المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 975 - بتاريخ: 10 - 03 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٧٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 975

- بتاريخ: 10 - 03 - 1952

ص: -1

‌لا تخافوا (الأخوان) لأنهم يخافون الله

أحمد حسن الزيات

الفكر واللغة

للأستاذ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

اللغة ابتكار من إبداع ما وصل إليه الإنسان، وأداة تمتاز بكثير من الإتقان والأحكام، ووسيلة ناجحة من وسائل الترابط والتفاهم بين الأفراد والجماعات. وهي ظاهرة متشعبة النواحي والأطراف قد أثارت ألواناً شتى من البحث والدراسة. وإذا تركنا جانباً ما يتصل بها من دراسات أدبية ونحوية وصرفية، فإنها وجهت إلى بحوث أخرى متعددة.

فعرض لها علماء وظائف الأعضاء ليعرفوا كيف تؤدى، ويبينوا أعضاء النطق والصوت، ويوسعوا في اختصار الجهاز العضوي للغة. وعالجها علماء النفس لما رأوا من صلة وثيقة بين العمل الذهني والدلالات اللغوية. وعنى بها علماء الإجتماع مبينين نشأنها وتطورها، ومقارنين بين اللغات البدائية واللغات المتحضرة، ومعلنين أن اللغة ظاهرة إجتماعية تخضع لما تخضع له الظواهر الاجتماعية من عوامل ومؤثرات، ونظر إلى اللغة أخيراً على أنها جزء من التأريخ يسجل الماضي، ويحكى الأحداث، بل هي نفسها قطعة تاريخية متحركة يجب دراستها وبحث معالمها.

ودون أن نعرض لهذه النواحي المتعددة، نود فقط أن نوجه النظر إلى ما بين الفكر واللغة من صلة. وفي هذه الصلة ما يلقي كثيراً من الضوء على مناقشاتنا وعملنا المجمعي، وخاصة فيما يتصل بالمصطلحات ووضعها، والمترادفات وقيمتها، وألفاظ الحضارة وتجددها، والتعبيرات المبتكرة ومدى الحاجة إليها.

ولا شك في أن المعنى وثيق الصلة باللفظ الذي يؤديه، لأنه ثوبه ووعاؤه، وبدونه يضل ويصبح كأن لا وجود له. فلا يمكن تبادله بين الأفراد، بل ولا استحضاره في ذهن الفرد الواحد. وقديما قالوا: التفكير حديث نفسي. ومن هنا ارتبط التفكير باللغة، وبالأخص في صوره السامية كالحكم والاستدلال.

ص: 1

وإذا تأملنا الفكر واللغة وجدنا أن كل واحد منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به. فاللغة في نشأتها تخضع إلى مدى بعيد للنشاط الذهني والميول والاتجاهات النفسية. وما لغة الأطفال إلا حركات وإشارات تبعث عليها غرائز واستعدادات، يدفع الطفل يده إلى الأمام مشيراً إلى التقدم إلى الخلف، أو مشيراً إلى التراجع، وكل تلك حركات تعبر عن انفعالات داخلية. ولا تلبث هذه الحركات أن تتحول إلى إشارات، والإشارات إلى أصوات، والأصوات إلى ألفاظ وجمل. وبذا تنشأ في تدرجها الطبيعي، وتقوم على أساس سيكولوجي.

لم يؤثر الفكر في نشأة اللغة فحسب، بل ساهم أيضاً بنصيب ملحوظ في حفظها والإبقاء عليها. ذلك لأن تعلم اللغة بين أبناء الجيل الواحد يعتمد على السماع والحفظ، وتبادلها بين الأجيال المتلاحقة لا سبيل إليه إلا بالنقل والرواية. ودعامة ذلك كله الذاكرة والحافظة، ولولا الذاكرة ما كانت لغة كما يقولون. وقد يكون في الكتابة ما يرفع عن كاهلنا اليوم بعض عبء الاحتفاظ باللغة، ولكن كم من جماعات عرفت لها لغات تداولتها وتوراثتها دون أن يكون للكتابة فيها أثر ملحوظ، وإنما عولت على الذاكرة وحدها. وكلنا يعلم أن قوة التذكر أوضح في حياة البداوة منها في حياة الحضر، لأن المتحضرين في اعتمادهم على القلم والقرطاس يضعفون الذاكرة ويقللون استخدامها. على أن الكتابة نفسها لا يمكن أن تتعلم وتكتسب إلا بقسط ضروري من الحفظ والتذكر.

وللحياة الفكرية أثر آخر في نهضة اللغة ونموها، إذ لولا تجدد المعاني وتباينها ما تجددث الألفاظ، ولا تنوعت التراكيب. ولولا عمق الفكرة وتحددها ما كانت دقة اللفظ وتخيره. وكم يشعر المتكلم أو الكاتب أن اللفظ أو التعبير الذي استعمله لا يؤدي تماماً المعنى الذي يريده، فيحاول البحث عن غيره ليكون أكثر ملاءمة. وثروة اللغات تتفاوت فيما بينها تبعاً لنشاط الحياة الفكرية وتقدم العلوم والفنون. ولسنا في حاجة إلى أن نشير إلى أن عصر ازدهار اليونانية قد اقترن بتلك النهضة الفلسفية والفنية التي عرفتها أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. وقد لوحظ أيضاً أن أسماء الذوات تغلب أسماء المعاني في اللغات البدائية، لأن البدائيين لا يلجئون كثيراً إلى التعميم والتجريد. وتساهم فكرة الزمن بنصيب أوضح في لغة المتحضرين منها في لغة الشعوب الهمجية. وتبادل العلوم والفنون بين الأمم لا يقتصر على تبادل الأفكار، بل يصاحبه أيضاً تبادل بعض الألفاظ والأساليب الدالة

ص: 2

عليها، وكثيراً ما كشفت هذه عن أصل تلك.

وللغة بدورها أثر قوى في التفكير، فهي إلى مدى بعيد مادته ودعامته؛ ذلك لأن الدال والمدلول متلازمان، وقل أن يستحضر أحدهما في الذهن بدون الآخر. وقد سبق لأرسطوا أن قال تلك الجملة المشهورة التي قدر لها أن تحيا مع الزمن، وهي: ليس ثمة تفكير بدون صور ذهنية. وفي مقدمة هذه الصور تجيء طبعا الرموز اللغوية. ولم يحاول أحد نقض هذه القضية إلا في القرن التاسع عشر، يوم أن جاءت مدرسة فورتسبورج، وذهبت إلى أن هناك ضرباً من التفكير مجرداً من تلك الصور الذهنية، كتفكير الأطفال الذي تمليه طائفة من الميول والغرائز، أو كتلك اللمحات والخواطر التي تمر بالذهن عابرة وكأنها معنى مجرد من كل كساء.

ودون أن نقف طويلا إزاء هذين الرأيين المتقابلين، نود أن نلاحظ فقط أن الحدس ليس إلا ضرباً من التفكير. وهناك ضروب أخرى ذات حلقات لا يمكن ربط بعضها ببعض إلا بواسطة الرموز اللغوية.

على أن الحدس نفسه قد يستصحب لفظاً أو ألفاظاً، ولذا قالوا إن المرء يفكر في كلامه قبل أن يتكلم عن تفكيره إن المرء يفكر في كلامه قبل أن يتكلم عن تفكيره.

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فالتفكير السامي أو التفكير المنطقي الذي هو سلسلة من الحكم والاستدلال لا غنى له عن اللفظ والعبارة.

والألفاظ فوق هذا هي الوسيلة لتحديد الأفكار وتميز بعضها من البعض. وإذا كانت المدلولات متنوعة، فأن اللازم أن تتنوع الدوال تبعاً لها. ولا شك في أن الأفكار متفاوتة معنى ومدلولا، عموماً وخصوصاً، جنساً ونوعاً. ولولا الألفاظ ما أمكن تقسيمها وتصنيفها، ولا تحليلها وتركيبها. وآية الفكر الدقيق تعبير دقيق يؤديه. والعبارة المحكمة تؤدي عادة إلى تفكير محكم، وبذا تنوعت العلوم، وتحددت موضوعاتها، وامتاز كل منها بمصطلحاته. وما العلم إلا لغة أحكم وضعها.

واللغة أخيراً سبيل تداول الأفكار وتبادلها، فهي التي تنقلها من فرد إلى فرد، ومن جماعة إلى جماعة، وإلا بقيت وقفاً على أصحابها ومحبوسة في أذهانهم. وإذا كان التفكير الفردي

ص: 3

يخضع للمجتمع ويتأثر به، فإن للغة دخلاً كبيراً في هذا الخضوع والتأثير. ومن أهم مزايا اللغة قدرتها على أداء المعاني وتيسير تبادلها، وفضل لغة على أخرى يرجع في قسط كبير إلى اتساع تداولها وكثرة المتخاطبين بها.

في وسعنا أن نقرر إذن أنه إذا كانت اللغة ثمرة للتفكير، فإنها هي أيضاً شرط أساسي لوجوده وتحققه على وجه كامل. هذه هي صلة الفكر باللغة، وهي فيما يبدو صلة تفاعل وتلازم، وقد ترتبت عليها آثار عدة، يعنينا أن نشير إلى اثنين منها فقط. أولهما أنه يمكن أن تدرس الحياة العقلية في ضوء الحياة اللغوية. فمثلاً ضعف النطق أو بطؤه يؤذن بضعف ذهني. والأطفال لا يعبرون عن أحكامهم عادة بجملة، وإنما يكتفون بكلمة أو بعض كلمة. ومن هنا نشأ علم النفس اللغوي الذي يرمي إلى تفسير بعض الظواهر النفسية في ضوء الدراسات اللغوية. ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما حاوله (دي شوسير) بالنسبة للغة الكبار، و (بيابجيه) بالنسبة للغة الأطفال، و (ليفي بريل) بالنسبة للجماعات البدائية. وإذا كانت الدراسات السيكولوجية قد أفادت كثيراً في الخمسين سنة الأخيرة من تقدم البيولوجيا والفسيولوجيا والباثولوجيا، فإنها استمدت أيضاً في هذه الفترة مادة لا بأس بها من الدراسات اللغوية.

وفي تاريخ الأدب ظواهر لها دلالتها السيكولوجية، فيلاحظ أن أزدهار الآداب يقترن دائماً بازدهار العلم والحياة العقلية، وأنه حين يعتدي على الحرية الفكرية ويعم الظلم والطغيان ينتشر الغموض والرمز في الألفاظ والأساليب. ولتلك الحرية الفكرية التي نعم بها الأثينيون القدامى شأن في وضوح لغتهم وصفائها.

وإذا كانت المترادفات تُعد ثروة لغوية في بعض العصور، فإنها في عصور أخرى تعتبر سرفاً لا محل له ولا داعي إليه.

ومن جهة أخرى شغلت علاقة الفكر باللغة المناطقة منذ أن وضع علم المنطق إلى اليوم. ونحن نعرف أن منطق أرسطو نبت في جو البيان والجدل السقسطائي، وكان ذا صلة بالنحو اليوناني، بل والعربي. ولأمر ما نطلق كلمة (لوجوس) اليونانية على العقل واللغة على السواء. وقد درج المناطقة منذ أرسطو على أن يعتبروا دراسة الألفاظ والقضايا مقدمة ضرورية لدراسة البرهنة والاستدلال. ولم يقنع المناطقة المحدثون بهذا، بل شاءوا أن

ص: 4

يحصروا المعاني كلها، ويجمعوا (ألف وباء) الفكر الإنساني، ويضعوا لكل معنى رمزاً خاصاً به، وبذا تتكون اللغة العلمية العالمية.

قال بذلك (ليبنتز)، فتنبأ بالمنطق الرياضي، وسبق عصره بنحو قرنين، وأثار لأول مرة فكرة اللغة العالمية. ولا غرابة فقد كانت اللاتينية لغة العلم والعلماء لعهده. هذا إلى أنه كان عالمي النزعة إن في العلم أو في السياسة. وفي هذه اللغة المنشودة ما يقرب المسافة بين بني الإنسان، وما يحول دون أخطاء كثيرة؛ لأن الخطأ في الحكم والاستدلال كثيراً ما ينشأ عن خلاف لفظي أو غموض في التعبير؛ ويوم يتوفر لكل معنى رمز خاص به نستطيع أن نقول: لنحسب، بدل أن نقول: لنبرهن.

وقد عادت فكرة اللغة العالمية إلى الظهور مرة أخرى قوية متحفزة في أول هذا القرن؛ وكان من أكبر مناصريها رياضي وفيلسوف فرنسي بارع انتزع فجأة في الحرب الكبرى الأولى، وهو (كونورا) الذي كان يرمي إلى تهذيب الاسبرنتو وتكوين (الإبدو) تلك اللغة الدولية التي تفرض نفسها على جميع العقول وجميع الشعوب. وقد وضع في ذلك معجماً خاصاً، أخذ عنه كثيراً الأستاذ لالاند في معجمه الفلسفي المشهور.

والرياضة أقل العلوم حاجة إلى الألفاظ والتراكيب، لأنها أبعدها مدى في العموم والتجريد. فإذا ما حصرت حقائقها، واختير لكل حقيقة رمز معين أمكن تكوين لغة رياضية كاملة. وعلى غرار هذه اللغة الرياضية يمكن وضع اللغة العالمية. وقد كان كونورا فوق تخصصه في المنطق والرياضة ملماً بأطراف الدراسات اللغوية المقارنة، فأخذ يبحث عن وصول عامة يمكن أن تتخذ أساساً للغة الدولية، وحاول فعلاً أن يكوّن هذه اللغة ويعد لها نحوها الخاص.

ولم تلبث محاولته هذه أن تثير ثائرة علماء الاجتماع الفرنسيين، وعلى رأسهم دركايم. فلم يرتضوا ذلك المنطق الإنساني الذي يقود إلى لغة عالمية، وقرروا أن هناك أسرا لغوية بقدر ما هناك من مجتمعات إنسانية. وسواء أصبحت الأسس التي بني عليها كونورا مقترحه أم لم تصح، فإن فكرة اللغة الدولية قد ازدادت في ربع القرن الأخيرة قوة ووضوحا. ولعل في سرعة الاتصال العالمي اليوم ما ييسر سبلها. ويتيح لها الفرصة لتخرج من دائرة الرغبة والأمل إلى عالم الحقيقة والوجود

ص: 5

في هذا العرض السريع ما يلقى بعض الضوء على عملنا المجمعي ومنه نستخلص دروسا نافعة. وفي مقدمتها أن الأصل في المصطلح العلمي أن يؤدي بلفظ واحد، كي يتوفر لكل معنى رمزه اللغوي الخاص به. فلنتحاش إذن الدوال المتعددة للمدلول الواحد منعا لتكرار لا داعي إليه، وربما أدى إلى شيء من اللبس. والمصطلح المجمع عليه وإن لم يؤد المعنى المراد تماما سينتهي بأن يستقر ويستحضر مدلوله كلما ذكر.

ونحن أحرص ما نكون على أن نؤدي المعنى العلمي الجديد بلفظ عربي، فإن تعذر ذلك فلا ضير في التعريب، لا سيما إذا كانت الكلمة المعربة ذات صبغة عالمية، وهذا هو المنحى العلمي في مختلف اللغات. ومن ذا الذي يذكر مذهب ليبتنز مثلا ولا يذكر معه كلمة مناد إنا نراها في اللغات الأوربية على اختلافها دون تغيير أو تبديل.

وما يقال عن الألفاظ يمكن أن يقال عن الأساليب. فإذا كانت المعاني المفردة تجدد فإن المعاني المركبة التي تعتمد على الرابطة والإسناد تتجدد أيضاً. وإذا كنا نحس بحاجة إلى ألفاظ جديدة، فأنا في حاجة أيضاً إلى أساليب جديدة. قد تصادف هذه الأساليب من الرفض والمعارضة ما تصادفه الألفاظ المبتكرة، فتستنكر حينا وترد حينا آخر. بيد أنا إذا كنا في حل من ابتكار اللفظ فلا غضاضة علينا في ابتكار الأسلوب، ما دام يلتقي مع الأوضاع العربية. والفكر، في خلقه وابتكاره، في حركته وتنوعه، يتطلب دون انقطاع من الألفاظ والأساليب ما يؤدي المعاني المختلفة والمتنوعة.

