الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 979
- بتاريخ: 07 - 04 - 1952
الشعوب الإسلامية تزحف.
. .
للأستاذ سيد قطب
أشد ما أفلح فيه الاستعمار في بلاد العالم الإسلامي، هو خلق تلك الطائفة من (الببغاوات) التي تردد أسطورة فصل الدولة عن الدين، وإبعاد الدين عن الوطنية!
لقد أمن الاستعمار واطمأن منذ أن أطلق هذه الأسطورة في أوساط المسلمين، وتركها تمزق وحدتهم، وتفرق كتلتهم، وتفقدهم الراية التي يفيئون إليها، فيحسون بتذاوب العنصريات وانمحاء الفوارق، والاندماج بعضهم في بعض، قوة واحدة تقف متكتلة في وجه الاستعمار
ولكن إفلاح الاستعمار في هذه الدسيسة لم يكن ليستمر طويلا؛ فلقد انبعثت روح الإسلام من جديد في كل مكان، تتفاوت قوة وضعفا حسب العوامل المحلية المختلفة في كل قطر من أقطار المسلمين. ومتى ما انبعثت روح الإسلام الحقيقية، فلابد أن تصاحبها الدعوة إلى التكتل الإسلامي، فهذا التكتل جزء أصيل من العقيدة الإسلامية، ودفعة طبيعية من دفعات الإسلام، ولا محيص إن عاجلا أو أجلا من أن تزحف الدعوات المتواكبة المتجاوبة، ليلتقي بعضها ببعض في صورة من الصور؛ ولا مفر من أن تنتهي إلى غايتها الطبيعية، فتبرز الكتلة الإسلامية، برغم المعوقات والصعاب، وبرغم الببغاوات التي خلقها الاستعمار في كل قطر، لتهتف بأسطورة الدولة والدين، والسياسة والدين، والوطنية والدين
وما يقلق بال الاستعمار دعوة على ظهر الأرض كما تقلقه مثل هذه الدعوة. وما تقض مضجعه صيحة كهذه الصيحة. فالاستعمار لا يعيش اليوم إلا في الوطن الإسلامي. لقد تقلص ظله في كل مكان، فلم يبقى إلا في عالم الإسلام. والدعوة إلى التكتل الإسلامي معناها الدعوة إلى طرد الاستعمار من الركن الباقي له في هذه الأرض. والهاتف باسم الإسلام معناه الصراخ في وجه الاستعمار والطغيان. ومعناه التحديد المطلق للاستعمار والطغيان
ودون هذا ويحرك الاستعمار أبواقه وببغاواته، ودون هذا ويبذر الاستعمار دسائسه ومؤامراته. ودون هذا وتنطلق صيحات الخطر في كل مكان، من خلط الدين بالسياسة، وخلط الوطنية بالدين!
نشرت جريدة المصري منذ أسبوعين تعقيبا لجريدة بومباي كرونكل الهندية جاء فيه:
(بومباي في 14 - لمراسل المصري - عقبت جريدة (بومباي كرونكل) على الدعوة التي تأتي من باكستان بضم جميع الدول الإسلامية في الشرقين الأدنى والأوسط بما فيها أفغانستان وباكستان في نوع من الاتحاد الإسلامي العام، فقالت: إن هذه الحركة فشلت لأن الدول التي يهمها الأمر تشعر بإحساس عميق ورغبة أكيدة في الاحتفاظ بذاتها، مفضلة ذلك على الموافقة على السير في طريق ثانوي تابعة لغيرها
ومضت الجريدة تقول: وإن هذه الدول جميعا تحس بالخطر من خلط الوطنية بالدين، ولهذا السبب تتضح لنا الحقيقة البارزة في سياسات الشرق الأوسط من أن دولة رفضت فرادى وجماعات أن تسمح رياستها الكائنة في القاهرة بأن تصطبغ بصبغة دينية، وأصرت على تسميتها بجامعة الدول العربية، كما أنها كانت حكيمة برفضها فكرة الجامعة الإسلامية لأن نتائجها في غاية الخطورة حقا، فكل تكتل على أساس ديني كفيل بإثارة الحزازات الداخلية لاختلاف المشاعر الوطنية والعنصرية، وتنوع المصالح والآمال، أما في الخارج فسوف تخلق رد فعل مفعما بالشك والعداء مع بقية أنحاء العالم، قد يفضي إلى نتائج ضارة بالجامعة الإسلامية ذاتها
وقد أثنت الجريدة على سياسة تركيا العلمانية قائلة: إنها ذات قيمة كبرى لأنها تقدم دليلا لا ينقض على حكمة زعماء الهند الذين جعلوا بلادهم دولة علمانية، ومن جهة أخرى نرى أن تمسك تركيا بمثلها العليا العلمانية التي ارتضتها لنفسها، يعد ذا فائدة كبرى لدول الشرق الأوسط)
وما كان تعليق جريدة بومباي كرونكل ولن يكون إلا نموذجا من نماذج حركة التخويف التي يزاولها كل صاحب مصلحة في استعمار بضعة من الوطن الإسلامي والهند تزاول لونا من الاعتداء على كشمير، فتلتقي مصلحتها مع مصلحة الاستعمار في عزل باكستان عن العالم الإسلامي، وفي تخويف العالم الإسلامي من نتائج الدعوة الباكستانية إلى التكتل الإسلامي
إن أسطورة أن الدين شئ والوطنية أو السياسة شيء آخر، هي أسطورة نشأت في عوالم أخرى غير العالم الإسلامي. وإلا فالإسلام لا يعرف هذه التفرقة المصطنعة. الإسلام يعرف أنه عقيدة في الضمير وشريعة للحياة. شريعة للحياة بكل جوانبها السياسية والاجتماعية
والاقتصادية والدولية. ليس هناك شئ يقال له الدين وشئ آخر يقال له السياسة، وشيء ثالث يقال له الحكم، وشيء رابع يقال له الاقتصاد، وشيء خامس يقال له الاجتماع
إن هذه التفرقة مضحكة في نظر الإسلام، ومضحكة في نظر المسلمين الذين يعرفون أبسط قواعد الدين
إما أن يكون الإنسان مسلما أو غير مسلم. فإما أن يكون مسلما فشريعة الإسلام هي التي تتحكم حياته إذا تفرد في عباداته ومعاملاته، وتحكم حياة الجماعة التي يعيش فيها من ناحية الحكم وناحية الاقتصاد وناحية الاجتماع، وتحكم حياة الدولة التي تخضع لها من ناحية علاقاتها الدولية، وصلاتها بالعالم الخارجي كله. . وإما أن يكون غير مسلم فيدع لأي قانون آخر غير الشريعة الإسلامية أن تصرف حياته في كل هذه النواحي. . وليس هناك حل وسط، فالإسلام لا يعرف أنصاف الحلول
ولجريدة بومباي كرونكل أن تتحدث عن الخطر من خلط الوطنية بالدين؛ فالدين يكون خطرا حقا على الحياة حينما يكون كالهندوكية التي تستبقي الملايين من البشر في مرتبة أقل من مرتبة الحيوان في صورة منبوذين، أو حينما يكون كاليهودية التي يعتقد أتباعها أنهم شعب الله المختار، وأن كل من عداهم من البشر لا حرمة له ولا حق في رعاية، وقالوا:(ليس علينا في الأميين سبيل) فلهم أن يسرقوا مال البشرية كلها، ولهم أن ينكلوا بالبشرية كلها، وضميرهم الديني مستريح!
فأما حين يكون الدين هو الإسلام، فلا شيء من الخطر بل هو الخير للبشرية جميعا، خير العدالة الاجتماعية التي يكفلها هذا الدين كما لم يكفلها نظام آخر من النظم التي تعرفها البشرية وخير التضامن العالمي، والسلام الدولي، كما لم يكفله قانون دولي ولا منظمة جماعية
لقد سبق الإسلام هيئة الأمم المتحدة أربعة عشر قرنا في إيجاد معاهدات دولية لسلام يجتمع إليها أصحاب الديانات جميعا في عهده، بل تضم إليها بعض المشركين!
ولقد سبق الإسلام الشيوعية بأربعة عشر قرنا في دعوته إلى الوطن الواحد الذي يقوم على نظام اجتماعي معين، وعلى فكرة إنسانية معينة، تذوب فيها القوميات والجنسيات جميعا
ولكن الاستعمار يفزع ويرجف من هذا التكتل الإسلامي، كذلك تخشاه الكتلة الشيوعية
بدورها، لأنه يقف في وجهها سدا
فأما تركيا التي ضربتها جريدة بومباي كرونكل مثلا، فما أقدمت دولة على حماقة مؤذية كالتي أقدمت عليها تركيا. . لقد كانت في أضعف أيام الخلافة الوهمية الاسمية يحسب لها حساب. فأما اليوم فقد انتهت إلى أن تصبح ذيلا صغيرا حقيرا للكتلة الغربية، ترتجف فرقا وفزعا من الكتلة الشرقية، فلا هي كسبت الكرامة، ولا هي كسبت السلامة!
إن عجلة الزمن تسير، ولابد أن تطحن تلك العقبات التي يقيمها الاستعمار أو تقيمها الشيوعية في وجه الكتلة الإسلامية. وستذوب الأفكار المضادة، والشخصيات المضادة، والحكومات المضادة. وسيلتقي المسلمون يوما تحت راية الإسلام، لا مصري ولا سوري ولا لبناني ولا عراقي ولا حجازي ولا نجدي ولا أردني ولا يمني ولا مراكشي ولا جزائري، ولا طرابلسي ولا إيراني، ولا تركي، ولا أفغانستاني ولا باكستاني ولا أندنوسي. . ولكن المسلمون، ومسلمون فقط. . إن الشعوب الإسلامية تزحف، ولن تقف عقبة واحدة في الطريق، يوم يلتقي زحف هذه الشعوب
سيد قطب
في تاريخ الأدب التركي
للأستاذ عطا الله ترزي باشي المحامي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
قلنا في سياق الكلام عن التصوف أن القرن الثالث عشر الميلادي يعد مطلع نبوغ المتصوفة الأتراك، وذلك لسببين: أحدهما الرغبة الشديدة التي كان السلاجقة الأتراك يبدونها للمتصوفين ورجال الدين، وثانيهما هجرة المتصوفين إلى بلاد الأناضول، وذلك من جراء الغزوات التي كانت تشنها المغول في الشرق. فسكن هؤلاء في الأناضول، وشرعوا يؤسسون الطرائق الدينية. وكان مؤسس الطريقة يدعى (بير) أو الشيخ، وهو يعد زعيم طريقته وحامل لوائها. ويخلفه من بعده شيخ آخر بإجازته. وأما الذين كانوا يسلكون تلك الطرائق ويتبعون الشيوخ فكانوا يُدعون بـ (الدراويش). والمكان الذي فيه يقيمون الشعائر الدينية الطقوس العبادات المختلفة، يسمى (التكية)، وتوسعت هذه التكايا بمر الأيام وكر الأعوام فتأسست لها فروع واجتمع حولها أهل التصوف ينقرون الدفوف ويضربون الطبول وينفخون في المزمار. فيطربهم النغمات المنطلقة من قلوب ملؤها الحب والهوى، فيرقصون برقصات الدروشة المعروفة ويتغنون بالأشعار الصوفية التي ينظمها شعراؤهم البارزون. ولهذا كنا نرى الشعراء يتبارون في نظم المقطعات الشعرية التي تلائم هذه الحياة الموسيقية، تلك المنظومات الموزونة بأوزان تركية خاصة وإن كان قد شاع بينهم العروض
ويلاحظ في هذا العصر إن الأدب التركي تأثر كثيراً بالأدب الفارسي، كما أن هذا الأخير تأثر بالأول من بعض الوجوه، وذلك بسبب الاختلاط الذي حدث حينذاك بين العناصر الإسلامية المختلفة. فنرى كثيراً من شعراء الترك، وبالأخص المتصوفة منهم، ينظمون الشعر باللغة الفارسية أو أنهم يقتبسون القواعد الشعرية الفارسية وأساليبها، أو يستعملون ألفاظا فارسية في أشعارهم. ولا ننس بعض الشعراء ممن نسبوا لغتهم الأصلية أو هجروها في الأدب. وكذلك نجد شعراء كثيرين من الفرس برعوا في التفنن بالأدب التركي. . وهكذا فإن الحياة الاجتماعية في ذلك العصر كانت حياة متداخلة امتزجت بها الشعوب الشرقية تحت لواء الدين، فنتج من اتحاد هذه العناصر عنصر أدبي متماسك في الروح
والجوهر، وإن كان متبايناً في اللون والمظهر.
