الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 98
- بتاريخ: 20 - 05 - 1935
هو ذا الربيع!
للآنسة النابغة (مي)
الربيع الربيع، هو ذا الربيع!
في قمر الأسحار، في انبلاج الأسحار
في مرح الأطيار، في عبير الأزهار
في النهار الدوار، في الأصيل البديع!
الربيع الجديد، هو ذا الربيع!
أنا القلب السعيد، وهو ذا الربيع!
في سويدائي يحتجب الوجه المحبوب دواماً
وراقه أن يستهل مشرفاً على البرية، فانقلبت قبة الفلك محراباً تلألأ فيه طيف من بهائه، وفي مدى الأبعاد شاعت بهجة تعكس شيئاً من حلاوة ابتسامته وفيض سنائه. وانبرى الربيع يزجي آيات التسبيح والتهليل بأشكاله وألوانه، لأنه اقتنص لمحة من ذلك الوجه، فتنضحت مجاليه برونقه واتزرت بروائه
وتجمدت الأزمان في لحظة، فهي أبدية آبدة تخلد حبوري والوجود كله هالة تحيط بالوجه الفريد المعافى وخوالجي حيال الوجه وهالته نبض للوجود وترتيل:
(أنت مرتع هيامي، أيها الربيع!
(يا ربيع النشوان، أيهذا الربيع!)
أنا الحدائق والرياض، وهو ذا الربيع!
أرواح الأحباب والخلان متجمهرة في رحابي
معارض الوشى والزركشة نضيدة، ومتاحف اللمعان والإشراق عديدة؛
الأشجار تكللها تيجان الظلال والأنوار، وفيالق الغصون خاشعة كأنها في حضرة ربانية؛
والمرئيات كلها على ارتقاب وانتظار، تتوقع نبأ خطيراً قد يكون إفصاحاً عن بعض ضمير الأكوان.
أقضي الأمر ففزت، يا أخواتي الكائنات، بما كنت تتوقعين؟
سيال من ذوب النصر والابتهاج يدفق علينا، وكان كل ما ترى في الأمكنة من مراجع
الألحان يتلخص في حضني نشيداً:
(شتيت الأجزاء وحدة واحدة، أيها الربيع!
على طور حسنك نتجلى معك، أيهذا الربيع!)
أنا الينبوع الصافي، وهو ذا الربيع!
ظليلة تحنو الشجرة علي، وأنا في فيئها الحنون جاثم.
بلورية الجلباب بلورية الرنين تتلاحق مياهي، وقد أودعها الربيع لاعج الشوق ووصب الحياة؛
وفي مترنح أسجوعتها نداء وإغراء، ونعومة واستعطاف، ووعد ووفاء، وثقة ونوال.
مياهي تفضض الحصى وترطب الأعشاب والادغال، في جريها الحثيث إلى حيث لا تدري. هي تتوق إلى رشيد السخاء كيلا تحسب ولا تدخر.
وتتوالى الساعات فلا يتفيأ شجرتي شريد الهجير، ومرآتي المتثنية لا ترسم وجه المرتوي الشكور!
ليس من عابر، غير ذلك الذي مني أخذ ما أخذ ليقذفني بالأحجار، ويترك منه تذكاراً، اللعنة والأقذار!
اليأس خالط صفائي، والكآبة حلت في مياهي!
وبت أحلم بالذين طوحت بهم السبل فهاموا في القفر عطاشا، بينا مدرار أجاجي يناديهم وينطق باسمهم جزافاً!
ولامستني مؤاسية في الظلام الأفنان، فاستحالت مياهي عبرات وغدا نشيدي شهيقاً وانتحاباً:
(الربيع الحزين الحزين، هو ذا الربيع!
(ربيع الجحود والهجران، كيف احتمل الربيع؟)
أنا الصحراء القحطاء، وهو ذا الربيع!
الصحراء الواجمة الكتوم، كذلك كنت وكذلك أكون!
الحياة صور وأشكال وسنن؟
أفي الحياة ولادة وموت؟
أفي الحياة تبديل وتحويل؟
أفي الحياة نمو ونشوء وازدهار؟
مه عن الصحراء، أيهذا اللغو السقيم!
أنا مملكة العي والبكم والصمم والعمي!
أنا منطقة السأمة الآيسة والغليل القتال!
مائي سراب، وظلي تراب، وسبلي أتاويه، وملامسي لوافح وسموم، ومعالجي مجاهل المفاوز، وأفجاج الأهوال.
إني في ربدتي ومحلي حجة رهيبة على إجحاف الأقدار، الأقدار التي تعاقب بلا ذنب وتغرم بلا سبب، وتبتاع خصب المروج بعقمي المقيم
أنا في قحطي المفروض وسكوتي المستمر، أسيرة الوحدة والانزواء.
أنا في رحاب الأرض حبيسة.
أنا تزدردني الرمال على الدوام، فأنى لي أن أعول:
(ليس لي الربيع، ليس لي الربيع!
(ربيع الرمال والسعير، ما حاجتي إلى الربيع؟)
هو ذا الربيع، هو ذا الربيع:
مغرياً في الفضاء، فتاناً في الحدائق،
بهيجاً في الالوان، رشيقاً في الشقائق،
طروباً في قلب الجذلان!
هو ذا الربيع، هو ذا الربيع!
كئيباً في قلب المظلوم، جريحاً في قلب المحروم؛
شاملاً بعطف نصفه قسوة،
حاضناً برفق نصفه عنف،
موحياً أملاً نصفه يأس،
مذكياً خصباً نصفه قحل،
حافزاً شباباً نصفه هرم،
مجدداً حياة نصفها ردى!
الربيع الربيع، لمن يكون الربيع؟
الربيع الجديد هو ذا الربيع!
الربيع العابر، هو ذا الربيع!
(مي)
4 - الانتحار
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال المسيب بن رافع: ومد الإمام عينه وقد رفع له شخص من المجلس؛ ثم جلى بنظره كأنما يتطلع إلى عجيبة كالحق إذا بطل، والصدق إذا كذب؛ ثم رد بصره علي كأنه يعجبني من عجبه؛ ثم سجا طرفه كأنما أنكر رأى عينيه فهو يلتمس رأى قلبه. وتبينت في وجهه انقباضاً خيل إلى أن الشيطان جاءه بهذا الرجل يفحمه به يريه كيف يجعل أحد المؤمنين الصالحين يتحمس في دينه ليرجع بعد ذلك أصلاً لا غنى عنه في إنشاء قصة كفر!
هذا هو ضيفنا (أبو محمد البصري) يتخوض الناس ليجيء فيحدثنا حديثه في قتل نفسه والأثم بربه؛ فلو قيل لي: إن قوس السماء بأحمره وأصفره وأزرقه وأخضره، قد وقع إلى الأرض واصطبغ من ألوانه أوحالاً وأقذاراً - لكان هذا كهذا في تعاظمه وإنكاره والعجب منه؛ فأبو محمد من الرجال الخمس الذين لو كفر أحدهم ثم قيل (إنه كفر)، لقصر اللفظ أن يبلغ الحقيقة أو يصف شنعتها، كما يقصر لفظ الجنون عن وصف حكيم تآلى أن يعمل عملاً يخرج به من الكون، فلا يبقى في أرض ولا سماء ولا تناله يد الله! إن يف لفظ الكفر مع ذاك، وفي لفظ الجنون مع هذا - شيئاً من نفاق العقل وتأدبه في أداء المعنى الأخرق الذي لا يشبهه جنون ولا كفر
ونعوذ بالله من خذلانه؛ فلقد يكون الرجل المؤمن في تشدده وإيغاله في الدين - كالذي يصنع حبلاً يفتله فتلاً شديداً فيمره على طاق بعد طاق، ليكون أشد له وأقوى، ثم يجاذبه الشيطان حبله، فإذا هو كان في الوهن مثل العنكبوت اتخذت بيتاً في سقف حداد؛ فرأته يصب الحديد المصهور يجعله سلسلةً حلقةً في حلقة، فذهبت تحكيه وترسل من لعابها خيطاً في خيط تزعمه سلسلة. . .!
إن مع كل مؤمن شيطانه يتربص به، فلهذا ينبغي للمؤمن أن يكون في كل ساعة كالذي يشعر أنه لم يؤمن إلا منذ ساعة، فهو أبداً محترس متهيئ متجدد الحواس مرهفاً يستقبل بها لدنيا جديدة على نفسها بين الفترة والفترة؛ ومن هذا حكمة أن يؤذن المؤذن وأن تقام الصلاة مراراً في اليوم، فكلما بدأ وقت قال المؤمن: الآن أبدأ إيماني أطهر ما كان وأقوى
وقال الأمام هيه يا آبا محمد! فقال البصري وقد رأى الكراهة في وجه الأمام: لا يفز عنك
أيها الشيخ؛ فإن الله تعالى قد يجعل ما يحبه هو فيما نكره نحن؛ وليس للأقدار لغة فتجرى على ألفاظنا؛ وقد نسمي النازلة تنزل بنا خساراً وهي ربح، أو نقول مصيبة جاءت لتبديل الحياة، ولا تكون إلا طريقة تيسرت لتبديل الفكر. إنما لغة القدر في شيء هي حقيقة هذا الشيء حين تظهر الحقيقة؛ وكأين من حادثة لا تصيب أمراً في نفسه إلا لتقع بها الحرب بين هذه النفس وبين غرائزها، فتكون أعمال الطبيعة المعادية أسباباً في أعمال العقل المنتصر
وكثير من هذا البلاء الذي يقضي على الإنسان، لا يكون إلا وسائل من القدر يرد بها الإنسان إلى عالم فكره الخاص به؛ فإن هذه الدنيا عالم واحد لكل من فيها، ولكن دائرة الفكر والنفس هي لصاحبها عالمه وحده. والسعيد من قر فيعالمه هذا واستطاع أن يحكم فيه كالملك المطاع في مملكته، نافذ الأمر في صغيرتها وكبيرتها؛ والشقي من لا يزال ضائعاً بين عوالم الناس، ينظر إلى هذا الغني، وإلى ذاك المجدود، وإلى ذلك الوفق؛ وهو في كل هذا كالأجنبي في غير بلده وغير قومه وغير أهله، إذ كل شيء يصبح أجنبياً عن الإنسان ما دام هو أجنبياً عن نفسه
لقد كنت ضالاً عن نفسي وعالمها، فكنت في هذه الدنيا أستشعر شعور اللص، أشياؤه هي أشياء الناس جميعاً؛ واللص ينظر إلى أموال الناس بعيني شاعر متحبب كلف، وهي تنظر إليه بعيني مقاتل متربص حذر
كنت والله إن ضقت بالناس أو وسعتهم - رأيت في ذلك معنى من ضيق اللص وسعته؛ هو على أي حاليه لا ينظر في أعماق نفسه إلا شخصاً متوارياً تحت الظلام يتسلل في خشية وحذر!
وكنت نزقاً حديد الطبع سريع البادرة؛ ومن فقد عالم نفسه، وكان في مثل اللص الذي ذكرت - فإن هذه الطباع تكون هي أسلحته يدفع بها أو يعتدي. وما قط تمكن إنسان من نفسه وأحاط بها ونفذ فيها تصرفه - إلا كان راضياً عن كل شيء، إذ يتصل من كل شيء بجهته السامية لا غيرها، حتى في اتصاله بأعدائه من الناس وأعدائه من لأشياء؛ فما يرى هؤلاء وهؤلاء إلا امتحاناً لفضائله وإثباتاً لها. وقد يكون عدوك في بعض الأمور عيناً لك في رؤية نفسك؛ ففيه بركة هذه الحاسة ونعمتها
ولو نحن كنا مسلمين إسلام نبينا صلى الله عليه وسلم وإسلام المقتدين به من أصحابه - لأدركنا سر الكمال الإنساني؛ وهو أن يقر الإنسان في عالم نفسه ويجعل باطنه كباطن كل شيء إلهي، ليس فيه إلا قانونه الواحد المستمر به إلى جهة الكمال، المرتفع به من أجل كماله عن دوافع غيره؛ فنظر الإنسان إلى نقص غيره هو أول نقصه. والمؤمن كالغصن؛ إن أثمر فتلك ثمار نفسه، وأن عطل لم يشحذ ولم يحسد واستمر يعمل بقانونه
ولقد نشأت في مغرس كريم، وعلى صورة من الحياة تشبه صورة الثمرة الحلوة، اجتمع لها من طبيعة مغرسها ومرتبتها ما تتعين به من حلاوة ونكهة ومذاق؛ فلما عقلت وعرفت الناس بعد فجاريتهم وخالطتهم، رأيتني منهم كالتفاحة ملقاة في البصل. . . وكانت التفاحة حمقاء فزادت حمقاً، وكانت حدية فزادت حدة -، وظنت أن الحكمة قد مسخت في الدنيا وبدلت إذ خلقت البصلة بعد أن خلقت التفاحة؛ وما علمت الخرقاء أن الكمال في هذه الحياة مجموع نقائص، وأن للجمال وجهين: أحدهما الذي اسمه القبح؛ لا يعرف هذا إلا من هذا؛ وأن البصلة لو أدركت ما يريد الناس من معناها ومعنى التفاحة لسمت نفسها هي التفاحة، وقالت عن هذه إنها هي البصلة!
ولما رأت تفاحتي أنها عاجزة أن تجعل الشجر كله في مثل مرتبتها ومغرسها - قالت: إن الأمر أكبر من طبيعتي، ومادام سر الكون مغلقاً فلا تعريف له إلا أنه سر مغلق، وليبق كل شيء في طبيعة نفسه، فعلى هذا يصلح كل شيء ولو في نفسه وحدها
قال أبو محمد: ولكن بقيت وحشة الدنيا وجفوتها، إذ لم أكن اهتديت إلى عالمي، ولا تأكدت عقيدتي بنفسي؛ فكان كل ما حولي منبجساً في روحي بشره، وكانت الدنيا بهذا كالمتطابقة في رأيي على معنى واحد، وزادني أني كنت رجلاً عزباً متعففاً؛ وما أشبه فراغ الرجولة من المرأة بفراغ العقل من الذكاء؛ هذا هو العقل البليد، وتلك هي لرجولة البليدة! والمرأة تضاعف معنى الحياة في النفس، فلا جرم كان الخلاء منها مضاعفة لمعنى الموت؛ علم هذا من علم وجهله من جهل، فكنت أعيش من الكون في فراغ ميت، وكنت أحس في كل ما حولي وحشةً عقلية تشعرني أن الدنيا غير تامة؛ وكيف تتم في عيني دنيا أراها غير الدنيا التي في قلبي؟
وعرفت أن كل يوم يمضي على الرجل العزب المتعفف لا يمضي حتى يهيء فيه مرض
يوم آخر. ومن هذه الأيام المريضة المتهالكة، تعد الحياة انتقامها من هذا الحي الذي نقض آيتها وافتات عليها، وجعل نفسه كالإله لا زوجة له ولا صاحبة!
وأيم الله إن الشيطان لا يفرح بالرجل الزاني وبالمرأة الزانية ما يفرح بالرجل العزب والمرأة العزباء؛ لأنه في ذينك رذيلة في أسلوبها، أما في هذين فالشيطان رذيلة في أسلوب الفضيلة. . .! هناك يلم الشيطان ويمضي، وهنا يأتي الشيطان ويقيم!
وقد عشت ما عشت بقلب مغلق وعقل مفتوح؛ وليتني كنت جاهلاً مغلقاً عقله، وكان قلبي مفتوحاً لأفراح هذا الكون العظيم!
ومضت أيامي يضرب بعضها في بعض، ويمرض بعضها بعضاً حتى أنهت منهاها، وجاء اليوم المدنف الهالك الذي سيموت. . .
أصبحت فقلت لنفسي: كم تعيشين ويحك في أحكام جسد مختل لا تصدق أحكامه، وما أنت معه في طبيعتك ولا هو معك في طبيعته؛ ففيم اجتماعكما ألا على بلائي ونكدي؟
لم تصطلحا قط على واجب ولا لذة، ولا حلال ولا حرام؛ فأنتما عدوان لا هم لكليهما إلا إفساد المسرة التي تعرض للأخر. وما أدرى بمن يسخر الشيطان منكما؟ فالعابد الذي يوسوس باللذات يتمنى اقترافها، كالفاجر الذي يواقعها ويقتحمها!
ويحك يا نفس! إني رأيت هذه الدنيا الخرقاء لم تقدم لي إلا رغيفاً وقالت: املأ بهذا بطنك وعقلك وعينيك وأذنيك ومشاعرك. آه آه! ممكن واحد معه أربعة مستحيلات؛ إن هذا لا يلبثني أن يذهب مني بالأربعة التي تمسني على الحياة: الأمل والعقل والأيمان والصبر
لقد استوى في هذه الكآبة صغير همي وكبيره، وما أراني إلا قد أشرفت على الهلكة التي لا باقية لها، فإن وجهي المتكلح المتقبض يدل مني على أعصاب محتضرة تهكتها أمراضها ووساوسها، وإنما وجه الإنسان في قطوبه أو تهلله هو وجهه دنياه تعبس أو تبتسم
وتالله لقد عجزت عن كفاح الدنيا بهذه الأعصاب المريضة الواهنة، فإن حبالة الصيد، صيد الوحش، لا تكون من خيط الإبرة. . .! وأراني أصبحت كإنسان حجري ليس في طبيعته الالتواء إلى يمين الحياة ويسارها؛ ويخيل إلى من صلابتي أني الأسد، ولكني أسد من حجر، لانقرض قوته الفرار منه على أحد!
قال أبو محمد: ورأيت نفسي في هذا الحوار كالميتة، لا تجيب ولا تعترض ولا تنكر؛
وكنت أظنها تراودني على الحياة أو تردني عن غوايتي؛ فملأني سكونها جزعاً، وأيقنت أن الشيطان بيني وبينها، وأنه أخذ بمنافذها، فأرادت الصلاة فثقلت عنها ورأيتني لا أصلح لها، بل خيل إلى أني إذا قمت إلى الصلاة فإنما قمت لأتهزأ بالصلاة!
وجعل الشيطان يأخذني عن عقلي ويردني إليه، ثم يأخذني ويردني، حتى توهمت إني جننت، وكأنما كان يريد اللعين بقية إيماني يجاذبني فيها وأجاذبه، فلم ألبث أن مسني خبال وألقيت هذه البقية في يديه!
ثم أفقت إفاقة سريعة، فرأيت (المصحف) يرقبني من قريب، فعذت به وعطفت عليه وقلت له: امنع الضربة عن قلبي. بيد أني أحسست أنه خصمي في موقفي لا ظهيري؛ كأني جعلته مصحفاً عند زنديق، فكان كل أيماني الذي بقي لي في تلك اللحظة أني ضعفت عن حمل المصحف كما ثقلت عن الصلاة، فبقي الطاهر طاهراً والنجس نجساً
ولم تكن نفسي في ولا كنت فيها؛ فرأيت الدنيا على وجه لا أدري ما هو، غير أنه هو ما يمكن أن يكون معقولاً من تخاليط مجنون تركه عقله من ساعة: بقايا شعور ضعيف، وبقايا فهم مريض، تتصاغر فيهما الدنيا ويتحاقر بهما العقل
فلما انتهيت إلى هذا لم أعقل ما عملت، وكانت الموسى قد أصابت من يدي عرقاً ناشزاً منتبراً، ففار الدم وانفجر منه مثل ينبوع ضرب عنه الصخر فانشق فانبثق
وتحققت حينئذ أنه الموت، فنظرت فرأيت. . .
قال المسيب راوي القصة: وتجهم وجه الرجل فأطرق وسكت، وكان على وجهه شفق محمر فأظلم بغتة عندما قال:(فنظرت فرأيت)
وأرتج المسجد بصيحة واحدة: فرأيت ماذا، رأيت ماذا؟ وبعثت الصيحة أبا محمد فقال: رأيت ثلاثة وجوه أشرفت من المصحف تنظر إلي كالعاتبه، وكان أوسطها كالقمر الطالع، لو تمثلت آيات الجنة كلها وجهاً لكانته في نظرته وبشاشته. وغمغمت بكلمات لم أسمع منها شيئاً، ولكن نظرها إلى كان يؤدي لي معانيها وكأنها تقول:(أكذلك المؤمن. . .؟) ثم غابت وتخلت عني وبرزت ثلاثة وجوه أخرى، كأنها نقائض تلك، وأعوذ بالله من أوسطها، لو تمثلت آيات الجحيم كلها وجهاً لكانته في نكره وهوله، وخيل ألي أن الوجه الأصغر منها وجه سورة من سور المصحف، ففكرت، فوقع لي مما قام في نفسي من اللعنة أنها: (تبت
يدا أبي لهب وتب. . .)
وطمس الظلام هذه الرؤيا وتغيمت الدنيا، فأيقنت أن آثامي قد أقبلت على ظلمة بعد ظلمة، والتمع شيء أحمر، فنظرت فإذا الدم يتخايل في عيني كأنه شعل تتلوى، فجزعت أشد الجزع، وحسبتها طرائق ممتدة لروحي تذهب بها إلى الجحيم
وماتت كل خواطري بعد ذلك إلا فكرة واحدة بقيت حية تأكل في قلبي أكل النار، وهي:(كيف تجرأت فوضعت بيني وبين الله حمقي؟)
ويقولون: إن أختي قد رأتني أتشحط في دمي فصاحت، وجاء الناس على صوتها، وكان فيهم طبيب، فبعد لأي ما استطاع حبس الدم، واحتال حيلته حتى أسف الجرح دواء وضمده، فجعلت أثوب نفساً بعد نفس، وراجعت قليلاً قليلاً. . .
ثم طافت الحياة على عيني ففتحتهما، فإذا الأشياء تبدو لي وليس فيها حقائق ولا معان، كأنها تتخلق جديدةً تحت بصري، وكأنها خارجة لساعتها من يد الله!