وأخيراً إنا نعيش في عصر من أخص خصائصه محاولة الاقتصاد في المجهود الجسمي والذهني وذلك لتزاحم الأعمال وضيق الوقت، وكلنا يود أن ينتج أكبر كمية ممكنة في أقصر وقت ممكن. وأنفع الحقائق ما يمكن توصيله عن ايسر السبل وأقربها. وإذا كان العلم قد اتسع صدره قديما للدراسات الطويلة والمجلدات الضخمة، فإنه يعنى اليوم بإحكام المعنى والمبنى. وإذا كان الأدب يباهى فيما مضى بالسجع والترادف والكناية والمجاز، فإنه أضحى يحرص الحرص كله على السهولة والجزالة والدقة والوضوح

هذه هي روح العصر، وتلك هي مقتضياته، ولا سبيل للخروج عليها

إبراهيم بيومي مدكور

-

ص: 6

‌2 - التعليم في مصر

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

من المسلم به أن المجتمع لا يستقيم أمره ولا يحيا الحياة الهادئة المطمئنة ولا يرقى الرقي المنشود إلا إذا سادت بين أفراده فضائل معينة؛ حددتها الأديان السماوية واجتمع عليها علماء الأخلاق. . كفضائل الصدق والأمانة والشجاعة والاستقامة ورعاية حقوق الغير والإيثار والتضحية الخ. وفي مثل هذا المجتمع الفاضل يقدر الأشخاص بأعمالهم، فيعرف لكل ذي فضل فضله وينال المعتدي جزاء عدوانه، وتتجلى فيه الرحمة فيعطف القوى على الضعيف ويبر الغني الفقير ويرحم الكبير الصغير ويوقر الصغير الكبير. وكلما ازداد الناس إيماناً بهذه النواحي ازدادت المودة بينهم وازداد التعاون وقلت البغضاء وزال التشاحن، وبذا تشيع المحبة والأخوة العامة بين الناس وتسود بينهم الطمأنينة وينتشر الأمن والسلام وهو أشرف ما تصبو إليه البشرية جميعها.

ولقد أصبح هذا المجتمع الفاضل حلماً من الأحلام في هذه الأيام؛ إذ لم يعد الناس في مجتمعنا الحالي يقدرون تلك الفضائل بعد أن غمرتهم موجة المادية الجائحة المصحوبة بالأثرة وحب الذات والمتعة التي رمتنا بها المدنية الغريبة، فاستوى في الأنانية والحرص على المادة ومجافاة الخير الكبير والصغير والغني والفقير، وأصبحنا نسمع أموراً كثيرة مستهجنة عن متعلمينا وخريجي جامعاتنا ومدارسنا لم يكن لنا بها عهد في الماضي، ولم يعرفها آباؤنا ولا أجدادنا منذ نصف قرن من الزمان. فلكم سمعنا في السنين الأخيرة عن طبيب يعمل جاداً لاستنزاف أموال مرضاه فقراء أو أغنياء قبل أن يعمل على استئصال أمراضهم، والمريض المسكين الذي يرتمي في أحضان طبيبه لينقذه مما يعانيه لابد له أن يثق بهذا الطبيب وأن يصدق كل ما يقرره له؛ باذلاً كل ما في وسعه لإرضائه عله ينال الشفاء على يديه، وكم تكون الصدمة قوية مدمرة إذا عرف أن طبيبه يطب لجيبه قبل أن يطب لإراحة هذا المسكين من علته! وكم سمعنا عن محام احتال للحصول على المال بمختلف الحيل الشيطانية التي لا تقع طائلة عقوبات قوانيننا الوضعية الناقصة. ناهيك بما يعمله لإغراء المتقاضين بعضهم ببعض، وبث الفتنة خصوصاً بين المتشاحنين من أفراد الأسرة الواحدة للدخول بهم في قضايا يبتز فيها أموالهم. وكم سمعنا عن مهندس أو موظف

ص: 8

كبير يأخذ الرشوة جهاراً نهاراً ليغلب عطاء شركة على أخرى أو ليعمل عملاً في تغليب باطل على حق. وكم قرأنا في الصحف والمجلات عن نكبات نزلت بالناس أو خسارات فادحة أصابت موارد الحكومة بسبب التزوير والاختلاسات! ثم إن هذه النكبات الكثيرة التي تقع على رأس الشعب والحكومة نفسها لم تعد تقع من أفراد معدودين غير متعلمين كما كان الحال منذ نصف قرن من الزمان قبل تغلغل روح الفساد الغربي في صفوفنا. . ولكنها مع الأسف تعددت وتكررت من كثيرين من متعلمي مدارسنا وجامعاتنا حتى أصبحت لا نطاق ولا تحتمل وأصبح العلاج عسيراً. ثم هو يزداد كل يوم عسراً على عسر كلما تراخينا في وضع الخطة السلمية لإيقاف هذا التيار المزعج المدمر لحياة الأمة وكيانها. فبالله عليك كيف يطمئن الشعب على حقوقه وهذه حال متعلميه أو حاكميه! وبالله عليك هل تجدي القوانين التي تقننها الدولة وتنشرها حبراً على ورق كل يوم لحفظ الحقوق بين الناس وصون العهود واحترام العقود ما دام الكثيرون من المشرفين على تنفيذ تلك القوانين لا يأبهون بها.

ولا يرعونها إلا بقدر ما يملأون به بطونهم ويحشون به جيوبهم؟ وكيف يستطيع والحالة هذه معلم مهما كان قديرا أن يؤدي واجبه في هذا المجتمع الفاسد؟ سيضطره مثل هذا المجتمع إلى أن يجاريه ليعيش فيصبح مثلاً سيئاً لتلاميذه مخالفة أعماله لأقواله، ومهما ألقى على تلاميذه من تعاليم ونصائح ومهما ذكر لهم من عظات وأمثال ومهما ذكرهم بقول العرب (تجوع الحرة ولا تأكل بثديها) فإنهم سيتشككون في تلك الأقوال والأمثال ولا يؤمنون بها ويستحلون لأنفسهم ما ينافيها، وسيضطر مثل هذا المجتمع المعلم إلى أن ينسى أو يتناسى كل ما حفظه في كتبه وتلقاه على أساتذته عن نبذ الرذائل والتحلي بالفضائل، وسيعمل كما يعمل غيره مكرها أو راضياً وسط زوابع الغلاء المرير للحصول على المال الذي يقوم بأوده هو وأسرته من غير وجهه المشروع. وستكون تعاليمه لتلاميذه تعاليم فارغة تافهة لا روح فيها ولا جدية لأنها تصدر منه عن قلب غير مؤمن بها؛ فإذا طالبهم بالصدق في القول والأمانة في العمل شعر في صميم قلبه بالرياء الذي قد يحز في قلبه بادئ ذي بدء؛ ثم يصيره التكرار مع الأسف عادة فيه. وإذا طالبهم بالصراحة والشجاعة والمثابرة على العمل وإتقانه في سبيل النجاح ناقص نفسه لأنه لم يعد يؤمن بأن هذه

ص: 9

الفضائل توصل إلى النجاح، لأنه يرى بعيني رأسه ويسمع بأذنه كل يوم أن للنجاح في الحياة سبيلا آخر غير السبيل التحلي بهذه الفضائل، ويحس التلاميذ الأبناء وهم مرهفو الحس أن أستاذهم رجل متناقض ويملأ الشك فيه نفوسهم، وهم إذ يحسون بذلك لا يفيدونمنه ولا يجدون جدوى في الاستماع إليه. ثم هم بعد ذلك يدخلون إلى الامتحان جهلاء خاوي الوفاض من كل شيء إلا من سلاح واحد مرن عليه الكثيرون وهو سلاح الغش الذي استشرى الآن بعد أن بدأ منذ سنين همساً في الامتحانات العامة والخاصة فلم يعد يقاومه الآن من الممتحنين إلا القليلون الذين يعرضون أنفسهم من جراء ذلك للنكبات. وكيف يبقى للأساتذة في نفوس تلاميذهم بعد ذلك أية مكانه عرفوا أنهم من جهة لا يفيدون منهم في تلقي العلم إلا قليلا، وأن لديهم من جهة أخرى طرقا غير مشروعة تقودهم إلى النجاح المطلوب في الامتحانات وسائر أمور الحياة! إنهم بعد هذا كله لا يستشعرون احتراما لمعاهدهم ولا لأساتذتهم! أليس هذا هو الحال في معظم مدارسنا؟ أليس هذا هو الحال الذي يشكوه كل أستاذ وكل ناظر وكل عميد! يالها من غمرة ترتجف له الأبدان وتنفطر لها القلوب؟ إنها غمرة الصلف والأنانية والمادية التي رمانا بها الغرب فكسحت أمامها كل فضيلة وأماتت الضمائر وأبادت كل خير! ثم ماذا يجدي تغيير نظم الامتحانات وجعل نقل التلاميذ من فرقة أخرى في ذمة المعلم بعد أن وضح أمامنا ما آل إليه المجتمع من فساد في الذمم حتى كاد يكون من المستحيل على العلم أن يجعل الذمة أساسا لحكمة على هؤلاء الأبناء المساكين! لقد دعونا إلى هذا التغبير في نظم الامتحانات من زمن بعيد وفي مؤلفنا (التعليم والمتعطلون في مصر) الذي صدر منذ ثلاثة عشر عاما؛ ولكن الحال الخلقية وقتذاك لم تكن تدهورت هذا التدهور، وكان هناك نوع من الحياء ومحاسبة الضمير. أما اليوم والحال أصبح كما وصفنا فإن الأمر لا يصبح أن يقتصر على قوانين فقط تكتب على الورق ليكون تنفيذها هباء بل ليكون ضارا. . ولكن الأمر يتطلب علاجا حاسماً ذا وجهين: وجه سريع يتعلق بالتلاميذ فيحال بينهم وبين الحزبية والمخربين وموظفي الدولة والرجال العاملين فيها فتنظف أداة الحكم ويحاسب كل منهم حسابا دقيقا على ما ارتكبوا وعلى ما جنوا على الأخلاق وبخاصة أولئك الذين مصوا دم الشعب وأثروا طفرة على حسابه. وفي تطبيق قانون الكسب غير المشروع الجزاء الأوفى إذا طبق تطبيقا

ص: 10

عادلا نزيها - أما الوجه الثاني من العلاج فهو الذي تعتمد عليه الأمم في تكوينها لأبنائها وناشئتها، وهو علاوة على ما يتطلبه من خطة حازمة وطيدة يتطلب كذلك أن يؤمن به الجميع وأن يتعاون عليه الجميع خصوصاً بعد أن رأينا بأعيننا وسمعنا بآذاننا ما حل بنا. . وأن تتذرع به الحكومة وجميع الأحزاب والجماعات في الإصلاح، وأن يراعي فيه وجه الله والوطن والمصلحة الآجلة قبل المصلحة العاجلة. ذلك هو تربية الناشئة تربية يجعلها تؤمن بالله وتخافه وتراقبه في كل عمل من الأعمال، فيحاسب كل نفسه دائماً واضعا نصب عينيه إرضاء وجه الحق والعدل والقانون دون أن يكون عليه رقيب غير الضمير الحي. هذه الخطة تحتاج إلى اقتناع وإيمان وإلى فترة طويلة من الزمن وإلى انتحاء القادة والزعماء ناحية جديدة مستمدة من علوم الأخلاق؛ بل من وحي السماء بل من رب السموات والأرض الذي يعلم ما يصلح المجتمع وما يفسده (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) هذه الخطة التي تربى القلوب تربية تؤمن بربها وتخشاه كفيلة بأن تكون من ناشئتنا الأخلاق الفاضلة التي تسمو بنا عن كل الصغائر، وتدفع بنا سريعاً نحو السمو ونحو المجد ونحو العزة؛ وهي لا شك ترضي ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا - ألا هل بلغت اللهم فاشهد.

عبد الحميد فهمي مطر

ص: 11

‌المسلمون بين الشرق والغرب

عند ظهور الإسلام

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 1 -

ظهر الإسلام والعالم منقسم إلى كتلتين كما ينقسم الآن، كتلة شرقية تقودها دولة الفرس من الأكاسرة، وكتلة غربية تقودها دولة الروم من القياصرة، والتاريخيعيد نفسه، وقد وقع العرب بين هاتين الكتلتين فيما يقع فيه الآن أهلالشرق الأدنى بينالكتلة الشرقية بقيادة روسيا الشيوعية، والكتلة الغربية بقيادة أمريكا وإنجلترا، وكان كل من الكتلتين يقود فريقا من العرب إلى ما بينهما من حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل كانوا هم الذين يغرمون دائماً من أنفسهم وبلادهم، وكان الغنم لصاحب النصر من الفرس أو الروم.

وكانت السياسة الخادعة المفرقة قد قسمت العرب إلى قسمين وأقلمت فيهم دولتين: تقوم إحداهما بجانب الفرس، وهي دولة المناذرة بالعراق، وتقوم الثانية بجانب الروم، وهي دولة الغساسنة بالشام، وكان الفرس هم الذين يوجهون سياسة الدولة الأولى، كما كان الروم يوجهون سياسة الدولة الثانية، فإذا قامت حرب بين الفرس والروم كان المناذرة بجانب الفرس، وكان الغساسنة بجانب الروم، وقام فريق من القبائل العربية بجانب المناذرة، وقام فريقآخر منها بجانب الغساسنة، وقد انقسم العرب بهذا على أنفسهم، وقامت به حروب كثيرة بين المناذرة والغساسنة، بين القبائل العربية بعضها وبعض، حتى ضعف شأن العرب بهذه الحروب، وكانت بلادهم تقع فريسة في أيدي الطامعين فيها بلدا بعد آخر.

وكانت ببلاد العرب دولة كبيرة يتلف العرب جميعا حولها، وهي الدولة الحميرية باليمن، وكان كل من دولتي الفرس والروم لا يرتاح إلى وجودها ببلاد العرب، لأنها كانت تأبى أن تقف منهما موقف دولتي المناذرة والغساسنة، فيعمل كل من الروم والفرس على إضعافها والاستيلاء على بلادها، وكان أن سلط الروم دولة الحبشة على هذه الدولة، فاستولت عليها قبيل ظهور الإسلام. وحكمتها نحوا من سبعين سنة، حاولت خلالها أن تستولي على بلاد الحجاز وغيرها من البلاد العرب، ولما رأت أن الكعبة هي الرمز الديني الذي يجمعهم،

ص: 12

قصدت مكة لتخريبها في وقعة الفيل المعرفة، وقد انتهت هذه الوقعة بهزيمتها على ما هو معروف في التاريخ، ثم كان أن قام سيف بن ذي يزن من بقايا الحميريين يحاول استعادة دولتهم، ولم ير وسيلة إلى هذا إلا أن يستعين بالفرس أعداء الحبشة والروم، فأمدوه بجيش أمكنه أن يخرج الحبشة من اليمن، وأن يقيم سيف بن ذي يزن ملكا على دولة آبائه، وكان لذلك رنه فرح في الحجاز وغيره من بلاد العرب، فأتت الوفود من هنا وهناك لتهنئته باستعادة ملك الحميريين وكان منها وفد الحجاز على رأسه عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بين رجاله أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر، فهنأه بقوله:

لا يطلب الثأر إلا كابن ذي يزن

في البحر خيم للأعداء أحوالا

أتى هرقل وقد شاِلت نعامته

فلم يجد عنده النصر الذي سالا

ثم انتحى نحو كسرى بعد عاشرة

من السنين يهين النفس والمالا

حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم

تخالهم فوق متن الأرض أجبالا

إلى أن قال:

فالقط من المسك إذ شالت نعامتهم

وأسبل اليوم في برديك أشبالا

وأشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقا

في رأس غمدان دارا منك محلالا

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

ولكن كسرى الفرس لم يقدم هذه المساعدة لسيف بن ذي يزن خالصة لوجه الله تعالى، بل كانت في نظير خراج من اليمن يؤدي إليه كل سنة، فكان سيف بن ذي يزن يؤديه إليه، وكان جيش كسرى الذي أعاد إليه ملك اليمن يشاركه في حكمه، فلما توفي ضم الفرس إليهم ملك اليمن، وصار الذي يتولى أمره واحد منهم، ولم يستفد أهله من حركة سيف بن ذي يزن إلا أن استبدلوا ملك الفرس بملك الحبشة.

