المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 978 - بتاريخ: 31 - 03 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٧٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 978

- بتاريخ: 31 - 03 - 1952

ص: -1

‌لا تخافوا (الإخوان)

لأنهم يخافون الله

قال لي صديق من أدباء الأقباط أعرف فيه رزانة العقل ورزانة الطبع، وقد جرنا الحديثإلى ما يكابده هذا البلد المسكين من شهوات أبطلت الحق، ونزعات قلقلت الأمن، ونزعات بلبلت العقيدة:(ألم يكن من الخير لمصر ألا يكون فيها إلا إخوان مصريون لا مسيحيون ولا مسلمون لتدوم الوحدة وتزيد الألفة؟ لقد نقمنا من المبشرين أنهم أنبتوا في القاهرة فرعاً (لجمعية الشبان المسيحيين) وكنا نود ألا يجاريهم في مثل ذلك الذين أنشئوا (جمعية الشبان المسلمين) فإن الأمر لا بد أن يجري في الجمعيتين على حكم العصبية الدينية، وفي هذه العصبية توهين للصلات الطبيعية التي تصل المواطن بالمواطن، وإن كان هذا التوهين لا يزال ضعيف الأثر لغلبة العوامل الرياضية والثقافية على نفوس الأعضاء في هاتين الجماعتين. ولكني أصارحك ولا أداجيك أن ما نخشاه من (الإخوان المسلمين) أبعد في الأثر وأقربإلى الخطر مما نخشاه من أي حزب ومن أي جماعة ذلك لأن الإخوان ميدانهم أوسع ودعوتهم أسرع ووسائلهم أنقذ وغايتهم أبعد. إنهم يريدون حكماً غير الحكم، ودستوراً غير الدستور ونظاماً غير النظام. ولا أدري كيف نكون نحن إذا غلب دين واحد على دنيا مشتركة، وطبق دستور معين على حياة مختلفة؟)

فقلت له وقد وافقته على ما رأى من قوة الإخوان ونفاذ دعايتهم وبعد غايتهم: أنا أدري كيف تكونون. تكونون إذا ما أراد الله لحزبه أن يغلب، ولشرعه أن يحكم، ولنوره أن يتم، كما كنتم في عهد الخليفة عمر: لكم ما للمسلمين من حق، وعليكم ما عليهم من واجب. أما إذا كان قد وقع في عهود بعض الواغلين على الوادي حماقات أورثتكم هذه الوساوس، فإنما كان وقوعها ضلالاً في العقل لغيبة الهادي وشططاً في الحكم لعطلة الدستور. وما كان الهادي الذي أغفلوه غير دين الله، ولا كان الدستور الذي عطلوه غير كتابه والعقيدة يومئذ كانت في أكثر الناس إيمانا بالاسم وكفراناً بالفعل. وأنتم اليوم أقرب إلينا وأعز علينا مما كنتم أيام الوالي عمرو؛ لأن العلاقة بينكم وبين المسلمين كانت في القرن السابع علاقة فتح وجزية، فأصبحت في القرن العشرين علاقة وطن وجنس ولغة وأدب وثقافة وتاريخ. وما أظنك تماري في أن أكثر المصريين أقباط أسلموا وأنت لا تخشى صاحب الدين ما دام

ص: 1

يستشعره ويستظهره ويعمل به؛ فإن الأديان جميعاً تتفرع من أصل إلهي واحد، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنما تخشى من يعتقد أن إلهه في السماء وليس معه على الأرض، ومن يحسب أن غاية دينه كلمات وحركات تؤدى في كل فرض! والإخوان المسلمون قوم تآخوا في الله وتواصوا بالحق وتوافوا على المحاجة وتعاونوا على البر واستبطنوا حقيقة الدين. دستورهم القرآن وهو بين، وحكمهم الشريعة وهي سمحة ونظامهم المحبة وهي أجمع، وغايتهم الإنسانية وهي أشمل. والإسلام أنزله اللطيف الخبير الذي يعلم من خلق، ليكون سلاما لكل نفس، وقواما لكل عمل، ونظاما لكل جماعة. ودنياه العامة التي يحكمها وينظمها لابد أن يكون فيها العربي والأعجمي والذمي والوثني، فلا جرم أن الله يدبر بحكمته الأمر على أن يعيش هؤلاء جميعا سعداء في ظله. وماذا تخاف من (الإخوان) وهم يتلون كل يوم قوله تعالى:

(إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من أمن بالله واليوم الأخر وعمل صالحا فلهم آجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون)؟

فقال صديقي وقد نقع ما قلت نفسه:

إذا كان رأي الإسلام في المخالفين هذا الرأي، وكان (الإخوان) مسلمين بهذا المعنى، فآنا لنرجو أن يكون أساس المصريين جميعا في البناء هذا الأساس: إيمانا خالص بالله وعمل صالح للناس!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌في تاريخ الأدب التركي

للأستاذ عطا الله ترزي باشا المحامي

في وسعنا أن نقسم تاريخ الأدب التركي إلى عصريين أساسيين: جاهلي وإسلامي، وأن نقسم كذلك كلا من هذين العصريين إلى أدوار مختلفة. .

ورأينا أن نتحدث في هذا المقال عن تاريخ الأدب التركي منذ نشأته حتى تأسيس الدولة العثمانية بإيجاز

يتكون العصر الجاهلي من دورين هامين:

(أولا) دور الأدب المظلم، ولا نعرف عنه أكثر مما يرويه لنا المؤرخون من (مناقب الترك) المعرفة ب (الدساتين) وهي تتضمن بعض القصص والروايات التاريخية عن نشأة الأتراك وقيامهم بتأسيس الدويلات. وتحتوى كذلك على تراجم بعض الملوك والأمراء والقواد. وأشهر هذه الدساستين دستان (أوغوز خان) ودستان (بوزقورت) ودستان (شو) وغيرها. . . ولم يعرف الترك في هذا الدور الكتابة وإنما انتقلت إلينا هذه الدساتين من بعض الآثار التاريخية القديمة

(ثانيا) دور الأدب المكتوب: وشاع في هذا الدور استعمال الكتابة بين الترك. والكتابة الأولى التي عثرت عليها في التاريخ هي التي اكتشفها العلماء بالقرب من مدينه (طورفان) في الشمال الشرقي من (منغوليا) على ضفة نهر (اورخون). فقد وجدت في هذه النواحي ألواح من الرخام مثبتة في الأرض نقشت عليها بعض الكتابات. وكان أهمها ثلاث كتابات تعرف ب (تونيو قوق) و (كول تكين) و (بيلكه قاغا). ويرجع تاريخ الكتابة الأولىإلى سنة 720م والثانيةإلى سنة 732م والثالثة إلى سنة 735م. وقد ثبتت هذه الألواح التي تبحث عن حروب الترك مع الصينيين في جانب زعماء تولوا عرش الدولة التركية المسماة ب (كوك تورك)

ويعتبر (بيلكه تو نيوقوق) أول أديب عرف في تاريخ الأدب التركي على الإطلاق

ولقد أشار إلى وجود هذه الكتابات في أول الأمر المؤرخ الإيلخاني المعروف (جوبني) وذلك في القرن الميلادي الثالث عشر. وذكرها أيضا الدكتور الألماني دانيل مسرشميد حين رآها (سنة 1721م) أثناء قيامه برحلات في هذه الأنحاء وسماها بالكتابات الطلسمية

ص: 3

ويعود الفضل في أمر اكتشافهاإلى العالم الدانيماركي طومسن

فقد وفق لأول مرة في 25111893 إلى قراءة كلمات (ترك،

ننكري، كول تكين). وتمكن هذا المستشرق بعد ذلك من حل

رموز الكتابة وقراءتها بكاملها. وكذلك استطاع من بعده العالم

الألماني الشهير رودلف أن يترجمها ترجمة صحيحة

وفي القرن التاسع من الميلاد أراد الأتراك، وقد هجروا استعمال هذه الكتابة، أن يتعلموا لونا جديدا من الكتابة تسمى بالكتابة الأويغورية. وقد انتقل إلينا كثير من الكتب التركية القديمة المدونة بهذه الكتابة، كانت موضع دراسة العلماء والباحثين، منها كتاب ، وقد حققه العالمان بنج وفون جربيان ومنها كتاب (المتون ألمانية التركية) نشره فون لكك كتاب جمع بين دفتيه كثيرا من العقائد والأدعية في المذهب وهو ألماني الذي انتشر بين الترك في ذلك العصر. ومنها كتب نشرت من قبل أكاديمية العلوم النمساوية بعنوان وأخرى ذات قيمة أدبية عثرت عليها في مدينة (طورفان)

وهنا ينتهي العصر الجاهلي من الأدب التركي وبانتهائه تضمحل الكتابات القديمة شيئا فشيئاً حتى تنقرض وتحل محلها الكتابة الإسلامية بالتدريج

العصر الإسلامي:

إن هذا العصر في الأدب التركي يتكون من أدوار مختلفة تتبع في تقسيمها ما يلي:

صدر الإسلام: وجد الأتراك، حين احتكوا بالمسلمين في القرن الميلادي الثامن، أن هذا الدين يقوم على نظام اجتماعي متين، ويستند على أسس أخلاقية تتشابه مع قواعد العرب والعادات السائدة بينهم. فاعتنقوه على عجل. وقد انتشر الدين الإسلامي بين الأتراك انتشارا عظيما حتى أسلمت الأقوام التركية الساكنة في البلاد المتاخمة لحدود الصين جماعات ووحدانا. ولم يبق منهم غير أفراد قلائل لم يسعدهم الحظ في الاتصال بالمسلمين

ولقد أفاد الترك من الإسلام إفادة جلى. فنظموا حياتهم الاجتماعية وفقا لاعتبارات هذا الدين الجديد. فانتقلوا من طور البداوةإلى طور الحضارة، فبدءوا يسكنون المدن وقد اعتزلوا

ص: 4

الحياة القبلية إذ رحلوا بعد الإسلامإلى الديار القريبة من مراكز الخلافة الإسلامية

ولم يؤثر في الحياة الأدبية عند الأتراك دين من الأديان التي اعتنقوها قبلا بقدر ما أثر فيها الدين الإسلامي الحنيف. ويتطلب دراسة هذا التأثير بنوعيه الإيجابي والسلبي تفصيلا وتمحيصا، وقد أجزناها الآن في سطور عسى أن نجد فرصة أخرى نعالج فيها هذا الموضوع بالشرح والتمحيص

لقد كان أثر الإسلام في الأدب التركي أعظم من أثره في الأدب العربي كما تبين ذلك من الآتي:

غير الإسلام من غير شك مجرى الحياة الأدبية عند الأتراك تغييرا عظيما. فأخرج الأدب التركي من عزلته الجاهلية وأدخله في قائمة الآداب الشرقية الحية. فنرى منذ ذلك اليوم ازدهاراً كبيرا ونمواً متزايداً في النتاج الأدبي عند الترك. ويندر أن نجد آثارا خلفها الترك من عصر جاهليتهم، إذ أن غالب الآثار التي أنتجها رجال الفكر التركي منشؤها هذا الدين القيم الذي مهد السبيل أمام المفكرين وأنار لهم الطريق، طريق الرقي في مدرج العلم والثقافة

وقد كان من آثار هذا الدين اقتباس الترك الأفكار الأدبية من خزائن الآداب الإسلامية الأخرى أضافتهاإلى ثروتهم

وكان الأدب التركي في الجاهلية أدبا فرديا غير متسم بطابع الأدب الجماعي، ونعني بالأول ذلك اللون من الأدب المشتت شمله والمجهول عوالمه، الصادر عن عقلية ضعيفة غير متكاملة. فما كان من الإسلام إلا أن وجد اتجاه الأدباء في أساسه توحيدا كاملاً

ولا ينكر ما لهذا الدين من تأثير سلبي في الأدب التركي من بعض الوجوه، كاللغة. وقد كانت اللغة التركية خالصة في أصلها، خالية من الألفاظ الأجنبية. وبعد نشوء العلاقة الدينية بين الأتراك وبين غيرهم من الأقوام بدأت الألفاظ الغريبة من فارسية وعربية تتسربإلى هذه اللغة بالتدريج حتى شاع بين الأتراك استعمال بعض القواعد الأجنبية في الكتابة استعمالا أذهب عن اللغة التركية روعتها

وقد تأثر الكتاب الأتراك بلغة القرآن تأثراً بليغاً حتى حدا بعضهمإلى استعمال اللغة العربية في الكتابة عوضا عن لغته الأصلية. وقد أنتجوا كثيرا من المؤلفات القيمة في هذه اللغة من

ص: 5

بينهم فلاسفة عظام ومفكرون مشهورون. أمثال الفارابي وأبن سينا والزمخشري - صاحب الكشاف ومؤلف كتاب مقدمة الأدب - كما وأن آخرين منهم انساقوا بسبب الملابسات والظروفإلى استعمال الكتابة الفارسية بدلا من التركية أمثال جلال الدين الرومي صاحب المثنوي المعروف وغيره من المفكرين

التصوف في الأدب التركي:

ليس من شأننا الآن أن نتحدث عن تاريخ التصوف الإسلامي في عصوره المختلفة، وإنما وددنا أن نتطرق بإيجازإلى النواحي الأدبية منه بقدر ما يتعلق بالموضوع

إن آثار التصوف بدأت تظهر شيئا فشيئا في الأدب التركي منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وذلك حينما استخدم العالم المعروف الشيخ محيي الدين بن العربي نظريته المعروفة (وحدة الوجود) التي كان لها الأثر البالغ في الأدب التركي طوال العصور

وقد تأثر شعراء الترك كذلك بفلسفة الجاذبية الإلهية التي كان أصحابها يوقنون بتمثيل القدرة الإلهية في النفس البشرية عن طريق الإيمان بذاته إيمانا يطرد الشرور الكامنة في النفس، فيتجسم النور الإلهي في القلوب تجسما يحيه المؤمن في كل حين. . وكان هؤلاء الرجال يعشقون جمال الله عشقا خالصا لا يخامرهم فيه شك ولا يأخذهم منه ريب، ولم يكن هذا العشقالإلهي في نظرهم كالحب المجازي الذي يشعر به الإنسان تجاه الآخرين، بل كانوا يعتبرونه مودة صافية ناشئة من فرط ميلهم للوجود المطلق

ومن استطاع في رأيهم أن يتغلب على النفس الأمارة بالسوء بدافع غلاب لا يحمله إلا القليلون، واندمج في الوجود المطلق، فقد بلغ الغاية القصوى ونال الدرجة العليا في سلك التصوف فحاز رتبة (الفناء في الله)

ولقد تظاهر كثير من شعراء الفلسفة زمنا غير قليل، نذكر منهم الشاعر المعروف (نسيمي) من شعراء القرن الرابع عشر ميلادي الذي ألف ديوانا ضخما في الشعر التصوفي، وقد اشتمل هذا الديوان على قصائد جياد في تحبيذ ما ذهب إليه الصوفي الإسلامي الكبير (الحلاج المنصور) وكان نسيمي قد سلك مسلك الحلاج في قوله (أنا الحق) مما أثار ضجيج العلماء في عصره، فاغتاظ منه رجال الدين وأمروا بقتله فكشطوا جلده حيا فهلك

ومنهم الشاعر الإنساني العظيم (يونس أمره) وهو أحق أن نفرد له مقالا خاصاً في الرسالة

ص: 6

ليتبين القارئ مدى قيمته الأدبية ومنزلته الممتازة بين الشعراء الصوفيين. ونكتفي اليوم بإيراد منظومة مترجمة من قصيدة مطلعها:

برساقيدن ايجدم شراب عرشدن بوجه ميخانه سي

يقول:

تناولنا الخمر من ساق كانت خمارته فوق العرش فأصبنا بالخمارة السكر، ففدينا الأرواح

حبذا هذا المجلس الذي تشوى فبه الأكباد على نار شمع وهاج تدور حوله الشمس كما تطير الفراشة حول النار

وفي هذا المجلس تنطلق صيحات (أنا الحق) من أفواه المخمورين الذين يعد أفقرهم في التصوف، في مستوى الحلاج المنصور ثم ينهي الشاعر منظومته بخطاب يوجه إلى نفسه قائلا:

حذار من مخاطبة الجاهلين بهذا الكلام الفياض

فإنك تعلم كيف يقضي هؤلاء الوقت. . .

