الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 976
- بتاريخ: 17 - 03 - 1952
الطريق إلى الكتلة الثالثة
للأستاذ سيد قطب
يسألني الكثيرون منذ دعوت إلى قيام الكتلة الثالثة: ما الطريق إلى قيام الكتلة الثالثة؟ وحينما كنت أحاضر عن هذا الموضوع في دار اللجنة العليا لشباب الحزب الوطني منذ أسبوعين، استوقفني بعض الشباب بعد نهاية المحاضرة ليبدي لي مخاوفه أن تكون العقبات التي في الطريق أكبر من الإمكانيات. . ثم أرسل إلى بعضهم يسألني تفصيل ما أجملت في هذه المحاضرة.
من بين هذه الرسائل رسالة للشاب الأديب (أحمد محمد أبو بكر الطالب السوداني بمعهد القاهرة) وقد جاء فيها:
(. . . إنه لمن حسن الطالع أن نستمع إلى محاضرتك القيمة بنادي اللجنة العليا للحزب الوطني وقد استطعنا أن نقف على أسباب تفرقة العالم الإسلامي، وأن نقف كذلك على حقيقة ما تضمره لنا كل من الكتلتين الشرقية والغربية من سوء. ولكننا مع ذلك كله لا نزال نطلب منك أن تبين لنا على صفحات الرسالة الغراء ما يستطيع المسلمون على ضوئه أن يوحدوا صفوفهم ويجمعوا كلمتهم لكي يكونوا كتلة ثالثة. . . الخ).
هذه الرسالة وأمثالها كثير تدل على استعداد معين عند الكثيرين من الشبان للاستماع إلى مثل هذه الفكرة والاقتناع بها، بل تدل على أكثر م هذا. . تدل على اللهفة الحقيقية لتحقيق هذا التكتل الإسلامي الذي آن له الأوان.
ولقد كنت أعرف عندما دعوة هذه الدعوة أن العقبات في طريقها شتى. ولكني كنت أومن كذلك أنها دعوة طبيعية، تنبع قوتها من تلبيتها لطبائع الأشياء، ولحاجة العصر، ولاتجاه المستقبل. وأن دوافعها أكبر من معوقاتها، مهما بدت هذه المعوقات من الضخامة والمناعة. . إن كل دعوة تتفق مع طبائع الأشياء، وتنبع من حاجة العصر، وتسير مع اتجاه المستقبل، هي دعوة ناجحة غالبة مهما يقم في طريقها من عقبات.
هذا المعنى أحب أن أؤكد أولا لشبابنا المتلهف على تحقيق هذه الفكرة، المشفق في الوقت ذاته من ضخامة العقبات، ومن موحيات اليأس، ومن عقابيل الماضي. . ومتى ثبت في الضمائر إيمان معين بالفكرة، فكل شيء بعد ذلك هين، وكل عقدة حلها ميسور.
والذين عاشوا مثلي في ربع القرن الأخير، قد تلوح لهم بشائر الأمل أقوى وأضخم من الشباب اليافع الذي لم يشهد ذلك الماضي. . إن هذا الشباب بطبيعته عجول لأنالطاقة الكامنة في كيانه تريد لها متصرفا سريعا. وهو ينظر فيرى عقبات جمة، ولكنه لا يعرف أن العقبات في الماضي كانت أضعاف ما هي اليوم، فتذاوبت شيئاً فشيئاً، بحيث لا تقاس اليوم إلى ما كانت عليه منذ ربع قرن فقط. أما الذين عاصروا تلك الفترة الماضية مثلي، فيعلمون أننا قطعنا شوطا بعيدا جداً في ذلك الزمن الوجيز.
إن أقصى ما تلاقيه فكرة التكتل الإسلامي اليوم من سوء استقبال، هو أن يتشكك بعض الناس في إمكان تحقيقها في فترة قصيرة، ويروا الكثير من العقبات في طريقها، ويشفقوا من ضخامة هذه العقبات. . أما قبل ربع قرن فقط فقد كان التفكير - لا في قيام كتلة إسلامية ضخمة بل في قيام كتلة عربية صغيرة - مدعاة للسخرية، بل مدعاة للتشكك في عقول من ينادون بها، واعتبارهم جماعة ممن في عقولهم مس، فهم يعيشون في الماضي، ولا أمل فيهم لأنهم مخرفون!.
لا بل إن قيام (رابطة شرقية) لا إسلامية كان يلقي مثل هذا الهزء ومثل هذه السخرية إلى عهد جد قريب. . فها هو ذا رجل واسع الأفق مثل الدكتور طه حسين باشا يؤلف كتابه: (مستقبل الثقافة) في سنة 1936 فيسخر فيه من تلك الفكرة سخرية مريرة، ولا يكاد عجبه ينقضي من تلك الجماعة التي كانت تسمى نفسها (الرابطة الشرقية) لأن مصر قطعة من حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا علاقة لها بذلك الشرق البعيد مسلما كان أو غير مسلم. . فالإسلام وغير الإسلام لا يملك أن يقيم رابطة بين مصر وهذه الشعوب!.
كان هذا منذ خمسة عشر عاماً فقط. . فإذا نحن قسنا تلك الوثبة الفكرية والشعورية الهائلة التي تملي علينا أن نتحدث عن الكتلة الإسلامية، أو عن الكتلة الشرقية، فلا يسخر بنا أحد، ولا يضحك منا أحد. بل تنبعث ملايين القلوب تخفق للفكرة، وتنبعث عشرات الأقلام تكتب عنها في كل مكان. وتنبعث مئات الأكف وألوفها تصفق للخطباء. ولا يتحدث متحدث إلا بالسؤال عن الطريق. . إذا تم هذا في خلال خمسة عشر عاماً فقط فهو النصر إذن وهو التوفيق.
ولماذا؟ إن هذا النصر لا ينبع من بلاغة الأقلام التي تكتب، ولا من فصاحة الألسنة التي
تخطب. . إنما ينبع أولا وقبل كل شيء من تلبية الفكرة لطبائع الأشياء، ومن مسايرتها لحاجة العصر، ومن تمشيها مع إرادة المستقبل. . وذلك هو الضمان الأكيد.
ستسير الفكرة إذن في طريق التحقيق منذ اليوم، حتى ولو لم يدع إليها قلم متحمس أو لسان متدفق. ستسير لأن الشعوب الإسلامية مضطرة اضطراراً لأن تعمل على تحقيقها كوسيلة من وسائل الخلاص من الاستعمار، ولإنقاذ العالم من حرب ثالثة قريبة في ذات الأوان.
وستسير الفكرة لأنها تلبية للاتجاه العالمي للتكتل. لا باسم القوميات والجنسيات، بل باسم المبادئ والعقائد. والعالم كله يسير في هذا الاتجاه الآن شرقاً وغرباً. فاتجاه المسلمين إذن إلى التكتل تحت عنوان فكرة ومبدأ هو الاتجاه الطبيعي للعالم كله، ومن ثم فهو الاتجاه الطبيعي في هذه الظروف.
إنني أعرف: أن الاستعمار سيقف في الطريق. وأعرف أن الكتلة الشرقية ستقف لنا في الطريق. وأعرف أن الحكام في كثير من أمم العالم الإسلامي سيقفون في الطريق. ولكني أعلم كذلك أن هذه القوى كلها مصطنعة، فهي لا تملك أن تقف طويلا أمام فكرة طبيعية، تستمد قوتها من طبائع الأشياء، ومن حاجة العصر، ومن نداء المستقبل في العالم كله، لا في بقعة منه محدودة.
ومن الظواهر العجيبة أن الفكرة التي تنبع من حاجة العصر واتجاه المستقبل يضطر خصومها - بحكم مصالحهم القريبة وتحت ضغط الضرورات الذاتية - إلى مساعدتها وتقويتها كالذي بربى أسداً يعرف أنه سيفترسه في النهاية، ولكنه يضطر مع هذا إلى تربيته لأنه يتقي به نمرا فاغرا فاه!.
لقد كان الخلفاء هم الذين هزموا ألمانيا في الحرب العظمى الأولى. وكانوا هم الذين ساعدوا على النهوض، وساعدوا معها إيطاليا، وساعدوا معها اليابان أيضاً. . لم يكن شيء من هذا حبا في عيون أحد من هؤلاء. . ولكنها كانت ضرورات المصلحة العاجلة لوقف التيار الشيوعي في العالم.
ثم حطموا هذه الدول الثلاث في الحرب العظمى الثانية. وفي سبيل تحطيمها اضطروا اضطراراً لتقوية روسيا ومساعدتها على الصمود في وجه الغول الجرماني. . وهم على يقين أن عدوهم الأول هو روسيا. ولكنهم ما كادوا يملكون أن يفعلوا غير هذا. . ثم ها هم
أولاء مرة أخرى. وبعد التجربة العالمية الأولى. يمدون أيدهم مرغمين لإنهاض ألمانيا واليابان. وهم على يقين أن الطاقة الكامنة في هذين الشعبين لن تتركهم في راحة، ولكنهم لا يملكون أن يفعلوا غير هذا. . إن خط سير الحياة ليس في يد أحد من البشر مهما تكن قوته. فالحياة تسير، وطبائع الأشياء تملى خط سيرها. والقوى الكامنة الناهضة لا سبيل للقضاء عليها. لأنها قوة من قوى الحياة، وقوة الحياة من الله. (والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
إن فكرة الكتلة الإسلامية تسير في طريقها. وإني لأكاد أراها رأى العين حقيقة واقعة. فليؤمن من شباب العالم الإسلامي بهذا. . والزمن كفيل باكتساح العقبات التي تبدو لهم ضخمة في الطريق.
ليؤمن من شباب العالم الإسلامي كله أن الاتجاه إلى راية الإسلام هو العمل الوحيد الذي يخلصهم من برائن الاستعمار، ويخلصهم من كيد الشيوعية التي لا تكاد تطيق مسلما يدب على الأرض.
فإذا آمن الشباب بهذه الفكرة اندفع يضغط على ساسة بلاده، الذين يسيرهم الاستعمار في ركابه، ويملى عليهم رغبته في التكتل الإسلامي. ولتكن كلمته الشباب دائماً: لا ارتباط بكتلة شرقية أو كتلة غريبة. فهذه الأرض أرضنا. ونحن نريد أن نقف تحت راية الإسلام وحدها، محايدين، نجاهد فقط من يعتدي علينا، ونمد بدينا حينئذ إلى الكتلة التي تنصرنا على المعتدين.
وواجب على كل شاب واع أن ينشر هذه الفكرة حيثما وجد. الطال في معهده، والموظف في مكتبه. والسياسي في محيطه. والعامل في مصنعه. والرجل في بيته وأولاده. . وعندما تصبح هذه الفكرة هي فكرة الشعب. فإن قوة على ظهر هذه الأرض لن تقف له في الطريق. .
لن أقول لهذا الشاب الأديب صاحب تلك الرسالة، ولا لأحد من إخوانه الذين كتبوا إلى كثيرا في موضوع شيئا عن الوسائل السياسية أو الدبلوماسية أو العسكرية. . إنني لا أومن بشيء من هذا كله. لست أومن إلا بالقلب الإنساني والعزيمة البشرية. إنني أومن بالعقيدة التي تزلزل الجبال، وتجرف الصخور. أو بالوعي الشعبي الذي يفرض إرادته. وأومن
بالغد وإشارته. وأومن بعقرب الساعة الذي يشير إلى هذا الاتجاه وحده. وأومن قبل كل شيء بالله الذي نفخ الروح مرة أخرى في هذا العالم الإسلامي الذي حسب الكثيرون أنه قد مات. فإذا هو يتمطى وينبعث، ليؤدي دوره في الأرض من جديد.
سيد قطب
عمر الخيام بين الحقيقة والأسطورة
للأستاذ السيد أحمد مصطفى الخطيب
صحبتي للخيام طويلة مديدة، وقد عرفته ضمن من عرفتهم من الشعراء الفرس الكبار وأدبائهم العظام منذ عشرين سنة تقريباً. . . أما هو فقد كان على الدوام أقرب إلى نفسي وأحب إلى قلبي. . . أما هم فقد كانوا أشغل لفكري وأدنى إلى إثارة اهتمامي بشعرهم منه. والخيام عاطفة وروح، وللعاطفة والروح سحرهما الذي لا يدفع، وسلطانهما الذي لا يقهر على العواطف والأرواح، فلهذا إن كنت قد عرفت الفردوسي عن طريق الشاه نامة، والسعدي عن طريق كلستان وبوستان، وحافظاً الشيرازي عن طريق ديوانه الرائع، ومولانا جلال الدين الرومي عن طريق المثنوى، والنظامي عن طريق هفت بيكر، وعرفت غير هؤلاء أيضاً عن طريق بعض ما كتبوا أو بعض ما كتب عنهم، فقد عرفت الخيام عن طريق رباعياته نفسها ثم عن طريق وديع البستاني، وحسين دانش، وعبد الله جودت، وحسين رفعت، ومحمد السباعي، وأحمد حامد الصراف، وأحمد الصافي النجفي، والزهاوي، وفيتز جرالد وغير فيتز جرالد من الغربيين، وأخيراً الفيلسوف رضا توفيق.
لهذا، عندما استقر رأيي على إعداد هذه الكلمة تملكتني الحيرة في بادئ الأمر أي الجوانب أفصح عنها؟ وأي النواحي أهملها؟ وكل جانب من جوانب حياة الخيام لذيذ شائق، وكل ناحية من نواحي أدبه الرفيع فاتنة مغرية، تستمرئها النفوس وتشتاقها الأرواح، حتى انتهيت بعد لأي إلى أن يقتصر كلامي على ناحية واحدة فقط من حياته، وهي ناحية عدد من الأساطير والخرافات التي تحيط بسيرة هذا الشاعر الإنساني العظيم. . .
الأسطورة الأولى
أعتقد أنه ليس بين الذين لفتت مكانة الخيام العلمية أنظارهم، أو أثارت رباعياته اهتمامهم؛ من لم يسمع شيئاً قليلا أو كثيرا عن تلك القصة الشائقة التي ذاعت وشاعت وتناقلها الألسن في كل مكان عن نشأة الخيام، وعن حياة تلمذته الأولى في نيسابور المدينة التي فتح فيها شاعرنا عينيه للحياة لأول مرة في هذا الوجود، وهي قصة شيقة لذيذة يغلب عليها عنصر الخيال الجامح، فيجعلها ضوء للروايات السينمائية التي تمثل أدوارها على الشاشة اليوم
نحن في مدرسة نيسابور الشهيرة. . . الزمن القرن الخامس الهجري؛. . نستمع إلى
العلامة الجليل الأستاذ الإمام الشيخ موفق النيسابورى رحمة الله عليه وهو يلقي درسه على طلابه الذين أحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، وهناك في ركن قصي من الأركان جلس ثلاثة من هؤلاء التلاميذ واتجهوا بكليتهم نحو أستاذهم الأكبر، يشع في عيونهم بريق الذكاء الحاد، وتبدو على سيماهم علائم الجد والعزم، هؤلاء هم الأصدقاء الثلاثة الأوفياء: عمر الخيام، نظام الملك، حسن الصباح زعيم الحشاشين فيما بعد. . .
قال حسن الصباح ذات يوم لصديقيه إنه لأمر مستحيل أن نخيب نحن الثلاثة تلاميذه الإمام المبارك في الحياة، قد يلاحق أحدنا، أو حتى كلينا الإخفاق، أما أن يلاحقنا هو كلنا. . فلا! فلنعاهد أنفسنا منذ الآن أمام الله على أن يهرع أي منا لنجدة زميليه إن قدر له الفوز ولم يكتب لهم النجاح فيوافقه الآخران على رأيه فتوقع بذلك الوثيقة التاريخية بين الثلاثة جميعاً.