وتماثلت شيئاً بعد ساعات، فأحسست أن نفسي قد رجعت إلى ساخرة مني تقول: كيف رأيت عمل العقل أيها العاقل؟
وبدأت الحياة تتجدد، فأقسمت بيني وبين نفسي أن أجدد إيماني بالله. ولم أكد أفعل حتى أحسست كأن قوة الوجود كلها مستقرة في روحي، وخيل إلى أني أنا وحدي القوي على هذه الأرض قوة جبالها وصخورها، على حين كان جسمي ممدداً كالميت لا يتماسك من الضعف!
فأيقنت حينئذ ما لم أعرفه قط من الدنيا ولم أشعر به قط في الحياة ولم يأتني به علم ولا فكر: أيقنت أنها معجزة الأيمان الجديد الغض، المتصل بالله لتوه كأيمان الأنبياء دون أن تلمسه شهوة، أو تعترضه خاطرة، أو تكدره ذرة واحدة من فكر أرضي دنس
قال المسيب: ثم جلس المتحدث، وكان الناس في آخر كلامه كأنما غادروا الدنيا ساعة ورجعوا إليها على مثل حالته ومثل إيمانه؛ فسكت الأمام ولم يتكلم، ليدع كل نفس تكلم صاحبها
(للمجلس بقية)
(طنطا)
مصطفى صادق فهمي
شم النسيم
في مركز بوليس!
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
اشتهيت مرة أن اخرج إلى الظل، ورقاق بغيضة معشاب، وأن أجلس تحت شجرة عظيمة تميل على أفنانها من الري واللين، فقلت لصاحب لي:(إني في ارض واسعة سهلة، ولكني كرهت مقامي بها، وأضجرني منها أني لا أرى في فضائها الرحيب عوداً ثابتاً، ولا أسمع إلا صوت الرمال وهي تجري على رمالها وتوقع بعضه على بعض، وغدا شم النسيم، فتعال بنا إلى ناحية من الريف قريبة من بعض أرباض المدينة، وعسى أن أحمد بقعة في طريقنا، فأنزل بها وأسكنها، فقد اجتويت الصحراء كما قلت لك، وما أظن بي ألا أن الحنين إليها سيعاودني، ولكن البعد عنها سنة أو سنتين، يكون كالاستجمام، فما قولك؟)
قال: (وتخرج في شم النسيم؟)
قات (: ومالي لا أفعل؟ أهو حرام - علي وحدي؟)
قال): لا، ولكنه يوم تكثر فيه العربدة، وأولى بك أن تلزم دارك - كعادتك)
قلت (: يا أخي، الله يوسع لي في الأرض، وأضيق على نفسي! كلا، ولن نعدم مكاناً ننأى فيه عن ضجات السكارى والمعربدين، فاختر لنا مكاناً، وتوكل معي على الله)
فاختار (المرج)
وحملنا معنا كفايتنا من الطعام والشراب، وكنا أربعة - أو خمسة، لا أذكر - وركبنا قطار الزيتون وكان كالحمار النهاق البليد، يمضي ويتوقف، ويميل هنا وههنا، ولا يزال يصلصل، كأنما يقطع أرضا أو يصنع شيئاً يستحق هذه الضوضاء، وأنا أمرؤ خلقني الله أكره التثاقل والاسترخاء، وأحب أن أفرغ مما أكون فيه بأسرع ما أستطيع، فمشي قفز،، وأكلي لقم، وكلامي لغط، وخطى أشبه بما تتركه أرجل على الرمل، من فرط العجلة؛ ولا صبر لي على دلال امرأة، ولا أعرف التمهيد لشيء؛ فإنه لف أو تطويل لا موجب له؛ وما أكثر ما أحببت، وما أسرع ما سلوت، وكم قلت لامرأة:(يا صاحبتي لقد أحببتك، ولكنني لم أحبك ليوجعني رأسي وقلبي، فإن كنت لا تحسنين إلا تصديعي وتنشيف ريقي، وإلا هذا الذي تسمينه دلالاً، فلا يا ستي ويفتح الله عليك بغيري) وأدعه وأمضي، ولا أعود بعدها
إلى ذكرها. وما أكثر ما قلت لنفسي: (ما هذا يا مازني؟ إني أرى حبك قد طال ساعاتٍ، وهذا شيء يمل ويسئم، وليس معقول أن تحب غائباً كأنه حاضر معك! نعم معقول أن تحبه ساعة يكون إلى جانبك، ولكن بعد أن يمضي عنك أو تمضي أنت عنه، لا يقبل منك أن يظل قلبك يتلفت إليه ويشغل به عن سواه)
فتقول نفسي: (أي والله، صحيح)
وأستلقي على سريري وأغمض عيني، وأنام، ثم أقوم وقد نسيت حتى اسم من أحببت. لهذا قلت لأصحابي (يا رفاق! ما قولكم؟)
قالوا: (ماذا؟)
قلت: (ننزل من هذا القطار ونذهب نعدو إلى جانبه)
فضحكوا ولم يسمعوا مني، ولكني كنت واثقاً أني أستطيع أن اسبقه على الرغم من عرجي؛ ونزلنا في (المرج) فلم نجد شجرة نجلس في ظلها، ولا جداراً يقينا وقدة الشمس، ولم نلمح في الأفق البعيد شيئاً يغري بالأمل، فقلت: أرجع إلى صحرائي فهي بي ارفق من هذا المرج فإن لي فيها على الأقل بيتاً آوى إليه، ولذي لا يرضى بالخوخ يرضى بشرابه
وإنا لكذلك وإذا بضابط يقبل علينا ويحي واحداً منا، ويسأله عما جاء به، فيخبره أنه جاء معنا، ليشم النسيم، ولكنا لا نجد مكاناً ظليلاً نميل اليعه، فيقول الضابط الكريم:(تعالوا عندي)، فنسأله (عندك أين؟ فأنا لا نرى بيتا ولا كوخاً) فيقول:(في مركز البوليس، فإني ملاحظ النقطة!) فينظر بعضنا إلى بعض وأقول: (نشم النسيم في مركز البوليس! هذا جديد!) وترددنا، ولكنه ضابط بوليس، وتحت أمره قوة كافية لإرغامنا، فقلنا:(لا بأس! هي تجربة جديدة فلننظر ماذا عسى أن تفيدنا من المتعة؟ وما يدرينا؟ لعل مركز البوليس خير مكان نقضي فيه يومنا! وما نظن أن أحداً جرب ذلك من قبل، فهي ميزة ننفرد بها ونستبد)
ودخلنا المركز، فدبت أقدام الجنود، وارتفعت أيديهم إلى رؤوسهم بالتحية، وتحركت عيونهم دون وجوههم، وجعلت تنظر إلينا وتتبعنا ونحن داخلون ومعنا السلة فيها الطعام والشراب، وصعدنا إلى غرفة فيها مائدة من خشب غير منجور، وحولها كراسي ثقيلة، وأنا نحيف هزيل، يقول أحد الأطباء في وصف جسمي إنه شبكة من الأعصاب تحملها طائفة من العظام، وتكسو هذه وتلك طبقة رقيقة من الجلد، ولا لحم لي ولا شحم فأحتمل الجلوس على
هذه الكراسي الناشفة، ولكن ما حيلتي؟
وجاءونا بأطباق وملاعق وسكاكين وأشواك وفوط، فسألت الضابط:
(من أين لكم هذا!)
قال: (ماذا تظن؟)
قلت: (أظنكم أخذتموها من اللصوص الذين وقعوا في قبضتكم)
قال: (أو لعلنا سرقناها؟ هيه؟)
قلت: (كل شيء جائز في هذه الدنيا! ومتى صار جائزاً أن نشم النسيم في مركز البوليس، فكل شيء بعد ذلك هين ومقبول ومعقول)
وكان الجنود كلما دخلوا علينا بصحن أو كوب أو فنجان، يدبون بأحذيتهم الضخمة الثقيلة، ويحيون، ويضعون ما في أيديهم الأخرى، ثم يعودون إلى التحية والدب بالأرجل، ويخرجون، وتكرر ذلك منهم ألف مرة، فقلت للضابط:
(ألا تعفيهم من هذا التكليف؟)
قال: (إنهم جنود وقد ألفوا ذلك فليس في وسعهم إلا أن يفعلوه)
قلت: (لو لم تكن معنا لما تكلفوه)
قال: (ولكني معكم)
قلت: (إذن فأعفنا نحن، فإنه إزعاج)
فسال: (كيف أصنع؟)
قلت: (والله لا أدري! هل تستطيع أن تختبئ تحت المائدة حين يدخل منهم أحد؟)
وأكلنا هنيئاً، وشربنا مريئاً، ولم تمنعنا هذه التحيات والدبات أن نضحك ونمزح، ولم يحل شعورنا بوجودنا في (مركز البوليس) دون التبسط والمرح، واحتجت بعد ذلك أن أنام دقائق، والنوم من عاداتي بعد الغداء، فإذا حرمته حرمت الراحة، وتفتر جسمي، وغاض معين نشاطي، وساء خلقي، وانقلبت مخلوقاً شرساً مشاكساً، وشريراً مجرماً، تقذف عيناه الشرر، ومن أجل هذا تتخذني زوجتي هولة تخوف بي الأطفال والخدم. فإذا رأت أني لم أنم بعد الظهر، أقبلت تقول:(تعال!)
فأقول: (إلى أين؟)
فتقول: (تعال خوف الأطفال، فإنهم لا يريدون أن يسكنوا!)
فأقول: (يا سيدتي، إن التخويف شر أساليب التربية)
فتقول: (دع هذه الفلسفة وقم، فقد كاد رأسي يطير من ضجتهم، ثم إن عند الجيران أطفالاً كثاراً يصيحون، فأخرج لهم وجهك من النافذة يخرسوا، وفي الشارع رجال يتشاجرون فاذهب إليهم واطردهم إلى شارع آخر)
فأهز رأسي وأقول: (تالله ما اشتهي إلا أن أخوفك أنت!) ثم أنهض آسفاً، وأصدع بما أمرت، فيهدأ البيت ويسكن الشارع، ويخفت كل صوت حتى صوت الترام، فينشرح صدرها وتقرعينها، وتتنهد مسرورة، وتقول:(ليت أنك لا تنام بعد الظهر أبداً!)
فأسألها: (أتكرهين لي الراحة؟)
فتسألني مغالطة: (أتكره أي أنت الراحة؟)
فلا أجد جواباً حسناً، وأسألها:(هل أستطيع أن أنام الآن؟)
فتقول: (وإذا قامت ضجة جديدة؟)
فأقول: (اطمئني. . . وفي وسعك دائماً أن توقظيني لهم) فتذهب تصف وجهي معجبة بما يكون مرتسماً عليه من مظاهر الإفزاع وبواعث الرعب، مباهية به وجوه القتلة والسفاحين وقطاع الطريق؛ ولكن هذا أستطراد، فلنرجع إلى ما كنا فيه من شم النسيم
كان لا بد أن أنام، فنمت على كرسيين، حططت نفسي على واحد، ومددت ساقي على الآخر، ولم يكن هذا فراشاً وثيراً بالمعنى الصحيح، ولكن النسيم كان عليلاً في مركز البوليس، فأغفيت دقائق زعمها أصحابي ثلاثين، وقالت لي عظامي المهيضة إنها كانت رقدة أهل الكهف
ولم تكن لي يومئذ زوجة، فلما عدت إلى البيت لاحظت أمي أشكو وجعاً في ظهري وتكسيراً في عظامي، فسألتني:(أين كنت؟)
قلت: (في مركز البوليس بالمرج)
فصاحت بي: (مركز البوليس؟ لماذا؟ ماذا صنعت؟)
قلت: (شممت النسيم!)
قالت: (أكنت تشم النسيم أم تضرب علقة؟)
وظلت إلى أن ماتت، وهي في شك من هذا الأمر
إبراهيم عبد القادر المازني
مصرع الصحافة العظيمة في ظل النظم الطاغية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لا يستطيع مؤرخ أن يتجاهل الدور العظيم الذي أدته الصحافة في تطورات العالم السياسية والثقافية منذ أوائل القرن الماضي؛ ولا يستطيع مؤرخ الحرب الكبرى أن ينسى أن الصحافة كانت إلى جانب الجيوش والأساطيل أداة من أدوات النصر؛ وليس مبالغة أن توصف الصحافة الحديثة بأنها في الدولة سلطة رابعة إلى جانب السلطات الدستورية الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية؛ وفي ظروف معينة تبدو الصحافة أولى السلطات وأهمها في الدولة أو المجتمع: تنشئ حكومات وتسقط حكومات، وتحشد الرأي العام لتحقيق برنامج معين أو فكرة معينة، وقوتها في ذلك لا تعادلها قوة، ونفوذها لا يجاريه نفوذ. هذه حقائق بديهية لا تقتضي جدلاً أو مناقشة. وما زالت الصحافة في الأمم العظيمة الحرة هي صاحبة المقام الأول في قيادة الرأي العام، وفي توجيه القوى السياسية والاجتماعية. وفي عصرنا قطعت الصحافة في سبيل التقدم العلمي والفني مراحل مدهشة؛ ولكن الصحافة أصيبت في عصرنا أيضاً بأقسى محنة عرفتها في تاريخها القصير المدى. ففي عدة من الأمم العظيمة لقيت الصحافة ضربتها القاضية، وأصبحت شبحاً فقط لما كانت عليه من قبل، وجردت من أعظم وأسمى مظاهرها: حرية التفكير والكتابة؛ ولم تبقى سوى أداة ذليلة خانعة للقوى الطاغية التي تخنقها وتسيرها كيفما شاءت
وقد كانت الصحافة الحرة وما زالت مظهراً من أهم مظاهر الديمقراطية والنظم الحرة؛ وقد أصيبت الديمقراطية والنظم الحرة في عصرنا برجعة خطيرة، وأصيبت معها كل مظاهرها الحقيقية ومنها الصحافة؛ فحيثما نكبت الديمقراطية: في روسيا السوفيتية، وفي تركيا الكمالية، وفي إيطاليا الفاشستية، وأخيراً في ألمانيا الهتلرية، تلقى الصحافة أشد محنة عرفتها، وتسحقها النظم الطاغية التي رأت أن تتخذها مع باقي القوى العامة، أداة لتحقيق برنامجها وتوطيد سلطانها. وفي هذه البلاد التي يسود فيها الطغيان المطلق، لم بيق رأي حر يستطيع أن يتنفس، ولا رأي عام يستطيع أن يعبر عن شعوره أو يحدث أثره المشروع في الحياة العامة؛ ولا تستطيع أن تخرج من الصحافة إلا بصورة واحدة مكررة هي إرادة الطغاة ومزاعم الطغاة، تفرض على ملايين من الناس لا حق لهم في مناقشة أو تذمر، ولا
يسمح لهم بغير التأييد الأعمى
وتزعم هذه الحكومات الطاغية دائماً بأنها تحظى بتأييد الأمة المطلق، وتحاول دائماً أن تتخذ من إجماع الصحافة المصفدة المسيرة دليلاً على هذا التأييد؛ ولكن كيف يعرف رأي أمة لا يسمح لها بإبداء الرأي، وكيف يوصف شعور أمة نحو الطغاة، وهي ممنوعة بالقوة عن إبداء هذا الشعور؟ إن حكومات الطغيان تسن من القوانين الاستثنائية ما يكفل إخماد كل صوت وكل رأي معارض، ثم هي لا تقف عند هذه القوانين، بل تلجأ في أحيان كثيرة إلى إجراءات الهوى، فتنزل بأولئك الذين يجرءون على معارضتها أشنع العقوبات من قبض واعتقال ومصادرة، بل ومن إعدام، كل من ذلك دون قانون ودون تحقيق أو محاكمة؛ وليس من المبالغة أن نقول إن الحياة البشرية في هذه الأمم، أضحت كالحريات العامة، دون ضمان وطمأنينة؛ وما زلنا نذكر كيف أن مئات من الألمان أزهقوا في 30 يونيه الماضي بيد هتلر ومعاونيه لريب في تأييدهم للنظام القائم؛ وقد أهدر دمهم جميعاً لأن (الزعيم) أراد إعدامهم وكفى
تصفد الحرية الفكرية بهذه الأغلال حيثما يقوم الطغيان (الدكتاتورية). وقد كان البلاشفة أول من أخضع الصحافة لهذا النظام الحديدي، فلقيت في ظل العهد الجديد ما لم تعرفه في ظل القيصرية من القيود والأغلال المرهقة، ولم تلبث أن استحالت إلى أداة رسمية صماء لا رأي لها ولا إرادة، وخفت الرأي العام الروسي منذ ثمانية عشر عاماً فلا يعرف العالم لخارجي عنه شيئاً؛ وحذت الفاشستية حذو البلشفية في استبعاد الصحافة وإخماد هذا المتنفس الذي قد يثير حولها الصعاب إذا ترك طليقاً؛ ثم اقتفى الكماليون هذه الخطة في تركيا، وفرضوا على الرأي العام أغلالاً لم يعرفها في العصر الحميدي؛ ولما قام الطغيان الهتلري في ألمانيا، كانت أولى وسائله لتوطيد سلطانه أن يسحق الرأي العام الألماني، وذلك بسحق الصحافة متنفسه الطبيعي. وقد ذهب الهتلريون في ذلك إلى حدود لم تعرفها أشد عصور الطغيان
كان في ألمانيا، قبل أن يغمرها طغيان الوطنية الاشتراكية، صحافة عظيمة زاهرة تعد في مقدمة أعظم صحافات العالم؛ وكان لها نفوذها القوي في توجيه الرأي العام وفي التعبير عن رغبااته وميوله، شأنها في كل الأمم العظيمة. ولكن زعماء النظام الجديد أدركوا قوة
الصحافة وخطرها على نظم الطغيان، فسحقوها بيد من حديد ووضعوا لها تشريعاً استثنائياً خاصاً يسلبها كل حرية وكل استقلال في الرأي، وجعلوا منها صناعة رسمية، ومن محرريها المسئولين عمالاً للحكومة؛ وأنشأوا وزارة خاصة للدعاية، تتمركز فيها جميع عناصر الوحي والرأي والقول في ألمانيا كلها؛ ولم يحجموا بذلك عن أن يمزقوا بيدهم آخر الأقنعة التي تستتر بها الدكتانورية، وأن يعترفوا جهاراً بأنهم هم الذين يوجهون الصحافة ويغذونها بكل عناصر القول والرأي؛ ولم يصفد الهتلريون الصحافة السياسية فقط، ولكنهم صفدوا كل أنواع التفكير والكتابة؛ والأدب والشعر، والفنون والعلوم وكل ألوان الثقافة، وجعلوا منها جميعاً أداة لبث مبادئهم وتمكين سلطانهم من أعناق الأمة التي يدعون الوصاية عليها. ومنذ أيام قلائل أصدرت الحكومة الهتلرية قانوناً استثنائياً جديداً يشدد أغلال الصحافة الألمانية ويقضي على آخر المظاهر التي بقيت لها. وقد وصف القانون الجديد بأن القصد منه (صون استقلال الصحافة) والواقع أنه يقضي على أخر ما بقى لها من لمحات الاستقلال، والمقصود به بنوع خاص أن يقضى على الصحافة التي تمثل مصالح المهن والطوائف والجماعات العامة، وعلى الصحافة الكاثوليكية التي ما زالت قوية في جنوب ألمانيا وغربها. وهو ينص على حرمان كل شخص لا ينتمي إلى الجنس الآري من العمل في الصحافة وكل متعلقاتها؛ وإذا أريد تغيير ناشر الصحيفة أو محررها وجبت موافقة السلطات؛ وإذا رؤى في أي جهة من الجهات أنه يوجد من الصحف ما يزيد عن حاجتها عطل منها ما كان زائداً عن الحاجة، وقد نص أيضاً على تعطيل جميع الصحف التي تعنى بنشر الحوادث الجنائية والاجتماعية ووصفت في المرسوم بأنها (صحافة الفضائح)، والخلاصة أن القانون الجديد لا يفسح مجال الحياة والظهور لغير الصحافة النازية الحكومية