فلما أتى الإسلام لم يرض أن يقف كما وقف العرب ذلك الموقف المعيب من تينك الكتلتين، لأنه لا يليق أولاً بالعرب كأمه يجب أن ترعى كرامتها ومصلحتها قبل غيرها، ولا يصح أن تجعل فريقاً منها ذيلاً لدولة الروم، وفريقاً آخر ذيلاً لدولة الفرس فينقسم بعضهم على بعض في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ثم لا يليق ثانياً بدين أتى للسلام والتعارف وهداية الناس كافة أن يشترك في هذه الحروب المفرقة الآثمة، لأنها لم تكن قائمة لغرض

ص: 13

شريف، وإنما كان يقصد منها توسيع السلطان، وبسط سيادة الأقوياء على الضعفاء، ليعظم الخراج الذي يجبونه منهم، ويتوسعوا في الترف الذي ينفق فيه ذلك الخراج، فيزداد الأقوياء غنى وطغياناً، ويزداد الفقراء فقرا ومذلة.

فآثر الإسلام أن يقف موقف الحياد من تينك الكتلتين، لا يهمه إلا غايته الشريفة التي يسعى إليها، ولا ينظر إليهما إلا في حدود هذه الغاية، وفي حدودها كان حياده فيه شيء من العطف نحو دولة الروم، لأنها لم تكن حينئذ تملك إلا قليلاً من بلاد العرب، وكانت بلاد الشام التي تقوم فيها دولة الغساسنة لا تعد من بلاد العرب في ذلك الوقت إلا على نحو التجوز، أما دولة الفرس فإنها كانت متسلطة على كثير من بلاد العرب، ولم يكن خالصاً من سلطتها إلا بلاد الحجاز ونجد، وكان الإسلام يرى أنه سيقوم أولاً على أكتاف العرب، لنشأته بينهم، فلم يرتح لاستيلاء الفرس على هذه البلاد التي يعدها وطنه الأول، وهذا إلى أن الروم كانوا أهل كتاب، فكانوا أقرب في العقيدة إلى الإسلام من الفرس.

وكان من مظاهر عطف الإسلام على دولة الروم أن حزن المسلمون وهم بمكة قبل الهجرة على غلبة الفرس لهم، حتى نزل في هذا قرآن يعدهم بنصر الروم على الفرس، وذلك قوله تعالى في أول سورة الروم.

(ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، بنصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).

وقد مكن ذلك موقف الإسلام من تينك الكتلتين إلى أن صار له شيء من القوة بالمدينة، ورأى أن يدعو رؤساء تينك الكتلتين إلى أمر تجتمع عليه كلمتهم، وتبطل به هذه الحروب بينهم، فيسود السلام بين الشعوب البشرية، وتقوم بينهم علائق الصفاء والمودة، ولا يكون هناك أقوياء يتحكمون في الضعفاء ولا أغنياء مترفون، وفقراء مدقعون، بل يعيش الضعفاء بجانب الأقوياء ولهم مثل حقوقهم، ويعيش الفقراء بجانب الأغنياء قريباً من عيشهم، حتى لا يكون هناك فارق كبير بين هذه الطبقات، ولا يعيش الأقوياء والأغنياء في نعيم وترف، والضعفاء والفقراء في حرمان وبؤس.

وقد وقف الإسلام بهذا موقفاً كريماً بين تينك الكتلتين، ولكنه لم ينل منهما ما يليق به من

ص: 14

التقدير، فأغضبت كسرى الدعوة التي وجهت إليه، وبعث إلى عامله باليمن بأمره بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان شأن الدعوة التي أرسلت إلى رؤساء الكتلة الرومية، ثم كان أن جر كل من الكتلتين الإسلام إلى حروب لم يكن يريدها مع أن الظفر كان فيها له؛ وكان من خير الإنسانية أن يجيباه إلى إبطال هذه الحروب، ولو أنهما أجاباه إلى هذا لكان للعالم اليوم شأن عظيم غير هذا الشأن.

للكلام صلة

عبد المتعال الصعيدي

ص: 15

‌رد على رد:

أجل. . ذو العقل يشقى!

للأستاذ محمد رجب البيومي

حين يكتب القارئ نقداً لمقال قرأه، يود من أعماق نفسه أن يصل إلى الحقيقة على ضوء ما يعقب المقال من حوار وحديث، وواجب المنقود أن يواجه الحقائق سافرة واضحة، ثم يجيب عنها واحدة واحدة، إذ أن القراء يتتبعون النقاش فقرة فقرة، ويوازنون بين الطيب والخبيث في دقة بالغة، ويصدرون الرأي عن ثقة واقتناع.

وقد ناقشت الأستاذ شاكر بما لا أستطيع أن أحيد عنه من الأدب والذوق، راجياً أن أجد لديه الإجابة الشافية المقنعة، فماذا وجدت؟! وجدت أن الأستاذ المهذب قد خصني بكثير من الزراية والجهل، وقلة المعرفة، وضعف المنطق، وسوء الأدب، وليته وقف عندي بشتائمه وسبابه، بل انتقل إلى الأستاذ الكبير سيد قطب، فرماه ظالماً بسوء الفهم، وولج إلى ضميره، فاتهمه بقبح المقصد، وخبث الطوية، ومعانة الحق لهوى في النفوس يعلمه الله، وبالحرص على تتبع المثالب القبيحة، واجتناب المناقب الفاضلة، وبالغلو الأرعن في سياق المثالب وتفسيرها، ثم ينضح إناؤه بهذه التهم الجاحدة ملقياً بها في عنف وحدة، إلى قراء الرسالة، وهم جميعاً يعرفون فضائل قطب فأين ذهبت عنه الحصافة والاتزان؟

وقد حاولت أن أجد لدي الأستاذ في رده الطويل العريض شيئاً يقنع المنصفين، فما وجدت غير التنقص والسباب!! وقد دعوته في مقالي السالف إلى هجر الوعظ والإرشاد في الجدل العلمي، فصاح يقول على رؤوس الأشهاد (من العسير أن أكتب في هذا الموضوع دون أن أتوشح بذيل من ذيول الوعظ والإرشاد)، واندفع مع ذيوله الضافية إلى أبعد مدى وأقصاه، وهكذا ضاعت الحقائق التاريخية لدى كاتب يزهي بنفسه، فيقول إنه (يعرف حق الكلام، ويلتزم مقاطعه ومطالعه وحدوده، وإن للعقل شرفاً لا يرضى معه بالتدهور في مواطئ الغفلة وسوء الأدب والخوض في العبث والجهالات).

ولا أريد أن أكيل للأستاذ صاعا بصاع، ضنًا بكرامتي، ولكني أحاول أن أجمع من مقالة العريض فقرات مبعثرة مضطربة في أنحائه، ساقها مساقاً مهلهلاً لا يعرف الدقة والحدود! لأستطيع دحضها بالرأي الموجز الصريح، جزعاً على الحقيقة العلمية من الغرق في

ص: 16

إطناب المنابر وإسهاب الخطباء.

لقد سطر الكاتب خمسين سطراً من مقالة تبدأ من قوله (دعني أيها السيد أعيد عليك، إلى قوله من قلبي بلا مسوح وعظ وإرشاد)! سطر هذه السطور ليقول (إن أخبار معاوية وعلي جاءت عن طريق الرواية فحسب، ولكلا الرجلين شيعته التي تنسج الحوادث وتلفق الأخبار) وقد كنت أقرأ سطوره الطويلة وأنا أسأل نفسي أذلك نقاش أم مجرد كلام؟ ولو كانت النتيجة التي وصل إليها الكاتب صحيحة لعذرناهوسكتنا عنه، ولكنها باطلة كل البطلان، ولو جاز لإنسان أن يأخذ بها في شيء لمزقنا جميع صحف التاريخ الإسلامي من أول عام في حياته إلى مائة عام أنت عليه، فلا نتكلم عن أبي بكر وعمر وعلي ومعاوية ويزيد والحسين وعمر بن عبد العزيز!! حتى يعرف الأستاذ شاكر، اسم الراوي وأباه وأمه، ولحسن الحظ أن كتاب التاريخ ورواته لم يستمعوا لهذه الضجة، وقدموا إلينا مدداً وفيراً من الأحداث التاريخية!! ولم تسجل حوادث معاوية وإضرابه عند مؤرخ واحد حتى يتهمه الأستاذ بالافتراء والهوى، ولكنها أنباء متواترة، رواها جميع المؤرخين دون استثناء، ولو أن شيعة على وحدهم الذين اختلقوا مثالب معاوية، لسكت عنها بعض المؤرخين؛ ولكن هيهات هيهات!.

فهل وجد من المؤرخين من أنكر أن معاوية قد أحال الخلافة إلى ملك عضوض مخالفاً بذلك تعاليم الإسلام؟ وهل وجد من المؤرخين من أنكر أن يزيد بن معاوية قد فرضه أبوه مدفوعاً إلى ذلك بدافع لا يعرفه الإسلام؟ وهل وجد من المؤرخين من أنكر أن معاوية قد جعل جزءاً من بيت المال للرشوة وشراء الضمائر في بيعة يزيد).

لم يوجد من أنكر ذلك من المؤرخين، ولكن الأستاذ شاكر ينكره ويدعي أن المؤمنين قبله قد أنكروه، وهو بحمد الله لم يكن مؤرخا، ولا نعلم أنه خط كتابا في التاريخ، فلم ينسب نفسه إلى قوم ليس منهم؟.

ويدعى الأستاذ أنه لم يفهم شيئاً مما كتبته في تحديد معنى الصحابي، فإذا وجدني أستدل بحديث الرسول عن عبد الله بن أبي لجأ إلى مخرج ينقذه مما واجهته به فذكر أن الرسول قال معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، خشية أن تدور على ألسنة المشركين الذين لا يميزون مؤمنا عن منافق، وكلهم عندهم من أصحاب محمد صلى الله

ص: 17

عليه وسلم!! وأنا أقول للأستاذ إن المشركين كانوا يميزون المؤمن عن المنافق، ويعرفون نفاق ابن أبي كما يعرفه المؤمنون سواء بسواء، بل إنه تعاهد معهم على التنكيل بالدعوة المحمدية ولمسوا من نفاقه ما شجعهم على التعاون معه، وكان إذا خلا إليهم يقول (إنا معكم إنما نحن مستهزئون) فليس هناك مشركون لا يميزون مؤمنا عن النفاق، وعلى الأستاذ أن يبحث له عن مخرج آخر، لو يستطيع!!.

وإذا كان الأستاذ بصمني بالجهل وسوء الفهم وقلة المعرفة، ثم ينقل فقرات طويلة من مقالة ليبين لقراء الرسالة حقيقة ما قال، ومن هذه الفقرات قوله (فإذا أخطأ أحدهم فليس يحل لهم ولا لأحد من بعدهم أن يجعل الخطأ ذريعة إلى سبهم والطعن عليهم) إذا كان الأستاذ ينقل ذلك، فلم لميجب عما وجهته إليه بشأن هذه الفقرة، فقد قلت إن الصحابة قد طعن بعضهم واستباحوا ما حرمه عليهم، أفيكونون بذلك قد خرجوا عن منهج الإسلام، أم أن الأستاذ شاكر يرسل كلامه في الهواء فإذا ناقشه كاتب متواضع مثلي لجأ إلى الشتائم والسباب!!.

ولقد دعوت الأستاذ إلى النقد الموضوعي فقال في الرد فقال في الرد على ذلك (إن النقد الموضوعي ينبغي أن يسبقه التحقق من صحة هذه الحوادث تحققا ينفي كل ظنه) وأنا أقول له ما دمت تنكر هذه الأحداث المتواترة لدى المؤرخين، فلن تقدم للقارئ ما يقنعه ويشفيه، وأنا أعلم أن الطعن في رواية الآثار الفردية سائغ ومقبول، أما الوقوف في وجه التاريخ وتفنيد ما أجمع عليه المؤرخين بلا دليل، فلم يجد من يصغي إليه في كثير أو قليل.

ولقد نصحني الأستاذ شاكر أن أضع عن يدي عبء القلم، فإنه ثقيل ثقيل، وذكر أن الحياء يمنعه أن يترك كلامي بلا مجيب!! وأنا أعجب للحياء الذي يمنع صاحبه من الصمت المريح، ثم يدفعه إلى السب المقذع والطعن الجارح في كاتب كبير كالأستاذ سيد قطب!! فضلا عما وجهه إلي من قذائف ظالمة، ثم ما الفرق بيني وبينه حتى يطلب إلى أن أكف عن الكتابة، وما هي مؤلفاته التي تبيح له أن يتقدم إلي بمثل هذا الأمر، لأحفظ له حقه في الإرشاد والتوجيه؟! أخشى أن يكون استياؤه المفزع من نشاط الأستاذ قطب وإنتاجه قد دفعه إلى الهجوم علي بألفاظه الحداد!! وإني لأستغفر الله له رغم ما أصابني من كلوم!!.

(أبو تيج)

محمد رجب بيومي

ص: 18

‌دفاع عن العباسة

للأستاذ ثروت أباظة

كتب الأستاذ باش أعيان مقالاً قيماً في الدفاع عن العباسة بنت المهدي، ولقد أثار مقاله هذا في نفسي فكرة كانت ما تزال تردد بها، وكنت ما أزال أفكر في الكتابة عنها حتى قرأت هذا المقال، فوجدت الفرصة قد دعتني إلى الكتابة. فالأستاذ باش أعيان نقل إلينا مجملاً من أقوال المؤرخين عن سبب نكبة البرامكة، ونقل إلينا أيضاً مجملاً من آرائهم في مسألة زواج جعفر من العباسة، وهناك أمران في هذا الشأن لابد من تقريرهما.

فإن المؤرخين قد أجمعوا على اختلاف في أسباب نكبة البرامكة والاختلاف بينهم دليل قاطع على الجهل بحقيقة نكبة البرامكة، والذي نستطيع أن نخلص به من هذا الاختلاف هو أن نكبة البرامكة التي حدثت إنما هي الحركة الظاهرة مما كان يعتمل في نفس الرشيد. . . فكل حركة تحدث من الإنسان كبيرة كانت أو صغيرة تشتمل في الواقع على عاملين: العامل الظاهر وهو الذي يظهر إلى النور، ويكون الواقعة، والعامل النفسي وهو المختفي في أغوار النفس لا يظهر. ولقد أراح الأستاذ باش أعيان نفسه وأراحنا حينما ذكر لنا ذلك الحديث بين الرشيد وأخته علية وهو يقول لها إن قميصه الذي يرتديه لم علم السبب في قتل جعفر لمزقه.