تدور عجلة الزمان، وإذا بنظام الملك وزير لألب أرسلان السلجوقي، ورجل الدولة الأوحد لابنه ملك شاه من بعده، ثم إذا به أيضاً لا ينسى ما قطعه على نفسه من وعد في صباه فيبعث في طلب كل من حسن الصباح والخيام ويعرض عليهما أن يشاركاه فيما غاز به من نعمة وحصل عليه من سلطان. أما الخيام فيختار إيراداً سنوياً ثابتاً والتدريس في مدرسة نيسابور والانصراف إلى رياضياته وفلكياته، أما حسن الصباح فيؤثر منصباً مهماً في البلاط.
وهكذا تستمر القصة حتى تبلغ نهايتها المحتومة، بمؤامرة دنيئة ينسج خيوطها حسن الماكر لاغتيال صديقه الوفي الكريم نظام الملك ظلما وعدوانا لكي يستخلفه في جاهه وسلطانه، فيفتضح أمرها في اللحظة الأخيرة، ويضطر حسن الصباح إلى الهرب واللجوء إلى جبل قلعة الموت، وهنالك يؤسس لأول مرة في التاريخ المذهب الإسماعيلي المعروف حتى اليوم، وينظم فرقة الفدائيين الذين يبعث بهم من هناك لاغتيال عظماء الإسلام آنذاك. ويشاء الدر الساخر أن يكون بين هؤلاء الذين تمتد إليهم يد الغدر والخيانة نظام الملك نفسه! ذلك الشيخ الوقور والداهية العظيم الذي يذهب ضحية باردة لخنجر مسموم يغمده في صدره أحد هؤلاء المجانين وهو في طريقه إلى نهاوند بمعية الملك ملك شاه.
هذه هي الأسطورة الأولى الذائعة الشائعة المستقرة في الأذهان عن منشأ الخيام وعن أيام
حداثته، وهي قصة أثبت المستشرقون استنادا إلى تحقيقاتهم الدقيقة التي لا مجال لذكرها هنا إثباتا قاطعا أنها مختلفة من أساسها؛ ملفقة في جملتها وتفصيلها، ولا ظل لها من الحقيقة أبداً، وأن مخترعها مؤرخ يدعى ميرخوند من مؤرخي القرن التاسع الهجري
الأسطورة الثانية
يوم مشرق جميل، جو عابق بأنفاس الرياحين والورود؛ هدوء شامل وصمت مطبق لا يتخللهما سوى خرير الماء وتغريد البلابل. . والخيام قرير العين جذلان، جالس في دعة وسكون وأمامه ديوان شعر مفتوح وبجانبه زجاجة وكؤوس تأتلق بين جنباتها الأضواء وتتراقص على حواشيها الظلال
ومقامي غصن مظل بقفر
ورغيفان مع زجاجة خمر
كل زادي والأهل ديوان شعر
وحبيب يهواه قلبي المعنى
بشجي يذيبني يتغنى
هكذا أسكن القفار نعيما
وأرى هذه القصور خرابا. . .
(السباعية للبستاني)
وعلى حين فجأة تنكشف الطبيعة الوادعة الهانئة عن ثورة جامحة، وغضب مكتوم، فتزمجر الرعود، وتنقض الصواعق، وتكتسح الرياح الهوج كل شيء أمامها فتتحطم الزجاجة وتتناثر قطع الكؤوس هنا وهناك وتصبغ الخمرة وجه الأديم بلونها اللازوردي، فتثور نفس الخيام، وتهيجه النازلة، ويلهبه اليأس فينشد وهو في شبه غيبوبة من أثر الصدمة الغير المرتقبة، ويقول:
ابرين مي مراشكستي ربي
…
كسرت زجاجة خمري يا ربي
برمن ورعيش رايبستي ربي
…
أوصدت في وجهي باب الطرب يا ربي
برخاك فكندى من كلكون مرا
…
سكبت خمرتي الوردية على الثرى
خاكه م بدهن مكر تومستى ربي
…
التراب بفمي! فهل أنت سكران يا ربي
وهنا تحدث المعجزة التي لم يكن يتوقعها أحد حتى الشاعر نفسه، فيحمل غضب الباري سبحانه وتعالى وتنصب نقمته على هذا العبد المارق الملحد فيسود وجهه بغتة وكأنه فحمة الليل، وتتشنج عضلاته وتتقلص أطرافه حتى ليكاد الموت يخطفه من بين يدي الحياة.
فيدرك الشاعر عندئذ الإثم الكبير الذي ارتكبه فيسرع إلى التوبة ويعجل بالاستغفار فينشد ويقول:
ناكرده كناه درجهان كيست بكو
…
بي جرم كناه جون توان زيست بكو
من يد كنم توبد مكافآت كتى
…
بس فرق ميان من توجيست بكو
- الترجمة للزهاوي -
من الذي لم يجن قط ذنبا
…
كيف عاش الذي زكا وتوقى
إن تكافئ سوئي بسوء فقل لي
…
أي فرق بيني وبينك يبقى
وعلى أثر ذلك تدركه العناية الإلهية، وتقبل توبته، فيعود إلى وجهه إشراقه السابق والى سائر أعضائه حالتها الطبيعية، فسيجد الخيام آنذاك سجدة الشكر والامتنان.
هذه ثانية الأساطير التي تنسب إلى الخيام وعمر بن إبراهيم منها يراء براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وإذا كانت التحقيقات العلمية لم تكشف لنا بعد عن اسم المختلق الكذاب واضع هذه القرية الشائنة، إلا أننا لا نحتاج كما أعتقد إلى كبير جهد لندرك أن الأفاك الأشر كان ولا بد على حظ موفور من الوقاحة وسعة الخيال
البقية في العدد القادم
السيد أحمد مصطفى الخطيب
مفتش معارف أربل بالعراق
بعد عشرين قرناً
حضارة عربية تنكشف عنها الرمال
للأستاذ وندل فيلبس
رئيس البعثة الأثرية الأمريكية
كانت ليلتنا الأولى بين عرب وادي بيجان في عدن تبدو في ظاهرها كأنما انتزعت مباشرة من دنيا ألف ليلة وليلة. فما كانت هوليود ذاتها مستطيعة أن تفعل خيرا مما فعله مضيفنا الشريف حسين بن أحمد حاكم بيجان. لقد جلسنا متربعين في باحة القصر نشاهد الرقصات الغجريات اللواتي خلبن ألبانيا بحركاتهن الرتيبة المثيرة في أضواء الشموع المرتعشة، بينما كانت الطبول تملأ الظلمة بأصدائها الخافتة، وأنغام الناي تنساب حلوة ناعمة.
وكان يهيمن علينا جو من أجواء الأساطير. فأنت تحس فيه بنكهة الخيال، وطعم الخطر، فقد قام على مقربة منا مائتان من الحرس القبليين اليقظين، كالحي الوجوه، يحملون جنبياتهم (خناجرهم) الكبيرة في مناطقهم المنتفخة بالرصاص، ويتنكبون بنادقهم المهشمة تسندها سواعدهم المعروفة التي كانت تبدو واضحة من بين أسمالهم الصحراوية الممزقة.
كنا نعرف ما يتصف به بدو الجنوب في الجزيرة العربية من الخطر، وما هم عليه من كره شديد، يذكيه ما في الإسلام من حماسة وحمية، لكل من يتطفل على بلادهم من الأجانب. كما كنا نعرف عن المحاولات التي سبق وقوعها على حياة الشريف حسين. ولكن هؤلاء الحراس، مع استعدادهم لكل ما قد تنشق عنه الصحراء من الأخطار، كانوا يتابعون الراقصات بأبصارهم. وقد استطعت وأنا أتطلع حولي دهشا لذلك المنظر، أن أشاهد أسنانهم البراقة وهم يبسمون لبعضهم، ويكز بعضهم بعضا، عندما تمر إحداهن على مقربة منهم.
وكان الشريف حسين، وهو من أطول وأجمل من رأيت من العرب، يبتسم هو أيضاً، ويلوح لي بيده، إشارة على انه يود الحديث معي بوصفي قائدا للبعثة، كان يجلس في مقابلتي موليا ظهره للفتيات اللواتي طالما رقصن من قبل لتسليته، وكان الدكتور أثريي البعثة ومترجمها بجانبي، وهو يتكلم خمسا وعشرين لغة، فوكزته، فأومأ إلى الشريف
حسين، فردا هذا مرحبا بقوله:(أهلا وسهلا) وكأنما لم يقلها لنا من قبل، مع أني أصبحت أعرف بأن معناها:(مرحبا بكم وطاب مرعاكم) فرد عليه العلامة أولبرايت تحيته.
كان الشريف حسين، الأريحي المرح، الذي بهرته قافلتنا الميكانيكية، قد أبدى لنا منتهى الكرم، كأنما كنا الرئيس ترومان ووزراءه. إن وصولنا ذات مساء إلى وادي بيجان، بعد رحلة طويلة مضنية، من خليج عدن، حدث من الأحداث الكبرى في تاريخ وادي بيجان الحديث. فقد كنا أول جماعة من الأميركان تقع عليهم أعين البيحانيين. لقد جئنا، نحن الخمسة عشر، لإزاحة الغطاء عن حضارة تعرف بالقطبان، قامت على عبادة القمر، ثم انقرضت قبل 2000سنة، بعد كارثة لا بد وأن تكون قد هزت العالم العربي القديم من أساسه.
تلك الكارثة هي خراب (تمنا)، عاصمة القطبان القديمة. فمنذ ذلك الحين أسدل الصمت ستار كثيفا من النسيان على تاريخ الوادي، حتى أن سكانه المعاصرين، ليست لديهم أية فكرة عن أسلافهم المدهشين، الذين عملوا علىإشادة طريق البهارات في أيام التوراة، وعلى تحويل هذه الأراضي القاحلة إلى ما يشبه الدوريدو الأعصر الغابرة.
لم أتأثر قط في سني التسع والعشرين، كما تأثرت هذه المرة، فإن زيارة وادي بيحان النائي الذي يكاد يكون مجهولا جهلا تاما، كانت هدفي منذ سنين. ولكني كنت وأنا أقابل ابتسامة الشريف حسين بمثلها، أحس بالسعادة تغمر كياني لوجودي في وادي بيحان، كما أحس بالألم للحالة السيئة التي تدهور إليها بيحانيون. لقد عاشت ملكة سبأ على مقربة من هذا المكان يوما ما، فلا بد وأنها مرت بهذه الرمال مرارا عندما كانت حقولا نضرة غنية بالمياه.
لقد أعادني التفكير في الملكة التي أمطرت الملك سليمان بالهدايا - كما تقول التوراة - والتي يشك بعض العلماء في وجودها، إلى حاضري أمام الراقصات الغجريات. لابد أنها كانت تبدو مثلهن، فقد جاءت كما جئن من مكان يسمى سبأ، وهو جزء يقع اليوم في اليمن. إن هؤلاء الغجريات، سمر البشرة، متناسقات الأعضاء، مشجرات المآزر والقمصان، وإن يكن تفصليها غير متقن في أذواقنا.
كانت كل منهن تتحلى ب 50 رطلا من الحلي الفضية حول رقبتها، ومعصميها، وساقيها.
ولا أدرى كيف استطعن تحمل ذلك كله، ولكن رقصهن استمر متزنا زهاء ساعتين.
كان الرقص في بادئ الأمر رائعا، فأيديهن رشيقة، وحركات أردافهن تستلفت الأنظار، وقد صفقنا لهن مرارا. ثم أخذن في الاقتراب منا شيئا فشيئا. أثناء انسيابهن في باحة القصر. وإني لأتذكر كيف مال جورج فرير مساعدي، البالغ من العمر التاسعة عشر بجسمه نحوي ثم أخذ يصفر في هدوء.
ثم بدأ اهتمامي يزول. ولعل مرد ذلك عائد لاطراد الرقص على نسق واحد رتيب، أو للإعياء الذي انتابني، ولكن السبب الرئيسي هو أن إحدى الفتيات انحنت أمامي حتى شممت شعرها.
إن البدويات يستعملن بول الإبل لتجعيد غدائرهن، فتأكدت أن هؤلاء الغجريات لا يخرجن علة تلك القاعدة. لذلك تلاشى تأثيرهن، وما انتهى العرض حتى لم يبق مما يثير الإعجاب سوى جلد الراقصات - وجلدنا.
كانت أعمار الراقصات الأربع تتراوح ما بين الثانية عشر والثلاثين تقريباً. وقد قال لي الشريف حسين إنهن غادرن اليمن لأن الحكومة تأبى عليهن الرقص مع الرجال، وتعارض في ممارستهن بعض المهن الأخرى التي يقمن بها بغية الكسب. أن مثلهن كمثل المومسات في الصحراء في تهافتهن على المال - قل أم كثر.
إن البون شاسع بين بول الأبل، وبين اللبان والمر اللذين كانا يبثان في سماء بيحان جوا السحر. لقد سجل ديونيسوس الكاتب اليوناني، ثناءه على البلاد حوالي عام 90 بعد الميلاد، في الوقت الذي كان يكتب فيه إنجيل يوحنا. فقال (إنك لا تتنفس في (العربية السعيدة) غير أريج اللبان أو المر من البهارات العطرة. وإن لأهلها قطعانا عظيمة من الضأن تتغذى بما في مراعيها من العشب والكلأ، وإن الطير تهوى إليها من الجزائر النائية تحمل إليها أوراق القرفة.).
قامت اقتصاديات أربع من الممالك الهامة على ما كانت تدره قوافل البخور في جنوب الجزيرة العربية من الثراء زهاء ألفين من السنين فقد كانت القوافل تنساب في مهل من غابة البخور في حضر موت، متجهة نحو الشمال على طول الجزيرة، وهي تقدم في طريقها الإتاوة، والحماية، لعدد لا بحصى من القبائل، ثم تعود محملة بالذهب، والفضة، من
مصر واليونان وروما، كما ذهبت محملة بالبخور والبهارات. فقد كانت هذه البلدان تتبوأ المكان الأسمى بين بلدان سواحل البحر الأبيض المتوسط.
لقد أقلق تدفق الأموال من الإمبراطورية الرومانية رجال الاقتصاد فيها، فجأروا بالشكوى من أن (العربية السعيدة) لسوء الحظ، هي السبب في ارتفاع أسعار الذهب. وفي تدهور قيمة العملة المتداولة. وكانت قصص المدن الخرافية والأضرحة المليئة بالذهب في (العربية السعيدة) تدور على الألسنة. ولكن أحداً لم يجد في نفسه الجرأة الكافية على إثارة العرب وإغضابهم.
وقد حاول الإمبراطور أغسطس قيصر أن يتحقق من صدق القصص التي كانت تروي عن رعاة الإبل من العرب، فبعثإبليوس غالوس أحد قواده إلى (العربية السعيدة) فسار حتى مأرب، ولكن ضريبة الحر، والمرض، ومعارك الصحراء، كلفته جيشا تعداده 000 ، 10 جندي، لم ينج من الهلاك منهم إلا قليلون.
كانت مأرب عاصمة سبأ أو شبأ، كما تسميها التوراة. وكانت سبأ إحدى ممالك البهار الأربع، أما الثلاث الأخرى فهي معين، وحضر موت، وقطبان. وكان هدف بعثتنا جغرافيا، هو الوصول إلى وادي بيحان، قلب القطبان وعاصمتها تمنا.
كانت سبأ ومعين تحتلان بقعة من الأرض هي الآن اليمن، وجزء من البلاد السعودية، والجزء الغربي من عدن
- وبوجه التقريب، وادي حضر موت العظيم. وعلينا للوصول إلى بحيان الذي يقع أشد جبال الزاوية الجنوبية الغربية من جزيرة العرب وعورة، أن نجتاز الجزء الشروق والغربي من وادي حضر موت - وسرعان ما عرفنا لماذا يسميه سفر التكوين في التوراة (بدار الموت.).