دور الأدب التركي فيما قبل العهد العثماني:
ويشمل هذا الدور عهد الدولة الغزنوية (سنة 962م - 1183م) والدولة القاراخانية (932 - 1212م) والدولة السلجوقية (من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر الميلادي) وعهد المغول (من القرن الثالث عشر إلى القرن الرابع عشر الميلادي)
وتميزت هذه العهود بتحسن الوضع الاجتماعي للأتراك تحسناً كبيراً؛ فبسطوا سلطانهم في داخل البلاد الإسلامية وكونوا لهم مركزاً ممتازاً بين المسلمين. وقد زاد اتصالهم بالعرب في هذه العهود وقويت العلائق بينهم وبين الفرس والهنود، فنشأت علاقات ثقافية وثيقة كان لها من الأثر ما كان
إن الآثار الأدبية التي انتشرت في هذه العهود، والتي انتقلت إلينا على علاتها إنما مصدرها عهد الدولة الغزنوية. وقد تأسست هذه الدولة في بلاد الأفغان ومناطق البنجاب من الهند. وتوسعت شيئاً فشيئاً حتى بلغت أوج عظمتها في عهد السلطان محمود الغزنوي الذي كان يعطف على الشعراء والأدباء ويشجع الثقافة في البلاد
فقد ظهر في هذا العهد كتاب وعلماء مشهورون، وكان جل اهتمامهم بالفارسية وظهر كذلك في هذا العصر بعض الآثار العربية. أما الآثار التركية التي عنى بها رجال الفكر التركي فهي قليلة جدا. ولقد انتقلت إلينا من عهد القاراخانيين مؤلفات أدبية قيمة، وكذلك آثار نفيسة من عهد السلاجقة، يستدل منها على أن الأدب التركي في هذا الدور كان في عنفوان تكامله
ومن الآثار التي يصادف تاريخها هذه العهود كتاب (قوراتغويليك) الذي كتبه الأديب التركي (يوسف خاص حاجب) في سنة 462 هـ بمدينة كاشغر، وقدمه إلى الأمير القاراخاني (تابغاج قره بغراخان) فنصبه هذا حاجباً خاصاً في قصره، ومن هنا سمي بهذا اللقب. ويتضمن كتابه أشعاراً أخلاقية نظمها لغة تركية خالصة يندر فيها العثور على ألفاظ أعجمية. فهي هذا الاعتبار أشعار لها قيمتها العظيمة في الأدب واللغة التركية من حيث الإفادة في استعمال كثير من الكلمات التركية المهجورة في الكتابة الحديثة
ويوجد من هذا الأثر ثلاث نسخ خطية، وجد إحداها المؤرخ المعروف (هامر) في استنبول، وكانت مكتوبة بالخط التركي القديم (الأويغوري) فأرسلها إلى مكتبة فيانة حيث
حققها المستشرقون هناك ونشروها مراراً. ويرجع تاريخ هذه النسخة إلى سنة 1439 م. أما الثانية فوجدت في مدينة (فرغانة) وكانت مدونة بالحروف التركية العربية. أما النسخة الثالثة فإنها محفوظة في دار الكتب المصرية بالقاهرة
وكتاب (عيبة الحقائق) الذي ألفه الشاعر أحمد بن محمود في القرن الثالث عشر الميلادي باللهجة التركية الكاشغرية وهو مجموعة منظومات في النصح والإرشاد. وقد وجد النسخة الخطية الأولى منها الأستاذ نجيب بك عاصم مدرس اللغات الشرقية في دار الفنون باستنبول، في مكتبة أيا صوفيا. وكانت مكتوبة بالحروف التركية القديمة (الأويغورية) وبالحروف التركية العثمانية (العربية). فتمكن من تحقيقها ونشرها في سنة 1918
وكتاب (ديوان لغات الترك) وهو يعد بمثابة معجم، كتبه محمود حسين الكاشغري سنة 470 هـ ببغداد ليكون مرشدا للمتعلمين، وكان هذا المؤلف يحذق اللغة العربية بقدر ما يجيد لغته التركية، وقد سكن في بغداد مدة خمس سنوات (بين سنة 1072م وسنة 1077م) في الوقت الذي كانت البلاد العراقية تحت حكم السلاجقة، فأهدى كتابه هذا إلى الخليفة العباسي المقتدي بالله وهو أثر قيم يماثل دوائر المعارف في هذا العصر، فقد اشتمل على خمسمائة وسبعة آلاف مادة في اللغة والأدب والتاريخ والجغرافية، وهو يصور الحياة الاجتماعية والأدبية في ذلك العصر خير تصوير، وقد استفاد منه الأتراك في الوقت الحاضر استفادة كلية في استنباط الحقائق التاريخية والأدبية، واستخراج المواد اللغوية التي استعاضوا بها عن الألفاظ العربية والفارسية
وقد وجدت نسخته الخطية في استنبول فحققها المعلم رفعت الكليسي ونشرتها وزارة المعارف التركية في ثلاث مجدات، ثم قام بطبعها ثانية مؤتمر اللغة التركية بإشراف الأستاذ بسيم آتالاي
مشاهير الشعراء في هذا الدور:
وأول من يتبادر إلى الذهن الشاعر الصوفي الشهير (أحمد يسوي) مؤسس الطريقة اليسوية في تركستان، ولد في مدينة (سايرام) من بلاد تركستان، ودرس العلوم على الشيخ يوسف الهمداني في مدينة بخاري، ثم عاد إلى المدينة (يسه) حيث أسس أول تكية تركية في التاريخ هناك، وتوفى سنة 562هـ أما تاريخ مولده فغير معروف، ويذهب (مليورانسكي)
إلى أنه توفى بالغاً من العمر ستة وثلاثين سنة مستدلا على ذلك من بعض أشعاره
لقد كان هذا الشاعر من عظماء المتصوفين في وقته، وأشتهر كزعيم ديني كبير ومرشد وولي كامل، فكانت الجماعات الغفيرة تلتف حوله يأملون منه اللطف وينالون الدعاء. . وكان لأدبه أثر عميق في النفوس. وعرف ديوانه الشعري بين الناس بديوان الحكمة لأنه كان يتضمن من الحكم البالغة والمواعظ الحسنة والأمثال
الخوجه دهاتي
وقد عرفه إلى عالم الأدب لأول مرة الأستاذ فؤاد كوبريلي، إذ كان هذا الشاعر غير معروف في الأوساط الأدبية حتى تمكن الأستاذ كوبريلي من العثور على بعض الوثائق التاريخية في جوانح المكتبات. وتمكن بعد ذلك من التعمق في البحث حتى حصل على كثير من المعلومات حوله، فنشرها في بعض المجلات التركية ويتضح من تلك الدراسات أنه كان خراساني المولد وأناضولي النشأة، حيث أدرك عصر الأمير علاء الدين كيقباد، وعاشر هذا الأمير مدة من الزمن، مدحه في بعض قصائده. وهو يعد أول شاعر تركي جمع ديواناً مرتباً على الحروف الهجائية، إذ لا نعرف شاعراً تركياً آخر سبقه في هذا الخصوص
جلال الدين الرومي:
ولد في 30أيلول1207 م (604 هـ) في مدينة (بلخ) وتوفى
سنة 672 هـ في ولاية (قونية) التركية. وكان والده (بهاء
الدين ولد) الملقب بسلطان العلماء؛ من خيرة رجال العلم
والأدب، وزعيم الطائفة المنورة في زمانه. رحل هذا العالم
ومعه أبنه جلال الدين إلى الديار الحجازية. . ومن ثم رجع
إلى مدينة (قونية) حيث أستقر فيها. ولقي أثناء إقامته هناك
حظوة عند الأمير السلجوقي علاء الدين كيقباد
توفى الشيخ بهاء الدين سنة 628 هـ وكان قد لقن ولده العلوم الظاهرية. ورأى جلال الدين بعد وفاة أبيه أن يسعى لإكمال دراسته وإتمام ثقافته، فاتصل بالسيد برهان الدين الترمذي - من تلامذة والده - فدرس عليه العلوم الباطنية، وقد نال إعجابه. فما كان من السيد الترمذي إلا أن جعله (مريداً) له
وتعد سنة 1244م بداية عهد جديد في حياة جلال الدين الرومي، فقد التقى بالشيخ شمس الدين التبريزي المتصوف المعروف، فانصرف معه إلى الحياة التصوفية وبدأ منذ ذلك اليوم. ينظم القصائد الجياد في الشعر التصوفي حتى غدا شاعرا يشار إليه بالبنان، وقد خلف مؤلفات قيمة ترجمت إلى لغات كثيرة، نذكر منها (الديوان الكبير) الذي اشتمل على منظومات رباعية بديعة وأشعار رقيقة في الغزل. و (المثنوي) وقد حاز إعجاب الجمهور، ونال استحسان الأندية الثقافية. فأقدم العلماء على درسه وترجمته إلى لغات مختلفة. ويتضمن هذا الكتاب قصصاً وروايات رمزية، ونصائح وإرشادات دينية قيمة. ويحتوي كذلك على شرح المذهب الصوفي في محبة الله. . .
وقد جاء الكتاب بأسلوب قصصي بديع تجلى فيه الأدب الرفيع بأبهى جماله. وكان جلال الدين قد نظم أشعاره باللغة الفارسية باستثناء بعض المقطعات التركية وهو مع ذلك لا ينفي كونه تركيا خالصاً إذ يقول:
(أصلم توركست اكرجه هندو كويم)
بمعنى: أنني من الأصل التركي وإن اخترت الفارسية لغة
وهو يعد بحق مؤسس الطريقة الجلالية التي سميت فيما بعد بالطريقة المولوية. وتوسعت هذه الطريقة على يد ولده النجيب الموسوم ب (سلطان ولد) الذي تمكن من نشر لوائها فوق سماء البلاد النائية، فتفرعت الطريقة إلى فروع تغلغلت جذورها في داخل الأقطار العراقية والسورية والمصرية، وانتشرت مبادئها كذلك في بلاد أذربيجان الشمالية
ولهذه الطريقة أثر عظيم في سير الأدب التركي. فقد أخذ الشعراء الأتراك يتقربون إلى شيوخها ويعتنقون تقاليد الطريقة وشعائرها المعروفة، فظهر لون من الأدب ينبغي تسميته بالأدب المولوي الذي أصبح فيما بعد يسمى بأدب التكايا، وذلك نتيجة تنوع الطرائق الصوفية وانتشارها في طول البلاد وعرضها
هذه نبذة مختصرة عن حياة الشاعر جلال الدين الرومي وعن أثره في الأدب التركي. وهناك شعراء كثيرون ممن عاشوا في هذه العهود أمثال الخوارزمي والجندي وسليمان باقر ومير حيدر ولطفي وأميري وحسين بايقرا وعلي شيرنوائي والقاضي وبرهان الدين وضرير الأرضرومي وحبيبي وخطائي وغيرهم من شعراء الترك، إن أردنا الاستفاضة في دراستهم في هذا المقام لطال بنا المقال. وخرج عما سميناه بالنظرات وإذا راعيتا جانب الاختصار وتجانبنا التفصيل. . .
وهنا نكون قد أعطينا للقارئ صورة مختصرة للأدوار التاريخية التي مر بها الأدب التركي منذ نشأته حتى أوائل العهد العثماني. وقد رأينا فيها أن الأدب التركي في هذه الفترات كان يكتنفه شئ من الغموض، بحيث يتعذر معه الوصول إلى كشف خفاياه وإظهار مجاهلة، وذلك لافتقارنا الشديد إلى المصادر التاريخية القديمة التي ترشدنا إلى معالم هذا الأدب في عصوره المظلمة.
ورأينا في هذا المقال أننا كلما تدرجنا في الموضوع تدرجاً زمنيا وجدنا أن الأدب التركي يزداد وضوحاً في العصور الأخيرة
وسنرى في دراساتنا القادمة، إن سمح لنا الوقت، أن الأدب التركي أصبح موضوعه أمرا ملموساً له حدود ثابتة وأدوار تاريخية معينة. .
كركوك (العراق)
عطا الله ترزي باشي
كلمة تقال.
. .!!
للأستاذ محمود محمد شاكر
أخي الأستاذ علي الطنطاوي
سلام عليك. يقال في المثل: (كرها تركب الإبل السفر) وقد استطعت أنت أن تكره العلم إلى ما أردت أن أنزهه عنه. فلولا ما أضمرت من قديم المودة لك، ولولا ما عرفت من صدقك، ولولا أنني أجلك عن أن تكون عجولا إلى غير صواب، ولولا أني أكره أن تأخذ عني شيئا لم أقله بلساني، ولولا ذلك كله، لكان أبغض شيء إلى أن استكره نفسي على غير ما رأيت أنه أجمل بي وأصون. وإنك لتعلم، أيها الصديق القديم، أني اكره أن ازداد من الشر، وأن أتزود من لجاجة الباطل، والكتابة في زماننا هذا شر مستحكم، وباطل لجوج متوقح. وقد اقتحم وعرها من لا يحسن المشي في سهولها، وتشهاها من لو انصف نفسه لحال بينهما وبين ما تشتهي، واتخذها صناعة من لو عقل لأعفى نفسه من مزاولتها، ولكن هكذا كان، ورحم الله الطائي إذ يقول لمحمد بن عبد الملك الزيات:
أبا جعفر، إن الجهالة أمها
…
ولود، وأم العلم جذاء حائل
أرى الحشو والدهماء أضحوا كأنهم
…
شعوب تلاقت دوننا وقبائل
غدوا، وكأن الجهل يجمعهم به
…
أب، ذوو الآداب فيهم نواقل
وأنت تعلم من انصب النصب، أن تتصدى لإفهام من لا يفهم عنك، فإذا بلغ الأمر أن تراه يتصعب لجدالك، فأذكر قول من قال: إذ أردت أن تفحم عالما فأحضره جاهلا. وقد لقيت أنا من شر ذلك ما لقيت، فآثرت أن أسلك سبيلي لا يشغلني عنه متعلق بأذيالي، إرادة أن يصرفني عن الوجه الذي أردت
ولقد قرأت كلمتك في الرسالة، فأسفت أشد الآسف، لأني عرفت منها أنك لم تقرأ ما كتبته في مجلة (المسلمون) وفي أربعة أعداد منها، ولو كنت قرأتها لما كتبت ما كتبت، لأني لا أشك في ذكائك وحسن فهمك. فأنا لم أتعرض في شيء منها لبني أمية أو بني العباس، ولا لحكمهم ولا سياستهم؛ فعجبت أشد العجب كيف يمكن أن تكون معي أو علي في أمر لم أقل فيه كلمة ولا يعلم أحد ممن كتب رأيي فيه، ولا كيف أقول إذا أنا تعرضت للبيان عنه؟ فمن اجل ذلك عجبت، لأنك لم تنصف على عادتك من الإنصاف
وأنا محدثك باختصار عن هذا الذي كتبته. واصل ذلك كله أني رأيت من كتب من المحدثين في شأن تاريخ الماضين من أسلافنا، يكتب أو يتحدث بأسلوب أقل ما يقال فيه أنه مشوب بالحماقة الشديدة، مختلط بالجهالة المتراكبة، في معرفة أصول التاريخ، مغموس في حماة من الافتراء والتطاول، مستنقع في أهواء سيئة رديئة. وزعمت أن للناس أدباً وأسلوبا في كتابة التاريخ، وأن للمسلمين خاصة أدب وأسلوب في التاريخ ينبع من أصل دينهم، في العدل، وفي حسن النظر، وفي الأناة في طلب الحق، وفي كف اللسان عن التهجم بالقول السيئ على عباد الله بلا بينة، وفي التناهي عن اقتناء المرء ما ليس له به علم، وفي التثبت من الأخبار قبل تصديقها، وهو أدب كما تعلم كان قديما في كتبنا، ولكن حضارة هذا القرن قد نشرت وباء شديد الفتك، ذهب بأكثر هذا الأدب، وأخذت في طرقي أضرب المثل على هذا بكاتب رأيته لم يتورع عن سلب أناس دينهم، ولم يخشى الله في نفي الإسلام عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي تصوير أعمالهم بصورة أعمال المنافقين، وفي أخذ الروايات الباطلة وجعلها دليلا على الغميزة في إيمانهم، وفي رد الروايات الثابتة الصادقة بروايات كاذبة ادعاها مدع من الرافضة، إلى غير ذلك مما سأبينه فيما أكتب في مجلة (المسلمون) وزعمت أن هذا ليس ديدن هذا الكاتب وحده، بل صار ديدنا لأكثر من يكتب الآن في شيء من تاريخ هذه الأمة المسلمة، حتى صار الطعن في صحابة رسول الله أمرا مرتكبا بلا حذر
وما دمت لم أزد في كلامي على هذا، فلست أدري بعد ما الذي يحملك على أن تخذلني أو تنصرني في أمر لم أنطق بعد فيه بكلمة! نعم قد يكون رأيي فيما أبديت أنت فيه رأيك، مخالفا لك، ولكني لم أتكلم بعد فتعرف حجتي فيه. بل لعلي إذا كنت لك مخالفا، ثم عرضت عليك خلافي لك، أن تكون أسرع إلى موافقتي منك إلى الخلاف علي، حين ترى فيما أقول صوابا يرضيك. أليس هذا جائزاً، وممكنا أيضا؟ فإذا رأيتي بلغت في سياق مقالاتي في (المسلمون) إلى ذكر دول الإسلام، فعندئذ فقل؛ فأنا أقبل منك ما تقول، وأعلم أني لا أنف أن أصير إلى الحق إذا عرفته، ولقد عشت على هذه الأرض زمانا طويلا، واعتقدت منذ عقلت أراء كثيرة، ثم تبين لي أن الحق في خلافها، فرجعت عنها جملة، ولم أبال بما كنت أرى، ولعلك أنت خاصة تعلم من ذلك ما لا يعلمه غيرك