ويلاحظ في هذه القصيدة أن الشاعر كنى عن الإله بالساقي. وعبر بالخمر عن العشق الإلهي. كما أنه روى حرقة كبده في حب الإله بشي الكباب في مجلس الشراب

وقد انتشرت هذه الألوان من المصطلحات الصوفية بين الشعراء حتى شاع استعمال كثير من تعابير اللهو والطرب في موضوع التغني بذكر الله. . .

البقية في العدد القادم

عطا الله ترزي باشى المحامي

ببغداد

ص: 7

‌3 - التعليم في مصر

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

كل من استمع إلى بيان سعادة الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف الأسبق في الإذاعة. أو أطلع عليه في الصحف، عن عبث الطلبة في المدارس، واستخفافهم بجميع القيم الخلقية والآداب المرعية، وما تبع ذلك من إغلاق جميع المعاهد التعليمية في البلاد، مما لم يعهد له مثيل من قبل، يعتقد بأن المدرسة المصرية أصبحت في مسيس الحاجةإلى إصلاح شامل، لا يقتصر على مناهجها، بل يتجاوز ذلكإلى نظمها بل إلى روحها، حتى لا تنتهيإلى الفشل في مهمتها. ولقد أصبح واجبا وطنيا على جميع كبار المربين، وعلى رأسهم الأستاذ الكبير معالي رفعت باشا وزير المعارف العمومية، بل وعلى جميع القادة والمفكرين أن يبحثوا وأن يفكروا تفكيرا عميقا في علاج هذه الحال الآسفة المؤلمة، التي تهدد الأخلاق بالبوار، وحياة الأمة كلها - لا قدر الله - بالدمار، والتي أتينا على وصف الكثير منها في مقالينا السابقين بمجلة الرسالة الغراء، ذات الأثر الفعال في العمل على إنهاض هذه الأمة

إن الواجبيقضي علينا أن نذكر زعماءنا وقادتنا بما نحسه من عيوب وعقبات في طريق نهضتنا، لنتعاون جميعا على إصلاح أنفسنا، وواجبنا أن لا نستصغر ما في هذا الأمر الجلل من خطورة، وأن نكون صرحاء فلا نداري ولا نماري لنأخذ الأمر بما يستحقه من جد، وأن لا يكون مثلنا مثل النعامة تغمض عينيها وتخفي رأسها في الرمال، ظنا منها أنها ستفلت بذلك من الصياد، فإذا به يداهمها ويقضي عليها

لقد كان حال مدارسنا قبل ثورة 1919، أي منذ ثلث قرن من الزمان غير حالها اليوم، كان حالها يملأ نفوس طلابها احتراما لها وتقديسا، وكانت نفوس الفتية تمتلئ تقديرا للأساتذة وتقدير للمسؤوليات الملقاة عليهم، ولكن تلك النفوس الفتية كانت كذلك تمتلئ رهبا من النظار وكثير من الأساتذة، فكنا نأخذ على المدرسة ما فيها من شدة وقسوة ورهبة، كما كنا نأخذ عليها ما فيها من بعد عن الحياة الطبيعية في روحها وفي نظامها، ولكن الجد والاحترام والتقديس كانت أسساً تقوم عليها الحياة المدرسية كما هو الحال اليوم حياة المدارس الأجنبية التي بين ظهرانينا، فماذا جد في مدارسنا في السنين الأخيرة، حتى بعد أبناؤها عن الجد والوقار، وركنوا إلى العنت والاستهتار، مما اضطر الكثيرين من الزعماء

ص: 8

والكبراءإلى أبعاد أبنائهم عنها، والإلقاء بهم في أحضان المدارس الأجنبية، التي لا شك في أنها تضعف القومية، ويوهن بعضها في نفوس أبنائنا العقيدة الوطنية والدينية، فكيف نغفل طوال السنين عن الفارق الكبير بين مدارسنا وبين تلك المدارس الأجنبية، ذلك الفارق الذي جعل منها مدارس ممتازة يفضلها الآباء الموسرون، ويحبها ويؤثرها على غيرها الأبناء المدللون. إن هذا الفارق واضح في نظمها وبين فيروحها التي تشيع المحبة والتعاطف والتعاون بين أساتذتها وطلابها، فهلا درسنا ذلك وتأملناه وعملنا له في مدارسنا وكلياتنا؟

إن المدارس الأجنبية تستخدم العصي أحيانا في تأديب التلاميذ الذين عز عليها علاجهم، ومدارسنا منعت فيها عصى التأديب من زمن بعيد، ومع ذلك ترى الناشئ في المدرسة الأجنبية التي تهوي بعصاها عليه أحيانا يحترمه ويقدسها، أما عندنا ف. . . . . . .، ولم يبق لدينا اليوم غير كلية واحدةأو كليتين، ومدرسة ثانويةأو مدرستين هي التي حافظت على كيانها ولم تتأثر كثيرا ما جرى في مختلف الكليات والمدارس، فحفظت توازنها واحترام طلابها لها. أعتقد أن كلية الطب من بين الكليات، والمدارسة الثانوية النموذجية هي من بين المدارس الثانوية التي لازال الجد والوقار يحف بهما في عملهما، ولما يتسرب إليهما الفساد الذي سرى في غيرهما، وأسأل الله أن يحفظهما من هذا العبث. فهلا تعرفنا الأسباب الحقيقية لذلك علنا نرسم الخطة المثلى للعودة بالمدرسة المصرية إلى جدها ووقارها!

إن الجفوة بين الطالب وكليته وبين التلميذ ومدرسته، كما وأن الجفوة بين المدرسة المصرية والبيئة المحيطة بها، هاتان الجفوتان اللتان تميزت بهما مدارسنا جفوتان قديمتان، نبهنا إلى علاجهما من زمن بعيد في تقاريرنا وفي مقالتنا وفي كتابنا (التعليم والمتعطلون في مصر) الذي أصدرناه منذ ثلاثة عشر عاما، وقد جاء في مقدمته: (عملت بين جدران المدارس زمانا طويلا، كنت أحس فيه أن المدرسة التي عملت فيها تلميذا، والتي عملت فيها مدرسا، والتي عملت فيها ناظرا، لم ينلها شيء محسوس من التغيير، ولم يتطرقإلى روحها شيء من التجديد، فهي لا زالت تسير على نفس الوتيرة القديمة، مليئة بنفس الروح القديمة، يحس تلميذها إذا ما دخلها بانقطاعه عن العالم وما فيه، إلى شبه سجن غير محبوب إذ لم يوصف بأنه مكروه، ولكنالجميع ظلوا يكتبون عواطفهم إزاءها، لما تجلبه من

ص: 9

خير الوظيفةإلى طلابها بعد نيل شهادتها، ظلت المغريات القديمة تدفع الناس دفعاً للسعي إليها)

وجاء في تقرير رفعته إلى معالي وزير المعارف في مارس سنة 1928 ما يأتي: (فالمدرسة الابتدائية وكذا الثانوية لا زالت منفصلة تماما عن البيئة المحيطة بها، يدخلها التلميذ فيتصور أنه في عالم أخر غير عالمه الذي يعيش فيه، ونظرية حشو الأدمغة بالمعلومات البعيدة عن الحياة العملية لا زالت متجسمة في المنهج الجديد تجسمها في القديم، ولا زال كثير من التلاميذ يبغضون المدرسة وذكرها وكل ماله مساس بها)

وجاء في صفحة 18 من مؤلفي السابق الذكر في الكلام عن المستر دنلوب الذي ظل مستشارا للمعارف اكثر من ربع قرن من الزمان في بدء الاحتلال ما يأتي: (بهذه الطريقة أوجد دنلوب بين جدران المدارس نظاما عسكريا جافا شديد، إذ اصبح خير نظار المدارس ذلك الذي يقلده في كبريائه وشدته، فاجتهد كل ناظر إن يقسو القسوة كلها على مرءوسيه وتلاميذه، وحاول المدرس بدوره إن يعامل أبناءه بمنتهى الشدة والجفاء، وأن يبتعد عنهمويتكبر عليهم ما أمكنه الابتعاد والكبرياء، حتى أصبحت العلاقة بين المدرس وتلميذه علاقة عداوة وشحناه، لا عطف فيها ولا مودة ولا هوادة، كل يتربص بصاحبه الدوائر ويحاول إيذاءه بمختلف الوسائل. . . الخ)

ولقد ظل الحال كذلك والمستعمر ينفث سمومه في التعليم، حتى افسد جوه ونجح في تبغيض الأبناء في المدرسة وكل ما فيها، لكن هذا الشعور ظل مكبوتا زمنا حتى ثارت البلاد ثورتها سنة 1919 تطلب حريتها، فبدأ التلاميذ يتمردون على المدرسة، وبدأ شعور الكراهية يظهر شيئا فشيئا ويزداد ظهورا كلما ضغط المستعمر على البلاد، وحاول إخضاعها للحديد والنار، وجاء دور الحزبية التي شجعها المستعمر فلعبت بعقول التلاميذ والطلاب، وزادت نار الحقد والكراهية أوارا حتى صاروا في شبه ثورة جامحة على المدرسة ونظمها وتقاليدها وكل ما فيها، وفقد الأساتذةسلطانهم الروحي والعلمي عليهم، خصوصا بعد أن اضطرتنا ظروف نشر التعليم المفاجئة السريعة أخيراإلى الالتجاء إلى كثير من المدرسين الحديثين، الضعاف في مادتهم والضعاف في أساليبهم وسلطانهم الروحي العلمي.

ص: 10

ولو أن المدرسة كانت محببة إلى أبنائها، ولو إنها كانت متصلة اتصالا وثيقا ببيئتها متفاعلة معها، وكان أساتذتها ذوي سلطان علمي قوي على تلاميذها، ووجد فيها التلاميذ الغذاء العلمي والروحي الذي يطمئنهم ويرضي نفوسهم كما هو الحال في المدارس الأجنبية وفي كلية الطب وفي المدارس الثانوية النموذجية ما فعل الطلبة بمدارسهم هذه الأفاعيل، لما استباحوا أنفسهم حرمانها وعبثوا بمقدساتها، ولو أن المدارس الأجنبية في مصر والمدارس الثانوية النموذجية وكليات الطب كانت غير محببة لدى أبنائها، غير عابئة كغيرها بالاتصال بالحياة المحيطة بها، ذلك الاتصال الذي يجعل منها قطعة من الحياة، لما حرص عليها طلابها، ولفعلوا بها كل فعل غيرهم من الأبناء، فالكل مصريون والكل شعورهم واحد وبيئتهم واحدة

لهذا كله أدعو مجالس الكليات كما أدعو كبار المسئولين عن التعليمإلى دراسة أحوال الكليات والمدارس دراسة عميقة لجعل الحب والتشويق والاتصال المباشر بالحياة العاملة، والتعاون بين الأساتذة والطلاب أسسا حقيقية في حياة المعاهد التعليمية جميعها، وإلى العناية بالغذاء الروحي المقوم للنفوس والقلوب، والكفيل بتقويم الضمائر، ودفعها لحماية جميع المقدسات والحرمات، مع الحيلولة بين الطلاب والحزبية الممقوتة في سبيل القضاء على الفوضى والفساد والترهات، كما أدعو كبار المسؤولين من رجال المعارف إلى البحت والتمحيص في التقاء نظار المدارس والناظرات ممن حسنتسمعتهم وترفعوا عن الدنايا والموبقات، بل ممن ارتفعت شخصياتهم عن كل الشبهات، فهؤلاء خاصة يمكن أن يوجه الأساتذة التوجيه الصحيح، الكفيل بإصلاح حال الأبناء. والله أسأل أن يهدينا صراطه المستقيم، وان يوفقنا إلى استقامة حياتنا واستعادة مجدنا إنه نعم المولى ونعم النصير

عبد الحميد فهمي مطر

ص: 11

‌علي مشرفة باشا

(بمناسبة ذكرى وفاته)

للأستاذ أحمد علي الشحات

عالم من خيرة علماء مصر، ونابغة من النوابغ الذين ظهروا في هذا العصر، وأول عميد مصري لكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول - ظهر نبوغه منذ فجر الشباب، فنراه يتخرج في مدرسة المعلمين العليا عام 1917 وهو إذ ذاك في التاسعة عشر من عمره، وتوفده الحكومة للخارج، فيحصل على درجة البكالوريوس في العلوم عام 1920، وعلى درجة دكتوراه الفلسفة عام 1923، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، يرجع إلى بلده العزيز مصر ليعين أستاذا للرياضيات في المعهد الذي تخرج فيه وهو المعلمين العليا، لكن نفسه التواقة تشغف بالتطلع إلى أعلى درجة جامعية في العام ويرى أن بلده لم ينل فخر الحصول عليها بعد وهي دكتوراه العلوم؛ فيتصدى مشرفة لها ويطلب من وزارة المعارف أن تعطيه الفرصة ليحصل عليها من أجل مصر، لأنه كان يؤمن أن مجد البلاد إنما يقوم على العلم، وأن الأمم العظيمة هي التي اهتمت بالعلم وبالعلماء فاخرجوا لها الاكتشافات والاختراعات، ولقد صدق شوقي رحمه الله حين قال

كل يوم آية دلت على

أن للعلم القوى والغلبا

لو بنوا فوق السها مملكة

لوجدت العلم فيها الطنبا

سلم الناس إلى المجد إذا

طلبوا سلمه والسببا

ولكن أني لمشرفة أن يعطى الفرصة لهذا المجد والذين بيدهم السلطة في ذلك الوقت كانوا الإنجليز، وأنه ليس مما يسر خاطرهم أن يظهر النبوغ المصري أمام العلماء في الخارج، فيعقدوا الأمور له. وأخيرا يتحدونه بشكل مستتر فيوافقون على سفره على شرط أن يحصل على هذه الدرجة التي لا يتطلع إليها في العالم إلا القلائل ممن وهبهم الله ملكه عالية في الرياضيات أن يحصل عليها في فترة الإجازة الصيفية. ويقبل مشرفة التحدي، وبنصره الله نصرا عزيزا وتحدوه المعجزة، ويمنح هذه الدرجة العليا من بلاد الإنجليز ومن جامعة لندن وهو في السادسة والعشرين