كنا نستمع، من حين إلى حين، إلى قصص الفتك بين العرب بينما كانت سياراتنا تقعقع فوق ما يسمى تجوزا بالطريق، وسط الحرارة المتقدة. لا أدري ما الذي حدا بي حدا بي إلى مغادرة أرصفة نيويورك، والمجيء إلى هذه الدنيا.
لقد جمعت في نيويورك. أمام مكاتب رجال الأعمال الضخمة، والمجالس المالية، القسم الأكبر من نفقات البعثة. وعن طريق التليفون والمراسلة جمعت رجالي وأرسلتهم بالباخرة
أو الطائرة كانت البعثة مؤلفة من علماء أميركيين ومن بعض الطلاب، وكانوا جميعا مستعدين للعمل لقاء أجر زهيد، أو لقاء لا شيء بالمرة. وكان من ضمن أفرادها العلامة أولبرايت. رئيس مدرسة اللاهوت في جامعة هوبكنز. وهو في الستين من عمره. ويتميز بجرأة تكاد تبلغ حد التهور. ولاسمه بين البدو تأثير كبير، حتى أنه ليقطع وحده أميالا وأميالا في الصحراء كل يوم لمراقبة أعماله التي تتألف بالإضافة إلى العمل المتواصل دون كلل، من القفز فوق الجدران المتداعية، رغم الأفاعي والعناكب الخطرة. ومن أعضائها أيضاً وليم ترى، الذي اشتهر بصوره الفوتوغرافية أثناء الحرب العالمية الثانية. وشارلس إنج، رئيس الحفريات عند بدء البعثة بأعمالها ورئيس الآثار في عدن، الذي اقتنع العلامة أولبرايت بالشروع في الحفر في تمنا، بدلا من أماكن أخرى كان من المحتمل مباشرة الحفر فيها. والدكتور إسكندر هانيمان، أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة سان أندروز الاسكتلندية، والدكتور ألبرت جامي، أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة تونس. والدكتور فريزو هيبرويك الجيولوجي الهولندي، والدكتور رشارد لي بارون بووين، العالم الأثري من أهالي جزيرة رود، وكنيت براون من طلاب جامعة كاليفورنيا. والسيدة وليم ترى، المكتشفة العالمية الشهيرة. والدكتور لويس كراوس، والدكتور جيمس ماكنتيش، وكلاهما من جامعة ماريلاند، وقد قاما في بيحان بالأشراف على صيدليتنا التي نتألف بها قلوب الأهالي. وشارلس ما كلوم من كاليفورنيا، وهو رئيس مواصلاتنا وجورج فارير من كاليفورنيا وهو مساعدي. وأوكتاف روماني، من نيويورك، وهو مصورنا الفونغرافي.
يعود الفضل في إرسال هذه البعثة في الربيع الماضي إلى بيحان، ورحلتها التي تزمع القيام بها هذه السنة إلى مؤسسة جديدة، هي المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان، التي تم تأسيسها في العام الماضي بعد تفكير دقيق. لقد أسندت رئاستها إلى بينما تولى نيابة الرئاسة في أول الأمر العلامة أولبرايت. وتولى إدارتها كل من الأميرال شستر نيمتز، وصموئيل برابور، ولاول توماس وأمير اللواء ماكيزي، وبايارد كولجيت، وشارلس ناجر من أهالي نيويورك، وجيمس موفيت من سان فرانسسكو.
وكانت بعثتنا من غير شك مجهزة بالسيارات والمبردات والمحركات الكهربائية والسلاحوما أشبه تجهيزاً لم تنله أي بعثة أخرى. وقد قطعنا نصف الكرة الأرضية حتى ضربنا خيامنا
في بيحان، واستأجرنا 200 عربي للقيام بأعمال الحفر وإزالة الرمال. وهنا وبينما كانت القطبان تترقب من يزيح عنها الستار، جاءني شارلس ماكلوم، رئيس مواصلاتنا يلقي إلي بالحقيقة المرة:
- لقد بحثت في كل مكان، ياوندل، فلم أجد شيئاً. فصرخت وقد أخذ الدم يتجمد في عروقي: لم تجد ماذا؟ فأجاب: لم أجد سخاخين. لم أجد فؤوساً لم أجد مقاطف.
ولكننا استطعنا الحصول على حاجاتنا من ذلك من مدينة عدن ومن القرى العربية المختلفة. وكان الحصول على المقاطف
أعرض ما واجهنا من المشاكل. فقد تحتم عملها.
وكان الحصول على بقية ما نحتاج إليه من المال أصعب من الحصول على حاجتنا من الأجهزة. لقد كانت سفينتنا في عرض البحر وعلى ظهرها جميع أفراد البعثة حينما خف إلى نجدتي والاس رشارد، رئيس أحد المتاحف في فبفضل جهوده وافق المتحف على منحنا معونة مالية، وعلى القيام بعرض مكتشفاتنا من الآثار العربية. وكذلك فإن رونالد هاريمان، وألن وسارة سكيف، وهـ. ج. هاينز الثاني، ولجنة الوصاية على وقف ا. و. ويلون الخيري والثقافي، وكثير غيرهم، قد منحونا مساعدات مالية جزيلة.
وأخيراً تسنى لي السفر جوا إلى عدن أنا وجلادس ترى مديرة أعمالنا. ولما وصلنا إلى لندن في طريقنا إلى عدن زارنا مندوبو الصحف، فانتزعت جلادس، الشقراء الفاتنة، الإعجاب. فقد نشرت لها الدبلي ميل صورة كبيرة، كتبت تحتها:(أربعة عشر رجلا وفتاة واحدة يبحثون عن ملكة سبأ) ثم استطردت تقول: (فتاة أمريكية في هيئة عارضات الأزياء (المانيكان)، وعزيمة المصارعين، تطير إلى دنيا سبأ الضائعة) ثم أردفت تنقل قولي:(لا يدري أحد ما الذي سنعثر عليه، فإننا لا نتوقع أن نكتشف بقايا ملكية سبأ وهي جالسة في حمامها ممسكة بيد الملك سليمان، لكننا نأمل أن نجد بقايا جثمانها)
لم يكن لدينا ما يدفعنا على الشك، كما يشك الكثيرون، في حقيقة وجودها. يل يجب أن يثبت البحث الأثري وجودها عاجلا، ونأمل أن يكون من البادئين بذلك. فلقد سبق لعلم الآثار أن أثبت أن الملك سليمان تولى الحكم من سنة 961 إلى سنة 922 قبل الميلاد.
ما أكثر ما حيك من الخرافات والأوهام حول هذه الملكة التي جاء ذكرها في سفر الملوك
الأول من التوراة: لقد وردت على الملك سليمان، كما تقول التوراة، (وأعطت الملك مائة وعشرين وزنة ذهب وأطيابا كثيرة جدا وحجارة كريمة. لم يأت بعد مثل ذلك الطيب في الكثرة الذي أعطته ملكة سبأ الملك سليمان.)
إن رحلة ملكة سبأ إلى القدس حوالي سنة950 قبل الميلاد تتفق والتوسع العظيم في تجارة القوافل في التاريخ القديم وأغلب الظن أنها قامت بتلك الزيارة بوصفها رئيسة لأغنى وأقوى دولة في جنوب الجزيرة العربية للعمل على تعزيز طريق البهارات، كما قامت بها لرؤية الملك سليمان.
إن أغلب أشجار الطيب تنمو في الجنوب الشرق من حضر موت والعصارات التي تتساقط من جذوع المر واللبان على هيئة دموع متجمدة، تجمع وتحمل على ظهور الإبل إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط على بعد 2000 ميل تقريباً. كان طريق القوافل يتجه في العادة غرباً عبر الأراضي الحضرمية، ثم ينحرف نحو الشمال متاخما للساحل الشرقي من البحر الأحمر. وعلينا أن نسلك جانبا من ذلك الطريق، في طريقنا إلى وادي بيحان.
طرنا من لندن، أنا وجلادس، إلى عدن عاصمة المحمية. حيث منيت بموقف عصيب مع حاكمها السر ريجينالد شامبيون. لقد سبق لي القيام بزيارة تمهيدية إلى عدن قبل بضعة أشهر. عندما كنت أفتش عن موقع من المواقع الأثرية، فتحصلت في ذلك الحين من القائم بأعمال الحاكم، لغياب السر ريجينالد في إنكلترا، على إجازة بالذهاب إلى وادي بيحان. لقد كانت كلمت السر ريجينالد الأولى حينما رآني:
(لو كنت في عدن حينما جئتها مؤخراً أيها الشاب، لما سمحت للبعثة بالدخول إليها قطعاً. فهناك كثير من مشاكل السياسة والأمن تكتنف المنطقة التي تود اكتشافها) وتوقف عن الحديث. فهيأت للكلام، ولكنه أردف مبتسما:
(وعلى كل فما دمت وجماعتك قد وصلتم فعلى الرحب والسعة)
لم يكن السر ريجينالد متصلبا. فقد تعاون البريطانيون معنا جهد استطاعتهم فأمدونا بخمسة وعشرين عربيا من جنود الحكومة يقودهم أحد الأشداء في عدن، وجهزونا بكتاب لشيوخ العرب جميعهم في الداخل، يفيد بأن بعثتنا، ليست عسكرية ولا تجارية، ولكنها علمية بحتة
للكلام بقية
(صوت البحرين)
ع. ت
المسلمون بين الشرق والغرب عند ظهور الإسلام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 2 -
لقد حل الإسلام عند ظهوره ما كان بين الشرق والغرب من حروب أكرم حل، فلم يرض أن يكون ذيلا لكتلة من الكتلتين المتخاصمين عند ظهوره، بل وقف منهما موقفا كريماً، ودعا كلا منهما إلى ألفة جامعة، وسلام شامل، ليحل الوئام محل الخصام، وتهنأ البشرية بعهد صفاء وسلام، وما كان له أن ينضم إلى إحدى الكتلتين، لأن كلا منهما آثما في حربه، لأنه لم يكن يبغي به خيرا لبني الإنسان، وإنما كان يبغي به التحكم والسيادة على العالم، فلم يكن الفرس يبغون من حربهم إلا أن يسود الشعب الفارسي على غيره من الشعوب، ولم يكون الروم يبغون إلا أن يسودوا أيضاً على غيرهم، ولم تكن هذه الغاية في شيء مما يدعوا إليه الإسلام، لأنه أتى لخير الإنسانية عامة، ولم يكن يسعى في بسط سيادة العرب الذين ظهر أولا بينهم، وكان لهم فضل السبق إلى الإيمان به، وشرف الجهاد في سبيله.
وهاهو ذا التاريخ يعيد الآن نفسه، وتقوم فيه كتلتان تتنافسان في السيادة على العالم: كتلة شعوب أوربا الشرقية بزعامة روسيا، وكتلة أوربا الغربية بزعامة أمريكا وإنجلترا. وقد كانت ألمانيا قبل هذا تنازع إنجلترا وفرنسا سيادتهما على العالم، وكانت روسيا على عهد قياصرتها تحالف إنجلترا وفرنسا على ألمانيا، وقد قامت في هذا حربان عالميتان كانت ألمانيا تظهر فيهما على هذه الكتلة المتجمعة عليها، وكانت أمريكا حين ترى إنجلترا توشك أن تنهار تتعصب لها بحكم اتفاقهما في الجنسية؛ فتحارب ألمانيا بجانبها، وتنصرها عليها بما تملك من مال ورجال.
فلما ذهبت ألمانيا من الطريق انتقل الخلاف على السيادة على العالم بين الكتلتين السابقتين، وإذ كان خلافا على هذه السيادة فهو خلاف لا يراد منه خير للإنسانية في مجموعها، وإنما تنظر الكتلة التي تتزعمها روسيا فترى أن أميركا وإنجلترا وفرنسا قد بسطت سيادتها على العالم، واستولت على كل شيء فيه بسلطانها ورؤوس أموالها، فأخذت تعمل على زعزعة ذلك السلطان القوي، ليحل سلطانها محله، ويكون لها السيادة على العالم بدل أمريكا وإنجلترا وفرنسا، ولما نظرت الكتلة التي تتزعمها أمريكا وإنجلترا إلى ما تحاوله روسيا،
قابلتها عداء بعداء، وصارت كل منهما تستعد لحرب الأخرى، وتحاول جر العالم إلى حرب لا يعلم عاقبتها إلا الله تعالى.
وكما يعيد التاريخ نفسه مع تينك الكتلتين يعيده أيضاً مع المسلمين، فإنهم يقعون الآن فيما وقع فيه العرب بين كتلتي الفرس والروم، تتنازعهم كل من تينك الكتلتين المتنازعتين، وتحاول استخدامهم في تلك الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولا يعود عليهم منها فائدة من الفوائد، وقد وقف المسلمون في الحربين العالميتين السابقتين موقف العرب بين كتلتي الفرس والروم، فحارب فريق منهم بجانب إنجلتراوحلفائها، وحارب فريق منهم بجانب ألمانيا وحلفائها، ولم يكن لهم مصلحة في تينك الحربين، بل كانوا فيها ذيولا لغيرهم، فلم يستفيدوا منهما شيئاً لأنفسهم، بل صارت حالتهم بعدهما إلى أسوأ مما كانوا عليه قبلها.
ولم يجن عليهم هذا إلا تفرقهم واختلاف كلمتهم، وإلا انقسامهم إلى فريقين يقف كل منهما موقف التابع الذي لا رأى له في الكتلة التي انضم إليها، فكانوا يساقون في كل من تينك الحربين سوق الأنعام، وكانت الحرب تأكل ما تأكل من أنفسهم وأموالهم، فإذا جاء وقت الصلح لم يدع أحد منهم ليجلس مع المصطلحين جنبا لجنب، كما كان يقف بينهم في الحرب جنبا لجنب، بل يتم الصلح على حسابهم، ويتفق المتحاربان على تقسيم بلادهم بينهم، ومن هان على نفسه هان على غيره، كما قال بعض الشعراء:
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها
…
وحقك لم تكرم على أحد بعدى
فيجب أن ينظر المسلمون الآن إلى موقف الإسلام عند ظهوره بين كتلتي الفرس والروم، فيقفوا موقفا كريما بين كتلتي أوربا الغربية والشرقية، ويعيدوا موقفه النزيه بين الدولة الفارسية والدولة الرومية، ويعملوا على تجنيب العالم ويلات الحروب بعد تفاقمهما بكل ما في وسعهم، فيكون موقفهم بين الكتلتين موقف الداعي إلى السلام، والوسيط الذي يسعى في خير الفريقين، لينهى ما بينهما من نزاع بالوسائل السلمية، ويجمع كلمتهما على ما فيه الخير للإنسانية، فإن أمكنه ذلك رفع من شأن نفسه الفريقين، وكسب لبلاده مالا يكسبه بوقوفه ذيلا لهما، وبانقسامه إلى فريق يؤيد إحدى الكتلتين فيما تريده لنفسها، وفريق يؤيد الكتلة الثانية فيما تريده أيضاً، وينسى كل منهما في هذا مصلحة نفسه، ولا ما يجره هذا
الموقف المزري من هوانه على غيره.
لقد جنى المسلمون من تفرقهم في عصرنا على أنفسهم جنايات لا حصر لها، وقد استفاد كل خصم لهم من تفرقهم ما لم يكن ليستفيده لو استعانوا عليه باتحادهم، وكان آخر ما جنوه بتفرقهم وأقساه ما حصل لهم في حرب فلسطين، فقد مكن تفرقهم لفئة قليلة من اليهود أن تنتصر وقد كان النصر منهم قاب قوسين أو أدنى، فانقلب النصر إلى هزيمة وصارت فلسطين لليهود دون من اختلف عليها من فريقي المسلمين، ولو أنها كانت لواحد منهم لكان هذا أكرم للإسلام، وأنفع للمسلمين، ولكن أين من ينظر إلى هذا منهم وما سيترتب على هذه الشوكة التي وضعت في جنبهم، ولا يدري إلا الله عواقبها على دولهم.
