المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 977 - بتاريخ: 24 - 03 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٧٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 977

- بتاريخ: 24 - 03 - 1952

ص: -1

‌تحية للشيخ الرئيس

بمناسبة الاحتفال بذكراه الألفية

في هذا الأسبوع، وفي بغداد عاصمة العلم القديمة، يحتفل العالم الإسلامي بالذكرى الألفية لمولد الطبيب العالم الفيلسوف أبي الحسن بن سينا واحد فنه في الشرق والغرب، ونادرة عصره في الطب والحكمة، وأحد العباقرة العالميين الذين رفعوا قواعد العلم، ونهجوا سبل المعرفة، ووصلوا ما انقطع من تسلسل الفكر الإنساني بين الفلسفة الإغريقية القديمة، والفلسفة الأوربية الحديثة.

ولد أبو علي سنة 370هـ في قرية من قرى بخاري كان أبوه عاملاً عليها للأمير نوح بن منصور الساماني، ثم توفى سنة 428هـ بهمدان إحدى مدن إيران كان قد وفد إليها على الأمير علاء الدولة البويهي، فكان معظم حياته على هذه الأرض ثمانية وخمسين عاماً قضى أكثرها في الاضطراب والاغتراب والنفي والسجن والخوف والشهوة والمرض، ومع كل أولئك استطاع أن يكون يحر العلم الزاخر في وقته، وبدر العلماء الزاهر في جيله، فقرأ كل كتاب وانتفع منه، وحذق كل علم وزاد فيه، وألف مائة سفر في الطب والفلسفة والمنطق واللغة والموسيقى والرياضياتوالطبيعيات والإلهيات والأساطير؛ وكان أول عالم ظهرت في علمه الفلسفة الكلامية على أتم ما كانت من الدقة والسعة والوضوح. ثم كان هو والبيروني الغاية التي لم يكن وراءها مذهب الفكر في القرون الوسطى: هو بدقة نظامه وبراعة فهمه، والبيروني بقوة ملاحظته وسعة علمه.

ربي أبن سينا منذ الخامسة من عمره تربية علمية منظمة، فحفظ القرآن وثقف الأدب وشدا شيئاً من الحساب والفقه. ثم سمع في محاورة أبيه لأخيه وهما شيعيان كلاماً في النفس والعقل، وإشارة إلى الفلسفة والهندسة، فصبت نفسه إلى علم ذلك. وورد يومئذ بخاري أبو عبد الله الناقلي فأقرأه في المنطق إيساغوجي، وفي الرياضة المجسطي، فكان الأستاذ يقف عند المبادئ والظواهر، والتلميذ يغوص على المسائل فيستخرج الدقائق، ويمحص الحقائق، ويبصر المعلم بما لم يبصر. ثم رغب في علم الطب فتلقى أصوله على أبي سهل المسيحي، واستقصى فروعه وحده حتى انتهت إليه الزعامة فيه. كل ذلك وسنه على ما قال هو نفسه لم يتجاوز السادسة عشرة. ثم أبرأ الأمير نوح ابن منصور من مرض برح به،

ص: 1

فقربه إليه وأذن له بالدخول إلى دار كتبه، وكانت عامرة بنوادر الأسفار في كل علم وزمن، فوعى ما فيها من كتب الطب والفلسفة وما بعد الطبيعة على ظهر قلبه. ثم أصابتها النار عمداً أو خطأً فلم تبقي منها على ورقة! فانفرد الشيخ المخبوءة في صدره، وكانت هذه النكبة العلمية من مزاياه على غيره!

ثم توفى أبوه وضعف شأن أميره فاضطربت به الأحوال، وتدفقت عليه الأهوال، فخرج وهو في الثانية والعشرين من عمره إلى قصبة خوارزم فأقام بها يسيراً في كنف أميرها علي بن مأمون، ثم غادرها إلى جرجان فثقف بعض الناس، وألف بعض الكتب. ثم انقلب إلى همذان فوزر لشمس الدولة بن بوية. فلما توفى هذا الأمير وخافه ابنه تاج الدولة صرفه عن عمله، ففرغ للبحث والتأليف، وصنف في هذه الفترة أعظم كتبه. ثم نشب الصراع بين أمير همذان وأمير أصبهان فأتهم بالدعاية إلى علاء الدولة، وطلبه تاج الدولة فاختبأ في حانوت صيدلي حتى وقعت العيون عليه فسجنه في إحدى القلاع. فأنشأ في ذلك قصيدة منها هذا البيت:

دخولي باليقين كما تراه

وكل الشك في أمر الخروج

وظل في السجن أربعة أشهر حتى استطاع أن يفر متنكراً في زي الصوفية إلى علاء الدولة بأصبهان فأقام في حماه وادع النفس، يؤلف ويختصر، ويحاضر ويناظر، ويعترض ويجيب. واتفق ذات ليلة أن جرى في مجلس الأمير حديث في اللغة شارك فيه ابن سينا، وكان أبو منصور الجبان حاضراً، فأنكر عليه أن يتكلم في غير علمه، فانف الشيخ من هذا الإنكار وعكف على دراسة اللغة ثلاث سنين حتى بلغ منها موضعاً جليلاً أهلهلان يؤلف فيها كتاباً سماه لسان العرب لم يؤلف مثله قبله أحد! وهكذا انقضت تلك السنين الأربع والخمسون في عمل لا يفي، وسعي لا يني، وعذاب لا يرحم وصراع لا يهادن، وحظ لا يساعد، وولوع بالنساء لا يهدأ، ونزوع إلى الشراب لا يكف، حتى وهن الجسم القوي، ووهن العزم الشديد، ونزلت بالغطاسى العظيم علة نكل عنها تدبيره وطبه!

كان الشيخ الرئيس برد الله ثراه آية من آيات الله في لقانة الذهن وأصالة العقل وقوة الحافظة ونفاذ الهمة. اكثر علمه من اجتهاده، وأنجع طبه من تجاربه، واجل كتبه من حفظه. وكان على استبداد عقله بفكره، وطغيان علمه على فنه، صاغي القلب للدين، صافي

ص: 2

النفس للشعر، سامي الخيال للقصص. كان إذا أعيت عليه مسألة ذهب إلى المسجد فتوضأ وصلى وابتهل إلى الله أن يجلو عليه ما غمض ويفك له ما أشكل. ثم كان له في الشعر العينية ومقطوعات أخرى من النمط الرفيع والنسق الفريد، وفي الأساطير (سلامان) و (حي بني يقظان) و (الطير)، وهي رموز لمعان سامية من الحكمة العالية والروحية الجميلة. وكان في الشيخ رحمه الله صوفية لا تجري على منهاج المتصوفة: صوفية هؤلاء وجدانية تقوم على الزهد والتقشف، وتقصد إلى تصفية القلب وتطهيره؛ وصوفيته هو عقلية تبيح النعيم واللهو وترمي إلى تقوية العقل وتنويره. وكان اعظم ما يميز الشيخ اليقين فيما يرى، والثقة فيما يقول، والإبانة فيما يكتب. كان لا يشك إذا علم، ولا يتردد إذا فهم، ولا يتحسس إذا استبان. وتلك طبيعة العالم لا الفيلسوف، والدارس لا يبحث، والمتبع لا المبتدع، والمؤلف لا المنشئ.

هذه إثارة من حياة حافلة، وإشارة إلى مجد باذخ، وعبارة من تاريخ ضخم. ذكرناها على هذا الإيجاز القاصر اكتفاء بما سيلقيه ذوو الاختصاص في حفلات مهرجانه من البحوث المفصلة في طبه، والخطب المطولة في فلسفته. وإنا لنحي خاشعين من وراء الستر ذكرى الشيخ الرئيس، ونسأل الله ضارعين أن ينعم روحه في الخلد، وان يطيب ذكره في الخلود.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌مع أبن سينا في عيده الألفي

ملوك وأمراء في حياة الرئيس أبن سينا

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

لعل أوثق المصادر عن ابن سينا وحياته هو الشيخ الرئيس ابن نفسه في الترجمة التي كتبها مجيباً بها عن سؤال أحد تلاميذه إياه. وقد اكمل هذه الترجمة تلميذه وتابعه وصاحبه منذ أن اتصل به في إقليم جورجان إلى حين وفاته. وهذه الترجمة محفوظة بالمتحف البريطاني في نسخة لا تزال خطية. وقد استفاد منها ابن أبي أصيبعة فنقلها في كتابه (عيون الأنباء) كما نقل أكثرها المؤرخ القفطي المصري في كتابه (أخبار العلماء بأخبار الحكماء).

ولقد عاش ابن سينا في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري والثلث الأول من القرن الخامس، لأنه توفي في سنة 428هـ وهو عصر كثر فيه تقسيم الدولة العباسيةإلى دويلات صغيرة، فهناك الدولة البويهية التي وقع تحت سلطانها خلفاء بغداد، وخاصة الطائع والقادر والقائم الذين عاش ابن سينا في مدة خلافتهم. وهناك الدولة السامانية ببخارى في إقليم خراسان وما وراء النهر. وكان الأمير نوح بن منصور بن سامان هو الأمير الثامن من ملوك هذه الدولة، وهو الأمير الذي دعي ابن سينا لمداواته كما سيأتي بعد. وكان هناك دولة المأمونيين ولاة خوارزم الذين سميت دولتهم بالدولة الخوارز مشاهية. وهي دولة لا يعرف على وجه التحقيق اسم مؤسسها. ولكن اسمها يبدأ في الظهور منذ سنة 380هـ - أي بعد ميلاد ابن سينا بعشر سنين - وفي عهد أميرها الثاني على بن مأمون بن محمد بن خوارزم مشاه جاء بن سينا من بخاري إلى جرجانية وكان ملكها الأمير قابوس بن وشمكير الكاتب المترسل الأمير الذي قصده ابن سينا بعد خروجه من خراسان، ولكن اتفق في تلك الأثناء إن قبض على الأمير قابوس وحبس في بعض القلاع ومات هناك. وكان هناك من ملوك الديلم مجد الدولة بن فخر الدولة الديلمي. ومجد الدولة هذا هو أخو شمس الدولة من ملوك همذان. وكانت الأميرة (سيدة) والدة مجد الدولة الديلمي هي المرجع في تدبير الملك، وعن رأيها يصدر الأمراء والولاة في مباشرة الأعمال: وكان هناك دولة أصفهان وأميرها علاء الدولة بن كاكويه، وكان ملكاً على أصفهان وملحقاتها، وحكم من سنة 398هـ إلى سنة

ص: 4

433هـ. وكان أبوه خال الأميرة (سيدة) والدة مجد الدولة بن بوية الديلمي، ولهذا سمي (كاكويه) لأن الخال في لغة الديلم يسمى (كاكو) أو (كاكويه) وعلاء الدولة هذا هو الذي اتصل به الشيخ الرئيس ابن سينا، وصار من أصحاب الحظوة عنده، وبقي في خدمته إلى آخر عمره، ولكنه لم يكن له وزيراً في يوم من الأيام. أما الوزارة فكانت من ابن سينا لشمس الدولة أخي مجد الدولة؛ فقد وزر له مرتين ما بين سنتي 405 هـ، 412 هـ.

وكان هناك - فوق ذلك - في عصر ابن سينا الدولة الغزنوية التي كان أول ملوكها (سبكتكين) سنة366 هـ. كما كان محمود الغزنوي - المعروف بيمين الدولة محمود بن سبكتكين - هو ثلث ملوكها. وهذا الفاتح العظيم قد أثار حروباً كثيرة في حياته وفي عصر ابن سينا بالذات. فهو فوق غزوه لبلاد الهند وفتحه لها قد حارب دولة خوارزم وملك خوارزم سنة407 هـ. وهي دولة اتصل ابن سينا بها وبأميرها علي بن المأمون كما أسلفنا. ولم يكتف محمود الغزنوي بهذا، بل استغل ما بين الأمراء والملوك حوله من خصومات ونزاع، فدخل جميعهم لمصلحة دولته الناشئة القوية. كما فعل في الحرب التي قامت بين سلطان الدولة البويهي وأخيه أبي الفوارس بن بهاء الدولة. وكأن محمود الغزنوي كان يستعد لافتراس هذه الدويلات المتقطعة المتناحرة دولة بعد دولة. وكان همه بالذات متجهاً إلى إمارات بني بويه، ففي سنة 420 هـ اتجه إلى إقليم الري، وكان عليه الأمير مجد الدولة بن فخر الدولة بن بوية فملكه محمود الغزنوي. كما ملك إقليم الجبل. وفي سنة421 هـ وجه مسعود ابن يمين الدولة الغزنوي جيشاً إلى إقليم همذان. أما علاء الدولة بن كاكويه - وهو الأمير الذي اتصل به ابن سينا في أصفهان - فلم يسلم من غارات الدولة الغزنوية التي دخلت جيوشها (الري) فنهزم علاء الدولة وجرح في رأسه وكتفه وهرب تاركاً إقليمه في يد السلطان مسعود الغزنوي بن محمود الغزنوي.

على إن هذه لم تكن آخر حروب السلطان مسعود الغزنوي ابن محمود الغزنوي ضد علاء الدولة بن كاكويه: ففي سنة425 هـ - أي قبل وفاة ابن سينا بثلاث سنوات - اتفق علاء الدولة مع ابن فرهادبن مرداوج على قتال عسكر السلطان مسعود الغزنوي. ولكن الحظ خان علاء الدولة حتى بعد احتمائه بالجبال الشاهقة بين أصبهان وملكها. وفي هذه المعركة نهبت خزائن علاء الدولة بن كاكويه أخذت أمواله الطائلة. وفي هذه المعركة بالذات كان

ص: 5

الشيخ الرئيس ابن سينا في خدمة علاء الدولة - ولم يكن وزيراً له - فأخذت كتب الشيخ وحملت إلى غزنة - عاصمة الدولة الغزنوية - وجعلت في خزائن كتبها إلى إن أحرقت على يد عساكر الحسين الغوري.

لقد عاش ابن سينا في هذا العصر الزاخر بأحداث كثيرة ورأى بعينيه كيف يتقاتل الاخوة وأبناء العم على الملك والسلطان، كما حدث بين أفراد أسرة بني بوية في الري وأصفهان وهمذان وجرجان؛ بل اتنصل من قرب الأمير شمس الدولة بن فخر الدولة أمير همذان، وشاهد الأحداث التي جرتله مع أقاربه بني بوية من ناحية، ومع ملك الغزنويين من ناحية أخرى. واتصل ابن سينا اكثر من ذلك بالأمير علاء الدولة بن كاكويه؛ وهو يتصل ببني بوية أيضا - لان والدة (دشمنزيار) هو خال الأميرة (سيدة) والدة مجد الدولة بن فخر الدولة البويهي وشاهد ابن سينا في أثناء اتصاله بابن كاكويه كثيراً من الأمور الجسام، فلم تسلم مدينة من مدن العراق وفارس من ثورة أو غارة للعيارين النهابين، بل لم تسلم أصبهان نفسها من حوادث النهب والسلب على أثر استيلاء جند السلطان مسعود الغزنوي عليها. وفي غمار هذه المعركة نهبت كتب الشيخ الرئيس ونقلت إلى غزنة، إلى أن كتب عليها أنت تحرق على يد محارب آخر من رجال الدولة الغورية.