ويرجع مشرفة إلى مصر ليجد أن عاهل مصر العظيم المغفور له فؤاد الأول ينشئ الجامعة

ص: 12

المصرية من كليات الآداب والطب والحقوق وكلية رابعة لم يكن لمصر بها عهد من قبل وهي كلية العلوم، ويطلب مشرفة أن يعين أستاذا في هذه الكلية فترفض الجامعة مع اعترافها بأنه حائز لأرقى درجة جامعية في العالم، ولكن هناك مانع قانوني يقف في سبيله؛ هذا المانع هو أن سنه صغيرة ويجب في نظر الجامعة ألا يقل سن الأستاذ عن الثلاثين عاما، وترضى الجامعة أن تعينه أستاذا مساعد فقط، وتثار هذه المسألة - الأولى من نوعها - في البرلمان ويتدخل الزعيم الراحل سعد زغلول باشا ليقنع الجامعة بأن صغر سن مشرفة يجب أن يقابل بالتقدير، وأنه هو دليل النبوغ. وأخذت الجامعة بوجهة نظر الزعيم ويرقى مشرفة إلى درجة أستاذ بالجامعة 1926 وتمضي سنوات عشر فإذا به ينتخب عميدا لهذه الكلية وهو دون الأربعينمن عمره، إذ كان في الثامنة والثلاثين آنئذ. وقد حصل على رتبة البكوية في هذا الوقت. ويتابع مشرفة نشاطه العلمي وبحوثه الرياضية وتنتشر في الخارج في أمهات المجلات العلمية

ويزداد تقدير العلماء له فيدعوه انيشتين ذو الشهرة العالمية في الرياضيات وصاحب نظرية النسبية وأحد أقطاب القنبلة الذرية أن يحاضر كأستاذ زائر في جامعة برنستون عام 1947، وأن ينزل ضيفا على الحكومة الأمريكية؛ وتوافق الجامعة على طلب العلامة الأمريكي، ولكن تجد ظروف خاصة تمنع مشرفة من الذهاب ويبقى في مصر

وكان مشرفة من المؤمنين بأن العالم يجب ألا يبقى في برجه بين جدران معامله، بل يجب أن يساهم في بناء المجتمع وفي نشاطه وفي تبسيط العلم لجمهرة من الناس، فنراه يلبي دعوة الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية ويلقي سلسلة من الأحاديث عن الذرة والقنبلة الذرية وعن (العلم والدين)(والعلم والمال)(والعلم والسياسة)(والعلم والصناعة)(والعلم والأخلاق) وغيرها. كما لم تخل صحيفة يومية أو مجلة ثقافية من مقالاته وآرائه، وفي مقدمتها مجلة الرسالة الغراء

واتسع نشاطه فنراه يخرج للناس عدة كتب علمية منها النظرية النسبية الخاصة

- ومطالعات علمية - والذرة والقنبلة الذرية - ونحن والعلم - والعلم والحياة - ويهتم بدراسة علماء العرب فيساهم في إخراج كتاب الجبر والمقابلة لمحمد بن موسى الخوارزمي، ويؤلف عدة كتب في الميكانيكا والهندسة والرياضيات لوزارة المعارف

ص: 13

العمومية، كما عهدت إليه الوزارة في ترجمة بعض المؤلفات العلمية الأجنبية

ويساهم في إنشاء الهيئات المختلفة من علمية أو اجتماعية، فنراه بالمجمع المصري للثقافة العلمية، وبالأكاديمية المصرية للعلوم وباللجنة الأهلية للرياضة البدنية، وبمجلس فؤاد الأول الأهلي للبحوث، وبالجمعية المصرية للثقافة العلمية، وبالجمعية المصرية لهواة الموسيقة، وبجمعية القرش للصناعات المصرية، وجماعة إنقاذ الطفولة المشردة والمجلس الأعلى لشؤون الموسيقى بوزارة المعارف

وفي عام 1946 انتخب وكيلا لجامعة فؤاد الأول وحظي بعطف الملك وتقديره فانعم عليه برتبة الباشوية، وأخيرا كان على مشرفة أن يسير في الطريق التي لا بد أن يسير فيها كل كائن حي حين يستوفي أجله

جاء إلى هذه الدنيا في يونيه 1868 وتركها في يناير سنة 1950 وبين هذين التاريخيين أظهر من آيات النبوغ ورجحان العقل ما يجعل ذكراه تخلد على الدهر

أحمد علي الشحات

ص: 14

‌الباكستان

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

دولة طاهرة نقية أنقذها الله من براثن الرجس والوثنية، أولى الدول الإسلامية إذ أنها أكثرها سكانا وأوسعها مساحة لعلها أكثرها رقيا وتقدما

وخامسة دول العالم كله؛ فترتيبها من حيث تعداد السكان كما يلي: الصين، والهندستان، الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، الباكستان

دولة الغد المأمول والأمل المشرق، ولدت فكان ميلادها أمنا وسلاما لإخواننا المسلمين من أبناء القارة الهندية. دولة خلقت لتعيش وستعيش بإذن الله

تلك هي دولة الباكستان، وقد كان من طبعي أن أبدأ الكتابة عنها تحقيقاً للرغبة الكريمة التي أبدتها الأديبة الفاضلة بهيجة المنشاوي والتي نشرت في العدد 976 من مجلة الرسالة الغراء حاملة لواء الفكرة الإسلامية

وقد كان من جميل المصادفات أنني حين أردت الكتابة عن الباكستان تناولت كتابا من أحدث ما كتب عنها وكانت صيغة الإهداء فيه هي ما يلي:

إلى الفتاة العربية

التي ينتظر الغد منها أن تحمل التبعة في سبيل تنشئة جيل جديد قوي

يتذكر مجد الماضي فيمحو عار الحاضر ويحسن بناء المستقبل

فالمؤلف يهدي كتابه إلى الفتاة العربية وأنا اكتب تحقيقاً لرغبة الأديبة الفاضلة، وهدفنا جميعاً إقامة كتلة إسلامية قوية ينعم أبناؤها في ظلها بالكرامة والحرية، وتكون الميزان الدولي للسلام العالمي

الموقع:

الباكستان ثانية دولتين تقومان في شبه القارة الهندية التي تقع في جنوب آسيا وتطل على البحر العربي من الغرب وخليج البنغال من الشرق والمحيط الهندي من الجنوب، وفي شمالها تقع جبال الهمالايا والمرتفعات الوسطى بآسيا

وفي غرب الباكستان تقع أفغانستان وإيران. وتضم الباكستان الولايات الإسلامية من شبه القارة الهندية ولكنها لم تستطع أن تضم جميع مسلمي الهند إليها فما زال كثير منهم يقيم في

ص: 15

أرض الهندستان. وتبلغ مساحتها 360 مليون كيلو متر مربع وعدد سكانها حوالي مائة مليون نسمة

وهي تنقسم إلى قسمين: الباكستان الشرقية وتتكون من إقليم البنغال الذي يتكون من المنطقة الواقعة عند مصب نهر الكنج

والباكستان الغربية وتتكون من حوض السند وبلوخستان

ويفصل بين القسمين مسافة لا تقل عن ألف ميل. وهناك منطقتان ما يزال النزاع قائما بين الباكستان والهندستان عليهما: الأولى مقاطعة حيدر آباد ومساحتها حوالي 82 مليون كيلو مترا مربعا وعدد سكنها 16 مليون نسمة، والثانية مقاطعة جمو وكشمير

وسنتحدث عن مشكلة المقاطعتين بالتفصيل فيما بعد

قصة الباكستان

وأحب قبل أن أتحدث عن الباكستان من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية أن احدث القراء عن قصة قيام الباكستان تلك الدولة التي نشأت منذ خمس سنوات فقط

دخلت بلاد السند وبلوخستان في دائرة العالم الإسلامي منذ خلافة معاوية بن أبي سفيان. وفي أوائل القرن السابع عشر الميلادي كانت جميع بلاد الهند في يد المسلمين وكان يحكمها المغول

ولكن منذ عصر النهضة الحديثة وعصر الاستكشاف بدأت تنتاب الشعوب الأوربية حمى الاستعمار وبدأت إنجلترا تنسج شباكها حول الهند فأنشأت معها علاقات تجارية، ثم كان من الطبيعي أن يقوم النزاع بين شركات التجارة وبين حكومة الهند وانتهى الأمر باستيلاء إنجلترا على الهند. وفي 1763 طردت إنجلترا الفرنسيين من معظم المراكز التجارية التي كانت لهم الهند وأصبحت الهند الدرة اليتيمة في التاج البريطاني. ومنذ ذلك التاريخ والسياسة الإنجليزية تحرص تماما على سلامة الهند، والمقصود سلامة الهند معناه قطعا عدم خروج الهند من يد بريطانيا إلى يد دولة أخرى، ومعناه أيضا الوقوف في وجه الهند ومنعها من تحقيق استقلالها. وأكثر من هذا لقد كان الحرص على سلامة الهند محور السياسة الإنجليزية. استمع إلى قول وارن هستنجس حاكم الهند 1800 (منذ نزول الفرنسيين أرض مصر (1798) لم يغمض لي جفن)، وانظر إليه وهو يدفع حكومته دفعا

ص: 16

حتى ترسل عدة حملات 1801 ساهمت في طرد الفرنسيين من أرض مصر وساعدت الأتراك والمصريين على إجلائهم عنها

لماذا كل هذا الاهتمام بالهند؟ يرجع السر في ذلك إلى عاملين خطيرين: 1: إن الهند مورد عظيم من المواد الخام والمواد الغذائية اللازمة للشعب الإنجليزي وللصناعة الإنجليزية

2: إن الهند سوق كبيرة لتصريف المصنوعات الإنجليزية هذا من ناحيةإنجلترا، أما من ناحية الهنود فقد حاولوا التخلص من نير الاستعمال الإنجليز وقامت ثورة كبيرة 1858 ولكنها لم تنجح. وبرغم هذا فقد تكون حزب المؤتمر 1885 وكان ينادي بأن تنال الهند استقلالا ذاتيا وتبقى ضمن دائرة مجموعة الشعوب البريطانية. وقد اشترك كثير من المسلمين البارزين في هذا الحزب الذي كان يرمي إلى تحرير الهند نوعا من الاستعباد البريطاني

ولكن المسلمين بدءوا يشعرون بأن إنجلترا والهندوكيين يأتمرون بهم ويبيتون لهم الغدر والشر، ولذلك قاموا في 1906 بتأسيس الرابطة الإسلامية

ومضى الزمن والهنود يجاهدون في سبيل حرياتهم، وجاءت الحرب العالمية الأولى فوقفوا مسلمين وهندوكيين بجانب بريطانيا وحلفائها حتى تحقق لهم النصر، ومات كثير من أبناء الهند في مختلف ميادين القتال. وانتهت الحرب واعتقد الهنود أن حريتهم ستكون مكافأتهم على تضحياتهم، ولكن إنجلترا خيبت أملهم واكتفت بالقيام ببعض إصلاحات لا قيمة لها

أدى موقف إنجلترا هذا من قضية الهند إلى قيام الثورة الهندية المعروفة بحركة العصيان المدني والتي تزعمها المهاتما غانديسنة 1921. وقد وقف المسلمون وكان يقودهم مولاناشوكت علي ومولانا محمد علي بجانب غاندي، وقاموا بنصيب موفور من الجهاد مما اغضب الإنجليز فاخذوا يسلطون عليهم سياط التعذيب من قتل وسجن، إلى سلب ونهب، فامتلأت بهم السجون والمعتقلات وتحملوا في سبيل الكفاح الكثير من الخسائر. ومع هذا تحمل المسلمون صابرين، وبدأ مركز إنجلترا يتزعزع

لجأت إنجلترا إلى سياستها التقليدية وهي إيقاع الفرقة في صفوف الآمة، فبدأت تتقرب من الهندوس وتتآمر معهم ضد المسلمين، وأخذ بعضهم يعلن ما بيتوا على رؤوس الأشهاد. قال سافاركان أحد قادتهم: إن الهند لن تستطيع أن تكون بلدا موحد ولا أمة موحدة، إن فيها

ص: 17

أمتين: الهندوس والمسلمين

وفي عام 1925 نشر هارديال أحد كبار الصحافيين مقالا جاء فيه: (إنني أعلن أن مستقبل الجنس الهندوكي في الهندستان والبنجاب (إسلامية) يجب أن يقوم على أربعة أسس: الوحدة الهندوكية، الحكم الهندوكي، تمجيس المسلمين ثم احتلال الأفغان ومناطق الحدود الجبلية، وإلا كان مستقبل الأمة الهندوكية كلها في خطر)

وهكذا وضح للعيان أنه لا يمكن أن تقوم في الهند دولة موحدة، والواقع أن الخلاف بين المسلمين والهندوكيين كان كبير جدا: إن المسلمين يعبدون الله ولا يشركون به، وقد احل لهم أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم وأن ينحروا البقر، والبقرة حيوان مقدس لدى الهندوس بل هي إحدى معبوداتهم

من أجل هذا كنا نتوقع دائما عند قدوم عيد الأضحى أن نسمع عن مذابح الهند، فقد كان المسلمين ينحرون البقر وسرعان ما تقوم المعارك بينهم وبين الهندوس ويسقط فيها آلاف القتلى

ورب قائل يقول: لماذا عمد الهندوس إلى اقتراف تلك الجرائم في عهد الاستعمار؟ وأنا أذكره بأن المسلمين كانوا سادة الهند وحكامها قبل هذا العصر، فمن الطبيعي أن تكفل لهم سيادتهم وأمنهم وسلامتهم. أما وقد زال سلطانهم على يد الإنجليز وبدأت الهند تتحرر، فقد أخذ الهندوكيون بتحريض إنجلترا يرتكبون تلك الفظائع ويعملون على (تمجيس المسلمين) أو إهلاكهم

وقد أدى كل ذلك إلى اعتقاد مسلمي الهند بأنه لا نجاة لهم إلا إذ قامت لهم دولة مستقلة، وقد تزعم هذه الحركة المباركة القائد المخلص محمد علي جناح

وقد كان أول مؤتمر رسمي اشترك فيه المسلمون بصفتهم الرسمية هو مؤتمر المائدة المستديرة الذي انعقد في لندن 1932

وفي 1937 أعلن البانديت جواهر لال نهرو - رئيس وزراء الهند الحالي - أن هناك من الهند حزبين: الحكومة الإنجليزية وحزب المؤتمر. حينئذ اضطر محمد علي جناح أن يقول: بل إن ثمة حزبا ثالثا هو الأمة الإسلامية

وفي هذا الوقت كان قيام دولة إسلامية مستقلة طيفا يداعب خيال المسلمين، ولكن الله جلت

ص: 18

قدرته قد حقق هذا الحلم بأسرع مما كانوا يظنون

ففي 1939 قامت الحرب العالمية الثانية وتحرج مركز إنجلترا وطلبت من الهنود الإخلاد إلى السكينة وترك قضية التقسيم جانبا حتى تنتهي الحرب، ولكن القائد الأعظم محمد علي جناح قال: إننا نوافق على الهدنة في كفاحنا السياسي إذا رضيت بريطانيا بشرطين:

1 -

أن تعلن الحكومة البريطانية إعلاناً صريحاً بأنها لا تتبنى دستوراً لحكم الهند في زمن الحرب أو بعد الحرب من غير موافقة سابقة من جانب المسلمين

2 -

أن يكون للمسلمين نصيب مساو لنصيب غيرهم من السيادة وفي مراقبة أمور الحكومة المركزية والحكومات الإقليمية

وقد رضيت إنجلترا بذلك ووافقت عليه وأعلنت في 1940 أنها لن توجد في الهند شكلا من أشكال الحكم لا ترضى عنه عناصر كثيرة العدد قوية الأثر

قبل المسلمون هذا التصريح ولكن الهندوس رفضوه وقاموا بحركة عصيان ضد إنجلترا ولكنها فشلت لعدم اشتراك المسلمين فيها

وفي عام 1944 اجتمع غاندي بمحمد علي جناح في بومباي وحاول أن يتفق معه على عدم تقسيم الهند، ولكن محمد علي جناح رفض رأي غاندي لأنه كان ضد رغبة المسلمين. وربما يبدو هذا الموقف غير سليم أمام من ينتصرون للقومية، ولكن أمام هؤلاء أضع الحادث التالي على سبيل المثال: في عام 1947 كان يسكن بلدة أمتسار خمسمائة ألف نسمة منهم مائتا ألف مسلم وفي يومين أثنين قضى الهندوس على هذا العدد الضخم بالقتل والذبح والتشريد. كيف يمكن مع مثل هذا أن يطمئن المسلمون على أنفسهم؟ إن السبيل الوحيد هو إقامة دولة إسلامية مستقلة

وانتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945 وبدأت إنجلترا تعالج مشكلة الهند. وفي أوائل 1946 أجريت الانتخابات في الهند وقد نجح أعضاء حزب الرابطة الإسلامية في إحراز المقاعد الثلاثين المخصصة للمسلمين في المجلس التشريعي المركزي، وهؤلاء هم أنصار قضية الباكستان. وأصبح واضحا تماما أنه لا يمكن إغفال رغبات مائة مليون من السكان

واعترافا بالأمر الواقع قرر البرلمان البريطاني في 1947 ما يأتي:

(ابتداء من الخامس عشر من أغسطس عام 1947 يقوم في الهند حكومتان باسم الهند

ص: 19

وباسم باكستان)

وهكذا تحقق حلم إخواننا المسلمين وقامت دولة الباكستان أكبر دولة إسلامية، تلك الدولة التي خلقت لتعيش وستعيش بإذن الله.

باكستان زنده باد!

للبحث صلة

أبو الفتوح عطيفة

ص: 20

‌الطبيعية والصنعة في الفن

للأستاذ أحمد مصطفى حافظ

الفنانون: الشاعر، والأديب المترسل، والموسيقار، والمصور، والمطرب، والمثال،

والرسام. . أفراد في مجموع قبل كل شيء

والفرد في المجتمع يعطي ويأخذ ويؤثر ويتأثر. . .

وعلى قدر استعداد الفرد لتلقى تأثير المجتمع - من غير أن يشل هذا التأثير حيوية نزعة من نزعاته - يكون نجاحه المتكامل في الحياة الاجتماعية. والطراز الإنطوائي من الناس إذا وجد في الفن متنفسا طاقته المكنونة، كسائر (الرومانسيين، قد يصل تعبيره إلى أقصى ما يوصل إليه الأداء الفني من الروعة والإبداع. . . وهذا يتفق كثيراً لشاعرة كفدوى طوقان، التي تقو في قصيدتها الأخيرة (الصخرة) بالعدد 972 من الرسالة:

أنظر هنا! الصخرة السوداء شدت فوق صدري

بسلاسل القدر العتي

بسلاسل الدنيا البغي

أنظر إليها كيف تطحن تحتها ثمري وزهري

نحتت مع الأيام ذاتي

سحقت مع الدنيا حياتي

دعني فلن تقوى عليها. لن تفك قيود أسري

سأظل وحدي في انطواء

ما دام سجاني القضاء

إلى أن تقول:

ستظل روحي في أقفال

سأظل وحدي في نضال

وحدي مع الألم الكبير. مع الزمان. مع القدر

وحدي وهذي الصخرة البكماء تطحن. . لا مفر!

كما اتفق كثيرا لشاعر كالمرحوم فخري أبو السعود الذي يقول مناجيا الموت.

ص: 21

لأنت بلاغ النفس حيرى مروعة

بوادي شكوك جمة وهموم

وفيك ابتعاد عن جهالة جاهل

وعن قول مأفون وفعل لئيم

وعندك نسيان وطول زهاد

لكل مراد في الحياة عقيم

لعمري ما حي بأروح منزلا

على الأرض من بال بها ورميم

ولو علم الجاني لما جاد عامداً

على خصمه بالموت جود كريم

وتمحو يداك الحقد والخوف والأسى

وكل بلاء في النفوس قديم

وأنت تريح الفكر من كل معضل

يظل له في حيرة ووجوم

وتطوي عن الأجفان صفحة عالم

ملئ بأنواع الشرور ذميم

وتطوي كتاب الأمس طيا وما مضى

به من بغيض ذكره وأليم

. . . عزاء لبعض الناس أنك قادم

وأن شقاء العيش غير مقيم

هذان الشاهدان اللذان سقناهما فيهما صدق وعمق فنيان، نتجا عن شعور صحيح، أجنحته أحزان الوحدة وصروف القدر. . . ولكن آفة الانطواء أن ينفعل الشاعر تحت تأثير القيم الاجتماعية انفعالا فنيا مصنوعا لا مطبوعا، فيكون تعبيره الفني واجبا ملتزما به، أو تقليداً منساقاً إليه. . لا أداء حرا صادرا عن فاعلية فائضة من النفس. . . فشاعر كبشار الضرير، حين يقول متغزلا:

يا منظرا حسنا رأيته

من وجه جارية فديته

بعثت إي تسومني

ثوب الشباب وقد طويته

لا يخفى ما يقوله هذا من بعد عن الصدق والواقعية، علاوة على ركاكة النسج وتكلف المعنى والقافية تكلفا ظاهرا. . وإلا فمن (هو) في ميدان الوسامة والغرام، حتى. . تسأله هي أن يغازلها؟ وإذا أردت دليلا قريبا على ذلك فلاحظ معي، إن شئت، الظروف الاجتماعية في عصر المرحوم أحمد شوقي بك، التي كانت تزين له أن يتصدر ندوة الشعر، تجد أن دولة الشعر كان عليها في هذا العصر واجبات، تقتضيها الضرورة السياسية ومن هنا كان نجاح شوقي غير متكامل في الحياة الاجتماعية. . فجاء شعره الوطني والاجتماعي دون وطنيات واجتماعيات شاعر الني الاجتماعي النزعة. . . ذلك لأن شوقي لم يكن اجتماعي النزعة كحافظ وليس هذا عيبا؛ وقد قدر أن يكون لكل فرد نوازعه

ص: 22

النفسية. . فشوقي كان من الطراز الإنطوائي. . .

لو ترك العنان لشاعرية شوقي لفاضت فيضا ذاتيا لا أثر للأحداث السياسية والاجتماعية فيه، ولأخلص لناموس الطبيعة وحرية الفن؛ وإن كان هذا لا يمنعنا من الإقرار بروعة شعره الذي صدر - في غير الأغراض التي أشرت إليها - عن فاعلية فائضة من أعماق وجدانه. . .

وما أرق خمريات أبي نؤاس، الذي نراه يبلغ الذروة فيها لطبيعة انفعاله، اضطرم نتيجة هيام بالخمر معروف عنه، بلغ حد الهوس؟ فجعله يقول:

دع عنك لومي فان اللوم إغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها

لو مسها حجر مسته سراء

رقت عن الماء حتى ما يلائمها

لطافة، وجفا عن شكلها الماء

فلم مزجت بها نورا لمازجها

حتى تولد أنوار وأضواء

دارت على فتية دان أزمان لهم

فما يصيبهم إلا بما شاءوا

لتلك أبكي ولا ابكي لمنزلة

كانت تحل بها هند وأسماء

وجعه يقول:

أئن على الخمر بآلائها

وسمها احسن أسمائها

لا تجعل الماء لها قاهرا

ولا تسلطها على مائها

كرخية قد عتقت حقبة

حتى مضى أكثر أجزائها!

فلم يكد يدرك خمارها

منها سوى آخر حوبائها

داريت فأحييت غير مذمومة

نفوس حراها وأنضائها

والخمر قد يشربها معشر

ليسوا إذا عدو بأكفانها!

ويقول:

قم يا غلام فقد بدا الفجر

واسق النديم فما به سكر

من قهوة ما كنت أحسبها

في الكأس. . لولا اللون والنشر

رقت. . فما تدري أبارقها

أبها هواء، أم بها خمر!

وأخيراً، وليس أخراً، ليت أدباءنا - الذين يصرون على أن يكونوا شعراء على الرغم من

ص: 23

افتعالهم وتعملهم وإمحالهم وضعف أداتهم الشعرية - يتأسون ويعتبرون بصدق أبن المقفع وصراحته، حين أجاب من سأله عن السبب في عدم قوله الشعر، بقوله:(الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيء لا أرضاه) ومن رأيي أن أبن المقفع أسوة حسنة، وقدوة صالحة. . .

فهل تنفع شيئا ليت؟ الحق أن يستجيب هؤلاء ويتفضلون بإراحة أنفسهم وإراحة الناس وإراحة الفن جميعاً؟

إنا لمنتظرون؛ ونخشى أن يطول انتظارنا إلى يوم يبعثون!!

السويس

أحمد مصطفى حافظ

ص: 24

‌شعراء من أشعارهم

4 -

عدي بن زيد العبادي

للأستاذ محمود عبد العزيز محرم

ولا تنسى أنني حدثتك عن أخوة عدي، وأنهم لدى كسرى ناعمون، وأنه أقطعهم الضياع واجزل لهم الصلات. وهذا هو عدي يحدثنا عنهم وعن أهله، ويأسى لأساهم، ويستعين بهم، ويصف لهم حاله وما هو فيه من قيد، ومن حديد مضاعف، ومن غلول، ومن ثياب أخلاق مرقعات. هو مع ذلك لا يفوته أن يبرئ ذمته مما أتهم به، ويؤكد إخلاصه للملك:

ليس شيء على المنون بباق

غير وجه المسبح الخلاق

إن نكن آمنين، فاجأنا شر مصيب ذا الود والإشفاق

فبرئ صدري من الظلم للسرب وحنث بمعقد الميثاق

ولقد سأنيزيارة ذي قر

بي حبيب لو دنا مشتاق

ساء ما بنا تبين في الأيدي وإشناقها إلى الأعناق

فاذهبي يا أميم غير بعيد

لا يؤتى العناق من في الوثائق

واذهبي يا أميم إن يشأ الله ينفس من أزم هذا الخناق

أو تكن وجهة، فتلك سبيل الناس لا يمنع الحتوف الرواقي

وتقول العداة أودى عدي

وبنوه قد أيقنوا بغلاق

يا أبا سهر فأبلغ رسولا

أخوتي إن أتيت صحن العراق

أبلغا عامرا، وأبلغ أخاه

أنني موثق شديد وثاقي

في حديد الفسطاس، يرقبني الحا

رس، والمرء كل شيء يلاقي

في حديد مضاعف، وغلول

وثياب منضحات خلاق

فاركبوا في الحرام فكوا أخاكم إن عيراً قد جهزت لانطلاق

ثم هو يتحدث عن أهله مرة ويصف ما يلاقيه، وما يختلج في نفوسهن من نوازع الحذر والإشفاق، فيقول:

وبيتي مقفر إلا نساء

أرامل قد هلكن من النحيب

يبادرن الدموع على عدي

كشن خانه خرز الربيب

ص: 25

يحاذرون الوشاة على عدي

وما اقترفوا عليه من الذنوب

وقد أرسل عدي رسالة من سجنه إلى أخيه أبي وهو مع كسرى، يستعطفه، ويستنجده، ويصف حاله:

أبلغ أبيا على نأيه

وهل ينفع المرء ما قد علم

بأن أخاك شقيق الفؤا

د كنت به واثقاً ما سلم

لدى ملك، موثق في الحديد، إما بحق وإما ظلم

فلا أعرفنك كذات الغلا

م ما لم تجد عارماً تعترم

فأرضك، أرضك، إن تأتنا

تنم نومة ليس فيها حلم

وان كان عدى قد اخطأ فقد يخطي الصديق! وإن كان ظلم فهذا نصيبه! وهلا تستطيع أيها الملك أن تتدارك الأمر وتجنح إلى الرأي المصيب! وعلى كل، فقد وكل عدي أمره لله وهو رب قريب مستجيب:

فإن أخطأت، أو أوهمت أمرا

فقد يهم المصافي بالحبيب

وإن أظلم، فقد عاقبتموني

وإن أظلم، فذلك من نصيبي

وإن هلك تجد فقدي وتخذل إذا التقت العوالي في الحروب

فهل لك أن تدارك ما لدينا

ولا تغلب على الرأي المصيب

فإني قد وكلت اليوم أمري

إلى رب قريب مستجيب

هذا عدي: عدي البائس المحزون، والحبيس في سجن صديقه ومليكه النعمان. ولم يكن يتوقع يوما أن يكون في مثل حاله هذا، وإن ماضيه مع الملك، وماضي بيتيهما معا، لم يكن يوحي - لحظة من اللحظات - أن هذه المصافاة والإخلاص والود قد تنقلب آسى ما بعده آسى، وشر تصغر دونه الشرور

وقد استطاع عدي بكل ما أوتى من قدرة على البيان والتعبير، قدرة الفنان البائس المذكور، وأن يرسم لنا صورة له في السجن. ولأهله، وأن يحدثنا عما كان بينه وبين النعمان من مودة وصفاء، وأن يذكر النعمان بأياديه عليه، وأن يذكره بما كان لزيد أبي عدي من ملك الحيرة قبل المنذر آبي النعمان، ويذكره الصهر، ويضرع إليه ألا يشمت به الأعداء

وقد أكره النعمان عديا على إطلاق هند. وما كان ينتظر لهذا الزواج غير هذا، ففارق

ص: 26

السن، والطريقة التي تم بها، وعدم مواءمة الزوجين كفاءة كما يرى النعمان، كل هذا كان يشير إلى أن الزواج قد لا يطول اجله، وأن الفراق ينتظر الزوجين بعد حين طويل أو قصير. ثم جاءت الأحداث تتابع، وأضحى هذا الزواج من أسباب النفر بين عدي والنعمان، ودخل الأعداء، وخشي النعمان عديا؛ فكان الحبس، وكان الطلاق

وقد ترهبت هند بعد ذلك في ديرها المعروف بدير هند، وقد بنته حين تنصرت بعد تنصر أبيها على يد عدي، وحبست نفسها فيه، وأعرضت عن الحياة الدنيا بزخارفها ومفاتنها، إلى حياة نبيلة طهور تطمح إليها آمال النصارى المخلصين

واختلفت الرواة، فمن قائل إنها ترهبت بعد طلاقها، ومن قائل ترهبت آسى على زرقاء اليمامة، ومن قائل ترهبت حين قتل كسرى أباها النعمان