وأنا أحب أن ترجع إلى ما كتبته في مجلة (المسلمون) ولا تأخذ كلام أهل اللجاجة، فإنهم أوهموك، فيما أظن، أني قلت شيئا والحقيقة أني لم أقل بعد فيما تناولته أنت شيئا، وأنا أعيذك أن تتورط في هذا الشر الذي نجاهد جميعا في دفع الناس عنه: وهو أخذ الأقوال بلا بينه، وبلا حجة، وبلا برهان. لك مني تحية كنت أحب أن تبلغك، على غير هذه الراحلة المكرهة على ارتكاب طريق دنسته الأقدام، والسلام
محمود محمد شاكر
الكونيات والعلوم الحديثة في شعر الرصافي
بمناسبة الذكرى السابعة على وفاته
للأستاذ خالص عزمي
الرصافي - الذي نحيي ذكراه - ثورة من ثورات الفكر المجدد، وداعية من دعاة النهضة العلمية الحديثة، فضلا عن كونه أميرا من أمراء الشعر، أطلق لفكره العنان في مواضع التفكير الصائب، ذلك التفكير الذي تنطلق منه حينا تأملات الذهن الباحثة عن شتى العلوم والفنون
كان الرصافي رحمه الله يبعث بصره (في كثير من الأحيان) جوالا في السماء في ذلك الكون الشاسع، في ضياء الشمس نهارا، وإلى كواكب السماء، إلى البدر المنير ليلا، فيصور بريشة الإحساس المرهف، ريشة الفنان الملهم، صورا رفيعة المغزى، تقترب من الحقائق شيئا كثيرا، معتمدة على فكر ثاقب، وتطلع متزن، ثم على إجهاد في البحث، والتتبع المستمر لأراء كبار الكتاب والمفكرين، فيصل بكل ذلك إلى كبد الحقيقة، ولا ينتهي منها شيئا حتى يبدأ بسلسلة من الأفكار الجديدة، شأن كل شاعر حر ومفكر مبدع
يجلس الرصافي ليلته بأفكار مجنحة، ونفس هادئة، وفكر مستقر، يرسل بصره في تلك الصفحة التي تضيئها أنوار النجوم الزواهر، والمجموعات النورية، فتحولها قطعة كبيرة لا تدركها الأبصار، شاعرية التكوين والتشكي، لا يمكن وصفها على حقيقتها إلا من شاعر ملهم، كالرصافي. . . قلنا يجلس ليلته، فلا يكاد يستقر بصره حينا حتى تثور شاعريته فيقول ويستمر في القول حتى ينتهي به المطاف إلى تكوين قصيدة مسبوكة الحواشي يحار لتكوينها الفكر، كما حدث في قصيدته الرائعة (تجاه اللانهاية) حيث يقول: -
في فضاء لو سافر البرق فيه
…
ألف قرن لما أتى مستقره
ولو الشمس ضوعفت ألف ضعف
…
لم تكن في أثيره غير ذره
ولو الفكر غاص فيه مسغذا
…
لم يكن بالغا يد الدهر قعره
سعة تحسب المجرة فيها
…
حلقة ألقيت بصحراء قفره
إن تكن هذه المجرة نهرا
…
مستفيضا فشمسنا منه قطره
إن تسائل عنا فنحن هباء
…
ذر من صنعة القوى بمذره
ثم أنك (يا قارئي الكريم) - لو ألقيت نظرة على قصيدته المشهورة - من أين والى أين - لرأيته ينفذ في مواضع كثيرة قول العلماء المشهور ونظريتهم المعروفة التي تتلخص في (إن الضياء حاصل من اهتزاز الأثير فيقول: -
من أين من أين يا ابتدائي
…
ثم إلى أين يا انتهائي
أمن فناء إلى وجود
…
ومن وجود إلى فناء
أمن وجود له اختفاء
…
إلى وجود بلا اختفاء
لأي أمر ذه الليالي
…
تأتي وتمضي على الولاء
أرى ضياء يروق عيني
…
ولست أدري كنهه الضياء
وما اهتزاز الأثير إلا
…
علالة نزرة الجلاء
وهنا يرى (القارئ) أن الشاعر الكبير قال في البيت الأخير ما معناه (أن العلماء فسروا ذلك التفسير المبهم لأنهم لا يدركون الحقيقة بل وجدوا ذلك الحل تخلصا في حلقة مفرغة لا يتصلون إلى نهايتها بتاتا)
ثم يصف تزاحم الذرات في الجسم وهو ما يسمى (عرك الإلكترونات) فيقول: -
فإن أجزاء كل الجسم
…
مبتعدات بلا اتقاء
وفي دقاق الجماد عرك
…
يتهم الحس بالخطاء
وينتقل بعد ذلك فيخاطب تلك القوة الخارقة المعروفة قوة الجذب فيقول: -
يا قوة الجذب أطلقيني
…
من ثقلة أوجبت عنائي
ثم يتابع القول فيتجه نحو الكهرباء السماوي الذي ينبعث من النجوم والكواكب والأقمار فيقول
وأنت يا كهرباء سر
…
بدا وما زال في غشاء
عجائب الكون وهي شتى
…
فيك انطوت أيما انطواء
أضأت إن شئت كل داج
…
لنا وأدنيت كل ناء
ففي هذه القصيدة لاحظ - القارئ الكريم - أن المرحوم الرصافي قال في أهم النظريات العلمية الحديثة، فقد قال في (تزاحم الإلكترونات) وجزيئات الجسم ثم في قانون الجذب العام ونظرية دارون في النشوء والارتقاء وفي الإشعاع الضوئي، هذه المواضيع كلها
تصور لنا مدى تتبع الشاعر الكبير للنظريات العلمية، تفنيدها في مواضع ومجاراتها في مواضع أخرى
وتتبلور الفكرة التي نتحدث عنها في وضوح شامل في قصيدته ال (كن يا ضياء) ومعناها (كن إلى ذلك الشيء يا ضياء. . . أو توجه إليه) وبها ينتقد أكبر العلماء وأرقاهم مدارك في علوم الفلك والطبيعة: حيث يقول
أبيني ما وراءك يا دراري
…
فنحن نخاله بعدا شطونا
قد أتسع الفضاء لك اتساعا
…
فهل أبعاده بك ينتهينا
وترصدك الأنام وما أتانا
…
بعلم كيانك المترصدونا
(فهدشل) ما شفا منا غليلا
…
ولا (غاليل) أنبأنا اليقينا
و (كبلر) قد هدى أو كاد لما
…
أبانك يا نجوم تجاذبينا
ومن كل ما تقدم يتبين للقارئ الكريم أن للرصافي عقلية استوعبت كثيرا من العلوم، وأدركت من الحقائق والمحسوسات ما جعلها ترتفع شيئا كبيرا عن المستوى الفكري السطحي لأكثر الشعراء
ونحن بهذه الكلمة البسيطة لا يمكننا تبيان ما نريده في مجال هذا الموضوع المتشعب، إذ لو أردنا تحقيق ذلك وإدراكه لاحتجنا إلى كثير من الصفحات، وكثير من الساعات بل الأيام لكي نسجل بها أو نشرح ما قاله شاعرنا الكبير في هذا الصدد
ولكن لا بأس من أن ننهى حديثنا هذا بما قاله العلامة الكبير (المغربي) في مقدمته للطبعة الثانية من ديوان (الرصافي) حيث كتب يقول في هذا الباب - باب الكونيات - ما يلي (. . . وقصائده (تجاه اللانهاية) و (من أين إلى أين) و (نحن على منطاد) و (الأرض) و (الكن يا ضياء) و (ومعترك الحياة) وغيرها لو حولت إلى نثر كانت من خير المقالات التي وصفت بها الكائنات وصفا منطقيا على أخر نظريات العلم الحديث. . ففيها بيان أو شرح لوحدة المادة، والجاذبية، والأثير الكهربائية، وأشعة (رنجتن) وأراء دارون في النشوء والارتقاء، ومذهب ديكارت في التوصل إلى اليقين عن طريق الشك، ومبادئ الاشتراكيين في أن تكون للعامل حصة من إنتاجه)
تركوا السعي والتكسب في الدنيا وعاشوا على الرعية عاله
يأكلون اللباب من كد قوم
…
أعوزتهم سخينة من نخالد
يتجلى النعيم فيهم فتبكي
…
أعين السعي من نعيم البطالة
ليس هذا في مذهب الاشتراكية إلا من الأمور المحالة
بغداد
خالص عزمي
2 - الباكستان
السياسة الخارجية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
(إن وحدة العالم الإسلامي هي أحد الأركان الأساسية التي تقوم
عليها سياسة باكستان.)
محمد ظفر الله خان وزير الخارجية
كراتشي - القاهرة
في هاتين المدينتين تتركز السياسة الخارجية للدول الإسلامية ففي القاهرة تقوم الجامعة العربية وفي كراجي (كراتشي) تقوم حركة الجامعة الإسلامية
وقد كان من المفهوم أنه لا يوجد تضارب بين الفكرتين بل كان مفروضا أن تحول الجامعة العربية إلى وحدة إسلامية أمر سهل ميسور ولا غبار عليه، ولكن بعض التصريحات التي صدرت في القاهرة أخيرا أشعرتنا بأن هناك خلافا في وجهات النظر حول الفكرتين، فالجامعة العربية تقوم على أساس العنصرية وعلى أساس من المصالح المتبادلة بين الدول العربية، لا على أساس طائفي أو ديني، بهذا صرح سعادة الأمين العام وقال أنه يعارض فكرة إنشاء الجامعة الإسلامية لأنها تكون مؤسسة دينية طائفية تقف في سبيلها كل الهيئات غير الإسلامية، كما أنها تغضب الهند والفلبين وهما تتعاونان مع الجامعة العربية
وأنا أرى أنه إن كان المقصود بالهيئات غير الإسلامية اليهود المقيمين بإسرائيل فإن هؤلاء سيغضبون حقا لقيام الوحدة الإسلامية، أما إن كان المقصود المسيحيين واليهود المقيمين بسائر الدول الإسلامية فهؤلاء لن يغضبوا لأنهم عاشوا آلاف السنين مع إخوانهم المسلمين جنبا إلى جنب، تظلهم راية الإسلام ويتمتعون في كنفه بالآمن والسلام، وتلك الحقوق التي كفلها لهم الإسلام
وأعترف بأنني قد حاولت جاهدا أن أفهم سر ما نزل بعرب فلسطين من بلاء وتشريد ونهب وسفك دماء وهتك أعراض، وقد تمخضت هذه الجرائم عن قيام دولة إسرائيل فلم
أجد سببا لكل هذا التعصب الصهيونيين الديني
وإنني أضع أمام القراء صورة لما نزل بالمسلمين في القارة الهندية من أذى وبلاء مما دفعهم إلى الاستماتة في سبيل إقامة دولة ينعمون في ظلها بالآمن والطمأنينة والحرية، وقد كلل الله جهودهم بالنجاح. فأقاموا دولة الباكستان فكانت لهم دار آمن وسلام. ألم يكن الهندوكيون يعملون على تمجيس المسلمين أو إفنائهم؟
وهاأنذا أقص على حضرات القراء بعض ما وقع في الهند عند تنفيذ مشروع التقسيم:
في 1947 أعلن تقسم الهند إلى دولتين: الهندستان والباكستان، فماذا فعل الهندوس؟ انطلقوا يقتلون الأبرياء من المسلمين وكانت دلهي عاصمة الهند نفسها مسرحا لآلاف من الجرائم المروعة ذهب ضحيتها آلاف من المسلمين الأبرياء
وأشهد معي وقارن: لقد هاجر من الباكستان كثيرون من الهندوس والسيخ آمنين مطمئنين يحملون معهم أموالهم وأثاثهم ومتاعهم وكان عدد المهاجرين منهم ما يلي:
427 ، 000 بالسيارات
1 ، 362 ، 000 بالسكك الحديد
849 ، 000 بالعجلات التي تجرها الحيوانات
133 ، 000 بالبواخر
27 ، 500 بالطائرات
أما المهاجرين من المسلمون فكانت قصة هجرتهم إلى الباكستان مأساة: لقد أخرجوا من أرضهم وبيوتهم وأموالهم تحت وابل من الرصاص والنيران. وقد هاجر معظمهم سيرا على الأقدام فلم يصل إلا أقلهم، أما معظمهم فقد مات في أثناء الطريق من البرد والحر والجوع والإعياء وكثيرون اغتيلوا أو ماتوا غرقا في الأنهار
وقد ظن بعضهم أنهم محظوظون حينما أتيح لهم الانتقال بالسيارات والقطر الحديدية ولكن خاب ظنهم. لقد كانوا معرضين في كل محطة وقف بها القطار إلى هجمات السيخ والهندوس، ولقد كانت السيارات أو القطر تصل فعلا إلى حدود الباكستان ولكنها كانت تصل فارغة أو مملوءة بالجثث وبالمشوهين فقط!!!
واستمر المسلمون يهجرون الهندستان بالملايين، تاركين وراءهم أموالهم وأملاكهم هاربين
بإيمانهم لا يبالون بما ينتظرهم في الطريق من المخاطر والعدوان وزادهم الله هدى وإيمانا، لقد كان أحدهم إذا بلغ حدود الدولة الإسلامية فقيرا مشوها عاجزا فما هو إلا أن تطأ قدماه أرض الوطن حتى يسجد لله شكرا. لقد اصبح للمسلمين دار أمان في أرض الهند!
لماذا نزل هذا البلاء بالباكستانيين؟ ألم يكن كل ذنبهم أنهم مسلمون؟
الجامعة الإسلامية قائمة سواء أراد الأعداء أم لم يريدوا قال محمد ظفر الله خان (ونحن المسلمين لا نحمل أي نيات عدائية ضد أي أمة أو أمم، ولسنا نرغب إلا أن نحيا حياة حرة كريمة، وأن تنهض في الاتجاه الذي نعتقد أنه الحق، وأن نستغل مواردنا الأدبية والمادية لخدمة شعوبنا ولخدمة الإنسانية بحيث نسهم بنصيبنا في إقرار السلام وإشاعة حسن النية في جميع ربوع العالم!)
المؤتمر الإسلامي
أنعقد هذا المؤتمر وهو يمثل الشعوب الإسلامية في كراتشي وكان يرأسه سماحة السيد محمد أمين الحسيني مفتى فلسطين وقد اتخذ المؤتمر القرارات آلاتية - وهي خاصة فلسطين: بما أن قضية فلسطين هي قضية إسلامية عامة لصلتها الوثيقة بمصالح المسلمين فإن مجلس المؤتمر يقرر ما يلي:
1: مطالبة جميع الدول والشعوب الإسلامية بتأييد قضية فلسطين ودفع الخطر المحدق بالمسجد الأقصى والعمل على إنقاذ هذه البلاد المقدسة من أيدي المعتدين
2: إعادة اللاجئين إلى أراضيهم وأملاكهم وفقا لقرار هيئة الأمم المتحدة
3: استعادة مئات من المساجد والمعابد التي استولى عليها اليهود والأوقاف الإسلامية والمقابر وسائر الأملاك، واحترام الملكية الشخصية وحفظها لأصحاب كما ينص على ذلك القانون الدولي
4: معارضة كل صلح أو تسوية مع اليهود
5: يدعو المؤتمر جميع المسلمين حكومات وشعوبا إلى مقاطعة ما يسمى (دولة إسرائيل) مقاطعة عامة شاملة في كل النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما يدعو إلى مقاطعة اليهود حيث كانوا في أقطار العالم، وتجنب التعامل معهم إلى أن يتحقق زوال خطرهم على فلسطين والبلاد الإسلامية كافة، وتكليف اللجنة التنفيذية بتشكيل مكتب خاص
لتحقيق ذلك بالوسائل العملية
ونحن نرجو أن توضع هذه القرارات موضع التنفيذ فإن العبرة بذلك لا بكتابتها على الورق
مؤتمر كراتشي:
وجهت باكستان الدعوة إلى الدول الإسلامية للاشتراك في هذا المؤتمر الذي ينتظر عقده في النصف الثاني من شهر أبريل، ومهمته بحث المسائل الهامة المشتركة وإقامة نظام استشاري بين الدول الإسلامية مما يساعد على إقامة تعاون أوثق بينها الأمر الذي فيه مصلحتها
يتضح من كل ما سبق أن الباكستان تتجه في سياستها الخارجية إلى إقامة تعاون وثيق بينها وبين الدول العربية، وإلى هذا يشير معالي ظفر الله خان بقوله: أن وحدة العالم الإسلامي هي أحد أركان الأساسية التي يقوم عليها سياسة الباكستان
وفي الوقت ذاته تقوم روابط الصداقة بين الباكستان وبريطانيا. والواقع أن ظروف الباكستان الجغرافية هي التي أملت عليها هذه السياسة. فالباكستان تجاور الهند من ناحية، وهي قريبة من روسيا وأملاكها الآسيوية من ناحية أخرى. فقد كان عداء الهندوس للمسلمين من أبناء الباكستان مما دفع الباكستانيين إلى محاولة إيجاد الجامعة الإسلامية (والمؤمنون أخوة) بنص القرآن الكريم. كما إن الخطر الروسي أدى إلى قيام روابط الصداقة بينهم وبين بريطانيا، ولا تنس أن بريطانيا كانت تحكم الهند إلى وقت حد قريب، وأنها تزعم استقلال القارة الهندية ما تزال تسيطر على أسواقها التجارية، فإن بريطانيا حريصة تماما على تجارة الهند
حيدر آباد - كشمير
ولايتان من ولايات القارة الهندية قامت بسببهما مشكلتان بين الهندوستان والباكستان
وحيدر آباد مقاطعة في هضبة الركن؛ وهي أكبر إمارات الهند وأغناها، إذ تبلغ مساحتها 350 ، 000 كيلو متر مربع، وعدد سكانها نحو سبعة عشر مليونا من الأنفس منهم نحو مليونين من المسلمين وهم أقلية. وكان يحكمها نظام حيدر آباد، وكان من أغنى أغنياء العالم
ولما قامت دولتا الهندستان والباكستان اختار نظام حيدر آباد وهو مسلم أن تظل بلاده مستقلة، ولكن الهندستان لم تقنع بذلك. وفي 1948 ساقت الجيوش إلى الولاية واحتلتها بدعوى إن أغلبية السكان من الهندوس!!