وقد لقي ابن سينا من ملوك الدولة القائمة في عصره الأمير نوح بن منصور الساماني، والامير علي بن مأمون الخوارزمشاهي، والامير شمس الدولة بن فخر الدولة البويهي الديلمي، ووزر له مرتين، والأمير علاء الدولة بن كاكويه أمير اصبهان، واتصل به وألف كتباً كثيرة، ونكب معه في غارة السلطان مسعود الغزنوي على أصبهان. أما الأمير شمس المعالي قابوس بن شمكير ملك جرجان فيظهر من كلام الشيخ ابن سينا نفسه إنه لم يقابله، وانه كان يقصده، فاتفق القبض على قابوس وحبسه في بعض القلاع وموته. وهو نص لا يدل على لقاء الشيخ الرئيس لهذا الملك الأديب العظيم. . . إلا إن العروضي السمرقندي صاحب كتاب (جهار مقالة) يذكر حادثة طريفة بارعة عن ابن سينا واستخباره أحوال بعض العاشقين واسم معشوقته ومحلتها من نبض المريض. ويروي العروضي السمرقندي ان ابن سينا دعي إلى مداواة هذا العاشق النضو بأمر من الملك قابوس الذي دعا الشيخ الرئيس إليه ليعالج مريضه القريب. وعلى الرغم من طرافة هذه الحكاية فإن الأستاذ محمد

ص: 6

بن عبد الوهاب القزويني يستنبط إن ابن سينا لم يخدم الملك قابوس بن شمكير لأنه حبس قبل بلوغ ابن سينا جرجان.

محمد عبد الغني حسن

ص: 7

‌واحة سيوة

للأستاذ صبري حسن علوان

كانت الساعة السادسة صباحاً حين أخذنا عدتنا في (مرسى مطروح) مولين وجوهنا شطر سيوة؛ تلك الجنة المخصبة وسط الصحراء المجدبة، وكلنا أمل أن ندركها قبل أن نبيت ليلة أو أكثر في جوف الصحراء الغربية. ذلك إن الرمال قد جادها الغيث الهتون وقد احتفلت نواحيه، وأسفت أعجازه وهواديه، فشربت الصحراء بعد عطش، وامتلأت الآبار بعد خواء، وكونت التلاع الحادرة بحيرات كبيرة في المجتمع المنبسط الذي يصلح كطريق للسيارات!

وسرنا باسم الله، ونحن على وجل من أن يغوص أحد إطارات السيارة في الرمال الدقيقة المشبعة بماء المطر فتضطرنا الأحوال أن نبيت في العراء كما فعل قوم من قبلنا ظلوا في الطريق سبع عشرة ساعة. والمسافة بين (مرسى مطروح) وبين (واحة سيوة) ثلاثمائة كيلو متراً، وما يتبقى فليس له معالم متميزة فهو يختلط إلا على السائق الماهر الذي جاب الطريق اكثر من مرة، هذا عمداً يلاقيه المسافر من صعوبات جمة لكثرة المرتفعات والمنخفضات في عرض الصحراء التي تجعل المسافر بالسيارة لا يستقر على حال، مرة إلى أعلى وثانية يقع على جنبه الأيمن وأخرى يميل إلى يساره، وهو في ذلك يجد من الرهق مالا يحسه إلا المسافرون. إن السيارة تقطع المسافة الممهدة في ساعتين وتقطع الباقي في عشر ساعات. هنا يطيب أن نسأل لماذا لا تنشط الحكومة في تمهيد هذا الطريق الهام فتتمه في سنة أو سنتين أو ثلاث يدلاً من أن تمهد كل عام ثمانية كيلو مترات فقط، أي إنها تريد إن تتمه بعد اكثر من عشرين عاماً. . إن شاء الله!

إن واحة سيوة جزء من مصر؛ بل هي من الأجزاء المهمة من مصر كما سنرى، أم تريد اهل هذه الواحة أن يظلوا على اعتقادهم إنهم (سيوبون) قبل أن يكونوا (مصريين). أن رصف الطريق إلى سيوة هو من أول الواجبات التي يجب على الحكومة والتي يتحتم عليها الإسراع في أدائها.

وبعد ثلاثة عشر ساعة لاقينا فيها من المصاعب ما لاقينا وصلنا إلى سيوة، وبتنا ليلتنا أصبحنا فوجدناها جنة خضراء يرتفع في جوها النخيل نشوان، ويسكن في جنباتها

ص: 8

الزيتون، لا يشربان من ماء النيل وإنما من ماء العيون. وبالواحة ما يقرب من مائة عين، كل عين تسيل في قنوات يخضر من مائها الحجر، ويينع الزهر ويستوي الثمر؛ ماء عذب صاف لا تخرجه آلة ولا يجود به سحاب وإنما ينبعث من جوف الحصى. . ينضح وجه الصحراء العبوس فيبتسم، وجبهتها المتقطبة فتنبسط، وطبيعتها القاسية فتلين. . يرزقها الظل وهي بنت الهجير، ويمنحها النسيم وهي أخت العواصف، ويسمها الجمال وهي من سماتها التجهم.

وتنخفض سيوة عن مستوى سطح البحر بستة عشر متراً، ويقترب منسوب الماء من سطح الأرض؛ فقد حفرت حفرة صغيرة عمقها خمسون سنتيمتراً في الجهة البحرية من الاستراحة الحكومية فتجمع الماء في قاع الحفرة، على حين ظهر الماء في ارض المطار الحربي الجديد على بعد اكثر من مترين. ويمكن الاستفادة بقرب مستوى منسوب الماء في زراعة بعض الفواكه مثل البطيخ حيث لا يحتاج الأمر إلى كثير جهد. ويغطي التربة في كثير من الأماكن طبقة قشرية ترتفع فيها نسبة الأملاح مما قد يحتاج إلى بعض الجهد في استصلاحها، إلا لن وجود العيون ومائها المنساب ييسران إلى حد كبير هذه المهمة.

وهناك عين جديدة يوجد حولها اكثر من مائتي فدان لا ينقصها إلا اليد العاملة والبذرة التي توضع في الأرض، ولكنك لو سألت، أتاك الخبر المحزن: كسل الأهالي وقلة الأيدي العاملة. إن الأهالي هناك تراهم بنية لا تستقيم. . ويداً لا تشتد، وهمة لا تطمح، فهم يعتمدون على ما يدره النخيل والزيتون. . أما النخيل فيبيعون ثمره على أنواعه ويصنعون من بعضه (العجوة). وأما الزيتون فهم يخللونه أو يعصرونه في معمل الوزارة الموجود هناك ليستخرجوا منه زيت الزيتون، أما بقية العام فهم يقعدون. . اللهم إلا قلة قليلة تزرع الشعير وهو يجود. وانك لتلاحظ الكسل من غير صعوبة لو انك طفت مرة واحدة بالكميات الضخمة من النخيل في الحدائق المختلفة، فلا نجد نخلة مشذبة منظمة، بل يتكاثف سعفها من عام إلى عام، ويحيط بها سنة بعد سنة، وهم يحجمون عن ان ينموا النجل بحجة تستند إلى خرافة.

ما السبب إذن في ذلك الكسل المخيم؟ إن لأسبابه جذوراً عميقة تمتد إلى اكثر من التواكل. يقولون إن الشذوذ الجنسي في الرجال شائع إلى درجة كبيرة جداً. . . ونحن لا يهمنا أن

ص: 9

نصدق ما يقولون أو نكذبه. . وإن كان ما يقولون ينافي الفطرة، وخاصة وإنه - كما يزعمون اصبح من (المألوفات) فانه أيضا لا يهمنا أن نصدق هذا الزعم أو نكذبه، إنما الذي يهمنا هو هاتان الظاهرتان المخيفتان: انقراض النسل في خطوات ليست بالبطيئة، وانتشار الأمراض السرية إلى حوالي سبعين في المائة كما صرح بذلك بعض المسؤولين. إن عدد السكان كان منذ عشرين عاماً خمسة آلاف نسمةوهو اليوم دون ذلك بكثير! قد يكون التزاوج المحلي هو السبب، وقد يكون ما (يقولون) وما (يزعمون) هو السبب. . وقد يكون انتشار الأمراض السرية هو السبب، وقد يكون - أخيراً - هجرة الأهالي - على قلتها - هي السبب، إلا إن الذي لا شك فيه إن عدد السكان في تناقص مستمر. . وهذا شيء كفيل بان يتداركه المسؤولون، أن يتتبعوا الوشائج، وان يتعلقوا بالأسباب، وأن يعرفوا مركز الدائرة ثم أن يطبوا للداء! وعندي رأي لا أشك في فائدته: لماذا لا تعمل الحكومة - أياً كانت هذه الحكومة - على ترحيل عدد كبير من المعدمين والعاطلين إلى هذه الواحة، وهي لن تمدهم إلا بالضئيل من المعونة، حتى تندى الكف الجافة، وتشتغل اليد العاطلة، ولعل أن يكون في نشاط الوافدين إذكاء لهمة الأهالي القاعدين. وانك لتعجب إذا علمت أن المستشفى الذي يريد أن يعالج قوماً نسبة المرض بهم ما رأيت ليس به دواء ولا طبيب! ذلك إن أنوار القاهرة تغري. . وتغني. . وان الحكومة المصرية لم تستطع إلى الآن أن تجند الأطباء - وهم أساة البشرية - تجنيداً دورياً في الممتلكات المصرية التي لها في عنق مصر حق الرعاية. إنه يجب على كل طبيب موظف بحكومة أن يقضي عاماً أو نصف عام في الواحات وما شابهها حتى لا يحرم الناس اليد التي تأسو جراح المصابين.

ورسالة التعليم من أهم ما يرتقي بهذه الواحة الجميلة البائسة. إن هناك مدرسة ابتدائية واحدة بها ثلاثة فصول وثلاثة مدرسين، والصعوبة التي تواجه التعليم هناك هي اللغة، إذ إن للأهالي لغة محلية خاصة غريبة لا تتصل بالعربية من قريب أو بعيد، وهناك مدرسان خاصان بالمدرسة الأولية من أهالي الواحة ويعرفان العربية يتوليان هذه المهمة. . وهي جليلة، إلا انهما يشكوان من معاملة الوزارة لهما لأنهما ليسا من حاملي (الشهادات). . فتعطي أحدهما منذ سبعة عشر عاماً ثلاثة جنيهات في الشهر! ما هكذا يكون التعليم ولا تشجيعه! والذي لاحظته عندما زرت المدرسة هو فصاحة اللسان العربي بعدما يتعلمونه.

ص: 10

ولكسل الأهالي ولعدم طموحهم، تقل الجرائم، وان طائرة خاصة تطير بالقاضي مرة كل شهر أو شهرين ليجلس في منصة القضاء ساعة أو ساعتين يفصل فيها بين الناس في قضايا معظمها جنح وغرامات مالية ضئيلة، وعلى ما يكلف القاضي الحكومة من الناحية المالية فإن هذه الزيارات المتباعدة قد تقلل من هيبة المفصل القضائي في نفوس الأهلين. أحد أمرين: أما إن يعين وكيل للنيابة في سيوة يشعر الناس بهيبة القضاء، وأما أن يترك تصريف هذه الجنح والغرامات إلى مأمور القسم وهو رجل عسكري من رجال الجيش، يتصرف فيها محلياً حتى يشعر الناس بسطوة القانون.

ولسيوة، فضلاً عن الناحية الاقتصادية التي يجب أن تستغل وتستثمر، والناحية الاجتماعية التي يجب أن يهتم بها وتستصلح، ناحية ثالثة لا تقل أهمية عن الناحيتين السابقتين: تلك هي الناحية (الاستراتيجية). . فهي بمائها العذب وتمرها الوافر تعد مركزاً عسكرياً تموينياً هاماً للجيوش مدافعة كانت أو مهاجمة، أن قربها من الحدود المصرية الغربية يحتم على المسؤولين أما أن يدربوا رجالها تدريباً عسكرياً حياً، أن يزيدوا حاميتها زيادة تليق بموقعها الهام لا أن تظل على ما هي عليه: ستة عشر جندياً ورئيسهم. ولن أكون كناقل التمر إلى هجر، فإنما يحدثك عن استراتيجيتها رجل عسكري له في الجهاد سابقات، ذلكم هو اللواء محمد صالح حرب باشا، فقد زرنا معه منطقة قريبة من سيوة اسمها (جربه) وقد استحضر الرجل العسكري ذكريات عزيزة كريمة عن المناوشات والمعارك الحربية التي قام بها الثوار الوطنيون في سنة 1914 وكان معه في ثورة الحرية السيد الشريف السنوسي (صاحب الجلالة ملك ليبيا الآن) وكيف إنه لما نفذ ماؤه وزادهم وقلة ناقلاتهم وركائبهم لم ينقذهم إلا الجمال والبلح والماء من واحة سيوة فانتصروا على الإنكليز يومها انتصاراً ستراتيجياً.

وأضننا لا ننسى إنها كانت هدفاً للألمان والطليان في الحرب الأخيرة أثناء زحفهم في الصحراء الغربية. نعم! إن الصحراء الغربية بجفافها واتساعها تعتبر حاجزاً طبيعياً ضد إغارة المغيرين على الوطن العزيز، ولكن هذا لا يكفي مطلقاً فانه يجب أن تحصن حدودنا الغربية تحصيناً كاملاً قوياً، وخاصة وان عدونا يعسكر في (كابتزو) بالقرب من حدودنا في دولة ليبيا الجديدة

ص: 11

من هذه تتضح أهمية (واحة سيوة) كمنطقة هامة يحب ألا تنسى أو تهمل، وانه لو صحت العزائم لأمكن أن نستثمر الكثير وان نستصلح الكثير ولعلني أكون قد وفقت ان انقل ما إثارته في نفسي زيارة هذه الواحة التي لاح لي في صفحة جمالها إثارات من الأسى، وفي صفاء سماءها ألوان من السحاب. . وفي عيونها الجميلة، فنون من العتاب!

صبري حسن علوان

ص: 12

‌عمر الخيام بين الحقيقة والأسطورة

للأستاذ السيد احمد مصطفى الخطيب

(بيقة ما نشر في العدد الماضي)

الأسطورة الثالثة

لو قال لنا أحد الذين يؤثرون جانب الجدل العقيم واللجاجة الممقوتة، ما بالكم قد ملأتم الدنيا ضجيجاً بتحدثكم عن الخيام ورباعياته؛ أنى لأتحداكم جميعاً. هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. إنني أنكر أن تكون للخيام رباعية واحدة لا رباعيات تبلغ الألف والمائتين عدداً، وارى كل ما تدعونه في هذا الخصوص ليس إلا محض وهم باطل لا يجاوز نطاق الحدس والتخمين، فالخيام لم يترك وراءه ديواناً بخط يده، ولم يشر إلى شعره في تآليفه العديدة، ولم يمل على أحد من تلامذته ما يسمى اليوم بالرباعيات، كما إن (جهار مقالة) اقدم سفر تاريخيي عثر عليه لمصنفه (نظامي عروضي سمر قندي) تلميذ الخيام المخلص لم يذكر ولا كلمة واحدة عن رباعيات أستاذه، برغم إنه زار قبره بعد وفاته ببضع سنوات فقط، وذكر أموراً في مؤلفه أقل أهمية وأضل شاناً بكثير من الرباعيات. .