وأين هم من معاوية بن أبي سفيان، وقد طمع فيه قيصر الروم، وأراد أن يستغل فرصة الحرب التي وقعت بينه وبين علي ابن أبي طالب، فأرسل إليه يطلب منه أن يدفع جزية له، فلم يكن من معاوية إلا أن يرسل إليه أن يكف عنه، وإلا اتفق هو وابن عمه عليه، واجتمعا على حربه، فكف قيصر عنه، وكان لهذا الجواب الحازم أثره على نفسه
فقد رأى معاوية في هذا أن علياً أقرب إليه من قيصر، فإذا طمع قيصر فيه كان عليا على ما بينهما من العداوة أولى بأن يسلم الأمر إليه، وأحق من قيصر بأن يدخل في حكمه، لأن قيصر أجنبي: وعلي ابن عمه، ومن قريش قومه.
ولكن معاوية كان معاوية، ومن لنا اليوم بمثله في عقله وحصافته؟ ولقد وضع الأمر في نصابه حين وازن بين علي وقيصر، فأني به على حقيقته، ولم يتمسح فيه بما نتمسح به الآن من نزعة دينية، مع أنه كان أقرب إلى الدين منا، ولكنه رأى أن الأمر بينه وبين علي لا يعدو أن يكون نزاعاً على الحكم، ولا علاقة له بأمر الدين.
أما نحن فنتخبط اليوم في أمورنا خبط عشواء، فتحاربنا إنجلترا وفرنسا وغيرهما من أمم أوربا حرباً عنصرية لا دينية، يراد منها فرض سيادة الغرب على الشرق، ويجتمع أبناء الشرق من مسلمين ومسيحيين على مقابلة هذه الحرب العنصرية بمثلها، فيأبى بعضنا إلا أن يجعلها حرباً صليبية، ولا يبالي بما يحدث هذا في نفوس من يشاركنا في هذه الحرب من إخواننا المسيحيين، وهم الذين فهموها على حقيقتها، لأن أوربا طلقت المسيحية من يوم أن نهضت نهضتها، ففصلت بين السياسة والدين، وتوجهت إلى الشرق تستعمر أهله على
اختلاف مللهم استعماراً سياسيا اقتصاديا، لا يهمها فيه مسيحية ولا غيرها من الديانات.
ومن مصلحة المسلمين أن تفهم حرب أوربا لنا على هذه الحقيقة، حتى يتفق على مقاومتها أهل الشرق من مسلمين ومسيحيين وغيرهم، ولا نفتح باباً لأوربا تفرق فيه بيننا تفريقاً دينياً، وتحاول ضم المسيحيين منا إليها، لأن حربها لنا حرب صليبية، وبهذا نكيد لأنفسنا مالا تكيده أوربا لنا.
فليكن للمسلمين الآن قدوة في سلفهم حين وقعوا في مثل مشاكلهم، فوقفوا فيها كراماً، وكان لمواقفهم الكريم أثره في نجاحهم.
عبد المتعال الصعيدي
أعتذر إليك.
.!
للأستاذ محمود محمد شاكر
أكتب هذه الكلمة محزون النفس لشيء اجترمته، كان أولى بي أن أصبر حتى لا أزل عليه. وذلك أني قرأت كلمة في بعض المجلات يقول فيها كاتبها:(فإذا منع الفقير حقه، فله أن يقاتل عليه، لأن الله يأمر بقتال الباغين (وإن طائفتان من المؤمنين اقتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفي إلى أمر الله). ولا شك أن مانع الحق باغ) فاحتملتني العجلة وسوء الظن، أن أرى الكاتب قد استدل بالآية في غير مكان الاستدلال بها. فساء قولي في الرجل بين جماعات من الناس، إذ لم يقع لي إلا أن الآية في اقتتال طائفتين من المؤمنين ثم بغي إحدى الطائفتين على الأخرى. ولما سكن بني الليل أمس (السبت 12 جمادي الآخرة سنة1371) حاك في قلبي شيء لم أدر ما هو، وألح على أني اكتسبت في أيامي هذه إثما أخشى أن لا أفلت من عقابه. وارتفعت لعيني هذه الآية بختامها (إن الله يحب المقسطين)، فرأيت من العدل والقسط أن أرجع إلى تفسيرها، والى أقوال الأئمة في قتال أهل البغي، فعرفت ما لم أكن أعرف، أن بعضهم قد أستدل بها في مثل ما استدل عليه الكاتب الفاضل، وإن كان لطريقة الاستدلال عندهم نهج غير نهجه، وقيد فيما أطلقه. وإذا أنا قد ظلمته ظلما لا ينبغي. فلم أزل منذ تلك الساعة أستغفر الله لما فرط مني وما جرى من لساني من الكلم السيئ؛ واستغفرت له بما أسأت إليه بظهر الغيب.
فلما قرأت الرسالة في صباح ليلتي (الأحد 12 جمادي الآخرة) كنت أوشك أن لا أحمل القلم مرة أخرى للرد على الكاتب الفاضل في مقاله (أجل. . ذو العقل يشقى). ولكني وجدت السبيل قد تيسر لي أن أعتذر من سيئة اكتسبتها في الإساءة إلى رجل يظهر الغيب، لنفس الداء الذي نهيت الأستاذ عنه، وهو العجلة. وأنا لم أقصد نهيته إلا لما فيه خير له ولي إن شاء الله
وقد تبين لي بعد قراءة كلمته أني أخطأت أيضاً في الذي كتبت به إليه، فوقعت بما كتبت في نفس ما نهيته عنه. وما كان أغناني عن هذه الخصلة السيئة التي تجلب على غضب أستاذ فاضل، لم أسمع به ولم أعرفه، ولا أظنه يعرفني. والأستاذ الفاضل بلا ريب هو عندي أكبر مما ظن في نفسه، وإذا كان هو قادراً على أن يضن بكرامته، فالواجب على أنا
من قبله أن أضن بكرامته. وإذا كانت كرامته تأبى أن تنزل منزلة يوجه إليه من أجلها شيء يقدح فيها، فأنا أيضاً أنزهه عما ظن في كلامي من (الشتائم والتنقص والسباب). وإذا كان كلامي الطويل العريض، كما وصف، ليس فيه يقنع المنصفين، وليس هو إلا فقرات مبعثرة مضطربة أسوقها مساقاً مهلهلا لا يعرف الدقة ولا الحدود، وإذا كان كل ما أقوله لا أبغي منه إلا إرسال الكلام في الهواء، وإذا كنت عنده لست مؤرخاً، ولم أخط كتابا في التاريخ، وأني أدخلت نفسي في قوم لست منهم، فأظن أن واجبه على الأقل أن يلغى كل ما أقول بمرة، فإن من الشقاء له أن يتعقب كلام كاتب هذا شأنه.
وأنا لا أستطيع صادقا أن أفهم الأستاذ الفاضل مما أقول، فقد عرفت هذا بالتجربة. وإذا كان مما يرضيه أن أقول له إني مخطئ في كل ما قلت قديما، وما أقوله الآن، وما سوف أقوله إلى أنيكف لساني وقلمي عن اللجاجة وإرسال الكلام، فأنا أقول له: إني أخطأت، وسوف أخطئ، ولن يسمع مني إلا ما أنا مقر نفسي بأنه خطأ محض. وأزيده أني عاجز كل العجز عن مقامة حجته، وعن دفع براهينه، وعن التصدي لما يحسنه من العلم. بيد أني أعود فأسأله أن يتغمد سوء أدبي بفضله، وإذا كان قد استخرج من كلامي سبابا وشتائم، فأنا أعيذه أن يكون غرضا لها، وأعتذر إليه، وأستغفر الله مما أزلفت إليه من إساءة، وله أحسن الأسوة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن بعض السفهاء لم يتورعوا قط عن سبهم والطعن فيهم، بأقبح اللفظ. فأين يقع مثلي من هؤلاء! فإني مهما ملكت من السباب والشتائم والبذاءة وسوء الأدب، فلن أبلغ بعض ما بلغوا من هؤلاء الصحابة، فلا عليه مني ومن سبابي وشتائمي. وليعلم الأستاذ الفاضل، إن كان لا يعلم، أن هؤلاء السفهاء في الدنيا كثير، فإذا كان يغضب لكل سفاهة من سفيه، فإن شقاءه سيطول بغضبه، فدع السفهاء وليقولوا ما شاؤا، وكن أنت ضنينا بكرامتك، فإنها أعز وأغلى من أن تبذل على الألسنة. وتقبل إن تفضلت عذري وشكري واحترامي وتقديري، وعجزي عن مخالفتك، وحبي لرضاك، وقد بلغت مني في مقالك ما شئت، وناصيتي بيدك، وفي المثل:(ملكت فأسجح). فافعل مؤيدا منصورا، والسلام
محمود محمد شاكر
هل من سبيل إلى عودة العرب إلى مثل الإسلام
العليا؟
للأستاذ خليل الخوري
قرأت جميع المقالات التي نشرت في العدد الممتاز من مجلة (الرسالة) الغراء، الصادر في 7 يناير. وأعدت قراءتها المرة بعد المرة، فخرجت من دراستها والتأمل فيها بأمرين خطيرين: الأول: أن الإسلام هو الذي أضرم في قلوب العرب الجذوة المؤججة من نار الحماسة القومية والروحية، فبعثهم من صحرائهم واندفعوا في جميع الجهات وتمكنوا - وهم فئة قليلة - بما كان لهم من الأيمان الوطيد من تدويخ الإفطار والأمصار، ومن القضاء على الإمبراطوريتين العظيمتين الفارسية والرومانية اللتين كانت تسيطران على دنيا ذلك الزمان. ولما استكملوا الفتوحات واستتب لهم الأمر، أساور في سبيل الحضارة والعلوم، فقطعوا في مضمارها أشواطاً، بزوا فيها جميع الأولين. والثاني: أن العرب ما تخلفوا عن قافلة الحضارة إلا لما تخلوا - بل لما تخلى زعمائهم - عن المثل العليا التي فرضها لهم دينهم العظيم مبعث كل حق ومصدر كل عدل، فتكالبوا على الدنيا وحطامها.
ذانك الأمران حقيقيان لا ريب فيهما: الحقيقة الأولى: تبعث في نفوسنا شعور الفخر بأجدادنا الغطاريف، والأمل بأن تعود سيرتهم الأولى فنرد شيئاً من مجدنا الضائع. والحقيقة الثانية: تحدث لنا شجناً وحزناً بليغاً، بل يأساً من هذا التخاذل والزيغ الذي صرنا إليه بسبب هجرتنا لمبادئنا العليا، بل بسبب مروق زعمائنا وحكامنا من مهيع الهدى، وسيرهم في سبيل الضلال والأنانية والأثرة هذا هو داؤنا الوبيل، وكلنا نعرفه ونشكو منه، وكلنا العلماء والجهلاء يعرفون هذا الداء ويصفون الدواء أيضاً، فيناشدون الزعماء والحكماء بأن يعودوا إلى مثل الإسلام العليا، ويقتدوا ولو اليسير بأجدادنا العظماء في صدر الإسلام - كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب - ويروي التأريخ أن أبا بكر دعا ابنته عائشة وهو على فراش الموت وقال لها:(اعلمي يا بنيتي أني لم آخذ من أموال المسلمين وأفيائهم شيئاً، وإنما أكلت من جريش طعامهم وارتديت من خشن ثيابهم، وليس لي من أموالهم سوى هذه القطيفة وهذه البغلة وهذا العبد، فإذا مت فخذي هذا كله وسلميه إلى عمر). ثم توفى أبو بكر فأخذت ما أوصى به وسلمته إلى عمر، فأعتق عمر العبد وأرسل القطيفة إلى
بيت المال، أما البغلة فقال:(إن ركبتيك يا عمر ينبغي أن تحملاك من بيتك إلى دار الحكم) وردها إلى بيت المال، هكذا كان يفعل حكامنا الأولون.
ما السبيل للعود إلى مثل الإسلام العليا؟ إن السبيل الوحيد هو تولى الصالحين الذين يتقون الله، المناصب العليا والصغرى في الدولة، وتمكينهم من الجلوس على مقاعد النيابة، فيكون ولاة الأمور وأصحاب البسط والقبض من العلماء والكتاب والفضلاء المعروفين بالتقوى والصلاح والزهد، والرغبة عن حشد المال وعن الإثراء باستغلال الوظائف.
إننا نعلم أن الأمة العربية لا تخلو من الأبرار الصالحين، والفضلاء المتدينين، على أن أمثال هؤلاء الأتقياء الشرفاء بعيدون عن الحكم، وإذا شاءوا الوصول إليه وحاولوه لفشلوا يقيناً لأنهم لا يملكون وسائله وإنما يملك تلك الوسائل أهل السياسة وأهل المال، وفي معظم الأقطار العربية لا يمكن أن يكون نائباً سوى الغني المثري الذي يستطيع أن يشتري مقعداً في البرلمان من الزعيم الذي يملك القرى وسكانها، فيأمرهم بإعطاء أصواتهم لذلك الغني المثري الذي دفع له الثمن الفادح.
من أجل هذا رأى أن الرجل الشريف التقي النقي مقصى عن دوائر الحكم، لا يستطيع إلا البكاء والتفجع لما يشهد في تلك الدوائر - في مقالات يدبجها وفي قصائد بنظمها - يناشد فيها أولئك الحكام أن يعودوا إلى مثل الإسلام العليا ويسلكوا في أعمالهم المحجة ويحملوا بأيديهم مصباح (ديوجنس) يبحثون بضوئه عن الصالحين المختبئين المنكمشين في الزوايا، وينتقونهم لولاية مصالح العباد. ومن سخرية الأقدار أننا نرى أولئك الحكام يشاركونه في دعوته وفي بكائه وفي شجب الشر والإثم وفي استنكار الخروج على الفضيلة، وهم ممعنون في اجتراح الحرب، لماذا لا يكون المثاليون المتحلون بمكارم الأخلاق من رجال الحكم، ولماذا لا نرى في الغالب الحاكمين وكبار أصحاب المناصب، حتى الصغار إلا من طمغات الانتهازيين والوصوليين، وإن وجد في دور الحكم المتنزهون عم المطامع، فهم نفر قليل.
يقول دعاة الشر والخبث إن هذا الجيل جيل فاسد، وأنه ينبغي لنا أن ننتظر الأجيال القادمة التي يؤمل منها الخير - ألا فقولوا إن هذا الكلام يراد منه التخدير وإلهاء الأمة عن الشرور التي ترتكب - فإن هذا الجيل كغيرة من الأجيال، فيه الصالح وفيه الطالح، ومن
الواجب أن نسعى ونبذل الجهود في منع الطالحين من تولى مقاليد الأمور، وفي تمكين الصالحين من الوصول إلى الحكم.
ويخيل إلى ولا أراني بعيداً عن الخطل فيما أتخيل، أنه لو أتيح لأصحاب المثل العليا من الأنقياء الأتقياء أن يلوا الحكم في البلدان العربية، لكانوا نجوماً يقتدي بهم ويهتدي، ولكانوا ينتقون ذوي الصلاح والتقوى لتقلد الوظائف والمناصب في الدولة، ولكانوا اتفقوا على وحدة الأمة ولو اقتضت الوحدة خسران مناصبهم، ولما كانوا رضوا ببقاء هذه الدويلات الهزيلة السقيمة التي لا وزن لها بين الدول، والتي هي أقوى الحجج على انحطاط العرب وتخاذلهم في وجه الأخطار التي تحيق بهم من جميع الجوانب، ولكانوا انتزعوا السخائم من قلوب العرب، ولموا شعثهم وجعلوا منهم دولة واحدة موحدة، فتزول الحواجز والحدود المصطنعة، وتعطى الحرية لتنقل الأشخاص والأشياء في جميع أراضي الناطقين بالضاد.