وأنا لا أميل إلى القولين الأولين؛ لأنها ما كانت تحزن على زوجها عدي حزنا يفقدها الرغبة في الحياة، ويدعوها إلى الرهبانية، وأنت تعرف ما أحاط بهذا الزواج مما يجعله غير مرجو النجاح، ولأن قصة زرقاء اليمامة، وصلتها بهند، غير واضحة ولا مفهومة. وأما ترهبها لفقدها أباها، فقد يبدو مقبولا ومعقولا؛ لأنه عزها وفخرها؛ ولأنه يصعب على أبناء الملوك أن يعيشوا كالناس بعد جلال الملك وأبهة الملوك، فينزووا في ناحية من نواحي الأرض يعيشون فيها في تستر وخفاء. وكانت هند قريبة عهد بالنصرانية، والمثل السامق الأعلى لها هو الترهب، فلعل نشوة دينية بعد قتل أبيها ألجأتها إلى ديرها المعروف. فهي قد تكون ترهبت حين ألمت بالنعمان الخطوب فوق تأثرها بالمثل الأعلى للنصرانية

وكانت هند تعتز بأبيها، وتحفظ اسمه، وتغار عليه، حتى بعد أن أنزلها الدهر عن مكانتها. ويحدثنا الرواة أن المغيرة بن شعبة لما ولاه معاوية الكوفة مر بدير هند، فنزله ودخل عليها، بعد أن أستأذن عليها، فأذنت له وبسطت مسحاً فجلس عليه، ثم قالت له: ما جاء بك؟ قال: جئت خاطباً؛ قالت والصليب لو علمت أن في خصلة من جمال أو شباب رغبتك في لأجبتك، ولكنك أردت أن تقول في المواسم: ملكت مملكة النعمان بن المنذر، ونكحت ابنته، فبحق معبودك أهذا ما أردت؟ قال: إي والله؛ قالت: فلا سبيل إليه؛ فقام المغيرة وانصرف وقال فيها:

ص: 27

أدركت ما منيت نفسي خالياً

لله درك يا ابنة النعمان

فلقد رددت على المغيرة ذهنه

إن الملوك نقية الأذهان

وقد أيأس أخوة عدي، وهم عند كسرى، ما نزل بأخيهم، فسعوا له، وعملوا على كسر قيده، وراسلوه في سجنه، فلقد كتب إليه أخوه أبي:

إن يكن قد خانك الزمان، فلا عاجز باع ولا ألف ضعيف ويمين الإله. . لو أن جاءوا طحوناً تضيء فيها السيوف ذات رز، مجتابة غمرة الموت، صحيح سربالها تلفوف كنت في حميها - لجئتك أسعى فاعلمن، لو سمعت، إذ تستضيف أو بمال سألت دونك لم يمنع تلاد لحاجة أو طريف

أو بأرض أستطيع آتيك فيها

لم يهلني بعد بها أو مخوف

إن تفتني والله إلفاً فجوعاً

لا يعقبك ما يصوب الخريف

في الأعادي، وأنت مني بعيد

عز هذا الزمان والتعنيف

ولعمري لئن جزعت عليه

لجزوع على الصديق أسوف

ولعمري لن ملكت عزائي

لقليل شرواك فيما أطوف

ثم احتال للدخول على كسرى فأخبره، فكتب كسرى للنعمان يأمره بإطلاق عدي. غير أن الوشاة أسرعوا قبل فوات الفرصة، وحرضوا النعمان وخوفوه وأنذروه، أن أبقى على عدي، فبعث إليه أعداءه، فغموه حتى مات

للبحث بقية

محمود عبد العزيز محرم

ص: 28

‌بين الحقيقة والخيال:

صديق.!

للأستاذ محمد محمد الأبشيهي

خلوت إلى نفسي أسائلها: (أين هو الصديق الذي يسكن إليه قلبي، وتهدأ خياله بنفسي، فيصفيني وده، ويمنعني مما يمنع منه نفسه؟ فقد بلوت من خير الناس وشرهم، ما يوشك أن يزهدني في عشرتهم، ويجنح بي إلى العزلة عن هذا المجتمع الصاخب، وحاولت أن اصطفي من الأصحاب من يفرج أمري، ويكشف لي وجه الصواب في هذه المشكلة العاصية، فإذا يداي تصفران، وإذا أنا اخلد إلى الراحة في ظلال اليأس، وإلى الهدوء على بساط الشوك. . وساءلت نفسي. . . ربما كانت النفسية الجامحة والمادية اللاهية، هما أس العناء، وأصل البلاء، حين ينظر الصديق من زاويتا إلى الصديق، فكلما تحدر إليه خيره هش له وبش، ولقيه باسم الثغر، مشرق المحيا، فهو صديق العمر، وشقيق الروح، وإلا أنكره، فغاضت الابتسامة، وفتر اللقاء وتقطع بينهما، وحال الأمر إلى عداوة، وأشباه هذا هم الكثرة الكاثرة فيمن يلاقونني، حتى الذين ينالهم رفدي، لا أحس لما يبدونه نحوي بحرارة، ولا لما ينسجونه حولي بصدق، وانظر يوما فإذا بي انشد:

إني لأفتح عيني حين أفتحها

على كثير ولكن لا أرى أحدا

أتناول بيدي مصباح (ديوجين) أفتش به في ثنايا الزمن، عن بغيتي من الحياة، لكن. . هيهات!. . . ولبثت كذلك حينا من الدهر، يمر بي في طوافي أشتات من الناس تباينت طباعهم، وتلونت مذاهبهم، لا يحسون بي ولا أحس بهم، لبعد ما بيني وبينهم، فما جامعة تجمعنا، في الرأي والفكر والذوق، أراهم من غير جنس وإن كانوا بشرا، وألمح على معارفهم لؤم الطباع في ثنايا الإشراق، سعار الطمع في مخابل الرضى، فلويت عنقي، وأشحت بطرفي، وطويت عنهم كشحا، وفزت من الغنيمة بالإياب، بعد رحلة لاغبة، وجهاد واصب، و. . وشعرت بيد تربت على كتفي، وأنفاس حانية، ترف على قلبي، فأحسست برد الراحة يسري في أوصالي، وتمثلت النعيم يغمر جوانحي. قال - وقد مثل حيالي قائما - أنا إذا ضالتك المنشودة. وأملك المفقود، ولعلك أن تجد العوض في شخصي عن أحلامك الذاهبة. فأفثأ حاجتك، وانكأ جرحك، فتنأى بنفسك عن مواطن اليأس، وتعلم أنه ما زال في

ص: 29

الدنيا صديق، وترتاح له، وتبلو من سجاياه ما تقر به عينك، ويثلج به صدرك ستقودني إلى حيث تريد، وستلقاني مطواعا ذلولا، لا أبعثك على غضب، واشرف بك على بأس. . فصدقته حين لمحت في حديثه دلائل الصدق، وشمت من لهجته علائم الجد، وأنست به وسكنت إليه، وجلت به في ميادين الحياة جولات موفقة، وعشت به زمنا ليس بالكثير، حدثت نفسي في خلاله أن اعفي كل اثر لحكمي السابق على الصديق ما دام في الناس أمثال هذا الذي فني في شخصي، وكان لي أطوع من بناني، والزم من ظلي، إذا فلقد تجنيت على الإنسانية، أجرمت في حق الإخاء، فهذا صديقي يهفو إلى الخير لوجه الخير، ويطرب بالوفاء لأجل الوفاء، وإذا فلتهدا بلابلي، ولتمضي الحياة قدما في كنف الصداقة الصادقة، وظل العيش الرغيد!. . . ورأيته يوما - على غير عادة - عابس الوجه، ترمي عيناه بالشرر، ومنتفخ الأوداج، يكاد يتميز من الغيظ، فابتدرته:(ما بالك). فأجاب - في غير تحفظ ولا استحياء - لقد خاب أملي فيك، وصوح عود الصلة بيني وبينك، فما أنا بالذي يستمسك بك، وقد نهشت عرضي، وجحدت فضلي، أذعت في الناس بأحاديث السوء عن خدنك الذي غره فيك حسن السمت، واصطناع الوقار، فقاطعته قائلا:(على رسلك يا صديقي، فلعلها أن تكون سعيا حاسد، أو زراية جاهل. وما حسن أن تجبهني بالثورة، وتطلع علي بالعنف، قبل أن تتبين) فأصم أذنيه، وولى مدبرا ولم يعقب وحمدت لنفسي أنني لم أتزحزح قيد أنملة عما رسب في أغوار نفسي عن الصداقة والأصدقاء. وإذا فالمشكلة مازالت قائمة، ولا أبرح أتلمس الصديق الصدوق. بين الحقيقة والخيال، فباليت شعري من يدلني عليه، فينقذني من ألم مرمض، وآسى لا يريم، إن بين اليأس والأمل صراعا، وفي النفس من هذا المجتمع المريض لوعة وحيرة

محمد محمد الابشيهي

ص: 30

‌من وعي المقالة الصامتة

الصمتالبليغ

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

روي أن لقمان الحكيم جلس ذات يوم إلى نبي الله داود عليه السلام، وهو يعمل درعاً من حديد، فعجب من ذلك لقمان، واعتملت في نفسه عواطف مختلفة، وأحاسيس متباينة، لأنه لم ير درعاً قبل الآن يصنعها صانع ملهم، في براعة وإتقان، وحذق وافتتان. بيد إنه أثر الصمت، لأنه وجده أنسب من الكلام للمقام، إذ لم تبد على داود عليه الإسلام علائم إجابته عن الحقيقة ما يصنع إذا سأله، وكنه ما يعمل إذا طلب منه بيان شيء من أمره، وظل لقمان على هذه الحال سنة كاملة، تمت فيها الدرع، وقاسها داود على نفسه، وقال: درع حصينة ليوم قتال!

فقال لقمان: الصمت حكم، وقليل فاعله. .!

وهكذا يأخذ حديث الصمت بمجامع القلوب، كما يأخذ حديث القول بمجامع القلوب، حتى يكاد يراجع الإنسان نفسه فيما علم من بلاغة الكلام، وأنها مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، وأن ذلك إن جاز حيث يستباح القول، فلا يجوز الاقتصار على ذلك حيث يمتنع على الإنسان الكلام، أو بمعنى أدق حيث يمنع من الإبانة والإفصاح. .

والصمت في بعض الأحايين أبلغ من الكلام. ولا يضير القارئ أن يجد مقالا نالت منه يد بالاختصار أو الحذف والبتر، وحكمت عليه دون روية بالوأد والقتل، وقضت على جمهرة القارئين بالحرمان من أصفى مورد، في عصر التاثت فيه الضمائر، واشتركت الألباب. . أجل لا يضر القارئ المخلص الذي تعود أن ينال غذاءه الفكري الكامل من كاتب بعينه، وأديب بذاته - ليكفيه أنيقرأ العنوان فحسب، ليستخلص منه الفكرة، وأن ينظر إلى الصحيفة البيضاء، فتتحول إلى نور يضيء معالم النفس، ويملأ شغاف القلب، ثم ينطبع في ذهنه كل ما كان يجب أن يسطر عليها، ويسجل فيها، ويراد بها. .!!

ولقد يسهب الخطيب ويشقشق، ويطنب الكاتب ويتدفق، ويتلاعب القاص أو الباحث بالألفاظ ويشقق، ثم لا يعرف السامع أو القارئ ما يريد أن يرمي إليه أحد هؤلاء من غرض، أو يهدف إليه من غاية، ويظل حائرا بين آفاق من الفكر الشتيت، وركام من

ص: 31

القضايا وللآراء لا تنعقد بينها صلة، ولا تجمع بين أطرافها آصرة. .

وقد يشير الأديب أو يصمت، فيفهم الناس عنه ما يريد أن يقول، ويتجلى لهم رأيه على أحسن ما تكون الآراء عرضاً وتحليا، ويكون هم من صمته أبلغ بيان، وأوضح مقال، وأفصح كلام. .!

إلا أنه إذا جاز أن بكم فم خطيب ناشئ، أو يعقل لسان كاتب أو شاعر شاد ممن يتصدون للإصلاح وقد سلمت نياتهم - لأن ما يقوله أحدهم ربما يخطئه التوفيق فيبعد به عن معناه، ويجانب الغرض مبناه، فيثير الفوضى والشغب، ويورث العناء والنصب - إذا جاز ذلك مع واحد من هؤلاء، فلا ينبغي أن يتبع مع من يترقب الشعب بأسره، بل العالم العربي والإسلامي جميعاً نتاج قرائحهم، وثمار أفكارهم، ليحظى الناس هنا وهناك بالفكرة الواضحة، والقولة الناصحة، والرأي السديد، يشرق على الناس إشراق الشمس الضاحية، فيبدد غياهب الجهالة، ويزيل غاشية العماية، ويخرج بالقلوب الضالة إلى وضح النهج، وبالأفئدة الحيرى إلى لاحب الطريق وسواه السبيل، ويقع من التهم الباطلة موقع الماء يغسل الأوساخ، ويزيل الأدران، والعدل يمحق الزور والبهتان، والحزم يقضي على الظلم والطغيان

يجب على الألسنة أن تنطلق لتفصح عما يكنه الجنان، ولا يفصح عنه غير البيان. . وعلى الأقلام أن تتحرر للتعبر عن خلجات العواطف. وومضات الأذهان فإن قلم الكاتب الكبير قبس من نور الإيمان. وسلاح من أسلحة الديان، وجدول رقراق من فيض النبوة لا يغيض. .

لا تكمموا الأفواه الطاهرة، فذلك يورث الكبتة الدامية، ويؤدي إلى النكسة القاضية، فتتهامس الشفاه، وينبعث دعاة الشر بالفساد في كل مكان، وتتسابق شائعات السوء على كل لسان، فيتكهرب الجو ويخنق الأنفاس. ثم لا يجد صواب الرأي بين كل أولئك طريقه إلى الوجود، وسبيله إلى النور، ويجد أعوان الباطل سانح الفرصة إلى الظهور، وايسر المناسبات إلى إذاعة الفجور، فيضيع الحق الواضح، ويقبر الخير بأيدي أعدائه وأحبائه على السواء. .

لا تعقلوا الألسنة المبينة، ولا تقيدوا الأقلام المفصحة، فذلك تحطيم لمصابيح الهدى، ومحو لصوى الرشاد، وتشجيع للخيال الشريد أن يذهب في تعليل ذلك مذاهب شتى، فقد لا تثير

ص: 32

مقالة تنشر اهتمام جميع القارئين، فلا يقرأ الجميع لأديب، ولكنهم يقرءون بلا استثناء - بل ويقرأ معهم كذلك غير القارئ - المقالة المحذوفة، والرسالة المبتورة، وقد يفهمون منها اكثر مما تفهم، ويحملونها من المعاني والأعراض، والآراء والأهداف، أكثر مما تحمل، وهذا حق لا ريب فيه. . .

إن هذا الإجراء الجديد، يثير في النفوس عوامل شتى، ويراد منا - والحوادث جارية، ونحن وسط الخضم بين مختلف الأمواج العاتية - أن نصمت صابرين، ولكن من لنا بصمت الصابرين؟!

من لنا بصمت لقمان الحكيم؟!