إن جميع ما يدعى ويقال بهذا الصدد إن هو إلا أسطورة جيله وتفكير شعره بديع نسجها الوهم وزينها الخيال، فمنزلتها منزلة غيرها من الأساطير المصطنعة التي لم تقم لها قائمة إلا بعد إن مرت على موت الشاعر عدة قرون.

أجل! ماذا يكون جوابنا أن جابهنا هذا الجلي اللجوج يمثل هذا المنطق الساخر العابث، ثم ألح علينا في عناد وإصرار أن تثبت له إثباتاً لا يتطرق إليه أي شك ان للخيام رباعيات حقيقية ترضى عن نسبتها إليه أساليب التحقيق العلمي الدقيق في عصرنا الحديث هذا. .

في الحق إننا عاجزون تمام العجز عن أن نكيل لهذا المكابر الخبيث الصاع صاعين وعن توفيته حقه الكيل كيلين، وان نسخر منه بنفس الطريقة التي سخر بها هو منا، وان كنا نملك في الوقت نفسه ادله وبراهين لا تقبل الدحض، ونستطيع بعرضنا إياها عليه أن تجعله يخفف من غلوائه ويقلل من خيلائه ويرتد شيئاً فشيئاً إلى هدوء العقل واتزانه. .

فالثابت المؤكد حتى الآن - كما يدعي صاحبنا الجدلي - إن الخيام أهمل في حياته أن

ص: 13

يكتب سيرة نفسه بقلمه، أو إنه كتبها ولم تصل إلينا لامتداد يد الضياع اليها، أو إنها لم تضع ولكنها في جهة مجهولة لم تتناولها يد المحققين بعد، غير إنه ثابت ثبوتاً قاطعاً أيضا إن الخيام لم يكتب في الفارسية من الشعر سوى الرباعيات وحدها؛ أما هل جمع كل ما كتبه من هذه الرباعيات وضمنها بين دفتي كتاب خاص بنفسه، أو أملاها على أحد من طلابه؛ فذلك ما نحن منه في ظلام دامس حتى الآن، وأظن إن الأمر سيبقى كذلك إلى الأبد إلا إذا عثر على دليل مادي يقلب المسألة رأساً على عقب ويغير مجرى البحث تغييراً تاماً في يوم من الأيام. .

إن اقدم نسخة للرباعيات بين أيدينا اليوم وهي الموسومة بـ (رسالة الرباعيات) يرجع تاريخ كتابها إلى نحو ثلاثمائة عام تقريباً بعد موت الشاعر، وقد عثر عليها في مكتبة بولدين باكسفورد وتسمى بنسخة السر أوسلي، وهي نسخة منقولة عن غيرها من النسخ وليست أصلاً. أما من هو النساخ الذي نقلها؟ وعن آية نسخة نقلها؟ وهل أن الرباعيات الواردة فيها والبالغ عددها 158 رباعية؛ كلها للخيام ذاته أم أن هناك بنها الدخيلات؟ والمنحولات؟ ثم كم عدد أولئك في حالة افتراضنا اندساسها بين الرباعيات الأصيلة. . كل هذه أسئلة وعلامات تدور في أذهان الباحثين والمدققين منذ أن عرف الغرب شاعر الشرق ولكن بدون جدوى، وبغير أن يعثر لها على جواب شاف يقطع الشك باليقين والحيرة بالاطمئنان. .

على إننا رغم كل هذا يجب أن نعلم في الوقت نفسه إن المعلومات السلبية الآنفة الذكر تمليها علينا طبيعة المنطق المجرد فحسب، وان ثمة أموراً كثيرة نعلمها عن حياة هذا الشاعر وشخصيته وأخلاقه وبيئته وآثاره ومؤلفاته، كما أن هناك مؤلفين معروفين، وعلماء مشهورين، وفقهاء ومتصوفين ذائعي الصيت مرموقي المقام تنالوا عدد غير قليل من رباعيات الخيام في كتبهم ومصنفاتهم وهم معاصروه بالتعليقات المتنوعة، وناقشوها مناقشة فيها اللين والهوادة تارة، والعنف والقسوة تارة أخرى، فإذا جاز لنا أن نشكك في صحة إسناد كل الرباعيات المتداولة إلى الخيام فانه لا يجوز لنا إطلاقا أن نتشكك في صحة نسبة بعضها إليه على الأقل. . ذلك البعض الذي يمثل آراء وأخلاق وشخصية وظروف بيئة الخيام التي نعرفه والتي يمكن اعتبارها في عداد الحقائق التاريخية التي لا تقبل أي جدل

ص: 14

أو نقاش.

أذن يظهر أن الألف والمائتين رباعية التي تطارد الخيام اليوم هنا وهناك في الشرق والغرب وتثير حوله طوفاناً من الضجيج والصخب، وتجمع له الأنصار والاصدقاء، وتؤلب عليه الأعداء والناقمين؛ ليست سوى أسطورة ضخمة كغيرها من الاساطير، تقابلها حقيقة متواضعة تتمثل في عدد متواضع من الرباعيات معترف بها اعترافاً كاملاً ويبلغ الأربع والثمانين رباعية فقط، وذلك استناداً إلى اصدق واحدث البحوث العلمية في هذا الشأن حتى يومنا هذا. .

الأسطورة الرابعة

لم نسمع أن شاعراً أوذي في سمعته بعد موته كما أوذي الخيام أو أصابه من الاتهامات الكاذبة والافتراءات المدبرة ما أصاب هذا العبقري العظيم والأديب الفحل والنابغة الأوحد.

ولو سألنا أي واحد من هؤلاء الذين سمعوا عن الخيام ولم يحققوا، وقرءوا عنه ولم يتتبعوا، لن يصف لنا شاعر الرباعيات كما يتصوره أو كما يصوره له الوهم بالاحرى، لما تعدى تطاق وصفه إياه عن أن الخيام كان شاعراً عابثاً لاهياً، خليعاً فاجراً، يقضي وقته متنقلاً من حانة إلى أخرى، نديمه الكأس ليل نهار، لا يفيق من سكرة إلا ليستسلم إلى أخرى؛ ثم على ذلك هو ملحد جاحد أيعلن حرباً شعواء على الأديان كلها، وهاجم المتعبدين والزهاد، ورسالته في الحياة: لا نفارق الخمرة حتى نموت.

هذه هي الصورة الشوهاء المزيفة التي يتخيلها عدد كبير من الناس ويرسمونها على أنها صورة حقيقة للخيام.

لقد كان الخيام قبل كل شيء فيلسوفاً نزيهاً وأديباً عفيفاً، يزينه الوقار ويسم به جلال العلم على أقرانه من اهل زمانه. . وكان إلى ذلك ذكي الفؤاد متوقد القريحة، صاحب رأي؛ يجهر بالحق ويحارب الشعوذة أينما وجدت. . فلهذا جاهره بالخصومة فريق من دعاة الصوفية في زمانه، كانوا يتخذون الدين وسيلة لا غاية، فأطلقوا ألسنتهم عليه ودأبوا على نشر كل باطل عنه وإلصاق كل تهمة كاذبة به حتى لقد رموه بالكفر والإلحاد أيضاً، وكل ذلك كان يكشف عن ريائهم ونفاقهم، ويعان عن جهلهم وتعصبهم دون خوف ولا حذر.

قال عنه شمس الدين محمد بن محمود الشهرزوري في كتابه الموسوم ب (نزهة الأرواح

ص: 15

وروضة الأرواح في تواريخ الحكماء المتقدمين والمتأخرين) الذي ألفه في القرن السادس الهجري ما يلي بحروفه:

(كان الخيام عالماً بالفقه واللغة والتواريخ. . دخل ذات يوم على الوزير عبد الرازق وكان عنده أمام القراء أبو الحسن الغزالي وكانا يتكلمان في اختلاف القراء في آية. . فقال الوزير: على الخبير سقطنا. ثم سأل الخيام فذكر اختلاف القراء وعلل كل واحد منها وذكر الشواذ وعللها وفضل وجهاً واحداً. فقال الغزالي: كثر الله أمثالك في العلماء فإني ما ظننت أن أحداً يحفظ ذلك من القراء فضلاً عن واحد من الحكماء.

ودخل عليه حجة الإسلام الغزالي يوماً وسأله مسألة فلكية فأطال عمر الخيام الإيضاح حتى أذن الظهر. . انتهى كلام الشهرزوري).

ومن بين مصنفات الخيام العديدة كتابه (رسالة في الجبر والمقالة) كتبها في اللغة العربية وترجمت إلى الفرنسية وطبعت في باريس 1851.

2 -

كان الخيام ينزل في المرتبة الأولى من اهل زمانه، يتسابق إلى خطب وده الوزراء؛ وكان الملك سينجر يجلسه على العرش بجانبه توقيراً له، وكان متعبداً زاهداً منصرفاً إلى العلوم والتدريس، نافضاً يده من الأمور الدنيوية التي تتكالب عليها الأطماع وتصطرع دونها الأحقاد، وكان يلقب بحجة الحق الإمام عمر.

3 -

لم يثبت إطلاقا وعلى أي وجه أن الخيام قد ذاق الخمرة طوال حياته ولو مرة واحدة.

4 -

كان الخيام طبيباً بارعاً معروفاً له المحل الأول بين أطباء عصره المشهورين.

5 -

كان مدرساً جليل القدر في نيسابور التي أنجبت عدداً كبيراً من عظماء الإسلام في العلم والأدب.

6 -

كان يكتب رباعياته من حين إلى اخرفي مجالس سمره وحديثه بين خاصته، وكانت هذه الرباعيات تنتقل من يد إلى يد كباقة من الزهر تفوح بالعطر وتعبق بالشذا، فيدونها هذا وذاك من أصدقائه وتلامذته كتذكار أو كهدية نادرة من العالم الاكبر، في حواشي كتبهم وفي بطون كراريسهم.

7 -

كان وصف الخمرة والإغراق في التغني بمزاياها (عادة) ذلك العصر بالنسبة للأدباء الفرس كما كان التغني ب (ليلى) و (ديار ليلى) التقليد العصري السائد في العهد الأموي

ص: 16

بالنسبة للشعراء العرب.

وكفى الخيام دليلاً على علو منزلته وسامي مقامه، وجليل قدره هذه الأبيات التي وجهها إليه في مستهل إحدى رسائله الإمام أبو النصر ممد بن عبد الرحيم النسوي قاضي الديار الفارسية آنذاك وتلميذ الشيخ الرئيس أبى علي ابن سينا.

قال الإمام أبو نصر:

إن كنت ترعين يا ريح الصبا ذميي

فأقرئ السلام على العلامة الخيمي

بوسي لديه تراب الأرض خاضعة

خضوع من يجتدي جدوى من الحكم

فهو الحكيم الذي تسقى سحائبه

ماء الحياة رفات الأعظم الرمم

هذا هو الخيام الحقيقي لا الأسطوري، الخيام المجرد عن تزاويق الباطل وبهارجه، العاري من ثوب البهتان وأصباغه.

نماذج من شعر الخيام

ليس شعر الخيام كله مقصوراً على الرباعيات وحدها، بل الثابت إنه كان يقرض الشعر في اللغة العربية أيضاً، وله في هذا المجال أبيات فريدة وصلت إلينا تدل على علو كتبه، وسعة إطلاعه ورسوخ قدمه في العربية وفنون بلاغتها، حتى ليستحق أن يعد بحق قرناً لأعظم الشعراء العرب في جميع العصور.

فلنستمع إليه الآن في هذه القطعة التي نظمها في الفخر على طريقة أبي العلا المعري في قصيدته المشهورة (ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل).

قال الخيام:

إذا قنعت نفسي بميسور بلغة

يحصلها بالكد كفي وساعدي

أمنت تصاريف الحوادث كلها

فكن يا زماني موعدي أو مواعدي

ولي فوق هام النيرين منازل

وفوق مناط الفرقدين مصاعدي

أليس قضي الأفلاك في دورها بأن

تعيد إلى نحس جميع المساعد

متى ما دنت دنياك كانت مصيبة

فوا عجباً من ذا القريب المباعد

إذا كان محصول الحياة منية

فسيان حالا كل ساع وقاعد

ويقول في قطعة أخرى:

ص: 17

سبقت العالمين إلى المعالي

بصائب فكرة وعلو همه

فلاح بحكمتي نور الهدى في

ليال في الضلالة مدلهمه

يريد الجاحدون ليطفئوها

ويأبى الله إلا أن يتمه

نكتفي بهذا القدر الآن من شعره العربي وننقل إلى رباعياته نفسها لنضع أمامك بعضاً منها تمثل الخيام أصدق تمثيل كما نعتقد في تفكيره وآرائه، وتعبر أدق تعبير عن نظراته التي كان ينظر بها إلى الحياة.