ولقد كانت هذه الضربة الجديدة لقتل صحافة عظيمة مثار الاشمئزاز حيثما تقدس حرية الفكر والرأي، واستقبلتها الصحافة الإنكليزية بعاصفة من السخط؛ وكتبت (التيمس) مقالاً رناناً قالت فيه؛ (إن خضوع الشعب الألماني أمام تقييد حرياته ومورد أخباره يعتبر حادثاً مزعجاً جداً. وكيف يستطيع الشعب الألماني بعد ذلك أن يقف على الظروف الحقيقية للسياسة الدولية من هذه المصادر التي تقدم له الآن. وكيف يفهم الألمان عبارة (الاعتزال
السياسي) في أوربا، وهي عبارة يرددها زعماؤهم وهي في الغالب من صنعهم وتدبيرهم؟ وهل يفهمون الظروف الحقيقية التي قتل فيها الدكتور دولفوس المستشار النمساوي؟ والتي دبرت فيها مذبحة 30 يونيه في ألمانيا؟ وما يلقاه اليهود والسجناء السياسيون، وما يكون لهذه الأمور من أثر في الرأي العام الأوربي؟) وقالت الجارديان:(أن الصحافة التي كانت في ألمانيا من أعظم الحرف وأرفعها، تنحدر الآن إلى الحضيض. وليست الجرائد (النازية) الحالية التي حلت محل الصحف التي كانت من قبل من أمهات الصحف العالمية، سوى وريقات لبث الدعاية الخاصة؛ ولم يبق أثر للحرية الفكرية والجدل والمناقشة. وكان من مفاخر هذه الحرفة الكريمة في ألمانيا أن عدداً عظيماً من كتابها وصحفييها آثروا الخراب والنفي والسجن على هذا الانحطاط الشنيع) ثم تتساءل الجارديان:(فهل بقي في الشعب الألماني روح حي يأسف على ضياع حرياته الفكرية والقلمية أو يثور على تلك التدابير التي تخذ لسحق هذه الحريات بصفة نهائية؟)
والواقع أن الصحافة الألمانية سقطت من عداد الصحافات العظيمة مذ تولى الهتلريون الحكم؛ ولم تفقد كل قوتها ونفوذها السياسي والاجتماعي فقط، ولكنها فقدت كل قوتها ونفوذها السياسي والاجتماعي فقط، ولكنها فقدت كل خواصها ومميزاتها الثقافية الممتعة التي كانت من قبل فجر التفكير الألماني؛ وأخذت الصحف الألمانية العظيمة تختفي من الميدان تباعاً بعد أن فقدت مركزها وخاصة قرائها، وامتدت النكبة إلى الصحافة الأدبية والفنية والعلمية، فأخذت تنحدر إلى نفس المصير المحزن؛ وتسيرها نفس الدعاية السياسية والثقافية التي غمرت ألمانيا؛ وغدت الصحف الألمانية العلمية التي كانت من قبل أسفاراً جليلة تحمل على الإعجاب والاحترام، أدوات للدعاية الهتلرية، تحدثك باستمرار عن نظريات (الزعيم) في خواص الجنس الآري، وانحطاط الأجناس السامية، وتفوق السلالة الألمانية، وأصول الثقافة الجرمانية القديمة، ويغره من المبادئ والنظريات الجنسية المتعصبة التي أصبحت ظاهرة الحياة العامة في ألمانيا، وأضحى أصدقاء الثقافة الألمانية الحرة في حيرة من هذا الخلط المحزن بين الحقائق والغايات العلمية، وبين النظريات والدعيات الحزبية التي جعلتها وزارة الدعاية الهتلرية فوق كل شئ في حياة الشعب الألماني وتشعر الدوائر العلمية والأدبية والطبقات المفكرة الألمانية عامة بخطر هذا التيار
الجارف على مستقبل التفكير وال آدابالألمانية، ولكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً لمقاومة هذا الخطر لأنها توضع تحت نفس انظم الجديدة التي جعلت من الصحافة ووسائل الثقافة الفنية كالمسرح والسينما والموسيقى والراديو، أدوات لدعوة الحزبية المحضة. ويشعر الزعماء الهتلريون أنفسهم بفداحة الأثر الذي أحدثه هذا الاستبعاد المطلق للتفكير الألماني، ويحاولون تبريره بمختلف النظريات والمحاذير. وملخص نظريتهم في ذلك هو أن الصحافة من مظاهر الأنظمة الحرة وخواصها، ومثل هذه المظاهر لا توجد في ظل الاشتراكية الوطنية؛ والمبادئ الحرة لم تسمح بتوحيد كلمة الشعب، والاشتراكية الوطنية تريد الشعب كتلة واحدة. وقد كانت الصحافة في عهد الحريات القديمة تستمد أعظم قواتها ونفوذها من الانتماء إلى الأحزاب، أو زال منه تلقاء نفسه انحدرت الصحافة الحرة إلى مثل هذا المصير، وفقدت أهميتها الحزبية والسياسية؛ والاشتراكية الوطنية لا تقيم وزناً للجدل السياسي، وفي رأيها أنه متى زالت البواعث الموجبة لهذا الجدل، وهو الخلاف الحزبي، فإن الصحافة تغدو أداة متماثلة في عملها ومظهرها. والاشتراكية الوطنية لا تعتمد على الصحافة كأداة للدعوة، ولكنها تعتمد في ذلك على الإذاعة اللاسلكية؛ وهي عمادها في قيادة الشعب وإرشاده. وأما الصحف فمهمتها أن تنقل للناس ما يسمعونه بواسطة (الراديو) لكي يعودوا فيقرءوه ويتدبروه. وأخيراً ترى الاشتراكية الوطنية أن الصحافة من الأنظمة القومية، فيجب أ، تكون حرفة رسمية تشرف عليها الدولة، ويجب ألا يشتغل بها سوى الآريين، فلا يسمح لليهود أن يشتغلوا بها سوى الآريين، فلا يسمح لليهود أن يشتغلوا بها أو يساهموا في امتلاكها (وهذا ما يقرره قانون الصحافة الهتلري). وكما أن الصحافة السياسية تتلقى كل مواد الكتابة والتعليق من المكتب السياسي بوزارة الدعاية، فكذلك تشرف على توجيه الصحافة العلمية والأدبية والفنية (غرفة للثقافة) وعلى توجيه الصحافة الاقتصادية والمالية (غرفة الدعاية الاقتصادية)، وهكذا يسير التفكير الألماني كله طبقاً لخطة حزبية موضوعة تقرر له المبادئ والمواد من وراء ستار وتلقنها إليه تحت سلطان القوة والوعيد
وهل نحن في حاجة لأن ندحض هذه النظريات والآراء الرجعية الطاغية؟ إن الاشتراكية الوطنية تعترف بأنها تقتل الصحافة لأنها لا تطيق النظم الحرة، وفي ذلك ما يكفي للحكم على تدليلها ووسائلها. ولقد كانت حرية التفكير في جميع العصور والأمم من خواص
الأنظمة والحضارات العظيمة. ولكن ما هي الاشتراكية الوطنية الألمانية في الواقع؟ هي مزيج من الآراء والنظريات القومية والجنسية المغرقة، التي تحمل في معظمها طابع التناقض وضيق الأفق، وهي في روحها واتجاهها، أشد طغياناً من البلشفية والفاشستية، وأشد إذكاء للشهوات والأحقاد الجنسية والطائفية، وهي أوهام أذهان ضيقة متعصبة، لا تؤمن بغير القوة والعنف؛ وإنما يسبغ العنف عليها طابع النجاح. ومن الطبيعي أن تمقت كل صنوف الحرية وتخشاها. والصحافة الحرة من أخطر القوى على نظم الطغيان
ولنلاحظ أخيراً أن محنة التفكير الألماني لا تقف عند مصرع الصحافة، بل هي أشد أثراً وأوسع مدى، فهي تشمل كل صنوف التفكير وال آداب والعلوم والفنون؛ وهذه كلها تخضع اليوم لنفس الأغلال والقوى، وتمزقها وتشوهها نفس الأهواء والشهوات الهدامة؛ وهي كلها تسير في ظل الاشتراكية الوطنية إلى نفس المصير المحزن الذي تنحدر إليه جميع القوى الروحية والفكرية في ألمانيا
محمد عبد الله عنان المحامي
أيا صوفيا
للأستاذ علي الطنطاوي
كنا في (أوتيل مكة المكرمة)، ذلك القصر الفخم، الذي كان للشريف عدنان حمى منيعاً، وحصناً حصيناً، يهاب الجبابرة الدنو من بابه، وتخشى الطير التحليق في سمائه، ويتجنب الناس النظر إليه إلا نظر الخائف الحذر، لأنهم يعلمون أن الكلمة متى خرجت من فم صاحبه كانت كسهم القضاء، من أصابت أصمت، وأنه ليس بين أحدهم وبين أن يقتل أو يدفن حياً في جب القصر المظلم، أو تهب أمواله، أو تحرق دوره. . . إلا أن يشي به إلى الشريف واش، أو تصيبه عرضاً نقمة من نقماته!
وكنا في الردهة الكبرى التي بناها فأجاد بنيانها، وزخرفها فبالغ في زخرفها، حتى كانت تحفة من التحف، وآية من آيات العمران، نعجب من تصاريف القدر، وأحداث الزمان: كيف ذهب الملك، واندثر السلطان، وغدا الشريف الجبار، الذي كان يتبختر في ثياب الوشي، وأردية الديباج، وتمشى أمامه العبيد بالسيوف، والخدم بالمجامر، ويسير وراءه الوجهاء والأعيان. . . كيف غدا بعد هذا الجمال الناظر، عظاماً نخرة، في حفرة مقفرة، وكيف استبدل بالقصر الكبير، هذا القبر الحقير، وكيف ذهب المال والولد، والخدم والعبيد، والحجاب والأعوان، والعداء الأخوان، ومات الحب والبغض، والخوف والرجاء. . . حتى لكأنما لم يمر يوماً سيد مكة وجبارها، وكيف ورثنا القصر أياماً وليالي نطؤه مطمئنين، وننام فيه آمنين، ونأمر فيه مطاعين، لا نذكر صاحبه وبانيه، ولا نقيم له وزناً، ولا نحسب له حساباً!
كنا جالسين مع إخواننا رجال الوفد السوري، نتحدث أن لا بقاء للإنسان. وأن لا خلود في الدنيا، وأن الأيام دول، والدهر دولاب، فكم من عزيز قد ذل، ومن ذليل قد عز، ومن ملوك كانوا أعز من النجم، وأمنع من السحاب، ضاعوا وضاعت ذكراهم، فلا يغرن امرؤ بالدنيا:
فما الدنيا بباقية لحي وما حي على الدنيا بباق ولا يدخرون وسعاً في كسب الذكر للدنيا والأجر للآخرة، فما الحياة إلا حياة التاريخ، وحياة الجنة. . .
وكنت لا أني أسأل عن (الرسالة)، وألح على مدير الأوتيل وهو من المشتركين فيها، أن يأتيني بالأعداد الأخيرة منها، وقد كنت في دمشق إذا تأخرت (الرسالة) يوماً قلقت من
تأخرها، وأشتد شوقي إليها، فكيف وقد مرت أربعة أعداد لم أرها؟ صدرت ونحن على هامش الحياة، من وراء حدود العالم، نسير في الصحراء سبعة عشر يوماً من دمشق إلى المدينة، لم نر فيها إلا ثلاث قرى، مالقينا من دونها بشراً ولا شجراً، ولا وحشاً ولا طائراً، وما أبصرنا إلا سلاسل الجبال، وتلال الرمل التي تتعاقب لا حد لها، فتانة متموجة، كأنها قد مرت عليها يد نقاش صناع، سبعة عشر يوماً، ملأت فصلاً طويلاً من سفر حياتي، بأعمق الشعور، وأشد العواطف
فلما جاءني خادم الأوتيل بأعداد الرسالة، أقبلت أصفحها وأقرأ من كل مقالة عنوانها، فرابني منها عنوان مقالة، ما إن قرأتها حتى سقطت الرسالة من يدي وعرتني رجفة وأحسست أن قد دبر بي خبر هائل تصدع له القلوب، قلوب المؤمنين حزناً وألماً، وتندى له الجباه حياء وخجلاً، وتكل عن وصفه الألسنة دهشة وتفظعاً
ذلك إن الجمهورية التركية، لم يشف غيض قلوبها، كل ما صنعته بالإسلام، وما أنزلته بأهله، فعمدت إلى بيت من بيوت الله، تقام فيه شعائر الله، فجعلته بيتاً للأصنام، ومثابة للوثنية، أماتت فيه التوحيد، وأحيت فيه الشرك، وطمست منه آي القرآن، وأظهرت فيه الصور والأوثان، لم تضق بها الأرض حتى ما تجد مكاناً لمتحفها هذا إلا المسجد الجامع، ولكن النفوس الملحدة ضاقت بهذا المسجد، وأحس أصحابها كأن هذه المآذن في عيونهم، وكأن هذه القبة على ظهورهم، وعشيت أبصارهم من نور الله، فأرادوا ليطفئوه بأفواههم، ويمنعوا مساجد الله أن يذكر فيها أسمه، فعطلت الصلاة في أيا صوفيا فلا تقام فيها بعد اليوم - وسكت المؤذن فلا يدعو في مآذنها إلى الله - ولا يصدع بالتهليل والتكبير، ونأى عنها المؤمنون فلا يدخلونها إلا مستعبرين باكين، يندبون فيها مجد الإسلام، وعظمة الخلافة، وجلالة السلطان، وذل فيها المسلمون وصاروا غرباء عنها وهم أصحابها وأهلوها، وعز فيها المشركون، وشعروا أن أيا صوفيا قد ختمت فيها صفحة الإسلام، باسم هذا الـ. . (أتاتورك) كما فتحت باسم (محمد الفاتح)!
أيا صوفيا التي صيح في مآذنها خمسين وثلاثمائة واثنتين وسبعين وثمانمائة (872350) ألف مرة: حي على الصلاة، حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. . . لا إله إلا الله، فاصطف فيها المسلمون خاشعة أبصارهم مؤمنة قلوبهم، ساكنة جوارحهم، قد وضعوا الدنيا
تحت أقدامهم، ودبر آذانهم، وأقبلوا على الله بخشوع وإخلاص، فجزاهم بما خشعوا وأخلصوا، قلوباً استنارت بالإيمان، وعمرت باليقين، وكان القلب منها وهو يخفق بين جوانح صاحبه، أكبر من الأرض وهي تجري في ملكوت الله. . . فملكوا بهذه القلوب الأرض، وفتحوا بها العالم!
أيا صوفيا التي بات فيها المسلمون سبعين وأربعمائة وأربعاً وسبعين ومائة ألف (174470) ليلة، ولهم في جوفها دوي بالتسبيح والتكبير والتهليل كدوي النحل، وما في أرضها شبر لم يكن موطئ قدم مصل، أو مجلس قارئ، أو مقام ذاكر، أو مقعد مدرس أو سامع، وليس يحصى إلا الله، كم ختم فيها من ختمة، وكم ألقى فيها من درس، وكم ذكر فيها الله، وكم أقيمت فيها الصلاة!
أيا صوفيا التي تشهد كل حجرة فيها، وتشهد أرضها وسماؤها، وتشهد قبتها المشمخرة، وتشهد مآذنها السامقة، ويشهد الناس، ويشهد الله وملائكته، أنها بيت من بيوت الله، وحصن من حصون التوحيد، ودار من دور العبادة. . .
أيا صوفيا. . . تعود للجبت والطاغوت، وتحمل الصور والأصنام، ويخسرها الإسلام والشرق، ليربحها الكفر والغرب؟ لقد أريقت حول أيا صوفيا دماء زكية، وزهقت في سبيل أيا صوفيا أرواح طاهرة، من لدن معاوية إلى عهد الفاتح، إلى عهد عبد الحميد. . . أفراحت الدماء هدراً وذهبت النفوس ضياعاً، وعادت أيا صوفيا بعد سبع وثمانين وأربعمائة سنة وكأنما لم يذكر فيها الله، ولم يتل فيها القرآن، ولم تقم فيها الأئمة، ولم تتجاوب مآذنها بالأذان؟
لقد بنى المسلمون هذا المجد على جماجمهم، وسقوه بدمائهم، وحموه بسيوفهم، ثم وقفوه على الإسلام، أفيأتي في ذيل الزمان، من يعبث بالوقف، ويهزأ بالدماء، ويلعب بالجماجم، ثم لا يردعه رادع، ولا يعظه واعظ؟
ومن هم الأتراك لولا الإسلام؟ على أي حسب يتكلمون، وبأي نسب يفخرون، وبأي ماض يعتزون، وبأي مجد يباهون؟ أبمجد رعاة البقر في تركستان، أم بمجد أرطغرل بك، وقد جاء من مشرق الشمس بدوياً جافياً فقيراً لا يملك إلا أعنة ركائبه، وطنب خيامه، يفترش الغبراء، ويلتحف السماء، فصار أحفاده بالإسلام سادة القارات الثلاث؟ أفرأيت من ينطح
برأسه الصخر، ويشرب بفيه البحر، ذاك هو التركي حين ينكر الإسلام، ويسعى لإيذائه. إنه لا يحطم الصخر، ولا يجفف البحر، ولكن يمشي على رأسه إلى القبر، وإن الإسلام إلا يكن بالترك يكن بغيرهم، ولكن الترك إلا يكونوا بالإسلام لا يكونوا والله بغيره أبداً. . .
وعدنا نعتبر ونتحدث أن لا بقاء للإنسان، وأن لا خلود في الدنيا، وأن الأيام دول، والدهر دولاب، فكم من عزيز قد ذل، وكم ذليل قد عز، وكم من ملوك (ورؤساء جمهوريات) كانوا أعز من النجم، وأمنع من السحاب، ضاعوا وضاعت ذكراهم وأن (الشريف عدنان) مهما يكن جباراً قوياً، فنه سيصبح ويصبح أعوانه، رمماً بالية، في حفر خالية، وسيبقى الله، وسينصر دينه، ويؤيد حزبه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
أيها (الشريف عدنان)! لاتغتر، قد ورثنا القصر، وورثت القبر، وهدمنا ما بنيت، وبنينا ما هدمت. . وما هدمت إذ هدمت، إلا مجدك في التاريخ، وأجرك في الآخرة. . .