وأما كشمير فهي مقاطعة جبلية في شمال الباكستان الغربية، وفيها توجد منابع السند، ومن ثم كانت أهميتها بالنسبة لباكستان كأهمية السودان بالنسبة إلى مصر. يضاف إلى ذلك 93 % من سكان مسلمون. وتجاورها من الشرق مقاطعة جمو، وهي كذلك مقاطعة إسلامية؛ إذ إن 62 % من سكانها مسلمون أيضا
وكان يحكم كشمير منذ 1846 أمير هندوسي اشتراها من شركة الهند الشرقية البريطانية. وتبلغ مساحتها نحو 84 ، 000 ميل مربع، وعدد سكانها أربعة ملايين
وفي 1947 تم تقسيم القارة الهندية إلى دولتين: الهندستان والباكستان، وكان من الضروري أن تنظم كشمير إلى الباكستان لأن معظم سكانها من المسلمين (وقد رأينا إن الهندستان ضمت حيدر آباد بحجة أن أغلبية السكان من الهندوس)، ولكن الهندستان لجأت إلى سياسة العسف فعملت على دفع حاكم كشمير الهندوسي إلى إقامة حكم إرهابي عنيف مما يؤدي إلى إفناء المسلمين أو هجرتهم، وشجعت هجرة الهندوس إليها حتى تصبح الأغلبية، لهم وبدأت الحركة في جمو، ففي مقاطعة دوغرا قتل 237 ، 000 من المسلمين على يد قوات المهراجا نفسه، وكان يساعدها جماعات منظمة من السيخ والهندوس. وقد أدت هذه الحوادث فعلا إلى إفناء ثلثي المسلمين في مقاطعة جمو مما بدل نسبة السكان والهندوس فيها
إزاء هذه الحوادث قام رجال القبائل في كشمير لنجدة إخوانهم وانتصروا على جيوش المهراجا، وأقاموا حكومة وطنية هي حكومة (كشمير الحرة) أو (أزاد كشمير)
استنجد المهراجا بالهندستان فبعثت إليه بجنودها ودباباتها وطياراتها، وتقدمت الباكستان تدافع عن أهل كشمير المسلمين، وبدأت مشكلة كشمير تهدد السلام العالمي، وتدخلت هيئة الأمم المتحدة لتحل القضية حلا (عادلا) فوقف القتال عند احتفاظ القوات الهندية بجزء كبير من مقاطعة جمو وسيطرة حكومة (كشمير الحرة) على سائر المقاطعة. وهكذا انتصر رجال القبائل الشجعان على جيشي المهراجا والهندستان. وما تزال القضية منظورة أمام هيئة
الأمم المتحدة
وموقف الهندستان في هذه القضية عجيب. لقد ضمت حيدر آباد لأن معظم سكانها من الهندوس، وهي تعارض في ضم كشمير إلى الباكستان مع أن أغلب السكان من المسلمين. إن غايتها واضحة. إن استيلاءها على كشمير خطر دائم يهدد الباكستان
سهو
جاء في المقال الأول عن الباكستان أن مساحتها 360 مليون كيلو متر مربع، وصحتها 360 ، 000 ميلاً مربعاً ولذا لزم التنويه
أبو الفتوح عطيفة
ماذا قال العلماء في مؤتمر السرطان
السرطان والعلم
خلاصة وافية لآراء العلماء
عن مجلة (باريس متش) الفرنسية
السرطان في طليعة الأمراض التي لم يستطع العلم أن يتغلب عليها حتى اليوم
ففي سنة 1900 كان معدل الوفيات بالسرطان في الولايات المتحدة نحو أربعة في المائة من مجموع الوفيات، فبلغ في سنة 1946 نحو 14 في المائة. ويقول الخبراء إن هذه الزيادة ترجع إلى ارتفاع مستوى عمر الإنسان لأن السرطان مرض يصيب عامة الأشخاص الذين جاوزوا الأربعين، وعلى هذا فازدياد عدد الذين يجاوزون الأربعين بفضل تقدم الطب واكتشافاته يؤدي إلى ازدياد عدد مرضى السرطان
ومع أن السرطان يصيب الشبان والأطفال أحيانا فهو في شرع الطب من أمراض المسنين. في كل سنة يموت في الولايات المتحدة بالسرطان نحو 180 ألفاً وفي فرنسا نحو 75 ألفاً، ومع ذلك ففي كل يوم يشفى عدد كبير من حاملي هذا الداء بكل سهولة وبدون ألم، لأن تقدم الطب في السنوات الأخيرة والوسائل التي اكتشفتها لتشخيص السرطان جعلت هذا الداء من الأمراض السهلة الشفاء متى عولج في أول أمره، ولكنه يتحول إلى آفة مهلكة إذا أهمل وتفاقم
ماذا أدرك الطب من حقيقة السرطان؟ نجيب بكل أسف: لا شئ تقريباً. فكيف يرجى إذن شفاؤه وهو ما زال سرا مغلقاً؟ نقول بالطريقة ذاتها التي تشفي ذات الرئة بالبنسلين، أي دون أن نعرف كيف يتم هذا الشفاء، وبالطريقة نفسها التي يعالج داء السكر بالأنسولين دون أن نعرف حتى الآن العوامل السرية التي ينجم عنها الداء. وهكذا يعالجون فقر الدم المرهق بخلاصة الكبد مع أنهم يجهلون حقيقة هذا المرض
فالأمر لا يدعو إلى اليأس كما يظهر لأول وهلة. وإذا كان العلماء يتعقبون اليوم السرطان في ظلام حالك، فهذا لا يعني أنهم لن يتغلبوا عليه، فشفاء السرطان غير بعيد والعلم ماض في هذا السبيل بخطى واسعة
إن سر السرطان كسر النمو بل هو سر الحياة نفسها، وإلى الآن لم يتمكن أحد من معرفة سر التفاعل الذي يحدث في قلب الخلية الحية، والمعروف من وظائف الخلية 1: أن تمثل المواد الغذائية غير الحية وتحولها إلى مواد حية، وهذه العملية تدعى بالاصطلاح العلمي (أنا بوليسم) وهي مأخوذة عن اليونانية ومعناها التركيب. 2: أن تحلل المواد المركبة الطبيعية الحية وتحولها إلى فضلات بسيطة، وهذه العملية تدعى (كاتا بوليسم) من لفظة يونانية معناها (التحليل) وهاتان الوظيفتان تؤلفان ما يدعونه (ميتا بوليسم)، وما الميتا بوليسم سوى تفاعل الحياة نفسه، محولا إلى شكله البسيط كما يراه الكيميائي
لا ينكر أن العلم قد تقدم في درس الميتا بوليسم، غير أن تقدمه ما يزال محدودا. لقد عرف كيف تحلل الخلية بعض العناصر المركبة وتحولها إلى عناصر بسيطة، ولكنه لا يعرف إلا شيئا ضئيلا عن الطريقة التي تحول بها الخلية العناصر البسيطة إلى عناصر مركبة ضرورية لنموها. ثم إن لدى العلماء اليوم معلومات عن الطريقة التي تحول بها الخلية العناصر الحية إلى عناصر ميتة، ولكنهم لا يعرفون شيئا عن كيفية تحويل العناصر الميتة إلى عناصر حية. إن مشكلة السرطان منوطة بهذا النوع الثاني من الميتا بوليسم، فهي إذن ومشكلة الحياة سواء
والسرطان ليس داء مختصا بالإنسان، بل يتناول الحيوان والنبات أيضا، فهو يصيب الفئران والقطط والكلاب وخنازير الهند والأرانب والخيل والغنم والمعز والضفادع والسمك والطيور وغيرها، كما يصيب أنواعاً شتى من النبات. وهو يختلف شكلا ونوعا، فما يسببه من الأعراض في حيوان لا يسببه في غيره، فإذا لقح أرنب من هافانا مثلا بنوع من الأورام، فقد ينمو كالسرطان، ولكن إذ لقح أرنب من حملايا بالنوع ذاته فانه ينمو بعض الوقت ثم يضؤل. وقد لاحظوا أن معالجة كيميائية قد تنفع في بعض الأورام السرطانية ولا تنفع في غيرها، وهذا مما يدل على وجود أنواع مختلفة من السرطان ، أو أن هذا الذي يدعونه سرطانا ليس داء واحد بل أنواع متباينة وإن يكن تشخيصها الظاهرة واحداً. ولهذا يجب أيجاد معالجات تختلف باختلاف أنواع السرطان. أما والأمر ما ذكرنا فمن الحماقة أن يرتجي اكتشاف دواء واحد للسرطان كما يقال عن دواء وحيد لذات الرئة. والسرطان كغيره من الأمراض يفرض على الطبيب قضايا ثلاثاً: السبب، والتشخيص، والمعالجة
وعلى هذه القضايا الثلاث مدار بحثنا التالي
فسبب السرطان هو أعقد المشاكل التي تعرض الطب في بحوثه السرطانية، وقد تشعبت فيه الآراء، وكلها نظريات لا يؤيدها إثبات مقنع، وفي مذهب الكيمائيين اليوم أن المباحث السرطانية يجب أن تبني على درس الحوامض الخلوية، فقد لاحظوا أن تجزؤ الخلية ينتج عن وجود بعض تلك الحوامض فيها، فإذا تمكن رجال العلم من تشخيص العوامل التي تنظم وظائف انقسام الخلية، فعندئذ نستطيع أن نقول إنهم حلوا معضلة السرطان
إن التجارب التي أجريت في الحوامض الخلوية الموجودة في الكروموزموم (الكروموزوم مادة توجد في نوايا الخلايا التي تتمركز فيها الصفات التناسلية) قد أسفرت عن نتائج مدهشة، فإن نفرا من الخبراء في معهد روكفلر توصل إلى تحويل نوع من الأعضاء الميكروسكوبية في بقة إلى نوع أخر. وهذا أمر لم يحلم به البيولوجيين من قبل. وقد دلت النتائج على أن من الممكن، على الأقل من البقة، تغيير أو تعديل نمو الأعضاء الميكروسكوبية. وليس بدعا أن تتم هذه العملية في الإنسان. ومتى تمت جاز لنا أن نعتقد أن في بعض الحالات غير الطبيعية كالسرطان مثلا يستطاع بوسائل اصطناعية - أي باستخدام عناصر كيميائية أو طبيعية - توقيف النمو غير الطبيعي وتوجيه الخلايا الفوضوية إلى المجرى الطبيعي. غير أن كل هذا لا يخرج الآن عن فرض وأمل، وقبل أن يبلغ العلم هذه الأمنية يقتضي له جهودا كبيرة وتجارب عديدة ومحاولات لا تحصى
وتتجه أنظار البيولوجيين اليوم إلى العوامل التي تسبب الفوضى في الخلايا السرطانية فتنمو بكثرة وبغير نظام، والمعروف عن الخلايا السرطانية أنها أشد نشاطا وأكبر حيوية من الخلايا العادية السليمة. والمبدأ الذي يعتمدون في أبحاثهم قائم على حكمهم بوجود اختلاف كبير في كيفية التغذية بين الخلايا السليمة والخلايا السرطانية ولا سيما الأغذية الكربوهيدراتية. ويرون أن للخلايا السرطانية طريقة خاصة في التغذية، ولكنهم حتى اليوم لم يهتدوا إليها أو بالأحرى لم يهتدوا إلى معالجة فعالة
وهناك نظرية أخرى تقول إن السرطان مسبب عن فيروس فيجب إذن أن يعد في جملة الأمراض الميكروبية. وما برحت هذه النظرية منذ خمسين سنة موضع اختلاف العلماء. وهي تبني اليوم على واقع أثبته الاختبار؛ وهو أن الفيروس سبب سرطان الدجاج وبعض
الحيوانات الأخرى مما يحمل على الظن بأن هذا الفيروس نفسه سيكتشف يوما في سرطان الإنسان. وللعلماء في هذه القضية رأيان: إما أن الفيروس نظرية وهمية، وإما أنه لشدة صغره لم يهتد إليه حتى الآن في الأورام السرطانية. والحقيقة أن الفيروس متناه في الصغر حتى لا يدركه التصور، فلو صففنا 17 مليونا من هذا الميكروب لما جاوز طول الخط السنتمترين ونصف السنتمتر. والأمل معقود على الميكروسكوب الإلكتروني الذي يكبر الشيء مئات الألوف من المرات أن يرينا الفيروس، على فرض وجوده، داخل الخلية المريضة، وفي أثناء المؤتمر الأخير عرض عدة من الأطباء الاختصاصين بالسرطان صور هيئات ميكروسكوبية شبيهة بالفيروس، ولكنها لم تثبت نهائياً
وبحثت في المؤتمر مسألة الغذاء، فقال الدكتور البرتاننبوم من شيكاغو: لو أن عدد السمان في العالم أقل مما هو لكان السرطان أخف وطأة. وتؤيد قوله إحصاءات شركات التأمين التي تدل على أن السمان هم أكثر تعرضا للسرطان من سواهم، ولكن هذا لا يعني أن كل سمين مقدر له أن يكون فريسة للسرطان، بل ينبهنا إلى المحافظة على وزننا العادي. إن لغذائنا علاقة كبيرة بوزننا، فنحن نأكل كثيرا ونتغذى قليلا، أي أننا نستهلك كثيرا من الأصناف التي لا تتفق قيمتها الغذائية وكميتها. أما المواد الغذائية الصالحة فيجب أن تكون مؤلفة على الأكثر من البروتين الذي يوجد في اللحم والبيض واللبن والسمك والجبن والخضار. وعلى الأقل من النشويات كالبطاطس والحبوب والدهن ما إليها. وإذا كان العلماء لم يتمكنون حتى اليوم من نسبة السرطان إلى أسباب معينة فالبحوث الكيمائية في خلال الخمس والعشرين سنة الأخيرة استطاعت أن تنسب إلى عدد من المواد الغذائية بعض أسباب الداء
ومتى وجد لداء واحد علاجات عديدة فليس لأحد منا نفع أكيد. وهذا ما يقال في السرطان الذي يحارب بعدة من الأسلحة. لقد عدد الدكتور وكولم من كولمبيا بين العلاجات التي أستعملها الإنسان منذ القدم: حساء السراطين السهول، اللزوق، الفضة، الذهب، الزئبق، النحاس، الكبريت، الزرنيخ، البرد، ورق البنفسج، الكهرباء، الضفادع السامة، سم الحيات. وفي يومنا لا يقل عدد العلاجات التي تستعمل عن تلك ولكن ليس بينها واحد يمكننا أن نعزو إليه الأفضلية وبين العلاجات التي تعتمد اليوم نذكر بعض العناصر المشعة.