فها هو ذا الآن يتحسر على فوات الشباب وذهاب ربيع العمر في رباعيته هي الدرة اللامعة والجوهرة الثمينة في تاج الرباعيات الخيامية:

أفسوس كه نامه: جواني طي شد

وبن تازة بهار شادماني طي شد

أن مرغ طرب كه نام أو بود شباب

فرياد ندانم كه كي أمد كي شد

الترجمة للمازني عن الإنكليزية:

طوت يد الأقدار سفر الشباب

وصوحت تلك الغصون الرطاب

وقد شدا طير الصبا وأختفي

متى أتى؟ يا لهفي! أين غاب؟

وهنا نراه يطالب الباري وتعالى بحقه في دخول الجنة:

من بنده عاصم رضاي تو كجاست

قاريك دلم نور صفاي تو كجاست

مارا توبهشت أكرا بطاءت بخشي

آن بيع بود لطف عطاي تو كجاست

الترجمة للزهاوي عن الفارسية:

أنا عاص فأين منك الرضاء

أنا داج فأين منك الضياء

إنما وقفك الجنان على الطاعة

بيع فأين منك العطاء

وهنا يقف حائراً مشدوهاً أمام لغز الحياة وأسرارها السرمدية:

قومي متفكر ند در مذهب دين

جمعي متحيرند درشك يقين

ناكآه منادى درآيد زكمين

كي بيخبرمه داه نه آنت نه أين

الترجمة للزهاوي:

فئة في اليقين والشك هاموا

وفريق بالدين راموا لواذاً

وإذا صائح يقول مشيراً

ليس ذاكم هو الطريق ولاذا

ص: 18

الترجمة للبستاني عن الفرنسية والإنكليزية:

وهنا تقلقه فكرة العذاب في يوم القيامة فيقول:

حين يا رب كنت تجبل طين

عالماً كنت أنت علم اليقين

كل امرئ وكنه سري الدفين

كل ما جئته فمنك بحكم

منك روحي ومنك لحمي وعظمي

فلماذا يوم القيامة في النار

أعاني الآلام والأهوال

وهنا تتمثل ثورته على الظلم واحتقاره للمادة:

وأجبني ووافني لاعتزال

وابتعاد عن محض قيل وقال

رب قفر من المظالم خال

ليس فيه عبد ولا سلطان

هو عندي المكان نعم المكان

رب كهف تأويه نفس أبي

فاق قصراً طالت ذراه السحابا

وهنا: نحن من التراب والى التراب:

وتغور الأزهار يا ذا الحبيب

من ثغور سناؤها محجوب

لك قلب وفي الأديم قلوب

ضجة اللطف فوق هذا النبات

فهو نام من أكبد النائمات

في مهود فيها السبات عميق

لا مفيق منه بها أهابا

وهنا يخاطب جاره الخزاف:

أمس أبصرت جارنا الخزافا

يجبل الطين كيف شاء أعتسافا

ويكيل المقدار منه جزافا

وكأني أسمعت بين يديه

صوت ذات مظلومة تشتكيه

آه رفقا فأنت طين وماء

أيها المرء لا تسمني العذابا

وهنا يودع الحياة بقلب دام ونفس تذوب حسرات:

يا نديمي قد آن موت النديم

فاذكرني ذكرى الصديق القديم

وابكيني بدمع بنت الكروم

ص: 19

وبكأس الرحيق قف فوق قبري

وأسكب الخمر فوق عشب وزهر

فرقاني إذ ذاك زهر وعشب

وأنا الشيء كان كوناً وحالا

وأخيراً تراه لربه ويستغفر ويقول:

رب رحماك ما كسبت ثوابا

لا ولا كنت مستحقاً عقابا

إنما قلت ما رأيت صوابا

لم أعد في ديني الربابا

وكفاني التوحيد ذخراً فإني

لم أعدد في ديني الأرباب

السيد أحمد مصطفى الخطيب

ص: 20

‌2 - الحسن البصري

رئيس المدرسة الفلسفية الأولى في الإسلام

للأستاذ حسين علي الداقوقي

تصوفه

عرك الحسن البصري أزمات فكرية متعددة، فيقول عنه الأستاذ حلمي ضياء (إنه وافق القدريين، فغدا مثلهم قدرياً ورأى حرية الإرادة والاختيار، ثم عدل عن هؤلاء بعد نقاش وجدل طويلين، وشرع يتبع عبد الله بن عمر ويقفو أثره معارضاً الجبرية والقدرية معاً، فتكونت له شخصية متميزة خاصة به فأوجد مذهباً وسطاً بين المذهبين وسطاً ذلك هو مذهب الحرية الصوفية) إلا أن هذا الرأي ينبغي إلا يجرنا إلى القول بأنه لما عدل عن زمن القدريين معناه ترك مذهب الاختيار، لنه في الواقع ظل ينزع إلى المذهب نفسه ويفصح عنه بمناسبات عديدة، وذلك مما دعا المعتزلة أن يعتبروه منهم.

لم يبق من آثار الحسن البصري غير نصوص متفرقة في طيات الكتب، ورسائل تحملها كتب الاخرين، مع العلم إن مواعظه العامة كانت قد جمعها طلابه أيام حياته، ونشرت بعد وفاته من قبل حميد الطويل، وهو الأثر الذي تطرق إلى ذكره الجاحظ في عهده. كما نشرت من آثاره تعليقاته حول القرآن، ورتبت من قبل عمرو بن عبيد المعتزلي بشكل تفسير وان محاضراته المتعلقة بالأسس الأخلاقية في القرآن جمعت باسم (مسائل) جمعها صاحبه الأشعث الحمراني. أما محاضراته غير المدونة فقد رواها تلاميذه على شكل (روايات) تروى عنه.

كان الحسن ورعاً تقياً يعده الصوفية من أقطابهم ويتمثلون بحكمه وجمله، وإذا حللنا التصوف الإسلامي إلى عناصره التي تكون منها وجدنا الحسن خير مثال لعنصر الزهد والتقوى بصفتهما الإسلامية، كذلك إن جاز لنا أن نقول إن الصوفية الإسلامية اتخذت لها مدارس مختلفة في البلاد الإسلامية المختلفة كالبصرة وبغداد وخراسان وتركستان، فأصبح الحسن البصري دعامة مدرسة البصرة وداعية الزهد والتقوى فيها.

يقول ابن تيمية بصدد البحث عن نسبة الصوفية:

ص: 21

(وقيل وهو المعروف، انه نسبة إلى لبس الصوف. فانه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنا دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن. وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر الأمصار، ولهذا كان يقال فقه كوفي وعبادة بصرية)(وإذا عرف إن منشأ التصوف كان من البصرة وإنه كان فيها من يسلك من طريق العبادة والزهد ما له فيه اجتهاد، كما كان في الكوفة من يسلك من طريق الفقه والعلم ما له فيه اجتهاد، فهؤلاء نسبوا إلى اللبس الظاهرة وهي لباس الصوف فقيل في أحدهم صوفي، وليس طريقهم مقيداً بلباس الصوف ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به ولكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال).

وللمستشرق المشهور دوزي رأي آخر حول نشأت الصوفية وعلاقة الحسن البصري بها. فيقول (كانت في البصرة امرأة زاهدة ورعة تقية تسمى (رابعة)، وهي التي اعتاد حجاج العصور الوسطى زيارة قبرها الكائن على رابية تشارف القدس، فكانت على رأي الصوفية الأوائل، تعتريها حالات الوجد والشعور الإشراقي، وكانت أعلى مقاماً من الحسن البصري. ولو جاز لنا الشك في اعتبار الحسن البصري من اهل السنة، لا ينكر إنه كان يجوز نقطة بدء التي عند المتصوفة. ففي الوقت الذي يعتبر الحسن البصري الشعور بالخوف جوهر التقوى، يرى الصوفية عكس ذلك، فيبدءون من نقطة المحبة ويخاصمون الذين يتخذون الخوف مسنداً لهم. وقد حدث أن سئل أحد الصوفية (من الذي يجب أن يعتبر لئيماً؟) فأجاب (الشخص الذي يتعبد خوفاً من العقاب ورجاء للثواب) فسئل (لماذا تعبد أنت؟) فقال (للمحبة فحسب).

بيد أن الظاهر - ولعله الحقيقة - يدل على إن التصوف الإسلامي أيام الحسن كان متمثلاً في الزهد والتقوى فقط، وهما العنصران الأساسيان في التصوف، أو بالأحرى هما الأساس له، إذا لم تكن العناصر الأخرى كالأفلاطونية الحديثة وغيرها قد دخلت فيه بعد. فالتصوف في هذا العهد كان في بداية نشأته وأوائل تأسيسه بشكل بسيط غير مشوب بالشوائب الأخرى التي اختلطت به فيما بعد. أما فيما يتعلق برابعة العدوية فلا يزال الشك يحوم حول صحة نسبة جميع الأقوال والأبيات الشعرية المنسوبة اليها فإن هذه الأقوال بحد ذاتها من حيث مبناها ومعناها تثير ريبة كل باحث ملم بثقافة ذلك العصر.

ص: 22

إن هذا الرأي هو الآخر ليتضح للقارئ الكريم بكل جلاء في استعرضنا وتحليلنا مبادئ الحسن البصري الصوفية، في الفقرات التالية:

إن نقطة البداية عند الحسن في هذا الباب هي استصغار هذه الدنيا الفانية الزائلة التي استصغرها الله ورسوله. وتجد في رسالته التي بعثها إلى عمرو بن عبد العزيز يقول: (أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل) وكذلك يرى أن الله كلف المنزوين (أهل الانقطاع) أن تنتهجوا ثلاثة مسالك: الامل، والاجل، والسحر. ومعنى ذلك أن يكونوا في حالة الأمل، وأن يدور في خلدهم الأجل في كل آن، وان يقضوا السحر أو الليل بالفكر، يلك الخصال الحميدة التي تميزهم عن سواهم من الناس الذين يضيعون آمالهم، ويعتقدون بالأجل عند موافاة المنية لهم، والليالي التي يقتضي قضاءها بالتفكير فهم يقضونها من غير تفكير. إن قاعدة الحياة عند الحسن البصري ليست بمجرد الحمية والتجنب، ولا بمجرد الورع والتقوى والابتعاد عن المنكرات الحقوقية وما شاكلها، إنما هي قبل كل شيء عبارة عن الزهد والخشوع لله، والتفرد التام عن كل العالم، وعن كل ما هو فان، وهذا معناه أن يكون الإنسان تجاه نفسه في حالة حزن دائم. ويروى إنه لم يضحك، وكان في حزنه كما قال يونس بن عبيد الله الحسن: كان إذا اقبل كأنما أقبل من دفن حميمة، وإذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه. كان إذا ذكرت النار عنده فكأنها لم تخلق إلا له.

ومن أقواله التي يستشف منها اتجاهه في تصوفه: قال: إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون. ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون. قال عيسى بن عمر: سمعنا الحسن يقول: اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة، واعصوها فأنكم إن أطعتموها تنزح بكم إلى شر غاية، وحادثوها بالذكر فإنها سريعة الدثور.

وكان يقول: ذهبت المعارف فبقيت المناكر ومن بقى من المسلمين فهو مغموم ويقول: ما من وسواس نبذ فهو إبليس، وما كان فيه إلحاح فهو من النفس. فيستعان عليه بالصوم والصلاة والرياضة، وإذا أراد الله بعبد خيراً في الدنيا لم يشغله بعيد ولا ولد. . . ومن لبس الصوف تواضعاً لله عز وجل زاده نوراً في بصره وقلبه.

إن أساس الدين عند الحسن هو التقوى والحزن، ويليهما في ذلك الخوف. وقد لعبت فكرة الخوف دوراً هاماً في تصوف الحسن، فهي التي تيسر الفناء إزاء المطلق، والذوبان فيه،

ص: 23

ولا شيء يطهر الإيمان كما يطهره الخوف. وقد ذكر في سياق رسالته إلى عمر عبد العزيز: أدمن الجوع، وشعاري الخوف. ولباسي الصوف، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلابتي في الشتاء الشمس، وفاكهتي وريحاني ما انبت الأرض للسباع والأنعام.

وكان يردد ما مفهومه: إن الخوف والرجاء دعامتان يستند إليهما المؤمن على ان يكون الخوف عنده أقوى من الرجاء، لان الرجاء عندما يغلب الخوف يفضي إلى إفساد القلب، وبواسطة الخوف ذاته يستطيع أن نتبين عجز المتناهي، والفناء في داخل اللامتناهي. ذلك أن الشعور بالعجز يكشف بتضاد جدلي (ديالكتيكي) عن ماهية القدرة، وبهذه الطريقة نفسها يمكن الإصغاء إلى كلام الله، وهذا هو ما يدعى بـ (الاستماع) وبعد ما يمر الإنسان بهذه الحالات الروحية يفهم القرآن. ومن هذه الناحية يكون الحسن البصري واضع أساس علم النفس الصوفي أي (علم القلوب). ومن ثم يدخل في تحليل الحالات الداخلية للإنسان، وان التعاريف التي أوردها بصدد محاسبة الطوية والضمير كأنها قد أعدت مفاهيم الحارث المحاسبي في هذا المجال. وقد دعا الإنسان إلى ان يوجه نظراته إلى داخل نفسه، ويتأمل، لأن التأمل هو مرآة تتجلى فيها للمرء ما في الإنسان من محاسن ومساوئ، وهو يسيطر على نفسه بالتأمل، وإن سعة روحه هي سعة تأمله - وهي عبارات يتذكرها الإنسان عندما يلاحظ علم النفس عند.

إن آثار هذه المواعظ لم تبق مقصورة على النطاق الأخلاقي والأدبي فحسب، إنما عملت على توسيع المفهوم الإسلامي والفلسفة في وقت واحد. فأصبحت شخصية الإنسان لا تفهم كمجرد شيء قائم على الأعضاء والملكات الروحية فقط - أي إن شخصية الإنسان تبعاً لهذا المفهوم ليست من اثر التركيب وحده، بل إنها تظهر قلباً كلياً نامياً متطوراً، وهذه هي بداية المذهب الروحي الإسلامي الذي توسع فيما بعد على أيدي المتصوفة الروحيين.

تطرق الحسن البصري إلى مسألة خلق الأفعال البشرية، ورأى إن الله فوض للإنسان أفعاله الحرة، وهذا يعني إن اللهو هب الإنسان الفيض والاستعداد لاستطاعته القيام بهذه الأفعال، وهذا هو منشأ مذهب الاتفاقية بينما يرى المعتزلة مقابل ذلك نظرية التولد، أي انهم يأخذون بالنظرية القائلة: ان الله يوجد الأفعال في الإنسان، ولكنه يوجد كل فعل على حده. لذلك كانت نظرية الحسن مغايرة لمفهوم الإرادة الجزئية عند المعتزلة، وهي في الوقت

ص: 24

نفسه مغايرة للمذهب الجبري عند الجبريين، فنظرية الحسن والحالة هذه تقول بالحرية على أن تكون مرتبطة بيقين إلهي.

وختاماً لتصوف الحسن البصري ينبغي إلا يغرب عن البال إن أول اتصال بين الصوفية ونظام الفتوة تم في دائرة الحسن البصري؛ حيث كان الحسن نفسه يعرف بـ (الفتى) أحياناً وب (سيد الفتيان) أحياناً أخرى.

ثقافته العامة ومكانته الاجتماعية

كان الحسن أستاذ أهل البصرة، وبدرهم الطالع، يقول عنه ابن سعد: كان الحسن (جامعاً عالياً رفيعاً فقيهاً ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم، فصيحاً جميلاً وسيماً) قال ثابت ين قرة الصابئي (ما أحسد هذا الأمة العربية إلا على ثلاث أنفس: عمر بن الخطاب في سياسته، والحسن البصري في علمه، والجاحظ في فصاحته وبيانه. ويروى عن الربيع ابن أنس بأنه اختلف إلى الحسن عشر سنين أو ما شاء الله ما من يوم إلا يسمع منه ما لم يسمعه قبله.

