وقامت هند بنت عتبة على صخرة تقول.

نحن جزيناكم بيوم بدر

والحرب بعد الحرب ذات سعر

انبرت لها بنت أثاثة ترد عليها. تقول لها:

خزيت في بدر وبعد بدر

يا بنت وقاع عظيم الكفر

ص: 5

صبحك الله غداة الفجر

ملها شميين الطوال الزهر

و (العاملة في المصالح العامة) كأسماء بنت الصديق، يوم الهجرة، حين كانت تحرس منافذ الأخبار إلى قريش، وتحمل الطعام إلى المهاجرين العظيمين وتصبر على عدوان قريش عليها. ولطم الخاسر أبي جهل خديها لتخبره أين رسول الله، فلا تخبره، وحين قدت نطاقها، فربطت بشقة السفرة وانتطقت بالآخر فدعيت من ذاك بذات النطاقين.

وأنتم تعرفون موقفها العظيم، العظيم، يوم قتل ابنها أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، ذلك الموقف الذي لم يكد يروي التاريخ موقفا مثله لأخرى من بنات حواء.

و (المرأة في الدفاع السلبي) بل الدفاع الحربي، كما صنعت صفية لما كانت في الحصن مع النساء وكان الصبيان والرجال في الجبهة، فرأت يهوديا يطيف بالحصن فخافته على النساء والصبيان أن يؤذيهم أو يدل العدو عليهم، فشدت وسطها ونزلت إليه بالعمود، فضربته حتى قتلته.

كان نسانا يقتلن أبطالا. . فيهود، فصار نساء اليهود، بفضل سلطتنا وأمرائنا. . يقتلن رجالنا!

وكان منهن (الممرضة المواسية) كرفيدة التي جعلت من خيمتها مستشفى سيارا، تداوي فيه الجرحى، وتحبس نفسها على خدمتهم، والترفيه عنهم، ترفيه الحق لا ترفيه الفسوق والفجور. . . ولما أصاب البطل الخالد سعد بن معاذ السهم يوم الخندق قال رسول الله: اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب.

وكان النساء يخرجن مع الرسول، وشهد خيبر منهن جماعة أعطاهن من الفيء، لا يخرجن للجهاد بأعراضهن وفتنة المجاهدين بجمالهن، بل للعمل في (الوحدات الصحية) والحراسة والتحميس والاشتراك في القتال أن دعت الضرورة إلى القتال.

والقائمات بمثل أعمال (الكمندس) في هذه الحرب. . .

أغار عيينة بن حصن على لقاح رسول الله صلى الله عليه في (الغابة) فاستاقها، وكان فيها رجلا من بني عقار وامرأته فقتلوا الرجل، وسبوا المرأة، فلم تجزع ولم تفزع، ولم تبك ولم تولول، بل قاومتهم مقاومة اللبؤة حتى أفلتت منهم على ناقة من إبل الرسول فوردت بها عليه، فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحرها إن نجاني الله عليها، فتبسم رسول الله

ص: 6

وقال: (ليعلم المسلمين): بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها، ونجاك بها، إنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين.

وكان منهن (المرأة الصابرة) على ما يعجز عنه الصبر، ويضيق عن احتماله الصدر. لقد أصبت حمنة بنت جحش يوم أحد بأخيها عبد الله، وخالها حمزة سيد الشهداء، وزوجها مصعب رائد الإسلام، فثبتت كيلا يرى وهنها المشركون، وفي قلبها مثل حز المواسي.

وهذه امرأة من بني دينار، قتل زوجها وأخوها وأبوها في الوقعة، فلما خبت بهم، بلغ بها عظم الإيمان أن سألت: ما حال رسول الله؟ فلما قالوا لها: هو حي، قالت: كل مصيبة بعده هينة.

ومنهن (المرأة المقاتلة) التي تأتي بالبطولات.

هذه أم عمارة - نسيبة المازنية - خرجت لترى ما يصنع الناس، ومعها سقاء ماء لتسقي العطاش من الجند، وكانت الدولة والصولة للمسلمين أول النهار، فلما أنهزم المسلمون، وداخلتهم الدهشة لما كان من هبوط الرماة عن أحد، وكرة فرسان المشركين، كانت هذه المرأة أثبت من الرجال قلبا، وأجر أيدا، فلم تهزم ولم يجرفها التيار، بل أخذت سيفا من ساحة المعركة، وجعلت تدافع مع الرسول، حتى أثخنتها جراحها.

قالت أم سعد رواية الخبر: وكشفت لي (أي أم عمارة) عن عاتقها بعد سنين طويلة، وإذا جرح غائر أجوف، قلت: من أصابك بهذا يا خالة؟ قالت: أبن قمئة أقمأه الله لما ولى الناس، أقبل يقول: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا، فاعترضت له.

يا أيها القراء، أرجو أن تقفوا لتتصوروا الموقف: الجيش منهزم، وهذا الفارس يهجم بسلاحه وجبروته كالثور الهائج، والرجال تنتحي عن طريقه، وهذه المرأة العربية المسلمة، تعترض له، وتثب في وجهه تعترض طريقه إلى محمد، فيضربها فلا تزيح بل تضربه بسيفها، فلا ينجيه إلا أنه بدرعين!

قالت: فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته مع ذلك ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان!

وهذه أم سليم تثبت في هوازن في الموقف المهول الذي انصدعت فيه أفئدة عشرة آلاف بطل، فانهزموا إلا رسول الله وصحابته الأدنين، فالتفت فرأى أم سليم، مع زوجها أبي

ص: 7

طلحة، وهي حازمة وسطها ببرد لها، وإنها لحامل! وتمسك جملها وقد أدخلت يدها في حزامه، قال:

- أم سليم؟

- قالت، نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين يفرون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل.

قال: أو يكفي الله يا أم سليم؟

ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة:

- ما هذا الخنجر معك؟

- قالت: خنجر أخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به.

قال أبو طلحة، مفتخرا بها، مداعبا إياها:

- ألا تسمع يا رسول الله، ما تقول أم سليم الرميصاء؟ وهي حامل يا ناس! وهي حامل!!

أما معاملته صلى الله عليه النساء، فكانت أروع مثل يضربه السيد المهذب، والبطل النبيل، والأب الحاني، والصديق الوفي، ولا يتصور الوهم أرق منها معاملة ولا عطف ولا أنبل ولا أشرف، ولا أحب أن ألخص لكم هذا النص التاريخي، فاسمعوه بالحرف، من فم فتاة صغيرة من آل غفار، متطوعة في الجيش، قالت:

أتيت رسول الله في نسوة من بني غفار، فقلنا: يا رسول الله؛ قد أردنا أن نسير معك إلى وجهك هذا (وكان متوجها إلى خيبر) فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا، فقال: على بركة الله.

فخرجنا معه، وكنت جارية حدثة (أي صبية صغيرة) ولم يكن لي ما أركبه، فأردفني رسول الله وراءه على حقيبة رحله وإذا بها دم مني، وكانت أول حيضة حضتها، فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى الرسول ما بي ورأى الدم قال:

- مالك؟ لعلك نفست؟

- قلت: نعم

- قال: أصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا فاغسلي به ما أصاب الحقيبة، ثم عودي لمركبك.

ص: 8

وأمر رسول الله بعد هوازن بالقبض على مجرم يقال له بجاد من بني سعد بن بكر فساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث فنعفوا عليها في السياق، فقالت:

- تعلموا (أي أعلموا) أني أخت صاحبكم من الرضاع فلم يصدقوها، فلما انتهوا إلى رسول الله قالت:

- يا رسول الله. إني أختك من الرضاع.

قال: ما علامة ذلك؟

- قالت: عضة، عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك فعرف العلامة فبسط لها رداءه فأجلسها عليه، وقال:

- إن أحببت فعندي محبته مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك.

فاختارت الرجوع إلى قومها.

ولعلكم تقولون: كيف كان هذا الاختلاط؟ كان على التصون والحجاب الشرعي، وعلى غض البصر، وامتلاء القلوب بالخوف من الله، وبالغاية التي تشغل عن شهوات النفس، ومع ذلك فإن الله علمهم درسا عظيما في ضرر خلوة رجل بامرأة ليس معهما ثالث، اتهمت فيه أشرف امرأة في الناس، وكاد الناس يصدقون التهمة، حتى أنزل الله براءتها من سبع سماوات.

هكذا كانت المرأة العربية المسلمة، جمعت أطراف الفضائل، وحازت خلال الخير، وكانت للدين والدنيا، للعلم وللأدب، للدار والحياة، كان هديها القرآن، ودليلها الشرع، وغايتها رضا الله، والنجاة في الآخرة.

فأين نساؤنا اليوم؟

علي الطنطاوي

ص: 9

‌ذو العقل يشقى.

. .

للأستاذ محمود محمد شاكر

لولا أني أكره خلائق السوء، لما حملت هذا القلم لأرد به على هذا الذي تكلف مؤونة الجدال عن صاحبه، ولولا أنه كتب ما كتب في الرسالة، وهي مألف قديم يحن إليه هذا القلم، لما غلبني على ما أدبت به نفسي من هجر صغائر الأمور. ومن خلائق السوء عندي أن يجهد كاتب قلمه في نقد ما أكتب، ثم أغفل رده إلى الحق إن أخطأ، أو متابعته على الصواب إذا أصاب. ومهما يكن رأيي فيما كتب الأستاذ، فإني أجد الحق يلزمني أن أعود إليه بالتذكير والإبانة، غير متلجلج في استنقاذه مما تورط فيه، ولا مستنكف أن يكون في بعض كلامي هذا تكرار لما قلت، مما أرجو أن يكون إنما غفل عنه غير متعمد أن شاء الله. وأنا أقدم بين يدي الأستاذ الفاضل، معذرتي في أن أسامحه فيما وصف به ما كتبت، وما وقر في نفسه وأبان عنه بقوله إني اندفعت في سياق منبرتي، أسرد الأدلة الخطابية، وأستثير النوازع العاطفية. وكان خليقا به قبل أن يقول ما قال، أن يعرف أسلوبي فيما أكتب، ثم ينظر إلي بعيني مبصر متحقق: أصحيح أني ألجأ إلى الخطب المنبرية، والأدلة الخطابية، والنوازع العاطفية، أم الحق أني أتحرى أمرا أنا مسؤول عنه بين يديه سبحانه؟! وإذا كان كثير من الناس قد نسوا أنهم محاسبون يوم القيامة، فإني لم أنس بعد، وأسأل الله أن يعينني على أن لا أنسى، وإن عد الأستاذ الفاضل هذا الكلام أيضا خطبة منبرية، أو استثارة عاطفية!

ولعل قراء الرسالة، لم يقرؤوا ما كتبت في مجلة (المسلمون) ولست أحب أن أعيد عليهم ما كتبت هناك، ولكني أحب أن أبين لهم عن أصل هذا النزاع الذي نازعنيه الأستاذ الفاضل. وذلك أني رأيت كاتبا بسط لسانه بسطا عريضا في دين جماعة صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم: معاوية بن أبي سفيان، وأبوه أبو سفيان، وأمه هند بنت عتبة، وعمرو بن العاص. ثم أدخل معهم سائر بني أمية. وزعمت في هذه المقالة أيضا أني لن أناقش منهجه التاريخي:(لأن كل مدع يستطيع أن يقول: هذا منهجي، وهذه دراستي) وقلت: (وأيضا فإني لن أحقق في هذه الكلمة فساد ما بني عليه الحكم التاريخي العجيب، الذي استحدثه لنا هذا الكاتب، بل أدعه إلى حينه) وقلت: (بل غاية ما أنا فاعل: أن أنظر كيف

ص: 10

كان أهل هذا الدين، ينظرون إلى هؤلاء الأربعة بأعيانهم، وكيف كانوا - هؤلاء الأربعة - عند من عاصرهم ومن جاء بعدهم من أئمة المسلمين وعلمائهم).

وأظن أني بهذه الكلمات قد حددت كل التحديد غايتي فيما أكتب. أظن ذلك، وأظن أيضا أن لكل كاتب بعض الحرية!! في أن يحدد ما يريد لنفسه في سياق ما يريد أن يكتب. وبخاصة إذا كان يريد أن يعرف الناس بشيء هم قد غفلوا عنه، وبخاصة في زمن أصبح العلم فيه لجاجات تكتب كما تكتب مقالات الصحف اليومية في المنازعات الحزبية! وبخاصة في نذير شديد من الله سبحانه! وبخاصة إذا كان هذا الكاتب يؤمن بأن الإنسان مسئول بين يدي ربه عن كل ما يقول وكل ما يكتب وكل ما يفعل!

بيد أن الأستاذ الفاضل ظن أنه كان يجب على أولا غير هذا. إذ ظن أن صاحبه نقد معاوية نقدا تاريخيا، فطالبني أن أبين أن الوقائع التي ذكرها في كتابه غير صحيحة، ثم زاد شيئا آخر عجل إليه فزعم أني لا أستطيع أن أفعل شيئا من ذلك، لأن صاحبه نقلها من كتب التاريخ ولم يخترعها اختراعا، ولأنها معروفة لدى الصغير والكبير؟! فأظن أنا أيضا أني بينت عن طريقي في الكلمات التي نقلتها آنفا، وأني سوف أترك هذا إلى حينه، فلست أدري لم يعجل الأستاذ الفاضل كل هذه العجلة على امرئ مثلي، فيضربه بالعجز عن ذلك قبل أن يبين عن حجته؟ فهذه العجلة هي هي التي أنكرها على صاحبه، وأنكر أن تكون أدبا يتأدب به العالم أو المتعلم، ومن الحق على كل عاقل أن ينهي نفسه عنها، وأن ينهي من يرتكبها، لأنها مخالفة لكل أصل من أصول العلم والتعلم، ولأنها تورث مرتكبها نفس الداء الذي أتى منه صاحبه الذي تهجم على ضمائر خلق الله، فكاد يقطع قطعا جازما بنفاق معاوية وأبي سفيان وهند وعمرو بن العاص وسائر بني أمية! من أين يعلم أني عجزت أو أني سوف أعجز؟ لا أدري!

ومثل هذا في الجرأة ما أتبعه من أسئلة إذ يقول:

(من الذي ينكر أن معاوية حين صير الخلافة ملكا عضوضا لم يكن ذلك من وحي الإسلام، إنما كان من وحي الجاهلية؟

(ومن الذي ينكر أن أمية بصفة عامة لم يعمر الإيمان قلوبها، وما كان الإسلام لها إلا رداء تلبسه وتخلعه حسب المصالح والملابسات؟. . .