فليكن جعفر إذاً أخا الرشيد في الرضاعة، وليكن رفيقه في الملعب، وليكن صديقه في الشباب، وليكن وزيره في الملك. ليكن أيا من هذه الصفات، أو ليكن جميعها؛ إنما الواقع من الأمر أنه قتله. . . لماذا قتله. .؟! لا يستطيع أحد أن يعرف، بل إنني لأشك كثيراً فيما إذا كان الرشيد نفسه يعرف. . فلكم تخادع نفسها نفسه، ولعل الرشيد أوجد سبباً في نفسه يطمئنها به إليَّ عدله إن هو قتل جعفر. . لعله أوجد هذا السبب في ظاهر نفسه، بينما أوغل السبب الحقيقي في الاستخفاء بين أطواء النفس بعيداً عن كل مظنة. . بعيداً عن تفكير الرشيد ذاته، فلو أن الله جل وعلا بعث الحياة اليوم في الرشيد، ونفض عنه غبار القبر والسنين، واستطعنا نحن أن نسأله السبب فقاله. . لو حدث هذا فإننا نستطيع على رغم كل ما حدث أن نتشكك فيما يقول. وإن هذا الاختلاف بين المؤرخين أمر عجيب في ذاته، فإن أسبابهم جميعاً لا تعارض بينها، فإذا وجد واحد منهم، فهو لا يمنع وجود الأسباب

ص: 20

الأخرى. . فما ضر لو كانت هذه الأسباب مجتمعة هي الأصل في نكبة البرامكة بجانب السبب الحقيقي في نفس الرشيد. . وما ضر أيضاً لو كانت هي مجتمعة سبب النكبة، وليس هناك سبب آخر إلى جانبها.

من هذه الأسباب في قول بعض المؤرخين أن الرشيد أبى على جعفر أن يتزوج العباسة زواجاً كاملاً، وأحل له بعقد الزواج النظر وحده، دون ما يستتبع العقد من صلات. . ويقول هؤلاء المؤرخون إن العباسة لم تعبأ بما نص عليه عقد الرشيد وأكملت مقتضيات العقد مع زوجها، فكان ثمرة هذا الإكمال هو بضع بنين لهم.

وقد رأى الأستاذ باش أعيان أن في هذه الرواية تعدياً على مقام العباسة بنت المهدي، المتصلة بأسباب غاية في القوة إلى العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأنا لا أدري علام يدافع؟ وما الذي فعلته حتى تتهم؟ إن العقد الذي أراد أخوها أن يكون عقد نظر فحسب غير موجود بين عقود الشريعة الغراء، وإنما هو عقد زواج، ومعروف شرعاً أن الشرط الفاسد في عقد الزواج لا يفسد العقد، بمعنى أن الشرط يبطل ويصح العقد، فإذا تزوجت إحداهن واشترطت في عقد الزواج ألا تقيم مع زوجها إلا إذا أقام ببغداد مثلاً أو البصرة، فإن عقد الزواج صحيح والشرط باطل، فإذا انتقل الزوج إلى القاهرة تعين على الزوجة أن ترافقه إليها، وتعيش معه فيها. وتعاشر زوجة بعقد صحيح، ولا قيمة للشرط الذي اشترطته بل هو باطل غير موجود، فإذا اشترط الرشيد على جعفر في عقد النكاح ألا يدخل بزوجة العباسة بطل الشرط وصح العقد. والعباسة لابد تعلم هذه الحقيقة، وهي على الأقل لن تعدم من يخبرها بها. فإن هي أبطلت الشرط فإنما تسير على خطى الدين الحنيف، غير مجانبة الخلق القويم الذي يجب أن تكون عليه بنت قريش، ولا ضير عليها إن هي أغضبت الرشيد لترضى الله.

وبعد فالعباسة غير متهمة لتحتاج إلى دفاع، بل لقد كانت في موقف لا بأس بها فيه، وهي تأبى على أخيها الرشيد أن يحرم ما أحل الله أو يحل ما حرمه.

تلك هي العباسة على رواية المؤرخين الذين يقولون بوجود العقد، أما هؤلاء القلة الذين يقولون بعدم وجود العقد فقولهم مردود هزيل، فما كان أيسر انعقاد العقد في هاته الأيام بحيث يصبح عدم العقد ضرباً من الجنون الذي لم يعرفه أحد عن جعفر أو العباسة، ما كان

ص: 21

أيسر على العباسة أن تشهد اثنين من المخلصين لها أو لجعفر على أنها زوجته نفسها، فترتفع بذلك عما يريد هؤلاء المؤرخون أن يرموها به.

فإذا كانت المسألة كلها مختلفة، ولا صلة للعباسة بنكبة البرامكة فهي - من باب أولى - في غنى عن كل هذا الكلام.

بقى أمر أحب أن أتحدث عنه قليلاً في هذه المناسبة. فقد ذكر الأستاذ باش أعيان أن بعض المؤلفين المعاصرين قد أنشئوا الفصول الرائعة عن حب جعفر للعباسة، واتخذوه موضوعاً لرواياتهم، وإنني لست أرى بأساً من ذلك أبداً، فإن المؤلف الفنان غير مقيد مطلقاً بالتاريخ، وإنما شأنه وشأن التاريخ بشأن المهندس والمولد الكهربائي، فالمهندس يستنبط القوة الكهربائية ثم هو بعد ذلك على أتم الحرية. . يضيء بها أو يحرك الآلات، أو يفعل ما شاء له هواه دون أن يقطعها.

والفنان إزاء التاريخ مستلهم منه الوحي، كأنه الشرارة من المولد الكهربائي، ثم هو يحور قصته أو روايته، ويوجهها إلى حيث يرضي فنه، دون أن يخل بالحوادث الجوهرية، التي تقوي على الإهمال أو التحريف.

فلتكن رواية العقد بين جعفر والعباسة مختلفة، أو لتكن منحرفة، أو لتكن كما تشاء، فالفنان قد رأى فيها موضوعاً يصلح لأن ينشئ منه فناً فأنشأ ولا جناح عليه.

وإذا أراد المتزمتون من المؤرخين ألا يعترفوا بهذا فعليهم أن ينظروا إلى العمل الفني على أنه عمل فني فحسب، اختير لأسماء أبطاله أسماء كان لهم في التاريخ شأن.

وبعد فإلى الأستاذ باش أعيان خالص الشكر أن أتاح لي هذه الفرصة، وإليه في حاضرة الإسلام المزدهر خالص التحية.

ثروت أباظة

ص: 22

‌دعوة مُحمّد

لتوماس كارليل

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

الإخلاص والصدق في دعوة مُحمّد

إن البغض والحسد والحقد والموجدة طبيعة من طبائع البشر، وخاصة إذا غزاها التعصب الأعمى، فإذا قام إنسان ما بعمل جليل، عمت فائدته على بعض الناس وشملت من حوله، كثر حساده وشانئوه، فنراهم يهبون والحقد يملأ نفوسهم والبغض يكاد يمزق صدورهم، محاولين الانتقاص من قدر عمل هذا العظيم، هذا بالنسبة لمن يقوم بعمل نافع في حدود بيئته، فما بالك برجل، كمحمد جاء بما فيه خير البشرية جمعاء وصلاح الكون كله، وقد بلغ من المرتبة والرفعة في نفوس مئات الملايين من الناس ما لم يبلغه أي إنسان مهما كانت أعماله. فليس عجباً أن نرى الكثيرين ممن أعمالهم التعصب وملأهم الحقد، يحاولون النيل من محمد ومما جاء به، ولو عقلوا لأراحوا أنفسهم وأراحوا غيرهم من جعجعتهم وصخبهم، لأنهم كالرجل الذي ينطح الصخرة محاولا تحطيمها فإنه سيرتد وقد أدميت قرونه.

فالمتعصبون من النصارى والملحدون. يسيئهم أن يعرف الناس حقيقة دعوة محمد. فيذيعون أن محمداً لم يكن يبغي من قيامه بهذه الدعوة إلا الشهرة والمنفعة الشخصية والمفاخرة بالجاه والسلطان وإشباع نزعة حب السيطرة الذي يملأ نفسه، وقد وغلوا في عرض هذا الرجل ودعوته بما لا يصدقه عقل، ويستحي أحط الناس قدراً أن يذكروه على ألسنتهم. وهم يعلمون أنهم كاذبون مدعون.

إن محمداً لم يكن يريد مفاخر الجاه والسلطان والشهرة والسيطرة، كلا وايم الله، فلقد كان في قلب ذلك الرجل العظيم ذي النفس الممتلئة خيراً ورحمة وبراً وحناناً، ذي العقل المتميز بالحكمة والإربة والنهى والحجى، أفكار أسمى من الطمع الدنيوي الذي يستوي بنو البشر الآخرين في الدرجة سعياً له، ونوايا أشرف من السعي في طلب السلطة والجاه. . .، لم يفكر يوماً أن يكون كما يتمنى كل إنسان، ولو أنه أراد الملك لناله، ولو سعى وراء المال لملأ منه خزائن كثيرة، ولو ابتغى السيادة لكان ما أسهلها عليه، ولو أراد أن يجمع بين كل

ص: 23

هؤلاء جميعاً لما استعصى عليه الأمر. ولكن كيف يكون ذلك وهو ذو النفس الكبيرة التي كل همها إسعاد البشرية وإنقاذها مما هي فيه، إننا لا يمكن أن نتهمه بعدم الإخلاص لدعوته، لأنه من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين فيما يعملون، ولولا ذلك لما نجحت دعوته، لأن الإخلاص هو أساس كل نجاح. فبينما نرى الآخرين الذين يبتغون عرض الحياة الدنيا يرضون بالإصلاحات الكاذبة ويسيرون خلف الاعتبارات الباطلة، ترى محمداً يأبى أن يستعين بمألوف الأكاذيب ويتوشح بما كان متبعاً في زمن من الخرافات والأباطيل، فقد كان منفرداً بنفسه العظيمة مقتنعاً بحائق الأمور، متفكراً في أسرار الكائنات، بل كان سر الوجود يسطع لعينه - كما قلت - بمخاوفه وأهوائه ومباهجه وزخارفه، فلم يستطيع شيء من الأباطيل أن يحجب عنه كل ذلك، وكأني بلسان ذلك السر الهائل يناجيه في خلوته (ها أنذا) إن هذا الإخلاص في الدعوة والتفاني في القيام بها لا يخلو من معنى إلهي مقدس، وما كلمات محمد التي كان ينطق بها، إلا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة وصميم الواقع، كان إذا تكلم فكل الآذان برغمها صاغية، وكل القلوب خاشعة واعية، وكل كلام بعد ذلك غير كلامه هباء، وكل قول سوى قوله جفاء.

لقد ظل منذ أيام أسفاره ورحلاته إلى بلاد الشام، تجول بخاطره آلاف من الأفكار التي لا يمكن أن تأتي إلا لكل ذي عقل راجح ونظر ثاقب. من أنا؟ وماذا أكون؟ ما هي الحياة وما قيمتها؟ وما هو الموت وماذا سيكون بعده، وماذا أعتقد وماذا أفعل؟ وما هو أعبد ما يعبد هؤلاء القوم من أصنام وأوثان لا تنفع ولا تضر؟. كل هذه الأسلة والخواطر كانت تجول بفكرة في خلوته، فهل أجابته عنها صخور جبل حراء أو ما يحيط به من الفلوات والقفار، أو ما كان يمر به من شماريخ طود الطور. كلا لم يجبه شيء من ذلك حتى ولا قبة الفلك الدوار، أو تعاقب الليل والنهار، ولا النجوم الزاهرة، ولا الكواكب الظاهرة، ولا الأنواء الماطرة. لم يتلق جواباً من كل هذه الأشياء ولا من واحد منها. ولكن سرعان ما جاءه الجواب شافياً مبيناً منقذاً له من حيرته واضطرابه، في خطاب الله العلي القدير لنبيه موسى:(إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى، إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى. فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فترى). إنه جواب لا لبس فيه ولا غموض، وإنه السر الذي أروعه الله روح محمد، فنزل برداً وسلاماً

ص: 24

على روحه.

والذي يجب على كل إنسان أن يسأل نفسه عنه ما كان يجول بخاطر محمد، وما أحسه في نفسه ذلك الرجل القفري. إن هذه هي المسألة الكبرى والأمر الأهم - الذي يجب على كل إنسان أن يضعه في الرتبة الأولى من تفكيره إذ أن كل شيء بجانبها عديم الأهمية.

إن هذه المسألة لو بحثنا عنها في فرق اليونان الجدلية أو نقبنا عنها في روايات اليهود المبهمة أو فتشنا عنها في نظام وثنية العرب الفاسدة فإننا لن نجد لها جواباً شافياً. وأما فيما جاء به محمد فإن الجواب يطالعنا في كل مكان سواء في القرآن أو في أقوال محمد نفسه الذي لا ينطق عن الهوى، وهذا دليل على أهميتها وخطرها.

لقد سبق لي أن قلت إن أهم ما يميز الباطل وأولى خصائصه، هي نظره خلال ظواهر الأمور إلى بواطنها، وأنه يقيس الباطن على الظاهر. أما الاعتبارات والإصلاحات والعادات والاستعمالات فإنه لا ينظر إليها سواء أكانت جيدة أم رديئة، حقة كانت أم باطلة. لقد كان محمد ينظر إلى الأوثان التي يعبدها قومه ويقول في نفسه: إن هذه المعبودات لا بد أن يكون وراءها شيء. وما هي إلا رمز وإشارة لمعبود أعظم، ولكن القوم ضلوا السبيل إليه وإلا كانت زوراً وباطلاً وقطعاً من الخشب لا تضر ولا تنفع، وهذا أكبر شاهد على إخلاص محمد لقومه فهو يريد أن ينقذهم مما هم فيه من ظلمة واضطراب، ولكنهم لجوا في بادئ أمرهم وعتوا عتوا كبيراً.

لو كان محمد يريد الجاه والسلطان لما استطاع أن ينقذ هؤلاء العرب الجفاة ولا قدر على تحطيم معبوداتهم. لقد اتهموه بأبشع التهم ولصقوا به أحط الصفات. فقالوا إنه ساحر كذاب (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا ساحر كذاب. أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا الشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) وقالوا إنه شاعر مجنون (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا أله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) ثم دعوه إلى عبادتها وترك دعوته مرغبين، ثم مغرين، ثم حرموه وأهله وعشيرته مصاهرتهم والعمل معهم، وحرموا على العرب التقرب منهم حتى كادوا يهملون، ثم هددوه بالقتل إن هو لم يثب إلى رشده ويرجع عما هو فيه من تحقير آلهتهم والنيل من معبوداتهم. . .

ص: 25

ولكن ما لمحمد وهذه المعبودات، وأنى تؤثر في نفسه هذه الأوثان ولو أنها رصعت بالشهب لا بالذهب، وكيف يسيغ له عقله أن يعبد هذه الأصنام ولو عبدها الحجاج من عدنان والأقيال من حمير، وأي خير يرجوه منها ولو عبدها الناس جميعاً؟

لقد عاش محمد حياته الأولى بين قومه رائحاً غادياً ولكنه كان في الحقيقة يعيش في واد من التفكير المنظم والنظر الثاقب، وقومه كلهم في واديهم يعمهون وفي ضلالاتهم سادرون وعن الحق مبتعدون، عاش مائلاً بين يدي ربه، سابحة أفكاره في ملكوت السموات والأرض، فلما سطعت لعينه الحقيقة الكبرى وجاءه الناموس الأعظم وانشرح صدره وزالت كربة نفسه. ما كان له إلا أن يجيبها، وإلا فقد حبط سعيه وضاع جهده وأصبح هو وقومه سواء بسواء.

فقال لنفسه: فلتجبها يا محمد، أجب وإلا كنت من الخاسرين. . أجب فقد وجدت الجواب الذي حيرك طوال هذه الأعوام. .