مكة المكرمة
علي الطنطاوي
صديقي الكاظمي
للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي
رئيس المجمع العلمي بدمشق
قرأت في الرسالة (عدد96) نعي شاعر العرب الأكبر الشيخ عبد المحسن الكاظمي رحمه الله. فألمت لفقده، وتذكرت سابق عهده، وقديم وده
وقد ذكر ناعيه من خبره: (إنه لاذ بكنف الإمام محمد عبده الذي ظاهر نعمه عليه. وإنه نكد عيشه بعد الإمام، فرضى بالكفاف من الرزق) فرأيت خدمة للتاريخ، وتوفية لحق الصديق، وتنويراً لسيرة حياته - أن أضيف إلى الجملة المذكورة ماله من اتصال بها، أو هو كالشرح يعلق عليها
عرفت الشيخ عبد المحسن في إدارة (المؤيد) لأول عهدي بالتحرير فيه. وهناك توثقت بيني وبينه عرى المودة، وأخذت أعرف من دخيلة أمره ما لا يعرفه سواي. وكان ذلك بعد وفاة أستاذنا الأمام بسنة ونيف
ومما أخبرني به أن الإمام رحمه الله كان يتعهده في آخر كل شهر بعشرة جنيهات: يودعها غلافاً ثم تسلم إليه في داره من دون أن يشعر بما في الغلاف أحد. وبعد وفاة الإمام لم يجد مندوحةً عن السعي لدى الخديو في أن يكون له مرتب شهري من الأوقاف. فتوسط في هذا الأمر الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد. فكان الشيخ يراجع الخديو في تقرير الراتب، والخديو يأبى - كلما روجع بشأنه - إلا الرضخ له من مال الأوقاف بنحو خمسين جنيهاً؛ وكنت أذهب مع الشيخ عبد المحسن إلى الديوان فيقبضها. وقد تكررت هذه المعاملة المرة بعد المرة. والشيخ عبد المحسن في كل مرة يظهر التأفف من تناوله المعونة على هذه الصورة التي ما كان يراها تتفق مع كرامته وإباء نفسه. وكان يلح على الشيخ علي: تارةً بنفسه، وطوراً بواسطتي - أن يكلم الخديو في تعيين راتب شهري مقطوع:(عشرة جنيهات فقط) يربحه بها من عناء التوسط ومكابدة المعاملات الديوانية وان انتساب الشيخ الكاظمي إلى الإمام المفتي إن كان من شأنه أن يحدث فتوراً نحوه في نفس الخديو، فما كان قط ليحدث مثل هذا الفتور في نفس الشيخ على يوسف. فكنا ننزه الشيخ علياً عن وصمة الفتور، لكننا كنا واقفين وقفة الإيجاس من حالة الخديو عباس
ثم ضاق الشيخ عبد المحسن بالأمر ذرعا، فكلفني أن اخذ من الشيخ علي وعدا بإنجاز المسألة مع الخديو: أما سلبا يريح النفس أو إيجاباً يزيح العلة
فتركت الشيخ عبد المحسن في غرفة التحرير، ودخلت على الشيخ علي، وبلغته الرسالة، وكان يصحح مقالةً للطبع. فترك القلم من يده، وتنفس الصعداء ثم قال: ماذا أصنع يا أستاذ؟ أنهيت القضية أمس مع الخديو، ووعد وعداً أكيداً بإصدار أمره بتعيين الراتب، وقد شكرت له وخرجت من عنده. لكنني لم أكد أبرح الباب حتى دخل عليه بعض الناس (ولم يسه لي) فقال للخديو: رأيت فلاناً خارجاً من عندك، فماذا يبغي؟ قال: قررنا راتباً للشيخ عبد المحسن الكاظمي. قال: أنسيت أنه الشاعر المفتى، وقد قال فيه من الشعر كذا وعرض فيك بكذا وكذا؟
قال الشيخ علي: فما كان من الخديو إلا الشح برفده والنكول عن وعده
فلما وعيت هذا رجعت إلى الشيخ الكاظمي، فأخبرته الخبر، فتأثر جد التأثر، وقال لي: أتعرف من هو بعض الناس؟ قلت: لا. قال: هو أحمد شوقي
وكنت إلى ذلك الحين لم أعرف سعادة أحمد شوقي بك رحمه الله، ولا اجتمعت به، وإنما لقيته بعد ذلك في إدارة المؤيد وقد طلب من الشيخ علي أن يراني فتلاقينا وتعارفنا
ثم قال لي الشيخ عبد المحسن: وما الحيلة الآن يا أستاذ؟ قلت: تحسين العلاقة مع أحمد شوقي بك، ففارقته على نية اللقاء في وقت نذهب فيه إلى (كرمة ابن هانئ)، وكانت الكرمة بنيت، حديثاً فذهبنا إليها وأرسل الشيخ عبد المحسن بطاقته إلى البك، فأجيب بأنه خرج، أما الشيخ عبد المحسن فقد أقسم أنه لم يخرج، وإنما أراد ألا يقابله
ومن ذلك الحين يئس من الخديو والراتب. وفوض أمره إلى الله. ثم لما اشتد به المرض، ولازم داره في (درب الكحكيين) جعلت أتردد إليه فيها، وكنا نقضي ساعات في الحديث ورواية الشعر ومطارحة الأدب وأخبار الأدباء، وخاصة أدباء العراق من الشيعة، وقد لخصت بعض أحاديثه عنهم في أملية العدد الصادر في 1 يوليو سنة 1907 من (آمالي الأدب) التي كنت أنشرها في (المؤيد) من وقت إلى آخر
وكان الشيخ عبد المحسن يخص بإعجابه من بين شعراء العراق (إبراهيم الطباطبائي النجفي) الذي جمع بين جودة الشعر وحسن الإنشاد ورخامة الصوت، وهو الذي يقول في
صغيريه حسن ومحمد من قصيدة:
أما وضوء الأبيضين لأنتما
…
قمراً سعودي في الليالي السود
ما أنتما إلا كقرطي غادةٍ
…
يتذبذان على خدود الخود
وتأخرت عن زيارة (الكاظمي) أياماً فكتب إلى بهذه الأبيات:
يا من تخّيرتُه دون الرفاق أخاً
…
ألقى به عادياتِ الدهر والأزما
ُعد مدنفاً كاد يُملي جسمه سَقم
…
لعل قربك منه ُيبعد السقما
إذا ألمتْ به غماءُ جائحة
…
فنور وجهك عنه يكشف الغما
كم منة لك طول الدهر في عنقي
…
مازلت أذكرها أو أسكن الرجما
وقوله (الأزما) بكسر الهمزة وفتح الزاي جمع أزمة بمعنى الشدة والضيق، وهو جمع نادر. ومنه قولهم في جمع (بدرة)(بدر) ولم آسف على شيء أسفي على خبرين كان حدثني بهما فلم أستقص تدوينها في مذكراتي عنه
(الأول) ما وصفه لي من نشأته الشعرية تحت إشراف أخيه الأكبر، وكانت دار أخيه (في بغداد أو الكاظمية) مثابة لشعراء الشيعة وأدبائهم. فكان الكاظمي الحدث يطارحهم الأدب ويسابقهم إلى قرض الشعر، وكان أحياناً يجيد إجادة يعجب بها القوم ويهتز لها أخوه طرباً وسروراً. وأنشدني قطعاً من شعره قالها لمناسبات عرضت في تلك الاجتماعات فاتني تدوينها مع المناسبات التي قيلت فيها
(الثاني) ما وصفه لي من إلحاح الفاقة عليه في بعض الأيام حتى أنه سأل تاجر الدجاج الذي كان يبتاع من دجاجه أن يصف له طريقته في تفريخها وتغذيتها والقيام عليها ليعتاش هو من وراء ذلك. فوصفها الرجل له. وحاول أن يجربها، ففعل. وأصبح عنده ألوف من الفراريج. وكان يعتني بها ويطعمها الأرز، لكنه لم ينجح في تجربته، وكانت الخسارة عليه عظيمة. قال: وما كان يخطر لي قط أن الكتاكيت سريعة العطب، رقيقة المزاج إلى هذا الحد. وأنها إذا لم يتدبر صاحبها أمرها بانتباه وفرط حيطة، ومراعاة الأصول في تغذيتها وتدفئتها لا يبقى من الألف منها سوى بضعة عشر كتكوتاً
وكان في سرده لهذه الحادثة استقصاء دقيق، ودرس اقتصادي عميق، وفكاهة تسري عن النفس البائسة كآبتها، وتعيد إلى الأسارير العابسة بشاشتها
ولما زرته في السنة الماضية مع صديقي الأستاذ (الهراوي) في داره بمصر الجديدة ظننت أنه يمكنني محادثته بشأن كتاكيته، فلم أصادف من صحته ونشاطه ما يساعد على الكلام في هذا الموضوع، وإنما اقتصر حديثنا على وصف المسرة بتلاقينا بعد نحو ثلاثين سنة من تنائينا
والكاظمي ينظم الشعر على طريقة شعراء عرب الجزيرة من حيث متانة الأسلوب وجزالة الألفاظ، وربما امتاز عن كثيرين منهم يخلو شعره من المعاظلة والتعقيد والأغراب
وكما أنه تفوق على شعراء زمانه بهذه الطريقة الفحلة نراه امتاز عنهم أيضاً في أنه يرتجل الشعر ارتجالاً غاية في السلاسة لا جمجمة فيه ولا تلكؤ. وإذا إرتجله وقع شعره المرتجل في قالب طريقته الشعرية المطبوعة، أي إنه مهما طال نفسه في الارتجال جاء شعره المرتجل موسوماً بطابعه الشخصي، متقاوداً مستوى المتون، لا تشاخس فيه ولا تفاوت؛ لا يخذل آخره أوله، ولا ينوء عجزه بكلكله، وهذا موضع الغرابة في ارتجاله. وربما لا يجاريه في هذه المزية إلا القليل من الشعراء الأقدمين بله المتأخرين من شعراء هذه الأيام
ومن ظريف أخبار بداهته ما اتفق لي معه: ذلك أنه زارني يوماً في إدارة المؤيد، فابتدره زميلي الصحافي المشهور سليم سركيس رحمه الله بالعتب الشديد عليه لإغفاله تهنئته بزيه البلدي الجديد وكان من خبر هذا الزي أن (سليماً) تضايق من اللبوس الإفرنجي المحزق ولا سيما ياقة القميص المكوي، وربطة الرقبة (الكرافات) وشطاطها أو بكلتها التي كانت تمنعه الحركة وإدارة رأسه يمنة ويسرة وهو يحرر ويترجم والفصل فصل الصيف والحر حر القاهرة. فما كان منه إلا أن أعلن هجر ذلك الزي والزراية عليه، واصطنع لنفسه الزي البلدي: قفطاناً مشدود الوسط بالزنار، ويحيط أعلى القفطان بعنقه من دون الياقة ولا عرى ولا أزرار؛ وقد سدل فوق القفطان جبةً بلديةً مخصرة الوسط، فضفاضة الأذيال، سهلة الطي، سريعة اللي. وأعلن خبره هذا في الصحف المحلية مشفوعاً يرسمه العربي الأصيل، وزيه البلدي الجميل؛ وأخذ إخوانه المحررون - وهم كثر - يصفون خبره في صحفهم، والشعراء منهم يهنئونه بقصائدهم
وكان صديقنا (سليم) تعجبه طريقة الصحافي الأمريكي الكبير (برزباين) الذي يتخذ في موضوعات كتابته من الحبة قبة، فكيف لا يتخذ هو موضوعاً يلذ المصريين من القفطان
والجبة؟
وكم مرة سمعته يقول: إنني أنا الكاتب الصحافي، وقد تلقيت فن الصحافة من سفري إلى أمريكا ومعاشرة صحفييها. أما زميلاي:(المنفلوطي) و (المغربي) فليسا صحافيين بالمعنى المقصود من كلمة الصحافة: المغربي كاتب عالم، والمنفلوطي كاتب شاعر
فلما دخل علينا السيد الكاظمي وأسمعه سليم عتبه عليه قال له:
ألِقُ دواتك واقربُ
…
وخذ أداتك واكتبُ
ثم جعل يرتجل شعراً في مدح سليم، ووصف زيه الجديد. يمليه عليه وهو يكتب. حتى إذا طال نفس القول اعترضته أنا قائلاً: أرى أنه سيكون لهذه القصيدة نبأ عظيم بين أدباء القاهرة، فلم لا يكون لي فيها ذكر وأنا ثالثكما وشاهد حادثتكما؟ فتحول الكاظمي عن (سليم) وأقبل علي، وخاطبني ببضعة أبيات من شعره المرتجل على وزنه وقافيته. ثم عاد إلى إتمام الكلام في سليم حتى أكمل قصيدة بلغت الثلاثين بيتاً فيما أذكر، وقد نشرها صديقي سليم في مجلته - سنتها الثانية أو الثالثة - وحكى القصة كما وقعت، لكنه ذهب إلى أنني، إنما اقترحت على السيد الكاظمي أن يذكرني في القصيدة امتحاناً له، واستيثاقاً من أمر ارتجاله. رحم الله (الكاظمي) وعوضنا الدهر منه ولا أراه فاعلاً
دمشق
المغربي
رئيس المجمع العلمي العربي
ماذا يقولون عنا؟
العالم الإسلامي
فرنسا وشمال أفريقية
ترجمة مقال نشرته مجلة (لموا) لكاتب فرنسي مطلع
العالم الإسلامي:
العالم الإسلامي إمبراطورية واسعة تنقسم كالعام المسيحي إلى عدد كبير من الممالك التي تجمعها عقيدة مشتركة ويفصلها اختلاف الجنس والموقع الجغرافي والنظام السياسي. وهذه الممالك تتفاوت درجات تقدمها الاقتصادي والفكري تفاوتاً شديداً. ففي نجد وملحقاتها التي تسمى الآن المملكة العربية السعودية لا تزال تسود حياة القبائل الرحل، بينما نجد تركيا والبلاد التي تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني وأفريقيا الشمالية قد بلغت الآن درجة رفيعة في مدينتها الصناعية.
نهضة العالم الإسلامي:
ولقد كان من نتيجة احتكاك هذه الممالك بالمدينة الحديثة أن دخلت كلها في دائرة النشاط العالمي بعد أن كانت بعيدة - مع تفاوت درجات هذا البعد - عن تيارات التعامل الكبرى. وذلك هو ما يمكن أن نسميه نهضة العالم الإسلامي، ويقصد بها نفس ما قيل عن نهضة الصين. ولقد عجلت الحرب الكبرى هذه الحركة بصهرها شعوب العالم في الأتون الجهنمي، فقد كان لهذه الحرب نتيجتان - على الأخص - غير منتظرتين ولكنهما كانتا عظيمتي الأثر؛ إذ منحت اليهود وطناً قومياً في فلسطين فتحقق بذلك الحلم الذي كان يسعى وراءه بنو إسرائيل منذ تخريب بيت المقدس على يد عام 70م. ثم حررت العالم العربي من الحكم التركي
وبعد الحرب سارت نهضة العالم الإسلامي بخطوات سريعة لأن المحاربين وجدوا أنفسهم مضطرين كيما يصلحوا الأضرار التي أصابتهم إلى أن يوسعوا تجارتهم ويجدوا للحصول على أسواق جديدة، فكان استغلال المناجم وأعمال الري وبناء الطرق والسكك الحديدية
والسيارات والطيران وبعبارة موجزة (كل المعدات الحديثة للدول الشرقية التي تقوم على قدم وساق وتعمل على تغيير أحوال معيشتها تغييراً عميقاً) ولقد انقلبت دار الصناعة رأساً على عقب وهي التي عليها تقوم حياة البلاد الاقتصادية. وذلك بسبب طرق الصناعة الحديثة ومنافستها. ففي عام 1932 كانت المنسوجات اليابانية تعادل 70 % مما في أسواق العراق، وفي سوريا توقفت صناعة النسيج وكان في ذلك القضاء الأخير على دور دودة القز
ولقد نتج عن ذلك كثير من ضروب العراك بين المعتقدات والعوائد الماضية، وبين الأفكار والمستلزمات الجديدة. فلا تزال المساجد مركزاً للهياج السياسي، ووسط جزيرة العرب لا يزال متمسكاً بالقانون الديني التقليدي الذي يقول بقطع يد السارق، والجماهير لا تزال في كل مكان شديدة التأثر بخطب المهيجين. على أن نخبة القوم في مصر وسوريا والعراق يهجرون شيئاً فشيئاً الدراسات الدينية، ويوشك أن يزول أثر الإسلام في شئون الحكومات. وبالرغم من ذلك فقد أثار تحرر تركياً من سيطرة الدين كثيراً من الاضطرابات. على أن ضروباً من التقاليد المقدسة قد أمحت الثقة بها، وثل ذلك أعمال الدراويش في حلقات الذكر. ومن ناحية أخرى فإن مسألة القبعة وإن لقيت تقدماً بطيئاً نجد مشكلة حجاب المرأة لم يطرأ عليها تغير ما بالرغم من الثورة التركية. أما الخلافة فليس لها الآن إلا عدد قليل من الأنصار إذا استثنينا الهنود
في وسط هذه الحركات المختلفة نرى اتجاهين رئيسيين كانا نتيجة لتقدم السكان ورقي البلاد: اتجاه توحدي واتجاه قومي
الاتجاه التوحدي:
إن الاتجاه التوحدي يستمد قوته من النهضة العامة للضمير الإسلامي، ومن شعور هذه الممالك باشتراكها من حيث الأصل. وهذا الشعور يقويه مكافحة الغرب وكره الأجنبي. ومن هنا قامت كل هذه الهيآت والمؤتمرات التي تحاول جهدها أن تربط جميع الشرقيين على اختلاف طبقاتهم وأديانهم وممالكهم لتوجههم إلى غرض واحد هو الاتحاد ومقاومة الأجنبي. ولاجتماعات المسلمين في الظاهر صفة دينية على الأخص. وهي بغية الوصول لتحقيق فكرة الجامعة الإسلامية، لكن فكرة مؤتمر مكة قد أهملت دون أن يصيبها النجاح
(في عام 1930 وعام 1931) ويؤكد بعضهم من جهة أخرى أن عدد الحجاج الذين يذهبون إلى مكة قد هبط من 120ألفاً في عام 1929 إلى 90ألفاً في عام 1930 و70 ألفاً في عام 1931 و 30 ألفاً في عام 1932 ومن 20 ألفاً إلى 25 ألفاً في عام 1933 ولم يأت من مصر إلا ألفان من الحجاج عام 1933 وليس للأزمة الاقتصادية إلا أثر جزئي في هذا الهبوط
والواقع أن فكرة الجامعة الإسلامية تصطدم باستحالة توجيه ثلثمائة أو أربعمائة مليون من المسلمين. كما أن الفكرة الدينية لا تكفي لربط العالم الإسلامي وحفزه. وهناك برهان مادي على صدق هذا القول وهو فشل فكرة الخلافة: (ففكرة الخلافة التي تقاومها السلطات التركية باستمرار في كل المناسبات يظهر أنها قد ماتت تماماً في الوقت الحاضر في البلاد العربية. ولقد أعلن الملك عبد العزيز بن سعود نفسه وهو يستقبل الحجاج في مكة أنه لم يجر ولن يجري مطلقاً وراء لقب خليفة المسلمين. فالخليفة يجب عليه مراقبة أوامر الدين ونواهيه في كل أجزاء الأرض. وفي عصرنا الحاضر لا يوجد رجل قادر على أن يضطلع بهذا الأمر. وعلى ذلك فإن النهضة الدينية في الشرق الإسلامي يمكن اعتبارها (رد فعل) في سبيل الدفاع السياسي أكثر منها بداية نهضة. فالإسلام هو الآن قوة لمكافحة الاستعمار الغربي واليهودي، لكن أثره في حياة الحكومات يفقد تدريجياً خطره الذي كان له في الزمن السابق. ويجب أن نضيف أيضاً أن مما يتفق وتاريخ المدينة الإسلامية ما نراه الآن من تقدم حركة دينية قوية ترمي إلى توحيد قوى قسمتها السياسية، وإقامة جبهة صلبة ضد الغرب) ومنذ عهد قريب تبذل الجهود لبعث النشاط الإيجابي في كل عضو من جسم العالم الإسلامي
ولقد نتج عن الحبوط (النسبي) لفكرة الدينية أن اتخذت كل الحركات المبذولة في سبيل الوحدة صبغة سياسية. وقد قوى تقدم الحركة الصهيونية في فلسطين الشعور بواجب الدفاع عن بيت المقدس وهو المدينة المقدسة الثانية للعالم الإسلامي. وفي أثناء عام 1931 دعا المفتي الأعظم إلى المؤتمر الذي عقد في ديسمبر، (وكان الغرض من هذا المؤتمر يبدو أولا دينياً محضاً: وهو التعاون الإسلامي ونشر الثقافة الإسلامية ومقاومة الإلحاد، والدفاع عن الأراضي المقدسة، والمحافظة على التقاليد، وإنشاء جامعة علمية في بيت المقدس،
وبحث حالة سكة حديد الحجاز) والواقع أنه لم يكن المحافظة على البرنامج المبدئي. فقد كان من اللازم التوسع فيه حتى يستطيع أن يعالج أيضاً موضوعات مختلفة تهم حالة الشعوب الإسلامية من الناحيتين السياسية والثقافية. وبالرغم من ذلك فإن سلطة المؤتمر قد ضعفت لغياب الممثلين الرسميين لمصر والعراق ونجد، وبتأكيد الحكومة التركية عداوتها لكل سياسة داخلية أو خارجية (تستخدم الدين كوسيلة سياسية)، وفي بيت المقدس نفسه أعلن الحزب المعادي للمفتي الأكبر أن الرؤساء المسلمين لم يؤيدوا المشروع إذ لم يؤخذ رأيهم فيه
الجامعة العربية:
ومنذ الحرب الكبرى، أو بعبارة أخرى منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية تتخذ الحركة التوحدية صبغة جديدة. فالجامعة الإسلامية قد تحولت إلى توسع استعماري عربي. إذ حلت محل الفكرة الدينية التي حاق بها الضعف فكرة الوحدة الثقافية: أي وحدة البلاد التي تتكلم اللغة العربية، والتي يبلغ مقدارها 70 مليوناً، ولقد بذل منذ نصف قرن على الأخص مجهود في سبيل اللغة - لم يكن الغرب يشك في قوته - كان له أثر في تغيير الحالة الثقافية للبلاد العربية لدرجة أنه لم يعد من السهل المقارنة بين اللغة القومية واللغات الأجنبية من جهة، وبين البلاد العربية وأفريقيا الشمالية من جهة أخرى. وفي منتصف القرن التاسع عشر كان السكان الذين يتكلمون اللغة العربية في الشرق الأدنى وخصوصاً في سوريا وفلسطين يعتمدون على المصادر التي لا بأس بها في لهجاتهم الدارجة، وكانت اللغة الفصحى غير كافية، ولم تكن تؤدي الحاجة الضرورية. لذا كان من اللازم الالتجاء إلى اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية والتركية واليونانية والروسية ولقد غيرت هذه الحالة تغييراَ عميقاَ بخالق لغة فصحى حديثة. وكان مركز الحركة في دمشق وفلسطين وبغداد. وكان جعل التعليم العام باللغة العربية الفصحى الحديثة في كل البلاد الشرق الأدنى مما ساعد بطريقة أكثر تحقيقاً للغرض على التقليل المسافات التي تفصل لغة الكتابة عن اللغة الدراجة. وتبين الإحصاءات المدرسية التي نشرت في السنين الأخيرة في مصر وسوريا ولبنان والعراق وفارس أن عدد طلبة المدارس قد أزداد بعد الحرب في معظم هذه البلاد 300 إلى 600 %
وفي ظل هذه الأشكال المختلفة التي تبدو بها حركات الجامعة الإسلامية والجامعة العربية قام عمل متوصل لتعديل الالتزامات المالية والاقتصادية والسياسية التي عقدتها أو فرضتها البلاد الغربية. وهذأ التعديل يصعب على الأخص في بعض البلاد مثل فلسطين حيث يتقابل وجها لوجه العنصران اليهودي والعربي اللذان حررتهما الحرب. ولقد استطاعت الحكومة البريطانية أن تتحاشى حتى الآن (الانفجار القوي الذي كان يحق للمرء أن يخشاه. . . وعلى الرغم من اضطرابات أكتوبر عام 1933 كانت مما يوجب أشد الأسف فقد تبدو حركة ضئيلة إذا قارنها باتساع مأساة الكفاح بين الصهيونية والقومية العربية)
الاتجاه القومي:
والاتجاه الضروري الآخر الذي يبدو في البلاد الإسلامية هو الاتجاه القومي، وهو يظهر بشكل أقوى في أفريقيا الشمالية، والواقع أن (البلاد العربية) تفكر تفكيراً غامضاً في الوحدة، أي في تحقيق أمة عربية. بينما تجد بلاد أفريقيا الشمالية تظهر الرغبة من تلقاء نفسها - كمصر مثلً - في أن تبقى أمماً مستقلة. والواقع أن حوادث العراق وفلسطين يصل صداها مباشرة إلى دمشق، كما أن اليمن - على رغم اختلاف الجو والحياة المادية والعقائد الدينية - قد تكون من الناحية السياسية أقل بعداً عن سوريا من بعد مراكش عن الجزائر
أفريقيا الشمالية:
إن حوادث أفريقيا الشمالية قليلة وغير معروفة. وهي بذلك تترك المجال للأقاويل التي تدخلها الأغراض، وللحملات الصحفية التي تصول فيها الشهوات السياسية لأحزاب اليسار واليمين. ولا تزال المعلومات في الوقت الحاضر سيئة للغاية فيما يتعلق بالاضطرابات التي حدثت أثناء الحرب في مراكش والجزائر وتونس، ومع ذلك فإن مسألة باتنا لا تزال على حرارتها حيث فقد هناك وكيل المديرية حياته
ولتعويض الأعمال المجيدة التي قامت بها الفرق الوطنية في ساحات القتال أثناء الحرب العظمى منحت حكومة كليمنصو سكان أفريقيا الشمالية وعودا لم تنفذ لسبب من الأسباب، ولقد اعترف المقيم العام مسيو بيروتون للنائب الاشتراكي مونيه فقال: (الواقع أن من
سبقوني قد تركوا الحبل كله على الغارب. ولقد وجدت من اللازم أن يصلح كل شئ من جديد سواء من جهة الخطة السياسية أو من جهة الخطة الاقتصادية)
وقد كان مسيوب. هيريكور يجمع هذه الشكوى التي تقول: (ألا تعتقدون أن أولئك الذين هم منا والذين دفعوا ضريبة الدم ليس لهم بعض الحق في أن يتألموا لكرامتهم حيت يرون أنفسهم يعاملون معاملة الأهل الضعفاء وسط الجالية الفرنسية ذات الصدر الواسع بالنسبة للإيطاليين والأسبان والمالطيين بل وحتى الألمان؟) وبالرغم من اختلاف وجهات النظر الذين ينتقدون السياسة الفرنسية في شمال أفريقيا فإنهم متفقون على أنه ليست هناك وحدة ما في إدارة الجزائر وتونس ومراكش. ولقد حدثت محاولة واحدة بعد الحرب للوصل بين هذه الأدارات، على أنها لم تتلها أخرى. وهذا هو أحد أسباب الضعف الخطير أمام ثورة الجامعة الإسلامية والجامعة العربية، ويضاف إلى ما سبق أن أعباء دولية تثقل تونس لأن السياسة الإيطالية ما تزال على نشاطها، وتثقل مراكش لأن للمصالح البريطانية أهميتها. ومن الآن يظهر أن إنكلترا سوف تطلب تعويضاً من مراكش الإسبانية عند احتمال تركها لجبل طارق
اضطراب شمال أفريقيا:
في خلال عام 1934 قامت في تونس والجزائر ومراكش سلسلة من الحوادث والاضطرابات والثورات يجد المرء تفصيلاتها في مجلة (أفريقيا الفرنسية) التي بينت في عدد سبتمبر أخطاء حكومة الجمهورية بقولها: (عندما تكونت الجبهة المعادية لفرنسا بشكل كتلة عربية، كانت تقابل على الدوام بسياسة تشتيت الجهود والمجاهرة بالعداء للأقاليم الفرنسية وتصديق الأخبار الكاذبة الخاصة بحالة هذه الأقاليم. . . إن المسئولية الكبرى فيما يتعلق بحالة القلق في شمال أفريقيا ترجع إلى باريس، فحكومة الجمهورية تغمض عيونها عن المطالب الشرعية التي تقتضيها الحالة الاقتصادية في شمال أفريقيا، ويجب ألا ننسى أن أفريقيا الشمالية قد أصبحت العنصر الأساسي في حياة الجمهورية الاقتصادية)
في الجزائر:
إن الجزائر هي مركز المصالح الفرنسية والنشاط الفرنسي في شمال أفريقيا. فإذا هدد
المركز عرض كل شئ في تونس ومراكش للخطر. وقد قال أحد العلماء الذين هم على جانب كبير من الخبرة في هذه المسألة ما يأتي: (إن أهمية الجزائر لفرنسا أكثر من أهمية الهند لانجلترا، لكن الواقع أن الهند بالنسبة للإمبراطورية البريطانية مصدر قوة، بينما الجزائر تصبح من حيث القوة أمة من الدرجة الثانية)
ولقد كانت الحوادث الدموية التي شبت في الخامس من أغسطس شيئاً جزئياً استغلته الأحزاب السياسية. فصحافة اليسار قالت إنها حركة موجهة ضد اليهود، بينما اعتبرت صحافة اليمين مرسوم كرميو الذي يمنح عدداً كبيراً من اليهود الجنسية الفرنسية عملاً إجرامياً. والواقع أن مرسوم كرميو لم يقابله المسلمون عند إعلانه مقابلة سيئة، والربا هو إحدى النكبات الكبرى التي تضني الجزائر، وهو مهنة نمت على يد اليهود الجزائريين، ولكنها الآن تسير بنجاح في شمال أفريقيا بواسطة أفراد ليسوا من اليهود. هذه الضروب المختلفة من الشطط تعرض للخطر شيئاً فشيئاً أبناء المستعمرات الفرنسية وفرنسا نفسها. وإذا أضفنا إلى ذلك أثر الأزمة الاقتصادية كان لابد لهذه الحالة من أن تنتهي بالمذابح. ومن الغريب أن الحكومة التي من واجبها السهر على النظام والعدالة والرخاء لا تجد إلى الآن وسيلة لوضع نظام للأقراض يضع حداً للسلف الصغيرة التي كانت أول ما اهتمت به الحكومة الإنجليزية في مصر
السياسة البربرية:
يعيش في أفريقيا الشمالية مليون من الفرنسيين لا يمكن أن
يتركوا وسط عدد من السكان الوطنيين يبلغ اثني عشر مليوناً.