والهرمونات أي خلاص إفرازات الغدد الصماء، مركبات مختلفة من الحامض الفوليك، وكلوريدات الميتيلامين، وكلها لا تضمن الشفاء فهي قد تلجم الداء مدة لكنها لا توقفه نهائيا. وهذا شأن (الخردل الآزوتي) الذي أكتشفه الفرنسيون قبل الحرب ثم أتخذ منه الألمان والأمريكان مركبا في خلالها
كان الأمريكان قبل الحرب الأخيرة ينظرون نظرة الواجف إلى بحوث الألمان في الغازات السامة لا سيما في نوع جديد منها يدعى (أبيريت) فعمدوا إلى درس عناصرها على أمل أن يكتشفوا، على الأقل، معاكسا لها يقيهم شرها. وقد استدرجتهم دروسهم إلى اكتشاف (الخردل النيتروجيني) وهو مادة ذات شأن كبير في مكافحة السرطان، غير أنه وأن يكن في رأس الأدوية التي تعتمد اليوم في معالجة السرطان فليس هو الدواء المنشود
أما الذي أجمع عليه علماء السرطان فهو أنه لا يوجد حتى الآن لمعالجة هذا الداء في أول أمره معالجة فعالة سوى طريقتين: مبضع الجراح، وأشعة الراديوم أو أشعة أكس (أو الاثنين معا) والحقيقة الراهنة أنهم يتمكنون اليوم بكل سهولة من قطع دابر السرطان ولكن في بدايته، وإن لم يكن في قدرة العلم اليوم أن يكتشف الدواء الذي يقضي على هذه الآفة، ففي مكنته أن يكتشف طريقة تشخيصها قبل استفحالها. وقد أدرك العلماء أن مشكلة السرطان لا تتوقف على إيجاد الدواء الناجح، بل على التشخيص الراهن، والتشخيص يؤلف أيضا مشكلة أخرى لأن السرطان هو أحد تلك الأمراض التي تكمن طويلا الجسم، ولا تظهر أعراضها إلا بعد استفحالها، فضلا عن أن أعراض السرطان تلتبس أحيانا كثيرة بأعراض غيره من الأمراض، غير أن الدلائل التي يمكننا أن نعزوها إلى عوارض سرطانية هي:
1 -
كل مرض يطول شفاؤه وخصوصا في اللسان
2 -
كل ورم لا يؤلم أو يزداد حجمه خصوصا في الصدر أو في الشفتين أو في اللسان
3 -
كل نزيف دموي غير عادي من منافذ الجسم
4 -
كل ثؤلول أو شامة يتغير لونها أو يزداد حجمها
5 -
كل عسر هضم مستديم
6 -
كل بحة مستديمة، أو سعال لا يعرف سببه، أو صعوبة في البلع
7 -
كل تغير في البراز
ولكن هذه العوارض لا تظهر لسوء الحظ إلا بعد إن يكون الداء قد تملك من ضحيته، ولهذا يعني العلماء باكتشاف طريقة تمكنهم من تشخيص المرض قبل ظهور أعراضه
إن المعدة هي أكثر أعضاء الجسم تعرضا للسرطان، وتدل الإحصاءات على أن نصف الإصابات السرطانية يتناول المعدة، والنصف الأخر بقية الأعضاء. وأعراض هذا السرطان أقل ظهورا وتشخيصها أكثر صعوبة، ولذلك يدعونه (السرطان الصامت)
وكان الأطباء وما يزالون يبنون تشخيصهم في الأورام السرطانية الداخلية على صور التي تلتقطها الأشعة، غير أن تلك الصور قد تضلل الطبيب أحياناً لغموضها فلا يمكنه الجزم في أمرها. وقد حل هذه المشكلة أخيرا العالم دجون كولتمان من مختبرات وستنهوس في بتسبورغ بصنعه جهازاً يوضح الصور خمسمائة مرة أكثر من الأشعة المجهولة
ومن المعلوم الآن أن الكهرباء موجودة في كل حي، وأن التيارات التي يصدرها أحد الأعضاء كالقلب أو المخ مثلا تختلف عن تيارات الأعضاء الأخرى. وقد عنى الدكتور بر بهذه القضية فعهد إلى الطبيعي سيسيل لاين في صنع جهاز يسجل التيارات الكهربائية الضعيفة. وما كاد يجربه بر حتى أدهشته النتيجة؛ إذ ظهر له أن تيارات الخلية المريضة تختلف بشكلها عن تيارات الخلية السليمة. وفي أثناء تجاربه العديدة خامره الشك في صحة آلته، إذ رسمت شكلا واحد للتيارات المنبعثة من الفئران المصابة بالسرطان ولغيرها من التي كان يحسبها سليمة. بيد أن آلته لم تخطئ وإنما كان هو الواهم، وكم كانت دهشته عظيمة يوم رأى بعد بضعة أسابيع أن كل الفئران - التي خرجت في اعتقاده على القاعدة - قد ظهرت فيها نوامى سرطانية. فتحقق عندئذ أن آلته لم تكذب، بل أنبأت بوجود البؤرالسرطانية في الفئران قبل ظهورها، وعندئذ بدأ بر يجرب جهازه في الأحياء البشرية، وقد أقتصر أولا في تجاربه على النساء فعمد إلى 75 امرأة لا شبهة في أنهن مصابات بالسرطان فلم تسجل الآلة نتيجة سلبية إلا لواحدة فقط. وفحص 616 امرأة فحكم الجهاز سلامتهن ثم فحصهن بطرق أخرى فلم يشتبه إلا بخمس منهن
وقد يكون اكتشاف الدكتور شارلس هينغس الجراح المشهور الكلمة الفاصلة في تشخيص السرطان قبل ظهور أعراضه، وقد قوبل في أميركا (كأمضى سلاح عرف حتى الآن
لمحاربة السرطان)
كان الدكتور هينغس رئيس الجمعية الأميركية للأبحاث السرطانية وقد طالما جال في خاطره أن وجود ورم سرطاني في أي موضوع من الجسم يجب أن حدث تأثيرا في الدم. فاخذ يوما نقطتين من الدم: إحداهما من جسم سليم، والأخر من جسم مصاب بالسرطان، فوجدهما بعد التحليل والفحص الميكروسكوبي متشابهتين لا شيء يفرق بينهما، ولكنه لم يقتنع بهذه النتيجة فواصل تجاربه حتى أكتشف أن دم المصاب إذا اسخن ومزج بالحامض اليودواسيتيك لا يتخثر بسرعة دم السليم، فإذا أستغرق هذا لتخثره عشر دقائق مثلا أستغرق ذاك عشرين دقيقة. وقد امتحن اكتشافه في ثلاثمائة شخص فما أخطأت التجربة قط في أحد منهم. لذلك يمكننا أن نعلن للمرة الأولى دون تردد وحذر أن تشخص السرطان أصبح حقيقة ثابتة وأمرا واقعا، ونستطيع أن نصرح أيضا بأن العلم قد أحرز انتصاره الأول في معركة السرطان. على أن هيغنس نفسه، وهو العالم المدقق، لا يسرع في إذاعة انتصاره، وتقديم رأسه لإكليل المجد قبل أن يدعم اكتشافه بالامتحانات الطويلة والاختبارات العديدة التي يواصلها اليوم
وقد أعلنت الجمعية الأميركية للأبحاث السرطانية بعد أن تحققت اكتشاف رئيسها السابق أن اتقاء السرطان أصبح ميسورا، وأن على كل شخص أن يفحص نفسه مرة في السنة عند طبيبه الخاص أو في مختبر اختصاصي، حتى إذ دل الفحص على نمو سرطاني عالجه قبل فوات الوقت ونجا من شره القتال
إن العلم لم يهتد حتى الآن إلى الدواء الحقيقي الذي يتقي به غائلة السرطان، ولكنه ما وقف قط ولم يقف مكتوف اليدين أمام هذه الآفة الكبرى
ولسنا اليوم تجاه السرطان كالفريسة المقضي عليها التي تنتظر ساعتها الأخيرة، والمحكوم عليه بالإعدام الذي يتوقع الموت بين دقيقة وأخرى. وإذا كان من عادة السرطان أن يدخل فجأة دون أن يقرع الباب فلدينا الآن جرس الإنذار. وما علينا ألا أن نعتمده لكي ننجو من سالب الأرواح
رسالة الشعر
من أغاني الربيع
موكب آذار
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
حبيبي آب آذار إلى الروضة هيمانا
فحيا موكب للزهر قد صفق جذلانا
وراح مع الشذى الساري يذيع الحب ألوانا
يغني فيغني البلبل المسحور جذلانا
وتحت الكرم نبع ماج بالأنغام سكرانا
جرى كالقيد رقراقا وكالأضواء فتانا
وحيا موكبا للحور مفتونا بأنغامي
طروبا بأغاريدي ومسحورا بأوهامي
ربيع الحب نشوان
وفجر الحب سهمان
وعطر الحب أشجان
تضوع فهو ألحان
فهيا ننهب الأفراح يا فردوس أحلامي
تعالي وحي أشعاري ويا نغمة قيثاري
وعودي مثلما عادت لنا أطياف آذار
فوشت كفه السمحة متن الربوة العاري
أما يغريك مرأى الدوح محفوفا بأزهار؟
أما يسبيك سحر الحسن في أجفان آذار؟
أما تغريك بالعودة يا شقراء أشعاري
تعالي. . قبلما تفنى على ثغري الأناشيد
تعالي. . قبلما تذبل في الكرم العناقيد
ربيع الحب نشوان
وفجر الحب سهمان
وعطر الحب أشجان
تضوع فهو ألحان
وهيا نغنم اللذة ما عمرك مردود
بغداد
الشاعر
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
خفيف خفة الظل
…
إذا رف على الماء
كهمس الزهر للطل
…
بأسرار الأحباء
رقيق رقة الفجر
…
طروب كالأغاريد
مزيج من شذى العطر
…
ومن خمر العناقيد
عجيب في سجاياه
…
له كالزهر ألوان
كأن الله سواه
…
ملاكا وهو شيطان
ملاك صيغ من نار
…
وشيطان من النور
يضئ الليل للساري
…
ويحيا في دياجير!
له قلبان لا قلب
…
هما وقف على الحب
بقلب منهما يصبو
…
وبالأخر كم يصبي!
إذا جال بعينيه
…
رأى آماله العليا
فإن هم بكفيه
…
فمحروم من الدنيا
وحيد نافذ الهمه
…
كجيش همه الذود
بعيد الغور والقمه
…
كبحر شطه طود!
يعيش العمر ظمأنا
…
يرى دنياه أنهارا
ويحبو الكون أكوانا
…
ولا يملك دينارا
فحينا هو موهوب
…
وحيناً هو وهاب
وإن غنى فمحبوب
…
إن أن فصخاب
إذا وفق واستعلى
…
رأى في الحسن إحسانا
فإن أخفق أو ضلا
…
رأى في الله شيطانا!
يحار الناس في فهمه
…
فيهديهم إلى شعره
ونور الشمس في وهمه
…
جمال شع من فكره
إذا ما عاش في السفح
…
فبالأشعار في القمه
وإن لم يسع للنجح
…
ينله خامد الهمة
فإن شمر للجد
…
فلا شئ سوى الكد
وإن حاد عن القصد
…
أتاه الحظ بالمجد
عجيب أنت يا شاعر
…
غريب كالمقادير
قضيت العمر كالطائر
…
بلا عقل وتفكير
وإن تجنح إلى العقل
…
تعش كالناس مجنونا
وإن عشت بلا مثل
…
رآك الناس ملعونا
هي الدنيا كما تهوى
…
لديها الخير كالشر
كأن قد خلقت سهوا
…
بلا عقل ولا فكر
فما جدوى لياليها؟
…
وماذا يربح الخاسر؟
سيفنى كل ما فيها
…
ويحيا الشعر والشاعر
من شعر المهجر
نداء بعيد
للأستاذ شفيق معلوف
نداء تردد عبر الحقب
…
فكان له في الأضالع رجع
ومن ثلج سنين شب لهب
…
وفي الأرز حن إلى الصوت جذ
نداء لحيران أيام كان
…
يسوق الأعاصير بالصولجان
نداء بعيد يهز السفوح
…
فينزاح عن طلعة الفجر ليل
وتشهر صيدون سيف الفتوح
…
وتنقل في البحر رجلا جبيل
ويزرع ملكار من قلب صور
…
فجاج البحار وكور نسور
تلوى على الضفتين القصب
…
يجوس المدى حالما بالطروس
وشد مغارزه في الترب
…
وقر هامته للشموس
وقد لفظ البحر بعض نتف
…
من الفجر ملء شفاه الصدف
فماجت معاطف بزفير صور
…
مصبغة باحمرار الجلد
وشع على الأفق للحرف نور
…
من الأزل المنتهي بالأبد
وغلت جذوع ببحر الظلم
…
تدق على كل شط علم
فبغل غداة أدار القدح
…
بخمر السماء انتشى القوم فخرا
وألووا بمنشار قوس قزح
…
يعرون برا ويكسون بحرا
وما ضر لبنان أن يتعرى
…
وقد كسى الكون برا وبحرا
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
احتفال المجمع بإعلان نتيجة المسابقة الأدبية:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الأحد الماضي بإعلان نتيجة المسابقات الأدبية لسنة 1951 - 1952، وقد افتتح جلسة الحفل معالي رئيس المجتمع الأستاذ لطفي السيد باشا، ثم وقف الأستاذ عباس محمود العقاد فألقى كلمته عن مسابقة الشعر، وقد بدأها بالإشارة إلى أزمة الشعر في الغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر، وأورد تعليلات بعض النقاد الغربيين لهذه الظاهرة، ة أهمها أن القرن التاسع عشر تزعزعت فيه الدعائم التي كانت مستقرة، وتبلبلت فيه الأذهان التي كانت تتلاقى على أصول متفق عليها للتفاهم وتبادل الشعور، ولا محل للشعر الفخم، ولا للفن الرائع، حيث يبطل التفاهم بين الناس بالشعور، وينقطع التواصل بينهم بالذوق والخيال. وقال أن بعض النقاد يردون كساد الشعر - مع نظرتهم إلى المجتمع تلك النظرة - إلى عصر الصناعة، وضياع أنغام القصيد، وألحان الفن الجميل في ضجة الآلات وغمرتها
ومضى الأستاذ في ذلك إلى أن أستشهد بما قاله الأستاذ بنتو أستاذ اللغة الإنكليزية بجامعة نوتنجهام في الكتابة عن أزمة الشعر الإنكليزي من أن الفترة التي جاءت بعد الحرب العالمية الأولى بنحو عشر سنين كانت فترة لا يؤمن فيها الإنسان بما يستحق أن يحارب منأاجله أو يستحق أن يحاربه، وسواء فيها أن تناضل في هذا الميدان أو ذاك، فلا محل إذن للنضال
وخلص من ذلك إلى قيام مدارس (استفزازية) في الشعر وسائر الفنون، تقف موقف العاجز المتحدي المستقر، الذي لا يكلف نفسه شيئا ولا يسكت
ثم قال إننا لا نلحظ في مصر تلك النزعات لأن مجتمعاتنا تقوم على أسس غير أسس الاجتماع في البلاد الغربية، فنحن لم ننقطع عن الجادة، ولم تبلغ بنا الحيرة ذلك المبلغ، والشاهد على هذا الموقف هو الديوانان اللذان أجازهما المجمع هذا العام، وهما: ديوان (حياتي ظلال) للأستاذ إبراهيم محمد نجا، وديوان (اليواقيت) للأستاذ خالد الجرنوسي، وكلاهما يشتمل على الأماثل والقصص الذي تستفاد منه العظات، وما دامت هناك أمثولة
فهناك قدوة مطلوبة وطريق مسلوك، وما دامت هناك عبرة فهناك معبر أو منهج معبور
واتى الأستاذ العقاد بأمثلة من شعر الديوانين مع شيء من التحليل الموصل إلى تلك النتيجة، ثم ختم كلمته بقوله عن الشاعرين: كان من مزاياهما أنهما يجمعان في عملهما بين القيمة الفنية والدلالة الاجتماعية، ومن أجل هذه المزايا خص المجمع أحدهما الأستاذ نجا بجائزة الشعر الأولى في هذا العام، وخص زميله الأستاذ الجرنوسي بجائزته الثانية
وأعقب ذلك الأستاذ محمود تيمور بك فألقى كلمته عن القصة، وقد تحدث عن القصة الفائزة (عبور الأعشى) للأستاذ محمود أحمد، حديثاً تحليلياً كشف فيه عن محاسن القصة وذكر بعض المآخذ فيها، ثم قال: ولعلي لا أذيع سرا مجمعيا حين أصارح بأن مجمعنا اللغوي تتردد فيه نزعتان: إحداهما تبغي تسجيل ما أشتهر من الألفاظ وذاع، والأخرى تريد أن ترشح للاستعمال جديداً من الألفاظ الفصيحة فيه غناء، وهاتان النزعتان تمثلتا دون قصد في عناية المجمع بالإنتاج الأدبي؛ فلقد أجاز من قبل أدباء ذوي أسماء معروفة، فكرم انتهاجهم وسجل اشتهارهم، وإنه اليوم ليزكي اسماً جديداً ينتظره الاشتهار ويستقبله الذيوع
وبعد ذلك تحدث الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف بك عن (الحسين بن أحمد المر صفي) موضوع البحث الفائز - وهو للأستاذ محمد عبد الجواد - فقال إنه أحد الأساتذة الذي كان لهم فضل في الدراسة الأدبية منذ بضع وثمانين سنة، ثم ماتوا وتركو آثارهم في الصدور، وقد أراد المجمع إحياء تاريخه عن طريق باحث من معاصريه قبل أن يعفى الزمن على سيرته، وقال أن الأستاذ محمد عبد الجواد صور هذه الشخصية وجلاها، وأبرز ما فعله بيان منهج الشيخ حسين المر صفي في الدراسة، إذ جمع بين العلم والأدب فكان يدرس الشواهد النحوية والبلاغية دراسة أدبية، قال الأستاذ عبد الوهاب خلاف بك ذلك ثم اقترح على صاحب البحث أن يهتم بهذه الناحية من دراسة الشيخ حسين المرصوفي. . وهي منهجه العلمي الأدبي الذي قال إنه أبرز ما في البحث. . فإذا كان هذا الاهتمام واقعاً فكيف يقترحه، وإذا لم يكن واقعاً فلم أشاد به. .؟
نتيجة المسابقات
ثم وقف الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي المراقب الإداري للمجمع، فأعلن نتيجة المسابقات، وهي كما يلي:
1 -
القصة: لم تجد اللجنة بين القصص المقدمة قصة تستحق الجائزة الأولى، ورأت أن خير القصص المقدمة قصة (عبور الأعشى) للأستاذ محمود أحمد، فمنحتها الجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه
2 -
الشعر: قررت اللجنة أن يمنح الأستاذ إبراهيم محمد نجا الجائزة الأولى للشعر وقدرها 150 جنيه على ديوانه (حياتي ظلال) وأن يمنح الأستاذ الجرنوسي الجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه على ديوانه (اليواقيت)
3 -
البحوث الأدبية: لم تجد اللجنة بين البحثين المقدمين ما يستحق الجائزة الأولى، وقررت أن يمنح الأستاذ محمد عبد الجواد الجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه على بحثه (الحسين أبن أحمد المرصفي)
4 -
الكتب المحققة: رأت اللجنة أن الكتب المقدمة لم تستوف شروط منح الجائزة
بقية الجوائز لوزارة المالية
كان المقرر لجميع الجوائز ألف جنيه، منح منها الفائزون 540 جنيهاً، وذهب الباقي - وقدره 550 جنيها - إلى بيت المال (وزارة المالية) إذ منعت الجائزة الأولى في كل من القصة والبحوث الأدبية، ومنعت كذلك جائزة الكتب المحققة كما سبق. وفي رأيي أن أصحاب الإنتاج المقدم كانوا أولى من وزارة المالية التي لا تنتج أدبا تستحق التشجيع عليه!