أفبعد هذا يزعم الكاذبون الحاسدون أن الذي أقام محمداً وأثاره هو الطمع وحب الدنيا والرغبة في الجاه والسلطان، حمق وايم الله وهوس وسخافة، وظلم بين إجحاف للحق وتضليل للحقائق. ليقل لي هؤلاء الطاعنون، أي فائدة لرجل مثل محمد في جميع بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها، وأي خير له في تاج كسرى وصولجان قيصر. بل أي قيمة عنده لجميع ما بالأرض من تيجان وعروش؟! لأنه يعرف المصير الأخير لجميع الممالك والتيجان. . وأين تصير الدولة جميعها بعد حين من الزمان (كل من عليها فانِ). أيطمع في مشيخة مكة وقضيبها ذا الطرف المفضض. . أم في ملك كسرى وتاجه ذي الذؤابة الذهبية. . أم في صولجان قيصر وعزة ملكه؟ وهل في كل هذا منجاة للمرء من هول يوم الحساب إن لم يكن له من عمله منجاة ومظفرة. كلا. إذن ما علينا إلا أن نضرب برأي هؤلاء الجائرين القائلين إن محمداً كاذب لا يبغي من دعوته إلا السلطان والجاه، عرض الحائط، فإن مذهبهم عار وسبة على البشرية فلقد أصبح من أكبر العار على أي إنسان متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يشاع من أقوال مفتراة وأكاذيب ملفقة عن دين الإسلام وأنه كذب، وأن محمداً رجل خداع مزور شهواني فاسد. بل أصبح من أوجب الواجبات علينا أن نحارب كل من يحاول أن يلصق هذه التهم وأمثالها بمحمد

ص: 26

ودعوته إن كنا نريد للحق أن ينتصر وللعالم أن يسير نحو سلام دائم وحياة لا اضطراب فيها ولا فتن، لقد آن أن نقول لهؤلاء الذين يشيعون مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، إنكم أنتم الكاذبون الخداعون. إنكم أنتم الذين تريدون أن تشيعوا في العالم الفوضى والاضطراب وتحاولوا الوصول إلى الجاه والسلطان عن طريق الطعن في الحق وأصحابه والجور في القصد، لا عن طريق هداية العالم إلى الخير والسلام كما فعل محمد، ولكن ما أبعد الفرق بينه وبينكم فإن الرسالة التي جاء بها محمد ما زالت السراج الوهاج والطريق السوي لمن أراد أن يصل إلى نعيم الحياة ويفوز بجنات عرضها السموات والأرض، وما زالت قبلة الأنظار مدة أثني عشر قرناً لأكثر من مائتي مليون من الناس أمثالنا خلقهم الله الذي خلقنا وجعل لهم عقولاً كما جعل لنا، وفيهم من بلغ أسمى درجات الرقي الفكري الذي تدعون أنكم وصلتم إليه، فلا تستحون من قولكم، إن هذه الرسالة التي آمن بها ومات عليها كل هؤلاء الملايين الفائقة الحصر، خدعة وكذب. فوا أسفاه ما أحقر هذا الزعم الباطل وأسوأ هذا القول السخيف، وما أضعف عقول أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة، لأنهم ظنوا أن جميع الناس مجانين مثلهم. أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً ولا أسكت عن قائليه، ولو أنى أرى أن الغش والكذب ينتشران بشكل مريع بين الناس ويروجان رواجاً كبيراً ويصادفان كثيراً من التصديق والقبول.

إن الحق إذا لم يجد له نصيراً يدفع عنه سخف القول ويذود عن حوضه المفتريات لضاع بين أمثال هؤلاء الذين لا يرعون فيه إلا ولا ذمة. ولو أن الحق عدم أنصاره لأصبحت الحياة سخفاً وعبثاً، وكان الأولى بها ألا تخلق. وأي حق أحق منا بالذود والدفاع عنه من دعوة محمد التي تدعو إلى السلام والمحبة. وهما اللذان جاء بهما جميع الأنبياء لأنهما ظل الله في الأرض وما الله إلا محبة وسلام.

إن من أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات، يجب عليه ألا ينظر إلى شيء مما يقوله أولئك السفهاء، وألا يصدق كلمة واحدة من أقوالهم، لأنها أفكار سقيمة وأقوال جيل كفر بالله. . ونتاج عصر جحد بالإنسانية وقيمتها، وهي أبلغ دليل على خبث قلوب هؤلاء وموت أرواحهم وفساد ضمائرهم. وإذا فسدت الضمائر وخبثت القلوب وماتت الأرواح في الأبدان، فإن لصاحبها أن يفعل ما يشاء لأنه أصبح كالأنعام بل أضل.

ص: 27

ولعل العالم لم ير قط رأياً الأم من هذا الرأي ولم يسمع قولاً أكفر من هذا القول، فهل يعقل أن رجلاً كاذباً خداعاً يستطيع أن ينشر ديناً بين الناس وأن يوجد العجب من القوانين والأحكام التي كانت مدار الأحكام والتي أصبحت محور القوانين جميعاً رغم كل ما يقال. والله إن الرجل الكاذب لا يستطيع أن يقيم بيتاً من الطوب، لأنه يدعى أنه عليم بخصائص الجير والجص ومواد البناء وهو لا يعرف منها شيئاً. فإن يبنيه إنما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد، لا يستطيع أن يثبت اثنتي عشرة ساعة إذا هبت عليه ريح عاصف، لا أن يقف كالطود الشامخ أمام مختلف الأعاصير والأنواء اثني عشر قرناً يسكنه مائتا مليون من الأنفس، لا يمر عليهم وقت إلا وهم في ازدياد مستمر ونمو مطرد. أفبعد هذا يقال إن محمداً كاذب خداع.

وليعلم من لم يكن يعلم أن على المرء أن يسير في جميع أمره طبق قوانين الطبيعة لا يخالفها، وإلا استعصى عليه الأمر وأبت هي أن تجيب طلبته وتعطيه ما يشاء ويبتغي.

كذب وافتراء والله ما يذيعه أولئك الكفار، ولابد أنهم سيعودون في النهاية مهزومين وإن زخرفوا أقوالهم حتى تخيلها بعض الناس حقاً.

باطل وزور والله ما يدعون إليه وإن زينوه حتى أوهموا السذج أنه صدق. ومحنة والله ومصاب ما بعده مصاب أن ينخدع الناس بهذه الأباطيل، ويجد الكذب له بين الأمم والشعوب آذاناً صاغية.

ولكن مهما كان الأمر فإن الناس سيأتي عليهم اليوم الذي يدركون فيه كذب هؤلاء؛ إنه كما ذكرت لكم قبيل الأوراق المالية المزيفة، يبذل لها صاحبها غاية الجهد، ليتخلص منها ويخرجها من كفه القذرة الأثيمة، ليقع في ضررها غيره ويحيق مصابها بسواه، ولكن لا يلبث زيفها أن يظهر للناس، فيلقون بها في سلات المهملات وهم يصيحون بملء أفواههم (هذه أوراق مزيفة).

إننا لو قارنا بين دعوة محمد وصدقه فيما أتى به، وبين دعوة زعماء الثورة الفرنسية - لا على سبيل المساواة في القيمة الروحية ولكن على سبيل المثل فقط؛ إذ من الظلم البين أن نقرن الثانية بالأولى - وما حاول أولئك الزعماء نشره، لوجدنا أن الأولى قد جاءت من قبل مجيء الثورة الفرنسية بعدة قرون وبقيت بعدها وستظل ثابتة إلى أن يرث الله الأرض

ص: 28

ومن عليها.

أما الثانية فقد ذهبت بذهاب دعابتها، بل إنهم هم أنفسهم لم يأخذوا بها لم يسيروا على ما كانوا يدعون إليه، وهذه أكبر شاهد على أن محمد لم يكن أخا شهوة كما يتهمه أولئك الضالون، ظلماً وعدواناً.

والله لشد ما نتعدى حدود الجور والخطأ، إذا اتهمنا محمداً بأنه رجل شهواني لا هم له إلا إشباع نفسه من الملاذ وقضاء مآربه من الشهوات. فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ والشهوات، بل لقد كان زاهداً في حياته كلها متقشفاً في مأكله وملبسه ومسكنه، وجميع أحواله، فقد كان طعامه عادة لا يزيد على الخبز والماء، وكثيراً ما كانت الشهور تمضي ولا يوقد بداره ناراً تحت قدر، وإنهم ليذكرون. . . ونعم ما يذكرون - أنه كان يقوم بأعماله بنفسه، يرفو ثوبه ويخصف نعليه بيديه، فهل بعد هذا تواضع ومفخرة؟ وهل هذه هي صفات الرجل الذي يسعى إلى الجاه والسلطان والملك والصولجان!

حبذا محمداً من رجل خشن الطعام مرقع الثياب مجتهد في الله ساهر ليله يذكر ربه وينصت لوحيه جاهداً في نشر دينه، لا يطلب رتبة ولا يطمع في دولة أو سلطان أو غير ذلك مما يتطلع إليه أصاغر الرجال.

والله لو لم يكن محمد صادقاً في دعوته مخلصاً في تأدية رسالته لما لقى من أولئك العرب الغلاظ الأكباد توقيراً ولا احتراماً ولا تعظيماً ولا إكباراً، وما كان مستطيعاً معاشرتهم أكثر أوقاته بعد أن قام بدعوته ثلاثاً وعشرين حجة. وما كان مقدوره أن يقودهم إلى ميادين القتال لا يهابون الموت، يلتفون حوله ويقاتلون بين يديه ويجاهدون في سبيل دعوته، يلقون مصارعهم آمنين مطمئنين إلى المصير الذين وعدهم الله إياه (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم وذلك هو الفوز العظيم).

لقد كان في هؤلاء العرب غلظة وجفاء وكبر وعجرفة، وكانوا حماة الأنوف أباة الضيم صعاب الشكيمة وعر المقادة ليسوا بالمنساقين وراء كل ناعب، فمن استطاع تذليل جانبهم وقدر على رياضتهم، حتى رضخوا له وساروا وراءه مسلمين له القياد، فلولا ما أبصروا

ص: 29

فيه من آيات النبل والصدق والإخلاص، لما خضعوا له ولا أذعنوا لأمره. وإني أعتقد أنه لو كان أتيح لهم بدل محمد، قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه، لما لقى من طاعتهم واحترامهم بعض ما لقيه في ثوبه المرقع بيده. وهذا أكبر دليل على عظم محمد وصدقه في دعوته وإخلاصه لربه.

عبد الموجود عبد الحافظ

ص: 30

‌رسالة الشعر

النهر الملول!. . .

عن أندريه موروا

للأستاذ أنور العطار

(يرى (موروا) حياة الإنسان نهرا ملولا، ويرى الموت بحراً، ولقد تضجره الحياة والأحياء، وتسئمه الأماني والآمال فيهيب بنهر حياته الملول أن انسكب في خضم الردى وغب في بحر الفناء)

قد نجونا من الحياة

ومن سحرها العجب

ومن المأمل الشهي

ومن كالح الرهب

خالق الموت والحياة

ويا خير من وهب

لك شكراننا العميم

على الدهر قد وجب

ولك الحمد أن قطع

ت من العيشة السبب

أنت أوردتنا الردى

والردى السؤل والطلب

فسلمنا من الأذى

واسترحنا من النصب

لو ملكنا عرا البقاء

لما شاقنا أرب

ولأودى بنا الحنين

إلى الهلك والعطب

كل من ذاقه استراح

من الهم والتعب

ماله الدهر رجعة

أو معاد ومنقلب

فلقد تسأم الحياة

وقد يجتوى الرغب

رب نهر معذب

مل من طول ما سرب

وتناهى به المطاف

إلى بحر فاحتجب

أنور العطار

ص: 31

‌من الشعر الفكاهي

من وحي الكأس

للأستاذ محمود غنيم

علي بك شخصية لا تكاد تفارق الكأس شفتيه، كان موظفا كبيرا ثم أحيل إلى التقاعد من سنوات، وقد أقام له السيخ المحترم سعد بك اللبان بقصد الدعاية حفلة تكريم ألقى فيها الشاعر هذه القصيدة.

صاغوا لك الشعر من زهور ونوار

وصغته لك من حانوت خمار

ما (الروم) إن قلت شعرا يا علي وما

زينب (زوتس) أو (كونياك أو تار)

حطم كؤوسك وأشرب يا أبا حسن

سلافة عصرت من كرم أشعاري

لله درك شيخاً ليس يشبعه

نهر من الخمر في الخمر في أحشائه جار

حمراء سحنته بيضاء لحيته

لكن صفحته سوداء كالقار

إن الشيوخ تقوم الليل في حرم

لكن على يقوم الليل في (بار)

يمشي على فلا يدري إلى جبل

تقوده قدماه أم إلى الدار؟

يضل عن بيته والشمس طالعة

وليس ببعد عنه غير أشبار

وربما دق باب الجار من خبل

وربما ضربته زوجة الجار

يعد (يني) عليه الكأس أربعة

أو خمسة وهو لا واع ولا دار

ويحسب الفار إذ يبدو له جملا

يعدو عليه فيجرى خشية الفار

ويطلب اللحم من دكان فاكهة

ويشتري الموز من حانوت جزار

وربما خدعته العين في رجل

يمشي فقال: مساء الفل يا ماري

وربما قابل (المترو) فقبله

في وجنتيه وحياه (بسيجار)

وربما أطلق المسكين (قنبلة)

وراح يحسبها رنات أوتار

على عذرا إذا أسرفت في هذري

فأنت ذو منزل عندي ومقدار

حييت يا صاح فيك النبل أجمعه

حييت فيك لساناً غير معثار

حييت فيك حديثا خف مسمعه

وكم حديث يحاكي رجم أحجار

ظل خفيف وأخلاق معطرة

لو نسقت أصبحت باقات أزهار

ص: 32

يكفيك نجلان يزدان الحمى بهما

كلاهما لامع كالكواكب الساري

وندوة الشيخ (سعد) أنت بهجتها

لله درك بدرا بين أقمار

لا عيب فيك سوى كأس تضاجعها

في النوم تغنيك عن زوج وأصهار

وكل ما أنجبت مصر وما ولدت

(باريس) من خردعون وأبكار

الدهر أفسد شيئا أنت تعرفه

ما عاد ينفعه إصلاح عطار

بالأقدمية عش في البيت منزويا

وأخف نفسك فيه خلف أستار

لا تغضبن على فول ولا عدس

ولو أتوك بسم ناقع هار

عش يا على ملياً عمرك في

كأس وكأس وفي لهو وأسمار

وخل من شاء يبكي الحظ منتحبا

ويقطع العمر في هم وأفكار

اترع كؤوسك واشرب كيف شئت وقل

يا نفس لا تقنطي من رحمة الباري

ما العار إلا الأذى بالناس تلحقه

ما في المدام ولا في الكأس من عار

قد يغفر الله للسكير من كرم

ويخلد الراهب الذكير في النار

على هذا قريض كنت تطلبه

فأد في كل بيت ألف دينار

الشعر غال ولكني أجود به

عليك. إنك مثلي جائع عار

محمود غنيم

ص: 33

‌أخي

محمود البكري محمد

أخي!. . قد غالني الجوع، وهدّ الفقر بنياني

ودب الضعف في جسدي، وهز الشر إيماني

وطال الليل، وامتدت على الأيام أحزاني

فكفكف دمعي الهامي، وأطفئ نار حرماني

أخي!. . قد أقبل الليل. . وشاع الصمت في الوادي

وفي عشي قد ارتعشت بنياني. . وأولادي

يهيج أنينهم قلبي. .، ويذكي نار أحقادي

وما في العش من دفء، وما في العش من زاد

أخي! قد عربد الشر، وما جت بالأسى نفس

ونام الخير، وانبعثت دواعي الثأر في رأسي

وجن البؤس فانتفضت بكفي بغتة فأسى

أروني الظالم العاتي ليلقي المر من بأسي

أخي احفر لي - على عجل - بفأسي هذه قبري

وألحدنى!. . فما بقيت سوى الأوهام من عمري

سئمت مآسي الدنيا، وضقت بقسوة الدهر

سقاني الكأس حنظلة، وقلبني على الجمر!. .