فيجب أن توجد طريقة للتوفيق بين فريقين مختلفين حتى
يستطيعا الحياة. ولقد حاول بعضهم إيجاد سياسة خاصة ببلاد
البربر يقصد بها خلق العداوة بين أهل هذه البلاد وبين العرب
وذلك عملاً بالمبدأ القائل: فرق تسد. وبناء على تقرير مسيو
ماسينيون السنوي يوجد 29 % من البربر في الجزائر، و60
% في مراكش، و12 % في تونس. على أن الالتجاء إلى
سياسة بذر الشقاق لم تأت كما سمعنا بإحدى النتائج المنتظرة.
ولقد كان ظهير عام 1930 مبعث الاضطرابات التي انبعثت
من ذلك الوقت في مراكش؛ ومؤهلات المسلمين في شمال
أفريقيا تحتم أن تكون الثقافة هناك عربية محضة. وعلى ذلك
فالقوانين في بلاد البربر بدائية، وبعبارة أخرى متأخرة جداً
بالنسبة للقوانين في سائر البلاد الإسلامية فالمرأة مثلاً بموجب
القوانين في بلاد البربر سلعة من السلع، وهي تعتمد على
والدها الذي يستطيع أن يبيعها، وعلى زوجها الذي يملك
طردها، وعلى أشقائها الذين يمكنهم إنزال العقاب بها. لذا كان
من الوهم الاعتقاد بأن البربر يستطيعون أن يصبحوا فرنسيين
دون أن يصلوا أولا إلى ما وصل إليه المسلمون. وتطبيق ما
يسمى السياسة البربرية لا يمكن أن ينتج غير بقاء الاعتقادات
البالية واستمرار العادات الماضية
المعارضة الوطنية:
يكاد ينحصر البربر المقيمون بالجزائر في بلدة قابلية وقد اقترح إنشاء إقليم رابع لهم، على أن هناك عوائق لابد من انتظار حل لها، وهي أن التعليم غير كاف، وسكان
المستعمرات لا يتعلمون العربية، كما أن هناك هوة تزداد تدريجياً بين الفرنسيين وأهل البلاد. ولقد كان هؤلاء مخلصين حتى عام 1930 وخصوصاً المتعلمون الجزائريون وعددهم 20 ألفاً. ويرى أكفأ الخبراء أن عدم السماح لهم بالتجنس بالجنسية الفرنسية كان خطأ بيناً. ولكن هل هذا صحيح؟ إننا لا نستطيع أن نعطي رأياً قاطعاً. على أن الواقع أن الاحتفالات بمرور مائة عام على احتلال الجزائر لم تحمل لأهل البلاد إلا خطباً فارغة. ومنذ أربعة أعوام لم يتحقق إصلاح واحد من الإصلاحات التي طلباها أو وعد بها أهل البلاد. ولذا ابتدأت المعارضة وشجعتها الأزمة الاقتصادية. فحمل (الوفد)، وهو الحزب الوطني، إلى باريس شكواه من الحكومة العامة، وأحيت جمعية العلماء المسلمين الثقافة العربية بين جماهير الشعب. والنتيجة أن سكان المستعمرات يزداد قلقهم تدريجياً، وأهل البلاد يتفاقم تذمرهم، والحكومة المركزية لم تصل إلى تسوية الحالة
في تونس:
إن معلومات الصحافة عن الاضطرابات التي قامت في سبتمبر عام 1934 سيئة. وقد شكت مجلة (أفريقيا الفرنسية) من (العقبات التي تصادفها الأخبار الواردة من تونس) في النصف الأول من شهر سبتمبر. وفي أوائل يونيو أكد البيان الرسمي للجنة المستعمرات في مجلس النواب أن تونس (تسير في الطريق السوي) وبعد ذلك بشهر عرف أن الجرائد (الخطرة) قد عطلت، وأن تذمراً هائلا يسود الموظفين والعمال والفلاحين. وإن السكان الوطنين محرضون على الامتناع عن دفع الضريبة. ومن الجلي أن المتطرفين من الدستوريين الحديثين يريدون بذلك التغلب على الأحرار الدستوريين. وفي 3 سبتمبر اتخذ المقيم العام عقوبات صارمة. فتكاثرت الحوادث وقامت المظاهرات الصاخبة أمام دار المقيم، وأغلقت الحوانيت وحدثت الاضطرابات، وهوجمت الفرق الحربية وشبت الحرائق. وحدث في موكنين حادث خطير نسبياً حيث هاجم الثائرون عساكر البوليس، فعطلت الجرائد المتطرفة
ولا يكفي أن تلقى تبعة اضطرابات شمال أفريقيا على الدعاية الشيوعية. فالواقع أن التذمر العام له أسباب محلية أكثر عمقاً، هي أسباب سياسية واقتصادية. لكن الواضح أن اضطراب البلاد الاقتصادي والفكري قد استغلته الدعايات الخارجية من الشيوعية وغيرها.
والحقيقة أن المقيم العام في تونس أعلن في 14 سبتمبر قرارات لغرض تسوية الديون الزراعية وتعطيل الإجراءات القضائية ووقف الحجوز. وعهد إلى خمس لجان تحكيم بحث موقف المدينين المعسرين. وأعظم نقص في السياسة المتبعة في تونس أنها تتحول مرة واحدة من لين شديد إلى قسوة شديدة. فهناك يباح كل شطط يرتكبه المرابون ونقابات الموظفين إلى أن يأتي يوم تجد فيه الحكومة نفسها مرغمة على الالتجاء إلى الشدة. وتلك هي السياسة المرتكبة التي مآلها الفشل العظيم
في مراكش:
ومراكش ليست محرومة هي الأخرى من الفضائح، فهناك حكاية حي مراكش المحجوز أو - من الناحية الاقتصادية - المضاربات على القمح الذي قدر بستة وثلاثين فرنكا، واشترى بخمسة وعشرين، ثم بيع ثانية للرباط بمائة وعشرة فرنكات مع كل ضروب المجاملة التي يؤسف لها.
ويظهر أن حكومة المقيم العام قد أخذت تشعر، ولكن - كما تقول مجلة أفريقيا الفرنسية - (إذا لم تحقق هذه الآمال وخصوصاً القضائية والمالية فلا بد من عودة الأيام العسيرة)
النتيجة:
والنتيجة أن شمال أفريقيا يعاني نقصا في وحدة الإدارة، وكذلك يعاني - كحكومة الجمهورية - نقصاً في السلطة. وهو يعاني أيضاً من نظام الإنتاج والتبادل الذي يرتكز كما هو واضح على مذهب الحرية. والواقع أن تدخل السياسة في الأعمال ينتج أثرين: يساعد المصالح الخاصة على حساب المجموع، ويعارض تطور القوانين اللازم منذ الحرب. إن من الواجب وجود توازن بين حقوق حكومة الجمهورية وآمال أهالي البلاد؟
ع. ك
استدراكات وتصويبات
1 -
اطلعت في العدد 96 من (الرسالة الغراء) على المقال البحاث المؤرخ السيد محمد عبد الله عنان عن (الحاكم بأمر الله) فرأيته يسمى صاحب (مرآة الزمان)(ابن قزأوغلي)، ولعل ذلك تصحيف وقع في الكثير من الكتب ككشف الظنون، والنجوم الزاهرة، والأعلام وغيرها، وصوابه (فرغلي) كما في نسخة قديمة من الوافي بالوفيات، ووفيات الأعيان لابن خلكان حيث نص عليه بما يوافق ما قاله الزبيدي في شرح القاموس، ويعلل بعضهم لصحة (قزأوغلي) بأنه ابن البنت في اللغة التركية، وغفل عن أن ابن البنت هو السبط نفسه لا أبوه (فرغلي)، كما ترى ذلك مبسوطاً في شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد) في ترجمة سبط ابن الجوزي يوسف بن فرغلي صاحب مرآة الزمان وغيرها
2 -
وورد في العدد نفسه من (الرسالة الجليلة) في (باب القصص) مقالة فيها (قبرص) بالصاد، وهو غلط فاش بين الناس غالب على أقلامهم، وصوابه (قبرس) بالسين كما قيده ياقوت في معجم البلدان والفيروز إبادي في القاموس وغيرها
3 -
وتقدم في عدد سابق من (الرسالة) أيضاً الكلام على المدرسة (السميساطية) في دمشق الشام فجاءت محرفة، وهي تنسب إلى أبي القاسم السميساطي حيث كانت داره فوقفها على الفقراء المؤمنين والصوفية ووقف علوها على الجامع الأموي الملاصق لها، وسميساط بضم السين للهملة الأولى وفتح الميم والسين الثانية بينهما مثناة تحتية وآخره طاء مهملة بلد بالشام. وواقف المدرسة المذكورة كان من أكابر الرؤساء والمحدثين بدمشق، بارعاً في الهندسة والهيئة، صاحب حشمة وثروة واسعة، عاش ثمانين سنة وتوفي سنة 453 كما في شذرات الذهب ومعجم البلدان وغيرها
أبو أسامة
أبو سيلمان الخطابي
319 -
388 هـ
بقلم برهان الدين محمد الداغستاني
إذا تصفحنا كتب غريب الحديث المؤلفة بعد القرن الرابع الهجري أو قرأنا شرحاً من شروح كتب الحديث المشهورة - وجدنا اسم الخطابي ورأيه بارزين واضحين، يكفي لمن يريد تأييد رأي على آخر أن ينقل عن الخطابي ما يؤيده كما يكفي من يريد الاحتجاج على أمر أن يذكر رأي الخطابي فيه حتى يتم له ما أراد
وقد درج الكثير من المؤلفين والرواة عنه على الاكتفاء عند ذكر اسمه بالخطابي، وسواء أكان اقتصارهم هذا لشهرته عندهم أم لعدم معرفتهم اسمه الحقيقي، فقد كان سبباً من أسباب الخلاف الطويل حول اسمه الذي سمي به
وقد خدم الخطابي رحمه الله اللغة العربية وعلم الحديث بنوع خاص - بما كتبه في غريب الحديث وإصلاح خطأ المحدثين وشرحي البخاري وسنن أبي داود خدمة جليلة فوق ما كتبه في فنون أخرى. حتى لقد أصبحت كتبه من بعده مصادر لمن أتى بعده يأخذ منها ويعتمد عليها، غير أن أكثر كتبه مفقودة الآن لا يعرف غير أسمائها ككثير من كتب الأقدمين من علمائنا الأعلام وسأحاول - بقدر الإمكان - أن أصور للقارئ الكريم صورة واضحة جليلة لأبي سليمان الخطابي البستي في هذه الكلمة الوجيزة
اسمه ومولده ونسبه
هو حمد (بفتح الحاء وسكون الميم) بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي، كذا ذكره النووي في طبقات الشافعية والحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ وعبد الجبار الهروي في تاريخ هراة والحاكم ابن البيع في كتاب نيسابور وابن خلكان في وفيات الأعيان والسبكي في طبقات الشافعية وهو الصواب وعليه المعول، فقد سئل الخطابي نفسه عن اسمه فقال:(اسمي الذي سميت به حمد ولكن الناس كتبوه أحمد فتركته عليه)
ووهم الثعالبي في اليتيمة وأبو عبيد الهروي صاحب كتاب الغريبين والوزير المؤرخ جمال الدين القفطي في أنباه الرواة في أنباه النحاة حيث سموه أحمد
ولد الخطابي في رجب سنة تسع عشر وثلثمائة بمدينة بُستْ (بضم الباء وسمون السين) وهي من بلاد كابل عاصمة الأفغان، بين هراة وغزنة، كثيرة الأشجار والأنهار، وكما اختلف الذين ترجموا في نسبته. إلى من هذه النسبة (الخطابي)؟ فياقوت في إرشاد الأريب (معجم الأدباء)، والسيوطي في بغية الوعاة، والسمعاني الأنساب يذكرون بأنه من ذرية زيد بن الخطاب بن نفيل العدوي آخى عمر بن الخطاب مقتصرين عليه، بينما ابن خلكان والسبكي والشيخ محمد الأنصاري البهنسي في الكافي يقولون: أنه منسوب إلى جد أبيه الخطاب، ثم يقولون: وقيل إنه من ذرية زيد بن الخطاب آخى عمر رضي الله عنه
شيوخه وتلاميذه
تفقه الخطابي على الأمام الجليل محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي الكبير والقاضي الإمام أبي علي بن أبي هريرة وسمع الحديث من أبي سعيد بن الأعرابي بمكة، وأبي بكر بن داسة بالبصرة، وإسماعيل الصفار ببغداد، وأبي العباس الأصم بنيسابور، وتأدب أخذ اللغة عن أبي عمر محمد بن عبد الواحد اللغوي المعروف بغلام ثعلب، وسمع من أحمد بن سليمان النجار، وأبي عمر السماك، ومكرم القاضي، وجعفر الخلدي، وأبي جعفر الرزاز وأخذ عنهم
وسمع من الخطابي وروى عنه الإمام الفقيه الشيخ العراق أحمد ابن محمد بن أحمد الأسفراييني، والحاكم أبو عبد الله محمد بن البيع النيسابوري، وأبو عبيد الهروي صاحب كتاب الغريبين، وعبد الغفار بن محمد لفارسي، وأبو القاسم عبد الوهاب بن أبي سهل الخطابي، وأبو نصر محمد بن أحمد البلخي الغزنوي، وأبو مسعود الحسين بن محمد الكرابيسي، وأبو عمر محمد بن عبد الله الزرجاهي وخلق كثير غيرهم
مكانته العلمية وثناء الناس عليه
كان الخطابي رحمه الله تعالى عالماً أديباً زاهداً ورعاً حسن التدريس والتأليف، إماماً في اللغة والفقه والحديث، ثقة متثبتاً من أوعية العلم، حجة صدوقاً من كبار أئمة الشافعية. رحل في طلب العلم إلى العراق فسمع ببغداد والبصرة والحجاز وجال خرسان وخرج إلى ما وراء النهر، كريماً يتجر في ماله الحلال وينفق على الصلحاء من إخوانه
قال أبو منصور الثعالبي: كان يشبه في عصرنا بأبي عبيد القاسم بن سلام في عصره علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً إلا إنه كان يقول شعراً حسناً وكان أبو عبيد مفحماً
وقال أبو المظفر السمعاني: كان الخطابي حجة صدوقاً رحل إلى العراق والحجاز وحال خراسان وخرج إلى ما وراء النهر، وكان يتجر في ملكه الحلال ويتفق على الصلحاء من إخوانه. وقال أيضاً: كان من العلم بمكان عظيم وهو إمام من أئمة السنة صالح للاقتداء به والإصدار عنه
وقال الذهبي: كان ثقة مثبتاً من أوعية العلم قد أخذ اللغة عن أبي عمر الزاهد ببغداد، والفقه عن أبي علي بن أبي هريرة والقفال، وله شعر جيد
وقال ابن خلكان. كان فقيهاً أديباً محدثاً له التصانيف البديعة، وعدد كتبه ثم نقل عبارة الثعالبي المتقدمة
وقال ياقوت: قد أخذ العلم عن كثير من أهله ورحل في طلب الحديث وطوف وألف في فنون من العلم وصنف وقال النووي في طبقات الشافعية له: حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الفقيه الأديب أبو سليمان الخطابي البستي صاحب التصانيف المتداولة. قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري أقام عندنا بنيسابور سنين وحدث بها، كثرة الفوائد من علومه وقال الشيخ شرف الدين البهنسي في الكافي: ألو سليمان الخطاب من الأئمة الأعلام المجتهدين في قواعد الأحكام. كان رحمه الله فقيهاً محدثاً أصولياً جمع بين الحديث والفقه، ومد في تحقيق العلم باعاً مديداً، وأحكم من مبانيه ركناً شديداً حتى قلد أعناق أهل العلم المنن
وأورد النووي في طبقات الشافعية هذه الأبيات الثلاثة:
أخ تباعد عني شخصه ودنا
…
معناه مني فلم يضعن وقد ضعنا
أبا سيلمان سر في الأرض أو فأقم
…
بحيث شئت دنا مثواك أو شطنا
ما أنت غيري فأخشى أن تفارقني
…
قد بت روحك يا روحي فأنت أنا
وقال إنها لأبي الفتح علي بن محمد البستي قالها في أبي سليمان الخطابي؛ وياقوت في معجم الأدباء ذكر البيتين الأخيرين هكذا:
أبا سليمان سر في الأرض أو فاقم
…
فأنت عندي دنا مثواك أو شطنا
ما أنت غير فأخشى أن تفارقني
…
قدبت روحك بل روحي فأنت أنا
وقال إنهما من شعر الثعالبي في الخطابي. والظاهر أن هذه الأبيات من شعر الثعالبي فس شيخه وصديقه أبي سليمان، فقد كانت بينهما صلة وثيقة نلمسها في شعر الخطابي نفسه الذي يقوله في الثعالبي بعد مفارقته، فقد قال فيه:
قلبي رهين بنيسابور عند أخ
…
ما مثله حين يستقري البلاد أخ
له صحائف أخلاق مهذبة
…
منها التقي والنهي والحلم ينتسخ
وفاة ورثاؤه
أكثر الذين أرخوا وفاة الخطابي يؤرخونها سنة ثمان وثمانين وثلثمائة من غير تعيين يوم أو شهر، إلا أن الذهبي قال ليست في ربيع الآخر، والسبكي يقول في ربيع الآخر من دون تعيين يوم، وابن خلكان يقول كانت وفاته في شهر ربيع الأول وجاء في معجم الأدباء: نقلت من خط أبي سعيد السمعاني قال نقلت من خط الشيخ ابن عمر توفي الإمام أبو سليمان الخطابي ببست في رباط على شاطئ هندمند يوم السبت السادس عشر من شهر ربيع الآخر سنة ست وثمانين وثلثمائة، ومع اختلافهم في سنة وفاته على ما سبق ذكره فهم متفقون على أنه توفي ببست كما اتفقوا على أنه ولد فيها أيضاً
ولما مات الخطابي رثاه تلميذه وصديقه أبو منصور الثعالبي فقال:
انظروا كيف تخمد الأنوار
…
انظروا كيف تسقط الأقمار
انظروا هكذا تزول الرواسي
…
هكذا في الثرى تغيظ البحار
ورثاه أبو بكر عبد الله بن إبراهيم الحنبلي أيضاً فقال:
وقد كان حمداً كاسمه حمد الورى
…
شمائل فيها للثناء ممادح
خلائقٌ ما فيها معاب لعائب
…
إذا ذكرت يوماً فهن مدائح
تغمده الله الكريم بعفوه
…
ورحمته والله عاف وصافح
ولازال ريحان الإله وروحه
…
قرى روحه ما حن في الأيك صادح
تآليفه:
ليس الخطابي من المكثرين في التأليف لكنه من المجيدين فيما ألف. فمن تآليفه القيمة:
1 -
(معالم السنن) في شرح سنن أبي داود شرح فيه غريب اللغة وبين وجوه الأحكام التي تأخذ من الأحاديث الواردة في السنن وذكر أقوال العلماء وآراء الفقهاء بلفظ جزل، وأسلوب سهل، وعبارة موجزة، قال في مقدمته:(ورجوت أن يكون الفقيه إذا ما نظر إلى ما أثبته في هذا الكتاب من معاني الحديث ونهجته من طرق الفقه المتشعبة عنه دعاء ذلك إلى طلب الحديث وتتبع عمله، وإذا تأمله صاحب الحديث رغبة في الفقه وتعلمه)
2 -