ص: 11

(ومن الذي ينكر أن يزيد بن معاوية قد فرضه أبوه على المسلمين مدفوعا إلى ذلك بدافع لا يعرفه الإسلام؟

(ومن الذي ينكر أن معاوية قد أقصى العنصر الأخلاقي في صراعه مع علي، وفي سيرته في الحكم بعد ذلك إقصاء كاملا لأول مرة في تاريخ الإسلام، وقد سار في سياسة المال سيرة غير عادلة، فجعله للرشوة واللهي وشراء الضمائر في البيعة ليزيد؟

(هذه وأمثالها أمور مسلمة في التاريخ، لا يستطيع الأستاذ شاكر أن ينكرها بحال. ونحن نعجب كثيرا حين نجده في مقاله يلبس مسوح الوعظ والإرشاد. . .)

نعم يا سيدي الشيخ! نعم! فإني لمحدثك عمن ينكرها: أنا أنكر هذا كله وينكره المؤمنون من قبلي. وإذا كنت أنت وصاحبك تسلمان بها، فأنا لا أستطيع أن أسلم بها. وتقول: هذه دعوة ليس عليها بينة! فأقول: نعم، هي في هذا السياق ليس عليها بينة، إلا أن آتيك بالدليل على بطلان ما ذهب إليه صاحبك الذي توليت الدفاع عنه. بيد أنك أسأت حين عجلت إلى شيء لم تعرف ماذا أقول فيه، وكيف أستطيع أن أتناوله بالنقد والتمحيص. ولو أنت صبرت حتى تعرف لأتاك البيان عما أنكرت وما عرفت من أخبار صاحبك، التي وصفتها بأنها متلقفة من أطراف الكتب، لا أقول بلا تمحيص وحسب، بل أقول أيضا بالحرص الشديد على تتبع المثالب القبيحة، وبالحرص المتلهف على اجتناب المناقب الفاضلة، وبالغو الأرعن في سياق المثالب وفي تفسيرها، وفي تحليلها، وفي استخراج النتائج من مقدمات لا تنتجها، كما يقول أصحاب المنطق.

وأنا أحب أن أخلع معك مسوح الوعظ والإرشاد خلعا لا رجعة بعده! فتعال أيها الشيخ إلى غير واعظ ولا مرشد! تعال حدثني وأحدثك، ودعني ودعك من:(قال الله تعالى) و (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهما في زماننا هذا - من مسوح المتدينين بلا دين! دعنا نعرف الكتب التي بين أيدينا لا نرفع بعضا ولا نضع بعضا، لأن هذه كتب تاريخ لا يوثق بها، ولأن هذه كتب أصحاب دين ووعظ وأرشاد يوثق بها! ثم ننظر بعدئذ بالعقل المجرد ماذا يكون؟!

ودعني أيها السيد أعيد عليك ما قلت في مقالك: (ونحن نقر أن معاوية كان حسن السيرة على عهد عمر، فولاه أعمال دمشق، ولكنه قلب المجن للتعاليم الإسلامية بعد مصرع

ص: 12

عثمان. . .) ولا أسألك من أين علمت أنه كان حسن السيرة على عهد عمر؟ ولكني أسألك: ألست تعلم أنه قد نشب الخلاف بينه وبين علي؟ فتقول: نعم، ولا بد. ثم أسألك: ألست تعلم أنه كان لهذا شيعة ولذاك شيعة؟ فنقول: نعم، ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن كل شيعة قد غلت في صاحبها وتعصبت له؟ فتقول نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أن الخلاف بين الشيعتين ظل مستعراً مدة بقاء معاوية ومن بعده؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك ألست تعلم أن الحسين بن علي قتل في عهد يزيد بن معاوية؟ فتقول نعم ولا بد فأسألك ألست تعلم أن مقتل الحسين وما تبعه من الحوادث في عهد يزيد بن معاوية قد أوقد نار العداوة بين شيعة علي وشيعة معاوية؟ فتقول. نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أن شيعة كل منهما قد انتشرت في الناس بما بينهما من العداوة؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أن كل عالم أو جاهل كان يحدث عن خبر شيعته وخبر شيعة عدوه؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك ألست تعلم أن هذه الأخبار ربما كان فيها الصحيح والسقيم والصادق والمكذوب كما يكون في كل شيعتين متنابزتين؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أن الأمر سار على ذلك إلى ما بعد انقضاه دولة بني أمية فتقول: نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أنها استمرت أذن على ذلك منذ سنة 40 من الهجرة إلى وقت تدوين الكتب، أي في أواخر القرن الأول؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أنه في أيدي الناس كتاب مكتوب قبل ذلك العهد؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك ألست تعلم أن طريق القوم كان هو الرواية فحسب؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم عندئذ أن العقل يوجب أن تعرف راوي كل خبر حتى تتبين من أي الشيعتين هو؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أنه ظلم قبيح أن تأخذ الخبر لا تدري من رواه، فتطعن به في أحد الرجلين، معاوية أو علي وأنت لا تأمن أن يكون كذبا صرفا؟ فتقول: نعم ولا بد.

فإذا صح كل هذا عندك ولم تشغب علي فيه، فإني أراك رجلا صالحا، فهل تظن، ولا أقول هل تحقق عندك، أن هذا الطعان في معاوية وأهله، قد ميز هذا كله قبل أن يكتب ما كتب؟ فإن كان قد صح لك، فأنا أحب أن أعلم كيف صح لك، حتى أتبعك على الحق. وإن لم يكن صح عندك، وهو لم يصح عندي بعد، فدعني عند قولي لك: أنا أنكر هذا كله وينكره المؤمنون من قبلي، واذكرني دائما بأني لا أعد أمثال هذه الروايات المجردة من رواتها،

ص: 13

وفي مثل هذا الموضع المشتبه من العداوات، شيئا يمكن أن أسلم به. فإني لا أحب أن أستهلك عقلي في العبث والجهالات. واعلم أني لا أنقاد لما لا بينة عليه، وان للعقل شرفا لا يرضي معه بالتدهور في مواطئ الغفلة وسوء الأدب. ولو أنت لم تعجل لكان البيان آتيك بعد قليل عن الذي أستطيعه من ذلك وما لا أستطيعه، غفر الله لك، أقولها خالصة من قلبي، بلا مسوح وعظ أو إرشاد!

وأنا أخذتك من أهون المآخذ في طريق العقل، فهناك طرق أخرى أشق وأصعب في تمييز هذا العبث لم أدفعك إليها، وأرجو أن تصبر حتى تعرفها يوما، أو أن تحاول أنت أن تصل إليها بما أوتيت من حسن العقل، فإن المحاولة خليقة أن تفضي بك إليها. ولكن شرطها أن تدع العصبية لآراء الرجال، وبخاصة إذا كان هؤلاء الرجال ممن يبينون أقوالهم على الغلو والتسرع وسوء الفهم، وقبح المقصد، ومعاندة الحق لهوى في النفوس يعلمه الله وحده، ولكن يدل مطلعه على أنه هوى. فإذا فعلت استطعت أن توفر على نفسك مطالبتي بنقد الحوادث التاريخية التي رواها صاحبك (نقدا موضوعيا)! ومع ذلك فسأفعل حيث كتبت كلامي ما يرضيك. ولكن على شرط أن أجد عندك ما أحب لك من حسن الظن فيك: أن تعرف أن النقد الموضوعي الذي زعمت، ينبغي أن يسبقه التحقق من صحة هذه الحوادث تحققا ينفي كل ظنة. وأستطيع أن أظن أني قدمت لك في هذه الكلمة ما يجعلك تقف من هذه الروايات التاريخية! موقف المتردد على الأقل، أنفة لعقلك وأدبك أن يزلا حيث زل من دافعت عنه.

أما الموضوع الذي نصبت له كلامي في مجلة (المسلمون) فهو سب الصحابة، وأظن أن الأستاذ يوافقني على أن كلام صاحبك خرج أولا عن أن يكون تخطئة لمعاوية، ثم خرج عن أن يكون طعنا فيه، ثم خرج عن أن يكون سبا. خرج من هذه المراتب الثلاث إلى مرتبة رابعة، هي أن معاوية إليها من الإسلام، والإسلام إليها منه. فأدنى مراتب هذا القول أن يكون منافقا، وآخرها أن يكون كافرا بما جاء به الرجل الذي آمن به المسلمون وأمروا أن يسموه (رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن العسير أن أكتب في هذا الموضوع الآن دون أن أتوشح بذيل من ذيول (مسوح الوعظ والإرشاد)، فليأذن لي الأستاذ قليلا أن أرد فضلة من الثوب الذي خلعت حتى أستطيع أن أوضح له:

ص: 14

زعمت يا سيدي أن لي رأيا، فقلت إني أثرت هذه العاصفة وحجتي الوحيدة:(أن كل صحابي رأى الرسول وسمع عنه قد اكتسب مكانة تحرم على كل إنسان أن ينقد أخطاءه أو يظهر أغلاطه). ويلك! نسبت إلي شيئا لم أقله قط كما ستعلم بعد. فلا تنس إذن أن مثل هذا جائز أيضا أن يكون وقع من مثلك قديما، فنسب إلى معاوية شيئا لم يقله كما نسبت أنت إلى شيئا لم أقله. ولكني كنت أحسن حظا من معاوية رضي الله عنه، فإن كلامي مكتوب منشور، أما معاوية، فقد روى الناس عنه شيئا ذهب أصله، لأنه لم يكتبه كما كتبت. صدقني، فلست أدري من أين فهمت هذا الكلام الذي ترجمته؟ ولكن عذرك باد ظاهر، فإن دفاعك عن صاحبك دليل على أنك على الأقل تفكر كما يفكر، وهذه الطريقة هي نفسها طريقته التي أدعوك إلى فراقها حتى لا عقلك فيما لا يجدي. والذي قلته بعد الخطبة المنبرية التي زعمتها، والتي بدأتها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا أصحابي. . .) هذا نصه:(وليس معنى هذا أن أصحاب محمد رسول الله معصومون عصمة الأنبياء، ولا أنهم لم يخطئوا قط ولم يسيئوا، فهم لم يدعوا هذا، وليس يدعيه أحد لهم. فهم يخطئون ويصيبون، ولكن الله فضلهم بصحبة رسوله، فتأدبوا بما أدبهم به، وكانوا بعد توابين أوابين كما وصفهم في محكم كتابه. فإذا أخطأ أحدهم، فليس يحل لهم، ولا لأحد ممن بعدهم، أن يجعل الخطأ ذريعة إلى سبهم والطعن عليهم. هذا مجمل ما أدبنا به الله ورسوله. بيد أن هذا المجمل أصبح مجهولا مطروحا عند أكثر من يتصدى لكتابة تاريخ الإيلام من أهل زماننا، فإذا قرأ أحدهم شيئا فيه مطعن على رجل من أصحاب رسول الله سارع إلى التوغل في الطعن والسب بلا تقوى ولا ورع كلا بل تراهم ينسون ما تقضي به الفطرة من التثبت من الأخبار المروية، على كثرة ما يحيط بها من الريب والشكوك، ومن الأسباب الداعية إلى الكذب في الأخبار، ومن العلل الدافعة إلى وضع الأحاديث المكذوبة على هؤلاء الصحابة (مجلة المسلمون عدد 3 ص247).

وأنا أكره أن أنقل كلاما لي من مكان إلى مكان، ولكنك استكرهتني على نقله، حتى لا يقع في عقل أحد من قراء الرسالة، أني مستطيع أن أقول هذه القائلة المنكرة القبيحة بكل مسلم: أن للصحابة مكانة تحرم على كل إنسان أن ينقد أخطاءهم أو يظهر أغلاطهم. هذه يا سيدي كلمة قبيحة جدا، وأقبح منها أن تجعلها ترجمة لكلام مكتوب باللغة العربية التي تكتب بها

ص: 15

وتقرأ فيما أظن، ثم تنسبها إلى امرئ يعرف حق الكلام ويلتزم مقاطعه ومطالعه وحدوده، وما يوجبه اللفظ منالمعاني، وما يتناوله من دقيق الاستنباط. وأنا أشهد كل قارئ أني لم أقل ما قولتنيه، وأدع له حق الحكم بيني وبينك أن يكون في كلامي حرف واحد يدل على أني أردت بعض هذا المعنى الذي ترجمته كما ترجم صاحبك تاريخ معاوية ومن معه من الصحابة وتاريخ سائر بني أمية. أفتظن أن قولي إنه لا يحل لأحد أن يجعل (خطأهم) ذريعة إلى سبهم والطعن فيهم معناه أنهم لا يخطئون، أو أن أخطائهم لا تنقد؟ وأين ذهب عمري إذن، إذا كنت لا أعلم أن الصحابة أخطئوا، وأن علمائنا رضي الله عنهم، قد بينوا أخطائهم حتى فيما هو من أمور دينهم؟ ولكن فرق كبير بين أن تذكر عمل الصحابي أو قوله، وتأتي بالبرهان على أنه مما أخطأ فيه، وبين أن تجاوز ذلك إلى الطعن فيه، ثم إلى سبه، ثم إلى إخراجه عن الدين، كما فعل صاحبك. وهذا فرق ليس بالخفي فيما أظن؛ ولا أظنك إلا تورطت فيه من شدة أثر صاحبك عليك، حتى خدعك عما أنت خليق أن تكون من أهله. هذه واحدة أرجو أن تكون راجعا عنها منتفيا من سوء أثر صاحبك عليك فيها.

وأخرى تبين فيها سوء أثر صاحبك عليك: وهي تحديدك، فيما تزعم، لمعنى (الصحابي) واستدلالك بالكلمة التي جاءت في الخبر عن عبد الله بن أبي (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه). فهذه كلمة ذكرها، يخشى أن تدور على ألسنة المشركين الذين لا يميزون مؤمنا عن منافق، وكلهم عندهم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لا أن رسول الله يسمى المنافقين أصحابا له!! وكيف وقد نزل عليه من ربه نفاقهم وكفرهم، ونهاه أن يصلي عليهم، وبينهم له بأعيانهم، فمعاذ الله أن يسمي رسول الله أحدا من المنافقينالذين يعلمهم (صاحبا). فمن سوء الأدب أن يقول مسلم:(فعبد الله بن أبي من أصحاب محمد كما ينطق الحديث)؛ ومن قلة المعرفة بالعربية أن يقولها قائل، ومن التسرع البغيض أن يلجأ إليها باحث، ومن ضعف المنطق والفهم أن يحتج بها محتج. فهي حكاية قول يخشى أن يقولوه، لا تسمية له باسم الصحبة. أعوذ بالله من الخطل! ورحم الله العرب ولسانهم!