لم يكن الحسن مختصاً بعلم من العلوم أو بفن من الفنون؛ إنما كان متضلعاً بثقافة عصره، تطرق إلى المعارف المختلفة التي أذنت بالازدهار في محيط الإسلام. فقد وجه تعاليمه إلى عقول سامية لا إلى خيالهم، وبذلك أسس في الإسلام طريقة للتفكير تتعلق مباشرة بأوليات الفلسفة بحيث يمكننا أن نقول إن أول مدرسة فلسفية نشأت في الإسلام كانت في البصرة برئاسة الحسن البصري. كذلك كانت مواعظه رائعة تعمل في تكوين العقيدة وعلم أصول الدين واللاهوت. ويذكر له ابن النديم مصنفاً في التفسير، وله أيضاً كتابات في الشروح القرآنية، وقراءاته القرآنية مشهورة. وله مكانته في تطور النحو وعلم الكلام وخاصة في الفقه. فقد دعا إلى التفقه بالدين، بقي له مصنف، لعله كان في الفقه باسم (الإخلاص) ورد ذكره في أخبار الحلاج المفكر الصوفي المشهور، ولا نكون مغالين إذا قلنا ان له فضلاً عظيماً في تقدم الفقه الإسلامي وتوسيع طاقته، فقد سئل انس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، وذكر عنه قتادة وقال: ما جالست فقيهاً إلا ورأيت فضل الحسن عليه، وقال أيضاً ما رأيت عيناي افقه من الحسن، وقال بكر بن عبد الله: الحسن افقه من رأينا ومناقبه كثيرة ومشهورة. ودرج أبو اسحق الشيرازي في طبقات الفقهاء عدداً يسيراً من

ص: 25

تراجم أصحاب الحسن وطلابه الفقهاء. فلا عجب والحالة هذه إذا ما وصفه المستشرق المعروف براون في بحثه عن نشأت الاعتزال بالفقيه المشهور. أما في مجال البيان فكان يشبه برؤبة بن الحجاج، فقد كان الحسن حقاً أحد فضلاء الإسلام وبلغائه، وكان طلقاً لبقاً، يحذق الحديث وفن الخطاب، حسن البديهية والارتجال. وقيل للحجاج من اخطب الناس قال: صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة يعني الحسن وقال الغزالي: كان الحسن البصري أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء وأقربهم هدياً من الصحابة. وكان قصاصاً يعد من افضل القصاص واصدقهم، يستخرج العظة مما يقع حوله من حوادث، يجلس في آخر المسجد وحوله حلقته، حيث كان نظام التدريس العالي آنذاك يجري على شكل حلقات المحاضرة والمناظرة.

لم يسلم الحسن البصري - كما مر بنا - من انتقادات وجهت إليه في أيام حياته، فقد تهجم عليه الشيعة الإماميون والخوارج لأنه وقف على الحياد من موقعة صفين، إلا إنه مع ذلك ظل يعتبر بين الناس رئيس الصوفية الكلاسيكية، ومربياً لعدد من المعتزلة الميالين إلى التصوف، كما تبعه بعض المحدثين من اهل السنة، وانتهت كل الحملات عليه بموته، وأثنى عليه الشيعة في بعض الأحيان وذكروا وآثره ومن ثم لا نستغرب من رواية ابن خلكان بان اهل البصرة كلهم تبعوا جنازته بحيث لم يبق في المسجد من يصلي صلاة العصر. وكانت وفاته 110هـ ودفن في البصرة القديمة، وقبره الآن بجانب قبر ابن سيرين مزار لمختلف الفرق الإسلامية.

حسين علي الداقوقي

ص: 26

‌بعد عشرين قرناً

حضارة عربية تنكشف عنها الرمال

للأستاذ وندل فيلبس

رئيس البعثة الأثرية الأمريكية

كان الأمر على جانب من الخطورة، فالعربي في جنوب الجزيرة لا يتردد عن قتل من يسوق سيارة من سيارات النقل، إذا تصور أن تلك السيارة ستنتزع منه ومن بعيره رزقهما من نقل البضائع. لقد حذرونا قبل السفر بان يكون يقظين لأولئك الذين قد يتربصون لنا خلف الصخور.

إن اكتشاف الزيت في شمال الجزيرة العربية قد أزاح الإبل عن العمل في نقل البضائع إزاحة تامة. وهي بالنسبة لأصحاب الإبل نكبة اقتصادية فادحة. فليس في وسع القسم الأكبر من عرب جنوب الجزيرة شراء سيارات لنقل البضائع نظراً لفداحة اثمانها، دع عنك تكاليف صيانتها وحفظها، فالسيارات لا تستطيع العيش كما تعيش الإبل على الكلأ والأشواك، والسير يوماً بعد يوم من غير ماء. ولا أن تغدو طعاماً ووبراً للحياكة عندما ينتهي أمرها كحيوانات للنقل. ولذلك فإن النظام الجديد في عدن لا يستفيد منه سوى المقتدرين. أما أصحاب الإبل الذين لم يتأثروا بعد تأثراً يذكر بمزاحمة السيارات لهم فما زالوا مستعدين للكفاح في سبيل البقاء.

ولكن الخطر الأكبر في طريقنا كامن في الخلاف بين اليمن والإنكليز على الحدود، فقد جائني كتاب من المصادر اليمنية الرسمية قبل حين جاء فيه:

(يجب الالتفات إلى أن حوادث (العنف) التي تقع في المناطق الجنوبية من اليمن، قد أثارت الأهالي في تلك الناحية. بحيث قد يصبح السفر خطراً في بعض الأجزاء النائية منها).

وسرنا من عدن التي جئتها من لندن طائراً خلف سفينتنا، نغذ السير بمحاذاة ساحل حضر موت في القدم تبدو - كشأن الغجريات - جميلة على البعد. أما وقد اقتربنا منها، فإن الأبنية التي كانت تشرق في أشعة الشمس على حافة البحر الأزرق من بعيد، أخذت تبدو لنا الآن قائمة على القرب، والأبخرة العفنة المتصاعدة من أرجاء المدينة تزحم هواء البحر

ص: 27

النقي برواحها الكريهة.

وانساب نحونا، في كسل، بعض السفن العربية الهبيطة تدفعها مجاديف نوتينها من العرب. فابتدأت من تلك الساعة همتنا الشاقة في الاحتفاظ بسياراتنا على ظهرها حتى نصل بها إلى الساحل. إن ثبات هذه السفن الشراعية على وجه الماء كثبات الزوارق المصنوعة من لحاء الشجر، حتى لقد كدنا نفقد إحدى سياراتنا، فقد اندفعت على حين غرة من جانب السفينة إلى الجانب الآخر فقطعت الأمراس التي كانت تشدها، وبدأت تميل بالسفينة لو لم يتداركها أحدهم بحبل ثم رفعناها بالآلة الرافعة. وكانت الحواجز التي تحتم على ذلك النهار إزالتها من الطريق في الجمرك ابلغ خطراً. فقد كانت السلطات العدنية تدرس مشروعاً لشق الطرق في البلاد، فطلبوا منا المساهمة في تمويل المشروع لقاء السماح لنا بالدخول.

قلت موجها حديثي لجيهان خان الهندي، سكرتير المالية لحكومة المكلا:(لا بأس! فكم تريدون؟)

فأجاب بلغة إنكليزية فصيحة: (أعتقد أن 16 ، 200 جنيهاً إنجليزية كافية).

فنظرت إلى رفيقي شارلس انجي وقلت: (معنى ذلك 50 ، 000 دولار أمريكي إننا لا نملك هذا المبلغ، فما يريد أن يفعل به؟ أيريد أن يوفد بعثة أخرى من قبله بذلك المبلغ كله؟)

فضحك انجي، وتوصلنا بعد سيوعات إلى حل مرض، فإن حكومة المكلا يرضيها أن نقدم لها هراسة بخارية أو ممهدة للطرق. ومع ذلك فلم يكن لدى أي واحد منها في ذلك الحين. فقنع جيهان خان بتعهد كتابي مني. ويسعدني القول إنني استطعت تحقيق ما جاء في هذا الفصل بفضل هذا التعهد. ثم تشرفنا بعد الظهر من ذلك اليوم، وكان يوم الاحد، بزيارة صاحب السمو السر صالح صالح بن غالب القعيطي. سلطان الشحر والمكلا، وأكبر زعماء الجانب الشرقي من المحمية، فدعانا للعشاء على مائدته تلك الليلة. ولن أنسى ما حييت، وقوفي إلى جانب سموه اقدم له أفراد البعثة. إن السلطان شديد الاهتمام بالأمور المالية، وه يتكلم الإنكليزية ويؤلف في الفلسفة، والعلم، والدين، ويحب الأدوات الحديثة، وقد جهز قصره بالنور الفلوريسيني. وبمسجل للأصوات. ولما كنت جالساً بجانب سموه على مائدة الطعام، كان سؤاله الأول موجهاً إلي، وقد نزل على رأسي، فقد أراد أن يعرف، من بين

ص: 28

الأشياء جميعها، الثقل النوعي لأحدث معدن تصنع منه الطائرات النفاثة، فهتفت:(بترى) محيلاً عليه السؤال، فهو وحده من بيننا على علم بمثل بهذه الأمور.

وابتدأنا بالسفر غداة يوم الاثنين 20 فبراير مبكرين، وعند الظهر اندفعت قافلتنا من بوابة المدينة وبدأت تتسلق المرتفعات متغلغلة في داخل البلاد.

كان طريقنا يتجه نحو الشمال إلى وادي حضر موت فوق سلسة من النجود العالية تسمى (الجول) ومن هناك نسير محاذين لطرف الصحراء الجنوبي حتى رملة الصباطين ثم نتجه غرباً حتى نصل إلى الطرف الجنوبي من وادي بيحان.

مدن تحت رمال الصحراء

إن رملة الصباطين بحر مثلث مترامي الأطراف من الرمال الصريحة، وترعرعت على سواحله الصخرية يوماً ما، ثلاث من ممالك جنوب الجزيرة العربية الأربع - معين في الشمال، وحضر موت في الشرق، وسبأ وقطبان من الجنوب. وقد قامت مدينة مأرب عاصمة سبأ في الزاوية الشمالية الغربية من هذه الأرض التي ليس لأحد سلطان عليها، كما قامت (تمنا) في الزاوية الجنوبية الغربية منها. وكلتا المدينتين الآن تحت الرمال التي تذروها الرياح في كل ناحية وصوب في الجزيرة العربية المعاصرة القليلة المياه.

منذ نهاية العصور الرومانية حوالي عام 500 قبل الميلاد عندما جاء الأحباش المسيحيون إلى حضر موت، ثم تلاهم المسلمون المتحمسون للقضاء على الوثنية، حتى عام 1920، لم يتعد عدد من زار حضر موت من الأوربيين ستة أشخاص، ولم يقدر لبعثة أمريكية منظمة قبلنا أن ترى حضر موت أو وادي بيحان النائي.

تبلغ مساحة حضر موت حوالي 400 ميلاً طولاً، ويحدها عدد من النجود المكونة من الحجارة الكلسية التي تعلو في السماء البيضاء الصافية آلافاً من الأقدام. إن حضر موت شحيحة الامطار، وعندما تمطر السماء فيها، فأنها تفرغ نعمها فوق الجبال، فتتجمع المياه هناك أولا على هيئة غدران فجداول فتصبح في النهاية سيولاً جارفة، تتدفق من أعلى الهضاب مدوية من الوديان كاسحة أمامها ما يقع في طريقها.

وكنا خلال اجتيازنا الجول المرتفع القارس في منتهى الحذر خوفاً من أولئك العرب الذين يكرهون سيارات النقل اشد الكره. . فكان مبارك عبد الله ضابط حرس القافلة. . يرتب

ص: 29

سياراتنا كل ليلة على هيئة مربع مجوف كما تفعل طلائع الجيوش بسياراتها ومدافعها الرشاشة المتحركة.

لقد حسبنا في اليوم الثالث إننا مشرفون على الوقوع في المشاكل، فطريق السيارات في الجول لا يتسع لأكثر من سيارة واحدة، وكانا جانبا من الطريق مليئين بالصخور الصلدة العظيمة. كنت أسوق سيارة القيادة، وهي من نوع السيارات التي تستعمل في الاستكشافات الحربية، فشاهدت إمامي سحابة من الغبار ثم انجلت بعد حين عن سيارتين من سيارات مكافحة الجراد الذي يكثر في الجزيرة العربية. إنه يتدلى من الشجيرات كالعناقيد فيلتقطه العرب منها كالتوت، ويدسونه في أفواههم وهو لا يزال حياً يرفس برجله.

ووقفت السيارتان امامي، وقفز منها أربعة من العرب يتنكبون بنادقهم. كان الأستاذ (اولبرايت) معي فأمرونا بواسطته أن نخلي الطريق لهم من سياراتنا. فقلت لهم لني لا أرى ما يبرر إخراج 16 سيارة من الطريق من الجل سيارتين. فرفع أحدهم بندقيته، ومرت لحظة من الزمن كنت أسائل نفسي فيها:(أهذه هي النهاية؟) ثم سمعت مبارك عبد الله يقول بصوت مرتفع، وهو يقفز من سيارته وكانت قد توقفت في تلك اللحظة خاف سيارتنا.

(نح تلك البندقية جانباً) فانزل الرجل بندقيته، وقال:(من أنتم؟)

فأجابه مبارك: (أنا الضابط مبارك عبد الله. وإذا لم تتنحوا عن الطريق ألهبت رؤوسكم بالرصاص). فأطاع الرجال وتنحوا لنا عن الطريق بخفة.

عندما قتل ضيفه

إن لمبارك شهرة واسعة في حضر موت. فقد أرسل ذات مرة ضيفاً إلى إحدى حفلات الزواج في حي عمه، فقتل الضيف. فلما بلغ النبأ مباركاً، اشترى بندقية جديدة، ومقدار من الرصاص، وتوجه ليثأر لشرفه طبقاً لما تخوله التقاليد القبلية من الحقوق. وبعد سنة كاملة استطاع أن يريح ضميره مرة أخرى بعد ان قتل ثلاثة من أفراد عائلته كانوا مسئولين عن إراقة دم ضيفه.

كان مبارك يركب دائماً بجانب (جلادس)، ومع إنها كانت رائدتنا فطالما توارت عن أنظارنا عند منعطفات الطرق أو فوق التلاع. ولكني ما كنت اقلق عليها لوثوقي من سلامتها ما داو مبارك بجانبها على قيد الحياة. فقد كان شديد الإعحاب بقيادتها للسيارة.

ص: 30

فالعربي ينظر لمن يسوق سيارة أو يطير طيارة بالإعجاب والإكبار. و (جلادس) كانت هائلة سواء أمام عجلة السيارة أو قيادة الطائرة.

ففي غضون الرحلة التي قمت قبل سنتين منتدباً من جامعة كاليفورنيا كانت جلادس تقود سيارة من سيارات الحمل من القاهرة إلى مدينة الكلب وهي مسافة تقرب من 5000 ميل. وفي العامالمنصرم سجلت رقماً قياسياً في الشرق الأوسط بقيامها بست رحلات في غضون 10 أيام من القاهرة إلى جبل سينا. وقد رافقها (جيفرس كافري) السفير الأميركي في القاهرة في إحدى تلك الرحلات، فلم يستطع احتمالها، فإنها لتمرسها بالأسفار في الصحراء كانت تتغلب على ما يعترض سبيلها من العقبات، ومع ذلك فقد كانت عنايتها عظيمة بحيث لم ينفجر ولا إطار واحد من أطر السيارات أو ينكسر محور واحد في الطريق الصخرية إلى بيحان. وهي مهارة لم اكن أتوقعها.

كانت سيارتها تتقدم القافلة دائماً، بينما كنت انتقل في سيارة من سيارات الاستكشاف بين أضلاع الوديان ومتون الصخور، فقد كان تخصصي العلمي الأول هو الإحاثة فكانت تستهويني التشكيلات الجيولوجية الظاهرة العجيبة، وبعضها يعود إلى الزمن الذي لم تكن في الأرض سوى كرة صخرية جرداء تلفحها الرياح.