(غريب الحديث) ذكر فيه ما لم يذكره أبو عبي ولا ابن قتيبة في كتابيهما وهو كتاب ممتع مفيد، في غاية الحسن والبلاغة
برهان الدين محمد الداغستاني
3 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
ترجمته:
كان المسلمون حينما ثاروا ثورتهم على بني مروان ينشدون في بني العباس حكماً يعيد لهم عهد الخلفاء الراشدين، ويكون خليفتهم فيه كأحدهم لا يؤثر نفسه بشيء من أمور الدنيا عليهم، ولا يأخذ لنفسه من أموال الدولة إلا ما يفرضونه له منها، كما فرضوا لأبي بكر وغيره، فلم يحقق لهم بنو العباس كل هذا الرجاء، بل ظهروا بأبهة الملك التي كان يظهر بها بنو مروان، واستأثروا لأنفسهم بأموال الدولة، وجعلوها ملكاً لهم ينفقون منها في مصالح المسلمين ما تجود به أنفسهم، وما يبقى بعد حاجتهم، وحاجات أهل بطانتهم وحاشيتهم، وكذا أهل الملق من الشعراء والندماء ومن إليهم، ولم يحققون للمسلمين من كل ما أملوه فيهم إلا هذين الأمرين المهمين: المساواة بين الشعوب الإسلامية في حكم الدولة، وتحضير الدولة الإسلامية بالثقافة العلمية الواسعة التي أحسنوا البلاء فيها
وقد انقسم المسلمون في شأن هذه الدولة بعد قليل من ظهورها إلى قسمين: فتجافاها أهل الورع منهم وأبوا أن يتولوا أعمالها، وسار معها جمهور المسلمين في ذلك السبيل الذي سارت فيه، واستولى عليهم اليأس من ذلك المثل الأعلى في الحكم الذي كان على عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ثم أقبلت الدنيا عليهم فانغمسوا فيها أيما انغماس، وتفننوا في أنواع التلذذ بها أيما تفنن، وكادوا ينسون الآخرة كما نسيها من كان قبلهم، فكانوا في أشد حاجة إلى شاعر ملهم يوقظهم من تلك الغفلة القاتلة، ويؤدي في الشعر رسالته التي يجب أن يؤديها في كل عصر على الوجه الذي يتطلبها، وكان لهم ذلك في شاعرنا أبى العتاهية
ولد أبو العتاهية سنة ثلاثين ومائة من الهجرة قبل قيام الدولة العباسية بسنة أو سنتين، ونشأ بالكوفة ولكن أصله من عين التمر، وأبو العتاهية لقبه، واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان مولى عنزة، وكان خالد بن الوليد قد سباه مع جماعة صبيان من أهل عين التمر، فوجه بهم إلى أبي بكر، وكانوا أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، ففرقهم في أهل البلاد والأمصار، فاعتنقوا الإسلام وأعتقهم مواليهم، فكان لهم أثر صالح في العلم والأدب،
ونبغ من أولاًدهم جماعة كانوا من أكابر رجال العلم والسياسة والحرب، مثل موسى بن نصير، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن إسحاق. وكان كيسان جد أبي العتاهية من نصيب عباد بن رفاعة العنزي، لأنه سمعه حين سأله أبو بكر عن نسبه يذكر له أنه من عنزة، وكان يكفله في عين التمر قرابة له منهم، فاستوهبه عباد من أبي بكر ثم أعتقه فتولى عنزة؛ وكان بنوه يزعمون أنهم منها ويكرهون من ينسبهم إلى النبط الذين كانوا يسكنون عين التمر، ولكن الظاهر أن أصلهم منهم، لأنهم كانوا يحترفون بالكوفة من صنعة الجرار ما كانت تأباه فطرتهم لو كانوا عرباً
وقد نشأ أبو العتاهية بالكوفة بين أسرته يعمل الجرار معهم، ولم يذكر الرواة أنه اشتغل بالتعليم في صغره، ولكن الظاهر من أمره أنه اشتغل بقدر منه كان له عوناً في الحياة التي آل إليها أخيراً أمره؛ وكان بالكوفة طائفة من خلفاء الشعراء وأهل المجون والمخنثين، وناهيك بشاعرها والبة بن الحباب الأسدي وما بلغ إليه في الخلاعة والعبث، وهو في ذلك أستاذ أبي نؤاس وغيره، فاتصل أبو العتاهية بتلك الفئة اللاهية، وأطلق لنفسه في ذلك عنانها، فوصل فيه إلى غايته، وتخنث وحمل زاملة؛ وأخذ عنهم شعرهم الخليع في التغزل والمجون وما إليهم، فنبغ فيه، واشتهر به أمره، وكان الأحداث والمتأدبون يأتونه وهو جرار فينشدهم أشعاره، فيأخذون ما تكسر من الخزف فيكتبونها فيه
ثم قصد بغداد في عهد المهدي ليتصل بأمرائها. ويستفيد بشعره عندهم، وكان ثالث ثلاثة فتيان شباب أدباء، ولم يكن لهم ببغداد من يقصدونه، فنزلوا غرفة بالقرب من الجسر، وكانوا يبكرون فيجلسون بالمسجد الذي بباب الجسر في كل غداة، فمرت بهم يوماً امرأة راكبة، معها خدم سودان، فقالوا من هذه؟ قالوا خالصة، فقال أحدهم: قد عشقت خالصة، وعمل فيها شعراً فأعانوه عليه، ثم مرت بهم أخرى راكبة، معها خدم بيضان، فقالوا من هذه؟ قالوا عتبة، فقال أبو العتاهية: قد عشقت عتبة؛ ولم يزالوا كذلك إلى أن التأمت لهما أشعار كثيرة فيهما، فدفع صاحب خالصة بشعره إليها، ودفع أبو العتاهية بشعره إلى عتبة، وألحا في ذلك إلحاحاً شديداً، فمرة تقبل أشعارهما، ومرة يطردان، إلى أن صح عزم الجارتين على امتحان عاشقيهما بمال على أن يدعا التعرض لهما، فإن قبلا المال كانا مستأكلين، وإن لم يقبلاه كانا عاشقين، وكان لهما معهم شأن في الحالين. فلما كان الغد مرت
خالصة فعرض لها صاحبها، فقال له الخدم اتبعنا فتبعهم؛ ثم مرت عتبة فعرض لها أبو العتاهية، فقال له الخدم اتبعنا فتبعهم؛ فمضت به إلى منزل خليط لها بزاز، فلما جلست دعت به فقالت له: يا هذا إنك شاب وأرى لك أدباً، وأنا حرمة خليفة، وقد تأنيتك فأن أنت كففت وإلا أنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين ثم لم آمن عليك. فقال لها: فافعلي بأبي أنت وأمي، فإنك إن سفكت دمي أرحتني، فأسألك بالله إلا فعلت ذلك إذ لم يكن لي فيك نصيب، فأما الحبس والحياة ولا أراك فأنت في حرج من ذلك. فقالت: لا تفعل يا هذا وأبق على نفسك، وخذ هذه الخمسمائة الدينار وأخرج عن هذا البلد. فلما سمع ذكر المال ولى هارباً. فقالت ردوه، وألحت عليه فيها فقال: جعلت فداك ما أصنع بعرض من الدنيا وأنا لا أراك، وإنك لتبطئين يوماً واحداً من الركوب فتضيق بي الأرض بما رحبت. فزادت له ذلك إلى ألف دينار، فجاذبها مجاذبة شديدة، وقال لها: لو أعطيتني جميع ما يحويه الخليفة ما كانت لي فيه حاجة، وأنا لا أراك بعد أن أجد السبيل إلى رؤيتك. ثم خرج فجاء الغرفة التي كانوا ينزلونها فإذا صاحبه مورم الأذنين، وقد أمتحن بمثل محنته، فلما مد يده إلى المال صفعوه، وحلفت خالصة لئن رأته بعد ذلك لتودعنه الحبس، فأستشار أبا العتاهية في المقام فقال له: اخرج وإياك أن تقدر عليك
ثم التقتا فأخبرت كل واحدة صاحبتها الخبر وأحمدت عتبة أبا العتاهية، وصح عندها أنه محب محق. فلما كان بعد أيام دعته إليها وقالت له: بحياتي عليك - إن كنت تعزها - إلا أخذت ما يعطيك الخادم فأصلحت به من شأنك، فقد غمني سوء حالك، فأمتنع أبو العتاهية من ذلك؛ فقالت له: ليس هذا مما تظن، ولكني لا أحب أن أراك في هذا الزي، فقال لها: لو أمكنني أن تريني في زي المهدي لفعلت ذلك، ثم أقسمت عليه فأخذ الصرة فإذا فيها ثلاثمائة دينار، فاكتسى كسوة حسنة، وأشترى حماراً يركبه، وحسن بها حاله
وهذه الرواية تعطينا أن أبا العتاهية كان صادقاَ في حب عتبة التي شبب بها في شعره، وتوله بها فيه إلى أن اقلع عن ذلك فيما سيأتي من نسكه، وربما يكون ذلك كله حسن حيلة منه، وهو ما كان يراه فيه ابنه عتاهية، وقد روي عنه أن أباه إنما أقبل إلى بغداد ليمدح المهدي، ويجتهد في الوصول إليه، فلما تطاولت أيامه أحب أن يشهر نفسه بأمر يصل به إليه، فلما بصر بعتبة راكبة في جمع من الخدم، تتصرف في حوائج الخلافة تعرض لها،
وأمل أن يكون تولعه بها هو السبب المصل إلى حاجته، وأنهمك في التشبيب والتعرض في كل مكان لها، والتفرد بذكرها، وإظهار شدة عشقها، وكان أول شعر قاله فيها:
راعني يا زيد صوتُ الغراب
…
بحذاري للبين من أحبابي
يا بلائي ويا تقلقل أحشا
…
ئي وتعْسي لطائر نعَّاب
أفصح البينُ بالنعيب وما أف
…
صح لي في نعيبه بالإياب
فاستهلت مدامعي جزعاَ من
…
هـ بدمع ينهل بالتسكاب
ومُنعتُ الرقادَ حتى كأني
…
أرمدُ العين أو كحلتُ بصاب
قلت للقلب إذ طوى وصل سع
…
دي لهواه البعيد بالأنساب
أنت مثل الذي يفر من القط
…
ر حذار الندى إلى الميزاب
والذي أرجح من ذلك رأى عتاهية، لأنه أدرى بأبيه، ولأن عتبة لم تصدق في حبه حتى يصدق في حبها، وإنما كانت تتخذه للإعلان عنها لتنافس بذلك أترابها من جواري المهدي، وقدهم المهدي يوماَ بعد اتصاله به أن يدفعها إليه فجزعت وقالت: يا أمير المؤمنين: حرمتي وخدمتي! أتدفعني إلى رجل قبيح المنظر، بائع جرار، ومتكسب بالشعر؟ فأعفاها منه. ولم يكن أبو العتاهية إلا رجلَا تاجراَ لا يهمه الحب، وهو لم يقصد بغداد إلا من أجل المال كما سنبينه بعد.
عبد المتعال الصعيدي
كلفت فكرا عسرا
للأستاذ فخري أبو السعود
ما خِلْتُ ذَا الفِككْرِ بالتفكير ينتفع
…
كلُّ المذاهبِ إِنْ قلَّبْتَهَا شَرَعُ
كلٌّ له مذهب في العيش يُؤْثِرُهُ
…
ولستِ تعلم ما الحُسنى وما البِدَع
كلَّفْتَ فِكْرَك عُسراً إن طمحتَ به
…
إلى يقينٍ لديه الريبُ ينقطع
يَمُّ الحياة يُضِلُّ الفكرَ مُلتَطِم
…
مِنْ مَوْجِهِ هائلُ الأثباج مُندفع
تَظَلُّ فيه وجوهُ الرَّأي ساهمة
…
حَيرى مفرَّقةَّ من حيث تجتمع
لَكَمْ تَفَكَّرْتُ في الدنيا وفي أُمم
…
تَفرَّقُوا في فجاج الأرض واصطرعوا
الجبيرُ والشرُّ ما قالوا وما فعلوا
…
والنفع والضُّرُّ ما سَنُّوا وما ابتدعوا
يا هل يُراد بهم في أمرهم رَشَدٌ؟
…
أم هل ترى القومَ قد ضلوا بما اتَّبعوا؟
فَشَرَّدَ اللُّبَّ تفكيري وأَجْهَدني
…
وما اهتديتُ لأمرٍ فيه مُقْتَنًع
وكلما زدْتُ علماً زدْتُ - وَا أسفي -
…
جهلاً، ولم أدْرِ ما آتي وما أدَعُ
فَرُحْتُ أشكو إلى روض الضحى نَصَبي
…
فضمَّني منه مُرتادٌ ومُنْتَجَع
ومَرَّ بَرْدُ بنانٍ من نسائمِهِ
…
على جبيني فزال الهمُّ والوَجَع
وقال لي الزهرُ: ذا عطري نفحتُ به
…
من رام، ليس على من رام يمتنع
وقال لي النهر: ذا مائي النمير به
…
- إن رُمْتَ منْتَقَعَاً - للروح منتَقَع
وقال لي الروض: فُزْ بالطيبات ولا
…
تحفل بما قاله قومٌ وما اشترعوا
إن رمتَ حقَا فهذا الحسنُ في كَنَفِي
…
هو الحقيقةُ لا رَيبٌ ولا خُدَع
مجدَّد النسيج موصول الحُلي أبدا
…
يطيب في ظلِّهِ مَشْتى ومُرْ تبَع
وليس يُصلحه قوم إذا رَشَدُوا
…
ولن يضيروه - إن ضَلوا - بما صنعوا
يبقى على الدهر مرموقَ السنَى بَهِجاً
…
وتنقضي شَيِعٌ في إثرهم شَيِع
فخري أبو السعود
خواطر في العلم
للأستاذ محمد الحليوي
العلمُ أصبحَ في أيّامنا صنماً
…
وأصبح الجيل من عُبَّادِ ذا الصنم
دينٌ جديدٌ بدت للِقل آيتُه
…
فآمن العقل بالآيات والكِلَمِ
عصاهُ بالسحر تُنشى العُدْمَ مُعجِزةً
…
وَتبْرئُ الصخْرةَ الصَّماء من صَمَمِ
وتجعَلُ في كلّ آنٍ آيةً عجباً
…
وَيَلْبِسُ الواقِعَ المشْهودَ بالحُلم
فَفي الهَبَاءةِ روحُ الكَوْنِ شاَئقةٌ
…
وفي القُطَيْرَةُ آزالُ مِنَ النُّظمِ
وَرةُ النّور في إشعَاعِهَا أبَدٌ
…
وزَهْرَةُ الحقْلِ لا تَخْلو من الألم
كما فيه من رَحْمةٍ عمَّتْ مراحمُهَا
…
نعمْ وكم فيه من بَلْوى من نِقَم
كأنهُ ربُّ (ماني)، في طبيعته
…
تصارعت آيةُ الأنوار والظلم
العلمُ لا يُرتجي للحقّ يَرفَعه
…
كلا ولا هو يهدي النفْسَ للقُدسِ
الغرْبُ في علمِه ساءت خلائِقُه
…
وبات في خُلقْه يمشي إلى خَنَسِ
الغربُ ينعم واللَّذَّات ضاريةٌ
…
والحسَ يعرم والأفراحُ في عًرُسِ
والرّوح قَفْرُ فلا إيمان يَعمُرها
…
ولا بقينَ يًضيءُ القبَسِ
العلمُ هدَّم أَوْهاما مُحبَّبة
…
كانت تقيءُ لها الأرواحُ الغَلَس
العلمُ هل طهَّر الأخلاق فاحترقَتْ
…
بنَارِهِ من أصيل اللوْمِ والدنَسِ
العلمُ! هَلْ صَدَّ أقواماً ذَوِى حرس
…
أن يستطيلوا على قَومٍ بلا حرسِ
وهل كفى أهلَهُ شتَّى مذابِحهِم
…
وكيف بات يسرْ الكَوْنِ في خرسِ؟
كفى هُراءً فإن البحر يُدهشنا
…
ونحن لَّما نزلْ في السَّاحل اليَبَسِ
تونس
محمد الحليوي
من مآسي الفيضان في العراق
الفلاح المنكوب
للأستاذ أنور شاءول
أًرأَيْتَ الحَقْلَ يُصبي الناظرينْ؟
…
أسَمِعْت الطَّيرَ حولَ الجدوَل؟
ذَاكَ يُحيي السعدَ في القلبِ الحَزينْ
…
وَهْي تشدو تَغماتِ الأَملِ
أَنَشِقتَ الزَّهرَ قد فاحَ شذاهْ
…
يُتْرِعُ الأرواحَ طيباً مُلُهِماً
فَتُذِيع الرِّيحُ سِراً قد طَواهْ
…
في حَناياهُ ولم تَفْتَحْ فَما
أَوَعَى الفكْرُ حدِيثاً قد رواهْ
…
بُلْبلٌ حُرٌّ أطالَ النّغما؟
قِصّةُ الفَلاَّحِ رَمْزِ الْبَائسينْ
…
قِصَّةٌ تَعْصُرُ دَمْعَ المُقَلِ
سوفَ يَبقى ذِكْرُها في كلَّ حينْ
…
وَمكانٍ غَيْمَمةً لا تَنْجلِي!
قد سَقَى الزرعَ صباحاً ومساءْ
…
تارةً ماَء وَطوْراً عَرَقا
رمزُهُ في السَّعْي جِدُّ وَعَنَاءْ
…
مُنْذُ ما الشَمسُ تُحَيِّ المَشرِقا
أَسًيُولُ الْغَيْثِ أم نارُ ذُكاءْ
…
داهَمتْهُ ليسَ يَخشى المُلْتَقَى
مُستعيناً بِبنَاتٍ وَبَنينْ
…
وبِزَوْجٍ ذاتِ خُلْقٍ أمثلِ
أُسْرَةٌ تَحْياَ بِمَسفوحِ الجبينْ
…
تَرْتَجي الخيرَ جَراَء العملِ
هُو ذَا الزرع، وما أَوْفَرَهُ!
…
يَنبئُ الفَلاّحَ بالخيرِ العميمْ
إن تُجِلْ طَرْفاً فلَنْ تحصُرَهُ
…
أيْنَ مَنْ يُمكِنُهُ حَصْرُ النجومْ
ناضر الخُضْرَةِ؛ ما أزهَرَهُ؛
…
يُطْرِقُ الرأْسَ إذا هَبَّ نسيمْ
فمتى تُصْبحُ يَا مَرْعَى العيونْ
…
ذَهَبيَّ اللَّوْنِ زَاهِي المَخُملِ؟
وَمتى حَبُّكَ يُهْدِي الجائعينْ
…
خُبْزَةً تُشْبعُ ذَا الجَوْفِ الخليِ؟
رَقَدَ الفَلاحُ مَقْرُورَ الفؤاد
…
حالماً والسَّعدُ في أحلامِهِ
يُبصِرُ الآتيَ مُنْصاعَ القِيادْ
…
وَيَرى الأيامَ من خُدَّامِهِ
لا عناءٌ، لا شَقاَءٌ، لا سُهاَدْ
…
قلُبهُ حُرِّرَ مِنْ آلامِهِ
يَا لأبناء الرزايا البائسينْ
…
يَا لَمخْدوعي الرُّؤى والأملِ
ما دَرَوْا أنَّ اللَّيالي في الكَمينْ
…
سوفَ تُصْلِيهِمْ بِخَطْبٍ جَلَل
دَوتِ الآفاقُ ليلاً وَالقِفَارْ
…
بِصُراخٍ رَدَّدَتْهُ الصَّائحات
قد طَغَى النهرُ فيا قَومُ البَدارْ. . .
…
أَنْقِذُوا الأَنْفُسَ. . . صُدُّوا النّكَبَاتْ
أًنْقِذُوا النسوَةَ والوُلْدَ الصِّغارْ
…
وَشُيُوخَ الحيِّ مِن قَبلِ الفَواتْ. . .
جنباتُ الكَونِ ضجَّت بالرَّنين
…
فكأنَّ الشُّهْبَ حَطَّتْ مِن عَلِ
وتوالت صعقَاتُ الصَّاعقين
…
يَستحِثُّونَ الخُطى في وجَلِ
وَزَهاَ الصُّبحُ وفي طلعتِه
…
تبسمُ الأنوارُ في الأفق البعيد
إنما الفلاحُ من نَكْبَتِه
…
يشتكي لله ذي البَأْسِ الشديد
الأسى والحزُنُ في نَظًرَتِهِ
…
واللَّظى في صدرِه حامي الوُقُود
(أين حقلي وحِمَى كُوخي الأمين؟
…
أين زرعي؟ أينْ زاهي الُّنُبلِ؟
قد حواهُ اللُّجُّ مَسْدولَ الجفُون
…
قَبْلَما لاقَى بَريق المِنْجَلِ)
ساَرَ والأطَفَالُ نَهْبٌ لِلْبُكاءْ
…
وأًنينُ الأمِّ مَسْموعُ النّغَم
وَدَّ لو عادَ قليلاً لِلوراءْ
…
إنمَا هَيْهَاتَ إرجاعُ القَدَمْ
أيْنَ يَأْوي؟ هُو ذا قَصرُ عَلَاءْ
…
ظاهِرُ الرّونَقِِ، مَلْموس النَّعَم
(أيُّهَا السَّاكِن في القَصرِ الحصينْ)
…
هتفَ الفلاّحُ: (هَلْ من مَوْئِلِ؟)
(ليسَ بَيتي مَلجَأً للِشاردين)
…
صِرَخَ السَّاكِنُ في القَصر العَلي
بغداد
أنور شاءول المحامي
فصول ملخصة من الفلسفة الألمانية
10 -
تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فلسفة نيتشه 1844 - 1900
للأستاذ خليل هنداوي
(عملت على إنجاز كتاب (فلسفة نيتشه) للأستاذ (هنري
ليشتانيرجر)
(خ. هـ)
- 1 -
نيتشه هو ممثل الفكرة الألمانية الجبارة في تاريخها الحديث كما كان (بسمارك) رجلها الحديدي في السياسة. فهما وإن اختلفت منازعهما وتباينت الحقول التي غرسها فيها، فما غرس الاثنان إلا بذور القوة والإرادة في شعب تلقحت دماؤه وأفكاره بمصل القوة والإرادة.