أما ما حاول الأستاذ أن يجعله تحديدا لمعنى الصحابي، وهو ثلاثة أرباع مقاله، فأظنني لم أفهمه، ولم أدر ماذا كان يريد أن يقول ثم أخطئه. وأظن أنه أراد أن يقول في كل ما كتب: أن الصحابي هو الذي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه وآمن به ولازمه ومات

ص: 16

على إيمانه، ولم يرتد. ولم يشهد له رسول الله بنفاق أو لم يذكر فيه حكم خاص من رسول الله. وهذا حق، إلا أن الأستاذ أدخل شرط الملازمة، وهو باطل من وجوه كثيرة، لا أطيل بذكرها. ومع ذلك فأني أؤكد أن معاوية ممن صاحب رسول الله منذ رمضان سنة ثمان من الهجرة إلى أن توفي بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول من السنة الثانية عشرة من مهاجره إلى المدينة. وأما أبوه أيو سفيان فقد ولاه صلى الله عليه وسلم نجران وصدقات الطائف، ورسول الله لا يولي منافقا!! وأما عمر بن العاص، فلا أظن الأستاذ يستطيع أن ينكر هجرته ومصاحبته وبلاءه في الإسلام، وأما هند فأسلمت يوم أسلم زوجها أو بعده بيوم في سنة ثمان من الهجرة. وهجران الأستاذ لمعرفة تاريخ هؤلاء الأربعة، عادة أكتسبها من الكتب التي يقرؤها، كتب تكتب بلا بينة ولا حذر ولا معرفة.

ولا أظن أني قرأت كلاما لم أفهمه، كالذي قرأته في مسألة الصحابة، وإن كان الأستاذ بالطبع يظن بكلامه غير ما أظن، ولكني أنصحه مرة أخرى أن يلتمس العلم في كتب من يلتمس عندهم العلم. وإذا كان يخشى على دينه - ومعذرة ارتداء مسوح الوعظ والإرشاد - فليأخذ أمر دينه عن ثقة في تمييز الصحيح من الزيف، والحق من الباطل، وليدع أصحاب الأهواء حيث رضوا لأنفسهم منازلهم من مزالق الهوى. وليستغفر ربه من الكلمة الكبيرة التي قالها حمية لصاحبه وغضبا أنه (قد يوجد في القرن العشرين من هم أفضل بكثير من بعض من عاصروا الرسول العظيم). والظاهر أن الأستاذ لا يعيش في هذا القرن العشرين عيشة العارف البصير. والظاهر أيضا أنه محتاج إلى معرفة كثير مما خفي عليه من شؤون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أمر دين الله الذي أكمله للمؤمنين، وأتم عليهم نعمته، ورضيه لهم ولنا دينا، ونصيحة أخرى إلى الأستاذ أن يضع عن يده عبء القلم، فإنه ثقيل ثقيل. ولولا الحياء من أن أترك كلامه ومنطقه في الكتابة، بلا مجيب، لخفت عنه ثقل الكتابة، وثقل الفكر، وثقل الفلم جميعا، بالصمت عما جاء به ودهوره في أمور قلت معرفته بها، ويعجز فكره عن معاناتها والسلام.

محمود محمد شاكر

ص: 17

‌شعراء من أشعارهم:

عدي بن زيد العبادي

للأستاذ محمود عبد العزيز محرم

- 2 -

حين مات المنذر كان عدي رجلا شديدا ثقة يستعان به في جلائل الأمور وعظائمها، وكان يعمل في ديوان كسرى، وكان على صلة بالحيرة وما يجري فيها، وقد خلف المنذر أبناء يرفعهم بعض الرواة إلى عشرة، ويرفعهم آخرون إلى ثلاثة عشر، ولكن السيدين المنظور إليهما فيهم جميعا هما: النعمان والأسود. وقد قدمت لك أن المنذر دفع بالنعمان إلى حجر عدي بن زيد وأهل بيته لتربيته وتقويمه. وأما الأسود فقد تولاه، وأرضعه، ورباه، قوم من أهل الحيرة يقال لهم بنو مرينا، كانوا أشرافا. وكان أولاد المنذر جميعا يقال لهم الأشاهب من جمالهم وبياض وجوههم. وقد قال فيهم أعشى قيس بن ثعلبة:

وبنو المنذر الأشاهب في الحي

رة يمشون غدوة كالسيوف

ولما أحتضر المنذر وخلف أولاده حار كسرى فيمن يعقد له أمر الحيرة، وأراد أن يختبر أبناء المنذر ليرى أيهم أحق بهذا الفضل، فبعث في طلبهم بمشورة عدي، ولما خلا بهم عدي - كما تروي كتب الأدب - أوصى كلا منهم بوصية مغشوشة مدخولة، إلا النعمان فقد محضه القول وأخلص له النصح. ولما دخلوا جميعا على كسرى يأكلون، كان النعمان في ثياب السفر ومتقلدا سيفه، وعظم اللقم، وأسرع المضغ والبلع، وزاد في الأكل، تبعا لوصية عدي، على غير ما فعل أخوته؛ فقد تباطئوا في الأكل، وصغروا اللقم، ونزروا. فأعجب كسرى بما فعل النعمان وولاه الحيرة.

وأنت ترى من هذا، ومما سبق، أن فضل عدي بن زيد على النعمان بن المنذر سابغ. ولذلك لم يكن من العجيب أن كان صديق الملك النعمان، وجليسه، ونديمه، في كل يوم لقية وخطاب، يخرجان للصيد معا، ويرجعان معا. وارتفعت أسهم عدي؛ فقد أحتال للنعمان وولاه، وغدا النعمان ملك الحيرة، ورثها بعد أبيه المنذر. ولم يكن بنوا مرينا ليرضوا عن النعمان، فإنهم أرادوا ربيبهم ورضيعهم الأسود ملكا للحيرة، ولكن تدبير عدي قرب النعمان

ص: 18

من كسرى وأبعد الأسود.

ويذكر للرواة أن النعمان كان قد خرج يتنزه بظهر الحيرة ومعه عدي بن زيد، فمرا على المقابر من ظهر الحيرة ونهرها؛ فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا. ما تقول؟ فأخبر عدي أنها تقول:

أيها الركب المخبو

ن على الأرض المجدون

كما أنتمو كنا

وكما نحن تكونون

فانصرف النعمان وقد دخلته رقة، فمكث بعد ذلك يسيرا، ثم خرج خرجة أخرى فمر على تلك المقابر ومعه عدي، فقال عدي: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ إنها تقول:

من رآنا فليحدث نفسه

أنه موف على قرن زوال

وصروف الدهر لا يبقي لها

ولما تأتي به صم الجبال

رب ركب قد أناخوا عندنا

يشربون الخمر بالماء الزلال

والأباريق عليها فدم

وجياد الخيل تردى في الجلال

عمروا دهرا بعيش حسن

آمني دهرهمو غير عجال

ثم أضحوا عصف الدهر بهم

وكذاك الدهر يودي بالرجال

وكذلك الدهر يرمي بالفتى

في طلاب العيش حالا بعد حال

فرجع النعمان وتنصر وكان من قبل يعبد الأوثان. وليس بعيدا أن يؤثر عدي في النعمان هذا التأثير؛ فقد مضى بيان ما بينهما من صلات وثيقة، وما قدم عدي للملك من جميل، وكان عدي أكبر سنا وأعلم، وكان له في نفس النعمان منزلة الوالد، ولذا فليس من البعيد أن يتنصر على يد عدي. وقد تنصر أبناء بيته أيضا، وبنوا البيع والصوامع، وبنت هند بنت النعمان بن المنذر ديرا بظهر الكوفة، يقال له دير هند.

وقد أحب عدي بن زيد هند بنت النعمان على فرق ما بينهما في السن؛ فقد كان عدي أكبر من أبيها النعمان، ومن شعره فيها

علق الأحشاء من هند علق

مستسر فيه نصب وأرق

وفيها أيضا يقول:

يا خليلي يسرا التعسيرا

ثم روحا فهجرا تهجيرا

ص: 19

عرجا بي على ديار لهند

ليس أن عجتما المطي كبيرا

ويقول.

من لقب دنف أو معتمد

قد عصى كل نصيح ومفد

ليس أن سلمى نأتني دارها

سامعا فيها إلى قول أحد

ويذكر أنه يصبي ظباء مترفات، يرفلن في الدمقس، ويكفين شؤونهن، وهن بنات كرام، مطيبات بالعبير:

بنات كرام لم يربن بضرة

دمى شرقات بالعبير روادعا

يسارقن من الأستار طرفا مفترا

ويبرزن من فتق الخدور الأصابعا

ومن المقبول أن يكون قد سار حب عدي عند هند، وعرفه الناس، وتحدثوا به، وبلغ النعمان شيء من هذا. ويحدثنا عدي أن سلمى (هند) مهما نأت دارها، ومهما نهاه عن التعلق بها الناصحون أو اللائمون، فهو لن يسمع إلى قول أحد. ثم هو كان يدخل بيت النعمان، فكان يرى بنات كرام ممتلئات مطيبات بالعبير، وحين يدخلن كن يسارقن النظر بطرف مفتر، ويبرزن أصابعهن من فتق الخدور - ذلك لأنه كان يصبى الضباء النواعم المنشآت في الدمقس والحرير.

والنعمان رجل عربي، يحفظه أن يتعرض أحد لفتاته بذكر، أو أن يقول فيها شعرا. وعدي قد تعرض وقد قال الشعر. ولا يبعد أن يكون النعمان قد عرف هوية عدي، وسمع شعره، بطريقة أو بأخرى.

وقد أجمعت الروايات على أن عديا صاهر النعمان. وأكثرها على أنه تزوج بنته هند. وقد دفع عديا حبه هند أن يتلمس الزواج بها. وقد تزوج بها، وهي يومئذ جارية، حين بلغت أو كادت. وقد طلبها إلى النعمان بطريقة خادعة، وهي أنه صنع طعاما واحتفل فيه، ثم أتى إلى النعمان وسأله أن يتغدى عنده هو وأصحابه، ففعل، وسقاه عدي، فلما أخذ منه الشراب خطبها إليه، فأجابه النعمان وزوجه، وضمها إليه بعد ثلاثة أيام.

ولم يكن هذا الزواج موفقاً فيما يظهر؛ إذ كان فارق السن بين الزوجين كبيرا، فقد كان عدي أكبر من النعمان، وهو قد قومه ورباه، ومعنى هذا أنه كان في سن تجوز له أن يكون أستاذا كاملا جديرا بتهذيب وتقويم أولاد الملوك - ثم كبر النعمان، وتزوج، وأنجب. وبعد

ص: 20

هذا كله جاء عدي يخطب إلى العمان أبنته هند، وهي جارية، حين بلغت أو كادت. وجاء يخطبها بطريقة لا تليق بخطبة بنات الملوك، فقد أسكر النعمان حتى أخذ منه الشراب، وحتى أصبح لا يستطيع الاختيار ولا التعرف بمحض رغبته وملء إرادته، ثم طلب إليه أبنته.

وقد كان عدي شبب بهند، وقال فيها الشعر، وأعلن حبه، وعصى الناصحين فيها، فكأن الناس علموا بهذا الحب، فمنهم الناصح، ومنهم اللائم، ومنهم الدساس المتربص.

فكل الظروف التي أحاطت بهذا الزواج لا تهدي إلى التوفيق، فالتشبيب بالفتاة في العرف العربي - والنعمان عربي - سبب يمنع زواجها ممن شبب بها وتغزل فيها، ثم الطريقة لا تسوغ في عرف الملوك ولا غيرهم، ثم فارق السن لا يستهان به وبأثره في الزواج الموفق.

وقد يكون النعمان حين صحا من سكرته بداله غير الذي عقد، وبداله أن الزواج غير متكافئ وغير جائز، ولكنه قد ألزم نفسه بما قطعه عليها من قبول عدي زوجا لابنته هند، وهو قبول خير منه الرفض، وبشاشة خير منها العبوسة والاكتئاب.

وفي مثل هذه الظروف القائمة صحت الفتنة، أو هي تحركت، فقد كانت متيقظة من بعيد، يوم انحاز عدي في ديوان كسرى إلى النعمان، وفضله على سائر أخوته وبخاصة الأسود، وعمل على أن يكون ملك الحيرة بعد المنذر، ونجح فيما أراد وأختار، وأصبح النعمان ملكا، وأصبح هو صديق الملك ورفيقه في التنزه بظهر الحيرة في طريقهما المقابر، غاديين رائحين.

للبحث صلة

محمود عبد العزيز محرم

ص: 21

‌الفوضوية الفردية أو الوجودية!

للأستاذ شاكر السكري

الفردية مفهوم من مفاهيم الرجعية، ومخالفة من المخالفات الانحلال، وعامل من عوامل الهدم، وهدف من أهداف التفسخ للشعوب، وفوضية مجنونة ترعاها عقليات (هستيرية)!

كل ذلك مضمون واحد تجمعه تلك الفردية الانعزالية التي من شأنها أن تقوض الأسس التي تبنى عليها المجتمعات وتقوم عليها قوى الشعوب. . .

إن الأهواء الذاتية التي تدفع هذه الزمرة البشرية (الشرهة) لكي تتخذ من هذه المذاهب الجنسية مبررا يتيح لها بمقتضاه العمل على التخلص من المسؤوليات الأدبية، والتحلل من الأهداف الأساسية للتكوين العام الذي يلم شعث العالم وينظمه كأسرة واحدة تجمعها روابط الأخوة والإنسانية ويسترعي انتباهها الاتحاد التام والعمل الوثيق من أجل بناء كيان يحفظ للشعوب المتحررة حرياتها وحقوقها وينمي قابلياتها، ويحترم سيادتها، ويصون اقتصادياتها، كل ذلك والفردية الانهزامية تتجاهل العناصر التي قومت فرديتها الهزيلة وجعلتها ذات (صفات خاصة). . إن استخدام الأساليب الإباحية لضمان العواطف الفردية على حساب المجتمعات الجماهيرية تدفعنا للتفكير في الواقع الذي يرى أن هذه المذاهب ليست إلا غرضا من الأغراض التي بدأت تستخدمها السياسة وتسخرها في كثير من الشعوب المسيطر عليها. . والتي تخضع لنفوذ استعمارها لكي تشغل بها الأفكار، مستغلة بذلك إعطاء المجال للعواطف الجنسية الجامحة! أن تأخذ كامل حريتها في تمثيل ما تهواه من التفكك والانحلال! لتفقد بذلك السيطرة على نفسها والتفكير في مصيرها وشؤون بلادها، كما أنها تدعو لانعدام المسؤولية في مختلف تطوراتها، وهذا ما فطن إليه الاستعمار أخيرا وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية. وبصورة خاصة في البلدان الأوربية. . التي بدأت أذهان مواطنيها تتفتح للتفكير في مصيرها ومستقبلها وضمان حرياتها ودعم كيانها واقتصادياتها، على الأسس التي تكفل لها الرخاء والتقدم. .