ولكن كيف يكون ذلك وما السبيل إلى تمكين الانقياء الحقيقيين من ولاية الأمر في الدولة؟ وتعن لي ثلاثة تدابير ينبغي أن نتخذ لمحاولة الوصول إلى تلك الأمنية التي ننشدها:
التدبير الأول: إن معظم الناس يجهلون ما في الإسلام من المثل العليا، ويزدرون الدين ويستهترون - ولعل السبب الأكبر في ذلك هو أنهم لم يربوا التربية الدينية في طفولتهم، ولم يتعلموا تعليما دينيا صحيحاً في المدارس - ويا حبذا لو جعل التعليم الديني فرضاً في جميع المدارس العربية وفي جميع مراحل الدراسة حتى الجامعية، وينتقى لهذا التدريس كبار العلماء المثقفين الشرفاء، وبهذه الطريقة ترسخ مبادئ الدين العليا في قلوب النابتة من البنات والبنين، وتظل راسخة إذا ظلوا يتلقنون الدراسة في المعاهد العليا، وإلا محيت من النفوس، وينشأون على احترام دينهم وما فيه من أدب للدنيا والدين. ومثل هذه التربية قمينة على العموم أن تجعل الخير غالباً على الشر، وتخلق فتياناً ذوى تقي ينشرون الفضيلة والحق أينما علموا، أفي الحكومة أم في غيرها.
التدبير الثاني: هو تدبير ذو أثر عاجل، ومؤداه أن يعني كبار أصحاب المناصب في الدولة الذين هم من أصحاب المثل العليا، ووجدوا في دور الحكم من قبل القضاء والقدر الميمون، أقصى العناية لاستخدام الذين يخافون الله، والذين هم شجعان صناديد على الباطل، جبناء رعاديد على الحق، فإذا فعلوا ذلك خففوا من وطأة الشر المستفحل.
التدبير الثالث: يكون في جعل الانتخابات للبرلمان حرة إلى أقصى الحدود. إن النظام البرلماني إنما هو بدعة غربية استوردنا غيرها من كثير البدع التي نشأت في أوربا منذ بضعة قرون، أخذناها بجميع عجرها وبجرها. وعندي إن صح أن يكون لي (عند) أنه يجب تعديل القوانين الانتخابية في الأقطار العربية، بحيث تشمل القواعد الآتية:
القاعدة الأولى: أن تقسم الدولة إلى دوائر انتخابية مستقلة ولا يرشح للانتخاب في الدائرة إلا أحد أبنائها، لأنه لا يعرف أدواءها وظلاماتها سوى أبنائها.
القاعدة الثانية: أن يلغي نظام القائمة المعمول به في بعض البلدان العربية، فانه نظام فاسد، ومحصله أن المرشح الذي يفوز في الانتخاب لا يمثل الدائرة أو الدوائر التي يشملها نفوذ القائمة، وإنما هو يمثل الزعيم نفسه، ويخدم في المجلس متى وصل إليه مصالح الزعيم ومطامعه، لا مصالح الأمة.
القاعدة الثالثة: أن يرشح الشخص مستقلا منفصلا عن الأحزاب والهيئات والحكومات.
القاعدة الرابعة: أن تلغى الدعاوات بشكلها الحاضر المخزي الفاضح، لأنها تجرد الناخبين من حريتهم في انتخاب من تلهمهم لانتخابه ضمائرهم، ولأنه لا يستطيعها سوى أصحاب الأموال الذين ينفقون عليها فاحش المبالغ من الأموال، فيحرم الشرفاء المخلصون الأتقياء الوصول إلى مقاعد النيابة، لأنه ضآلة أموالهم وأنفتهم وعزتهم تربأ بهم عن القيام بمثل تلك الدعاوات، وبذلك تحرم الأمة الانتفاع من أبنائها الأبرار، ويحكمها بهذه الطريقة الأغنياء التجار، ويسود نظام (البلوتارخية). تأمل أن في الدائرة الانتخابية مرشحين، أحدهما مثر والآخر لا مال له. الأول يقيم الحفلات والمهرجانات يوماً بعد يوم، يحشد إليها الناس ويغدق عليهم العطايا وأطايب الطعام والشراب والدخان، والثاني لا يستطيع من ذلك شيئاً (أولاً) لقلة ماله و (ثانياً) لأنه يراه شناراً وخزياً. وبمثل هذه الأساليب تصبح مؤهلات النائب الواقعية المال والثراء، لا العلم والإخلاص ومكارم الأخلاق، فيا وبلنا مما نحن فيه من الأوصاب التي لن تفضى بنا إلا إلى شر المآب.
القاعدة الخامسة: أن يكون عدد النواب أقل ما يمكن، ويجب أن ينقص النواب في كل قطر إلى نصف عددهم الحاضر، ولا يزاد ولو زاد السكان.
ويا حبذا لو أنعم كتاب (الرسالة) الغراء الروية في هذه الشجون التي يعانيها العرب
أجمعون، لعلهم يهتدون إلى سبل قويمة لإصلاح النظام القائم إصلاحاً، يمكن أصحاب المثل العليا من أهل العلم ومكارم الأخلاق من تولى مقاليد الأمور، ومن الوصول إلى مقاعد النيابة التي هي مصدر السلطات كلها.
طرابلس الغرب
خليل الخوري
القاضي في طرابلس الغرب
شعراء من أشعارهم
عدي بن زيد العبادي - 3
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
بين عدي بن زيد وعدى بن مر بنا - الأسباب التي أدت إلى وقيعة النعمان بعدي - شعر عدي بن زيد فيما قدم للنعمان من خير، والصلة بينهما، وأعدائه
وثمة شخص آخر لم أقدمه إليك، وهو عدي بن مرينا، من أشراف الحيرة، وأظنك تذكر أنني حدثتك أن المنذر قد دفع بابنه النعمان إلى عدي بن زيد، ودفع بابنه الأسود إلى بني مرينا.
وبنو مرينا هؤلاء منهم عدي. وعدي بن مرينا لم يعجبه ما فعل عدي بن زيد؛ فقد كان يرى الأسود أفضل وأوفق لأن يكون ملك الحيرة خلفاً لأبيه المنذر، ولكن عدي بن زيد كتبه وغلبه على أمره وتدبيره؛ فاختار كسرى النعمان ولم يختر الأسود.
ثم إن عدي بن زيد صنع طعاماً في بيعة، وأرسل إلى عدي ابن صنع طعاماً في بيعه، وأرسل إلى عدي ابن مرينا أن ائتني بمن أحببت فإن لي حاجة، فأتى في ناس فتغدوا في البيعة؛ فقال عدي بن زيد لابن مرينا: يا عدي، إن أحق من عرف الحق ثم لم يلم عليه من كان مثلك، وإني قد عرفت أن صاحبك الأسود بن المنذر كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا لا أحب أن تحقد على شيئاً لو قدرت عليه ركبته، وأنا أحب أن تعطيني من نفسك ما أعطيك من نفسي، فإن نصيبي في هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. وقام إلى البيعة، فحلف ألا يهجوه أبدأ، ولا يبغيه غائلة، ولا يزوي عنه خيراً ابدأ. فلما فرغ عدي بن زيد، قام عدي بن مرينا، فحلف مثل يمينه: ألا يزال يهجوه أبداً، ويبغيه الغوائل ما بقى. ثم قال:
ألا أبلغ عديا عن عدي
…
فلا تجزع وإن رئت قوكا
هيا كلنا تبر لغير فقر
…
لتحمد أو يتم بها غناكا
فإن تظفر فلم تظفر حميدا
…
وإن تعطب فلا يبعد سواكا
ندمت ندامة الكسعي لما
…
رأت عيناك ما صنعت يداكا
وتقرب عدي بن مرينا من النعمان بالهدايا وغيرها، حتى أصبح من خاصته، وأصبح له
بطانة يثق فيهم ويتشيعون له، وكلما عرض ذكر عدي بن زيد دسوا له قليلا أو كثير لدى الملك النعمان، وبلغ بهم أن يدسوا على عدي بن زيد أنه يقول إن الملك عامله وأنه هو الذي ولاه ما ولاه.
وحقيق بدسيسة كهذه أن تؤتى أكلها؛ فالنعمان ربيب عدي لا شك، وهو صنيعه لا شك، وبيت عدي مناوح لبيب النعمان لا شك؛ إذاً فعدى رجل يخاف ويخشى، وقد يقول مثل ما قال، وهي كلمة ثقيلة على أذن الملوك وإن كانوا يعرفون أنها حق لا مرية فيه.
وقد ذكر أن عدياً صنع ذات يوم طعاماً للنعمان، وسأله أن يركب إليه ويتغذى عنده هو وأصحابه، فركب النعمان إليه. فاعترضه عدي بن مرينا، فاحتبسه حتى تغدي عنده هو وأصحابه، وشربوا حتى ثملوا. ثم ركب النعمان إلى عدي بن زيد ولا فضل فيه، فأحفظ هذا عديا، وظهرت الكراهية في وجهه، فقام النعمان فركب ورجع إلى منزله؛ فقال عدي بن زيد في ذلك:
أحسبت مجلسنا وحسن حديثنا يودي بمالك
فالمال والأهلون مصرعة لأمرك أو نكالك
ما تأمرن فينا فأمرك في يمينك أو شمالك
وعلى هذا فعدي بن زيد هو الذي شبب بهند وتعزل فيها، وهو الذي تزوجها على غير رغبة أبيها، وهو يزعم أن الملك عاملة وأنه ولاه ما ولاه، ثم أخيراً يعتب على الملك ولا يرضى أن أحتبسه أحد رعيته وأخره عنه، حتى يرجع الملك من لدنه غاضبا.
وفي يوم شرب النعمان، فأرسل إلى عدي بن زيد فأبى أن يأتيه، ثم أعاد رسوله فأبى أن يأتيه، فغضب وأمر بعدي فسحب من منزله حتى انتهى به إليه، فحبسه في الصنين. ولج في حبسه.
قد مكث عدي في السجن مدة طويلة. وأرسل أشعاراً تصف ما يلاقيه في سجنه من أذى وضر، وأنه ما كان يليق مجازاته بمثل هذا، وأنه عومل معاملة الأعداء. مع إخلاصه للملك وتفانيه في خدمته، ومع أنه رمى عن الملك ونافح عنه. وذكر فيها مصاهرته الملك وزواجه من أهل بيته. وذكر فيها انه دبر له حتى فاز بالتاج وملك الحيرة. ولكن الأعداء قد غلبوه، وحلوا محلهم، وصرعوه.
ليت شعري عن الهمام ويأتيك بخبر الأنباء عطف السؤال
أبن عنا إخطارنا المال والأنفس إذ ناهدوك يوم المحال
ونضالي في جنبك الناس يرمو
…
ن وأرمى وكلنا غير آلي
فأصيب الذي تريد بلا غش وأربى عليهمو وأوالي
ليت أني أخذت حتفي بكفي ولم ألق ميتة الأقتال
محلوا محلهم لصرعتنا العا
…
م فقد أوقعوا الرحا بالثفال
فهو في هذه الأبيات يذكر الملك بما قدمه له، وأنه عرض نفسه وماله للمخاطر حين نهض لرد كيد الأعداء، وأنه كان يناضل أعداء أقوياء، وأنه كان ظافراً بهم عليهم، ثم يتمنى أن لو كان أخذ حتفه بكفه بدل أن يموت ميتة الأعداء، ولكن هؤلاء الأعداء كادوا كيدهم ونجحوا فيه.
ثم ها هو ذا عدي يذكر للملك النعمان دخوله على كسرى يوم أراد أن يختبرهم ويعقد لأحدهم على الحيرة، وكيف أنه كان يعالن إخوته يقول ويبطن غيره، وكيف أنه لم ينكل ولم يحجم حين دخل النعمان على كسرى في هذا اليوم العصيب:
وكنت لزاز خصمك لم أعرد
…
وقد سلكوك في يوم عصيب
أعالنهم وأبطن كل سر
…
كما بين اللحاء إلى العسيب
ففزت عليهموا لما التقينا
…
بتاجك فوزة القدح الأريب
وهذه أبيات يذكر فيها عدي النعمان بسعيه له وجهاده من أجله، ويحذره أن يكون كالذي يداوي نفسه، وبعد أن بريء، عاد فأوهن نفسه وأمرضها. ومعنى هذا أن للنعمان بعدي قوة، فلا يضغفن نفسه بحبس عدي أو قتله:
لا تكونن كآسى عظمه
…
بأساً حتى إذا العظم جبر
عاد بعد الجبر يبغي وهنه
…
ينحون المشي منه، فانكسر
واذكر النعمى التي لم أنسها
…
لك في السعي، إذا العبد كفر
وما كان عدي يتوقع الشر من النعمان، صهره، وصديقه، وشريكه في السراء والضراء. وإذا كان الشر منه، فإنه لا يجد له دفعا، كالشرق بالماء، فإنه لا يجد ما يعتصر به، لأن الاعتصار يكون بالماء، فإذا شرق الإنسان به، فإنه يكون قد أتى من حيث يأمن ويرجو
السلامة. وعدي صهر النعمان، وقد كان حماد كاتباً للنعمان الأكبر، وكان زيد ملكاً على الحيرة قبل المنذر:
أبلغ النعمان عنى مألكاً
…
أنه قد طال حبسي وانتظاري
لو بغير الماء حلقي شرق
…
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
ليت شعري عن دخيل يفتري
…
حيثما أدراك ليلي ونهاري
قاعداً يكرب نفسي بثها
…
وحراماً كان سجني واحتصاري
أجل نعمي ربها أولكم
…
ودنوي كان منكم واصطهاري
نحن كنا - قد علمتم - قبلكم
…
عمد البيت وأوتاد الإصار
وأنت قد عرفت ما بين عدي بن زيد وعدي بن مرينا من شنآن وبغضاء، وأن ابن مرينا ناصب ابن زيد العداوة وعالنه بها، وظل كذلك حتى أفلح في كيده وشيع خصمه إلى السجن، وعاش هو في رغد من العيش وعز وبحبوحة:
ألا من مبلغ النعمان عني
…
فبينا المرء أغرب إذ أراحا
أطعت بني بقيلة في وثاقي
…
وكنا في حلوقهم ذباحا
منحتهم الفرات وجانبيه
…
وتسقينا الأواجن والملاحا
للبحث بقية
محمود عبد العزيز محرم
شذرات في الحياة
(مهنة) الصداقة. .
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
إن ابتغاء صاحبي منصرف إلى ضرورة تصوير حقائق الحياة في ألفاظ، ومعان، وعبارات؛ فقد وقر في نفسه توقير البيان، وهمي على وقدة ثورته غيث الغوث مما يعاني من ضيق يشغل باله، وحزون مضايقات تعقد حزنه!
جاءني هذه المرء في تأفيف الضجر، وهو ينفخ في موقد غيظه؛ فحسبت أن أمرا عقيما التاث عليه عقمه، أو حادثاً مفاجئاً أذهب باتئاد صبره، ورأيت التثقيل عليه في المساءلة قد يدعوه إلى البرم بي؛ فخففت ولم استخف، وما زحته من دون أن أسف. ثم قلت: ماذا دار في فلك دولتك هذا اليوم؟
قال وقد لمعت في عينيه بوارق غضب: يحسبك الناس على انطوائك غير بصير لكنك تحب المشاغبة الساكنة، والإغاطة الساهية، وترسل القولة معربدة في حيائها، وهذا ما يجعلك معقدا في اعتقادي.
قلت: لا يعقد نفسه إلا (البسيط) وأحسبك تعلم أن حر النار قد يكون تحت رمادها، ولست على ما ترى، غير أن كثرة التعرف على الطبائع يعطي المرء حاسة الخبرة، ويوقفه على دقائق النفوس؛ فالبله أو التباله فيه شيء من الفطنة، كما أن مدعى الصمم يعرف رأى الناس فيه حينما يهمس الجبن في أذن النفاق، ويتكشف الواقع من بين صفاقه الإبهام!