عبد الحفيظ أبو السعود

ص: 33

‌مصير الإنسانية في أيدي الشيوخ

عن مجلة (العلم والحياة) الفرنسية

كانوا قديما يتساءلون: ماذا نفعل بالشيوخ؟ أما اليوم فيجب أن نتساءل: ماذا عسى أن يفعل بنا الشيوخ؟

يؤخذ من الإحصاءات الرسمية أن متوسط الحياة البشرية في عصرنا أصبح يتراوح بين الخمسين والستين من الأعوام، وقد كان لبضعة عقود خلت نحو الخمسة والثلاثين. وهذه الزيادة ترجع إلى تقدم الطب وانتشار الوسائل الصحية وتحسين طرق المعيشة ونحوها. وقد لوحظ أيضا لعوامل ذاتها نقص كبير في وفيات الأطفال بجميع أنحاء العالم حتى في أكثر البلدان انحطاطا

والواقع أن مصير العالم هو اليوم في أيدي هؤلاء ألا شيوخ الذين يفرضون على الشعوب إرادتهم ويلبسونها الأثواب التي يفصلون. وهم ولا جدال أولياء الأمر يأمرون وينهون في الشؤون السياسية والحربية والفنية والأدبية والعلمية وغيرها. إنهم جاوزوا الستين من العمر فبلغوا حد الشيخوخة؛ غير أن هذا الحد سيمتد كلما ارتفع متوسط العمر البشري. فالمرأة في أوائل هذا القرن كانت تدعى عجوزا وهي بعد في الثلاثين أو الخامسة والثلاثين؛ والرجل الخمسيني كان يعد شيخا، أما اليوم فلو دعونا امرأة خمسينية عجوزا ورجلا ستينيا شيخاً لغضبا وحقهما أن يغضبا؛ لأنهما لا يزالان يحتفظان برواء الشباب ونشاطه. أما اليوم فلو دعونا امرأة خمسينية عجوزا ورجلاً ستينيا لغضبا شيخاً وحقهما أن يغضبا؛ لأنهٍما لا يزالان يحتفضان برواء الشباب ونشاطه. أما القول بأن الحياة تبتدئ في الأربعين فسيخلفه بعد وقت قريب تحديد آخر فيقال إنها تبتدئ في الستين أو السبعين

إن هذا العصر الذي يدعى بحق العصر الذري لا بأس أن ندعوه أيضاً

عصر الشيوخ. وما الشيوخ إلا رجال يجمعون إلى الحزم والحنكة انشاط وصفاء الذهن. ولنا أمثلة عديدة في الذين يملكون زمام الأمر ويديرون شؤون الشعب، فالملك هاكون السابع، كان عمره فوق السبعين، وابن السعود هو اليوم في العقد السابع، والمرحوم عبد الله ملك شرقي الأردن كان عمره حين قتل 89 سنة، وستالين الذي يبسط سلطانه على بضع مئات من الملايين يحمل على كتفيه 72 حولا، ومستشاره للشؤون الخارجية أندره

ص: 34

ويشنسكي بلغ الثامنة والستين، وتشرشل الذي قاد الحلفاء إلى النصر في الحرب الأخيرة دخل في السابعة والسبعين، ولكل من ويزمن رئيس إسرائيل وهربرت هوفر رئيس الولايات المتحدة سابقا سبعة وسبعون عاما، وكارلوس سفورزا وزير خارجية إيطاليا في الثامنة والسبعين، وأدوار هريو رئيس المجلس الفرنسي في التاسعة والسبعين، وكونراد أدنور مستشار ألمانيا الغربية في الخامسة والسبعين، وماك آرثر ومرشال القائدان الأميركيان في الواحدة والسبعين، ودي جسباري رئيس وزارة إيطاليا في السبعين، وكلامنت أتلي رئيس الوزارة السابق البريطانية أتم الثامنة والستين، ورئيس جمهورية فرنسا فنسان أوربول وهاري ترومان رئيس الولايات المتحدة وروبرت شومان في السادسة والستين، وبين قادة البشر يعد شان كاي شك أحدثهم سنا فعمره اليوم 64 سنة

فمن الشواهد المتقدمة يتضح لنا أن مقاليد الناس هي ولا جدال في أيدي شيوخهم

وفي الميدان العلمي تجد أبرز الوجوه وجوه الذين ندعوهم مسنين مما يبرهن على أن للعمل العقلي علاقة بطول العمر. ففي الأكاديمية الفرنسية عشرة أعضاء جاوزوا الثمانين منهم الأميرال لاكاز الذي تعدى حدود التسعين. وفي أكاديمية الفنون نذكر جان روي الذي بلغ الواحدة والتسعين. وفي أكاديمية العلوم والآداب والسياسة سبعة أعضاء قطعوا الثمانين أكبرهم الأستاذ تروشي وعمره 88. وللأستاذ هرتمن من جامعة الطب 92 سنة، ولجوستاف شربانتيه من مجمع الفنون الجميلة 91 سنة

وبين العلماء الطاعنين في السن نذكر مخترع السينما أوغست ليميار وهو الآن في التاسعة والثمانين، وأستاذ التشريح فلورنس سابان في الثمانين، والطبيعي شارل أبول في التاسعة والسبعين، والفلكي هنري روس في الرابعة والسبعين، وألبير أنشتين صاحب نظرية النسبية في الثانية والسبعين، والتوأمان بيكار وجان أوغست الطبيعيان المشهوران في السابعة والستين. ويحسن أن نذكر في هذا المجال بطل الصحة الأستاذ أميل مال من الأكاديمية الفرنسية الذي بلغ الثمانية والثمانين دون أن يمرض في حياته إلا مرة واحدة بالحمى التيفوئيدية وهو في سن الواحدة والعشرين. وفي رأي هذا الأستاذ أن العمل هو وحده الذي يحفظ الصحة ويطيل الحياة. وقد يظهر هذا الرأي لأول وهلة غريبا. أما الحقيقة فهي أن العمل ينشط القوى ويوقظ قبل كل شيء الرغبة في الحياة. ومن الطبيعي

ص: 35

أن القوى الجسدية تتهدم كلما تقدم الإنسان في العمر؛ غير أن القوى العقلية تزداد نشاطا وصفاء بفضل التمرين والاختبارات الماضية. وعلى هذا فالإنسان الذي يزاول الأعمال اليدوية تنحط قواه العضلية عند بلوغه حدا من العمر بخلاف من يزاول الأعمال العقلية فإنه يشعر في ذلك الحد نفسه أنه أشد نشاطا وأصفى فكرا. وقد فرض نظام التقاعد على البالغين الثامنة والستين مع أنهم يكونون في هذا السن في أوج نشاطهم العقلي. ولو أن نظام التقاعد يراعي بحذافيره في كل البلدان لكان عدد كبير من الموهوبين مقعدا عن العمل. نذكر منهم في عالم الفنون الموسيقي المشهور جان سيبيوس وعمره اليوم 86 سنة، والمصور فرانك برانغوين 84 وتوسكانيني 84 وبول كارد 82 والمصور هنري ماتيس 82 واوغدن بتري 80 وبيكاسو 80 وكوربيزيه المهندس الشهير 74 والموسيقية راندا لندوسكا 74

وفي فن التمثيل السينمائي نقتصر على ذكر اتيل باريمور وعمره 74 وساشا غيتري 66 وبوريس كارلون 64 وموريس شفالييه63 وشارل شابلن 62 وكودرينس 62

ومن هذه الأمثلة التي سردناها لا يجرؤ أحد أن يسأل: ماذا نفعل بالشيوخ؟

ص: 36

‌رسالة الشعر

على ضفاف الليالي

للأستاذ محمود محمد سالم

وقفت على الشاطئ أرقب عودة الملاح التائه في غياهب الحياة وأترقب الزورق الساري في أنهار الأبدية. . يحدوه الأمل. . في الوصول. . ولكن:)!!

على ضفاف الليالي

وقفت حيران أشدو

ولا بن جنبي خفق

وملء بردي وجد

وأدمعي حائرات

واليأس بي مستبد

وحولي الليل بحر

به من الصمت مد

كأنما أنا فيه طيف

إلى الموت يغدو

أجري وراء الأماني

والموت خلفي يعدو

حتى مضى بي قبل

وسوف يلحق بعد

وسوف أفنى وتفنى

مشاعر لا تحد

ويصبح الناس عندي

سيان مولى وعبد

فلست أبغض خصمي

ولا الحبيب أود

إذ سوف أغدو خيالا

في الوهم أولا أعد.!

فيا ضفاف الليالي

أما لبحرك حد!

وما لقلبي حزينا

على ضفافك يشدو!

على ضفاف الليالي

رأيت طفلا صغيرا

يلهو ويلعب حتى

ليملأ الكون نورا

حياته سلسبيل

جرى وفاض نميرا

لا الشوك يدمي يديه

إذا أراد الزهورا

بل الزهور الحواني

إليه تهدي العبيرا. .!

في أمه وأبيه

يرى الفضاء الكبيرا

فما يحاول شيئا

إلا أتاه يسيرا

ص: 37

جرى الزمان سريعا

به وحث المسيرا

فأظلم الدهر منه

ما كان بالأمس نورا

وحول النور نارا

وأصبح الطهر زورا

والضحك عاد بكاء

والسهل أمسى عسيرا

واليوم يشكو ويبكي

مستعبرا مستجيرا

على ضفاف الليالي

يبكي بكاء مريرا

فيا ضفاف الليالي

أما لبحرك حد؟!

وما لقلبي حزينا

على ضفافك يشدو. .!

على ضفاف الليالي

هتفت: أين شبابي. .؟

وأين مني حبيبي

وأين عهد صحابي. .!

وأين مسرح حبي

أبثه اليوم ما بي. .!

وأين أين دموعي

ولهفتي واغترابي. .!

إني أحب دموعي

إني أحب عذابي

ولهفتي قد تولى

من كان ضوء شهاب. .!

وعاد حلما بعيدا

لمحته في الضباب

وصار أمسي ذكرى

تلوح لي كالسراب. .!

فكيف ولى حبيبي

وكيف غاب صحابي

وكيف بالله ولوا

وأسرفوا في الغياب

كانوا هنا فتولت

سعادتي في الركاب. .!

فيا ضفاف الليالي

أما لبحرك حد

وما لقلبي حزينا

على ضفافك يشدو

على ضفاف الليالي

بزورقي قد سريت

لمحت طيفا جميلا

من المنى فجريت

ما زلت أزجي شراعي

في اليم حتى مضيت

فما بلغت بعيداً

في اليم حتى أنثنيت

ص: 38

ولاح فجر الأماني

لخاطري فانتشيت

وقلت قر شراعي

من رحلتي ونجوت

وأترع الحب كأسي

من خمره فاحتسيت

حتى أفقت عليلا

من نشوتي وصحوت.!

واحزنا قد طواني

ليل الأسى فانطويت

على ضفاف الليالي

بكيت ثم بكيت

فما أفاد بكائي

وما شفتني (ليت)

فيا ضفاف الليالي

أما لبحرك حد!

وما لقلبي حزينا

على ضفافك يشدو.!

محمد محمود سالم

ص: 39

‌حين ينظم الشاعر

لشاعر اليمن الأستاذ محمد محمود الزبيري

أحس بريح كريح الجنان

تهب بأعماق روحي هبوبا

وأشعر أن القوافي تدب

كالنمل ملء دماغي دبيبا

فهذا يزوغ وهذا يزوغ

وذلك يذعن لي مستجيبا

وذاك يفارقني يائسا

وهذا يواعدني أن يؤوبا

ومنها أوزع للعالمين

طهرا وأنشر في الأرض طيبا

أخلف منها لقاح النهى

وأنجب للأرض منها شعوبا

حروف الروى بها نطفة

ترعرع بيتا عريقا نسيبا

أسلم نفسي لها ذاهلا

حريصا عليها بشوشا طروبا

وأصغي لها هادئا تارة

وأصرخ حينا عبوسا غضوبا

ولولا اهتدائي لسر النبو

غ وأعراضه لطلبت الطبيبا

محمد محمود الزبيري

ص: 40

‌الكتب

عهد جديد

تأليف الأستاذ شاكر خصباك

منشورات لجنة النشر للجامعيين بالقاهرة

للأستاذ سليم عبد الجبار

على الرغم من أن الأستاذ شاكر خصباك لا يزال في مطلع حياته الأدبية، فالقارئ المدمن، يدرك أثناء قراءته ل (عهد جديد) أن الأستاذ شاكر، قد أشرف على الطريق القديم في كتابة الأقصوصة الفنية

فالشخصيات التي تترادف في هذا الكتاب، تتخذ مادتها من الحياة الواقعية المألوفة، ومن الطبقة الوسطى، على الأخص، ولكننا نلمس خلال قراءتنا، أن تلك الشخصيات، ليست بالشخصيات التي تتراءى لكل عابر سبيل، يرمقها بعينيه، فلا يتجاوز، بنظراته، هذه الأجسام المادية المحدودة الصورة، بل نراها، أثناء حركتها وسكناتها، وأثناء هدوئها واضطرابها، تتجاوز هذه الحدود، لتكشف لنا ما وراءها، ما وراء هذه الأجسام، من نفوس إنسانية متغايرة، متشابكة، تتجه كل منها، في سبيلها التي أريد لها، أو - على الأصح - نحو سبيل اختارته طبيعة نفسيتها، وما ابتغته تلك الطبيعة من انبثاقات خاصة

فغضب الأب في (عهد جديد) وهي الأقصوصة الأولى، يرينا بكل وضوح تلك النفسية القلقة الحمقاء (الطيبة رغم ذلك) التي تغضب للاشيء، وسرعان ما تفئ من غضبها، فإذا هي نادمة واجمة، يتراءى لنا من خلال دموع (زينب) ووجوم (فطيمة) ذلك الحنان الهادئ العميق، الذي جبلت عليه إخواننا

وغضب نجم، وتركه لأهله، هو الأخر، احتجاج، أكيد، صارخ، لما ينتاب النفوس الحساسة الأبية، من ظلم محيط متراكم، ليس لدفعه من سبيل، إلا بمثل هذا الاحتجاج

كما تصور لنا أقصوصة (الرهان) تلك التضحية، التي يقدم عليها الأباء، في سبيل مستقبل أبنائهم، في مجتمع يقوم كل ما فيه على الاستغلال، والعبث بمصائر البشر

فالتضحية التي قام بها (حمود) لكي يتيح لابنته مستقبلا آمناً، والتي كلفته التضحية حياته،

ص: 41

كانت بالنسبة للآخرين مجرد لهو يلهون به

ومثلما صورت لنا هذه الأقصوصة، هذا الجو المظلم، التعس،

صورت لنا أقصوصتا (المنزل رقم 54) و (أعوام الرعب)

جوانب مظلمة، قاسية، من جوانب هذا المجتمع المنهار

فأقصوصة (المنزل رقم 54) أبرزت لنا من زاوية خاصة، أثر

المال في تثمين الحياة الإنسانية، فإعطائها قيمتها الآنية. فتحكم

صاحب الدار، وعدم اكتراثه بحالة ساكني داره رغم ابتزازه

منهم، الضريبة الشهرية، وخضوع هؤلاء لسطوته، وتلون

حياتهم البائسة، وفق ما تضطرهم إليه هذه الحالة، من جهة،

وموقف الشاب من ابنتهم، ومن أهله، من جهة أخرى، يحيطان

بأتعس ما يمر على الإنسان، من ذل مقيت، وخضوع ظالم،

تتحول بهما الحياة الإنسانية إلى ما يقارب الحياة الحيوانية،

يزيدها مرارة، وألماً، شعور الإنسان بكرامته، وحقه في عيش

أصلح

وما إن نصل إلى نهايتها حتى يدركنا جمود فكري صارم، مرده إلى تلك النهاية الأليمة التي تحرت أليها (العائلة) نتيجة لتهدم دارها، فإذا ما تعلق مصير الإنسان ببضع قطرات تسقط من السماء، فتكفي لانهياره، تحت التراب. فأي قيمة لمثل هذا الإنسان، وأي معنى للحياة التي يحياها؟!