وقد وجد إلى الاستعمار الأمريكي والإنكليزي المجال الواسع في كثير من دول أوربا الغربية، تلك الدول التي أخذت تتجه اتجاها معاكسا للسياسة الاستعمارية. ولهذا الغرض وحده بذل الاستعمار الإنكليزي والأمريكي نشاطه لمعاكسة ذلك الاتجاه ومعاونة المذاهب

ص: 22

الانحلالية والعمل على ازدهارها. . . ومثال ذلك المذهب الوجودي الذي تبناه الاستعمار في فرنسا لشل الحركة الوطنية، ليتمكن من تفريق القوى الجماهيرية. . وصرفها عن التكلف والاتحاد للتعاون على توحيد الجهود والعمل الحثيث على رفع مستوى البلاد للمحافظة على استقلالها السياسي والاقتصادي، ولغرض طعن الحركات الشعبية. إن الاستعمار ليرقص طربا عندما يشاهد الأكثرية المتهوسة مدفوعة بمثل هذه (العقائد الفاسدة!) ليخلو له الجو لبث شباكه وربط البلاد بواسطة حكومات رجعية ضعيفة لتعمل بوحيه لتحقيق أمنيته، كما هو الحال الآن في فرنسا وكثير من الدول الشرقية خاصة منها البلاد العربية!

ولو نظرنا بإمعان إلى هاتيك المذاهب وأخص بالذكر المذهب الوجودي، لرأينا أن الغاية المنشودة، لا تعد وانعدام المسؤولية في كل ناحية من نواحي المجتمع! وجعل ذاك المجتمع أو تلك المجتمعات تتخبط بفوضى غاية في الفضاضة والبشاعة! لقتل النشاط الفكري ووأد القابليات الإنسانية، ومحو الذهنية الواعية وتوجيهها توجيها منافيا للقواعد الاجتماعية السليمة!

هذا هو المذهب الوجودي، وتلك هي الغايات الخبيثة من ورائه، أما أن هناك مذاهب فلسفية تعنى بفلسفة خاصة وتهدف إلى التعمق لمعرفة ما لا يمكن معرفته، فهذا أمر بات غير ميسور في جو مثل هذا الجو العالمي الذي لوثت السياسة آدابه ومعارفه، وأضحت حتى الفلسفات فيه غاية تسخر في خدمة السياسة وما تنشده من مطامع خسيسة!

ولست أعدو الحق إذا قلت أننا في عالم أنعدم فيه الضمير وأصبح لا يعرف غير كسب مغانمه مهما كلف ذلك من ثمن! على حساب الشعوب وملايين من البشر. . .

ولسنا ممن يروم نصب العداء وعرقلة أعمال العقل البشري ما دام يسعى لتحقيق غرض أمثل وعمل أسمى.

أما أن هذا العقل يسعى لأغراض لا تمت إلى الإنسانية والخير بعلة فمعناه أن العقل مجرم أو أنه مريض غارق في شذوذه وأفكاره الكسيحة التي كتب لها الموت قبل أن تكون الحياة رائدها.

كما أننا لا نتهاون في أي وقت من الأوقات لمحاسبة (الأنا) الهاربة من الميدان، أمام تأثير

ص: 23

النزعة المكبوتة التي لم تجد لها طريقا في الحياة الشعورية، والحقيقة أن علم التحليل النفسي الحديث قد أثبت مبلغ ما تؤثره هذه التصرفات وتخلفه من أمراض خطيرة تدفع المصابين بها إلى نهاية غاية في التعاسة والشقاء!

وقبل أن أختم هذه الكلمة أود أن ألفت نظر قراء (الرسالة) الغراء إلى كلمتي القادمة بعنوان (الوجودية في نظر التحليل النفسي!)

بغداد

شاكر السكري

ص: 24

‌امرأتان عظيمتان من دولة المغول

للدكتور محمد بهجت

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

وأما (ممتاز الزمان) أو (ممتاز محل)، وأسمها الأصلي أرجومان بانو بيجم ففارسية الأصل أيضا. ولدت عام 1594م أبوها عبد الحسن بن اعتماد الدولة الذي عرف فيما بعد باسم (آصف خان). التحق في صباه بخدمة (أكبر) وبلغ مركزا في عهد أبنه (جاهان جير) ثم أرفع مركز وهو رئيس وزراء الإمبراطورية، ومستشار الإمبراطور، ومندوبه في مفاوضاته الدبلوماتية، وحامل لقب يمين الدولة - في عهد (شاه جاهان) وقد رأينا فيما سبق كيف ساعد هذا الرجل (شاه جاهان) على اعتلاء العرش، وكيف أصبحت أبنته (ممتاز محل) إمبراطورة من بعد عمتها (نور جاهان)

تزوجت ممتاز الأمير (كرام) عام 1612م وعمرها إذ ذاك ثمانية عشر عاما. أما هو فكان يكبرها بأربع سنوات. فأحب كل منهما الآخر حبا عميقا، صادقا قويا لم ير التاريخ مثله رافقته في جميع غزواته، وقاسمته التشريد والحرمان، وذاقت معه حلاوة النصر ومرارة الهزيمة ولا سيما في أواخر عهد أبيه، فكانت بحق الزوجة المثالية، وكانت نعم الصديق والمرشد.

كانت ملكة جمال عصرها حتى لقد سماها بعض المؤرخين فينوس الشرق. ويظهر أن جمالها كانة ينطوي على رقة متناهية وأنوثة جارفة، وروح عذبة وادعة، وسريرة صافية نقية، وطبع هادئ وخلق رزين، وبذلك بزت عمتها التي اتسمت بالمكر والدهاء، وبالفروسية وغيرها مما يغلب في طبائع الرجال. ومع هذا الجمال الهادئ الوادع حباها الله عقلا راجحا، ورأيا صائبا، وقريحة وقادة، وذكاء نادرا في غير خبث أو دهاء. وما كان زوجها الإمبراطور يبت في شأن من شؤون الدولة الهامة إلا بعد أن يستشيرها، ولا يقدم على أمر جسيم إلا بعد الاستئناس برأيها وظلت حاملة لخاتم الملك مدة طويلة إلى أن نزلت عن تلك الوظيفة لأبيها، ومع ذلك فإن الدور الذي لعبته في سياسة ومصاير الإمبراطور لم يكن بارزا قويا ضخما مثل دور (نور جهان).

وكانت مثل عمتها سخية كريمة إلى أبعد حدود السخاء والكرم، لم تبغ من وراء ذلك شهرة

ص: 25

أو كسب أنصار وأعوان، بل فاقتها في الحدب على الفقير، ولأخذ بناصر المسكين والضعيف، حتى لكان قلبها الرقيق يتقطع حزنا وأسى لمجرد مشاهدة الفقراء والبؤساء، وتبادر لتوها بمسح جراحات نفوسهم ببلسم رحمتها، وندى كفها، ورفيع إنسانيتها، مما جعلها سيدة عصرها. وكم من مرة أنقذت أرواحا أمر الإمبراطور بإزهاقها في ساعة غضبه، وردتها على أصحابها سعيدة شاكرة.

ولا غرو إذا أحبها الإمبراطور ذلك الحب الجارف الفذ، وعندما اعتلى العرش زادت مظاهر حبه لها بما كان يغدقه عليها من الأموال والجواهر، وما كان يبديه لها من وافر المحبة والاحترام في الحفلات الخاصة والعامة. ويظهر أن شدة رغبته في إسعادها جعلته ينفق بسخاء. بل ويبذر تبذيرا شنيعا أثر في خزينة الإمبراطور أسوأ تأثير. ففي احتفاله الأول بعيد النيروز (عام 1628 م) أمر بعرشه الثمين فنصب في حديقة القصر اليانعة التي غصت بالزينة والتهاويل، وحفت به زوجته وأولاده والأمراء والأميرات وكبار الحاشية وسط مظاهر الترف والعظمة التي لم تشهد مثلها دول المغول، والتي كان يحرص عليها (شاه جاهان) كل الحرص، وأراد أن يبلغ بها النهاية. وعندئذ تعطف وأطلق يده بالعطاء فخص زوجته بنصف مليون ربية، وكل أبن من أبنائه الأربعة بمائتي ألف، وأبنته الكبرى (جاهان آرا) بمثلها، وابنته الصغرى (روشان آرا) بخمسين ألف ربية، هذا عدا ما أغدقه على حميه (آصف خان) وعلى بقية الحاشية.

ثم إنه اندفع في إنشاء عدد وافر من الأبنية العظيمة التي تعد من أجمل وأروع ما بنى في الهند، بل وفي العالم أجمع. ويظهر أنه حاول بذوقه الرفيع وموارد الإمبراطورية الواسعة أن يأتي بما لم تأته الأوائل، وأن تكون له قصور فخمة تتفق وعيشة الترف التي انتهجها وحرص على التوسع فيها لأبعد حدود التوسع. وكان من نتيجة ذلك، أنه أخلد إلى الدعة ولذا ذات العيش والرفاهية، ولم يعد يفكر في الغزوات وفي خوض غمار الحروب وإخضاع الثورات كما كان في صدر شبابه. أحب السلم والبناء وكرس لها كل وقته وجهوده وترك شؤون الإمبراطورية لوزرائه وأبنائه. ويظهر أن بعض المؤرخين ظلمه بقوله إنه كانت له القاجارية لم يكتف بهن بل راح يبحث عن خليلات أخر بين نساء أمرائه وحاشيته. ولكن يصعب تصديق مثل هذه الرواية إذا عرفنا مقدار حبه لزوجته

ص: 26

الجميلة المخلصة الوفية التي لم يقو على فراقها يوما واحدا، والتي لم يتزوج غيرها من بعد وفاتها. ثم إنه لم تشب سعادتهما الزوجية شائبة فكانا زوجين مثاليين.

وفي عهده تطلع البرتغاليون إلى اقتطاع بعض أملاك الإمبراطورية المغولية في شيء من القحة والجرأة، وقامت سفنهم بأعمال القرصنة ضد السفن الإسلامية، فضاق الإمبراطور بهم ذرعا. ازداد سخطه عليهم عندما احتجزوا جاريتين من جواري (ممتاز محل)، فأمر بطردهم من جميع أنحاء البلاد وتم له ذلك في وقت قصير بعد معارك طاحنة دمرت فيها جميع ممتلكاتهم.

ومع أن حياتهما الزوجية لم تزد على ثمانية عشر عاما فقد أنجبت منه (ممتاز) أربعة عشر ابنا وابنة. وفي عام 1630م بينما كان (شاه جاهان) منشغلا بإخضاع حاكم قوي يسمى (خان جاهان لودي) خرج عليه، ماتت (ممتاز محل) في مدينة برهان بور في ريعان شبابها وهي تضع مولودها الرابع عشر. وبموتها ماتت أحلام الإمبراطور العظيم، وتحطم صرح هنائه، وبدأت نقطة تحول خطيرة في حياته فلم يعد يعبأ بنعيم الحياة ولذاذاتها، حتى ولا بشؤون الإمبراطورية، وأصابه ذهول ووجوم لازماه إلى آخر أيام حياته. كان لا يفكر إلا في شريكة روحه، ومنية فؤاده يذكر طلوع الشمس (ممتازا) ويذكرها لكل غروب شمس، على حد قول الخنساء. وأخيرا فكر في أن يبني لها ضريحا يضم رفاتها المقدسة، ويعبر عن مقدار وفائه لها، بل كعبة يتجه إليها بقلبه وبصره، يطوف بها وهو يناجي بعض نفسه التي دفنت تحت أطباق الثرى، فحمل رفاتها بعد ستة أشهر من موتها إلى مدينة أكبر آباد حيث أقام لها جنازة ملكية فخمة ومأتما عظيما حافلا، وبعد ذلك نقلت إلى أكرا حيث دفنت في (تاج محل). ألهم الحزن والحب والوفاء الإمبراطور أن يخرج إلى الوجود تلك التحفة الفنية الرائعة التي تقص على العالم قصة حبه. أختار لها الخام الأبيض الصافي صفاء قلبها وروحها، وأضفى عليها من جمال الهندسة والزخرفة ما يتناسب مع جمال وجهها وجسدها. ثم بث في كل ذرة من ذراته كل ما أراد أن يقوله أو يعبر عنه، أو أحس به. ولذا لم يظهر ذلك البناء بديعا فحسب. . بل كان يهمس بشتى المعاني السلمية، وبمزيج من الأحاسيس الدقيقة العميقة. ومما زاد روعه قيامه وسط تلك الحديقة البديعة الرشيقة التي ما زالت على شكلها ورسمها الأصلي. لو أطلعت عليه في الضحى أو في ضوء القمر

ص: 27

لخلت أنك ترى ممتازا نفسها، بجمال جسمها وروحها مغلفة في غلالة من نور، باسمة حزينة. إنه تمجيد لجمال المرأة، ولكل ما فيها من صفات سامية.

اختار له الشاه موقعا جميلا على نهر جمنة الذي يخترق مدينة أكرا، وحشد له الصفوة من المهندسين والخطاطين والنحاتين والمزخرفين والصياغ، وكان أكثر هؤلاء من الأتراك والفرس، بل ومن الإيطاليين أيضا. وبعد دراسات واسعة أمر بالبدء في العمل عام 1631م. ثم فتح باب خزانته على مصراعيها وأخذ ينفق على إخراجه ببذخ عظيم. اشتغل فيه عشرون ألف عامل لمدة سبعة عشر عاما على حد قول بعض المؤرخين، ولكن يظهر أن الانتهاء من بعض الزخارف والمحسنات كان بعد ذلك التاريخ بدليل العبارة التالية التي نقرؤها على أحد أبوابه (كتبه الفقير الحقير أمانت خان الشيرازي عام 1613م - 1635 حيث انتهى منه).

لا يمكن لإنسان أن يدرك جمال هذا الضريح على حقيقته إلا إذا رآه عيانا ووقع تحت سحره المتجدد، وحين أن أذكر هنا أن الإمبراطور أصر على أن يكون أنفس تحفة، وأثمن أثر. . فكان باب المقصورة من الفضة، والستار الذي بداخلها من الذهب الخالص، تحليها أبدع النقوش، كما كان باب المقبرة نفسها من الفضة أيضا. وكان على القبر ستر من الحرير المرصع بصحائف اللؤلؤ، كما كانت تعلوه الماسة اليتيمة المعروفة باسم (كوهينور) وكال ذلك نهبه (الجات) عندما فتحوا أكرا.