كنت في المقدمة عندما تراءت لنا (شيبام) مدينة الأبنية العالية والخصومات. فحينما بلغت سيارتي قمة إحدى الهضاب، وبدا منظر المدينة منبسطاً أمامي على حين غرة، كان الوقت ظاهراً والحرارة محرقة، حتى إن الإعياء كان قد اخذ مأخذه من حراسنا غلاظ الأجسام. كانت الصحراء ترقص أمام أنظارنا في بهر الشمس، وأبراج المدينة تبدو كأنها معلقة في الهواء العائم تشدها خيوط من الفضة فوق الرمال.

تسمى شيبام شيكاغو حضر موت، لا لسبب سوى إن ابنيتها أعلى ما في البلاد، فبعضها يعلو الأسوار التي تحيط بالمدينة وتحميها من هجمات قبائل الصحراء بـ9 أو 10 طبقات. والبلد قسمان: سكان المدن المستقرون، وسكان الصحراء المتنقلون.

وليس ما يمنع تلك الأبنية من المضي فبي الارتفاع سوى عدم سلامة الطين الذي يخلط بالقش (التبن) وبعر البعير، ويسلح بدعائم من الخشب. فإن العلو زيادة في الاحتراس وليس من الضروري لرخص مواد البناء في شيبان. فكلما عشت مرتفعاً بالمعنى المادي،

ص: 31

سبقت في رؤية اقتراب الأعداء.

لقد سمعت قصصاً عن شيبام وهي من افظع ما شهدته بلاد العرب من الميادين الحربية الدامية، فقد كانت ميداناً للكفاح من اجل السيطرة استمر قرناً كاملاً بين قبلتين عربيتين كبيرتين هما القعيطيون الذين انتصروا في النهاية، والكثيرون الذين فقدوا السلطة هناك. وهذا طرف من تلك القصص:

لسبب لا نعرفه الآن أجاز السلطان منصور حاكم شيبام الكثيري سنة 1830 للقعيطيين شراء قسم كبير من أملاك المدينة، فلما استقر بهم المقام ساءت نية منصور واخذ ينظر إلى الطارئين الجدد كمعتدين، وبدأ يعمل فيهم السيف. هذه هي البداية. ثم ارتحل قسم من الكثيرين وعادوا بجيش اضطر معه منصور في النهاية إلى تقسيم شيبام بينه وبين الكثيرين.

واستمر الهدوء حيناً من الزمان حتى بدأ منصور، الحول القلب الذي لا يستقر على حال يتطلع للقتال، فسولت له نفسه أن يمكر بالقعيطيين فيدعو ثلاثمائة من كبارهم إلى العشاء. وكان البارود من ضمن الطعام. واكن الخدعة لم تنطل على أحد. فإن الثلاثمائة قعيطي الذين كان يرمي إلى استأصالهم، جاءوا مع عدد كبير من الأتباع اكبر مما كان يقدر. فعاد الكفاح سيرته الأولى من جديد. ودارت الدائرة في النهاية عليه، فشق حلقه من الأذن إلى الأذن، وابتدأ من ذلك الحين استئصال لما بقي من الكثيريين في المقاطعة في تعميم وروية، من غير رحمة أو شفقة، حتى كادوا يفنون عن بكرة أبيهم، إلى أن جاء ما يسمى بصلح أنغرام قبل بضع سنين فوضع الإنكليز به حداً للقتال المنظم. لم يكن المرء ليأمن على نفسه بأن يمشي أو يركب منفرداً في شيبام نهاراً. وكان بيت كل إنسان حصنه. وإذا كنت فقيراً فانك تقتل أعداءك بنفسك. أما إذا كنت غنياً فانك تستأجر من يتولى قتلهم عنك. وكان القتلة دائماً ينالون جزائهم أما مالاً أو قتلاً، وأحيانا مالاً وقتلاً. وعندما يصل إفناء عائلة من العائلات حداً بعيداً، فإن المغلوبين يحاولون عادةحسم الأمور بينهم وبين المنتصرين، فيهيئون وليمة كبيرة، وكجزء من الوليمة يحاولون الاتفاق على تأدية ديات القتلى، وبذلك تذوب في بعض الأحيان ثروات بعض العائلات قبل أن يتم تسديد الديات.

وبالرغم من وجود مبارك الذي يتولى حمايتنا أثناء رحلتنا إلى بيحان، فقد انتابني فزع

ص: 32

شديد ذات يوم مرتين. الأولى بسبب جلادس، وبعد ذلك مباشرة بسبب البعثة كلها. كنا قد تجاوزنا شيبام، ووصلنا إلى قلعة منفردة في بئر عسكر. وكان علينا أن نقضي الليل هناك.

وبينما كنا نغادر سيارتنا، التف حول جلادس ما يقارب عشرين امرأة كن قد جئن بإبل القبيلة إلى بئر عسكر. فأخذن في شد مئزر جلادس الغريب الهيئة الأبيض الفضفاض، وهن يتدافعن للاقتراب منها. فأفزعني تدافعهن، ولكني عندما هرعت نحوها ارتحت لما لاحظت إنهن كن لطيفات، وان فضولهن كان ودياً بالرغم من خشونته. وكانت جلادس في أول الأمر تبدو مندهشة، ولكنها أخذت تضحك بعد ذلك، فأخذن في الابتعاد عنها نوعاً ما، وهن يؤلفن حولها حلقة متراصة، وتكز إحداهن الأخرى ويتطلعن اليها ويتهاتفن على ذات الشعر الذهبي.

ثم ارتفع على حين غرة صوت إطلاق الرصاص ناحية حضر موت الرملي. إنه العلامة المتوقعة للخطر الذي كنا في انتظاره منذ ان غادرنا المكلا، فتطلعت عجلا نحو مصدر الصوت ثم أسرعت إلى بندقيتي لأني استطعت إن أشاهدعلى البعد سحابة من الغبار وفي وسطها دون شك بعض الرجال الأشداء على ظهور إبلهم.

ع. ت

(الرسالة)

نقلت شركات البرق إن الأستاذ وندل فيلبس كاتب هذا المقال قد فر هو وبعثته من اليمن إلى عدن. وظل فرار هذه البعثة حديث الناس في كل مكان، يظنون فيه الظنون، ويتلمسون له الأسباب. وقد قال مكاتب (المصري) في عدن من رسالة بعث بها إلى جريدته في الخامس عشر من هذا الشهر: (قمت بتحري الأسباب التي حملت حكومة جلالة ملك اليمن على أبعاد هذه البعثة فعلمت ان ذلك يرجع إلى إن الحكومة اليمنية كانت قد سمحت لهذه البعثة الأمريكية بالتنقيب عن الآثار في منطقة مأرب وغيرها من البلاد اليمنية بموجب اتفاقية عقدت بين الطرفين أهم بنودها أن تكون جميع الآثار التي تعثر عليها البعثة ملكاً لحكومة اليمن التي ساهمت بمبالغ كبيرة في هذا المشروع العلمي الجليل. وقد بدأت البعثة عملها بعد أن وقعت على الاتفاقية بتاريخ 16 أبريل سنة 1951 ونجحت في العثور على

ص: 33

آثار عظيمة. ولما أوشكت مدة الاتفاقية أن تنتهي طلب رئيس البعثة من الحكومة اليمنية أن يستمر في العمل واعداً بتلافي الأخطاء التي ارتكبها أعضاء بعثته لجهلهم بتقاليد أهل البلاد وعاداتهم. وفي الوقت الذي كان يفاوض فيه الحكومة اليمنية اعتقل البوليس اليمني عدداً من أفراد البعثة بعد منصف الليل وهم يهمون بمغادرة اليمن حاملين معهم كثيراً من التحف الأثرية والتماثيل، فقررت حكومة الأمام على أثر ذلك عدم تجديد الاتفاقية وأبعدت البعثة عن اليمن.

وقد اكتشفت أخيرا إن بعض إفراد البعثة قد نجحوا في سرقة تمثال بلقيس ملكة سبأ وهو يعتبر من التحف الأثرية النادرة.

وقد علمت إن الدوائر الرسمية في اليمن تعد تقريراً شاملاً لترفعه إلى حكومة الولايات المتحدة لإعادة هذه الأثر العظيم إلى موطنه الأصلي)

ص: 34

‌رسالة الشعر

خطوط

للشاعر الشاب محمد عبد الفتاح الفيتوري

فقير، أجل. . ودميم دميم

بلون الشتاء. . بلون الغيوم

يسير فتسخر منه الوجوه

وتسخر حتى وجوه الهموم

فيحمل آلامه في جمود

ويشرب أحزانه في وجوم

وكم تبعته أكف الصغار

قاذفة بالحصى والرجوم

ولكنه أبداً حالم

وفي قلبه يقظات النجوم

فقير. . وسادته ثوبه

إذا ما غفا. . والفراش الحصير

حصير تقادم حتى يكاد

يخضر. . يرجع عشباً نضير

وغرفته حفرة تتعالى

بجدران قبر. . وباب قصير

ومائدة وقفت كالعجوز

سيقانها خالدات الصرير

ومصباحه ميت. . ميت

كقلب الغني. . ووجه الصغير

دميم. . فوجه كأني به

دخان تكثف ثم التحم

وعينان في كأرجوحتين

مثقلتين بريح الألم. .

وانف تحدّر ثم ارتمى

فبان كمقبرة لم تنم. .

ومن تحتها شفة ضخمة

بدائية. . قلما تبتسم

وقامته لصقت بالتراب

وان هزئت روحه بالقمم

وقالوا: أحب. . ورددت الألس

ن الساخرات. . أحب أحب!

وما ذكروا إنه مثلهم

له بين جنبيه قلب يحب

وهل عرفوا الحب؟ هل عرفوه

سوى إنه جسد يضطرب

وفاكهة تشتهيها العيون

وكف تجوع. . وكف تهب

ولو سأله قبحه. . لأجابت

كآبة عينيه ان لم يجب

أحب التي شربت كأسه

وابصر في نفسها نفسه

وكم ظل يسأل عنها الوجوه

ويطرق محتضناً يأسه

ص: 35

ويهرق معوله في تراب

لياليه. . محتفراً رمسه

إلى ان رآها. . رآها فغنى

لحاضره. . وبكى أمسه

وعانق في مقليتها أساه

وقدس في طهرها رجسه

وكان يخاف لقاء المنية

قبل لقائهما. . قبلها

فأمسى يود خلود الحياة

لتحيا له. . ويحيا لها

وما شهد الفجر أحلام عينيه

إلا مصلية حولها

وما سمع الليل أشواق جنبيه

إلا منورة ظلها

فلا تحسبوه يغني لكم

ولكنه يتغنى لها

محمد مفتاح الفيتوري

ص: 36

‌العودة.

. .

للأستاذ أحمد أحمد العجمي

عدت للحب والطلى والأغاني

والليالي والفاتنات الحسان

عدت كالطير للرياض وكالان

سام للدوح في الربيع الحاني

عدت للحب والجمال المفدى

ناعماً بالخلود في الحاني

عجباً للزمان يفنى وللأك

وان تفنى والحب ليس بفاني!

كيف يفنى حبي وتخمد أشو

اقي وأنت الحياة ملء كياني!؟

زعموا إنني سلوت هواك

ونسيت العهود بعد نؤاك

لا وعينيك والورود النضيرا

ت على وجنتيك لا أنساك

ان يكن صمتي الطويل شجاك

فبروحي أعيش في نجواك

اين صوت اللسان من شغف القلـ

ب وصمت النسيان من ذكراك

يا فتاة الأحلام عودي فإني

كنت في الصمت ناطقاً بهواك

عودة عودة إلى القبلات

والعناق الشهي والصبوات

واللقاء النشوان بالصفو والبهـ

جة والأغنيات والأمنيات

كلما أشرقت نجوم الدياجي

طالعتنا بأوجه اللذات!

ومتى صفقت كؤوس الحميا

رفعتنا الأحلام فوق الحياة!

مضت المعجزات إلا محيا

ك فما زال أجلد المعجزات!!

أي سر يلوح في مقلتيك؟ أي سحر ينساب في عطفيك؟

زعموني سلوت عينيك اوهم

ت ينبع ألذ من شفتيك

فسلي مقلتي عن سهر اللي

ل وعن لهفة الحنين إليك!

واسمعي ادمعي وبث أنيني

ونجوم الدجى شهودا لديك!

أنت بادرة الجمال الفريد

أنت يا واحة الشريد الطريد

يا ابتسام الحياة يا فرحة المح

زون يل طلعة المنى والسعود

يا ملاكاً تغلغل الحسن فيه

هاتفاً: هاهنا يطيب خلودي

أستسر الجمال فيك إلى أن

فضحته النهود بعد الخدود!

ص: 37

فاكتسى حسنك الأنيق حياء

وتهادى في غصنك الأملود!!

أين منك الرياض والأنداء؟

أين منك الأضواء والأفياء؟

أين منك الشموس والأنجم الزه

ر جميعاً وأين منك السماء؟

بت أحصى محاسن الكون طراً

فإذا أنت وحدك الحساء!!

فيك حرية الجمال وفي قل

بي قيود الهوى فنحن سواء.!

فلم الهجر والنوى وجزاء ال

حب ذاك الجمال والإغراء؟!

آه لو تعلمين هول شحوبي

وعذابي ولوعتي ونحيبي

وحنيني إليك في النأي كالأم

إلى طفلها الوحيد الغريب

وحنوي عليك كالدمية الوك

فاء تحبو الربى بأوفى نصيب

واغني فيك كالجدول الرقـ

راق يجري مضمخاً بالطيوب

يا حبيبي متى تعود الليالي

مثلما عدت للهوى يا حبيبي!

سمع الطير غنوتي وهيامي

فتغنى بصبوتي وغرامي

ورأى الشاعرون صمتي فاغرا

هم بشعري فرددوا أنغامي

يا لصوص القريض عدت فعودوا

لإنتهابي وشمروا لاغتنامي!

يا شداة الألحان هاكم اناش

يدي فغنوا بها ودوسوا حطامي

هل على المجدبين ينتجعون ال

خصب لوم، سعياً على الأقدام

إنني املك الكنوز جميعاً

في فؤادي صبابة وولوعا

وهياماً بالحسن في كل وجه

وانطلاقاً مع الأماني سريعا

وطموحاً وثورة وإباء

وحياء وحيرة ودموعا

أنت رقرقها ينابيع في قل

بي أطلقها خيالاً رفيعا

أنت مادمت أنت ملء فؤادي

فمن العجز ان آخر صريعا!!

حسدوني على أماني فيك

هل رأوا فتنة ابتسامة فيك!؟

ظلموني وأمعنوا في عذابي

أنا راض بالظلم لو يرضيك؟

حبسوني في ظلمة الريف وحدي

لينالوا العلى بغير شريك!

تشرق الشمس وحدها والمصابـ

يح دياجير في النهار الضحوك

ص: 38

عقد النصر للسلاحف والشا

عر خلف القطيع كالصعلوك!

أحمد أحمد العجمي

ص: 39

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

الاحتفال بالذكرى الألفية لابن سينا

كان مقرراً أن يقام هذا الاحتفال في أكتوبر سنة 1951، في بغداد أولا، ثم في طهران ولكن الحكومة الإيرانية طلبت أن يؤجل ريثما يتم بناء ضريح تقيمه لصاحب الذكرى في مدينة (همدان) فقررت اللجنة المؤلفة في الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية للاحتفال بهذه الذكرى - بالاتفاق مع ممثل إيران - أن يقام الاحتفال ببغداد في النصف الثاني من شهر مارس سنة 1952، وبطهران في النصف الأول من أبريل.