قال: كأنك تقر اعتقادي في أنك داه بدهائك.؟
قلت: قبح ذو الدهاء المسخر عقلة للسخرية من الناس!.، وجمل ذو الفطنة الذي يفطن إلى الأمور من دون أن يفطن أليه أحد.
قال: أما قلت لك: إن تلاعبك باللفظ يستر ألاعيب نفسك؟
قلت: إن الحياة في عرف الحكماء ألعوبة، وعند اللاهين أرجوحة، ولدي القانعين دمية، وفي مرأى المخدوعين امرأة حسناء، وعند الشعراء رجاء مضيع، ولدي البخيل صديق ودود لا يخون عهده ولا يمنع رفده، ولا يقطع رده!
قال في سرور ساذج: لقد أتيت بما أردت؛ فقد دار في فلك دولتي كما تقول خاطر نحو
الصديق، وقد قالوا: إنه مشتق من الصديق، وذهب الطيبون من الناس يستطيبون الحديث في شأنه ويصورونه صورا تخلب اللب، وتسترق القلب، حتى يحسب الإنسان أنه حقيقة من الحقائق التي يجب الإيمان بها، غير أني لست بمصدق شيئاً من ذلك؛ فالحياة لا تقرنا على ما ندعى ووقائع الأمور تنافي دعوانا في وجود هذا الشيء الذي أطلقوا عليه أربعة حروف يمكن الاستعاضة عنها بأربعة آخرها القاف أيضاً. . .!
قلت: ماذا؟. . ماذا. .؟، إنك تضرب في واد بعيد؛ فإن الرأي وليد المعرفة المستفادة من طبيعة الأمور؛ فما هي الألفاظ التي تريد استعاضتها حتى تصور حقيقة كلمة (صديق)!؟.
قال: لن يفلت زمام القول مني؛ لأعلمك مدى تعلقي بالحقائق، وعدم تحلقي بالأوهام.
قلت: قد يكون الوهم في بعض الأمور تصويرا لحقيقة عائبة لكني لا أريدك على ملازمة عقيدتي في تقدير طبائع الأشياء. . .
قال: على أية حال؛ سأعلمك أن الأحرف الأربعة لن تترك مدلولها في ذاتها لا تتعدى تركيبها إلى إنسان من لحم ودم؛ فلنقر بأن هناك صورة (لفظية) اسمها (صديق) لكن اللحم والدم مصوران في تصوير لشيء آخر مخيف، مفظع كئيب لا تود العين أن تقع عليه. . .
قلت: أعترف بأن بحثك مشوق، لكني لا أعلم قدر تسميتك لمن نطلق عليه اسم الصديق وهو موضع الأنس، وأصل الرجاء، وهتفة القلب!
قال - مستضحكا -: كلام شعر!، وكم جنى الشعراء على أمثالك؟
قلت: إنك لعنيف اليوم، فرقق ويرفق!
قال: لعلك بدعوتك إلى رقتي وترفقي تريد إنزالي منزلة ما تتوهم أنه (صديق)؟
قلت: ومن ذا أنت إذن؟
قال: أنا رجل أستطيب الحديث معك؛ فأحادثك أضيع وقتي في أمر ذي بال لأني لست عاشق لعبة النرد أو الورق أو (الشطرنج)!
قلت - معجبا -: تريد القول بأن تعرفك على مصدره (رغبة) في نفسك تريد الإفضاء إلى إحساس مشترك؟
قال. لقد قاربتني، وأدنيت شعورك مني؛ فلولا رغبتي في قضاء وقت ما أريتك وجهي.
قلت: أو تجابهني بهذا القول؟، أما نعلم أنه موضع إبجاعي؟
قال: قلتهلأني لست في منزلة (صديق)!
قلت: وما الذي كنت تصوغه إذا أنزلت نفسك منزلته؟
قال - في تهكم -: أقول: جئت لأطالع طلعتك البهية!!
قلت: وبماذا تطلق على نفسك إذ ذاك؟
قال: أطلق أربعة أحرف كما قلت، وسيكون آخرها (القاف)!.
قلت - معجلا -: قل؟. . جعلت فداءك. .
قال: (نفاق)!!.
أليست كلمة أنيقة، رشيقة، دقيقة؟، أليس فيها وقع موسيقى على السمع؟ لكن ما أقسى وقعها على قلوب الأطهار!
قلت: لقد كان اليوم دورك في هذا البحث الشائق، لكني أزيد عليه بأن الصداقة غدت (مهنة)، تسير ركاب المنافع، وتنصرف إلى النفاق لتستقر في الأعماق!!.
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر
رسالة الشعر
ربيع بلا أحبة!. .
للأستاذ أنور العطار
عاد الربيع وما عاد الأحباء
…
لا الزهر زهر ولا الأنداء أنداء
يظل يسألني عنهم بلا سأم
…
قلب يعيش بهم، والقلب أصباء
كانوا به أمس أشواقا مبرحة
…
واليوم هم فيه أحلام وأصداء
مات الهوى فيه إلا همس هامسة
…
لها الأضالع ساحات وأبهاء
فيا ربيع الهوى لا زلت مؤتلقا
…
يرف فيك الشذا والزهر والماء
لقيت فيك أحبائي وظللني
…
من سرحة الحب أطلال وأفياء
أبيت أرفل في بشر وفي دعة=ليست نزول، ودنيا الحب فيحاء
إذا الصباح تراءى في محفته
…
أغنى صباحي من مرآك أضواء
وإن أطل مسائي واجما فرقا
…
جلته منك يد للحسن بيضاء
فأنت لي فرحة الدنيا وزينتها
…
ما عاود العين إصباح وإمساء
وأنت أنت أناشيدي وأخيلتي
…
وذكرياتي، وأنت البرء والداء
أطوف بالروض لا عطر ولا نغم
…
ولا فتون ولا حسن وإغراء
وأثني وفؤادي ما يفيق أسى
…
كأنني دمعة في الخد حمراء
أطوي جواي وتطويني لوافحه
…
ويقتل النفس أوجاع وأدواء
دنياي بعدك أسر مرهق ونوى
…
ليست تطاق، ودنيا الصد جرداء
ما في جوانبها سحر ولا عبق
…
وإنما هي أوصاف وأسماء
خلت من البشر لا الأرواح تؤنسها
…
كأنها رمم غبر وأشلاء
يظل آدم في أرجائها قلقا
…
يبكي سربا توارت فيه حواء
أغص بالدمع إما طاف طائفها
…
كأنني حسرة الصدر خرساء
يا أيها الشعر خلد ذكر من رحلوا
…
فهم ربيع وأفراح وأشذاء
وناجهم وارعهم في التراب ما قدموا
…
ما غير الحب تفريق وإقصاء
لولاهم ما صبت نفس، ولا صدحت
…
على أماليدها في الدوح ورقاء
هم علموا القلب أن يحيا بذكرهم
…
وماله يوم غابوا عنه أهواء
يا بؤس للقلب إن عاد الربيع ولم
…
يعد من الغربة الكبرى الأحباء
أنور العطار
انتظار
للأستاذ كمال نشأت
نام المساء. . وها أنا وجدي أسامر لهفتي
مترقبا في غرفتي أصداء خطو حبيبتي
ومشاعري نبع يقيده جمود الصخرة
وخواطري أرجوحة حيرى. . تعذب يقظتي
تهب الظنون فبنطفي نجم ينور مهجتي
ويلفني ليل. . وتغمرني كآبتي
وتعود من كهف الشعور. . من المهاوي. . غيري
تروي ملاحم حبنا المخضوب. . تروى قصتي
الليل. . للجدران. . للباب السئوم. . لقطتي
لمدامعي الخرساء. . للصمت الكئيب. . لوحدتي
أنا في دجى الأمل المعذب في انتظار الجنة
كاب تشردني الظنون. . ملفع بالحسرة
مترقب. . متوفز الأعصاب أشرب لوعتي
وأود لو كانت هنا. . في ساعدي. . وغرفت
أشكو لها فتهش حانية لتمسح دمعتي
أشكو لها فتجيل كفا محسنا في جبهتي
أشكو فراغا جائعا يقتات حلم شبيبتيّ
ودجى يجر على دمي أفراح فجر ميت
ورؤى - كأحزان العبيد - تنهدت بسريرتي
وتوثباً يحبو بقلبي باردا كالدمية
وتعلة كم صاغها قلب. . أسير تعلة
فتغربي عنه وساد من أفاعي وحشتي
يا أخت إحساسي. . ويا جرحي السعيد. . تلفتي
أنا في انتظارك مهجة تهتز فوق الهوة. .!
كمال نشأت
الكتب
في المحراب (ديوان)
تأليف الأستاذ محمد عثمان الصمدي
للأستاذ محمد رجب البيومي
منذ أكثر من خمس سنوات قرأت في مجلة (الكاتب المصري) قصيدة طويلة تحت عنوان (بين المثالية والطبائع البشرية) وقد راقني منها وضوح الفكرة، وقوة النسج، ودقة التحليل، فاضطررت إلى تكرارها مرات عديدة حتى علق بذهني كثير من أبياتها، وأخذت أفتش في مجلاتنا الأدبية، عن شعر آخر لكاتبها المبدع فلم أوفق إلى شيء، حتى وقع في يدي منذ أسبوع ديوان (في المحراب) مبدوءا بهذه القصيدة الفريدة فأخذت أطالعه في كثير من الشغف والإعجاب، وشاهدت بين قصائده نظائر عديدة للقصيدة الأولى، فعلمت أن الينبوع الذي ينحدر منه هذا الشعر الجيد، دافق جياش لا ينضب له معين، وأسفت حين علمت أن ديوان (في المحراب) قد صدر منذ عامين، وسكتت عنه المجلات الأدبية، فلم نقرأ له نقداً في صحيفة، لو تقريظاً في مجلة، مع أننا نطالع في كل يوم كلمات كثيرة تدور حول دواوين ميتة لا تشبع عقلاء ولا تحيي عاطفة، وهكذا يرسب الدر في قاع المحيط، بينما يتناثر على سطحه الأشلاء والعظام.
ومن الخير أن نكشف عن المميزات التي تظهر في شعر الأستاذ الصمدي واضحة بارزة، وقد يكون أهمها ما نلمسه لدى الشاعر من عمق في التحليل، وقوة في التحليق، وجزالة محكمة رصينة،!! وتلك هي الأركان الثلاثة التي ارتفعت بديوانه إلى منزلة سامقة تشرفه وتعلمه، ومما يزيد في قيمتها الأدبية أنها تطرد في سياق واحد، فلا تتخلف ميزة عن أختيها، في قصيدة من قصائد الديوان، بل تظهر ثلاثتها متجاورات متآخيات!!.
وإذا كان الشاعر في جميع قصائده متشائماً متضايقاً، برماً بما حوله من الناس والأحياء، فهذا مما يؤخذ عليه في شيء، لأن لكل إنسان آماله وأحلامه. ومهما أحث السير نحو أهدافه فلن يقرب من مثله وأشواقه، وهنا تكون الحسرة الموحية بالتشاؤم والقلق لدى أكثر الشعراء، وقد يكون الحظ التعس مولعاً ببعضهم فيقف له المرصاد، ينغص عيشه، ويكدر
حياته، وينقله من الخفض الناعم، إلى الجدب الموحش ويجسم له أشجانه فتصبح أشباحا قاتمة، تطوف أمامه موترة بالسواد، وتظل طيلة ليلة عابرة أمام عينيه، تشرد نومه، وتهيج بلابله،!! وصاحب الديوان أحد هؤلاء الرازحين في ليل من البلابل والشجون، وتظهر ميزته الأولى في دقة التحليل وعمق الاستقصاء، حين يتحدث عن أشجانه ورزاياه!! فيصف لك البوم الذي ينعب في صدور مولولا، ويسمعك الصخب الهائج بين الضلوع في ظلمة الليل وقد سكنت حركة الأحياء والأشياء، ويربك الأشباح المتواكبة أمامه، وقد ملأت مسامعه بالزمام والرعود، وأسلمته إلى الذكريات البعيدة والقريبة فيعيدها ضعيف الجرس، حار الأنة، وقريبها صاخب ملحاح شديد اللوعة والغرام، والشاعر في حيرة مقلقة بين القريب والبعيد، ولن تقف هذه الحيرة أمام شاعريته، بل أفسحت له مجال الوصف والتحليل فاندفع يقول:
يلف الدجي مني مراح بلابل
…
ومثوى شجون لا تريم جثوم
لها صخب خلف الضلوع مبعثر
…
فمن ناعب يذكي الأسى ويغوم
كأني ناي في يد الليل جائش
…
بما في الورى من رائع ودميم
إذا أذهب الليل الحياة أعادها
…
قيامي على أعبائها ولزومي
ألا شد ما أوقرت نفسي بفادح
…
أنوء به تحت الظلام جسيم
وأشباح ليل ما تني في هتافها
…
أذنت لها من بعد طول وجوم
ففي الشرق منها هاتف بزمام
…
وفي الغرب منها هاتف بهزيم
وطورا يشق الليل داع مرزأ
…
بصوت من البعيد السحيق سقيم
له أنة حري على ضعف جرمها
…
كأنه مصدوع الفؤاد كليم
وتصخب طورا حين أصغى لها معاً
…
فأمسي كأني في مناحة يوم
من الطارق المحاح بأبي، وللكرى
…
يد في الدجى ألوت بكل نؤوم
وكثير من الناس يسهرون الليل ساهمين محزونين يفكرون في حظوظهم العاثرة، وسيجدون صورة ما يعتادهم من الشجن والرعب في هذه الأبيات، ونظائرها من الديوان، وكم للنفس من خلوة رهيبة، تكنفها الوحشة، وترتعد لها الفرائص الصلاب، ولا فرق بين المسير في غابة رهيبة نائية، وبين التسرب في أعماق الشجون، وتذكر المصائب والويلات، والحزين
من هواجسه في مأسدة عالية الزئير، مرتفعة الصياح، فليس عجباً أن يسمع الشاعر في وحدته الساكنة، ومناحة البوم، ورنين الأنات، ويرى تواثب الأشباح أسرابا خلف أسراب!.
وقد استعان الأستاذ الصمدي بخياله المجنح الطائر، فنظم ملحمة طويلة يصف بها يوم البعث كما ينطبع في مخيلته، ولم يشأ أن يصور حلقات سريعة لما يتخيله من الحوادث والوقائع فحسب، بل أراد أن يبرز فلسفته في الحياة والناس في جو من الإيحاء والإبهام، ولم يفارقه تشاؤمه المرير قيد لحظة، بل ظل يظفر بين سطوره من بيت إلى بيت دون أن يخلد إلى الراحة والأطمئنان، بل إن الملحمة تدور حوله رائحة غادية!! فحين نفخإسرافيل في الصور، ونهضت الرمم البالية من الأجداث، وهبت هبوب الذبا فوق المروج والأعشاب، ودبت الحياة على الأرض من جديد، حين كان ذلك، فزعت الملائكة في السماء، وجعلوا يتساءلون عن هذا البعث في قلق وإشفاق؟ كيف حان على غير أهبة؟ وما مصيره وعقباه؟ ولأي غاية كان؟!! ولجئوا إلى إسرافيل يستفسرون عما صنع من جليل الخطوب حين نقر في الناقور، وقد توجسوا الشر إذ أنذرهم ببعث الآدميين من جديد، وظنوا الأظانين بأبناء حواء، واندفعوا يقولون في حسرة وإشفاق.