الكوميديا الإلهية
كان الأستاذ كامل كيلاني قد لخص (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي (دنتي أليجييري) وألحقها بالطبعة الثالثة من شرحه لرسالة الغفران لأبي العلاء المعري، قاصدا بذلك أن يقرن بين العملين الأدبيين اللذين تشابها وكتبت البحوث المستفيضة في مدى ما بينهما من تماثل أو تخالف، وما قيل من تأثر دنتي بالمعري في الخيال الذي طاف بأرواح الخالدين في العالم الآخر
وقد رأى الأستاذ أخيرا أن يعد هذه القصة (الكوميديا الإلهية) إعدادا يناسب الشباب، فأفردها في طبعة جديدة، وتناولها بالدرس والشرح والتحليل في خلال السياق نفسه
ولهذا العمل الذي يقوم به المربي الأدبي الكبير الأستاذ كامل كيلاني، ناحيتان لهما أكبر الأثر في التثقيف الأدبي وبخاصة في تنشئة الجيل وتخريجه وإعداده لتذوق الأدب الرفيع
الناحية الأولى هي قطف الثمرات الأدبية التي أخذت مكانها البارز على فروع شجرة الأدب العالية، ومعالجتها بما يدينها من إفهام الشباب وأذواق المعاصرين على العموم. وقد اختار من الأدب الغربي أربع قصص ذات صيت، أولاها (الكوميديا الإلهية) لشاعر الطليان، والثانية (جلفر) لسويفت الإنجليزي، والثالثة (روبنسون كروزو) لدانييل ديفو الإنجليزي أيضا، وقد ظهرت هذه القصص الثلاث، وبقيت القصة الرابعة التي لا تزال تحت الطبع وهي (دون كيشوت) لسر فنتيس الأسباني
ومما يذكر أن ثمت شبها بين قصتي (روبنسون كروزو) و (حي بن يقظان) لأبن طفيل، كما بين (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران) ويؤيد القول بأن صاحب (روبنسون كروزو) أستلهم (حي بن يقظان) أن هذه القصة العربية ترجمت إلى الإنجليزية سنة 1616م ثم ترجمت من الإنجليزية إلى عدة لغات، والفت (روبنسون كروزو) بعد ذلك بعشرات من السنين
الناحية الثانية، أو الثمرة الثانية، لذلك العمل المخصب، هي الصياغة العربية الجميلة التي يصوغ بها الأستاذ الكبير تلك الآثار الخالدة، هذه الصياغة التي يعطي فيها للناشئ محصولا شهيا من اللغة الملائمة له، وعمل الأستاذ كيلاني في هذا الحقل يشمل إنتاجه الوافر من بدئه مع الطفل في روضته حتى يبلغ بالشاب مستوى النضج. ونراه هنا في (الكوميديا الإلهية) يرتفع بفتاه إلى أسلوب يدنيه من أساليب البلغاء، ويسيغ له ما يراه جديدا عليه من كلمات بوضعها في سياق مبين أو بشرحها بين الأقواس، وهو يأتي بالكلمات المشروحة سائغة عذبة في تركيبها، ولم أجد فيها ما شذ عن ذلك إلا كلمتين ارتطمتا بذوقي وهما (حبيه) و (ودية) في العبارة التالية:(إن اسمي بيتريس وقد جئت إليك من دار النعيم، يدفعني حبيه (محبتي له) ويحفزني وديه (مودتي له). . .) وأنا لا أميل إلى اختيار الكلمات لمجرد إضافتها إلى المحصول اللغوي دون أن تكون خيرا من غيرها
وإني أورد هذه (الملاحظة) كرقية تقي سائر ما يتصف به أسلوب الكتاب من جمال - شر عين الحاسد. . .
مظاهر أبهة وحقوق مضيعة:
قرأت في الأسبوع الماضي كلمة بتوقيع (احمد محمد مرزوق) في جريدة (اللواء الجديد) الأسبوعية، قارن فيها الكاتب بين مقابلتين وقعتا له: الأولى مع وكيل وزارة المعارف المصرية (وكان إذ ذاك حسن فائق باشا) والثانية مع وكيل وزارة المعارف بألمانيا. لاحظ في المقابلة الأولى فخامة المظهر من مكتب فاخر ومقاعد وثيرة. . . الخ وما يصحب ذلك من حجب وانتظار، وقارنه بما رأى في وزارة المعارف الألمانية من بساطة وسرعة استقبال، متمنياً أن نأخذ بمثل هذا ونوفر للدولة ما ينفق على تلك المظاهر وما تجر إليه من تعطيل مصالح الناس
الحقيقة التي لا شك فيها أن الواقع في الدواوين عندنا ينطبق على ما ذكره الكاتب الفاضل، بل هو أكثر منه، وكثير من الكتاب يعتقدون أمثال هذه المقارنات بين ما هنا وما هناك. وفي الموضوع زوايا قد تخفى على بعض الأنظار؛ وهي تتمثل في اختلاف الحال بيننا وبين من نتطلع إلي واقعهم الجميل. . وأود قبل الإنعام في هذه الزوايا، أن أسال: لم خص الكاتب حسن فائق باشا بالذكر؟ ويدعوني إلى هذا السؤال أن فائق باشا بالذات من أقل كبرائنا المصريين ميلا إلى هذه الأبهة والعزة بالسلطان، إلى ما عرف عنه من نظافة السيرة والتشبث بإحقاق الحق، ولا يذكره بغير الثناء إلا الذين منعهم بالحق ما أرادوه بالباطل. . فمثل هذا الرجل لا ينبغي أن يذكر مثلا لأمر عام هو أقل الناس انطباقا عليه
أما الموضوع عينه فأحب أن يكون في الاعتبار، عند النظر فيه، إمكانيات واقعنا، إنه لا يكفي أن نطالب ولاة الأمور بفتح أبوابهم للشاكين وأصحاب الحاجات دون أن ينظر في العوامل التي تكثر من أجلها الشكاوي والمطالب، فإنهم لو فعلوا لأضاعوا وقتهم ولم يستطيعوا أن ينجزوا أعمالهم. والذين يقصدونهم إما صاحب حق مضيع من جراء الفوضى وإهمال الموظفين، أو وصولي يسابق للظفر بما يرضي طعمه، أو جاهل أحمق جاء يطلب ما لا ينبغي أن يطلب، ومن أمثلة هذا النوع الأخير رجل ذهب إلى مكتب وزير المعارف يقول إن أبنه المتقدم لامتحان الشهادة الابتدائية سيسافر معه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج ويطلب أن يؤجل امتحانه حتى يرجع فيعقد له امتحان خاص. .
وكل هؤلاء الطالبين والمطالبين قد استقر في أذهانهم أن (كل شئ بالواسطة) فهم يريدون
أن ينالوا بالوساطة كل شئ. . . والتبعة في كل ذلك تقع على ولاة الأمور الكبار في مجموعهم، فإهمال سواد الموظفين مصالح الناس لا يقع إلا من إغضائهم؟ وتسابق المتسابقين لنيل ما يبغون بالحق أو الباطل ناشئ مما يصنعه أولئك الكبار (المحسوبين) مما يعرفه الناس ويذكرونه محتجين به عندما ترد مطالبهم
فلو عولج كل ذلك لما أضطر الجمهور ولا تسابق الطالبون إلى الهجوم والضغط على ولاة الأمور، ولو وجد هؤلاء الأولياء أنفسهم في غير حاجة إلى الحجاب ومن يدفعون عنهم المحلفين، بل لوجدوا أنفسهم في غير حاجة أيضا إلى الحجرات الفسيحة والأثاث المنضود، لقلة القصاد، وانحسار ما يضفيه عليهم المتوددون والمتزلفون. وأن أكثر ما نراه من الاعتزاز بالمناصب إنما هو الحقوق المضيعة. . .
عباس خضر
رسالة النقد
بطلة كربلاء
للدكتورة بنت الشاطئ
للأستاذ محمد رجب البيومي
حين علمت أن الدكتورة الفاضلة بنت الشاطئ قد أخرجت كتابا عن بطلة كربلاء، زينب بنت علي، أخذت أسأل نفسي عما يمكن أن يحويه الكتاب من مواد، وجعلت أتخيل ما يجوز أن تسطره الكاتبة القديرة، فلا يطوف بذهني غير الدور المحدود الذي مثلته البطلة الهاشمية على مسرح كربلاء!! وقد سارعت بقراءة الكتاب وفي ظني أن الدكتورة الفاضلة تعلم عن صاحبتها الكريمة ما لا أعلم، وستتيح لنا قراءة كتابها الجديد أنباء طريفة لم تجد من يهتم بتسطيرها للقراء، ولكن هذا الظن تبدد حين طالعت الكتاب من آلفه إلى يائه، دون أن أجد ما يغيب عني من أنباء السيدة الهاشمية، وبقيت منفردة بدورها الفريد الذي قامت به يوم كربلاء
فبأي حديث شغلت المؤلفة الفاضلة قراءها بضع ساعات؟! لقد بدئ الكتاب بحديث عن زينب بنت الرسول، وكيف تزوجت العاص بن وائل بمكة، ثم تركته إلى المدينة مهاجرة لدى والدها العظيم، كيف وقع الزوج أسيرا يوم بدر ثم افتدته زوجته الحبيبة وكيف أسلم بعد ذلك ثم تزوجها ثانية بعد أن زال المانع الديني!! كل ذلك قد شغل فراغا من الكتاب لتوافق السيدتين الهاشميتين في الاسم فقط! ولإيضاح السبب في تسمية زينب باسمها الكريم!! وكنا نتجاوز عن السيدة المؤلفة لو أسهبت في حديثها - بلا مناسبة ملحة - مرة أو مرتين أو ثلاثا، ولكنها تمضي في الكتاب على هذه الوتيرة فما تكاد تلم بموقعة أو حادثة حتى تسهب في تسجيلها وتسطيرها، لاهون سبب واضعف داع، مما جعلني أعتقد أن الدكتورة الجامعية قد ظلمت كتابها ظلما عنيفا، حين أسمته بطلة كربلاء، وماذا عليها لو استبدلت به عنوانا ينطبق على مدلوله فلا يصطدم القارئ بأنباء يعدها غريبة دخيلة!! أم أن السيدة الكاتبة تحب أن تتحدث في غير موضوع كما يقال
ولقد كان للمؤلفة الفاضلة عذرها في الاستطراد والإسهاب لو تحدثت عن بطل عاصر
جميع الحوادث المسطورة في الكتاب كعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه مثلا، فهي بإسهابها ترسم صورة صادقة للجو الذي يحيط بعلي، والحوادث التي تقع من حوله، وتتناقل إليه فيستجيب لها، وتحول سلوكه، وتفسر أعماله، ولكنها تتحدث عن أمور لا صلة لها بسيدة جاء دورها التاريخي بعد ذلك بعشرات السنوات في كربلاء! فلم تكلف نفسها هذا العناء؟ وإذا كانت المؤلفة وهي أدبية ناقدة لا تجيز لكاتب يضع مؤلفا عن شوقي مثلا أن يكتب ثلاثة أرباع صحائفه عمن سبق أمير الشعراء من زمن محمد علي إلى البارودي. فيتحدث عن العطار والخشاب وشهاب واليازجي والليثي وأبى النصر والساعاتي ثم يخص شوقي بعد ذلك بفصل أو فصلين لا يشغلان غير اليسير الهين من الكتاب!! إذا كانت المؤلفة لا تجيز لمؤلف أن يفعل ذلك، فلم تصنع هذا الصنيع في كتاب تاريخي يكشف عن بطلة واحدة، ويوحي عنوانه شيء واحد لا ينتظر القارئ سواه، هذا ما لا أدركه بحال
وقد فطنت المؤلفة الفاضلة إلى ما يجره استطرادها المتواصل في الحديث من شطط وجموح، فاندفعت تقول في تبرير هذه الإسهاب (وقد تمر فترة طويلة تغيب زينب خلالها في غمرة الأحداث؛ بل قد نفقد أثرها أحياناً في ضجة الدوي الراعد الذي كان يصم الآذان، ويدير الرءوس، لكننا سنجدها أخيرا بعد أن تكون الأحداث العنيفة قد هيأت المسرح لظهور كربلاء!
(ومن هنا يبدو عذرنا إذ نطيل الحديث عن معارك سياسية قد يظن ظان أنها لا تلمس زينب من حيث صلتها بالقادة والأقطاب؛ على حين نرى في كل هذه المعارك مقدمات لها خطرها في توجيه حياة زينب وأثرها في إعدادها لدورها الرهيب!!) ونحن نرى الدكتورة بعد ذلك تختار حوادث خاصة تسهب في تسطيرها وتدوينها، وتترك حوادث أخرى لا تقل عنها أهمية وتأثيرا ونتيجة، دون أن نلحظ فائدة حقيقية لهذا الاختيار، فهي مثلا تطنب في وصف معركة الجمل فتتحدث في لجب عن عائشة وقد قدحت في عثمان أولا، ثم خرجت تطلب بثأره ثانيا، وتذكر النقاش الذي دار بين أم المؤمنين وفريق من المسلمين، بشأن موقفها من علي، وتعلل هذا الموقف ما يمكن أن يكون بين علي وعائشة قبل ذلك من خصام، والقارئ يلم من ذلك كله بحديث الجمل وأسبابه ونتائجه، ثم ينتظر بعد ذلك فلا يجد سطرا واحدا عن موقعة صفين أو النهروان، وهنا يسأل نفسه أكانت موقعة الجمل ذات
أثر في نفس زينب يعظم عن أثر صفين؟ وهل لا تستحق الموقعة الأخيرة أن يكتب عنها سطر واحد، بجوار ما كتب عن الأولى من صفحات!! أم أن الكاتبة الجامعية تختار ما تتحدث عنه كما يتهيأ لها دون أن ترتبط بخطة ومنهاج!!