وجاء شهر مارس (الحالي) فأنبأت الحكومة الإيرانية ان الضريح لم يتم بناؤه حتى الآن، وأنها قررت تأجيل احتفالها إلى موعد قريب سيعلن عنه وسيدعى إليه وفود من الدول العربية وعلماء مستشرقون من مختلف أنحاء العالم.

ومضت العراق في إعداد العدة لاحتفالها في الموعد المقرر، وقد عين يوم 20 مارس الحالي لبدئه، وستمر حتى اليوم الثمن والعشرين منه.

الوفود المصرية

وعينت الدول العربية وفودها إلى الاحتفال، ونذكر فيما يلي الوفود التي تقرر إيفادها من مصر:

يمثل الجامعة العربية في هذا الاحتفال بهذه الذكرى، الأستاذ سعيد فهيم وكيل الإدارة الثقافية والدكتور احمد فؤاد الأهواني والأب قنواتي والدكتور مختار الوكيل، وقد أعطى الدكتور احمد أمين بك واعد كلمة في هذه المناسبة يلقيها الدكتور مختار الوكيل في حفل الافتتاح.

ويمثل مجمع فؤاد الأول للغة العربية الدكتور إبراهيم بيومي مدكور (وهو رئيس وفد مصر)، ويمثل وزارة المعارف المصرية الأستاذ محمود الخضيري، ويمثل جامعة فؤاد الأول الدكتور مصطفى عمر بك الأستاذ بكلية الطب، ويمثل جامعة إبراهيم الدكتور عبد الحمن بدوي الأستاذ بكلية الاداب، ويمثل جامعة فاروق الأول الدكتور محمد ثابت الفندي، ويمثل الأزهر الدكتور محمد البهي.

ص: 40

ويمثل المعهد الفرنسي بالقاهرة البروفسير شاؤل كوبنر ويحضر الاحتفال الأستاذ عادل الغضبان مندوباً من مجلة (الكتاب)، ويحضره أيضا من رجال الآثار المصريين الأستاذان عباس بدر وحسن عبد الوهاب والدكتور محمد مصطفى.

المدعوون الشخصيون

وقد وجهت الحكومة العراقية دعوات خاصة إلى طائفة من العلماء في مختلف البلاد الشرقية والغربية ليشاركوا في الاحتفال وينزلوا في ضيافتها، وهم - بطبيعة الحال - غير المندوبين الرسميين، وإنما دعوا بصفاتهم الشخصية.

فدعت أربعة من إنكلترا، وأربعة من أمريكا، واثنين من فرنسا، وواحدا من كندا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا والسويد والد نمارك وهولندا وكوبنهاكن والهند والباكستان وإيران وإندونيسيا وتونس والجزائر ومراكض. وقد عرفت أسماء المدعويين الإنكليز والفرنسيين، فالإنكليز هم الأستاذة جيب ومينورسكي وآربري وسيدني سميث، والفرنسيون هم الأستاذ ما سينيون وبلاشير.

دعي مصري واحد واعتذر:

ودعت من المصريين واحداً هو معالي الأستاذ احمد لطفيالسد باشا وقد اعتذر. كما دعت ثلاثة يقيمون بمصر أحدهم إنكليزي وهو المستر كريزول أستاذ الآثار الإسلامية بمعهد الآثار بجامعة فؤاد الأول، والآخران هما الأستاذ العلامة ساطع الحصري بك والبروفسير شارل كوبنز مدير المعهد الفرنسي بالقاهرة وهو عضو في لجنة الاحتفال بالإدارة الثقافية، وما يذكر أن الأستاذ كوبنز بذل جهوداً قيم في معاونية اللجنة، وقد نشر المعهد الفرنسي بعض الأبحاث التي كتبها بعض أضاء اللجنة في ذكرى ابن سينا.

بلاد (الدمنيون) في الاحتفال:

ويلاحظ أن الدعوات الشخصية وجهأكثرها إلى إنكلترا وأمريكا وبلاد (الدمنيون)، فقد ظفر (الأنجلو أمريكان) وحدهم بثماني دعوات، وثمة بلاد حافلة بكبار المستشرقين كألمانيا وهولندا ولم يدع إلا واحداً من كل منها. .

وإذا كان لنا ان نغضي عن مصر ومن فيها من الأعلام وأساتذة الأدب والفكر، وان ندع

ص: 41

الحديث في إهمال دعواتهم لأننا مصريون، فلا أظن إنه يحسن السكوت عن عدم توجيه مثل تلك الدعوات إلى أحد من سائر البلاد العربية؟ أفلم تجد الحكومة العراقية في سوريا أو لبنان مثلاً من هو اهل لكرمها الذي كان (حتمياً) في الغرب و (مادريا) في الشرق. . أن صح أن ينسب الكرم إلى (مادر). .؟!

لجنة الاحتفال وأعمالها:

وتتكون لجنة الاحتفال المؤلفة بالإدارة الثقافية، من الدكتور احمد أمين بك (رئيساً) والدكاترة والأساتذة إبراهيم بيومي مدكور ومحمد البهي ومحمد يوسف موسى واحمد فؤاد الأهوائي ومحمود الخضيري والسيد محمد تقي القمي وشارل كوبنز مدير المعهد الفرنسي بالقاهرة والمستشرق ماسينيون عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية والأب جورج شحاتة قنواتي.

وقد عملت هذه اللجنة في الإعداد للاحتفال بذكرى ابن سينا منذ سنتين ونصف سنة. عقدت في خلالها اثنتين وعشرين جلسة. واهم ما أنجزتهفي هذا السبيل تحقيق جزء المنطق من كتاب (الشفاء) للرئيس ابن سينا، قامت به لجنة فرعية برئاسة الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، وطبعت الكتاب وزارة المعارف المصرية، وكلفت اللجنة الأب قنواتي بالكتابة عن مؤلفات الشيخ الرئيس، فقام بذلك في مؤلف صدر في العام الماضي عنوانه (مؤلفات ابن سينا). وقام أعضاء اللجنة، كل منهم في مجال اختصاصه، بعمل بحث سيلقى في الاحتفال. وقد نشر المعهد الفرنسي عدة أبحاث في ذكرى ابن سينا لبعض أعضاء اللجنة، منها بحث الدكتور محمد يوسف موسى في الناحية الاجتماعية والسياسية من فلسفة ابن سينا، وبحث للدكتور احمد فؤاد الأهوائي في الناحية النفسية من هذه الفلسفة. كما قام المعهد بنشر بحث آخر للأستاذ لوي جارديه المستشرق الفرنسي في المقدمات الفلسفية للتصوف السينوي.

واستكتبت اللجنة بعض العلماء والكتاب والمستشرقين مقالات وأبحاثا تتناول مختلف الموضوعات التي كانت ميادين لإنتاج ابن سينا، وقد وصلها طائفة من الموضوعات أعدها بعض المستشرقين ستلقى في الاحتفال.

معرض المخطوطات والصور

ص: 42

وسيقام في أثناء الاحتفال معرض تعرض فيه المخطوطات النادرة لابن سينا، وقد قام بتصويرها قسم التصوير بمعهد المخطوطات في الإدارة الثقافية، كما يعرض فيه معظم الكتب المطبوعة من مؤلفات الشيخ الرئيس والكتب المؤلفة فيه، قديماً وحديثاً، باللغة العربية وبغيرها من اللغات الحية.

وتعرض في هذا المعرض أيضا صور متخيلة لابن سينا صورت في العراق وفي إيران أو جلبت من دور الكتب العامة والخاصة في استنبول وفي أوربا، وصور لتوقيعه وبعض خطة، وطوابع بريد تذكاريه وضعت في إيران، مجموعة من مخطوطات ابن سينا النادرة ستهديها الإدارة الثقافية إلى الدول العربية.

عباس خضر

ص: 43

‌البريد الأدبي

إلى أخي الأستاذ رجب البيومي

السلام عليكم ورحمة الله وبعد، فإنني لم أرد أن ادخل بينك وبين الأستاذ شاكر فيما شجر بينكما من خلاف، حتى ينتهي إلى غايته كما ينتهي. . ذلك إنني كنت حريصاً على ان ادعك ورأيك، وإلا أبدأ تعافي بك في زحمة الجدل. وان أظن أخونا شاكر إن بيننا صحبة وثيقة هي التي تدفعك إلى رد تهجمه أو تقحمه، حتى لقد أنذرنا معاً عداوة يوم القيامة:(الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو)، لان مألوف الناس قد جرى في هذا الزمن الصغير، على إن الحق وحده، أو الرأي وحده، لا يكفي لان يدفع كاتباً فيكتب، دون هوى من صداقة أو علاقة!

ولو كانت معرفة بيننا سابقة، ولو استشرتني قبل أن تدخل مع صاحبنا في جدل؛ حول ما أثاره من صخب، وما نفضه من غبار، لأشرت عليك إلا تدخل، ولآثرت لك ما آثرته لنفسي من إغفال وإغضاء. . ذلك إنني لم استثمر في هذا الضخب الصاخب أثراً منصفاء نية ولا رغبة في تجلية حقيقية. ولو استثمرت شيئاً من هذا ما تركت صاحبي دون أن أجيبه - على الأقل من باب الأدب واللياقة - ولكنني اطلعت على أشياء، ما كان يسرني والله أن اطلع عليها في نفس رجل ربطتني به مودة أصفيتها له في نفسي، بعد ما كان بيننا من جدل قديم يعرفه قراء الرسالة عام 1938، وما أزال أرجو أن أكون مخطئاً فيما أحسست به، وان تبقى لي عقيدتي في ضمائر الناس، وفي الخير الذي تحتويه فطرتهم.

ولو كانت الحقائق هي المقصودة، لما احتاج الكاتب الفاضل إلى استطاع مثل هذا الأسلوب الصاخب المقرقع؛ ولما لجأ منذ مقاله الأول في (المسلمون) إلى الشتم والسب والاتهام بسوء النية وسوء الخلق والنفاق والافتراء والسفاهة والرهونة. . إلى آخر ما خاضه - ويغفر الله له فيه - فدون هذا وتعالج أمور النقد العلمي، وبغير هذا الأسلوب يمكن تمحيص الحقائق.

إنه لا معاوية، ولا يزيد، ولا أحد من ملوك بني أمية قد اغتصب مال آبي أو جدي، أو قدم إلى شخصي مساءة ولا إلى أحد من عشيرتي الأقربين أو الأبعدين. . فإذا أنا سلكت في بيان خطة معاوية في سياسة الحكم وسياسة المال، وخطة الملوك من بعده (فيما عدا الخليفة

ص: 44

الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مسلكاً غير الذي سلكته ف بيان خطة أبي بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم جميعاً - فليس أول ما يتبادر إلى الذهن المستقيم، والنية السليمة، ان ما بي هو سب صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا عن خطأ ولكن عن رغبة قاصدة في إفساد الإسلام، وسوء نية في تدنيس المسلمين!!!

وكتاب العدالة الاجتماعية مطبوع متداول منذ أربع سنوات، وطبعته الثالثة في المطبعة، والصخب حوله الآن فقط، قد يشي بشيء لا إرضاء للصديق. وقد قراه الناس في إنحاء العالم الاسلامي، فلم يستشر من موضوعه ولا من سياقة، إن النية السيئة المبيتة لهذا الإسلام وأهله هي التي تعمر سطوره!

إنما أحس الألوف الذين قرءوه - أو على الأقل المئات الذين ابدوا رأيهم فيه - ان كل ما كان يعنيني هو إن أبرئ الإسلام من تهمة يلصقها به أعداؤه، وشبه في الحكم وسياستهم في المال، تحسب على الإسلام، والإسلام برئ من هذا الاتهام.

روى سعيد بن جمهان عن سفينة - مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الخلفة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك. ثم قال سفينة: امسك خلافة أبى بكر وعمر وعثمان وعلي. . فوجدناها ثلاثين سنة. . قال سعيد: قلت له: إن بني أمية يزعمون ان الخلافة فيهم. قال: كذبوا بني الزرقاء! بل هم ملوك من شر الملوك - رواه أصحاب السنن بسند حسن.

وأحسب لقد كان بنفسي - وأنا اعرض النظام الاجتماعي في الإسلام - أن أقول شيئاً كالذي قاله مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا عداء شخصياً لبني امية، ولكن تبرئة للإسلام من أن تحسب عليه سياسة لا يعرفها، لا في الحكم ولا في المال. والإسلام منها بريء، فيجب أن يعرف الناس براءته، وأن يعرض عليهم في صورته التي عرفتها الخلافة السمحة، وان ينفي عنه ما لحقه في عهود الظلام والاستبداد.

وما كان لي بعد هذا، وأنا مالك زمام اعصابي، مطمئن إلى الحق الذي أحاوله، أن القي بالاً إلى صخب مفتعل، وتشنج مصطنع. . وما كان لي إلا أن ادعوا الله لصديقنا شاكر بالشفاء والعافية، والراحة مما يعاني، والله لطيف بعباده الأشقياء.

أما أنا فما احب أن يكون لي مع قوم خرجوا على خليفة رسول الله، وقتلوا ابن بنت رسول

ص: 45

الله، ورموا وحرقوا بيت الله، وساءوا في سياسة الحكم وفي سياسة المال على غير هدي الله. . أدب ارفع من أدب مولى رسول الله، الذي أدبه ورباه!!!

سيد قطب

كمال الدين جودت

نعت الصحف منذ أيام المغفور له الأستاذ كمال الدين جودت المهندس، والد صديقنا الأستاذ الشاعر صالح جودت، وشقيق الأستاذ القانوني صالح جودت بك المحامي، والذي يعني (الرسالة) الكشف عنه ناحية أدبيةفي حياة الفقيد لا نحسب أن أحداً يقف عليها أو يذكرها اليوم.

فقد كان المرحوم كمال الدين جودت مهندساً بحكم تعليمه وثقافته، ولكنه كلن إلى جانب هذا أديباً فناناً بدافع طبيعته ومواهبه، فقد عني في مطلع حياته بالكتابة على أسلوب المقامات، ثم انصرف عن ذلك إلى الزجل أو الشعر العصري كما كان يسميه، وكانت له في هذا السبيل محاولة طيبة، إذ أراد أن يستخدم الزجل في تقريب العلم وتحبيبه إلى النفوس بين الناشئين والعامة، فمن ذلك إنه نظم جغرافية القطر المصري بالزجل في كتاب سماه (قلائد الدر في جغرافية مصر) طبعه عام 1903م وهو بهذا الصنيع يقابل صنيع العلماء في نظم العلوم شعراً كما صنعوا في النحو والقراءات والفلسفة والمنطق والحساب وتقويم البلدان، ولا شك أن أسلوب الزجل في هذا يكون اقرب وأحب إلى نفوس الناشئة والعامة لقرب مأخذه وقلة المعانات في فهمه.