جاء هذا الضريح أبدع ما أخرجه (شاه جاهان) من أبنية عظيمة لا نظير لها في العالم، وبعدما أتمه كان يجلس على الضفة الأخرى من النهر ساعات طويلة يتأمله في خشوع وحزن. ثم إنه فكر في أن يقيم لنفسه ضريحا في نفس المكان الذي أعتاد أن يجلس فيه، وشرع فعلا في البناء ، ويرى أساسه قائما على ضفة النهر تماما، وكان يزمع أن يبنيه من الرخام الأسود. وليته عاش حتى أتم هذا العمل الجميل الذي لا يستطيعه إلا (شاه جاهان) وفيما هو منصرف إلى البناء ثار عليه أبنه (علم جير) المعروف باسم (اورنك ذائب) الذي استولى على أكرا وأسر أباه الشيخ الوقور الحزين وحبسه في قصره الفاخر لا يخرج منه لمدة ثماني سنوات مات بعدها (1666م) والمعتقد أن الابن هاله ما رآه من إسراف والده، وانصرافه عن شؤون الإمبراطورية التي كانت على شفا جرف هار ففعل ما فعل ولكنه

ص: 28

كان يعامل أباه بكل ما هو جدير به من عطف واحترام. ولم يضمن عليه بكل ما كانت تصبو إليه نفسه.

وقفت طويلا أتأمل في أسى ذلك المكان البديع من العصر الذي قضى فيه الإمبراطور العظيم ثمانية أعوام في الأسر، تشرف عليه وترعاه ابنته المخلصة (روشان آرا) ثم خرجنا إلى شرفة تطل على النهر يرى منها التاج بعيدا إلى اليمين، ويتوسطها برج من الرخام الجميل، رائع الصنع ككل شيء في القصر، بل وكل شيء بناه (شاه جاهان) وبينما أنا ذاهل من روعة البناء والذكرى أشار الدليل بإصبعه إلى قطعة صغيرة من حجر كريم لونها أحمر داكن، لا يتجاوز طولها ثلاثة سنتمترات وعرضها سنتيمترا واحدا، مطعمة في جدار البرج، وطلب مني أن أنظر فيها ففعلت، وإذا بي أرى صورة التاج منعكسة عليها كاملة من ذلك البعد العظيم!!! وفي تلك اللحظة شعرت بقلبي ينقبض شفقة على ذلك الملك البائس الحزين الذي قضى ثماني سنوات يتطلع إلى قبر محبوبته من الشرفة ومن تلك القطعة الصغيرة!! بعد أن باعدوا بينه وبينها. . فياله من حب عظيم، ووفاءه نادر!! ومن يدري؟ فربما كان يتزود المسكين بآخر نظرة منه وهو يسلم روحه إلى بارئها.

دفنوه في قبر فخم إلى جانب قبرها تحت قبة التاج. . مع أنه لم يرد ذلك بدليل الضريح الذي وضع أساسه قبالة ضريحها على الضفة الأخرى للنهر. وكأنه لم يشأ أن يدنس هذا الهيكل المقدس جثمان آخر، حتى ولو كان جثمانه هو.

أثرت (ممتاز محل) بعقلها في تسيير دفة الإمبراطورية وأشرق جمال جسمها وروحها على العالم فترة قصيرة إشراقة الورد النظير، فكانت المثل الأعلى للمرأة والزوجة. وأخيرا أثر موتها الباكر في زوجها فخلد ذكرها بتحفة قلما يجود الزمان بمثلها، وأهدى إلى العالم أعظم وأجمل رمز للحب والوفاء والإخلاص.

محمد بهجت

مصلحة البساتين

ص: 29

‌2 - دعوة محمد

لتوماسي كارليل

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

إعجاز القرآن:

إن الذي حبب القرآن إلى قلب العربي، وجعله يترك دينه وما وجد عليه آباءه، وما ورثه من قديم الزمان من تقاليد وعادات، هي فضائله وأولاها فضيلة الإخلاص المحض الصراح، فهذه الفضيلة تعتبر منشأ كثير غيرها من الفضائل، لأن الإخلاص هو أساس النجاح في كل شيء. كما أن فيه نظرات نافذات إلى شؤون الحياة. وإنني أرى في القرآن ميزة خاصة وهي قدرته العظيمة على أن يوقع في أذهاننا كل ما جاء فيه ويجعلنا نؤخذ به، وهذا لا شك مرجعه إلى أن ما جاء به لا يقصد منه إلا إصلاح أمورنا والأخذ بأيدينا إلى الصراط السوي.

أنا لا أهتم كثيرا بما جاء به القرآن من الصلوات والتمجيد والتحميد، لأني أرى ما يقاربها في الإنجيل، ولكني لا أملك نفسي من شدة الإعجاب بما جاء به من نظر ينفذ إلى أسرار الكون ويواطن الأمور التي تهمنا جميعا، وخاصة فيما يحيط بنا من أسرار الكون العجيب الذي لا نهاية له. ذلك الكون الذي كان محمد إذا سئل أن يأتي بمعجزة قال. حسبكم بالكون معجزة عظمى (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) انظروا إلى السماوات وكيف بناها وزينها بالنجوم والكواكب وما لها من فروج. . وإلى الأرض التي خلقها لكم وبسطها وجعل لكم فيها سبلا تسلكون في مناكبها وتأكلون من نباتها وتتمتعون بخيراتها (والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا)، (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)، (أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي)، (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج)، (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع نضيد.

ص: 30

رزقا للعباد. وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج)، (أن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).

وهذا السحاب المسخر بين السماء والأرض يسير في الآفاق ثم ينزل مطرا فيحيي الأرض بعد موتها ويخرج منها أعنابا ونخيلا ونباتا مختلفا أكله. . أليس كل هذا آية دالة على وجود الله وقدرته. وأن القرآن من الله لا من صنع البشر. (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم)، (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كثفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون)، (وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها).

وهذه السفن وكثيرا ما يذكر السفن كأنها الجبال العظيمة المتحركة تمخر عباب البخار وتسير في موج كالجبال تنشر أجنحتها وتنتقل من مكان إلى مكان بما ينفع الناس (والفلك تجري في البحر بما ينفع الناس)، (والفلك تجري في البحر بأمره)، (وسخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)، (وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه) وهذه الأنعام المختلفة الأصناف خلقها لكم ترعى الكلأ، ثم تخرج لكم من بيبن الفرث والدم لبنا خالصا سائغا للشاربين. (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين)، (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين)، (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون).

وأنتم يا أبناء آدم يا من تدلون بقوتكم وتفاخرون بقدرتكم ماذا كنتم؟ إنكم لم تكونوا شيئا مذكورا، ثم خلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، ثم جعل لكم جمالا وقوة وعقلا، ثم

ص: 31

تهرمون وتضعفونوتهن عظامكم وتموتون، فإذا جاء يوم القيامة عدتم إلى حياة أخرى، أعادكم الرحمن الذي وهبكم الحياة الأولى. (. . . فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى. ثم تخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا)، (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) أليست كل هذه وغيرها آيات ناصعات دالة على قدرة الله وعلى أن هذا الكتاب من عند إله قوي قدير مدبر للكون، يعلم السر والظاهر ويدبر شؤون المخلوقات؟ إنه لا ينكر هذا إلا جاهل متعصب.

الجنة والنار في القرآن:

الجنة والنار من الموضوعات التي كثر ذكرها في القرآن وهما رمز لحقيقة أبدية، لم تصادف من حسن الذكر والعناية بالشأن كما صادفت في القرآن. لقد ذكر القرآن الجنة وملاذها ونعيمها، ومن هم الذين سيدخلونها (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا)، (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا. أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا)، (إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم. كلوا وأشربوا هنيئا بما كنتم تعملون. متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين. . . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون. يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم. ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون)، (في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين)، (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمرة لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم).

وذكر النار وشدة بأسها وعذابها تنكيلا بأهلها، ثم ذكر من هم الذين سيدخلونها. جهنم

ص: 32

المتغطية التي لا تشبع أبدا التي وقودها الناس والحجارة. (إذا القوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ)، (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا)، (إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى)، (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد).

وأما أصحابها فهم الأخسرون أعمالا) الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا).

وأنت ترى في أماكن كثيرة مقارنة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار وما يلقاه كل منها جزاء ما عمل (هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع). (وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية. لا تسمع فيها لاغية. فيها عين جارية. فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة)، (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم. خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم. إن هذا ما كنت به تمترون)، (إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين، كذلك وزوجناهم بحور عين، يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم).

ثم يصور قيام الساعة ويوم الحشر إذ يجتمع الناس ليأخذ كل منهم كتابه الذي أحصيت فيه أعماله (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول - فرحا مغتبطا بما نال من حسن الجزاء على ما قدمت يداه في الدنيا - هاؤم أقرءوا كتابيه)، (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول - حزينا مهموما قد فقد أمله في النجاة وعلم أنه حقت عليه كلمة العذاب - يا ليتني لم أوت كتابيه).

هذا اليوم الذي فيه تذهل الأم عن رضيعها والأب عن ابنه والزوج عن زوجته، بل يتمنى الإنسان الذي أخذ كتابه بشماله أن يفتدي نفسه بأمه وأبيه وصاحبته وأخيه وكل من له صلة به (يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)، (يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن. ولا يسأل حميم حميما. يبصرونهم يوم المجرد لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته

ص: 33

وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه)، (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه).

ماذا نرى من هذه الصور الواضحة والتصويرات القوية؟ وما المقصود من هذا الإسهاب في ذكر هذه الأشياء؟ إن شيئا واحدا هو المقصود بكل هذا التصوير العظيم للحقيقة الروحانية الكبرى أم الحقائق التي بنى عليها نظام المجتمع وحياة العالم. أعنى بها الواجب وجسامة أمره، لأنه أمر خطير جسيم والحياة بغير واجب شيء لا قيمة له ولا شأن إن كل هذه الأشياء التي ذكرت تبين لنا قيمة الإنسان في هذه الحياة وأنه لم يخلق هملا حقيرا - وهذه القيمة نأخذها من جسامة ما القي على عاتقه من واجبات هو مطالب بها محاسب عليها - بل إن لكل مهما حقر، عمل إنساني له خطره وقيمته، وله على هذا الجزاء والأجر (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما)، (من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) ويتجلى لنا هذا القول ظاهرا قويا في بعض أقوال محمد التي منها (إنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى). فمن كان عمله سيئا فله من السوء نتيجة أبدية - ألا وهي جهنم التي وصفت - ومن كان عمله صالحا فله ثمرة صلاحه السرمدية - وهي الجنة التي وعد المتقون. .

إن الإنسان قد يصل بأعماله إلى أعلى عليين فيصبح رفيقا للملائكة والصديقين والشهداء والصالحين. وقد يهبط بأعماله إلى الدرك الأسفل من الحياة، فيصير ممن طردهم الله من رحمته وحرم عليه نعيم جنته التي وعد بها أصحاب الأعمال الصالحة.

لقد كانت روح محمد ذلك الرجل الذي عاش في الصحراء، تلتهب بكل هذه الخواطر التي أوحى بها إليه ربه، بل إنها نقشت على قلبه هي وبقية أجزاء القرآن الأخرى بأحرف من نور فصهرت نفسه الآدمية وأحالتها إلى روحانية صافية سمت إلى درجات العلى. . . لم يكن محمد بالأناني ولا بالمستأثر بالخير دون سواه، فقد حاول أن يجعل من أصحابه صورة منه، ومن تابعيه قوما صالحين ليضمن لهم التلذذ في الدنيا والآخرة. فحاول مخلصا كل الإخلاص جادا كل الجد أن يصور ما يجول في نفسه من خير للناس ويوضح لهم حقائقه، فقدمه لهم في تلكم الصور الباهرة التي منها صورة الجنة والنار، بل واستطاع أن يبين لهم أي ثوب لبسته تلك الصور من الحقيقة، وأي قالب صبت فيه حتى جعل هذه الصور كلها

ص: 34

مقدسة عند المسلمين مصدقة عند عامتهم وخاصتهم لا يقبلون فيها جدلا ولا يرغبون في غيرها بديلا.

يأخذ البعض على الصورة التي رسمها القرآن للجنة والنار، تغلب الحسية والمادية ويقولون إن هذه الحسية قد أفقدت هذه الصور بهجتها وحدت من خيال السامع لأوصافها. ولكن فات هؤلاء أن الصور التي رسمها القرآن ليست حسية مادية - كما يقولون - ولكن القرآن روحاني سماوي فقد أقل جدا من إسناد الماديات والحسيات إلى ما صوره من صور وأن كل ما جاء فيه خاصا بهذه الصور وخاصة الجنة والنار إنما هو إيحاء وتلميح.

لكن العيب على هذا كله يقع على الشراح والمفسرين الذين قاموا بتفسير ما جاء في الكتاب المبين ، فهم الذين لم يتركوا متعة شهوية ولا لذة حسية إلا حاولوا أن يلحقوها بالجنة ظنا منهم أن هذا يجذب الناس إلى الأعمال الصالحة التي تؤدي إليها. كما لم يتركوا عذابا بدنيا ولا ألما حسيا إلا حاولوا إسناده إلى النار ظنا منهم أن هذا هو أشد رادع عن إتيان المنكرات.

إن القرآن جعل أكبر متع الجنة روحانية إذ قال: (وسيق الذين أتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) فأي شيء أحب إلى نفس الإنسان من الأمن والسلام، إنهما في نظر كل عاقل غاية ما يتمنى وأقصى ما يسعى إليه، ثم يقول في مكان آخر (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) فأي رذيلة وأي عمل أشد خبثا من الغل والحسد اللذين هما مصدر المصائب والمحن والآفات والنقم. إنهما أساس ما يصيب العالم من الكوارث والمهلكات والحروب الطاحنة فإذا نزع ما في الصدور من الغل والحسد، صارت الحياة أهنأ وألذ كأنما هي الجنة التي أرادها الله بل إن الجنة لا تفضلها في شيء.

إن السلام والأمن والتصافي كل هذه الأشياء حفل بها هذا الكتاب الذي جاء من لدن حكيم خبير.

عبد الموجود عبد الحافظ

ص: 35

‌التعليم في مصر

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

لا بد للباحث في حالة الإصلاح في بلدنا هذا من أن يقف بين يديه آن وآن برهة من الزمن ليراجع فيها الماضي وليدقق النظر في الحاضر تعرفا لما كان، وتلمسا لما يكون، لعله يتمكن بذكريات الماضي وعبر الحاضر من رسم خطة سليمة للمستقبل. والتعليم في مصر وهو من أهم أسباب نهضتها وأعظم عوامل الإصلاح فيها من الأمور التي يجب على المسئولين أن يراجعوا أنفسهم فيه بين فترة وأخرى حتى يتبينوا عيوبه في الماضي ليتخلصوا منها في الحاضر وفي المستقبل في سبيل تنشئة جيل جديد يستطيع النهوض بالبلاد النهوض المأمول.