وندع الحديث عن الاستطراد الحائر في سطور الكتاب وفصوله نتحدث عن ظاهرة أخرى تلوح في مؤلف السيدة، وهي تتجه بنا إلى صميم بنائه وتجعلنا نتساءل عن حقيقته أهو تاريخي علمي في أسلوب سلس مشرق، أم قصة أدبية اتخذت أبطالها وحوادثها من التاريخ؟ إن المؤلفة تجيب عن هذا السؤال في أول سطر من المقدمة فتقول (هذا الكتاب ليس تاريخا بحتا، وإن أخذ مادته كلها من مراجع تاريخية أصلية، كما أنه ليس قصة خالصة، وإن اصطنع الأسلوب القصصي - غالبا في العرض والأداء) ثم تقول المؤلفة في نهاية المقدمة (وهذا الكتاب لا يعدو أن يكون صورة لحياة تلك السيدة رسمها المؤرخون الثقاة قبلي، ثم جاء المنقبون، فأضافوا إليها ظلالا شبه أسطورية، لها روعتها وعميق إيحائها، وقوة دلالتها، وقد حرصت ما استطعت على أصالة الألوان التاريخية دون أن أهدر هذه الظلال أو أهون من شأنها، لأنها - مهما يكن رأي العلم والتاريخ فيها - عنصر في صورة السيدة، كما تمثلها السابقون وكما رأوها، ولا أرى من حقي أن أسخر بأي ظل منها إلا إذا كان من حق الدارس النفسي أن يسخر بالأوهام والأحلام)
والقارئ حين يطالع هذه السطور يلمس تناقضا تاما ينكره ويأباه، فالدكتورة الفاضلة تعلن من جهة أنها حرصت على أصالة الألوان التاريخية كما رسمها المؤرخون الثقاة، وتعلن من جهة ثانية أنها لم تستطع أن تغفل الظلال الأسطورية أو تهون من شأنها، لما لها من الروعة والإيحاء، وأن الذي يحرص على أراء المؤرخين الثقاة لا ينبغي أن يلتفت إلى الأساطير والخرافات!! فإن فعل ذلك فقد ودع التاريخ والبحث العلمي، وانتقل إلى الفن الأدبي، يحلق في أخيلته، ويهيم بأوديته، فلا ينتظر من القارئ بعد ذلك أن يعتمد على نتائجه وأحكامه، بل ينتظر منه أن يعجب ببراعة اللوحة، ودقة التحليل، وأناقة التصوير. وهذا ما ينبغي أن يتوجه إليه ذهنه دون سواه!! لذلك كان من العجب أن تحدثك المؤلفة عن الأسطورة البلقاء، ثم تعقبها بذكر مصدرها التاريخي القديم، لتوهم القارئ أنها تتقيد بنصوص المؤرخين الثقاة!! ومن الصعب أن تجد من يؤمن بمصادرها الأسطورية من
الناس!! وربما يتضح ما نعنيه من هذا المثال
لقد أرادت الدكتورة أن ترسم صورة للمهد الحزين الذي تقلبت فيه الوليدة الجديدة زينب حين استقبلت الحياة، فوفقت الكاتبة في شيء وخانها التوفيق في شيء آخر. . وفقت حين ذكرت أن الزهراء رضى الله عنها لم تكن أثناء الحمل مشرقة مطمئنة، فقد كانت تعتادها نوبات من القلق والاكتئاب، وأخذت تزداد بعد موت والدتها خديجة، ثم اشتدت حين حلت عائشة مكان الراحلة العزيزة، وهو المكان الذي ترك بضع سنين لفاطمة، ثم كان بين الابنة وزوجة الأب، ما يشبه الذي يكون بين مثيلاتهما من الناس، وفي هذا القلق المضطرب، والنزاع الحائر، ولدت الطفلة العلوية، فتأثرت بما يحيط بها من حيرة ونزاع، وأظل مهدها الوديع سحاب من الحزن والاكتئاب!!
هنا ندرك التوفيق لأن الكاتبة تنتزع فروضها ونتائجها من الواقع المشاهد، أو المحتمل أن يكون، ولكننا نتلمسه بعد ذلك في بقية الفصل فلا نجد ما يدل عليه، إذ أن المؤلفة تنزع إلى الأسطورة المكشوفة، لتكمل بها صورة رهيبة للمهد الحزين، فوالد الطفلة، ووالدتها خائفان متحسران إذ سمعا من الرسول ما ينبئ بمصرع الحسين في كر بلاء، فقد أعطى النبي زوجته أم سلمة زجاجة بها تراب حمله إليه أمين الوحي، وقال لها: إذا صار التراب دماً في القارورة فقد مات الحسين!! وهنا تحول بيت الزهراء جمرة موقدة من الحزن والهلع، وجاءت الوليدة لتتأثر بما يغمر البيت من لوعة واكتئاب
والدكتورة الفاضلة تضيف إلى خبر أم سلمة خبرا مثله عن زهير بن القين البجلي، ليتم لها صورة قاتمة للمهد الحزين، ثم تنقل شكوك المستشرقين في صحة هذين الخبرين، وما يجري معهما في مضمار واحد، وتعقب على ذلك بأنها - بنت الشاطئ - لا تحيل أن يكون شيئا من هذه الشائعات قد شاع!! وأن المؤرخين المسلمين لا يشك أكثرهم في أن هذه الروايات صادقة كلها!!! وليس الأقدمون وحدهم هم الذين نزهوا مثل هذه الروايات عن الشك، بل أن من كتاب العصر من لا يقل عنهم أيمانا بتلك الضلال!! كل ذلك ليكتمل للمؤلفة موضوعها الطريف الذي اختارت لعنوانه هذه العبارة الأنيقة (ظلال على المهد) ولا أدري لم جنحت المؤلفة إلى تسطيره وهو وحده يمل بالقراء إلى الشك في جميع فصول الكتاب!!
إن هذه الأساطير - كما تقول الدكتورة - تصور زينب رضى الله عنها كما تمثلها السابقون من الرواة، ولكنها لن تجعل وحدها المهد المستقر الوادع حزينا قلقا يغشاه الاكتئاب، فإذا أرادت المؤلفة أن ترسم صورة لمكانة السيدة في النفوس، فلتعمد إلى هذه الأساطير مستمدة منها الظلال والأضواء، ولن يعارضها في ذلك ناقد يجهر برأيه للقراء، أما أن اتخذت منها الكاتبة مادة لإيقاد الحزن والكآبة في مهد الوليدة المسكينة فهذا ما لا تقبله العقول مهما امتلأت به الصفحات!!
ونحن نسخر بهذه الأساطير دون أن نبيح للدارس النفسي أن يسخر بالأوهام والأحلام، كما تقول الكاتبة الفاضلة. لأن المحلل النفسي يتخذ مادة أبحاثه من أحلام المريض وأوهامه، فهو لم يخرج عن النطاق في شيء، وهنا يجب ألا نسخر به، أما إذا لجأ إلى أحلام مريض آخر ليصل بها إلى تشخيص علاج حاسم لمريض الأول، فهنا يجب أن نوجه إليه النقد المخلص، وهذا ما فعلته الدكتورة المؤلفة، حيث استدلت بأساطير ملفقة وضعها القصاصون حول سيدة كريمة لا لتصور مكانتها لدى هؤلاء القصاص، بل لتتخذ منها دليلا على ما صادف المهد من لوعة واكتئاب، وكأن الكاتبة بذلك تمحو الشقة الواسعة بين الواقع والخيال، ودونهما المطارح النازحة والمهامه الشاسعات
هذا وقد كانت المؤلفة تخط كتابها عن بطلة كربلاء، وفي ذهنها أنه سيكون من بين كتب الشهر التي تصدر عن دار الهلال، ونحن لا نشير إلى ذلك عبثا، بل نعني أن الدكتورة كانت مقيدة بعدد معين من الصفحات يتحتم ألا تنقص عنه ليخرج الكتاب في حجمه المعتاد، ولعل هذا الوضع الحتمي قد قذف بها مضطرة إلى ما أخذناه عليها من الاستطراد الحائر المتذبذب، كما دفع بها إلى نوع من التحليل يقوم على الفرض البعيد، والتأويل المتكلف، وللقارئ أن يطالع حديث الكاتبة عن الصبا الحزين، فسيجدها تتحدث عن زينب وهي في الخامسة من عمرها، كما لو كانت تناهز العشرين، فتفرض أنها انعطفت إلى أبيها بعد موت الرسول، فسمعته يتحدث عن الحق المغتصب للأسرة في بخلافة، ويتألم للمكانة المجحودة، والقربى المهدرة، كما تنس الصغيرة ذات الخمس منظر عمر وقد اقتحم بيت الزهراء ليحمل عليا إلى البيعة!! وما تبع ذلك من نقاش بين الزهراء والصاحبين الراشدين، فليت شعري أبمكفى أن تكون هذه الأحداث ذات علاقة ماسة بالصغيرة الطفلة!!
إننا نعلم ما يقرره علماء النفس من أن أحداث الطفولة ذات أثر هام يصحب المرء طيلة حياته، فلا يستطيع أن يتخلص من تأثيرها الساحر، مهما امتد الزمن وتطاولت الحياة!! ومن هنا كنت العناية بتنشئة الطفل مقدسة محتومة. ولكن أي الأحداث تنفرد بالتأثير والبقاء طيلة الحياة؟؟ من المؤكد أن ما يتعقله الطفل، ويلمسه بيده، ويخالط شعوره وإحساسه، هو ما ينطبع في مخيلته، ويصاحبه في مراحل عيشه، أما ما يحيط به دون أن يدرك مراميه واتجاهاته، فلا يأخذ مكانه من الشعور والإحساس، بل يمر مراً سريعا طائرا دون أن يخلد إلى ركون واستقرار، وما أرى أن بيعة المسلمين لأبى بكر دون علي قد خالطت شعور الطفلة الناشئة، أو جالت بخاطرها بضع لحظات، فلم نتخذ منها مقدمة لنتيجة لا تؤدي إليها بحال، وقد يكون ما ذكرته السيدة عن وفاء الزهراء، وزواج علي بأخريات بعد فاطمة، قد ترك أثره المحزن في نفس الطفلة، لأنها تحسه تمام الإحساس، أما حديث البيعة والنقاش بين فاطمة والصاحبين فما لا يقام له حساب في هذا الموضوع بالذات، إلا أن يكون الغرض تسويد الصفحات
هذه بعض ملاحظات عابرة لا تغض من قيمة الكتاب، وقد تحاشيت أن أناقش كثيرا من الجزئيات التاريخية، فاعرض لها بتأييد أو تفنيد، مكتفيا بالملاحظات الرئيسية التي تشمل الأساس والتصميم دون أن افحص أحجار البناء المتراصة، حيث كان الهش اللين منها محاطا بأعمدة صلبة تعوقه من التداعي السريع، ولا ننكر في النهاية ما بالكتاب من سلاسة مترقرقة تجذب القارئ إلى مطالعته في شوق وارتياح، وتحمل آلافا من الكسالى الخاملين على القراءة المثمرة والاطلاع المفيد؛ بدل أن يعكفوا على الروايات البوليسية، والقصص العاطفية، وما تزخر به الصحافة الماجنة من تبذل واستخفاف
(أبو تيج)
محمد رجب البيومي
المسرح والسينما
فرقة المسرح المصري الحديث
في روايتي (كسبنا البريمو) و (طبيب رغم أنفه)
للأستاذ علي متولي صلاح
بدأت فرقة (المسرح المصري الحديث) موسمها الثاني بدار الأوبرا الملكية بتقديم مسرحيتين معا في ليلة واحدة، لأن واحدة منهما منفردة تقصر عن الوفاء بالليلة كلها، أولاهما (كسبنا البريمو) للسيدة الفاضلة صوفي عبد الله، وأخراهما (طبيب رغم انفه) لموليير
ونستطيع أن نلخص الأولى - في كلمات قصار - بأن عاملا أصيب بكسر في ذراعه اليمنى وهو يقوم بعمل إنساني نبيل، فأقعده ذلك عن العمل، وضاقت به الحال حتى اضطر إلى أن يبيع أوراق (اليانصيب) في الطرقات، وهو عمل لا يكاد يخلف عليه من الرزق ما يمسك أوده وأود زوجته وابنته. . وأخذت حياتهم تنحدر من سيئ إلى أسوء، وكانت الزوجة حاملا في شهرها السادس فراودت نفسها
- تحت تأثير ضرورات العيش الملحة القاسية - أن تجهض نفسها (كذا!!) وتتخلص من هذا العبء الجديد! ولكن الأمر لم ينته إلى ذلك، بل تحول إلى بيع الزوجة جنينها لقوم أثرياء ابتلاهم الله بالعقم، وهم يلتمسون الولد التماسا ليورثوه ما يملكون من مال وعقار. . ولكن ظرفا لم يكن منتظرا غير مجرى هذا التحول وأنقذ الوالدة والجنين وجلب لهم كذلك مبلغا طيبا من المال من حيث لا يحتسبون! وهكذا انتهت المسرحية. .
والموضوع - كما يرى القارئ - ضحل قريب المتناول، والافتعال يسري في جميع الحوادث، ولولاه ما نهضت حادثة واحدة من حوادث المسرحية كلها، ولانهارت عند أول مواقفها! وليس في الأمر موضوع ولا عقدة، وأغلب الظن أن المؤلفة الفاضلة لا تهدف إلا إلى أن تخاطب أعنف الغرائز في الإنسان، وأن تعرض عليه مجموعة من البشاعات التي يرتاح بعض ذوي العقول البسيطة لرؤيتها، وأن تمتع نظره
- لا عقله وقلبه - بمشاهد متتابعة من الفاقة والحرمان وضيق الحال وما إليها. وأنا أقول
(المشاهد) وأنا أعني ما أقول، فليست هذه المسرحية - في الحق - إلا مجموعة من هذه المشاهد العنيفة الصارخة (ميلودراما) لا تحمل في طياتها شيئا غير صورها الظاهرية، فإذا انتهت هذه الصور انتهت معها كل عاطفة، وسكنت في المشاهدين كل ثائرة، وأصبحت المسرحية - بعد دقائق معدودة من شهودها - في ذمة التاريخ
هذا - إلى أن الرواية ملأ بعيوب يحسن بالمؤلفة الفاضلة أن تعنى بتلافيها، وأن تأخذ نفسها بكثير من الجد والصرامة حتى تخلص منها، فهي لم تستطيع أن تبث الحياة النابضة في شخصية واحدة من شخصياتها، اللهم إلا شخصية (الداية)، ولم نرى في العواطف المبذولة أمامنا تحولا أو تغيرا، وإنما هي صور متكررة متماثلة تقريبا، واضحة التفكك والتفرق، وبعض النكات التي أوردتها فيها انحراف ونبو عن الذوق يجمل ألا يعرض على الناس، كقولها للضابط الذي يسأل عن دورة المياه إنها (في وش حضرتك)! فهذا كلام لا يقال على خشبة المسرح التي يجب أن تكرم وتصان عن هذا الدرك الأسفل من المزاج. . أما الافتعال فقد سبق أن قلت إنه أساس هذه المسرحية، ويبدو هذا بأجل صورة من الخاتمة فهي افتعالات يجر بعضها بعضا، كاستدعاء البوليس لمجرد تأوه الزوجة الحامل! وتصادف حضور الطبيب بعد ذلك بدعوة من هذا البوليس! ثم تصادف حضور المرأة الثرية التي اشترت الجنين والطبيب موجود، فإذا به أبن أخي زوجها وأحد الذين تريد أن تحجب الميراث عنهم!! وهكذا تجد سلسلة عجيبة من الافتعالات التي تزهق روح المشاهد!!
ونصيحتي للسيدة الفاضلة أن تؤجل الكتابة للمسرح بضع سنوات تدرس فيها هذا الفن، وأن تعلم أن الأمر في المسرح ليس كالأمر في الأقصوصة القصيرة التي تنشر الكثير منها على الناس، وأن المسرح عسر لا يسر
وأما الرواية الثانية فهي رواية ذلك الرجل الذي أكرهته الظروف على أن يكون طبيبا رغم أنفه فكان؟ وعرضت عليه فتاة اعتقد أهلها أنها أصيبت بالبكم ليحل عقدة لسانها، فعرف السر الخلفي في هذا البكم، وأدرك أن الفتاة تدعيه تخلصا من زيجة يريد أهلها أن يكرهوها عليها وهي تعشق فتى آخر! فانحلت العقدة من لسانها ونهض الرجل قاطع الأخشاب بما لم ينهض به نطس الأطباء، وانتهى الأمر بانطلاق لسانها وبزواجها من عشيقها معا!!