محمود البكري محمد

ص: 34

‌الأدب والفن في أسبوع

حملة إنجليزية على الدكتور طه حسين باشا:

شن بعض المدرسين الإنجليزية الذين فصلوا من المدارس المصرية حملة هوجاء في جريدة (الإجبشيان جازيت) ضد سعادة الدكتور طه حسين، تحت عنوان (الصم الذي هوى) وهو عنوان يدل على مقدار (أدب المربين) الإنجليز:

وقد أدعى أولئك الكاتبون (المهذبون) أن وزير المعارف السابق عاملهم معاملة غير كريمة وغير عادلة لأنه فصلهم من وظائفهم. . ويظهر أنهم لم يجدوا في قضيتهم الأساسية ما يناقشون فيه على أساس المنطق المعقول، فلجئوا إلى الهجوم الشخصي. ومن أعجب ما جاء في كتابتهم أن الدكتور طه حسين باشا سقطت مكانته بعد الخروج من الوزارة!!.

وأنا أسأل الأساتذة الذين يفترض فيهم أنهم من المثقفين. . هل هم يعيشون في مصر أو في إنجلترا؟ إذا كانوا قد عاشوا في مصر بعقولهم كما عاشوا فيها بأجسامهم فكيف يخفى عنهم أن طه حسين رجل له مكانته في هذه البلاد باعتباره أستاذ النهضة الفكرية المعاصرة، وباعتباره كاتباً أجمع المواطنون على سبقه من الناحيتين الفنية والإصلاحية؟ فالوزارة لم تضعف إليه شيئاً من مجد أو مال حتى يهوى بالخروج منها، ومثل طه حسين هو في الوزارة أو في خارجها.

وإذا كانوا يعيشون في إنجلترا فهل جاءتهم أنباء الحفاوة التي قوبل به الدكتور طه حسين باشا من نحو عامين في الجامعات الإنجليزية حيث أشار الأساتذة هناك بعبقرية وأثاره في ميادين الفكر والثقافة والتعليم، ومنحته الجامعات (دكتوراه) فخرية؟ ففي أي مكان هوى ذلك النجم؟ أفي مصر أم في إنجلترا أم في عقول أولئك المدرسين الخاوية. .؟

وقد تصدى للرد على تلك المقالات الأستاذ إسماعيل كامل في نفس الصحيفة (الإجبشان جازيت) وفند أقوالهم تنفيذا لقى ارتياح العقلاء من قراء هذه الجريدة.

ثم كتب العميد نفسه مقالا في الصحيفة ذاتها رد به على تلك الغارة العشواء، قال فيه: أود قبل كل شيء أن أسأل لماذا انتظر هؤلاء هذه المدة الطويلة ليشكوا مما حدث منذ أكثر من شهرين بل في التاسع من ديسمبر بالذات؟ ولماذا آثروا الصمت حينما كنت عضوا في الحكومة المصرية؟ إنه ليسرى عني أن أتبين أن الشجاعة كانت تنقصهم، مع أنه لم تكن

ص: 35

هناك أية رقابة إذ ذاك.

ثم قال سعادته: على أن مسئولية فصل أولئك المدرسين لا تقع على وزير المعارف، أو على مجلس الوزراء المصري، ولكنها تقع على العسكريين البريطانيين في منطقة القنال، الذين سلكوا سلوكاً لا يمكن قبوله في القرن العشرين.

وأوضح في المقال ما صنعه معهم إذ أراد أن يحميهم من الهجوم الذي قد يتعرضون له في المدارس وفي الجامعات، فطلب إليهم أن يبقوا في منازلهم ليدفع عنهم غضب أبناء الشعب من طلبة المدارس والجامعات.

وقال سعادة العميد: وإذا ما رغب هؤلاء الأساتذة في الشكوى فإني أنصح لهم، عندما يعودون إلى إنجلترا، أن يرسلوا احتجاجات إلى مستر تشرشل مثلا أو إلى أي شخص آخر مسئول عما حدث، لا لهم فحسب، ولكن وقبل كل شيء عما حدث للشعب المصري كله منذ أكتوبر سنة 1951 ما دام إحساسهم بالعدالة عظيما إلى هذا الحد!.

وقد قرر مجلس الدولة أنه ليس لهؤلاء المدرسين حتى في الحصول على أي تعويض، ولكن الحكومة قررت - بناء على طلب وزارة المعارف - منحهم مراتب ثلاثة شهور ونفقات سفرهم.

فأية عدالة يطلب بعد ذلك؟ وأيهما يعد أكرم: موقف الوزير منهم، أو موقفهم منه وهم يتطاولون ويتقولون عليه بعد خروجه من الوزارة. .؟

حقيقة المسألة - على ما هو طبيعي - أن الدكتور طه حسين باشا كان مصريا فغضب الإنجليزية.

فساد الإذاعة:

قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: اضرب لي مثلا للخادم يحتاج إلى أن ينبه في كل أمر ولا يستخلص مما يؤمر به خطة يلزمها ونهجاً يسير عليه. قال بيدبا: مثل ذلك - أيها الملك السعيد - الإذاعة المصرية، شكا الناس منذ سنوات من أغنية (حمودة ياني) إذ استنكرها ذوو الحياء والغيرة وألحوا في استنكارها، فلم يسع الإذاعة إلا منعها. وشكوا من أمثال لها وحملوا عليها فرضخت وامتنعت عن المنكر. وكان حريا بها أن تدرك أن المسألة مسألة خطة يحب أن تكون مرسومة، وأن ما استنكر ليس إلا مثلا يجب القياس عليه. . ولكن

ص: 36

ظهر أنها تحتاج في كل مرة إلى استنكار جديد من مخدومها الشعب. . فقد لاحظ هذا السيد (الشعب) أن خادمة (الإذاعة) تذيع في هذه الآونة التي تتطلب العمل المجد مثل أغنية (الدنيا سيجارة وكأس) وأن هذا لا يتفق مع التبعات الجسام التي يعد لها جيل الشباب، فهناك أشياء أهم من السيجارة والكأس. . ومثل الأغنية التي يقول فيها المغني (تعالى بين أحضاني) - لاحظ السيد ذلك من خادمة العجيب الذي كان أن يدرك من تلقاء نفسه أن ذلك لا يليق، فغضب عليه و (شخط فيه) فاضطر إلى أن يقول (حاضر يا سيدي!)

قال دبشليم الملك: حسن ما جئت به من مثل! ولكن كيف تستعمل الدولة المصرية هذا الخادم الساذج في عصر التقدم الذي يوجد به خدم مدربون أذكياء؟

قال الفيلسوف: أيها الملك السعيد، ليست المسألة بهذه المثابة، ولكن (إذا حسنت أخلاق المخدوم ساءت أخلاق الخادم)

قال دبشليم الملك: زدني إيضاحا.

قال بيدبا الفيلسوف: إن من في الإذاعة قد لا ينقصهم الذكاء وربما كان لبعضهم دربة. ولكنهم (محاسيب) لذوي النفوذ، جيء بهم ليغدق عليهم ثم لا بد من الإغضاء عنهم. .

قال دبشليم الملك: وما رأيك في قولة رئيس الوزارة الجديد أحمد نجيب الهلالي باشا: (لن نوادع الفساد)

قال الفيلسوف: إنا لمنتظروا

حق القارئ على الكاتب:

تلقيت الرسالة الآتية من الأديب عبد اللطيف الطالب بمعهد القاهرة الثانوي، وقد حرص على أن يبعث بها إلى - كما قال في هامشها - ليجنبها على أستاذنا الكبير الزيات بك. وقد رأيت أن أنشرها في هذا الباب لأني أشارك صاحبها ما تضمنته من رأى وجاء، وأعلم أن (شعب الرسالة) يرى ذلك ويرجوه، ونحن الآن في عصر الشعوب واحترام إرادتها، وهذا هو نص الرسالة:

(أما بعد التحية: فللأستاذ الزيات في قلوب القارئين مكانة تجل عن الوصف وتنبو عن مواطن الشبهات، وذلك لما اتصف به من العمق العميق في البحث، والإحاطة الشاملة في الدراسة، والأمانة الدقيقة في الترجمة والأخلاق العالية في التجميل والتزين، مما حدا

ص: 37

بأساتذتنا أن يقولوا لنا في فصول الدراسة (اقرءوا الزيات من خلال كلماته فإن كلماته تشف عن الرفعة والنبل والجمال.

وبيننا - معشر قراء الرسالة - وبين أستاذنا الزيات مشكلة نرجو لها حلا، أستغفر الله بل لنا رجاء - حتى أكون مؤدبا - نضعه بين يديه

إن الأستاذ الزيات يضن علينا بمقال كامل يشغل صحيفة وبعض الصحيفة في كل أسبوع يتوج به مجلتنا الحبيبة التي تتلقفها أيدينا في نهم كما تتلقف أفواه الجياع أرغفة الخبز

أفلا يتفضل ويغمرنا بهذا المقال كلما خرج إلى الوجود عدد جديد من الرسالة الغراء؟!

وهذا رجاء يعتمل في نفس كل قارئ للرسالة، وأعتقد أن هذا من حق القارئ على الكاتب الذي ينزله من قلبه منزلة رفيعة. وعلينا لأستاذنا الزيات أن نفهم ما يكتب وأن نتدبر ما يقول. .

وقد عبرت عن بعض ذلك الآنسة العراقية صاحبة (رسالة الجسم الجميل وصورة الروح النبيل) لكنها غلب عليها حياء العذارى حين طلبت من أستاذنا الزيات أن يخصص عددا من الرسالة لتأبين المرحوم (على محمود طه) يكتب هو أكثره، ولم تطلب منه أن يضع لنا كتابا يتناول فيه بالتحليل والدراسة شخصية وشعر (شاعر الحب والجمال) الخالد

إن حقق رجاءنا أستاذنا فقد أضاف إلى فضائله الكثيرة فضلا وإن لم. . . فسأضع هذا الأمر بين يدي قراء الرسالة على صورة استفتاء!

وحينئذ لا مفر من النزول على رغبة القراء وتفضلوا بقبول فائق الاحترام)

عباس خضر

ص: 38

‌الكتب

رياح وشموع

شعر: كمال نشأت

للأستاذ محمد محمود زيتون

هذه مجموعة رقيقة من شعر الشباب، ضمت أصدق الأحاسيس، التي اهتزت لها مشاعر الأستاذ الشاعر كمال نشأت، وقد ملك الربيع عليه سمعه وبصره، فغفا عن صخب الناس، ومضى إلى الطبيعة يستجليها، فواتاه الإلهام وساعفه النغم.

ولا عجب، فهو من شباب الإسكندرية، أمسى وأضحى بين عينيها، فافتن بالأنسام، واحتفل بالأمواج، واختلى بالأسحار والأصائل، فتصيد لقيثارته الشادية أوتار الربيع، فامتزج النغم الناعم بالموج العتى، وخفقت (الشموع) في رعونة (الرياح) العواصف؛ والربيع في حناياه دوى لا يبلى مع الخريف الحائل، والهجران الموحش.

يستهل الشاعر مجموعة (رياح وشموع) بالقطعة الجميلة التي عنوانها (ربيعي) وهنا نضع بين يدي القارئ مفتاح الشاعرية الذي يهدى إلى أسرار نفسه: فليس الربيع خضرة وزهرة. أو جدولاً وبلبلاً. . أو بعضاً من تلك المفاتن التي تجتمع عليها الحواس المشتركة هذه الدنيا، ولكن الربيع عند الشاعر معان مجردة له أن يمنحها ما يشاء من الأصباغ، وله أن ينغمها بحيث ينفرد هو بتوقيعها على قيثارته في محاريب الفن.

لهذا، كان ربيع شاعرنا معنى جديداً له معالمه ومعارفه، فالحياة في تقلباتها (ربيع خالد لا ينهي) بحيث لا يغفو مع الخريف، ولا يعسو مع الظلام، فليتأمل القارئ هذين البيتين وبينهما سبعة أبيات رقاق:

وبمهجتي أجد الربيع مجدداً

أبداً نضيراً في الشعور الناضر

أنا في الخريف أرى ربيعاً غافيا

وأكاد ألمسه صنيعة ساحر

ويسبح بعد ذلك في الآفاق الفساح، دافعاً بجناحيه الذهبي هذا السحاب، متنقلا على بساط سليمان من الروض إلى الميناء إلى محطة الرمل إلى التزام إلى تريانوه إلى العيون النواعس إلى الشاطئ، والربيع من حوله: هالة مشعة أو بسمة دافقة،

ص: 39

يقول:

هو في دمي خلد وبين أضالعي

فجر أوائله بها كأواخر

لي خافق يجد الربيع منوعا

في كل مرأى يستبين لناظري

لي خافق يجد الربيع بكل ما

يلقاه من ماض لدى وحاضر

في البحر، في القفر الجديب، وفي لظى

بين الجوانح، في ظلام مغاور

في بسمة الطفل الصغير تكشفت

عن طهره في روعة لعباقر

في غنوة العصفور في ألق الضحى

في ضجة الموج العتي الهادر

وإذا عاد ربيع الناس، ترنم شاعرنا بهذا النشيد العذب

(نداء الربيع) فيقول:

عاد الربيع ومهجتي

فيها ربيع ناضر

شعر، وأحلام، وأنغام، وشوق زاخر

عاد الربيع فعدت أسمع بين أحنائي خطاه

همس يدب مجددا

في القلب أفراح الحياه

ولئن تملك الربيع شاعرنا الملهم، فلا أقل من أن يمتزج بتهاويله فتراه - وهو على ضفاف (بحيرة البجع) - يتمنى أن يكون عطراً أو ريشة أو ظلاما أو صباحاً أو سكوناً أو ظلاما، ولكنه قلب أسير في يد الحقيقة، فيناجي البجعات السابحات الفاتنات:

آه لو كنت في رحابك عطراً

في زهور على غصون وريقة

آه لو كنت ريشة في جناح=لطيور منعمات رشيقة

آه لو كنت في مياهك ظلا

غائصاً يرتقي الزهور العريقة

كم تمنيت أن أكون صباحاً

ناعساً حالماً رغيباً شروقه

كم تمنيت أن أكون سكوناً

في كهوف بين الجبال سحيقة

كم تمنيت أن أكون ظلاماً

ناشراً ستره محبا سموقه

كم تمنيت أن أكون، وما كنت سوى مهجة بأسر الحقيقة

وتراه يزف (نسمة الفجر) إلى دنيا الناس فيقول:

هبي على القفر الجديب، على السهول، على البحور

ص: 40

روحاً تعانق كل ما تلقاه، طاهرة الضمير

وتوحد الكون الكبير، بحبها العف الكبير

وتثير في القلب فرحة الطفل الغرير

دوري بأحلام الربيع، وعطره بالأفق دوري

وتناثري فرحاً، وأحلاماً

على الروض الشجير

إنه لا شك شاعر هيمان، له قلب أخذ يرق ويروق حنى صار فلذة من الطبيعة الحافلة بالجمال، فهو يقول:

فوق هذي الظلال سرنا ظلالا

ضاحكات على الظريق الوديع

ويبدو هذا المزاج الشاعري في نغماته الموزعة بين (الليل الربيعي) و (البرعم الشفقي) و (همسة الصبح الخجول) ولا يعبأ بعد ذلك بالعواصف الهوج و (الضياء المقرور) والشموع الخوافق، فلأمل يحدو له بنشيد (الصباح العطوف)

إن قسا الليل ظلمة ورياحاً

فالصباح العطوف في أحنائي

والسكون العميق بين ذراعينا

ودفء الدماء في الأعضاء

أطفئي خافق الشموع، وخلينا ظلاماً إلى مجيء الضياء هذه بعض الرؤى الباسمة. والظلام الخفاف، التي تسابقت إلى خيال الشاعر كمال نشأت، فاهتزت لها ريشته الصناع، ما كدت أفرغ من ترتيلها حتى رأيتني صادق الرغبة في إشراك قراء الرسالة معي في الإعجاب بها، والتقدير له، فله مني أخلص التهنئة على براعته في التقاط الهمسات والبسمات والنسمات التي صاغها مع الربيع في (رياح وشموع)

محمد محمود زيتون

-

ص: 41

‌البريد الأدبي

تحية إلى مؤلف (محاضرات الثلاثاء:

أرسل حضرة العزة الأستاذ محمود تيمور بك إلى الأستاذ الشرباصي الخطاب التالي، بتاريخ 30 يناير سنة 1952 م.