هنالك كلمة تسطرها براعة الفلاسفة والنقاد وتشغل مكاناً من العصر الحديث. هذه الكلمة هي كلمة (الانحطاط الاجتماعي) وفلاسفة الاجتماع لا يرون في هذا الانحطاط شيئاً سياسياً يمكن إصلاح الفاسد فيه، أو اعوجاجاً يمكن تقويمه، بل هو داء عضال قد تأصل في جسم البشرية وتمشى في لحمها وعظمها ودمها فهو لا يذهب إلا بذهابها ولا يتلاشى إلا بانقراضها. ومن هؤلاء المغالين في تشاؤمهم (فردريك نيتشه) الذي نازل العالم كله وحده، وهدم العقائد والتقاليد مستمداً من عقله وقلبه عقائد وتقاليد أسمى منها.
- 2 -
الشخصية في نيتشه
إن من الجور أن ننظر فيما ترك نيتشه من تعاليمه (كمذهب محدود) لأن الرجل لم يعمل على أن يؤلف مدرسة فلسفية، ولم يكن لمثل عقله الوثاب أن يقيد نفسه بقيود ضيقة؛ وإنما هو الثورة المتدفقة التي لا تعرف نظاماً ولا انتظاما يملك عليها الاضطراب في اندلاعها،
ويملك على عقله التناقض حتى في الفكرة الواحدة. وإنما الأجدر بنا أن ندرس من فلسفته (الناحية الفردية والشخصية) وهي أبرز نواحي فلسفته جلاء وقوة، لأنها ابنة طبع خاص، وهوى صادق مستقيم إن فلسفة (نيتشه) فلسفة تتجلى فيها (الذاتية) المنقطعة عن الناس. (ماذا يقول لك شعورك؟ يجب أن تكون كما أنت! فينبغي للإنسان أن يعرف نفسه وجسده وحواسه، وأن يمشي بحياته كما تريد ذاته وشخصيته، وأن يغتنم من الفرص أحسن ما يغتنم، ومن المصادفات ما يحقق مطامعه، وبقرب غايته. وأن يصحح - بقدر ما يستطيع - هذه الطبيعة بالفن، ليتسنى له أن يظهر ذاته ويبعث حياته. كلٌ يغترف من هذا المذهب بحسب غريزته وطبيعته؛ إذ لا قواعد ولا أساليب محدودة تصنع لكل إنسان نفسه. فمذهب (عدم المساواة) بين الناس هو من مبادئ نيتشه. إذ ينبغي لكل إنسان أن يخلق بنفسه حقيقته وهدفه وفضيلته؛ فما كان صالحاً للواحد قد يكون ضاراً للآخر. وما كان ضاراً للواحد يكون صالحاً للآخر. وكل ما يستطيع المؤرخ أن يصنعه هو أن يقص تاريخ نفسه، والطريقة التي اكتشف بها نفسه، والإيمان الذي وجد به راحة نفسه. وأن يكون المثال الذي يقتدي به معاصروه للوصول إلى عوالم أنفسهم. . . . ولكنه ليس له بعد هذا كله من مذهب أو من طريق. لأنه لا يود أن يكون راعي قطيع خاضع ذليل
(يقول (زرادشت) لرفاقه الأمناء: (إنني وحدي أذهب يا رفاقي. . . وأنتم وحدكم اذهبوا. . . أنا أريد ذلك
في الحقيقة أعطيكم هذه النصيحة. ابتعدوا عني كثيراً، واحموا أنفسكم من زرادشت. . . وخير لكم أن تخجلوا منه
أنتم تقولون: إنكم مؤمنون به ولكن ماذا يهمه إيمانكم؟ أنتم المؤمنون به، ولكن ماذا يهمه كل المؤمنين؟
أنتم لم تفتشوا بعد عن أنفسكم، ولذلك وجدتموني. هكذا يقول كل المؤمنين، ولهذا أرى أن كل إيمان هو شيء ضئيل. والآن آمركم بأن تفقدوني لتجدوا أنفسكم، وعندما تكفرون بي أعود إليكم في تلك الساعة. . .)
يتميز تيتشه من أصحاب المذاهب الفلسفية بأنه لا يخاطب العقل وحده كما يفعلون، بل يخاطب الإنسان بأسره عقلا وجسداً. فما التفكير عنده والعاطفة إلا أهواء تعبث بها قوة
خفية كامنة تصرفها كما تشاء إلى أين تشاء. (إن وراء أهوائك وعواطفك - يا أخي - سيداً (قادراً) وعاقلاً مجهولاً يسمى (الذات) يسكن جسدك، وإنما هو جسدك، فالجسد بما يضم من أعضاء وبما يحتوي على إرادة القوة، ذا ما يدعوه نيتشه (العقل الكبير للإنسان) وأن العقل الحقيقي - وحده - ناقص سريع العطب. تستعين به الذات على بسط قوتها ونفوذها. فإذا أراد إنسان أن يؤثر في آخر فبهذه الذات الخفية وحدها يمكنه أن يؤثر. وكل شيء سواها باطل. ومن اللغو أن تعرض مذهباً فلسفياً بالطرق المنطقية، أو تحدد العقل بالمقاييس التي اخترعها العقل. وإنما هذه الأحكام المنظمة (مجموعة التقاليد المقدسة) محددة الخير والشر، والجميل والقبيح، هي أحكام موضوعة لا ظل لها من حقيقة، ولكن الإنسان هو واضعها ومقدسها. وخيرهم من ساعد على نشر (ذاته) وشخصيته. فالكتاب - مثلاً - إن هو إلا فعل يقوم بقيام شخصية صاحبه، وبكيانه الكامل. فهو ليس بمفكر فحسب بل هو نبي. . . لا يقول للناس (أنا أحمل إليكم الحقيقة العالمية غير المتعلقة بذاتي. ولكنه يقول (ها أنا بما فيّ من إيمان وحقيقة وخطأ، كما أنا. أقول (نعم) للكون، لكل أفراحه وآلامه. فانظروا إن كنتم تجدون أيضاً سعادتكم في هذه الآراء التي وجدت فيها سعادتي)، وبينا يروح غيره من الفلاسفة متباهين (بانسلاخهم عن شخصيتهم نرى نيتشه يجعل من شخصيته مدار فلسفته. . . فلسفته في الحقيقة هي تاريخ نفسه. وزرادشت النبي الذي يكتب عنه بلهجة شعرية مؤثرة هو ذات نيتشه بما يجول في ذاته من رغائب وآمال وأحلام ومن لم يفهم شخصيته لا يفهم فلسفته
- 3 -
صفحة من حياته الأولى:
ولد نيتشه عام 1844 من أسرة يعتقد بأنها أسرة بولونية قديمة ألجأها إلى ألمانيا ما ألجأها. نراه في حداثته مثال السيطرة والاعتماد على الذات وقهر الآلام الجسدية. وقد كان كثير الوفاء والاحترام لأصدقائه برغم ميله الطبيعي إلى العزلة، صارماً في معاملته. لا يميل إلا إلى من يلائم هواه ويوافق مزاجه ولا ينفر إلا ممن طغت الرداءة والشراسة على خلقه. صارم في حديثه، جاد في مزحه. لا يهوى المزح الكاذب مهما كان عنصره. لأن خروج
الرجل عن طبيعته في الحياة الخاصة يخرجه عنها ما يخرجه في الحياة العامة. لا يطيب له مجلس العوام ولا الدخول في حلقاتهم. وإنما هو في حياته كما تمثله لنا كتاباته إرادة فولاذية وسيطرة بعيدة. وكأنه جبل من طينة غير طينة البشرية. لا يهوى الضعف ولا الاستكانة ولا يميل إلى الاستسلام. ولعل الكاتب الدانماركي (أبسن) قد رسم شخصية نيتشه في روايته التمثيلية (الراعي براند) الذي كان رجل كل شيء ولا يقفه حائل. لا يشفق على نفسه ولا على غيره. يضحي - بدون وجل - بسعادته في سبيل تتميم إرادته؛ يمشي ولا يتسرب إليه الضعف، دامي القدم، محطم القلب. مخترقاً سبيله، بطلاً أبسل في كل ما يخترق. ولا يزال هذا دأبه حتى يريحه الجنون، وترحمه المنون) مثل نيتشه مثل هذا الراعي رجل كل شيء أو رجل لا شيء. يذهب بإرادته لا يصده صاد ولا يمنعه مانع. وقد تكون هذه البطولة - عند نيتشه - أحد عوامل سروره. كما يكون الاستشهاد عند من يقضي في سبيل وطنه. على أن هنالك (نفوساً شاذة) في هذا المجتمع، ممن يقدر لها أن تحارب التعالم وهي تلم أن في هذه الحرب شقاءها وبلاءها، تراها مضطرة بطبيعة حالها إلى أن تكون ذات قلب شديد وإرادة فولاذية، تستعين بها على اقتحام المصاعب ومثل هذه البطولة بطولة المجاهد الذي تتصلب إرادته، وتتحجر عزيمته وهو - خلال ذلك - مفتقر إلى صداقة تسعفه وتساعده، ومن عسى يتخذ صديقاً من بين هذه (المخاليق الناقصة) ولكنه اتخذ أصدقاء يقبل بكمالهم ويؤمن بمثلهم ويغضي طرفه عن نقصهم، وقد صور في مطلع حياته بعض صور أصدقائه تامة كاملة كأنها المثل الأعلى، وبهذا وجد في (شوبنهاور) أسمى مثل للفلسفة. وفي (ريشارد فاحبز) أسمى مثل للفن. وإذا هو وجد في صحبة هؤلاء راحة نفسية فإنه وجد في نهاية هذه الصحبة ألماً طالما أمضه وعذبه. ومبعث هذا الألم أن الفيلسوف ظل ساعياً دائباً وراء الإنسان الكامل الذي كان مثله الأعلى. فكان - لذلك - في نزاع مستمر مع نفسه، وقد كلفته هذه الصداقة كثيراً، لأن مثله الأعلى يقضي عليه بأن يضحي بها. فجرب كثيراً أن يغض الطرف عن نقص صديقيه، وألا ينظر فيهما إلا مثلاً أعلى الصداقة. فتذوق من الصداقة مرارتها كما تذوق حلاوتها. . . وهكذا آب إلى عزلته لأن طبيعته تدعوه إليها
(يتبع)
خليل هنداوي
-
القصص
من أساطير الإغريق
بلوتو يخطف برسفونيه
أسطورة الربيع
للأستاذ دريني خشبة
كانت ديميتير الطيبة، ربة الخيرات ومغدقة البركات؛ الرحيمة البارة؛ ملونة الزهر، ومنضجة الثمر؛ واهبة الحقول خضرتها والبساتين نضرتها. . . كانت ديميتير الطيبة تسكن في قصر منيف يشرف على سهل إنا أروع سهول جزيرة صقلية جمالاً وأعذبها ماء وأطيبها هواءً، وكانت، حين يتنفس الصبح، تلبس تاجها اليانع الذي ضفرته من سنابل القمح، وتتناول باقة من زهرات الخشخاش ريانة، وتقبض بيمينها على صولجانها العتيد، المرصع بالزبرجد، ثم تستوي في عربتها المطهمة فتنطلق بها الصافنات الجياد تجوب أنحاء الأرض، وتمر بكل مزرعة، وتقف عند كل كرمة؛ تهب القمح من نفحاتها فيربو، والثمر من بركاتها فيزكو، والينع من أنفاسها فيطيب. ثم تعود إذ يجن الليل، فتهرع إليها ابنتها الصغيرة برسفونيه فرحة متهللة، لافة ذراعيها الجميلتين حول ساقي أمها، كأنما تبثهما ما في قلبها الصغير من لوعة وغليل!
وكانت الفتاة - برسفونيه - تقضي ساحبة النهار، إلى أن تؤوب أمها، في سرب من أترابها، بنات الغاب الحسان؛ فيظلن يقطفن الزهر، ويجمعن الرياحين، ثم تنشب بينهن معركة حامية من معارك الطفولة، وملحمة صاخبة من ملاحم الصبى؛ فيتراشقن بالورد، ويترامين بالزنبق الغض، ويتضاربن بأفواف السوسن. . . وهن فيما بين هذا وذاك يقرقعن بالضحك، ويتبادلن النكات، ويتغنين الأغاريد؛ فتستجيب الغابة لهن، وتترقرق الغدران من تحتهن، وتهدل الأطيار من فوقهن، وتمتلئ الدنيا حولهن نشوة وحبوراً
وكأن بلوتو: إله الموتى، ورب الدار الآخرة؛ قد مل هذا السكون المخيم في مملكته تحت الأرض: هيدز، وسم هذه الأشباح التي تطيف به هنا وهناك في الظلمات المحيطة به، وأرواح الموتى تئن وتتوجع في كل مكان من ملكه القابض الحزين؛ فأسرج عربته
الضخمة، وألهب جيادها بسياطه القاسية، فانطلقت تعدو به إلى. . . الدار الأولى. . . هذه الحياة الدنيا!!
خرج بلوتو يروح عن نفسه، وينشق هذا النسيم الحلو الذي يغمر ملكوت أخيه زيوس، ويروي روحه الظامئة بالتفرج على عرائس الماء وبنات الغاب، إذ أبين جميعاً أن يشاركنه ملكه الرحيب، ورفضن التزوج منه، برغم ما أغراهن به من اللآلئ واليواقيت
وفيما هو ينهب الأرض بعربته، إذا به يسمع في غيضةٍ قريبة، ضحكات مرنة، وأصواتاً موسيقية متقنة، وأحاديث كأنها دنانير من ذهب في كف صيزفي حذق! فساقه الفضول إلى استكشاف أولئك الغيد اللائي يتضاحكن هكذا، كأنما يترنمن بالشدو، ويرجعن بالغناء! ففرق العساليج التي كانت تحجبهن، فرأى البدور البيض يتلاعبن على الحشيش الأخضر، كأنهن نغمات حلوة تنطلق من أوتار أرفيوس!
وجن جنون بلوتو!. . . وأقسم ليخطفن هذه الفتاة الخدلجة الممشوقة، التي تدل على الجميع كأنها فينوس في دولة الحب، أوديانا تخطر بين أماليد!
(إلام أظل في هذا الديجور الحالك وحدي؟! وحتام أقاسي منفاي السحيق من غير صديق أو رفيق؟! وما قيمة ملكي الشاسع، وأنهاري الفائرة بالحمم، مادمت لا سمير لي ولا مؤنس، إلا زبانيتي وكلابي؟ وإلا شارون المسخ الكئيب؟
لقد مللت! ولا بدلي من هذه الكاعب الحسناء، والغادة الهيفاء!
إن لها لفماً رقيقاً. . . . وإنها لتتثنى كالغصن، وتخطو كالقطاة!
يا للثدين!
مالهما بارزتين هكذا؟ أتطلبان حضناً قوياً كحضني؟ أم يملؤهما لبن الآلهة، ورحيق السماوات؟!
يا للفخذين الملتفتين الممتلئتين!!
إنهما مترعتان باللذة، فياضتان بالإغراء والترغيب! مالهما تنفجان شهوة هكذا؟!
وهاتان حماتا الساقين! ويلي عليهما وويلي منهما!!
إنهما حماتان خبيثتان كأبرع ما تنحت يدا فنان! إنهما تمتلئان لذاذة، وتطلقان رقي السحر في قلوب الناظرين! كورتا تكويراً خفيفاً من فوق، وانعقد دهاء الفتنة عند التفاف العضل
فأفعمهما رغبة واشتهاء!!
وقدماها!!
يا للكعبين المستديرين، والجنة النائمة فيهما!!
والذراعين الناعمتين!
والظهر العاجي الناصع!
والشعر الذهبي الذي يداعبه النسيم كأنه خصلة من ظلال الخلد!
ويلي!
أنا لا أري إلا هذه الأعضاء السابية، وأغفل عن هذه الابتسامة التي ترف حول الفم!!
إنها أجمل من زهرة التفاح في أوائل شهر مايو، وأرق من بتلات أزهار اللوز في شهر أبريل!!
تلمظ يا فمي فإنك ظمئ إلى قبلة تطبعها على هاتين الشفتين الأقحوانيتين!
وسمع إحدى الفتيات تناديها: (برسفونيه! أنظري! هاك بنفسجةً حلوة!)
فتحدث إلى نفسه:
(برسفونيه!
هذه عروس الربيع إذن! ابنة ديميتير من أخي زيوس!
لقد كبرت وترعرت، ونهدت؛ وطابت في جسمها البض ثمرة الحياة!!
اغفر لي يا أبي ساترن! سامحيني يا رها!
سأخطفها! سأجلسها بجانبي على عرش هيدز! ستصبح مليكة دار الموتى! ستنقشع ظلمات ملكوتي بوجهها المشرق الجميل
لن أشعر بشقوة، ولن أحس خباء في ملكي!! إنها ستكون جوهرة التاج، وفتنة العرش، وستسجد الأرواح تحت قدميها المعبودتين!!
سأترك لها أن تغفر وتثيب، وسأدع لها مقاليد السفل تصنع فيه ما تشاء!)
ثم ألهب جياده فانطلقت نحو الفتيات، ولشد ما تفزعن إذ لمحن وجهه الأغبر، يتدلى عليه شعره الأشعث؛ والظلال المظلمة تتخايل فوق جسمه البار كالسمادير!
ولقد كان كلبه سير بيروس، ذو الرؤوس الثلاثة، يلقى الرعب في القلوب!
وفر الحسان مذعورات. . . . إلا برسفونيه، فقد قبض بلوتو على ذراعها الرخصة، وجذبها إليه في العربة، وذهب يسابق الربح ويلاحق البرق، حتى اعترضه ماء نافورة أخذ عليه سبيله. وسرعان ما فار الماء كالتنور، وصار يغلي كالحميم الآن، حتى خشى بلوتو الجبار أن يعبره، وأوجس، إن هو انثنى يبحث عن طريق آخر، أن يضيع الوقت، وتفلت الفرصة، وتروح ديميتير تفتقد ابنتها حتى تستنقذها من يديه. فتناول صولجانه الهائل، وضرب به الأرض فرجفت وزلزلت، وانشقت عن أخدود كبير بعيد الغور. . .
وكانت برسفونيه قد أفيقت من هلعها، فلما رأت النافورة تغلي وتصطخب، أدركت أن إحدى عرائس الماء قد عرفت من أمرها كل شئ، وأنها قد تستطيع أن تؤدي لها خدمة في ذلك المأزق الحرج، فحلت (برسفونيه) زنارها الحريري الأبيض وألقت به عند ضفاف النافورة عسى أن يصل يوماً إلى أمها عن طريق هذه العروس، فتعلم أين هي، وماذا تم من أمرها
وانطلق بلوتو في ظلام الأخدود حتى وصل منه إلى مملكته. . هيدز! فاستوى على عرشه مثلوج الصدر خفاق الفؤاد!
ثم طفق يترضى برسفونيه بشتى الوسائل، وهي ما تزداد إلا شماساً ونفوراً. . . طاف بها أرجاء مملكته الشاسعة، وأراها شطئان ستيكس وأشيرون وليث، وسائر أنهار الجحيم؛ ثم خاض بها وادي الأفاعي والعقارب، ومدينة الزنابير واليعاسيب، والدرك الأسفل من النار حيث يأوي المنافقون والكذابون، وحديقة الخونة واللصوص ذات الأشجار من لظى ولهب. . . ولم يفقه المغفل أنه كان يضاعف فزعها أضاعفاً مضاعفة كلما مر بها على منظر جديد من ملكه البغي!!
وعادت ديميتير في المساء، ولكن برسفونيه لم تهرع للقائها كعادتها؛ فحسبتها نائمة. . . بيد أنها لم تجدها في مخدعها، فافتقدتها في جميع الغرفات، ولكن عبثاً حاولت أن تقف لها على أثر! فاضطربت نفسها بالوساس، وخرجت تبحث عنها في الحديقة، فلم تجدها كذلك!
ريعت الأم وارتعدت فرائضها، وانطلقت تعدو وهي تصيح كالمجنونة:
(برسفونيه! برسفونيه! أين أنت يا برسفونيه!) ولكن لسان الصدى - إيخو - وحده الذي كان يردد نداءها. . . . .
ووصلت إلى ابن أخيها هيفيستيوس إله النار فأعارها شعلة عظمية تنير لها ظلمات العالم، ودياجير الليل، عسى أن تهتدي إلى برسفونيه
جاست خلال الغابات، واخترقت الأودية. وفتشت الشطوط، ونفذت إلى أعماق الكهوف، وجالت في مهاوي الجبال، ورقت إلى شعاف الآكام. . . وبحثت عنها في جميع الآفاق. . . فلم تعثر به!!
استعانت بالآلهة، واستنجدت بعرائس البحار، ولكن جهودها ضاعت عبثاً. . .
وجلست ديميتير كاسفة البال ملتاعة القلب، تعلو جبينها عبوسة قمطريرة، وتنوء بروحها آلام وأشجان. . . وأضربت عن الطعام، وآلت لا ينضر حقل ولا يذر نبات، ولا تثمر شجرة، ما دامت ابنتها نائية عنها.! فجفت السهول، ويبست سوق الحنطة قبل أن تؤتى أكلها، وخرقت البساتين دون الثمر، فعجف الناس، وضمرت بهيمة الأرض، ونشر الجوع ألوية الخراب في العالمين!!