رويدا ملاك الصور ماذا تقوله
…
أهبوا على الطبع القديم المدابر
إذن سوف ينضون السلاح كعهدم
…
غلابا على الأخرى غلاب المغاور
فلن يجنحوا للسلم والطبع قائد
…
يجاذبهم حرص النفوس الغرائر
غرائز غشت تحتها مشرق الحجى
…
ورانت على الأبصار فوق البصائر
وليس الحجى كالطبائع فيهم مؤصلا
…
ولكنه للمرء إحدى المفاخر
مضى الناس طرا ما ألموا بقدسه
…
سوى نفر منهم قلال عباقر
وسائرهم أسرى الغرائز خطهم
…
عليهن من مأثوره - حظ تاجر
وهذه النظرة الجاحدة للإنسان تجد ما يبررها لدى الشاعر من واقع عيشه، وظروف حياته، فقد نازعه بعض الموسرين منازعة قضائية، واغتصبوا منه ظلماً ما لا يجوز أن يقربوه في شيء، والتبس الأمر على القضاء فأيدهم بسلطان القانون، ولم يجد الشاعر غير القريض ينفس به عن ذات صدره، ويبثه تباريحه ومواجعه، فامتلأ ديوانه بهذه القذائف الصائبات.
وقد وفق الأستاذ الصمدي في ملحمته هذه ملحمته هذه توفيقنا حميدا، فبرزت ميزته الثانية
في التحليق مع الخيال إلى القمم والأجواز، فلم يبرز يوم البعث، دون مقدمة تمهد له وتؤذن به، فالأثير يدوي بأصداء خفاف عوابر، والأفق موحش يتجاوب فيه الصدى تجاوبا مرهوبا، والسكون الشامل يدفع الأحشاء إلى حركة تؤذن بالانفجار، والأثير يتجاوز الخفق - بعد قليل - إلى الزمجرة والقصف، والضباب يتدجى على الثرى في تكاتف والتحام، والدخان يتنقل مع الريح كالدخان المتصاعد من المباخر العاليات. . . والسحاب والسديم والبحار تأخذ في مرآة الشاعر صورا مهتاجة فزعة. . . تجد هذا كله حين تنصت إلى قوله في مقدمة ملحمته الجيدة.
أذنت إلى خفق الأثير وقد هفا
…
يدوي بأصداء خفاف عوابر
وللأفق حولي وحشة أولت الصدى
…
وضوح شهاب عابر في الدياجر
سكون تكاد النفس توجس خلفه
…
حشاً مستفزا بانفجار مخامر
على صفحتيه ما ينى نبض منذر
…
كنبض سراج في السموات ساهر
لآنست إرهاصاً لأمر مروع
…
وراء أسارير الأثير الموائر
فلو أن مذياعا يبين ما انطوى
…
عليه لأجلى موجه عن زماجر
وما هي إلا أن تدجى على الثرى
…
ضباب إلى غيم على الأفق سائر
وصعدت الأرض الغبار كأنه
…
على الريح مذرورا دخان المباخر
هنا السدم قد ذرت، هنا السحب بعثرت
…
هنا طافر ينزو إلى جنب طافر
وتمضى القصيدة إلى نهايتها في هذا السياق الرصين!!
والقارئ يغتبط كثيراً التآخي الجزالة الرصينة مع الخيال السابح المحلق، في شعر الأستاذ الصمدي، إذ أن التزام الجزالة يصرف الشاعر غالبا عن سبحاته النائية، ومهامهه الشاسعة، ونحن نرى عشاق التحليق والطيران من الشعراء يسرعون إلى مطارحهم النائية، ويرتقون إلى أجوازهم العالية في أسلوب لا يرضى الرصانة والأسر، فالتعبير مفك غير متماسك، والتركيب مضطرب فاتر، واقرأ ما لدينا من الشعر الحديث في الملاحم والأساطير، فلن تجد للرصافة أثراً يرضيك، بل إنها في مذهب أصحاب الملاحم ضرب عتيق من التقليد المظلم الذي يتعذر.
أن يجد سوقه الرائجة في هذا الأفق الطليق، وقد دفعهم إلى هذا الاتهام القاسي ما يجدونه -
غالباً. . . لدى أنصار الجزالة من ضيق الثقافة والخيال والتحليل، إذ أن قصائدهم - في الأكثر - تضطرب في نطاق ضئيل من المعاني المتوارثة الشائعة - وإذا جنحوا إلى الابتكار الشائق فلا يتجاوزون حدود الاستعارة والتشبيه، مما يتعلق بالبيت أو البيتين، لا أن يعم الابتكار فكرة القصيدة، وأغراضها وأوزانها، فتكون له الدقة والطرافة والتوثب، وقصيدة الشاعر عن يوم البعث محاولة طيبة لتقريب الشقة بين المذهبين المختلفين، وإن كنا ندعو الأستاذ الصمدي إلى التخلص قليلا من بهارجه اللغوية، التي تبرز بوضوح في صفحات ديوانه. فقارئ الشعر لا يصبر على مراجعة الهوامش كقارئ المنطق والفلسفة، ولكنه يريد فاكهة عذبة مريحة، يلمس في يديه نعومتها الشفافة، ويرىبعينيه صورتها الخلابة، ويذوق بفمه حلاوتها المشتهاة، وهذا ما تحول دونه ألفاظ المعاجم، في بعض الأحايين، ومعاذ الأدب أن يفهم القارئ من هذا الرأي أننا نتنكر للجزالة والأسر، بل نسير معهما إلى أبعد شوط وأقصاه، ولكننا لا نراهما في حاجة إلى الألفاظ الغريبة عن السمع والعين وللفؤاد، وأكثر ما لدينا من شعر الديوان سائغ رائق، قد خلص من الغرابة والإيحاش.
وقد لاحظت أن الشاعر - أقر أم لم يقر - متأثر في بعض قصائده بشاعرية الأستاذ العقاد، فقد اخذ عنه حبة للتعليل والتدقيق، ورغبته في جدله العقلي المترف الذي يندس إلى أغوار الحياة، فيجد فيها مادة للتفلسف والمقارنة، وهذا لا عيب الشعر في شيء - كما يرى السطحيون - ما دام ملموسا واضحا أمام الذهن البصير، بل يرفعه إلى مستوى شامخ تتوائب فيه العواطف والعقول، وقد ظهر في هذا التأثر في كثير من القصائد الديوان، كنجوى الأمل، وعلى رفات البشرية، والله والوجود، وإن لم يلحق الصمدي بأستاذه العقاد في الدقة والصدق والإقناع، بل وقف منه عن كثب يطارحه ويحاكيه، واقرأ دعوة الشاعر إلى خداع النفس، والهروب من الحقائق، ونتناسى الواقع، لتلمس الشواهد الدالة على ما ندعيه في مثل قوله:
قد ضقت بالحق الصراح
…
لنفسي بالهراء
والعيش عبء فادح
…
إن لم يموه بالطلاء
أحبب بآلك لامعا
…
عندي وإن لم ألق ماء
إن كنت لم تنقع صدى
…
فسواك يغري بالظماء
حسبي بأنك مالئ
…
عيني سحرا بالرواء
يا أيها الأمل المنمق
…
من أفانين الغباء
أني لقيت بك السعا
…
دة وهي حظ الأغبياء
لو أن لي لبا لما
…
آنست في أفن هباء
أنا لو وثقت بظلها
…
فعليك يا عاقل العفاء
هذا، وقد عاش الشاعر في الريف فخصه بكثير من خواطره فهو يصف طبيعته الفاتنة وسحبه وبروقه وغمائمه، ويشارك أهله ما يجدون من عواطف وأحاسيس، فيرثي أقطابه وذوى الوجاهة فيه، ويرسم ألواحا بديعة للجمال المشترك الموزع بين المروج والحسان والغدران، مما يزين جوانب الريف ويجلو حنادسه المتراكمات، وتعجبني نظراته الاجتماعية الصادقة، وخلجاته الإنسانية التي ألتمعت متوهجة في آخر قصيدة (من صور الريف) فهو يحدثك عن تعس العقل وشقائه، حين لا يجد بدأ من الخضوع للأوهام والأضاليل، بعد أن كابد الداء العضال وأعوزه الشفاء عن طريقه الطبيعي للعلاج، فيلجأ إلى التمائم والرقي والتعاويذ، على يد أناس جهلة مماسيخ!! راميا بآخر سهم في كنانته، وذلك قصارى ما يستطيع!!
وجاء شيوخ الحي والكل ناهض
…
بإبلاله من دائه المتفاقم
وقالوا عليه باللحي لكأنها
…
لبود ليوث ساء طب الضراغم
ومسوا بأيديهم يديه وأقبلوا
…
يلوكون بالأفواه رجع الهماهم
وقال كبير القوم خذ هذه الرقي
…
فنطها على اسم الله فوق الجماجم
ونطت بأعلاه، التمائم والرقي
…
على سوء ظني في الرقي والتمائم
ورب فتى لم يعصم العلم نفسه
…
فيلقى بها ضعفا إلى غير عاصم
ولهذه الوثبات الرائعة نظائر متناثرة في صفحات الديوان، وقد يجمح بنا اليراع إذا تناولناها ببعض التشخيص في هذا النطاق الضيق المحدود!!.
ولعلي بهذا العرض السريع، لأبرز عناصر الديوان، ألفت كثيرا من القراء إلى الإصلاح عليه وتقديره، وقد يكون إعجابي به دافعا إلى التغاضي عن بعض هناته الطفيفة، فعين
الرضا عن كل عيب كليلة غضيضة، وحسبي أن أوجه القارئ إلى ديوان لم يسمع عنه، وقد حفل بكثير مما يلذ ويستطاب، راجياً أن يجد فيه ما وجدت من البراعة والطرافة، فيستشعر الأنس والمتعة والارتياح، وذلك شيء له حسابه الدقيق، وقدره الراجح الموزون!!
أبو تيج
محمود رجب البيومي
البريد الأدبي
النطق بالضاد
قرأت مقال معالي الدكتور محمد رضا الشبيبي بعنوان (بين الفصحى ولهجتها) المنشور في العدد 970 من الرسالة، فلفت نظري ما ذكره عن حرف الضاد. فقد قال في نقده للهجات العامية، وكيف أنها لا تتبع النطق الفصيح ما نصه: -
(أما في اللهجة المصرية فبقولون: (اضرب) بفتح الراء مع قلب الضاد دالا). وذكر معاليه أن نوع من اضطراب المنطق وفساده (ص130. الأسطر الأخيرة من الحفل الأول).
والذي أعرفه أن اللفظ الفصيح لحرف الضاد هو كما يلفظه المصريون وليس كما ننطق به نحن العراقيين. أي أنه يلفظ مثل حرف الدال مضخماً. فقد جاء في محيط المحيط ما نصه: -
(الضاد هي الحرف الخامس عشر من حروف المباني ومخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ولا أخت لها عند سيبويه. وقال صاحب العين هي أحد الأحرف الشجرية. والظاء مخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا وهي أخت الذال والثاء بالاتفاق، وتسمى هذه الثلاثة الأحرف اللثوية لأن مبدأها من اللثة. وإتقان الفصل بينها واجب لأن الأئمة المتقنين على أن وضع إحداها موضع الأخرى مفسد للصلاة. قيل الضاد للعرب خاصة وليس له حرف يقابله في باقي لغات الساميين، ويقابله عند الإفرنج حرف الدال في بعض الأحوال فيلفظ كلفظه).
هذا ما جاء في محيط المحيط، ولولا ضيق المجال لذكرت شواهد أخرى من كتب اللغة تؤيد ما قلت.
بغداد
المحامي يوسف عجاج
هل يخطئون عامدين؟!
إذا كنا نسكت على مضض عن بعض الأخطاء التي ينزلق إليها المتحدثون المفروض فيهم أنهم غير متخصصين
- ولا أقول أخصائيين - في اللغة العربية، فقل لي بربك كيف نستطيع السكوت عن أغاليط بعض الأدباء النابهين؟!.
إن أحد الكتاب الأفاضل يكتب تعليقاً على الأنباء ويذيعه قبيل الساعة التاسعة مساء مرة أو مرتين في كل أسبوع، وقد سمعته في المرة الأولى فكذبت سمعي، وفي المرة الثانية قلت لعل له عذراً وأنت تلوم، وفي المرة ظننت انه يخطئ عامداً لكثرة ما أذهلني من أخطاء، فهمت بالكتابة إلى الرسالة الغراء مستغيثاً بها، ولكن حبي لشخص الكبير كان يجعلني أقدم رجلا وأؤخر أخرى، حتى إذا نفد صبري وامتلأت الكأس استخرت الله وبعثت بهذه الصرخة محملا إياها ما علق بذهني من أخطاء وقعت في حديث قصير أذكرها على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:
فالخطأ الأول هو انه نطق بكلمة (يكسب) بفتح السين والصحيح الكسر (ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه). والثاني انه نطق كلمة (نضجت) بفتح الضاد مع أن كسرها هو الصحيح (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها). ولي أن أستطرد فأقول إن استعمال كلمة (نضوج) هو إستعمال خاطئ، والصحيح أن يقال نضج نضجاً على وزن تعب تعباً والاسم النضج على وزن قفل. والثالث انه قال (في صبر أبعد ما يكون. .) برفع كلمة (أبعد) والصحيح جرها.
والرابع انه قال (وما أصدق قول ماهر باشا) برفع كلمة قول مع أنها منصوبة.
ألست معذوراً - وهذه هي بعض الأخطاء - إذا ظننت أن هذا الأديب الكبير وأمثاله الأكرمين إنما يخطئون عامدين؟!.
إن مثل هذه الأخطاء لا يظهر في المكتوب، ولهذا فقلما كان يقع نظري على خطأ فيما كان يكتبه الكبير بالأهرام وفيما يكتبه الآن بصحيفة أخرى أسبوعية، أما وقد سمعته فأزعجتني كثرة أخطائه، ولا أميل - على الرغم من هذا - إلى وقف المذياع كما أفعل ذلك مضطرا في بعض الأحيان - فإن من حق أن أطالب حضرته بقراءة حديثه إذاعته مثنى وثلاث ورباع؛ إذ لولا خاص بفرض على فرضنا أن أحب شخصه الكريم حبا جماً أتأثر حبي وإعجابي؛ إلى حد كبير.
عبد الحميد عمر
إلى الأستاذ أبو الفتوح عطيفة
مما لا ريب فيه الفترة الدقيقة التي تمر بدول العالم الإسلامي وشعوبه، تحتم على هذه الدول تتجه على هذه الدول أن تتجه نحو التكتل، بعد أن فشلت المنظمات الدولية جميعها في وقع كابوس الاستعمار الجاثم عليها.
فقد فشلت عصبة الأمم من قبل. كما نلمس اليوم فشل هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، في أن تضع حدا لهذا الاستعمار الغاشم الذي يأبى إلا التهام الشعوب الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة.
الكتلة الإسلامية القوية بجيشها المعد إعداداً كاملا هي التي تستطيع اليوم أن تصون كيان الدول الإسلامية المستضعفة، ولن نكون كتلتنا ضعيفة وفيها أمثال الباكستان، أندنوسيا وإيران ومصر وأفغانستان وتركيا، بشرط أن تكون لها هيبة الكتلتين: الغربية الديمقراطية. والشرقية الشيوعية. وألا تكون ذيلا لإحداهما. .
ومجلة الرسالة الغراء هي مجلة الأدب في العالم الإسلامي لا العربي، والأدب لا يكون بخير في دول لا عزة لها ولا حرية ولا استقلال. . .
فلتحمل زعيمة الأدب رسالة الكتلة الإسلامية إلى العالم الإسلامي، ولتبدأ رسالتها بتعريف القراء بالدول الإسلامية دولة دولة: حالتها السياسية والاقتصادية وحالة الأدب فيها. . .
فهي أجدر بالاهتمام من بريطانيا العظمى، الولايات المتحدة، ولا أعتقد أن زعيمة الأدب ستتوانى في تبليغ هذه الرسالة، لأنها جزء مهم من رسالتها. وها نحن أولاء منتظرين.