(عزيزي الفاضل الأستاذ أحمد الشرباصي

أبعث لفضيلتكم بأسمى التحية شاكرا لكم هديتكم الطريفة (محاضرات الثلاثاء) وإني إذ أكتب لكم عن رأيي في هذا الكتاب. فإنا أكتبه عن يقين وإخلاص. . .

ولا أكتمكم سروري الكبير الذي شملني على إثر مطالعتي لهذا السفر الطريف، الذي دل على روحكم العالية، ونزعتكم في الإصلاح، متخذين الدين كأساس لهذا الغرض، في مرونة تساير المجتمع، دون خروج على مبادئ الشريعة الإسلامية السمحة الغراء.

كل ذلك يجري في معالجة طريفة أخاذة، وعرض رفيع رائع وأسلوب سام رصين فأهنئ فضيلتكم تهنئة صادقة وأؤمل أن تواصلوا هذا النشاط الاجتماعي الديني المشكور في همتكم المعروفة، فيستهدي بها ويستضيء وتحياتي الخالصة إليكم مشفوعة بتقديري واحترامي)

المخلص محمود تيمور

ص: 42

‌مدافن الأدب في وزارة المعارف:

ما أضيع الأدب في وزارة المعارف، وما أسرع النسيان إلينا حين يمضي النهار بالأدباء الراحلين ممن خدموا الثقافة القومية، ودعموا أركانها. أقول هذا حين أذكر تلك النهضة التأليفية التي بزغت سنة 1938، فنظمت الوزارة مسابقات أدبية رفيعة أكرمت فيها الفائزين ماليا، ووعدت بطبع مؤلفاتهم التي فازوا بها: ولكن مضت الأيام والسنون، وتقلبت العهود، وما تزال هذه الكتب كالأطياف الباهتة في بقايا ذاكرة وفية.

حقا، لقد مضى أصحابها إلى دار البقاء، وخجل أهلوهم من الانتصاف للأموات من الأحياء، وقد طوتهم الأيام بأرزائها، ولكنا نتساءل: إلى متى تسير الوزارة، وزارة العلم الأدب، على ظهر سلحفاة، كلما اتصل الموضوع بالشؤون العلمية والأدبية؟ ولماذا يجازي المرحوم فخري أبو السعود بوأد كتابيه القيمين عن (الخلافة)(والبارودي)؟ وما جريرة الأدب المعاصر إذا حرم من رجاله السابقين؟

فلتحمل الرسالة الغراء هذه الصرخة إلى وزارة المعارف، لعلها تعمل على أحياء ذكرى النابغين الراحلين، وتفي بما وعدت من طبع تراثهم الممتاز، فهذا حقهم الشرعي عليها، تؤاخذ على التفريط فيه أمام محكمة التاريخ، وتنال الحمد والثناء على أدائه، وذلك لا سواه هو التقدير الباقي، والتخليد الكريم لأهل الأدب أحياء وأمواتا، أما إذا تذرعت بمعاذير رسمية، فلن يعفيها من التبعة الأدبية يواقظ، ولا أقل من تسليم هذه الكتب إلى إحدى دور النشر لإذاعتها والانتفاع بها، وهذا هو العمل الإيجابي الحاسم الذي نطالب به وزارة المعارف اليوم بعد الذي مضى، وإلا فإنه يحق لأهل الثقافة أن يتقدموا باستجواب محرج بشأن هذه الكتب التي لا ندري إن كانت موجودة فنبعثها أو موءودة فنحتسبها.

ونرجو مخلصين ألا يكون قد أهيل عليها تراب النسيان في زحمة الأحداث فذهبت مع الريح، ورحم الله فخري أبو السعود: نعوا إليه في حياته فلذتين من كبده، حين ابتلع البحر المحيط ولديه الصغيرين وهما في الباخرة الهاوية بأطفال الإنجليز إلى أمريكا، فمن ينعى إليه في مماته فلذتين من عقله، وقد شيع الجحود والإهمال كتابيه الكريمين إلى مدافن الأدب في وزارة المعارف. . عظم الله أجركم أيها الأدباء.

محمد محمود زيتون

ص: 43

ملاحظات أسبوعية:

1 -

قرأت رباعيات الخيام مترجمة إلى العربية بقلم الشاعر: محمد السباعي. والمقطع الأول منها هو:

غرد الطير فنبه من نعس

وأدر كأسك فلعيش خلس

سل سيف الفجر غمد الفلس

وانبرى بالشرق رام أرسلا

أسهم الأضواء في هام القلاع

واستوقفني ص 154 في الجزء الثاني من (معاهد التنصيص) لعبد الرحيم العباسي ما أذكر (وبديع أيضاً قول ابن وكيع من الرمل. . .).

غرد الطير فنبه من نعس

وأدر كأسك فلعيش خلس

سل سيف الفجر غمد الدجى

وتعرى الصبح من ثوب الغلس

وانجلى عن حلل قضية

نالها من ظلم الليل دنس

وأترك لكل قارئ التعليق على الشاعر السباعي

2 -

وقرأت ص 95 من العدد الثالث من مجلة (المسلمون) قصيدة بعنوان (الفدائيون) مهداة إلى أرواح الشهداء الخالدين مطلعها. والقصيدة للأستاذ محمود حسن إسماعيل.

نفخ الصور فانتبه من سباتك

أيها الشعب تلك أولى حياتك

ووقفت عند البيت 34

كل هذا وأنت في دورة الأيا

م مستفشياً في سباتك

القصيدة من بحر الخفيف. وأستوقفني البيت لكسر فيه حيث إن التفعيلة الثانية من الفجر ناقصة وتدا مجموعاً. ولست أدري لمن أعزو السبب في غيبة هذا الوتد القلم الشاعر، أم الجهاز المطبعة؟

وإلى اللقاء معشر القراء والسلام

محمد محمد أحمد التاجي

ميراث الأخوة لأم

قرأت في العدد 970 من الرسالة الغراء في البريد الأدبي تعليقاً للأستاذ علي إبراهيم

ص: 44

القنديلي على فتوى صاحب الفضيلة المفتى السابق بخصوص ميراث الأخوة لأم.

وقد كتب الأستاذ المعلق أن الأخوة لأم لا يرثون لوجود الفرع الوارث. . وقد استشهد على ذلك بما جاء في كتاب الفرائض من الجزء الخامس لابن عابدين وكذلك بما ورد في شرح الشريف على السراجية صفحة 94 إلى صفحة 97.

وأنا أضيف إلى هذين الدليلين دليلين آخرين: -

الأول: - هو قول تعالى بخصوص ميراث أولاد الأم وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) والكلالة من لم يخلف والدا وولدا، فمعنى يورث كلالة أي يورث من جهة القرابة الكليلة أي الضعيفة وهي قرابة غير الأصول والفروع.

الثاني: - هو نص المادة 26 من قانون المواريث رقم 77 لسنة 1943 وهي تنص على ما يأتي: - يحجب أولاد الأم كل من الأب والجد الصحيح وإن علا، والولد وولد الابن وإن نزل).

والمقصود بالولد هنا الابن أو البنت على السواء.

محمد كامل عزب

يصمد بمعنى يثبت صحيح

جاء في العدد الأخير من مجلة الرسالة الغراء تعقيب ينكر فيه كاتبه على الأستاذ الكبير سيد قطب استعماله يصمد بمعنى يثبت، مستدلاً على ذلك بما جاء في القاموس من أن الصمد بمعنى القصد والصمد بمعنى السيد وليس من معنى المادة الثبوت.

ولو أن الكاتب الفاضل تدبر قليلاً في هذه المادة لوجدها تدل أصالة على معنى الثبوت ثم تدل بعد ذلك على معنى القصد والسيد وغيرهما تبعاً، يدل على ذلك ما جاء في القاموس نفسه من أن من معاني الصمد الدوام: والصماد الجلاد والصمدة الصخرة الراسية، والمصمد الشيء الصلب ما فيه خور، وناقة مصماد باقية على القر والجذب دائمة الرسل. ولا يخفى ما في هذا كله من معنى الثبوت والدوام ثم تفرغ عن هذا المعنى الأصل في المادة الصمد بمعنى القصد للثبوت عليه والصمد بمعنى السيد لكونه لا يحول عن المكارم.

ص: 45

ولعل ما ذكرته هو الذي يتسق مع المنهج الحديث في دراسات على اللغة العام. وأما تفسير الكشاف للفظة الصمد من قوله تعالى (الله الصمد) بالمقصود فليس بمستقيم، والأحق أن يكون معناها الدائم الباقي لأن السورة قد جاءت لتثبت لله صفتي الوحدانية والبقاء، ولا يخفى انساق هذا المعنى الأخير مع قوله تعالى (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) والله أعلم.

وللكاتب تحيات المخلص

عبد البصير عبد الله حسين

ص: 46

‌القصص

الابن

للكاتب الفرنسي بول بورجيه

استيقظت مدام (ليجيه) في صبيحة هذا اليوم قلقة بادية الهموم والتفكير. فقد كان عليها أن تضع حدا لحياتها كأرملة في مقتبل العمر، ولحياتها كأم ذات بنين ثلاثة. فلقد مضى على وفاة زوجها وهي إذ ذاك في الثالثة والثلاثين عامان كاملان. وكانت وفاته بعلة ذات الجنب التي غالته وشيكا من دائرة عمله كمحام له شهرة مستفيضة ومحل من قلوب الناس. ومنذ ستة أسابيع سلفت قبل هذا الصباح الذي تستفيق فيه مدام (ليجيه) حائرة مفكرة، اجترأ (جورج كولت) صديق بعلها المرحوم ومحام مثله أمضى معه سني الجامعة ثم لزم زوجها في دائرته لزوم الشريك وفي بيته لزوم الصاحب، اجترأ هذا الزميل على أن يقول للأرملة الصبية منذ ستة أسابيع:

- إني لأحمل لك أيتها السيدة منذ طويل عاطفة لم أستطع استكناهها ولا فهم طبيعتها إلا منذ اليوم الذي غادرنا فيه صديقي العزيز زوجك، فأصبحت بوفاته حرة التصرف مالكة لزمام أمرك. وأظنك كنت تستشعرين مني هذا الصمت الناطق وتحسين احترامي المراحل الفقيد وتقدرين رعايتي لك. فبسببك يا سيدتي (ومعذرة من اعترافي بهذه الحقيقة) قطعت كل صلة ترابطني بامرأة أخرى في هذه الحياة، وأنت كامرأة في ريق شبابها واكتمال أنوثتها، لك الحق بل يجب عليك أن تستأنفي حياة الزوجية السعيدة من جديد. وإذن فهل أستطيع أن آمل يا سيدتي أن تعتبريني الزوج المخلص الذي سيكون من أشهى أحلامه أن يضحي راحته وحياته لأجلك. . . إني أحبك. . . يا سيدتي، ولعلها المرة الأولى التي أسمح فيها لنفسي بنطق هذه الكلمة الجريئة على مسمع منك. . . أما أنت يا سيدتي فليس عندك إلا كلمة واحدة تقولينها في هذه اللحظة ستكون هي الأولى والأخيرة. ولكن بحقك لا تلفظيها إلا بعد تأمل في عاقبتها، فإن ما أجن لك من هوى دفين لأمر من الأهمية والخطورة بحيث لا تكفيه كلمة أو جواب يقال على استعجال واقتضاب. قالت مدام (ليجيه) وصوتها راجف وطرفها خاشع:

- أتطلب مني استئنافاً لحياتي الزوجية معك؟ ثم جمد لسانها عند هذه الكلمة فلم تأت (بلا)

ص: 47

أو (بنعم) وأخيراً جسرت فقالت:

ولكن حياتي لا يمكن ترميمها ولا استئنافها. إنك تتكلم عن الحق والواجب وأنا لا أعرف إلا حقاً واحداً: هو السهر على أولادي، ولا أفهم إلا واجباً فرداً: هو واجبي نحو أبنائي الثلاثة. . قال الصديق الخاطب:

- أولاً تشعرين أني أحبهم هم أيضاً وأعزهم وأحنو عليهم كأبيهم صديقي الراحل. . .؟! ومن لعمري سيحل محل الأب الراحل إن لم يحله صديق أبيهم وصفيه؟ وهل غيري يعرف ميول صديقه وذوقه ومشربه في التربية والمسلك؟ وإذن فهل تسمحين يا سيدتي أن أشغل مكان الأب الراحل؟ أترضين أن تكوني امرأتي أمام الله والناس.

قالت الأرملة في حسرة وتلدد:

خلني الآن لشأني. . . هلا جنبتني الكلام في هذا الموضوع.؟! إنه ليؤلمني البحث فيه ويسبب لي كثيراً من الشجن والشجو.

لا أعرف شيئاً. ولا أفهم شيئاً. لست بمستطيعة أن ألمح في قرارة نفسي المظلمة عاطفة أستطيع منها إجابتك على سؤالك لأني أجهل نفسي. . . ولكني أعدك أن جوابي سيكون بعد قليل من الزمن. . . أما الآن فلا أستطيع، أجل لا أستطيع. . فأجاب جورج فوكولت:

- سأنتظر كلمتك كما تشائين وأنى تشائين: إنك إلا تقولي (لا) هذه اللحظة فبحسبي، لأن ذلك معناه أنك قد تتبصرين خلال سجوف المستقبل الكلمة الحبيبة إلى قلبي وهي (نعم). إن التردد والتحير مؤلمان للقلب مزهقان للروح إذا لم يكن القلب المنتظر في شرخ شبابه. قال ذلك وأبان لها عن طرف لمته وقد طرزتها سنوه الأربعون بأسلاك الشيب البيضاء. فأحست المرأة الأرملة وهي تتأمل وخطات الشيب في رأسه، وتنظر إلى أثر التأنيب الصامت من عينيه السوداوين: أن موسيو جورج إنما يقيس سعادته في هذه الدنيا بمقياس ما بقى له من سنين فيها، وكأن نظرته كانت تقول لها، إن ما يطويه الشباب اللاهي من متع ومباهج لا ينشرها كفن المشيب مهما يمتد ويضف ثوبه. ثم يستأنف حديثه ويقول:

- إنه إحسان منك على أي حال أن تحددي لقلبي الشهيد موعداً للجواب كي أغادرك وأنا أقول لنفسي من يوم لآخر ستوافيني نعمة جوابها في يوم كذا. . (كاترين)، أيتها العزيزة، اختاري بنفسك اليوم الموعود وعيني تاريخه، وليكن القرب والبعد على ما يوافق رغبتك

ص: 48

وهواك. . . أما أنا فسأعاهدك الآن عهداً لا أحنث فيه ولا أنحرف ألا أخوض في ذكر هذا الموضوع الذي سيكون برغم هذا هو شغلي الشاغل وهمي الناصب. . فحددي بعيشك موعد جوابك. وهنا تمتمت مدام (ليجيه) بصوت محتبس ولهجة ضارعة: سيكون ذلك حين ينتهي أجل حدادي على زوجي الراحل. وبما أنك تدعي حبي فأرجوك التمسك بوعدك منذ الآن كما أتمسك بوعدي أنا. والآن أرجو ألا تلح علي في هذا الشأن فقد كفاني ما كفاني. . .

ثم يقول لها، وهو يود أن يوضح بالوقت المعين كل شك وغموض يمكن أن يعتور موعده المرجى: وإذن فسيكون جوابك بعد أسابيع في الرابع عشر من نيسان؟! فأجابت على هذا بإيماءة من رأسها ثم انعقد بينهما جو من الصمت. . .