وهي رواية ذات فصل واحد، إلا أنها في الذروة من كمال التأليف وحسن العرض وحبكة
الموضوع وجمال النكات وعفتها وعدم ابتذالها، إلا أنهم أرادوا أن يصبغوا بعض هذه النكات بالصبغة المحلية فأوردوا الكلمة المشهورة (موت يا حمار لما يجيك العليق) فكانت وسط نكات موليير كالرقعة في الثوب الجميل الصقيل!! وأنا أسوق هذه على سبيل المثال، فقد ورد سواها ولكنه كان أخف وقعا من هذه الصخرة العاتية!
هذا - وقد نهض بإخراج هاتين الروايتين شاب مرموق كان باكورة ما قدمت لنا فرقة المسرح المصري الحديث من المخرجين، بعد أن غمرتنا بالممثلين والممثلات ممن ثبتوا على خشبة المسرح ثباتاً لا يرجى بعد اليوم له تزعزع أو انهيار، وقام بالإخراج قياماً نحمده له كثيرا، وإن كنت آخذ عليه أنه لم يحسن اختيار الأثاث في (طبيب رغم أنفه) فقد جاءنا بما لم يكن في هذا العصر من أثاث، وأورد من الكراسي والستائر ما لا يتفق مع ما كان قائماً في عصر لويس الرابع عشر، وعلى كل فأنا أرجو لهذا المخرج الشاب أن يمضي قدماً في فنه، وأهنئ الفرقة بهذه الباكورة الطيبة من شبابها المتوثب الناهض
أما الممثلون فقد بلغ بعضهم منزلة لم يبلغها - بعد - السابقون الأولون من رجال المسرح، فقد كان عبد الغني قمر (الطبيب) - مثلا - يمضي على المسرح في خفة ورشاقة، ويؤدي دوره في صورة طبيعية حاذقة فاهمة، كأنما هو يقرأ من كتاب مفتوح داخل جدران أربعة لا يراه فيها إنسان!! الحق أن الأستاذ عبد الغني قمر جدير في قيامه بدور هذا الطبيب بالإعجاب الذي لا حد له، وقد أغفلت الثناء على الآخرين لأني سأختار من كل رواية ممثلها الأكثر براعة وخفة وفهماً لدوره، على أن يكون واحداً فرداً في كل رواية دون نظر إلى نفس الدور الذي يقوم به كبر أم صغر، وقل أم كثر. . وقد نظرت إلى ذلك الواحد في هاتين الروايتين فكان (عبد الغني قمر). . .
علي متولي صلاح
القصص
الشيطان والعجوز
عن الكاتب التشكوسلوفاكي جي راب
للأستاذ كارنيك جورج ميناسيان
جلست عجوز شمطاء إلى مائدة بين الأشجار، في حديقة الحانة، بعيدة عن البقعة التي يتحلق فيها الراقصون من فتيات وفتيان، يدورون وينقرون بأقدامهم على ألواح الخشب التي رصت على أرض الحديقة فغدت صالحة للرقص
ظلت العجوز تتأمل ما يجري أمامها دون أن يبدو عليها أنها تهتم بها، وقد كانت هي الوحيدة التي تجس وحدها منزوية في تلك الحانة! فبذلك لفتت انتباه إحدى الفتيات، فقالت لفتاها ساخرة:
- أنظر، تلك عجوز تتصبى، ما أمكر نظراتها. . ما لها لا ترقص وإيانا؟!
فتمتمت العجوز:
- أين الذي يراقصني. .؟ إنني مستعدة، حتى لو طلب إلي الشيطان أن أراقصه لما رفضت
عندئذ تقدم رجل غريب، أسمر اللون، يلبس قبعة خضراء واسعة، قامت عليها ريشة طويلة، فانحنى أمام العجوز قائلا:
- أتمنحينني شرف هذه الرقصة؟
. . فرقصا. . وبالرغم من برودة الجو ورطوبة المناخ استمرا يرقصان بنشاط غريب وبشكل عجيب! وكلما تلكأت الموسيقى وفترت قليلا رمى ذلك الرجل الغريب قطعا من النقود الذهبية إلى أفراد الفرقة الموسيقية وأمرهم بالاستمرار. .
أستمر الرقص حتى منتصف الليل! فتوقف الرجل الغريب ثم سحب زميلته العجوز مبتعدا بها عن ذلك المكان! بعدئذ صمتت الموسيقى فمسح العازفون جباههم. ولم يلبثوا أن فتحوا عيونهم دهشين ينظرون إلى الرجل الغريب والعجوز وهما يبتعدان متوغلين في الغابة القريبة!
وحين هم الرجل بمفارقه زميلته العجوز تشبثت به قائلة:
- اسمح لي بمرافقتك حتى مسكنك
فقال لها - إن مسكني بعيد، بعيد جداً
فقالت - سأرافقك. لن أتركك ولو كان مسكنك في القطب الشمالي!
فقال - كما تريدين. ألقي نفسك على ظهري. وتعلقي برقبتي جيدا
فلما فعل ضرب الرجل بقدمه اليسرى فانشقت الأرض، ولمع ضوء كضوء البرق، كما دوى صوت كصوت الرعد! فهبط الاثنان إلى أعماق الأرض! كان ذلك الرجل الغريب شيطانا رجيما!
فلما وصل بالعجوز إلى الجحيم، أراد أن ينزلها من ظهره فأبت! فحاول ثانية فعصت! كانت تطوق عنقه بقوة حتى ظهرت عروق وجهه وجبهته زرقاء نافرة! لم تنجح محاولاته الكثيرة. . فطفق يتجول بحمله الثقيل في أشد محلات الجحيم سعيرا وأكثرها أهوالا! لكنها بقيت تطوق عنقه بشدة! حتى ضاق ذرعا فتوجه إلى ملك الجحيم يسأله حيلة يتخلص بها من حمله. فضحك ملك الجحيم من حاله وقال له:
- الطريقة الوحيدة للنجاة - أيها المجنون - هي أن تعود بها إلى الأرض، فتتركها حيثما وجدتها
رجع الشيطان إلى الأرض يصب كل اللعنات الجهنمية على عجوزه وعلى الساعة التي عرفها فيها. فسار في البرية يلهث من التعب، فصادف راعيا شابا يغطي جسده بجلد من جلود الأغنام وما إن رأى الشيطان لاهثا حتى قال له هازئا:
- يا لها من طريقة لحمل النساء الفاتنات!
فقال الشيطان كاتما حنقه - هذه هي الطريقة التي ترتاح إليها عند السفر
أجاب الراعي قائلا - لم اقصد هذا، إن حملك الجميل ثقيل جدا، بحيث جعلك تلهث تعبا، هل أستطيع مساعدتك؟
فلم يكد يسمع الشيطان هذا القول حتى تنفس الصعداء، وأسرع يجيب متوسلا وقد تقاطرت من عينيه الدموع:
- بربك أيها الصديق ارحمني، أشفق علي، فإني أكاد أختنق وأكاد أموت تعبا، إني بحاجة
إلى الراحة، ولا أستطيع السير خطوة أخرى. .
حينئذ قرب الراعي رأسه إلى عنق الشيطان، فرأت العجوز في الراعي شابا قويا، له رداء فاخر، فوجدته خيرا من الشيطان، فأسرعت وتركت عنق الشيطان وطوقت عنق الراعي الشاب بقوة شديدة!
فلم يصدق الشيطان ذلك، لم يصدق أنه أصبح حراً، وأنه تخلص من تلك العجوز إلا بعد مرور وقت طويل. .! فشكر للراعي صنيعه، وتناول عصاه وأنشأ يقود القطيع تاركا إياه مع حمله. . خلفه
وبعد قليل رأى الشيطان صديقه الراعي يلحق به راكضا. . وحده! دون أن يرى للعجوز أثراً على ظهره. . ففرك الشيطان عينيه وأعاد النظر! فلم يصدق ما يرى. .! حتى أقترب الراعي وقال:
- لا تدهش فقد تخلصت منها ببساطة. قصدت بحيرة قريبة فنزعت ردائي وكانت العجوز متعلقة بطوقه، فألقيته في أعمق مكان من البحيرة. ولم يلبث الرداء أن طفا على سطح البحيرة تاركاً العجوز تحت الماء. . فأخذته وأسرعت إليك، إذ يجب أن أسرع في إعادة القطيع إلى الحظيرة
أجاب الشيطان مسرورا - إني عاجز عن شكرك، وأرى من الواجب علي أن أرد لك مثل هذا الجميل الذي قدمته لي. . سأتوجه إلى مدينة (براغ) فأحل في جسد ابنة الملك وسيحاول الملك طردي، مستعينا بكافة الوسائل، لكنني لن اترك الفتاة. فسيضطر إلى جعل مكافأة كبيرة لمن يخلص ابنته الوحيدة مني، وما عليك عندئذ إلا أن تأتى أنت، فتهمس في أذن الفتاة قائلا لي (أنا صاحبك الراعي) فأخرج بسرعة فتشقى الفتاة، وبذلك تنال أنت جزاء إحسانك إلي
وما أن أنتهى الشيطان من كلامه حتى واجه الريح، ناشرا ذراعيه، ثم أنطلق طائراً في الجو، وتوارى بعد لحظات
فقطع الراعي مسافات كبيرة متوجها إلى (براغ) حتى وصلها بعد أيام. فوجد السكان محتشدين في كل ركن من الشوارع يتهامسون ويتناقشون! في تلك المصيبة التي حلت بالأميرة ابنة الملك. وبعد قليل توسط الساحة العامة المنادي الرسمي وتلا البيان التالي
الصادر من الملك:
(بما أن ابنتنا الأميرة المحبوبة مريضة، قد دخلها شيطان خبيث، فنحن نتألم لأجلها أشد الألم. ونتوقع أن يأتي من يخلصها من ذلك الشيطان. فليسمع جميع أفراد الرعية ويكن معلوما أن من يستطيع ذلك سيتزوج الأميرة في الحال، وسيكون وزيري الأول في إدارة المملكة)
فمضى الراعي ودخل القصر الملكي، فرأى هناك رجلين يضربان بالسياط، جزاء لهما على فشلهما في طرد الشيطان! فأدخل الراعي على الملك. فنظر إليه هذا كأنه يرتاب في صدق زعمه، بيد أنه أدخله حجرة أبنته، إذ كان مستعدا لتجربة كل علاج واتباع كل طريقة. فوجد الراعي الأميرة شاحبة الوجه، مستلقية في فراشها ناظرة إلى الأعلى بعيون شاردة كأنها لا ترى شيئا! فاستدار إلى الملك وطلب إليه أن يترك وحده، فأجيب إلى طلبه وعندما اختلى الراعي بالأميرة تقدم وهمس في أذنيها بما لقنه الشيطان، فأجابه الشيطان (وداعا، أنا راحل، ولكن أعلم أنها المرة الأولى والأخيرة التي أطيع فيها أمرك) وهنا لمع بريق خاطف صاحبه دوي عنيف، أحدثهما انطلاق الشيطان ومروقه من النافذة
فأصبح الراعي زوج الأميرة، كما أصبح الوزير الأول في المملكة، فقضى أياما مريحة هانئا
بعد أن غادر الشيطان جسد الأميرة حن ثانية إلى. . . أميرة أخرى. كأنه وجد لذة في أجساد الأميرات! فقد جاء إلى مدينة (براغ) رسول من المملكة المجاورة يلتمس من الوزير (الراعي) أن يتفضل لإشفاء ابنه الملك التي سقطت طريحة الفراش بعد أن داخلها الشيطان! فتذكر الوزير الراعي ما قال له الشيطان فاعتذر عن إجابة الملك المجاور، فأرسل هذا وفود كثيرة، وألح في الطلب، بيد أن الوزير كان يقول: إنه غير قادر على ذلك (حتى لم يطلق الملك الجار صبرا فأرسل يهدد الوزير بالحرب إذا هو رفض معالجة ابنته فلم يسع الوزير الراعي إلا أن ينزل عن رأيه، فودع زوجته وركب فرسه قاصدا المملكة المجاورة
وعندما أدخل على ابنة الملك سمع صوت الشيطان يصيح به من خلال جسد الفتاة (ماذا تريد؟ إني لن أطيعك هذه المرة أنسيت قولي، أنك فاشل، فأنا سأبقى هنا ولن أفارق الفتاة،
فمن الخير لك أن تنسحب). لكن الوزير لم ينسحب، بل صمت مفكرا ثم تقدم وهمس في أذن المريضة مخاطبا الشيطان
- إنني أسف، فلا غاية لي من ذلك أبدا، إني أريد أن أخدمك أنت. ولك أن تبقي حيث أنت، لقد جئت أخبرك - أيها الصديق - أن تلك العجوز لم تغرق في البحيرة، لقد نجت وقد رأيتها تجد السير في طريقها إلى هذا المكان!
وهنا رأى الوزير ستائر النافذة تتمزق شر تمزيق؟ كما رأى العليلة تستوي جالسة، فقد غادر الشيطان. . . وغادر الغرفة بسرعة غريبة، بحيث لم تحدث صوتا ولا ضوء ولا حركة. . إلا أن الستائر تمزقت عند مروقه منها
ومنذ ذلك اليوم لم تعرف تلك البقعة من الأرض مصيبة أخرى من مصائب الشيطان؟
نزيل البحرين
كارنيك جورج ميناسبان
البريد الأدبي
آن للأزهر أن ينهض
نشرت الصحف المحلية أخيرا أن إدارة الأزهر قررت عمل مسابقة علمية بين مختلف طلاب الأزهر وكلياته وأنها رصدت ألفي جنيه مكافأة للفائزين؛ وهذه خطوة مباركة جديرة بالإكبار والتمجيد طالما تمنيناها ودعونا لها وطالما تمناها المخلصون للأزهر ودعوا لها لأنها ذات أثر فعال لشحذ همم الطلاب واستغلال جهودهم وحيويتهم للاستزادة من العلم والتنافس في حلبته خصوصا ونحن الآن في زمن طغت المادة فيه على كل شيء وأصبحت هي الحافز الأول والأخير لصقل العزائم وتسخر القوى، وليس من الكياسة في شيء إغفال هذه النزعات أو الاستهانة بها والتهوين من قيمتها، وسيرون الناس كافة الآن الواضح لتلك الخطوة المباركة، وسيرون جميعا توثب طلاب الأزهر لنهضة علمية نافعة تظلل هاماتهم بالمجد والفخار وتعلي من شأن جامعتهم العتيقة التي نرجو أن تظل فتية مثمرة. وأمل بإذن الله تعالى أن تحافظ إدارة الأزهر على هذه السنة الميمونة، ويا حبذا لو ضوعفت قيمة المكافأة ليجعل نصفها للفائزين من بين الطلاب ويخصص نصفها الأخر للأساتذة والخريجين الذين ينتجون أحسن مؤلفات علمية في الدين والأدب واللغة والاجتماع، وارجوا للأزهر المزيد من هذه الخطوات النافعة لينفض عن نفسه غبار الكسل وسبة التقاعد حتى يشع ضوءه ويلمع سناه في جميع الأفاق
علي إبراهيم القنديل
الوتد الغائب
وقف الملاحظ الأسبوعي في العدد 975 من الرسالة عند بيت من الشعر في قصيدتي (الفدائيون) المنشورة في مجلة (المسلمون) وهذا هو نص البيت من أصل القصيدة (في خطاب الشعب): -
كل هذا. . وأنت في دورة الأيام تمشي مستغشياً في سباتك!
فلعله يطمئن الآن إلى أن (الوتد المجموع. .) ما زال حاضراً في التفعيلة الثانية من عجز البيت، وأن أختها الأولى هي التي ظلمها جهاز المطبعة بالعجلة التي وقانا الله شرها في
هذا الزمان
محمود حسن إسماعيل
رأسا. . .
لاحظت أن شركة مصر الجديدة كتبت على وجهة مركباتها التي تقوم رأسا من مصر الجديدة إلى القاهرة كلمة (طوالي) بالخط العريض. . . فيا حبذا لو اختارت الشركة كلمة (رأسا) بدلا من كلمة (طوالي) فهي أصح لغة، وأرق تعبيرا. وتؤدي نفس المعنى المقصود
عيسى متولي