إن السياسة العامة التي عليها الحكومات المتعاقبة من زمن بعيد تعنى عنايتها الكبرى بنشر التعليم والإكثار من المدارس والمعاهد أكثر من عنايتها بأي شيء آخر، حتى لقد تضاعف في السنوات العشر الأخيرة عدد المدارس، كما أصبحت لنا فعلا ثلاث جامعات تضم الآلاف من الطلاب. وهناك جامعة رابعة ينتظر أن تنهض بالعمل في العام القادم بعد أن كانت لدينا جامعة واحدة. ولا شك أن نشر العلم بين الناس عمل جليل مشكور بشرط أن يكون ذلك على أساس سليم مثمر، في نظام يؤدي إلى التكوين الصحيح الذي يعرف به كل متعلم واجبه نحو نفسه ونحو معهده ونحو مواطنيه ونحو بلاده. فهل عرف متعلمونا اليوم واجبهم الحق وأدوه بعض الأداء؟ الرد على ذلك فيما أذاعه وزير المعارف السابق في بيانه عن حالة المدارس الراهنة مما ملأ قلبه وقلب المصريين حسرة على ما أصاب معاهد التعليم من انتكاس وتدهور وفوضى يؤسف لها كل الأسف. وعندي أن الأمر في ذلك راجع إلى شيء واحد طالما نبهنا إليه في مقالاتنا في مجلة الرسالة الغراء التي لا تدخر وسعا في العمل للنهوض بأبناء هذه الأمة. . وفي تقاريرنا التي شرفنا برفعها إلى وزير المعارف منذ أكثر من ربع قرن من الزمان من سنة 1923 إلى اليوم. . بل وفي مؤلفنا (التعليم والمتطلعون في مصر) الذي سبق أن أصدرناه منذ ثلاثة عشر عاما والذي ذكرنا فيه في صراحة وجلاء في صفحات متعددة منه أن المدرسة المصرية أهملت وأجبها في تربية تلاميذها وتكوينهم تكوينا خلقيا صحيحا. . وأن واجبها يقتضيها أن توجه عنايتها الخاصة

ص: 36

إلى ذلك، لأن التكوين الخلقي هو الدعامة الحقيقية للتنشئة، وهو الذي ترعاه رعاية تامة كل الأمم في تكوين أبنائها، وهو الذي وجهنا إليه الله تبارك وتعالى في وصف نبيه الكريم بقوله (وإنك لعلى خلق عظيم) وهو الذي عنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

نبهت مرارا وتكررا في أكثر من ربع قرن من الزمان إلى ضرورة العناية بالتكوين الخلقي في المدارس، ورفعت التقرير تلو التقرير إلى المسئولين ناصحا ومنبها ومنذرا، ولكن الجميع كانوا يبحثون مندفعين وراء المناهج ووراء العلم فقد دون الأخلاق. ولقد جاء في تقريري المرفوع سنة 28 إلى وزير المعارف لما بعث يسأل كبار رجال التعليم عن المناهج ما يأتي:

يا صاحب المعالي: مشكلة التعليم في مصر مشكلة معقدة يهتم لها الشعب وتهتم لها الحكومة اهتمامها بأهم أمور الدولة؛ لأنها أساس من الأسس العامة في بناء النهضة، وفي نظري أن مسألة المناهج ليست أهم شعب تلك المشكلة؛ فهناك نظم التعليم وما فيها من عيوب، وهناك المدرسون وكفايتهم، وهناك التعليم في مجالس المديريات، وهناك الارتباط بين التعليميين الأولى والابتدائي، وهناك مسألة تشجيع الكفاءات الخ الخ). وجاء في هذا التقرير (لا أراني مغاليا إذا قلت إن روح المنهج الجديد هي هي بعينها روح المنهج القديم، فالمدرسة الابتدائية وكذا الثانوية لا زالت منفصلة تماما عن البيئة المحيطة بها. . ونظرية حشد الأدمغة بالمعلومات البعيدة عن الحياة لا زالت متجسمة في منهجها الجديد، ولا زال كثير من التلاميذ يبغضون المدرسة وذكرها وكل ما له مساس بها، ولم يعمل المنهج الجديد شيئا في سبيل تحويل وجهة نظر التلاميذ والأهلين عن الوظائف والتوظف الخ الخ)

وجاء في مؤلفي سابق الذكر صفحة 193تحت عنوان عيوب التعليم الحاضر ما يأتي:

(هذا والمعلم القديم الذي باشر العمل في المدارس المصرية منذ عشرين سنة ولا يزال يباشره إلى اليوم يشعر بالأسف العميق أيضا؛ إذ يحس أن روح الجد والعمل من ناحية التلاميذ قد انقلبت إلى روح استهتار وقلة اكتراث وكسل يصحبها ميل شديد إلى الأخذ بأكبر نصيب من المتعة واللذة وحياة الطراوة والهزل، حتى حار فيهم المربون وضاقوا بهم ذرعا واستولى اليأس من إصلاحهم على قلوب الكثيرين، وأصبحت الحالة لا تطاق بين

ص: 37

جدران المدارس بسبب ما يوجد من الاستهتار والرعونة والخروج على المبادئ الأساسية المرعية بين التلميذ ومعلمه - وأن الفوضى التي تنتاب المدارس أحيانا من خروج على النظام والآداب وإتلاف لبعض أثاث المدرسة مما يتناول كرامتها وكرامة أساتذتها لما تحزن له النفس ويهلع له القلب، وهذه حالة ستؤدي حتما إلى تدهور خلقي أشنع مما تقاسيه البلاد الآن إذا لم تجد اليد القوية الحازمة الرادعة التي تضع الأمور في نصابها فتعيد إلى المدرسة كرامتها وتجعل أساس المعاملة بين التلميذ وأستاذه ومدرسته الاحترام الحقيقي المشوب بالعطف الأبوي. . يقابله في الوقت نفسه حب بنوي) هذا إنذار قدمته منذ ثلاثة عشر عاما للمسئولين فلم يستمع له أحد، وقد تحقق اليوم مع الأسف الشديد ما تنبأت به. وعلاوة على ذلك فقد أفردت الباب الرابع كله في مؤلفي السابق الذكر لموضوع تكوين الأخلاق بالذات، وأبنت فيه كثيرا ما لتربية الأخلاق من قيم ونتائج، كما رسمت فيه خطة للإصلاح الخلقي.

وإني لا زلت أقرر - والحزن الذي ملأ قلب معالي وزير المعارف السابق وقلوبنا اليوم يملأ قلبي من سنين عديدة - أن الحالة المحزنة التي وصلت إليها المدرسة المصرية اليوم ترجع إلى إهمال العوامل النفسية والخلقية التي تؤثر أعظم التأثير في تكوين الناشئين. تلك العوامل التي نبهت إليها من زمن بعيد فلم يأبه لنصيحتي أحد فأصبحنا نقاسي اليوم نتائجها السيئة المريرة حائرين منزعجين مستفسرين متسائلين.

أمرتهمو أمري بمنعرج اللوا

فلم يستبينوا الشد إلا ضحى الغد

لقد أصبحنا اليوم على أبواب بحث جديد في حالة التعليم تجربة معالي حسونه باشا وزير المعارف وهو الرجل الذي يقدر الأخلاق الفاضلة حق قدرها، ويشرف عليه ذلك الرجل النابغة الذي كرس حياته لبناء مجد الوطن رفعة علي ماهر باشا الذي تفخر به مصر كلها والذي أفخر شخصيا بأنه من بين مئات الكبراء المفكرين الذي أهديت إليهم مؤلفي سابق الذكر (التعليم والمتعطلون في مصر) كان الرجل الوحيد الذي تكرم فقرأه بعناية وأثنى عليه الثناء الجميل فكان ذلك مما شجعني على أن أعاود الكرة في الكتابة اليوم في هذا الموضوع الجليل. وفقه الله ووفق جميع العاملين لما فيه خير هذه الأمة إنه سميع مجيب.

للبحث صلة

ص: 38

عبد الحميد فهمي مطر

ص: 39

‌رسالة الشعر

تكريم صيدح بدمشق

(زار دمشق في خريف عام 1951 شاعر المهجر الكبير الأستاذ جورج صيدح فأقام له - النادي العربي بدمشق - حفلة (تكريمية) كبرى جمعت العدد الأكبر من شعراء دمشق وأدبائها وشبابها المثقف، وها هي ذي قصيدة الأستاذ أنور العطار التي حيا بها صديقه الشاعر الأستاذ جورج صيدح باسم دمشق، تتلوها قصيدة المحتفى به في حفلة تكريمه)

دارة العرب

فلسطين! يا دنيا المجادة والحب

ويا مهبط الإلهام والحلم العذب

عليك سلام العرب يندى مواجعا

ويشرب دمع العين غربا إلى غرب

تطوف بك الذكرى ويهفو لك الهوى

كأني فيك الجسم خلوا من القلب

بنفسي وأهلي أرضها وسماءها

ويا لهفي للسهل منها وللهضب

حننا إليها وهي ملء ضلوعنا

كأن رؤاها حائمات على قرب

فديتك لم أمعنت في الهجر والقلى

وعشت على صدر وأسرفت في العتب

ولم رحت لا تلوين إلا على النوى

أمن أمل رحب إلى أمل نهب!

ديار الهوى لا زلت مخضرة المنى

ترف على مغناك فينانة العشب

أراك بعين الحب طيفا مجسدا

يقاسمني كربي ويغفر لي ذنبي

فهل لفنا الماضي خيالا على المدى

وألفنا كالهدب يعلق بالهدب

أيا روضة الأحباب لولاك ما ارتوت

جفوني، ولا روتك بالهاطل الصب

ولا طاف بي التذكار حلوا كأنما

أعيش به في عالم مونق رحب

خيالك في عيني وذكراك في فمي

وبي منك ما يغري المحب وما يصبي

لأنت هوى قلبي الذي مضه الهوى

وعلله بالوصل كالعاشق الصب

وما غبت عن طرفي وإن بعد المدى

ولكننا في الحب جنبا إلى جنب

وما ذكرتك النفس إلا تولهت

وهيمها برح فباتت بلالب

وإن بتذكار الديار علالة

تروح عنها ما تعاني من اللهب

يهيج جواها الشوق والشوق عاصف

كأن على أنفاسه زفرة النحب

ص: 40

فيا لك ذكرى ملؤها الوجد والأسى

مضرجة الأعطاف بالنوح والندب

دهتك من الدنيا كوارث جمة

وألقت بك الويلات في مزلق صعب

وما غير الأيام مهما تفاقمت

بأعظم مما ذقت من فادح الخطب

أيغدو مطاف المجد نهبا مقسما

ولا تغضب العرباء للنهب والسلب

وكانت إذا نابت ديارا أذلة

تفجرت الأرواح بالسمر والقضب

حنانيك ربي ما ليعرب لم تفق

وما خلقت إلا من الشب والهب

فما بالها إن هاجها البغي لم تهج

وإن قرعت بالسب نامت على السب

أحقا توانت عن منازلة العدا

أصدقا، وليت الصدق ضربا من الكذب

وهل غضب العادي ديار أحبتي

وقرت نفوس العرب طوعا على الغضب

فصبرا على البلوى وإن جل أمرها

وصبرا على الآلام والنوب الغلب

فقد ينجلي الليل الطويل عن السنا

وتزدهر الأعواد في المهمه الجدب

ويمرع قفر عمه المحل والبلى

كأنك منه في نماء وفي خصب

ويرجع وجه السلم جذلان ناظرا

بحرب تلف الأرض بالطعن والضرب

إذا لم يكن في السلم خير ونعمة

فما الخير إلا في ممارسة الحرب

فبعدا لمن قد عاش في الضعف والونى

وتبا لعان لا يفيق من الرعب

إذا دهمته الداهمات تلجلجت

به النفس وانهارت تقول له حسبي

ويا فوز من أسقى العدا أكؤس الردى

ولم يعي بالأيام نكبا على نكب

يظل شديد البأس بالحق جاهرا

ويختال في وشي المخيلة والعجب

يا حاديا إما تيممت أرضها

فعرج عليها وانثر الزهر في الدرب

أمل أصحابي إذا مر ركبهم

يرون بنثر الزهر ما يزدهي صحبي

وطوف رباع الخلد تطواف عاشق

حسير الأماني وابك بالمدمع السكب

وغن الحمى حتى يروق لك الحمى

وينصت مشتاقا إلى نغم الركب

أطل وقفة في الدار ولثم ترابها

فمن حقها أن تلصق الخد بالترب

وناج دماء أهرقت في رحابها

وسلسل لها وجدي وصور لها حبي

وقل يا دارا مضها لاعج الأسى

وأسلمها الباغي إلى الهم والكرب

ص: 41

أيا طول شجوى إن خلصت إلى العدا

ولم ترجعي يا دارة العرب للعرب

ويا (صيدحا) أهدى فلسطين قلبه

ورد الأذى عنها بمرقمه العضب

وقدم أغلى الشعر مهرا لنصرها

وما شعره إلا من اللؤلؤ الرطب

إليك أودي بعض ما تستحقه

رفيفا من التحنان والنغم العذب

وأنت جدير بالدراري فليتني

أصوغ بياني من سنا الأنجم الشهب

ألست الذي ناجى الخلود بشعره

ورفرف صداحا على الشرق والغرب

وعيتك في أذني نشيدا محببا

تغلغل حلوا في السويداء من قلبي

أنور العطار

ص: 42

‌يا مهد الصبا أين الصدي

أم النسور، تفرسي وتأملي

أعرفت وجه القادم المتهلل؟

هذا فتاك إلى متى نكرانه

أو ليس في لبد سمات الأجدل

ما عابه الجسم المهيض تبدلت

قسماته والقلب لم يتبدل

هو من بزاة العرب جشمه السرى

وأحاله صرف الزمان الحول

شرع القوادم للجهاد أسنة

عشرا، فإن يجهل عليه يجهل

ولوى الجناح على الخوافي عله

يخفي ضآلة ريشه المتهدل

الله يا مهد الصبا، أين الصدى

يحكى متى أعيت لهاة البلبل؟

غيري ذكرت وقوفه وبكاءه

يا ليتني بين الدخول فحومل!

أغشى الحدائق أستميل غصونها

فتميل عني كالرعيل المجفل

وأخالس الأزهار بعض طيورها

فتصدني وتبنها في الشمأل

ذهلت عن الصب الذي رضع الهوى

من ثديها، والصب لما يذهل

أعرضت عنها ثم جئت فأعرضت

حاشاك يا وطني ترد السهم لي!