وأسلوب المرحوم كمال جودت في الزجل لطيف خفيف، فهو يفتتح كتابه في جغرافية مصر قائلاً:

باسم الكريم افتح زجلي

في علم تقويم البلدان

إياك على الله أبلغ أملي

وانفع به أبناء الأوطان

العلم ده اسمه جغرافية

كمان وتقويم البلدان

كله فوائد عال كافية

طبعاً لتثقيف الأذهان

وهو بهذا الأسلوب يأخذ بالحديث عن هذا العلم وتقسيماته ووصف هيئة الأرض وأقسامها،

ص: 46

ثم يأخذ في وصف القطر المصري ومدنه وأقاليمه، فنجده يتحدث مثلاً عن مديرية الشرقية وتقسيمها الإداري فيقول:

عندي مديرية سنية

بحثت عنها بالتدقيق

حلوة تسمى الشرقية

خصبة وبندرها الزقازيق

عدد مراكز الشرقية

ستة بدت بالبنجبات

ناقوس وبلبيس مع ههيسا

وكفر صقر مع القنيات

وكماني مركز منيا القمح

مركز لطيف خالص وجميل

وفي وصفهم يحتاجون شرح

وقصدنا عدم التطويل

أما وقد وصف - رضوان الله عليه - بلدتي منيا القمح بأنها (مركز لطيف خالص وجميل) ليقتضيني وقد انتقل إلى جوار ربه أن أراد له هذا الجميل.

محمد فهمي عبد اللطيف

تحقيق لغوي

يذهب بعض الباحثين إلى وجوب تجريد الفعل الماضي التالي للنفي والاستثناء من الواو، ولست معهم فيما ذهبوا إليه، والسماع خير شاهد، واليك الأدلة:

1 -

قال الأصمعي: (يستحب من المهاوي أن نقصر أذنابها، وقل ما ترى مهرباً إلا - ورأيت - ذنبه المصل كأنه أفعى) أوهام شعراء العرب لأحمد تيمور باشا ص43 نقلاً عن التبريزي في شرح المعلقات.

2 -

قال دعبل: (مضى علي ستون عاماً ما تصرم منها يوم إلا - وقلت فيه شعراً -) عن مجلة الرسالة الغراء السنة الخامسة ص1587، وفي الصفحة التالية من المرجع نفسه يقول لأحد أصدقائه. (ما كانت لامرئ عندي من منة إلا - وتمنيت موته -).

3 -

وقال البديع في المقامة الناجمية: (وما سكنت حرب إلا - وكنت فيها سفيراً -)

4 -

ومن أبيات الشواهد:

نعم امرأ هرم لم تعر نائبه

إلا - وكان - لمرتاع بها زورا

5 -

وقال عنترة:

ص: 47

أنا الشجاع الذي ما رمت منزلة

إلا - وأدركها - سعدي وإقبالي

6 -

وقال أبو فراس:

وما اشتورت إلا - واصبح - شيخها

ولا احتربت إلا - وكان - فتاها

7 -

وقال المبرد يشرح بيت الفرزدق:

بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم

ولم تكثر القتلى بها حين سلت

وهذا البيت طريف عند أصحاب المعاني، وتأويله لم يشيموا لم يغمدوا ولم تكثر القتلى: أي لم يغمدوا سيوفهم إلا - وقد كثرت - القتلى حين سلت. اهـ بلفظه نقلاً عن تهذيب الكامل للأستاذ السباعي جـ 1 ص312.

فقد أني مع الواو بقد وورد مثل هذا شعراً ونثراً.

أقول: والذي هداني إليه البحث وتنبع الأساليب العربية، إن تجريد الفعل من الواو في مثل هذا اكثر، وهو مع كثرته لغة القرآن الكريم، ودخول الواو على الفعل وحدها أو مع قد مسموع في الفصيح شعراً ونثراُ؛ ولسنا في حاجة إلى صرف هذه الشواهد إلى الضرورة أو الشذوذ أو لأن بعضها لا يحتج بقائله، وليسع أدباؤنا المعاصرون الذين يشيع على ألسنتهم، وفي كتاباتهم هذا التعبير ما وسع هؤلاء الأفاضل، فليس من الخطأ على كل حال، وان كان التجرد اكثر على ما يظهر.

رياض عباس

ص: 48

‌القصص

المارد الذي يحب نفسه

للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد

كان الأطفال قد اعتادوا دخول بستان المارد واللعب فيه حين يعودون من المدرسة عصر كل يوم. وكان بستاناً واسعاً، رقيق الحواشي، قد اكتست أرضه بالعشي الخضر الطري، وانتثرت في أرجاءه الأزهار الجميلة كأنها النجوم. وكانت فيه اثنتا عشرة شجرة من أشجار الخوخ التي تتفتق في الربيع عن أزهار رقيقة زاهية الألوان كأنها اللآلي، تتحول في الصيف إلى ثمار يانعة سائغة. وكانت الأطيار فيه تعتلي غصون الشجر وتغرد في عذوبة تصرف الأطفال عن ألعابهم وتستوقفهم ماخوذين، فلا يملكون أن يعبروا عن نشوتهم بغير هذا القول:

- ألا ما أسعدنا في هذا المكان!

غبر إن المارد عاد يوماً من زيارة أحد أصدقائه الغيلان، بعد أن لبث معه سبع سنين، أنهى في خلالها كل ما أراد أن يحدثه به - فإن محادثته كانت محدودة تنتهي ولا شك - عاد العملاق إلى قصره فرأى الصغار يلعبون ويمرحون في البستان! فصرخ فيهم بصوت خشن غليظ قائلاً:

- ماذا تصنعون هنا؟

فانطلق الأطفال من فورهم هاربين! ثم استأنف المارد صراخه قائلاً:

- إنما هذا البستان ملكي، وذلك ما يستطيع إدراكه كل إنسان، ولست اسمح لا أحد غيري باللعب فيه أبداً:

ثم قام فصنع جداراً رفيعاً سور به بستانه، ورفع لوحة كتب عليها هذا الإعلان:

سيجزى المخالفون شر الجزاء.

فياله من مارد لا يؤثر أحداً بالحب سواه!

ولم يبق حينذاك للأطفال المساكين ملعب يرتعون فيه. لقد حاولوا أن يتخذوا لهم من الشارع ملعباً، ولكنهم زهدوا فيه حين وجدوه مليئاً بالأتربة والأشجار، وظلوا كذلك يحومون حول الجدر الرفيعة - حين ينتهون من دروسهم - لاهجين بحمال ذلك البستان الذي وراء تلك

ص: 49

الأسوار، وبأيام سعادتهم التي انتهت، يقولون:

- ألا ما كان أسعدنا هناك!

ثم قدم الربيع وانتشرت بمقدمه الأزهار والأطيار في كل ناحية على الأرض غير بستان هذا المارد اللئيم الذي لم يبرحه الشتاء. أن الأطيار لم يعنها أن تغرد فيه حين غاب عنه الأطفال؛ وإن الأشجار قد نسيت أن تورق أو تزهر. . . ولقد أخرجت إحدى الأزهار الجميلة مرة رأسها من بين الأعشاب فهالها أحزنها أن ترى لوحة الإعلان تمنع الصغار من غشيان البستان، وانسلت هاربة لتستأنف نومها العميق الذي كانت مستغرقة فيه. ولم يكن في العالم أحد قد استولى السرور عليه غير (الثلج) و (الجليد) اللذين قالا في نفسيهما:

إن الربيع قد نسى هذا البستان، ولذلك فإننا سنحيا هنا طول العام!

وكذلك طغى (الثلج) على الإعشاب وأسبل عليها طرف ردائه السابغ، وانتشر (الجليد) على الأشجار فكساها حلة من الفضة ازدانت بها، ثم انهما أمراً ريح الشمال أن تبقى معهما فلبت أمرهما، وجاءت ملتفة بالفراء تصفر طوال النهار خلال البستان والمداخن، فرحة بهذا المكان البهيج.

ثم انهم قرروا دعوت (البرد) فنزل وأنشأ يتحدر كل يوم ثلاث ساعات بشدة حتى يكسر بلاط القصر، فإذا تم منه هذا أمعن هرباً حول البستان يطوف بأقصى ما أوتي من سرعة! لقد كان برداً عجيباً أغبر، وكانت أنفاسه بيضاء كالثلج!

وقد جلس المارد اللئيم ذات يوم في الشباك المطل على البستان الأجرد الشاتي، وقال يحاور نفسه.

- ما أقدر أن أفهم سبب تأخر الشتاء حتى الآن أو ما أظن إلا إن تغيراً قد طرأ على الجو.

ولكن الشتاء لم يأت، ولا جاء بعده صيف ولا خريف، بل إن الخريف نفسه جاء وانضج الثمار في كل بستان إلا في بستان المارد الذي كلن يعرفه الخريف لئيماً لا يحب أحداً غير نفسه!

إن المارد لمضطجع ذات صباح في فراشه فسمع أنغاماً شجية تطرق أذنيه خيل إليه لعذوبتها إنها من فرقة موسيقى الملك حين كانت تجتاز الطريق، ولم تكن تلك الأنغامالشجية غير صدح طائر صغير كان يشدو على بعد من نافذته. لأنه ما سمع من أمد بعيد شدو

ص: 50

طائر، فظن إن ما طرق أذنيه أعذب ما في العالم من ضروب الألحان!

ثم إن البرد وقف تهتانه من حوله، وريح الشمال قطعت صفيرها، وهبت على المارد من النافذة نفحة من أريج عبق جميل. فقال المارد في نفسه:

- ما أحسب أن الربيع قد جاء أخيراً. وقفز من فراشه، فماذا رأى!

إنه لمنظر جد جميل!

أولئك هم الأطفال الصغار، قد دخلوا البستان من خلال ثقب صغير وجدوه في أحد الجدر واعتلوا الأغصان وبقوا هناك جالسين. وقد ابتهج الشجر بمقدمهم فأورق، وماس على رؤوسهم في حب وحنان، وكانت الطير تشدو حيناً وتطير حيناً في جذل وابتهاج، والزهر يرنو إلى ذلك بسام الثغور من بين الأعشاب.

- إنه حقاً لمنظر بهيج!

ولكن الشتاء لما يبرح تلك الزاوية القصية التي وقف فيها أصغر الأطفال يعول طيراً، ويطوف بما حوله طوراً آخر، والشجرة المسكينة بقربه ما تزال شاتية. . إن ذلك الطفل لم يتمكن من الوصول إلى الغصن لصغره؛ وكانت الريح الشمالية تعصف حوله، والشجرة تنحني له ما استطاعت وتدعوه قائلة:

- تسلق أيها الطفل الصغير. . . ولكنه لي يقدر على شيء من هذا!!

. . . وأدركت المارد عليه الشفقة حين رآه فقال:

- ألا ما كان اشد إيثاري لنفسي! لقد عرفت الآن سبب انقطاع الربيع من المجيء إلى هنا. . . سأذهب إلى ذلك الطفل فأضعه على الشجرة، ثم أنثنى على الجدار فاهدمه واجعل من بستاني هذا ملعباً وقفاً على الأطفال حتى الأبد. . . واشتد اسفه على ما اكن بدر منه.

ثم إن المارد نزل وفتح بابه في هدوء وسار في بستانه؛ ولكن ما أن رآه الأطفال حتى هربوا، وعاد الشتاء إلى البستان من جديد! ولكن صبياً واحداً منهم لم يهرب، ذلك هو الصغير الذي ملأت عينيه الدموع لما رأى المارد قادماً إليه.

وتسلل المارد إلى الطفل ورفعه بلطف فأجلسه على الشجرة فما كان أسرعها حين أورقت وأزهرت، وما كان أسرع الأطيار حين تساقطت عليها مغردة حائمة حول الصبي الصغير الذي كان يحولها عنه إلى عنق المارد مسروراً، ثم انحنى الطفل على المارد فقبله، فلما

ص: 51

رأى أصحابه ذلك أمنوا المارد وعادوا وعاد معهم الربيع، فقال المارد يخاطبهم:

- إنه بستانكم أيها الصغار الآن. ثم تناول معولاً كبيراً فهدم به الجدر القائمة حول البستان. فكان الناس إذا مروا به في طريقهم إلى السوق في منتصف النهار رأوا المارد يلاعب الأطفال في اجمل بستان تقع العين عليه!

وظل داب الأطفال كذلك، يلعبون طوال النهار، حتى إذا أمسى المساء وخيم الليل، جاءوا إلى المارد فحيوه وانصرفوا

وقد سألهم المارد مرة عن صديقهم الصغير الذي كان قد رفعه على الشجرة، فأجابوه، بأنهم لم يروه من قبل، ولا رأوه من بعد، ولا يعرفون أين يسكن. لشد ما حزن المارد على ذلك الطفل الصغير الذي قبله!

بقي الأطفال على هذا: يختلفون إلى البستان عصر كل يوم بعد انتهاء دروسهم، فيلعبون مع صديقهم المارد. . . غير أن الطفل الصغير وحده كان المتخلف من بينهم أبداً. ولكم كان المارد يشتاقه ويحبه، ويتحدث عنه ويتمنى أن لو يراه.

ومضت عللا ذلك السنون تتبعها السنون، فشاخ المارد وعجز عن مشاركة صغاره اللعب. فكان يجلس على مقعد وثير ليتفرج عليهم هانئاً مغتبطاً. وكان يقول في نفسه:

- إن في هذا البستان لكثيرا من الأزهار الجميلة. ولكن اجمل منها في نظري هؤلاء الصغار.

وفي صباح يوم شات - وقد اصبح الشتاء الآن لا يفزع المارد، وإنما هو إغفاءة قصيرة لا يلبث الربيع بعدها أن ينهض بإزهاره وتهاويله - في صباح ذلك اليوم، بينما كان المارد يرتدي ثيابه إذ بصر بشيء هاله. فكذب نظره وكذب نفسه. . . إنه منظر مدهش عجيب! أفي الإمكان هذا؟ شجرة حالية بالنوار الجميل في تلك الزاوية القصية وتحتها طفله الصغير الذي احبه واقفاً؟

هرول المارد نازلاً يستخفه الفرح، وجاز إرجاء الحديقة مسرعاً حتى جاء إلى الطفل، وما كاد يقترب منه ويراه حتى طما غضبه واربد وجهه، وسأله قائلاً حين بصر بآثار مسمارين على يديه ومثلهما على رجليه:

- من ذا الذي تجرأ فجرحك؟ قل من ذا الذي تجرأ عليك ففعل؟

ص: 52

فأجابه الطفل الصغير:

- كلا. . . ما هذه جروح حقيقة، إنها جروح الحب! وهنا استولت على قلب المارد الرهبة والخشوع فخر ساجداً أمام قدمي طفله وسأله قائلاً:

- من أنت إذاً؟

فأجابه الطفل باسماً: أنا الصبي الذي سمحت لي مرة باللعب في بستانك هذا؛ جئت لآخذك معي إلى بستاني الذي هو الفردوس.

وحينما عاد الأطفال عصر ذلك اليوم كعادتهم، وجدوا المارد ميتاً في مكانه تحت الشجرة، وقد نثرت على جثمانه الأزهار والنور الأبيض الجميل.

ف. س

ص: 53