لقد غالت يد الموت زوجها الحبيب في الرابع عشر من إبريل أي منذ اثنتين وعشرين شهراً سلفت قبل هذا اليوم الذي يجالس فيه مدام (ليجيه) خطيبها المسيو جورج. كل ذلك جال بذهن (مدام ليجيه) وظن الخاطب الصديق الذي شعر بثقل كلماته على نفس الزوجة بعد أن عين لها الموعد المضروب. . .

أن يستأنف المرء حياته دون أن يعوج بذكرى أحبته الراحلين عن الدنيا ففي ذلك ويا للحسرة إساءة إلى ذكراهم الغابرة وعهودهم الماضية، وإذن فمن يغب عن الوجود تمت معه ذكراه وتنعدم ثم تبتلعه هوة العدم إلى غير رجعة، والهفتاء.

ومرت على هذا اليوم ستة الأسابيع المضروبة دون أن يلم خلالها طيف الزوج الراحل ودون أن تتردد ذكراه على رأس الخاطب ومدام (ليجيه) فتفسد عليهما خلوتهما اللذيذة وجلساتهما اليومية المتعاقبة. . .

ويجد المسيو جورج من اللطف والأدب ألا يعرض لذكر الموعد المرتقب خلال هذه الأسابيع الستة. ثم يرى من الظرف والكياسة أن يغادر (باريس) حين اقترب اليوم المضروب يوم 16 نيسان. أما مدام (ليجيه) فقد أخذت تتهيأ لهذا اليوم وهو ذكرى يوم وفاة زوجها. وقد أحيت هذه الذكرى في ذلك اليوم في شيء من البرود وعدم المبالاة لم تمتزج بهما إثارة من حنان ولا بقية من فجيعة وحسرة. وفي اليوم الثالث عشر من نيسان تسلمت من جورج خاطبها خطاباً ينبئها فيه بزيارته من الغد عند الظهر، فأقبلت على الرسالة

ص: 49

تقرأها مرة ومرتين ثم بدرت منها بادرة غريبة عجبت لها هي نفسها. . وذلك حين رفعت رسالته إلى فمها وقبلت سطورها وفي ظنها أنها إنما تقبل حياة تفيض بالسعادة واللذة خلال هذه السطور. . وأخذت تردد: نعم. . نعم. . سيكون جوابي. . نعم. وإذن ففيم استيقاظها صبيحة هذا اليوم مضطربة حيرى كما أسلفنا؟. . ما الذي حدث خلال هذه الفترة القصيرة بين تقبيلها رسالة جورج نهار الأمس فرحة نشوى وبين الساعة التي ترتفق فيها وسادة سريرها الوثير يبدو عليها سهوم وتفكير؟ ما الذي طرأ عليها يا ترى فبدل عزمها؟!. . وأقبلت الخادم في هذه اللحظة فهصرت أستار الغرفة عن النوافذ والشبابيك فطغت على جوها موجة من نور لآلاء ضاحك غمر المكان كله؛ وكان المكان في شارع (فانو) تشرف نوافذه وشرفاته على بستان القنصلية النمساوية الظليل. ولمعت زرقة السماء من خلال النوافذ ونفذ تغريد العصافير إلى المسامع شجياً موسيقياً شعرت معه مدام (ليجيه) أن ثوب الجدة الذي تضفيه الطبيعة على جسمها يتفق والموقف الجديد الذي تقفه هي من حياتها الجديدة هذا اليوم. . حتى أن الثوب المزركش الذي حملته الخادم منذ لحظة كان يغريها بأخيلة وخطرات حافلة باللذة والسعادة. . ومع ذلك فلم يتقطب جبينها ويربد وجهها كلما نظرت إلى عقرب الساعة ينتقل من مكانه. مالها تقف حالمة ساهمة بدل أن تنشط وتفرح؟. . أتراها تتخوف مما عساه يحمله لها هذا اليوم من خوف مجهول؟

حين تكلمت مدام ليجيه عن واجباتها نحو أولادها لم تقل كل شيء للصديق الخاطب، لم تعترف له أن ولدها البكر (شارل) ما فتئ منذ شهور مدعاة تخوفها. أبداً لم تبادل الابن مع أمه كلمة عن (جورج فوكولت) خاطبها الرغيب، وكان هذا الأخير لا يميز هذا الغلام اليافع في المخاطبة والحوار عن أخيه الصغير (رنيه) وأخته الصغيرة (هيلين) اللذين كان يكلمهما بصيغة الإفراد دون كلمة. ولكن إذا شفعت سنو الطفل (رينه) الخمس وأعوام الطفلة (هيلين) العشرة - لهذه الصيغة الافرادية يبدي فيها صديق أبيهما حبه وتدليله لهما، فإن الستة عشر عاماً التي يجتازها الغلام المراهق (شارل) كانت تقيم بينه وبين (جورج) الخاطب جواً مختلفاً عن جو أخويه فيه بدل الألفة والعطف وعدم الكلفة الانقباض والنفرة. ومع هذا فقد كان الخاطب الواغليغضي عن هذا ويتجاهل، بل لقد أخذ في الآونة الأخيرة يضاعف عطفه على الغلام ويبتغي الوسيلة إلى قلبه النافر ووجهه العابس الصامت.

ص: 50

وتلاحظ مدام (ليجيه) ذلك السلوك المحبب الجذاب الذي يعامل به الخاطب ولدها البكر فتغتبط به وتنشرح له.

ولكن رغم كل هذا كانت تترقب من ابنها رفضاً وثورة أخذت تحسب حسابهما وتتهيأ لهما منذ أيام.

من هنا كانت حيرتها وقلقها في هذه الصبيحة الباسمة من نيسان التي كان عليها فيها أن تقول كلمتها الأخيرة في رفض يد (جورج) أو قبولها. ولهذا وحده هي تدير في ذهنها الصورة المستحبة الملائمة التي يمكنها بها أن تفاجأ ولدها دون أن تؤذيه أو تسوئه في عزة نفسه، فكانت تردد:

- كان علي أن أنبئه بذلك وأسبر غور رضاه أو رفضه منذ ستة أسابيع. . غير أني لم أستطع ذلك لأني اجدني أمامه مرتبكة مشلولة الإدارة كأني بحضرة أبيه الراحل. فيا لله كم يشبهه حتى كأنه صورته الثانية! وعلى كل حال فإن جورج أحسن في تحببه إليه وترضيه. . وذكر أسم جورج هكذا مراراً، ودل المرأة على أنها تنطوي له على حب وميل. .

نعم يلوح لها أنها تحبه بأنصاف من العواطف والميول غير متكاملة ولا متكونة. ويكن ذلك ويا للأسف كان يزيد ألمها ويضاعف شجوها. . أجل إن جورج محق في قوله. فواجب على معاودة حياتي الزوجية، وأنا بهذا لا أنال شيئاً من زوجي الميت ولا أسوئه في كرامته. كذلك لا أفتات على أولادي الأحبة الذين تركني لهم، لأن جورج سيحبهم وسيحنو عليهم. والصغيران يحسان بهذا وبقدراته في سذاجة وطهارة. أما شارل ولدي الحبيب فسوف يقدره كذلك إن تفكر وتدبر. آه لشد ما يحب إياه هذا الصغير! إنه لينمو ويتفتح للحياة يوما بعد يوم كأنما نتعهد نماءه معجزة من السماء.

هون الأول في فصله في مدرسة (سان لويس) وإنه يترقى بين رفقائه وزملائه بصورة غريبة سريعة كأنما وكن نفسه على أن يسد الفراغ الذي تركه أبوه من بعده، إن لم يكن قد قام في نفسه أكثر من هذا: أن يكون خليفة أبيه في البيت ورب الأسرة التي كان يحلم أن يكون حاميها وراعيها. فيا للقسوة والنكران! وكيف تجرؤ هذه الأم أن تسلم أمور البيت إلى راع آخر وحام غريب؟!

ص: 51

ومضى الوقت وكادت الساعة تبلغ العاشرة وأفكار المرأة ما زالت تضطرب في ساحة ذهنها جيئة وذهوبا. وفيما هي منصرفة إلى زينتها وترجيل شعرها وتعليق حليها وأقراطها، إذا طرقات على باب الغرفة تنفذ إلى أذنيها فيجب لها قلبها وترتعش نفسها أمامه كمجرم أمام قاضيه. وفي الحق لقد كان الداخل (شارل) الذي توقف على الباب لحظة كالمأخوذ بدل أن يدخل عليها لتوه. قالت له الأم مضطربة قلقة وقد شاهدت تأثرا فجائيا يطبع وجهه بطابع الألم؛ مالك يابني؟ فأجابها الغلام: لا شيء لا شيء، إني مشدوه متعجب فقط. . . لقد ألفت أن أراك دائماً في ثياب الحداد. ولكن ولكن. . . أصحيح أن حدادنا على أبي قد انتهى؟ فألقت (مدام ليجيه) على المرآة الكبيرة أمامها نظرة غير عامدة فإذا بها تبصر ملامح وجهها الرائق تنسجم أبدع انسجام مع خصلات شعرها الذهبي، ولكن يناقض ذلك كل المناقصة زي ولدها المدرسي الأسود الغارق كله في حلة من حداد، ويرتجف صوت الأم حين تهم بإجابة ولدها ثم تنجدها لباقتها فتغير مجرى الحديث وتقول:

- ولكن. . . قل لي. . . لعلك مسرور من أستاذك هذا الصباح؟ ثم. . . ثم كيف حال كتابتك في الإنشاء، أظنها أعجبته؟! ثم ناجت نفسها:

- سألبث لحظة قبل الاعتراف له بالحقيقة خصوصاً وهو متأثر ومفاجأ بهذا اللباس والوقت متسع للغداء وللإفضاء إليه بالأمر. . .

على رغم من أن المحامي المتوفى موسيو (ليجيه) قد خلف لعائلته بفضل مركزه الخطير ونجاحه الكثير ثروة لا بأس بها، فإن مدام (ليجيه) لم تخالف شيئاً مما ألفته سابقا من تدبير واقتصاد في الإنفاق على المنزل. ولما كانت مدام ليجيه لا تستقبل في مفتتح عهدها بالترمل إلا أقرباء يمتون إلى الزوج بصلات القربى والمودة، فإن الإعداد لذكرى الميت لم يكن يحملهم جهدا أو مشقة، ولكن أنى لها بملء كرسي زوجها بشخص خاطبها جورج في حفلة الغد؟ أي عذر ستعتذر به لولدها؟ كيف تخل بهذه العادة التي يقدسها ابنها ويمجدها، والتي باتت تهبط روحها وتثقل على قلبها لأن صورة الخاطب أخذت تحتل مكانها يوما بعد يوم من قلبها.

وفي صباح هذا اليوم في وثبة طافرة من وثبات الإرادة الغريزية أمرت مدام ليجيه الخادم فقالت:

ص: 52

- لويس، لا تضعي في هذا الغداء مقعد المرحوم زوجي على المائدة، بل عليك أن تضعي مكانه مقعدا لجورج فوكولت. . .

وحان وقت الغداء واتخذت العائلة أمكنتها حول المائدة، ولكن (شارل) الصغير ما كاد يرى المائدة والكرسي الجديد بدل كرسي أبيه المتوفى حتى حملق في وجه أمه وقد امتقع وجهه وانتسف لونه أولا ثم احمر واشتعل بالدم الملتهب. ونظرت إليه الأم برعب وهيبة، ثم صبغ وجهها الاحمرار هي أيضاً. ولكن في تلك اللحظة الرهيبة الحرجة جرى أمر زاد أمر زاد في اضطراب مدام ليجيه وارتباكها ثم حيرها، ولكنه في الوقت نفسه أجرى المسألة في مجرى حسن لم تكن تتوقعه مدام (ليجيه). فبينما كانت تتناول بيدها مسند مقعد كي تجلس إلى المائدة إذا (بشارل) ولدها يلقي عليها نظرة تفيض بالحنان والشكر ثم تخضل عيناه بالدمع الذي لم يكن منبعه الحنق عليها ولا الغضب منها وإنما هو الامتنان منها والشكر لها. . . ولكن عن أي شيء صدر هذا الامتنان؟! نجم مما صوره له وهمه دون أن يتظننبالحقيقة الواقعة فلم يلاحظ الولد الطيب صورة المفاجأة والدهشة التي بدت على وجه أمه، ولا نظرات الارتباك المتبادلة بينها وبين الخادم، فقر في ذهنه أن أمه قد تبرعت له بمكان أبيه مراعاة له وتبديد لظنونه السابقة في وفائها لأبيه، لهذا أحتل مقعد أبيه أو الكرسي الذي وضع للخاطب (جورج فوكولت) محل كرسي أبيه، وقلبه يخفق من الفرح والشكر وحلقه غاص من الذكرى والحنين. . . وانتهى الغداء وخلا المكان (بشارل) وبأمه فضم (شارل) أمه إلى صدره بشوق وشكران وراح يقول لها وقد أرخى لعبراته العنان حتى بللت وجه الأم المسكينة الحائرة.

- آه، شكراً لك ألف مرة يا أماه. فقالت أمه في حيرة:

- ولكن لم هذا الشكر يابني؟! فقاطعها دون أن يترك لها الفرصة لمتابعة حديثها:

- أشكرك لأنك أحللتني محل أبي على مائدة الطعام في اليوم الذي تخلعين عنك فيه ثوب الحداد. إنك لا تدرين أي جميل أسديته إليَّ وملأ به قلبي الحزين. . . آه. . . ولكن يجب أن أعترف لك بصراحة. لقد كنت منذ زمن أشك، بل أخاف من تصرفاتك فاغفري لي الآن هذه الشكوك والظنون. . . نعم كنت أخشى أن تسنح لك في يوم ما فكرة الزواج لأنك ما تزالين صبية. ولقد أبصرت ثلاث أمهات من أمهات رفقائي في المدرسة يتزوجن ويسلمن

ص: 53

أبناءهن لأب ثانِ غريب عنهم. ولكنك أجلستني تجاهك منذ لحظة على مقعد أبي المرحوم فأدركت أنك تريدين أن تقولي لي: املأ محل أبيك يابني فقد آن لك أن تشغله وتواجه أختك وأخاك العزيزين وأمك التي تحبك، ولكن إن شغل مكان أبي ذلك الأب الذكي الطيب، فذلك ما ليس في وسعى ولكن أعاهدك أن أبذل له جهدي. وهنا تمثل لمدام (ليجيه) أنها كانت ستحطم قلب أبنها النبيل لو أنها انقادت لهواها الذي بدأت تشعر به نحو (شارل).

وفي هذه اللحظة وبينما (مدام ليجيه) تضطرب بين الماضي والحاضر، وتترجح بين تيارين طاغيين. تيار جارف عنيف من حب امرأة صبية حسناء، وآخر هادئ عميق من عطف أم رؤوم، إذا برنين الجرس ينتزعها من ذراعي ابنها الذي كانت تحتضنه وتضمه إلى صدرها بحرارة وشوق. .

لم تكن مخدوعة فقد جاءها الخادم بعد ثوان يطلب الإذن لموسيو جورج الخاطب الجديد، فأبدى ابنها (شارل) حركة مفاجئة أراد معها الانسحاب من قاعة الاستقبال ولكن الأم فهمت منه هذه الحركة فقالت في كبرياء ممزوجة بألم:

إبق مكانك يا (شارل) ثم التفتت إلى الخادم وتقول:

- قل لموسيو (جورج فوكولت) إنه من المستحيل على مواجهته هذه الساعة وسأكتب له جوابي كتابة. . .

وحين انفردت بابنها راحت تعانقه في لهفة وابتهاج ثم قالت: أبداً لن أتزوج يا شارل العزيز. أبداً لن أثقل عليك بأب يؤلم نفسك ويجرح قلبك. لن أرضى أن تتألم أنت كي أسعد أنا. إنك حسبي من دنياي يا بني وأظن أني حسبك أيضاً.

ص: 54