وأنا الذي قربت روحي للحمى

وسجدت في محرابه والهيكل

بدم الشباب خضبت ورد رياضه

ورجعت أغسلها بدمعي المسبل

ما زلت أستجديه حتى رق لي

(بردى) ومد ذراعه في الجدول

غنى وثنى شاديا ومرحبا

أيكون من خطباء هذا المحفل

لولاك يا نادي العروبة لم أقم

من عثرة الآمال جد مؤمل

حييت فيك أحبتي فأجازني

نثر (المقفع) بعد شعر (الأخطل)

فكأنني أبصرت وجه (أمية)

وسمعت (معبد) منشدا و (الموصلي)

لامست في الأدب المخدر يقظة

فتحت نواظره على المستقبل

بشرى لعشاق البيان أزفها

نفض التراب عن التراث المهمل

وتحفزت (لغة الكتاب) لوثبة

هدفت إلى النهج الجديد الأفضل

قد يصلح (العطار) من شعرائكم

ما أفسدته سياسة المستعمل

ويقوم من علمائكم من يلتقي

وهو الأخير في زمانه بالأول

إني دخلت على عكاظ تطفلا

لولا قيام العذر لم أتطفل

ص: 43

شق التغرب في الفصاحة شقة

بيني وبين الناطقين المثل

فإذا أردت الشعر يجمع بيننا

أرسلته عيا فلم أسترسل

أمضي وقلبي في دمشق رهينة

أودعتها قلب الثرى والجندل

لغفرت للأم الجراح لو أنها

شفعت بأختي من قضاء منزل

في جيرة الشهداء حلت منزلا

وأظنها أخذت تهيئ منزلي

جورج صيدح

ص: 44

‌الكتب

الأفق الأعلى في دراسة الهواء الجوي

تأليف الأستاذ عمر كامل الوكيل بك

ناظر مدرسة التعاون الإنساني الثانوية بدمنهور 206 صفحة من القطع الكبير. . الثمن 50 قرشا.

للأستاذ عبد القادر حميدة

قبل أن أتناول الحديث عن هذا المؤلف الذي بين يدي. . يجدر بي أن أتحدث قليلا عن البلد لا بنى يقدم بين الفينة والفينة شاعرا عبقريا. . أو ناثرا فذا. . أو عالما جليلا. . أو رساما راسخا. . أو زجالا بارعا. . منهم من أتيحت له الفرصة فخرج بفنه على الناس. . ومنهم من تصدت له يد القدر فحجبت إنتاجه عن أعين الناظرين. .

وذلك البلد أعني به دمنهور. . دمنهور التي أهدت إلى دولة الشعر - بالأمس القريب - زعيما من أقدر زعمائه. . وقائدا من أبر قادته. . أهدت المرحوم أحمد محرم. . إلى قراءة العربية عامة. . ومتذوقي الشعر خاصة. . فوثب وثبته. . وصال صولته. . فاتجهت نحوه الأبصار. . وكانت بمثابة الأشعة النفاذة. . كشفت خبايا نفسه. . وأظهرت معالم أعماقه. . فبدت إنسانيته الرائعة تتجلى بها فرائد نظمه. . وليس لدي ما أقوله عنه أبلغ مما قاله هو في نفسه من قصيدة يخاطب فيها أمه التي كانت تحاول أن تصرفه عن النظم.

أماه لولا الشعر أنظم دره

ما كان لي هذا الثناء الطيب

سارت قصائده فأشرق مشرق

بسنا كواكبه وأغرب مغرب

هذا لساني ما يفل حسامه

إن فل في الروع الحسام الأشطب

كم شاعر ذرب المقالة غالب

غادرته في القوم وهو مغلب

تلك هي سطور في أحمد محرم. . أو أحمد محرم في سطور. . وسأتناول البحث والاستقصاء عنه في مقال خاص منفرد - في القريب - على صفحات الرسالة الزاهرة. . رحمه الله وحيا دمنهور التي أنجبته. . وأهدت غيره من الشعراء أمثال: محمد محمود زيتون، إبراهيم محمد نجا - أبو النصر عبد الرحمن (شاعر الزعيم) - علي قضيب.

ص: 45

دمنهور التي اقتحمت في ميدان القصة الفنية القصيرة المركزة حشدا من الأقلام. . فملأت بطون الصحف اليومية والأسبوعية بالنادر من الأفكار. . وبالسلس من الأسلوب. . أذكر من أصحاب هذه الأقلام على سبيل المثال لا الحصر: محمد محمود زيتون، إسماعيل الحبروك - محمد محمود دوارة - أمين يوسف غراب - عبد المعطي المسيري - محمد علي الليثي. . ودونهم كثير.

دمنهور التي قدمت في العام الماضي رسامها العبقري. . بهاء الدين الصاوي. . بلوحاته الرائعة. . ومعرضه الفريد. . الذي يشهد بروعته وإبداعه كل من شاهده في دار الأوبرا الملكية. . وتشهد عليه المداليات التي نالها.

دمنهور التي قدمت كل هؤلاء - والتي تحفل بكثيرين دونهم ضربوا في شتى نواحي الفن. . وساهموا بنصيب وافر في نهضته - تقدم لنا اليوم. . الأستاذ عمر كامل الوكيل بك تقدمه لنا في كتابه (الأفق الأعلى في دراسة الهواء الجوي) والكتاب كما ينم عنه عنوانه. . مؤلف علمي يبحث في الكون. . بيد أن القارئ لهذا السفر يمكنه أن يأتي بتعبير آخر فيقول (إنه مؤلف علمي أدبي) ذلك لأنه جمع بين غزارة المادة. . ورقة الأسلوب. . على غير ما تعودنا من مؤلفي الكتب العلمية حيث يتقيدون بأمانة النقل والإصلاحات الموروثة. . فتغدو مؤلفاتهم وقد افتقرت إلى أهم العناصر أثرا في إرغام الطالب المطلع على المتابعة والتقصي. . ذلك لأنها خلت من عنصر التشويق. . وهو القوة الممغنطة المتبادلة بين القارئ والمقروء. . والتي ما من شك في أن - أي القارئ - سيقع تحت تأثيرها فيجذب إليه - قسرا - والتأثير سابق للجذب - ليأتي على محتوياته. ويلتهم كل ما يحويه بين دفتيه دراسة وتحميصا. .!! ومؤلف هذا الكتاب - كما بدا لي خلال مناقشة أثرناها معا حول هذا المؤلف - ممن شعروا بهذا النقص فجاء كتابه فقيرا منه. . متخما باللفتات السريعة المشوقة. . غنيا بالعبارة الرصينة الدسمة. . وقد حرص على أن يمهد للشيء قبل أن يقدمه. . فاستطاع بذلك أن يشق به الطريق معبدا إلى العقول والإفهام.

أقرأ له (ص) حين أراد أن يقدم دراسة عن السماء: (تلك هي السماء قبلة الدعاء. وباب الرجاء. . وملهمة الفلاسفة والشعراء. . ومستقر الملائكة ومعراج الأنبياء. . هبط منها الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهو في حالة بالغة حد الحيرة والقلق ليقول

ص: 46

له مطمئنا ومعلما (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق) ويقول في فقرة أخرى. (وللسماء يتطلع المظلوم شاكيا. . والمريض راجيا. . والظالم مستغفرا تائبا. . فماذا أنت أيتها السماء؟ القوى والعاجز والصحيح والعليل. . والشاعر والعاشق. . والعابد الزاهد والمجرم الأثيم. . كلهم يحنون إليك ويتقسمون في رحابك. . ويلتمسون العطف والرحمة عند بابك. . ولعمري أن لهم فيك جميل التسلية والعزاء. . حيث وجدوا لديك كنزا من المعرفة ومتسعا من الرحمة والحنان. . وخلاصا من الشدة والبلاء. . فليس بعجيب أن يولي الناس وجوههم صوب السماء ابتغاء الدعاء. . أو طالبين المتعة الروحية أو المزيد من العلم والعرفان. ولكن العجيب أن يسير بعض الناس مكبا على وجهه مغمض العينين (وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون).

هذا أيها القارئ من ناحية الأسلوب والتمهيد. . وهما كما ترى هاملان أساسيان شيد على قاعدتيهما صرح ذلك البناء الكامل. . وإني لا أعدو الحقيقة إذا قلت إنهما الحافزان القويان على إيقاظ الشعور في نفس القارئ. . ودفعه دفعا إلى الاستزادة من تلك المتعة الفكرية ليخلق في عالم فسيح أطباقه وأغواره أدب. . .!

أما فيما يتعلق بموضوعات الكتاب فيكفيك أن تعرف أن مؤلفه صرف وقتا طويلا يدرس ويبحث ثم يستقرئ ويستنتج. . وقلما أغفل شاردة أو واردة إلا وتناولها بالفحص على ضوء معلوماته ودراساته. . وبهذا جاء الكتاب ناضجا من كل وجه. وقد استعان في تأليفه بشذرات قليلة من أقوال ونظريات واقتراحات كتبها بعض علماء الطبيعة وفلاسفتها من أمثال: نبيولا - سير جيمس جينز صاحب كتاب (الكون الغامض) - هن رسل ، - ليتلون - ج. مللر - ب. م. بك ، - ملتون. وقد عقب على نظرياتهم واقتراحاتهم بآراء زادتها وضوحا وجلاء وقربتها إلى المدارك سهلة مستساغة. وفي الكتاب فصول كثيرة ممتعة طرقها المؤلف خليقة بأن يجد القارئ فيها لذة وفكرا ومعرفة. . وحسبي أن أذكر منها: الكون - السماء - المجموعة الشمسية - الأرض - الشمس - القمر - المادة وتركيبها - الهواء - مولد الهواء - مكونات الهواء - ارتياد مناطق الجو - مناطق الجو - الحركة الموجية - النيازك أو الشهب - اللاسلكي - الصواريخ. . الخ. . . وقد وفق الكاتب في تناولها توفيقا يدعو إلى الإعجاب. . أما بعد: فهذا كتاب يعتبر في

ص: 47

مجموعة موسوعة علمية. . وقد كان بودي أن أوفيه حقه من الثناء لولا حرصي على ألا تخرج كلمتي من حيز (التقديم) إلى نطاق (الدعاية). . وإني لأدعو كل قارئ يدفعه النهم العلمي إلى التنقيب عن الجديد من الكتب. . أدعوه إلى مطالعته لما في محتوياته أكثر من سبب يدعو إلى ذلك. . وإني لأشعر بكثير من الفخر والغبطة إذ أقدم هذا المؤلف إلى من يريد أن يقرأه. . وإذا أعرفهم بعالم من دمنهور ينبغي أن يعرفوه ويقرءوا له. . كما أناشد الأستاذ الكبير عمر بك. أن يعجل بمولد (الجزء الثاني) من تلك السلسلة الطبيعية ليتسنى لكثير من الناس الإفادة منه في فهم المسائل التي فاتهم تفهمها في موسوعات العلوم لكثرة ما استغلق على القارئين فهمه من مسائلها

دمنهور

عبد القادر حميدة

ص: 48

‌البريد الآبي

كلمة - سائر - وما يحيط فيها

اطلعت على ما نشر في العددين 960 و967 من مجلة الرسالة الغراء حول كلمة سائر فأقول:

1 -

جاء في الصفحة 64 من كتاب (فروق حقي) أن (السائر بمعنى الباقي. قال الشيخ تقي الدين لفظ سائر بمعنى الجميع مردود عند أهل اللغة معدود من غلطة العامة وأشباههم من الخاصة. . والالتفات إلى قول الجوهري صاحب اللغة سائر الناس جميعهم فإنه لا يقبل ما ينفرد به. والحق أن كلا من المعنيين أي الجميع والباقي ثابت لغة كما ذهب إليه الجم الغفير من الأذكياء. والجمع الكثير من الفضلاء هو السؤر بالهمز وهي بقية الشراب وغيره.

2 -

وورد في الصفحة 23 من كتاب البحاثة اللغوي - محمد

عبد الجواد ما نصه: سائر (أطالت درة الغواص وشرحها في

هذه الكلمة ولم يخرجا نتيجة واضحة. وقد وقفت على كلمة

موجزة للبغدادي في ذيل الفصيح ص 4 أثبتها هنا لوضوحها

وجليل فائدتها وهي: جاء سائر القوم أي بقيتهم مأخوذ من

سؤر الإناء وقال الجوهري سائر القوم معناه جميعهم وذكره

في باب الياء. أقول أن الصحيح أن سائر بمعنى جميع ولا

يبعد أن يستعمل بمعنى جميع البقية ويكون من ذوات الواو

مأخوذا من السور لإحاطته. 1هـ والثمرة أن سائرا يستعمل

أحيانا بمعنى الجميع وأحيانا بمعنى البقية كلها. . والمقام كفيل

بإظهار المراد فتخطئة أحد الاستعمالين خطأ).

ص: 49

3 -

وذكر في هامش الصفحة 160 من شرح السيد الشريف

علي السراجية مع حاشية العلامة محمد شاه الفناري نقلا عن

تهذيب اللغات للإمام النوري وتهذيب اللغة لأبي منصور

الأزهري وشرح أدب الكتاب لأبي منصور الجواليقي ما أعيد

نقله بالحرف الواحد (قال الإمام النوري في تهذيب اللغات قال

الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى: استعمال سائر بمعنى

الجميع مردود عند أهل اللغة معدود في غلط العامة وأشباههم

من الخاصة. قال أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة: أهل

اللغة اتفقوا على أن معنى سائر الباقي قال الشيخ ولا التفات

إلى قول الجوهري صاحب اللغة سائر الناس جميعهم فإنه ممن

لا يقبل ما ينفرد به وقد حكم عليه بالغلط في هذا من وجهين:

أحدهما في تفسير ذلك بالجميع، والثاني في أنه ذكره في فصل

(سر) وحقه أن يذكر في فصل (سائر) لأته من السؤر بالهمزة

وهو بقية الشرب وغيره - إلى هنا كلامه. فعلى هذا التقرير

لا يناسب أن يقول عن سائر ما عداه بهذا المقام لأن المتبادر

منه على تقدير كون السائر بمعنى الباقي نفس الشيء بل

المناسب أن يقول عما عداه كما لا يخفى لكن استعمال السائر

ص: 50

بمعنى الجميع سائغ ذائع، والغزالي استعمل السائر بمعنى

الجميع في مواضع كثيرة ولم ينفرد بها الجوهري بل وافقه

عليه الإمام أبو منصور الجواليقي في أول كتاب شرح أدب

الكتاب والشارح المحقق قدس سره تبعهما واستعمل السائر

بمعنى الجميع ههنا ومعنى قوله عن سائر ما عداه عن جميع

ما عداه).

هذا ولا أريد الآن أن أستقصي أكثر من ذلك.