أما (أعوام الرعب) فقد صورت لنا، بطريق حاد، شائك ما يعانيه الشعب العراقي اليوم، من

ص: 42

مآس دامية، وما يجتاز من أهوال شداد، في سبيل تحقيق حريته، وإنسانيته، وما يلاقيه في سبيل هذا التحقيق من انتقام عات ظالم، كما صورت التباين الشاسع بين عقليتين، تلتفتان لأمور واحدة، عقلية مؤمنة صاعدة (الابن) وعقلية، أشرفت على المشيب والتدهور (الأب) فخضوع الأب، واستسلامه، الناجمان عن الجهل وأساطير، يقابلهما الوعي العلمي الذي يتحسسه الابن، وكفاحه الجبار، الأوحد المؤدي إلى النهاية التي لا ريب فيها. فهي تعطينا في فلتة نادرة، اعمق العواطف الإنسانية المحتشدة في الينبوع الآسن

ومثلما صورت لنا (أعوام الرعب) الوعي الإيجابي المتغلغلفي دماء (الابن) طورت لنا أقصوصة (صديقي عبد علي) الوعي السلبي لذي يراود القلوب الجاهلة، والذي تمثل في العطار (عبد علي). فاهتمامه بالانتصارات الألمانية، وتهليله له، وتتبعه للانتكاسات البريطانية، وتشفيه منها يلفتان نظر القارئ المخلص، إلى تلك الناحية الخفية (فعبد علي) مثال لتلكالشخصيات المتعصبة، التي رأيناها في فترة الحرب، ولم نفهمها يومذاك. فهي في تحسسها الخاطئ، باعتمادها على أجنبي أخر، لا تقصد إلا إنقاذ بلادها، مما هي عليه، من جوع واضطهاد، فظنها الخاطئ، وعقليتها المحدودة الثقافية، توحيان لها أن الألمان ما داموا أعداء للإنكليز، فهم أصدقاء لشعوب المبتلاة بسطو (البارون) ومحرريها

وأقصوصة (بدر بنت عمي) هي الأخرى تعطينا، جانبا مظلما، من جوانب هذا المجتمع، بما فيها من تحجر وعبودية، فحب العذراء لشخص غريب عنها، واغتنامها لبعض الأمسيات الوادعة، تقضيها في التطلع - على بعد - إلى حبيبها، جريمة لها جزاءها الرادع، عند ابن العم الغيور. وهل غير لقتل من جزاء

على أننا نلاحظ أن (لخاتم الماسي) أقل نجاحا من الأقاصيص السابقة، وسرها أنها فاقدة الحركة، وعقدتها - كما يعبر الاصطلاحين - ساذجة. فقد حاول الأستاذ شاكر أن يسرد لنا في أقصوصة هذه (الأفكار) التي راودت بطل القصة، عندما عرض عليه (أحدهم) أن يشتري خاتما ماسيا، ومهما تكن حقيقة هذه الأفكار، ومن تطرقها للعدالة المطلقة، وصلاحية العقاب الاجتماعي، فهي تظل كما قلنا، وما ذاك إلا لأن (الفكرة) يجب أن تتواري، في الأقصوصة وسائر الأعمال الفنية - بحيث تدرك أهدافها وانية، وبطيئة، فشخصيات الأقصوصة إذا ما أصبحت رموزا يلتقطها الكاتب إدارة أفكاره، تفقد قيمتها، ويبهت الإطار

ص: 43

وكذلك (الأغلال) فهي إلى الخيال أقرب، ولعدم واقعيتها، نستبعدها، فما في كل يوم نلحظ حمالا (صبيا) يكتري بخبزه اليومي، دراجة ليتعقب خطوات حبيبته الأرستقراطية، المترفة، وما في كل ليلة نلحظ وقوف مثل هذا الحمال تحت شرفة حبيبته. على أننا نستثني نهايتها فهي يتفق والواقع

ولم يبق لدينا إلا أقصوصتان الأولى (الدخيل) ونراها ذات صبغة علمية بحت (تستند إلى مفاهيم علم النفس) فمن المستبعد أن يبلغ الإدراك في طفلة لم تتجاوز السادسة لمثل هذا الحد، فالغير لا تتبلور إلا في سن المراهقة!

والثانية (قلب كبير) فهي مريحة القراءة، موفقة في تحليل نفسية الفتاة الغربية المراهقة، ولعل أعمق ما فيها تصويرها لفتات الفتاة، ونظراتها إلى صاحبها أثناء التقائه (مصادفة) بصويحباته، العابرات

ونظرة موحدة إلى أسلوب الأستاذ شاكر تعطينا ما نريد، فقد سار بطريق عرض موحد، إذ ألقى في كافة الأقاصيص، مهمة (العرض) إلى أبطال الأقاصيص نفسها، فكل واحد منهم يقص (قصته) وهذه الطريقة لها ميزاتها الخاصة، وموفقة في التحليل النفسي، إذ توهم القارئ أن البطل (المتكلم) قريبا منه كأنه يسر إليه خاصة بهمومه، ولو حاول الكاتب أن (يتملص) في بعض أقاصيصه من هذه الطريقة لكان عندي أحسن، فللتنويع اهميتة، لئلا يتداخل الملل في نفس القارئ، ولئلا يلمس الرتابة في العرض

وجمل الأستاذ واضحة العبارة، مألوفة، فلا التواء في للتعبير ولا تعقيد في المعنى، ومحاولة الأستاذ في تفصيح العبارات العامية العراقية وإدخالها في أقاصيصه محاولة ناجحة، بارزة الإيماء، إذ أدخلت على الأقاصيص جوا واقعيا، نابضا، والحق أن أهم مشكلة تواجه القصاص، هو هذا التباين الصارم بين لغة الكتابة ولغة التخاطب، فإذا ما أراد الكاتب إدارة (حواره) باللغة العامية، تقلصت دائرة قراءتها، وأصبحت محلية، وإن يفقد بذلك أعز ما يتاح للأديب، اعني إبراز الروح الكامنة وراء الألفاظ، وفق ما يتداولها الناس، وإزاء ذلك، فمحاولة الأستاذ محاولة تنعش أدبنا المتكاسل وتزيده كمالا

ونود أن نشير إلى تلك اللوازم التي يلتزمها بعض أبطال الأقاصيص، ففي حياتنا كثيرا ما نشاهد مثل تلك اللوازم، تتكرر، بصورة لا إرادية أثناء الأحاديث، وقد تبلغ مرحلة من

ص: 44

السيطرة بحيث يعجز صاحبها أن يسترسل في كلامه، إذا ما حاول إسقاط تلك اللوازم، وهي وإن وردت في بعض الأعمال الفنية العظيمة (مثل الشيء الصغير)، فهي جديدة على أقاصيصنا العربية، ولها دلالتها الخاصة في خلق جو حيوي ملائم

هذا وعهد جديد يمثل مرحلة انتقال في الأقاصيص العراقية فللمؤلف شكرنا

بغداد

سليم عبد الجبار

ص: 45

‌البريد الأدبي

أنا مع سيد قطب

لما كانت المعركة الأولى (سنة 1938) كنت مع الأستاذ شاكر علي

الأستاذ قطب، فكيف أكون الآن مع قطب على شاكر؟ ذلك لأني دائماً

مع ما أرى أنه الحق. والأستاذ شاكر صديقي من ربع قرن، والأستاذ

قطب رفيقي على مقاعد الدرس في دار العلوم من ربع قرن، وليس بي

الآن مدح ولا هجاء، ولا إغضاب ولا إرضاء. ولكن بيان الحق الذي

أراه، ولعلي مخطئ فيما أرى

وأنا اعلم أن للصحابة منزلة لا يدنو منها أحد منا، وإننا مهما سعى الصالحون منا فإنهم لا يلحقون غبار أحدهم، فضللا عن أن يحاذون أو يسبقوه. وإن لبني أمية في نشر الإسلام وفي فتح الفتوح فضلا لا ينكره أحد، وأنه كان منهم عظماء حقا إن عد عظماء الرجال، ولكن هل كانت دولة بني أمية دولة إسلامية؟

لقد هدم معاوية أكبر ركن في صرح الدولة الإسلامية حين أبطل الانتخاب الصحيح، وجعله انتخاباً شكلياً مزيفا، وترك الشورى، وعطل الكفايات، وسن هذه السنة السيئة، بل هذه الجناية التي جرت أكثر البلايا، والطامات التي تملا تاريخنا السياسي، فهل نقول لمعاوية: أحسنت في هذا؟ بل إني لأسأل، هل يقول هذا محمد رسول الله صلى الله عله وسلم لو كان حيا؟ إن معاوية صحابي جليل، وله مناقبه وفضائله، ولكن حكم الدين على الجميع، ومقاييس الإسلام بها كل كبير، فهل كان معاوية في عمله هذا متبعا أحكام الإسلام؟

هذه واحدة وإن كانت بألف

وهذا الاستبداد، والحكم الفردي، الذي سار عليه ملوك بني أمية، وتحكيم آرائهم وشهواتهم في مصلحة الأمة، ودماء أفرادها وأموالهم، دون تقيد بكتاب أو سنة، أو رجوع إلى علم أو فقه هل هو من الإسلام؟

واختيارهم شر الولاة، من الطغاة الظالمين، وتحكيمهم في رقاب الناس، هل هو من الإسلام؟ هل يقر الإسلام تولية مثل الحجاج على رجوته وعظمة نفسه، وخالد لقسري،

ص: 46

وأمثالهما من الجبارين؟

وإثارتهم العصابات والخلافات، بين القبائل وبين الشعراء وتمهيدهم سبيل اللهو والاستهتار، لأنفسهم وللناس، ولا سيما جيران بيت الله، وأهل مدينة رسول الله؟

وعدوانهم على الحريات، وعلى المقدسات، وقتلهم العلماء من أمثال الحسين وسعيد بن جبير، وإيذاؤهم سعيد بن المسيب، وضربهم الكعبة بالحجارة وبالنار، هل هو من الإسلام؟

إن هذه كلها أشياء ثابتة، لم يفترها عدو، ولم يضعها خصم، وهذه كلها تناقض الإسلام أشد التناقض، بل إن بعضها لم تأت بمثله الجاهلية الأولى

وما كان عليه العباسيون، ومن جاء بعدهم، من الطغيان والعدوان على الأنفس والأموال، واتباع غير سبيل الهدى، كل ذلك يسأل عنه بنو أمية، لأن من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ومن عمل بها إلى يوم القيامة

وأنا اكبر بني أمية. وامجد آثارهم، وارفع أقدارهم ولكن لا أستطيع أن أقول إن دولتهم كانت دولة إسلامية، لأني أكون قد مدحتهم بذم الإسلام، والإسلام أحب إلي واعز من بني أمية، وبني هاشم، وأهل الأرض جميعا

دمشق

علي طنطاوي

إبراهيم الواعظ

قرأت بإعجاب ما كتبه الأستاذ إبراهيم الواعظ في الرسالة بالعدد 971، فتذكرت ماله عندي من يد بيضاء يوم كنت أعمل بمدارس العراق الشقيق سنة 1942، وحق على بهذه المناسبة أن أقدم لقراء الرسالة فذة في مجال الفكرة الإسلامية

تعرفت عليه ببغداد، وكان من صفوة القلة الذين أنست إليهم في مختلف الأحاديث التي كنا نطرقها في ندوة كانت تضم حسن بك سامي وزير العدل السابق، فنتحدث فيما يهمنا من شؤون الثقافة

وعرفت الأستاذ الواعظ محاميا له بين قومه، مكانة مرموقة بما تميز من اطلاع واسع على التراث الإسلامي، وعناية فائقة بالقضية العربية

ص: 47

واختير أخيرا ليكون مستشارا للجامعة العربية وهو اليوم مقيم بالقاهرة، ولقد صادف هذا الاختيار أهله

وفي الحق أن الجامعة العربية قد ضمت إلى كتيبتها العاملة رجلا لله قدم راسخة في شتى الميادين: فهو المحامي الشهير، والمحاضر الممتاز في الإذاعة العراقية وقاعة الملك فيصل، ثم هو شاعر، ومؤرخ ولغوي، وكاتب مسرحي، وله في عالم التأليف أثر محمود

قرأت له (مدرسة محمد) وهو مسلسلة من إذاعاته عن أعلام الإسلام، واذكر أنه قد أعلن عن مجموعة طبية من المؤلفات تحت الطبع منها (معاوية) و (قصة الغرأنيق) و (سورة الفيل) و (حديث القرطاس) و (المقتنى) كما أعلن عن مسرحيتين شعريتين هما (فتح مصر) و (الزباء)، وما أدري أن كان بعضها قد نشر أم لا

وعسى أن تحظى دور النشر في مصر بهذه النفائس لتذيعها في الناس لتعم فائدتها، لما عرف الأستاذ الواعظ من اقتنائه لأثمن الكتب العريقة، وصبره على التحليل والتدقيق، وبراعته في التبسيط والعرض، أرجو أن تسعىإليه الإذاعة المصرية، والجامعة الشعبية، والنوادي الثقافية، والجمعيات الدينية، والمجلات الأدبية لتنال حظها من علمه الغزير وأدبه الأصيل

محمد محمود زيتون

الأسوة الحسنة. . .

قال دولة رئيس مجلس الوزراء لبعض الصحفيين إنه سيعمل على تحقيق العدالة، وأنه لن يحابي أحدا، ولو أن ابنه خلاف القانون لذبحه!. . .

وهو بهذا يتأسى بالرسول الكريم، صلوات الله عليه وسلامه، يوم جاءه أسامة بن زيد (يتشفع للمخزومية، فقال له عليه الصلاة والسلام:

- أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟. . . ولله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها!. .