بهيجة المنشاوي
سكرتيرة المركز العام لجماعة السيدات المسلمات
مجلة الناشر المصري
كان الكاتب العربي في سوق الأدب حائرا لا يجد من يعرفه تعريفاً موضوعا منصفا، إلا بين الحين والحين في مثل مجلات (الثقافة) و (الهلال) و (المقتطف) و (الكتاب) و (الأديب) البيروتية، و (المجمع العلمي بدمشق) و (الرسالة). ولم يكن في العالم العربي كله
مجلة خاصة بالكتب وحدها، تنقدها وتعرضها عرضا غير ذي غرض، وتقدمها إلى القارئ العربي أصدق تقديم. وقد لمس (الاتحاد المصري العام لدور النشر والمكتبات) حاجة القارئ العربي في كل قطر عربي إلى مجلة خاصة بعرض الكتب والتعريف بها والتقديم لها، فأصدر مجلة (الناشر المصري) وأسند رياسة تحريرها إلى الأستاذ محمد عبد الغني حسن. وقد ظهر العدد الأول من هذه المجلة التي ستصدر كل ثلاثة أشهر محتوياً على مقالات حول الكتب ودوائر المعارف والمخطوطات العربية، ومشتملا على تعريف دقيق لأكثر من 120 كتاباً في أبواب مختلفة من العلم والأدب والتأريخ والتراجم والقصة والفلسفة والاجتماع وغيرها.
كما أن فيه إحصاء دقيقاً شاملا للكتب العربية التي ظهرت خلال عام 1951 المنصرم مع بيان أسماء المؤلفين والناشرين وأثمان الكتب وعدد صفحاتها وقطعها.
فنرحب بالزميلة الجديدة، ونرجوا لها التوفيق في رسالتها الجليلة لخدمة العرب والقارئ العربي
القصص
من الشارع
للأستاذ أحمد عبد القادر الصاوي
المواكب تمتد. الجماعات تتشابك. الطبول تدق. الغناء يعلو وأنا وحيد. . تتراقص في ذهنه أخيلة قاتمة، ورأيت أن أمضي إلى الجموع الحافلة أتصيد اللهو والمتعة. . .
وفي مدى دقيقتين توسطت حقل السلوى. وسافرت بين جوانحي تنهدة طويلة. وسال في وجداني شعور بالرضى. .
وسارت بي الخطا في زقاق غير بعيد، شاهدت كومة مهملة من الخرق ملقاة على الأرض غافلة عما حولها من الضجيج.
ومر الشرطي فركلها ليفحصها. وبلغت دهشتي غايتها، إذ تجمعت الكومة - رويدا. وارتفعت، وشاهدت هلاهيل داخلها إنسان. . أحد أبناء الطريق ممن ينتشرون فيها حائرين كاسدين. وسأله.
- أين أبوك؟
- لا أب لي؟
- وأمك؟
- لا أم لي
- أين تبيت؟
- هنا!!
ونجاه، وأنطلق متكبرا.
وتراجع الغلام إلى مكانه. وتراخى، وشمله نوم عميق. ووقفت حياله. وثورة من العواطف تجتاحني.
وعبست السماء، وتلبدت السحب، وأظلت غمامة، ودمعت ثم برحت. وأسرعت أوقظه، فلم يسمع لي. صحت فيه
- قم!
- ليس هذا مكان أحد. لن أقوم
- المطر ينهمر!
- لينهمر! ليست هذه أول مرة
- قم!
- لا شأن لك بي
- اختطفته. فانزعج. فطمأنته
- لا بأس عليك
- رمقني بطرف ساج ثم تبعني
وخرجت معه عن دائرة الفوضى. وطلبت منه أن يصحبني فأطاع. .
وكنت أسكن وحدي. فأعددت له فرشا. ونام كما تنام الهرة مستكينة مستسلمة.
وأصبح الصباح واكتشفت أنه ألف وديع. وودعته وغدوت إلى عملي.
وعدت ظهرا. وتلألأت فرحة بين جنبي. . الحجرات تبتسم، والأثاث يشرق، وزجاج النوافذ يضئ. كان الأثاث قد رتبترتيبا ساذجا، أقرب إلى التنسيق والنظام.
وفركت عيني. وعادتا تتصفحان مرة ثانية قطع الدار. لقد أصبحت قشيبة.
وسرت البهجة إلى قلبي باردة ناعمة. . سأدخل حياة جديدة، جميع نواحيها هدوء واستقرار.
وواجهته والضحك يتزاحم على فمه. واستحالت الضحكات كلمات بليغة راقية.
ومدحت تصرفه، وسطت على فمه ابتسامة ردا على كلمات الإطراء التي أمطرته بها.
وتناولنا غداءنا وخرجت إلى بعض صحبي. وحملت إليه عند أوبتي ملابس من النوع الرخيص. وتهلل وذهب يستحم.
ألف الحياة التي تحيطه. وعامل أشخاصا من الحي تربطنا بهم الحاجة. وأثنوا عليه.
وأرسلته إلى الكواء. وعاد عابسا. وأظهر أكثر من العبوس، حين قدمت أليه أتعاب العامل ليؤديها إليه فقال:
- هذا كثير فهززت كتفي وقلت:
وما الحيلة؟
- أستطيع أن أحتال لك
وكيف؟
- اشترى لي مكواة وسترى
- لا خبرة لك
- خبرتها هناك
- تهزل؟
- أجد
وأعجبت كثيرا حين وجدت الأقمصة والبدل، كأنها صقلها يد الكواء
ستون قرشا أو تزيد استقرت في جيبي آخر كل شهر. وعالج الغسيل، ورتق الجوارب، وطهو الطعام ونجح. وبلغ في نجاحه. وبلغ في نجاحه مدى بعيدا
ولقيته مرة حزينا فاستفسرت فقال:
- أحست معي!
أربعة قروش ومليمان صابون. وقرش وخمسة مليمات خبز. وقرش وثلاثة مليمات شاي، وقرش وسبعة مليمات زهرة وملح. . .
وكم مجموعها؟
- ثمانية قروش وسبعة مليمات
- فإذا كان معي عشرة قروش، فكم يتبقى؟
- قرش وثلاثة مليمات
- معي قرش
- لا عليك!
وتلعثم واكفهر
- سأتعلم الحساب
- من يعلمك؟
- أنت
وتبدو الوثبة الثانية، وأجد أن أحب شيء لدى حين أجلس لألقنه، وتشرب الاسفنجة الجافة ما ألقيته إليها. وعت ووعت، ولم تتشبع ولم تمتلئ.
وفي غصون عام - أصبح في مستوى طالب الشهادة الابتدائية يكتب بطلانه وخعة أصيلتين.
وضبط الحساب وضغطه، فلم يفلت منه مليم، وتطلعت إلى المكث في بيتي. وارتاح صديقي الصغير إلى، واتخذني أخا ومرشدا. واستوى الحول، ووجدت يدي تتحكم في ثلاثين جنيها. مبلغ ضخم! يا لله!.
وازددت حدبا عليه، وأزداد كلفا بي، والأيام تعدو وتنطلق وفتاي ينمو نموا مطردا، ووجهه يتدفق جمالا، وقومه يتناسق ويرشق. ولم ألتفت إليه.
وحرك فضولي أن صوته كان يرق، وخشونته كانت ترهف، والأنوثة كانت تطل من أعضائه وملامحه. ويلاه!
وأخذت المفاجأة طريقها في سرعة.
ومضى شهر. وفي خلال الشهر الذي يليه كان يعلو صدره.
وفي الشهر الثالث برز له صدر فتاة؛ وهو إذ ذاك في الرابعة عشرة ولكنه يحث خطأه إلى النضوج الباكر العاجل. وينتقل من حال إلى نقيضه!
وأثار في كثرة ترددها على الحلاق ليقص لها كالفتيات. وأثارني أكثر إصرارها على ما هي عليه، وتمردها على أنوثتها
وتتساقط الأيام، ويدور الزمن فيصقلها دور انه ويهذبها. ولا يزال الصقل والتهذيب حتى يخلص إلى تمثال تتوهج الأنوثة الكامنة فيه.
ويكاد الحسن يضطرم على صفحة الوجه الناصع الصغير.
يا رحمة الله ساعديني!
واحتاجت إلى ملابس، فانتقيت لها مجموعة منمقة. إحدى التشكيلات التي تسر الفتيات وتبهجهن.
وجاءت فرحة لتفضها. وحدقت في الألوان الزاهية عينيها وفقدت مقاومتها، وانطلقت إلى الحجرة الأخرى. . تطعن بأظافرها الحشايا وتولول. وذهبت إليها وما دريت أن الكتمان الطويل الذي لفت نفسها به، سيهتك سريعا. ولكنها أنثى!.
ومرت الليالي. وخضعت لرغبة الطبيعة، فظلت الساعات أمام المرآة تتعطر وتتزين.
لمن؟.
وكرهت مسكني، فقضيت أكثر وقتي خارجه إن وجودي فيه كان إحدى أماني الشيطان.
وتنتظرني بقلب واجف. . تتلقاني بالحساب العسير. وأنتحل الأسباب فلا تصدق. وتولي وهي تبكي. وتظرفت وتلطفت. وأقبلت. . تقول:
- كرهتني!
- أبدا
- ليتني فتى!
وتضحك خلال دموعها وتستأنف
- كنت أحببتني
- أحببتك في حالتيك
وتسوق بعض طرائفها في أسلوب هين رقيق
وعدت إلى المنزل يوما عقب عمل شاق. فوجدتنها ارتدت ثوبي واحتذت حذائي، وعقصت شعرها تحت طربوشي. واختطت شاربا، وواجهتني. ولم أتمالك أن تضاحكت. ورددت وضحكاتها ترف على وجهها، فتصبغه لونا زاهيا. . لون المرح والشباب
- أحببتني الساعة؟
- وكل ساعة
- ابق معي!
- أبقى؟
- أجل
- أنت في حجرة، وأنا في حجرة
وتعبس بعض الوقت
- ستكون أبعد منك خارجا
هذا شرطي - وتهمس
- خففه!
- قد خففت!
وأتأفف. وتهز رأسها
- رضيت
وتعبث بأذني وأصابعي وتهمس
ألا زلت على قسوتك؟
وأضحك بعد العبوس
وكان دلالها الفطري، وحركتها الغريزية، وسهولتها المطلقة، أمورا جديدة على. . فمن حولي كلهم قد أخفتهم الصناعة خلف قناع كثيف
وأنا أقدس الحياة لا كلفة فيها
وانتهى الأمر بأن أحببتها!
وخرجنا معاً إلى عرض الطريق
وعلت الدهشة وجوه القوم. وتقولت جمهرتهم. ووشاعت الشائعات. ولم يكن هناك بد من قطع ألسنتها. . سأعقد عليها حالا.
وأسررت إليها برغبتي. واستخفها الطرب. وطارت إلى المرآة. وأقبلت، وكل جارحة في وجهها تبتسم
- أتراني لك أهلا؟
واحتواها ذراعاي
واستدعيت المأذون. فأقبل وتساءل
- أين العروس؟
وأقبلت ترتدي ثوبا بسيطا. وخيل إلى وهي في بساطتها أنها أبهى فتاة. وسبح قلبي في حيرة من السرور.
- كم سنك؟
- لا أعرف
ودارت بي الدنيا
- ما اسمك؟
وتعثرت كلماتها. ووقف قلم الشيخ
- أين شهادة ميلادك؟
ماذا تقول؟ لا أفهم!
والتفت إلى الشيخ وقال:
- لا تعرف اسمها، ولا تعرف سنها. أمر خطير. .
وقام مهرولا لا يلوي على شيء
وظل التمثال الرشيق مبهوتاً، يرى فتتسع عيناه، وتتهدل شفتاه،
ويحول لونه، ويتصلب وجهه.
ودنوت منها لأواسيها، لا تتنبه. وأتوسل إليها، فلا تتكلم. .
لا تتكلم مطلقا
وانحدرت إلى صدري نقمة شديدة على نفسي. فلو أحسنت تصرفي قليلا لتم لي سعادة الروح والجسد. وقد أنشأت بجهلي فراغا هائلا بيني وبين من أحب! وسارت الأمور سيرا كسيحا
وأخذت الفتاة تذبل وتذوب، والفتنة تخبو وتنطفئ.
وأحزان الملاك الجميل تتجمع عليه فتثقله. ويهبط قليلا قليلا. يقترب جداً من الأرض.
وتراءت في أحزانها كالبنفسجة الغافية، بيد أنها فقدت الإغراء والغواية، لا الشذا ولا العطر
وأنا بشر! ولي عين ترى، وأنف تشم
وحدثتني نفسي بها، وتجلدت، ولكن رغبات الجسد تكتسحني، مرة أغلبها، ومرارا لا أستطيع
وتمنعت في إباء وشمخت في كبرياء
وضقت بنفسي وبها
واهتديت أخيراً إلى حل، دعوت الطبيب ليقدر سنها ثم سنستوفي الشكل فيما بعد ليتم قراني بها
وعدت معه إلى المنزل
وطرقت غرفتها، ولم أنتظر الإذن ودخلت
رباه!
ليست هناك. وبحثت وتقصيت ولا جدوى وأحسست أن صدري لا يستطيع أن يحتفظ بقلبي، فيتهاوى، وصرخت والألم يتلقفني، والأسنة المسمومة تراشقني وتأكدت أنني فقدت فتاة لها مميزات لن تتوفر سواها
وهبطت على أحداث عصيبة. وسجل فلبي فترات دثرتها ملاءة سوداء. واشتعل الزمان حولي. وتطايرت الدقائق تتناثر كالشر.
وكان كل ما في المنزل يتسم بطابعها، فيوقظ في أعماقي أحداثا تومض وتبتسم ثم تتلاقى. كيف أنسى؟
وهجرت المنزل إلى غيره ولكن ذكراها كانت تلاحقني. إليها وتمايلت
وما زال الزمن يسير بها حتى بعدت. . واختفت وراء الزمان. وما زال توغل بين طياته حتى ذابت فيه. وانتهى الحلم وصحوت!
وتتابعت السنوات
وفي ليلة ذهبت إلى المسرح لقضاء السهرة. واحتشدت حول واجهته الأضواء. وأرسلت عيني تقرآن الموزعة على الجدران، وبينما كنت أقرأ استيقظت على صوت يستجدي. واستدرت رأيت فتاة رثة تستعطفني
وشعرت أن تماساً خفيفا يتصل بين الفتاة وذاكرتي فحدقت فيها. وما برحت أزيل أكوام الماضي حتى بدت لي في الذاكرة صورة واضحة جلية. . بدت لي في قرارتها صورة وديعة مزينة
تلك ضالتي!
وفوجئت الفتاة. . وهمت بالهرب. وأسرعت إليها. . وقبضت بيدي على ساعدها. فنزعته بقحة ورعونة وقالت
- ماذا تريد؟
- أريدك. بحثت كثيرا عنك
- الفارق بيننا كبير
- متقارب
- بل كبير
- تعالي. لا حساب لهذا عندي
- سلبت ما ترجوه مني!
وبدت تشنجات وحشية على شفتيها. وأخذت تتقلص وتنفرج، فتكتسي هيئة ذئبة ضارية
- دعني. فأنا نشأت هنا. وسأبقى هنا!
وتراخت يدي. وفجأة نزعت ساعدها مني. وشردت
وانطلقت عيناي وراءها تتبعانها. . شاهدت بقايا حبي، وهي تتأرجح في الظلام، وتمضي طائشة بلا وجهة، ثم تحول وتتضاءل ثم تختفي
وكان درسا علمتنيه فتاة من الشارع. وكانت عظة، وكم عظات ملقاة على جانبيه!
سر هناك وتأمل. . ستراها مجسدة أينما سلكت، في الأزقة والمنعطفات. . في الطريق العام والميادين. في كل مكان
أحمد عبد القادر الصاوي