أحمد الظاهر

خطآن لا يغتفران

وقعت الأهرام في خطأين اثنين لا يحسن السكوت عليهما وإن كان بعض كبار الكتاب ينساق انسياقا إليهما:

فأما الخطأ الأول فقد وقع في عنوان مقالها المنشور في 12 - 2 - 1952 وهو (معنى الكبرياء القومي) أي بتذكير كلمة (الكبرياء) مع أنها مؤنثة. وبما أنه لم يشر إلى تصحيح هذا الخطأ أحد من حضرات من نصبوا أنفسهم لهذا الغرض النبيل فإني أستاذهم في التنبيه إليه مشيرا إلى قول التنزيل الحكيم (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) فقد أنث الكبرياء حتى مع وجود فاصل.

وأما الخطأ الآخر الذي كان حافزا لي على تصحيح الخطأ الأول فقد وقع في مقال الأهرام المنشور في يوم 23 - 2 - 1952 إذ وردت بهذه العبارة (إن حكومة المحافظين لا تكاد تنقل قدما إلا وتؤخر قدما). وهذا التعبير خاطئ لا يفيد معنى التردد الذي تعنيه الأهرام بل هو يفيد العكس تماما فتقديم قدم وتأخير القدم الأخرى يفيد لإقدام لا التردد. . . لأن السير الطبيعي يقتضي حتما تقديم رجل وتأخير الرجل الأخرى، فكيف يستعار هذا السير

ص: 51

الطبيعي للتردد؟ لعل الأهرام ظنت أن كلمة (أخرى) الواردة بالمثل المعروف (أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى) نعت لكلمة (رجلا) المحذوفة، وهذا الظن أيضا يجانب الصواب، والصحيح أن كلمة (أخرى) نعت لكلمة (تارة) المحذوفة، والتقدير (أراك تقدم رجلا تارة وتؤخرها تارة أخرى). وكان حريا بالأهرام إذن أن تقول (لا تكاد تنقل قدما إلا وتؤخرها) وأذكر أني نبهت إلى هذا الخطأ الذي وقع في كلمة نشرتها الأهرام لكاتب ألمعي بها منذ أكثر من عام. وإني وإن كنت من أنصار التيسير لا يمكن أن أستسيغ هذا الخطأ الكبير.

عبد الحميد عمر

لمن هذا الشعر؟

كتب الأستاذ محمد منصور خضر في الرسالة الغراء في العدد 973 يسأل عن قائل هذا الشعر

نديمي غير منسوب

إلي شيء من الحيف

ويذكر أنه وجد في كتب التصوف ومنها طبقات الشعراني منسوبا إلى الحلاج في حين أني نسبته إلى الحسين الضحاك في كتابي (نديم الخلفاء) سلسلة أقرأ عدد فبراير سنة 1952 ويطالبني بأن أذكر روايتي له.

وإني أشكر للأستاذ محمد منصور هذا الاهتمام وتلك العناية بالبحث والاستقصاء، وقبل أن أشير إلى المصادر التي اعتمدت عليها أذكر أنني قلت في أحد فصول الكتاب عن مجموع شعره أن كثيرا من شعر الحسين بن الضحاك نسب إلى غيره.

وليس هذا الشعر الذي ذكره الأستاذ محمد منصور هو وحده المتنازع فيه ففي الكتاب أيضا شعر وقع فيه التنازع.

وأول مصدر رويت فيه الأبيات - التي يسأل عنها - للحسين بن الضحاك هو كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني في ترجمته في الجزء السادس طبعة دار الكتب. والمصدر الثاني محاضرات الراغب الأصفهاني ج1 ص333. والمصدر الثالث ديوان أبي نواس رواية حمزة بن الحسين الأصفهاني المطبوع في ص7 ولم يذكر إلا البيت الأول وقال عنه: مما أضيف إلى أبي نواس من شعر العراقيين قول الحسين بن الضحاك الخليع. . الخ

ص: 52

والمصدر الرابع هو كتاب أخبار أبي نواس لأبن منظور ج1 ص218 وفيه نسب الأبيات لأبي نواس ثم قال: وتروى هذه الأبيات للحسين بن الضحاك الخليع.

هذا من ناحية الرواية والمصادر - أما من ناحية التحقيق فإن الحسين بن الضحاك توفي سنة 250هـ وأبا الفرج صاحب الأغاني ولد سنة 284هـ والحلاج قتل سنة 309 فأبو الفرج إذن كانت سنة خمسة وعشرين عاما يوم مقتل الحلاج فهو معاصر له. وما يسمونها فتنة الحلاج كانت مشهورة لا تخفى على أبي الفرج لأنه كان متصلا برجال الدولة ومولعا برواية الشعر والأخبار.

وللتوفيق بين ما ذكره الشعراني في طبقاته وكتب التصوف وبين ما ذكرته كتب الأدب أقول إن الحلاج كان يحفظ هذه الأبيات فتمثل بها حينما خرج يتبختر في قيده، وذلك منه ومن غير كان كثير الحدوث. وظاهر أن الأبيات وقصتها هي لصاحب الهمزية في وصف الخمر ألصق وبنسبتها إليه أولى وعلى كل حال هناك جملة لا تحصى من الشعر العربي متنازعة. . وعندي من أمثلتها مئات النماذج. ويجد الأستاذ محمد خضر مثلها مئات.

عبد الستار أحمد فراج

ص: 53

‌القصص

انتحار

للكاتب الفرنسي جورج مورفير

سان رومانو! كم هو بلد جميل رائع! فيه يدرك الإنسان المعنى الذي تنطوي عليه كلمات فلوبير: هناك بقاع في العالم يود المرء لجمالها وروعتها لو يضمها إلى صدره ضمة الوجد الحنين. . .

بيد أن سان رومانو وا أسفاه تشبه أيضا ثمرة لذة فواحة لا يجسر امرؤ على تذوقها مخافة الموت الذي يقطر من عصيرها.

ولسوء الحظ لا تستطيع مناظرها الساحرة الخلابة أن تدخل السرور والبهجة على قلوب الناس. . . ففي جنبات المدينة تقابلك الوجوه الذاهلة والملامح اليائسة والعيون الحيرى الآسفة. . . وفي كل مكان منها تطالعك كلمات السخط والتبرم: ألا ليتني وضعت على رقم 7!. . . آه من هذا الأحمر الملعون، لقد كسب عشر مرات متوالية، وبالرغم من ذلك وضعت على الأسود.

ولم يكن في البلد كله من يلقى أدنى التفاتة إلى المناظر الساحرة الأخاذة التي تنبث فيه. كانت الأرض عندهم (روليت) ضخمة، والسماء صفحة كتب عليها أرقام 30 و40و50

وقد كنت أنا أيضا ضحية هذا البلد الخطير؛ إذ خسرت مبلغا لم يكن جد كبير، غير أنه كان كل ما أملك. وأفقت من نومي ذات صباح كيلا أجد معي سوى اثني عشر فرنك؛ ولذلك اختبرت مسدسي فألفيته يزخر بست رصاصات قواتل كانت في ظني كافية لتمزيق رأس فارغ كرأسي.

وفتحت نافذتي. كان (صباحي الأخير) رائعا جميعا. . فالسماء زرقاء صافية، والأمواج خضراء هادئة، والنسيم يعبق بشذى زهر البرتقال والبنفسج.

وغادرت المنزل إلى الشاطئ لأملأ صدري المنفعل بهذا النسيم النقي الفواح. . . بيد أني كررت عائدا بعد أن سرت قليلا، إذ أحسست جوعا شديدا، وفي أثناء عودتي ابتعت صحيفة سان رومانو المحلية، وهي صحيفة مثيرة، مجللة بالسواد كأنها رسالة حزينة.

ورحت أقلب صفحاتها أثناء الطعام فاسترعى نظري عنوان (انتحارات الأسبوع) فجال

ص: 54

بخاطري دون أدنى انفعال: (هنا سيعلن خبر موتي أنا الآخر بعد أيام قلائل) بل وددت لو أشكر سلفا هذا الباب الذي سيعلن نعي في هذه الصحيفة وعلقت عيناي بخبر انفراد بعلامة الصليب في صدره فقرأت فيه (وجدت بالأمس جثة جوسو جاكوبسن - أمريكي الجنس معلقة في إحدى شجرات النخيل الذي ينمو على الشرفة وقد وجد في جيبه مبلغ ثلاثة آلاف فرنك طبعا).

جوسو جاكوبسن؟ أني أعرفه. بل لقد خسرنا كل نقودنا جنبا إلى جنب. وبالأمس القريب حينما خسر آخر فلس معه رأيته يتنهد في عنف وحسرة، ثم أمسك بيدي وهزها بحرارة ونظر إلي بحزن ثم ابتسم وقال بصوت خفيض (لقد دمرت. . . دمرت تماما. . . وداعا يا صديقي). . . ومن ثم ذهب فشنق نفسه.

إذن، كيف أمكن أن يعثروا في جيبه على ثلاثة آلاف فرنك وماذا تعني بحق الشيطان هذه الكلمة (طبعا).

ولاح لي قبس كشف لي الأمر وأبان الطريق. . يالي من غبي! كيف لم أفطن إلى ذلك من قبل. . . لقد دس - ولا ريب - أصحاب الكازينو هذا المال في جيبه لتظليل الناس وحملهم على الاعتقاد أن انتحاره لا يرجع ألبته إلى خسارته بل إلى أسباب شخصية ودوافع نفسية.

وعلى ضوء هذا الاكتشاف الفجائي رحت أفكر! كم يا ترى يدسون في جيبي إذا حزمت أمري وانتحرت على مقربة من الكازينو؟ لقد خسرت بقدر ما خسر جاكوبسن. . . وسربت إلى رأسي فكرة بأسرع مما كان مقدرا أن تسرب الرصاصة.

ثم واصلت تناول الطعام بقلب ثابت أو يكاد يكون ثابتا؛ وذهبت بعدئذ إلى صاحب الفندق وأكدت له أني سأدفع له حسابه في المساء ثم أضفت:

هذا إذا بقيت حيا. .

- إنا نثق فيك كل الثقة يا سيدي.

- إذن فأقرضني مائة فرنك حتى المساء. . . إني أنتظر وصول مال من باريس.

- بكل سرور يا سيدي

وقضيت سحابة النهار على الشاطئ حيث وضعت - بروية وإمعان - خطة انتحار يعود

ص: 55

علي بربح وفير.

وفي مساء هذا اليوم بعينه ذهبت إلى الكازينو مرتديا أجمل أثوابي وقد أبنت للملأ أني جئت أجازف بآخر ما بقي لي. . . وأني سأموت هما وغما إن لم أريح.

وطارت المائة فرنك. . . فبدا علي الانزعاج في بادئ الأمر. . . ثم انقلبت أتململ غاضبا حنقا. . . وأخيرا بدأت كالذاهل المأخوذ.

ورثي لحالي شاب قامت بيني وبينه معرفة، وسألني ما الخبر فأنبأته بنبرات حزين يائسة أني أفلست، فأخذ يواسيني ويخفف عني ثم قال:

- لا تيئس فما زلت تملك نفقات السفر إلى وطنك. إن الكازينو - في هذه الحال - يتطوع بـ. . . فقاطعته ببأس قائلا:

إن السفر الذي أزمعه لا يحتاج إلى (تذكرة) فنظر إلي مشدوها وقال:

لا أحسبك جادا في هذا القول. . . آمل ألا تكون قد جننت.

فظللت صامتا، ثم أدرت له ظهري ورحت أجيل بصري ذاهلا في أرجاء المكان بضع دقائق. . وقد لمحت أصحاب (الكازينو) يراقبونني من طرف خفي وانفرط عقد اللاعبين في الساعة الحادية عشرة، فقفوت أثر الخارجين بوجه يحمل علائم الذهول واليأس والتفكير.

وكانت الليلة رائعة جميلة والقمر بدراً يلقي بأشعته الفضية الناعمة على الأرض الشجراء والبحر الأزرق الساكن. وبلغ سمعي أصوات كمان حنون ينوح نوح عاشقة يائسة وجعلت وجهتي - وقد أجمعت أمري - حرجا قريبا من الكازينو، بقعة هادئة تعد بحق أصلح مكان لتمثيل الدور الذي أزمعته؛ وكان ثمة تمثال من الرخام لغانية من غواني البحر بدا كأنه يبتسم وأنا أوشك أن أقوم بدوري.

ودوت فجأة طلقتان ناريتان، وسقطت على أحد المقاعد في وضع مهمل وانتظرت. واقتربت مني أصوات وسقطت عيني المسبلتين ظلال المقبلين.

- يا الهي! إنه هو. . .

- يا للمسكين! لقد قضى على نفسه برصاصتين معا وسمعت بعد ذلك أحد أصحاب الكازينو يقول:

ص: 56

- هلم. . . أسرع قبل أن يرانا أحد. تبا له من شيطان! أما وجد غير هذا المكان!

ثم انحنى فوقي فشعرت كأنما أندس شيء في جيبي.

هنالك ارتعدت قليلا. . . وتأوهت مرتين، ثم فتحت عيني ببطيء شديد، ونهضت من مضجعي بعناية وحرص ناظرا في تساؤل وعجب إلى الجمع الحاشد حولي. وفي عدم اكتراث محنق أخذت قبعتي والمسدس الذي كان ما يزال يلفظ الدخان من فوهته وانتصبت واقفا.

وكان المحتشدون ينظرون إلي كأني حيوان غريب الخلقة وقد امتزجت نظراتهم بالعجب والاستفهام. . . وقلت في غضب:

- عجبا لكم يا قوم! ألا يستطيع المرء قتل نفسه بعيدا عن فضول الناس؟ لم نسمع بمثل هذا والله

واقترب مني أحد أصحاب الكازينو ينتفض من شدة الغضب وقال في تلعثم واضطراب:

- سيدي الفاضل. . . أرجو. . . هل. . . إذا. . . ماذا تقصد بهذه المهزلة؟ سأقودك إلى البوليس لتعكيرك الأمن.

- لتعكيري الأمن؟ قول ظريف سيغدو ولا مراء حديث الموسم.

قلت ذلك ثم أوليت المجمع ظهري واتخذت سبيلي ضاحكا من هؤلاء الناس الذين اجتمعوا بدافع الفضول وحب الاستطلاع.

وعدت إلى الفندق فسددت ديوني من الآلاف الثلاثة التي أخذتها مقابل قيامي بدور الانتحار. وقد بذلت إدارة الكازينو أقصى الجهود لاستعادة المال، ولكني لم أكن قد فكرت قط في إعادته إذ اعتبرت أن هذا المال من حقي، وأيقنت فضلا عن ذلك أن ثلاثة آلاف فرنك لا تبدو ثمنا كبيرا لانتحاري.

وقد عمدت إلى إغاظتهم ببقائي في سان رومانو بضعة أيام أخر أعيش عيشة الترف والبذخ ثم رحلت بعدها إلى باريس. وقد سمعت أن المبلغ الذي دس في جيبي قد رد إلى الكازينو أضعافا مضاعفة.

م. ع

ص: 57