وبهذا وضع محمد عبد الله، عليه أفضل الصلاة والسلام، اللبنة الأولى في أساس العدالة الاجتماعية، ومبادئ الديمقراطية الإسلامية الصحيحة

ص: 48

عيسى متولي

ليس هذا تجديدا

يحلو لكثير من أفذاذ الكتاب أن يستعملوا كلمة (آونة) على أنها لفظ مفرد ظانين أن هذا نوع من التجديد في اللغة العربية وما هو من التجديد في شيء. والواقع أنه خطأ كبير انزلقت إليه براعة الكاتبة الفضلى الدكتورة بنت الشاطئ في أحد تعليقاتها على الكتاب الجديد ولم أشأ أن أتعرض له في حينه، ولكن تكرر هذا الخطأ من الأستاذ الكبير الصاوي بك في أهرام 19 مارس سنة 1952 فلام أجد مناص عنالتنبيه إليه، أو على الأصح من تكرير التنبيه إليه، لأني كنت قد نشرت تصحيحا لهذا الخطأ منذ أكثر من عامين وقلت فيه أن كلمة (آونة) جمع مفرد أو أن مثل أزمنة وزمان لفظا ومعنى. وأني كرر هذا التصحيح ما دام التكرير في مثل هذا المقام يحلو

ص: 49

‌القصص

البعث

للكاتب الفرنسي جي دي موباسان

- 1 -

لم يكن هناك في قرية (فيكامب) من يجهل تاريخ الأم (باتان) الحافل بألوان الشقاء. . . كما لم يكن يختلف اثنان في الحكم على قسوة معاملة زوجها لها طيلة حياته

اتخذها باتان زوجة له منذ عدة سنوات حين كانت في نضارة الصبا وقد حباها القدر بقسط وافر من الجمال والجاذبية. . . في حين كان هو بحاراً ماهراً عملاقاً اعتاد الذهاب إلى حانة العجوز (أوبان) لتناول أربع أو خمس كؤوس من الكحول. ولم يكن ذلك هو الحد الأعلى لملء فراغ معدته. . . بل كثيراً ما أرتفع ذلك الرقم إلى ثماني أو عشر كؤوس. . . ربما زادت على ذلك قليلا إذا ما كانت صفقة صيده رابحة. وكانت ابنة أوبان هي التي تشرف بنفسها على خدمة رواد الحانة الذين أسرتهم عيناها الحالكتا السواد، وامتلكت أفئدتهم بقوامها الرائع المشوق

ويوم جاء باتتا إلى تلك الحانة للمرة الأولى. . . واكتفى بإطالة النظر إلى الفتاة في شوق وحنين وهو يشير إليها من طرف خفي. وازدادت فتنتها في عينه حين ارتشف كأسه الأول. . فما كاد يأتي على الثانية حتى كان يلتهمها بعينيه في نشوة وشراهة. . واستقرت محتويات القدح الثالث في جوفه فتمتم قائلا دون أن يتم جملته (لو كان إمكانك فقط أيتها الآنسة ديزيري. . .)

ومع فراغ القدح الرابع كان باتان ممسكا بثوب الفتاة وهو يحاول تقبيلها

وتعددت الكؤوس. . واكتملت عشرا. . وحينئذ أرسل وبان العجوز أبنته إلى الخارج وراح هز بنفسه يشرف على خدمة البقية الباقية من زبائنه الساهرون. كان أوبان رجلا حاذقا لا تخفى عليه خافية. . . فكان يترك ابنته تنتقل برشاقتها لإغراء الزبائن حتى يستزيدوا من خمرة تاركها لها مطلق الحرية في توزيع ابتساماتها الرائعة وإرسال سهام عينيها إلى أفئدة المخمورين، وهو واثق منها كل الثقة دون أي محاولة من جانبه اكتشاف سر ذلك البريق

ص: 50

الذي في أغوارهما كلما حاولت امتحان عواطفها إزاء رجل من زبائن الحانة

واصبح وجه ديزيريه مألوفا دى باتان من طول تردده على حانة أوبان. . فكان يراها ماثلة أمامه وهو في موكب صيده ناشرا شباكه في المياه الهادئة أو الصاخبة على حد سواء. . أو كان بتخيله تومئ إليه في حلكة الليل الساجي، أو تحت ضوء القمر الفضي الساهر. . فكان يطيل التفكير فيها. . وكم كان يهنا بذلك التفكير وهو جلسته عند مؤخرة المركب، ويده مستقرة على سكانه. . بينما ارتكزت رؤوس بحارته الأربعة على أيديهم وقد راحوا تحت تأثير نومة استسلام هادئ لذيذ بعد إجهادهم اليومي المرهق. . وفي كل تلك الحالات التي كان يتخيلها فيها. . كان يراها تبتسم إليه وهي ترفع يدها لتملأ كأسه بالرحيق الملون هامسة وهي تتأهب للابتعاد عنه:

أليس ذلك هو كل ما تطلب؟

أحس أخيرا أنها أصبحت تشغل حيز تفكيره كله. . فلم يستطيع كبت تلك الرغبة التي كانت تلح عليه في أن يتخذها حليلة له، وطلب يدها من أبيها

وأجيب باتان إلى مطلبه: فقد كان يمتلك مركباً وشباكا علاوة على منزل بالقرب من الميناء. . وفي حين كان أوبان العجوز لا يمتلك شيئا. . وتمت معدات الزفاف دون تأخير

انقضت ثلاثة أيام أستيقظ بعدها باتان من الحلم الذي كان يعيش فيه، وهو يعجب كيف أنه اعتقد يوما أن تلك الفتاة ديزيريه تختلف في شيء عن غيرها من النساء. وابتدأ ينعت نفسه بالجنون، ويعيب عليها ضعفا وخضوعها لذلك القيد الذي قيدت نفسها. . القيد الأبدي الذي استسلم إليه تحت تأثير الخمر. . . نعم؟ لقد كان الخمر هو السبب في ذلك الزواج. . . الخمر التي كان يعتقد اعتقاداً جازما أن الفتاة قد مزجتها ببعض العقاقير السحرية للإيقاع به

ولم يكف باتان عن سب نفسه طوال ذلك الوقت. . وما كاد يصلإلى ذلك الحد من التفكير حتى ألقى فضلات التبغ المتبقية في غليونه؛ وراح ينقل أسماكه الواحدة إثر الأخرى، وهو يغمغم غاضبا

وعندما بلغ منزله وجد زوجته - ابنة أوبان العجوز - قابعة هناك كعادتها. فلم يحيها بحرف. بل راح بكيل لها ألفاظ السباب الحادة. . فقابلتها الفتاة بأحد منها، إذ كانت طبيعة والدها الهمجية متأصلة فيها، وكان ذلك مما يزيد في غضب زوجها وإيلامه. ولكن تلك

ص: 51

الآلام لم تبلغ الذروة إلا في تلك الليلة التي اعتدى عليها فيها بالضرب

وخلال السنوات العشر التي تعاقبت بعدئذ. . . لم يكن هناك من حديث يدور بين أهل الميناء إلا عن تلك المعاملة القاسية التي كان يتبعها بانان مع زوجته، لا لشيء إلا لأنه كان موهوبا بالسليقة بلهجة في سبابة لم يكن هناك في فيكامب من يضارعه فيها

وعاشت المرأة المسكينة في جو من الخوف والرعب عشر سنوات كاملة اعتادت أثناءها الوحدة والسكون، عشر سنوات كاملة فيها الكفاية لتجعل منها هزيلا يشبه هيكلسمكة صغيرة جافة

- 2 -

استيقظت امرأة فجأة ذات ليلة على صوت أنين أرياح وهمهمة ريا ح البحر. . فجلست على فراشها وراحت أفكارها تتجمع في نقطة واحدة حتى تركزت في ذكرى زوجها الغائب في مركبه وسط العاصفة، وقفزت من الفراش ثم هرولت نحو الميناء التي كانت قد امتلأت بجموع النساء وقد حملن في أيديهن المصابيح ينرن الطريق لرجال الذين هرعوا بدورهم إلى هناك لمحاولة نجدة من يحتاج إليهم من الصائدين. . وظلوا محدقين في المياه السوداء الممتدة في جلال وروعة وقد بدت أشباح مراكب الصيد الصغير وهي ترتفع وتنخفض فوق أمواج الصاخبة، ودامت العاصفة خمس عشرة ساعة

وكان من نتيجة ثورة الطبيعة أن أحد عشر صائدا قدر عليهم ألا يعودوا إلى منازلهم أبداً. وكان باتان من بينهم

وقذفت الأمواج بحطام سفينة باتان (أميلي الصفراء) إلى أحضان شاطئ (سان فاليري) ولكنها لم تظهر أي أثر لجسد باتان

كان من أمكن أن يكون قد أصبح طعاما للأسماك. . كما كان من الممكن أن يكون قد انتشل من المياه وأبحر مع منقذيه إلى حيث يقصدون

وعودت المرأة نفسها أن نجا حياة الأرملة. . ولكنها إلى جانب ذلك لم تكن تمتنع عن استقبال سائل أو مسافر أو بحار داخل مخدعها

وانقضت أربعة أعوام على اختفاء رجلها

ومالت الشمس إلى المغيب. . وهبت نسمات باردة تنذر اقتراب الليل. . فزعت الأطيار

ص: 52

إلى أوكارها. . في حين كانت المرأة تسير في شارع (اليهود) وقد لفت نظرها منزل قبطان عجوز. . كان يقف ببابه (دلال) ينادي على أثاث المنزل لبيعه. . وفي تلكاللحظة كان الرجل ممسكا بقفص قد استقر فيه ببغاء وهو يهتف:

- ثلاثة فرنكات. . طائر يتكلم كرجل القانون. . فقط ثلاثة فرنكات

وتمتمت ديزيريه لصديق كان يتأبط ذراعها:

- يجب عليك شراؤه فسيكون لك نعم السمير. إنني واثقة من أن ذك الطائر يساوي ثلاثين فرنكا ثقتي من أنك تستطيع بيعه ثانية بعشرين أو خمسة وعشرين فرنكا

وارتفع صوت الدلال مرة أخرى قائلا:

هيا. . أربعة فرنكات أيها السادة. . أربعة فرنكات. . إنه يستطيع الترتيل، فياله من أعجوبة نادرة. وأخيرا. . ً. انتقلت ملكية الببغاء وقفصه لديزيريه بعد أن دفعت ثمنه لأربعة فرنكات وخمسين سنتما

وتمتمت المرأة بغضب لما رأت نقطة من الدماء تلوث يدها حين لامست رقبته وهي تضع له شيئا من الطعام في حجرتها

- يا الله. . لم اكن أعلم أنه جريح

وتوجهت إلى فراشها بعد أن وضعت للطائر شيئا من الطعام وإناء صغيرا مملوء بالماء

ولم تكن أنوار الفجر الوردية قد بدت بعد، حين تعالى إلى أذني مدام باتان صوت واضح جلي يقول:

- ألم تستيقظي بعد أيتها المنكودة؟

وقد رجع زوجها أخيرا. . فذلك الصوت صوته وتلك عادته في مناداتها إذا ما استيقظ في الصباح، وأحست برعشة تسري في عروقها فدفنت وجهها تحت الوسادة بينما راح جسدها يرتجف ارتجافا واضحا وهي تتمتم قائلة لنفسها:

- يا إله السموات. . لقد رجع ثانية وها هو إذ. . يالله ومرت بضع دقائق دون أن يعكر صفو السكون الشامل صوت. . فأخرجت رأسها من تحت الوسادة، كانت متأكدة من وجوده بالقرب منها يرقبها وهو على أتم استعداد للانهيال بالضرب كما كان في الماضي البعيد. . ولكنها لم تر شيئا غير أشعة الشمس التي ابتدأت تخترق زجاج النافذة، فهمست قائلة

ص: 53

لنفسها:

- لابد أن يكون مختفيا في مكان ما

وظلت تنتظر. . وطال انتظارها فعودها هدوئها وغمغمت:

- إنني لم أره. . إذاً. . لابد أنني كنت أهيم في وادي الأحلام

أغمضت عينيها مرة أخرى في اللحظة التي ارتفع فيها صوت باتان كالرعد قائلا:

ألا زلت نائمة أيتها الملعونة؟

وقفزت من فراشها وقد انتابها فزع المرأة المطيعة التي ظلت أربعة أعوام كاملة وهي ترزح تحت عبء الذكرى الأليمة. . ذكرى العذاب الذي كان يسببه لها صوت ذلك الرجل الكريه. . هتفت:

- ها أنا ذي يا باتان. . ماذا تريد؟

ولم يكن هناك من جواب

وتلفتت حولها في دهشة. . ثم أخذت تبحث في كل مكان. . لكنها لم يجد أحدا. . وتهالكت على مقعد بالقرب منها وهي تحس بروح باتان ترفرف فوق رأسها. . وأخيرا تذكرت الحجرة الصغيرة الإضافية الواقعة فوق حجرة الطعام. . لابد أن يكون مختبئا هناك في انتظار مفاجأتها. . ثم. . ثم العودةإلى نفس الحياة القاسية التي كانت تحياها من قبل. . ونظرت إلى سقف الغرفة وهي تقول متسائلة

- هلل أنت فوق يا باتان؟

ولم يكن هناك من جواب

وتسللت إلى الخارج فأحضرت سلما تسلقته ونظرت في الحجرة الصغيرة لترى. . لتراه. . ولكنها لم تعثر عليه. . فجلست على الأرض وابتدأت تبكي وهي ترتعد. ومن أسفل جاءها صوت باتان يقول:

- أي جو وأي رياح. .؟ إنني لم أتناول وجبة الصباح بعد وصرخت المرأة من أعلى من أعلى قائلة:

- إنني هنا يا باتان. . ها أنا ذي في طريقي إليك لأعداد طعامك فلا تغضب. . ها أنا ذي آتية وهبطت السلم بسرعة فائقة ولكنها لم تجد أحد بانتظارها

ص: 54

أحست بضعف مميت يغمرها من رأسها لأخمصي قدميها وفكرت في أن تهرع إلى الخارج مستغيثة حين ارتفع صوت باتان قائلا:

- إنني لم أتناول طعامي بعد أيتها ال. .

كان الببغاء في قفصه يتابع كلماته، وهو يحدق فيها بعينين كجمرتين

ونظرت إليه والدهشة تغمرها ثم تمتمت:

- إذا. . إنه أنت. وتكلم الببغاء ثانية وهو يحرك رأسه انتظري. . انتظري قليلا. . فسألقى عليك درسا لتكوني أشد كسلا منك الآن

أي أحاسيس شعرت بها المرأة في تلك اللحظة؟. لقد شعرت تماما أن الرجل الميت قد بعث مرة أخرى. . بعث حيا في هيئة ذلك الببغاء إذا. . سيعود مرة أخرى لإهانتها. . كما كان في الماضي وسوف لا يمر يوم بهدوء. . وجيرانها. . سيعودون حتما للهزء بها والسخرية منها

أسرعت المرأة نحو القفص ففتحته وأخرجت الطائر الذي راح يدافع عن نفسه بمخالبه فيدمي يديها. . ولكنها لم تعبأ به. . وتهالكت فوقه على أرض الغرفة. . وراحت بكل قواها تضغط على رقبته حتى سكنت حركته

لم يعد يتحرك، لم يعد يتكلم ولكنه كان مستكينا استكانة الأبد بين ذراعيها، وجمعت الريشات الخضراء المتناثرة هنا وهناك بيد مرتجفة ووضعتها مع الجسد المسجي على الأرض في لفافة صغيرة. . ثم هرولت إلى لخارج عارية وقذفت الحزمة الحاوية لل. . . للشيء الميت في مياه البحر الهادئة. . . فبدت كحزمة من البرسيم الأخضر طافيةفوق المياه الزرقاء

وعادت ألي حجرتها فركعت على ركبتيها أمام قفص الطائر الميت. . وراحت تبكي

كانت تشعرا أنها ارتكبت إثما. . وأثما هائلا كأكبر الجنايات وحشية. . فابتدأت تدعو لله أن يغفر لها!

ع. ج

ص: 55