وانصرف الناس يصلون لزيوس، ويضرعون لديميتير، ولكن الحزن صرفها عنهم، فلم تسمع لصلاتهم ولم تلب ندائهم. . .
وفيما كانت تجوب القفار، وتطوي المهامه البيد، إذا بها تصل إلى النافورة التي ألقت عندها برسفونيه بزنارها
وإنها لتجلس عند حفافيها تفكر في أعز البنات، إذا بعروس الماء أريثوذا؛ التي لمحت بلوتو يخطف برسفونيه، والتي أهاجت النافورة لتقطع عليه سبيله، تظهر من الماء فجأة لترى من هذه الجالسة عند دارتها تئن وتتوجع؛ وتعلم أنها الربة ديميتير وأم الفتاة، فتتحدث إليها قائلة: (ديميتير! عزيز علينا أن تجزعي هكذا؟! طيبي نفساً وقري عينا، فإن بلوتو رب هيدز هو الذي خطف برسفونيه! وهاك زنارها شاهدي على ذلك! ولقد تبعتها إلى الدار الآخرة أحسب أني أستطيع أن أؤدي لها يداً أو معونة ولكن الإله القاسي أغرى بي زبانيته، فانطلقت مذعورة من اللعين ألفيوس. . . . وعليك أن تخلصي الفتاة فنها لا تذوق طعاماً، ويكاد الحزن يصعقها برغم أنها أصبحت مليكة دار الفناء
وتناولت ديميتير زنار ابنتها فعرفته، ثم طفقت تلقيه على عينيها وصدرها. . . ساكبةً دموعها الغوالي!
وقصدت من فورها إلى زيوس فحدثته بما قالت عروس الماء أريثوذا، وأقسمت لديه، إن لم يأمر أخاه برد برسفونيه، لتهلكن عباده جوعاً، ولتجعلن وجه الأرض فدفداً يبابا. . . لا تسمن بزرع، ولا تروي بضرع!!
فتأثر زيوس من قولها، وابتسم ابتسامة حزينة، ثم قال:(لا بأس من عودة برسفونيه إذن. . . . ولكن! على شريطة ألا تكون قد ذاقت طعاماً في هيدز، مملكة أخي! فإنها، إن كانت قد فعلت، لا تصلح للحياة في هذا الدار الأولى!)
ولسوء الحظ، كانت برسفونيه، بعد امتناعها عن ذوق شيء من طعام هيدز طوال هذه الأشهر، قد أكلت في نفس ذلك اليوم الذي وعد فيه زيوس بعودتها إلى الدنيا ست حبات من الرمان فحسب! فلما علم زيوس بذلك، عدل حكمه، فقضى أن تلبث برسفونيه في هيدز عند شقيقه بلوتو ستة أشهر من كل سنة، أي شهراً بكل حبة مما أكلت!! وتعود إلى أمها فتلبث معها ستة أخرى؛ فيعود بعودها الماء إلى الزروع، والأزدهار إلى الحدائق، والشبع والثروة إلى الناس، ويكون عودها ربيع الحياة وبهجة الأرض
عاشت برسفونيه ربة الربيع! ولا طال عن الناس مغيبها في هيدز. .! عند الشرير بلوتو. . . الذي حرم الحياة من أن تكون ربيعاً كلها!!
دريني خشبة
البريد الأدبي
عيد الأكاديمية الفرنسية
سبق أن تحدثنا عن الظروف التي نشأت فيها الأكاديمية الفرنسية منذ ثلاثة قرون في عهد لويس الثالث عشر ووزيره الكاردينال ريشيلو، وعما تعتزمه الحكومة الفرنسية والأكاديمية من إحياء هذا العيد والاحتفال به. وقد صدر أخيراً أول بيان رسمي عن برنامج هذا الاحتفال؛ وسيبدأ تنفيذه منذ 17 يونيه القادم؛ ففي هذا اليوم قداس رسمي في كنيسة جامعة السوربون؛ ويفتتح معرض الأكاديمية في المكتبة الوطنية؛ ويستقبل رئيس الجمهورية أعضاء الأكاديمية؛ وفي اليوم الثاني (يوم 18)، تعقد جلسة رسمية للأكاديمية في قصر اللوفر في بهو (الكارياتيد)، وتلقى الخطب، وتقام حفلة تمثيلية، ثم تقام مأدبة عشاء يعقبها استقبال في دار البلدية. وفي يوم 19، تقام مأدبة للأكاديميين في حدائق شانتيلي، ويزار متحف كوندي؛ وفي يوم20 منه تعقد الأكاديمية جلسة رسمية في دارها (تحت القبة)؛ ثم تولم في المساء وليمة رسمية كبرى. هذا وستصدر الأكاديمية بهذه المناسبة كتاباً ذهبياً يشترك فيه كل عضو بكتابة فصل من فصوله، وستقدم نسخة من القاموس الجديد في جلد فخم إلى رئيس الجمهورية (وهو النصير الرسمي) للأكاديمية
ذكرى الفرد دي موسبه
عنيت جمعية أصدقاء الشاعر الأشهر الفرددي موسيه بإقامة معرض لكتبه ورسائله وآثاره في السابع من مايو الجاري، وذلك لمناسبة مرور مائة عام على نظمه (ليالي مايو)، وأقيم هذا المعرض في نفس المنزل الذي كان يعيش فيه دي موسيه حين ألف هذا الكتاب وهو يقع في شارع جرنيل رقم 59. وقد رأت جمعية أصدقاء الشاعر بهذه المناسبة أيضاً أن تصدر كتاباً يحتوي على طائفة من الوثائق والرسائل التي تتعلق بحياة الشاعر ولم تنشر بعد
الفكرة الاشتراكية - شرح جديد لها
صدر أخيراً كتاب عنوانه (الفكرة الاشتراكية) بقلم العلامة الاقتصادي البلجيكي هنري دي مان أحد وزراء بلجيكا اليوم. ولهذا الكتاب أهمية خاصة من الوجه الاقتصادية والعملية لأن
مؤلفه يشترك اليوم في حكم مع وزارة مسيوفان زيلند التي تحكم البلجيك على قواعد اقتصادية. ونظرية دي مان في الاشتراكية هي أنه يجب التفريق بين المركسية وبين المركسيين (والمركسية هي الاشتراكية طبقاً لمبادئ، كارل ماركس)، كما أنه يجب التفريق بين المعارك الحزبية وبين العمل لتغيير المجتمع. وما هي الاشتراكية؟ هي أن يسحق النظام الرأسمالي؟ يجيب هنري دي مان أن نعم وأن لا، ذلك أن الغاية هي أن نجعل الإنسان ينعم بقسط أوفر من السعادة، وذلك بتحسين الانتاج، وأن نقلل جهد الاستطاعة من تبديد الجهود البشرية في العمل، وأن نقسم ثمرات الإنتاج بطرق أكثر عدالة؛ ومن أجل هذا يرى دي مان أنه يجب تغيير الوسائل الاقتصادية والاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع الحاضر، وهذه مسالة في الواقع يكاد يتفق عليها العالم؛ وما يقع اليوم في إيطاليا الفاشستية، وألمانيا الهتلرية، وروسيا السوفيتية، وأمريكا في عهد روزفلت إنما هي محاولات من هذا النوع وفي سبيل نفس الغاية. كذلك تسير الأمم القديمة الحرة إلى تحقيق هذا المثل وإن كانت تسير بطيئة كسير الشيوخ.
ويقول مسيو دي مان أن المسالة كلها تتوقف على الوسائل التي تكفل النجاح. ومن رأيه أن الثورة تنجح بالعنف والسفك، والواقع أن (الماركسية) هي التي هزمت سنة 1917 وليست الرأسمالية، ولم تهزم الرأسمالية إلا فيما بعد، حين بدئ بتطبيق الوسائل والنظريات الاقتصادية الجديدة. بيد أن مسيو دي مان يرى أن أنصار فكرة الإصلاح لقوا نفس الفشل الذي لقيه أنصار الوسائل الثورية؛ ففي ألمانيا، وفي إيطاليا وفي غيرهما من الأمم الغربية قد فشلوا، إما في الوصول إلى الحكم كما حدث في فرنسا، والسبب في ذلك هو أنه في ظل البرلمان وهو نظام رأسمالي، لا تملك الدولة إلا قوة محدودة، ولا يتم النصر إلا إذا كان العمل مباشراً وسريعاً لا يحد منه شيء
مارك توين لمناسبة عيده المئوي
تحتفل الدوائر الأدبية الأمريكية بذكرى العيد المئوي لمولد الكاتب القصصي الفكه (مارك توين) الذي يعتبر أمير الدعابة والفكاهة في الأدب الأمريكي. ويجب أن نعرف بادئ بدء أن (مارك توين) ليس هو اسم الكاتب الحقيقي، وإنما هو اسمه القلمي؛ وأما اسمه فهو صامويل لانجهورن كليمنس؛ ولد منذ مائة عام (سنة 1835) في فلوريدا من أعمال
ميسوري (بالولايات المتحدة) من أبوين فقيرين، وتلقى تربية مدرسية عادية في هذه المدينة، واضطر منذ حداثته أن يحترف أعمال الطباعة ليكسب قوته، واشتغل بهذه الحرفة مدى حين في سان لوي وفي نيويورك وفي غيرهما من العواصم. وفي سنة 1851، حينما بلغ السادسة عشرة، ترك أعمال الطباعة واشتغل بحاراً نوتياً في قارب بخاري يعمل في نهر المسيسيبي، وفي أثناء عمله في النهر راقت له صيحة بحرية مما يستعمل حين سبر أغوار الماء:(مارك توين)، فاتخذها فيما بعد اسما رمزياً للتوقيع على كتاباته. وقد أثارت حياة النهر خياله، وأمدته بطائفة من التأملات والملاحظات اتخذها فيما بعد مادة لبعض صوره وأقاصيصه، ولما نشبت الحرب الأهلية الأمريكية كان (مارتن توين) في نحو السادسة والعشرين من عمره، فترك حياة النهر، وذهب إلى ولاية نيفادا وأشتغل بالصحافة، وتولى تحرير جريدة (انتربرايز) في فرجنيا سيتي. واشتغل في نفس الوقت بهندسة المناجم وإلقاء المحاضرات. وفي سنة 1867 أصدر أول كتبه محتوياً على عدة أقاصيص وصور فكاهية بعنوان (الضفدعة الوثابة) وغيرها، فلفت الأنظار بطرافته وخفة روحه وفكاهته الفياضة، وكان نجاحاً عظيماً. وربح مارك توين من كتابه الأول مبلغاً حسناً أنفقه على رحلة إلى أوربا، طاف خلالها ثغور البحر الأبيض، واتخذها مادة لكتاب أصدره سنة 1869 بعنوان (الأبرياء في الخارج)، فزاد هذا الكتاب في شهرته الأدبية وبالأخص في شهرته كأستاذ للفكاهة والأدب المرح. وفي هذا العام تولى تحرير جريدة جديدة هي (اكسبريس بافالو)، واستمر في تحريرها مدى عامين. وفي سنة 1872، أصدر كتابه (كيف تخشن) وفيه صور وملاحظات عن الحيات في الولايات الغربية، وفي العام التالي أصدر كتاباً بالاشتراك مع صديقه وارنر عنوانه (العهد المذهب)، وظهرت له بعد ذلك تباعاً عدة قصص ومجموعات نقدية وقصصية نذكر منها (سائل في الخارج)(1880)، (الأمير والحقير)(1882)(الحياة في نهر المسيسيبي)(1883)(مخاطرات هكلبري فن)(1885)(الورقة ذات المليون جنيه)(1893)(مأساة بدهد ولسون)(1894)(ذكريات جان دارك)(96)(سائلون آخرون في الخارج)(97)(الرجل الذي أفسد هدلبرج)(1900)(مذكرات ايف)(1906)(العلم المسيحي)(1907) وغيرها.
ومما يذكر في حياة مارك توين أنه في سن 1884 اشترك مع صديقه تشارلس وبستر
وشركائه في إنشاء دار نشر كبيرة، وازدهرت أعمال الشركة بادئ بدء، ولكنها ساءت بعد ذلك وأفلست سنة 1895، وتحمل مارك توين بسبب هذه النكبة أعباء مالية فادحة، ولم ير مارك توين وسيلة للاقلة من هذه العثرة سوى الطواف حول العالم وإلقاء المحاضرات الفكهة. وقد نجحت رحلته نجاحاً عظيما وجمع مبلغاً كبيراً من المال، واستطاع أن يسدد ديونه. وكان مثله في ذلك مثل الكاتب الفرنسي يلزاك الذي أراد أن يحقق الغنى من الاشتغال بنشر الكتب فباء بالخسارة والإفلاس.
ومن ذلك الحين كان مارك توين يقضي معظم أوقاته في أوربا، وفي سنة 1901 عاد إلى الولايات المتحدة وتابع الكتابة، وفي سنة 1907 زار إنكلترا فاستقبل بحماسة عظيمة، وأنعم عليه بدرجة فخرية من جامعة أكسفورد. وتوفي 1910 في الخامسة والسبعين.
ومارك توين من أقطاب الأدب الفكه، وهو أستاذ هذا الفن في الأدب الأمريكي، كما أن جورج كورتلين هو أستاذ هذا الفن في الأدب الفرنسي، وفكاهة مارك توين مرسلة ليس فيها تكلف، وقد تكون أحياناً خشنة يطبعها الاغراق، ولكنها على أي حال ممتعة مؤثرة؛ وأحياناً تبدو دقيقة تقوم على بعض المبادئ الجدية. وما يزال تراث مارك توين فريداً في الأدب الأمريكي.
تكريم الدكتور محمد حسين هيكل بك
في مساء الأربعاء الماضي أقامت لجنة ممتازة رئيسها الأستاذ الجليل مدير الجامعة المصرية، حفلة تكريمية في فندق الكونتننتال، للأستاذ الكاتب النابغ محمد حسين هيكل بك، بمناسبة إصداره كتابه القيم (حياة محمد)، شهدها صفوة متخيرة من رجال الفكر، وتكلم فيها نخبة متميزة من رجال البيان، وكان الكلام الجاهر على المنصة، والحديث الخافت حول الموائد، يدور على هذا الجهاد المنصور المبرور الذي جاهده الأستاذ هيكل في الأدب والسياسة هذه الحقبة الطويلة. والأستاذ هيكل في الأدب أحد الأساطين الرواسي التي قام عليها أدبنا الحديث ما في ذلك خلاف؛ توفر بحكم دراسته على الثقافة الغربية، ومال يحكم قراءته إلى الآداب الفرنسية، وتعصب بحكم مصريته للفنون الفرعونية، وهو كاتب بالاستعداد، فنان بالفطرة، فلابد أن يكتب، ولابد أن يكتب بالعربية؛ والعربية لم يعطها بعد نصيباً جدياً من ذكائه، فظهر في الثمرات الأولى ضعف الائتلاف بين المعنى القوي
والتفكير المهذب، وبين اللفظ الضعيف والأسلوب المهمل، ولكن النفوس الفنية تهتدي بغرائزها إلى الطريق، وتسير وراء إحساسها إلى القاعدة، فلم يلبث الأستاذ هيكل أن فرض أسلوبه الغني بالصور، وأدبه القوي بالمنطق، على أبناء الأدب العربي؛ ولم يلبث الدكتور هيكل الذي خضع لأثر الفرنسية والفرعونية وبدأ (بزينب)، أن يسمو إلى العربية والإسلامية وينتهي بـ (حياة محمد).
فوز مبين للإسلام والعرب والشرق أن يصدر عن الأستاذ هيكل هذا الكتاب الروحي الخالد؛ فهو يدل فيما يدل على أن أدبنا الأصيل العريق أخذ يرتد إلى منبعه، ويستمد من وحيه، ويتمتع باستقلاله. والاحتفال بالدكتور هيكل هو احتفال ضمني بهذا التطور الأصيل المحمود الذي سما بالفكر المصري إلى رتبة الخلق، وبالأدب العربي إلى مقام الأصالة.
من رونسار إلى بودلير
صدر أخيراً في باريس كتاب عنوانه (من رونسار إلى بودلير) بقلم مسيو فرنان فليريه، ورونسار هو شاعر فرنسا الأكبر في القرن السادس عشر؛ وبودلير هو شاعرها الأكبر في القرن التاسع عشر. وقد تناول مسيو فليريه فبي كتابه تطور الشعر الفرنسي؛ وحياة أقطابه منذ القرن السادس عشر؛ وتحدث عن الأساليب الأدبية التي توالت على الأدب الفرنسي في هذه العصور؛ وخص الأسلوب التهكمي منها بفصل بديع. ومسيو فليريه ناقد قدير؛ وقد سبق أن نشر معظم فصول كتابه في بعض الصحف والمجلات الأدبية فأثارت تقديراً واهتماماً.
وفاة كاتب روماني
من أنباء بوخارست أن الكاتب الشاعر الروماني الشهير بنايت استراني قد توفي في سن الحادية والخمسين بعد مرض طويل. وقد بدأ هذا الكاتب حياته العامة عاملاً؛ ولكنه ظهر بمواهبه الفكرية، وجذبه المعترك السياسي منذ حداثته، فكان زعيم حركة اشتراكية قوية. ولما أعلنت الحرب الكبرى هاجر إلى سويسرا اتقاد الاضطهاد، وهناك كتب عدة قصص قيمة؛ منها:(العم انجل) و (كيرالينا)؛ ولفتت قصصه أنظار الدوائر الأدبية، ولا سيما الدوائر الفرنسية؛ وترجمت إلى معظم اللغات، ووصفه الكاتب الفرنسي رومان رولان بأنه
(جوركي البلقان)
وبعد الحرب زار استراتي روسيا السوفيتية ليدرس التجربة الاشتراكية ولكن عاد بخيبة أمل، وانهارت عقيدته الاشتراكية وتحول إلى مبادئ الوطنية البرجوازية (الرأسمالية) وكان في أعوامه الأخيرة يشترك في المعترك السياسي بحماسة ونشاط، وكان يقارع خصومه السياسيين بحملات صحفية شديدة كانت تثير كثيراً من الجدل والاضطراب.
العيد المئوي لبلليني
من الأعياد الفنية الشهيرة التي تتأهب إيطاليا للاحتفال بها بعد بضعة أشهر؛ العيد المئوي لوفاة الفنان المؤلف الموسيقي الأشهر فنشتر بلليني الذي توفي شاباً في عنفوان فتوته وفنه منذ مائة عام. وقد ولد هذا الفنان البارع في مدينة قطانية من أعمال صقلية في أواخر سنة 1801؛ وكان أبوه معلماً للموسيقى. فنشأ الطفل موهوبا في الفن. وأخذ يؤلف القطع الموسيقية منذ السادسة من عمره. وفي سن الثانية عشرة ذهب إلى نابولي والتحق بمعهدها الفني؛ وكان أستاذه هنالك تسنجار يللي المؤلف الموسيقي المشهور وملحن رواية (روميو وجولييت). ولم تمض بضعة أشهر حتى وضع الطالب بلليني أول (أوبرا ته) وعنوانها (أدلسون وسالفيني)، ومثلت في قاعة المعهد ونالت نجاحاً عظيماً حتى أنها كانت تمثل كل يوم أحد. ولما رأى الفتى نجاحه السريع وضع قطعة أخرى عنوانها (بيانكا وفرناندو)، ومثلت في مسرح سان كارلو، فنالت نجاحاً أعظم، وذاع صيت الفتى الفنان حتى أن دومنيكو بارباجا أعظم مخرجي العصر دعاه إلى وضع قطعة جديدة تمثل في مسرح (سكالا) بميلانو وهو أعظم مسارح إيطاليا يومئذ؛ فسافر بلليني إلى ميلانو ووضع قطعته الشهيرة (القرصان)(سنة 1827)، فكان ظفره بتمثيلها عظيماً، وارتفع في الحال إلى وصف أعظم فناني العصر؛ وأتبعها بقطعة جديدة عنوانها (الأجنبية) ثم بأخرى عنوانها (جولة الليل) ثم (نورما) وهي قطعة موسيقية بلغ بها ذروة مجده، وبعدئذ وضع بلليني قطعاً خاصة لمسارح إيطاليا الشهيرة في البندقية ونابولي وغيرها، ثم سافر إلى باريس ووضع هناك قطعة (البورتانيين) فنالت نجاحاً عظيماً، ولكن المرض كان قد أخذ يسري إلى الفنان الفتى وأخذت صحته تسوء بسرعة؛ ولم يلبث أن توفي في باريس في سبتمبر سنة 1835 ودفن بمقبرة (بير لاشيز) ثم نقلت رفاته بعد ذلك إلى مسقط رأسه (قطانية) سنة 1876
وقد احتفلت الأوبرا النمساوية (بمدينة فينا) بذكرى بلليني احتفالاً خاصاً مؤثراً، فأحيت ذكرى روايته (جولة الليل) بتمثيلها مدى أسبوع لأنها في هذا الشهر شهر مايو مثلت بالأوبرا النمساوية من مائة عام
الكتب
قصة الفلسفة اليونانية
تصنيف الأستاذين أحمد أمين وزكي نجيب محمود
للدكتور عبد الوهاب عزام
أستاذنا أحمد الأمين رجل بارك الله عليه، فرزقه من الفكر السليم، والعلم الواسع، والدأب على الأعمال وتأديتها في أوقاتها، وترتيبها ما أتاح الله للتأليف القيم النافع. فاخرج للناس في بضع سنين كتابيه فجر الإسلام وضحى الإسلام
والأستاذ منذ عهد بعيد معنى بالفلسفة، ترجم في مبادئها كتابا عن الإنجليزية، قبل خمسة عشر عاما، ودرس نواحي منها في درسه علم الإخلاف والتأليف فيه. وقد أحس، وهو يألف ضحى الإسلام، حاجة إلى الاستزادة من الفلسفة اليونانية ليستعين بها على فهم الفلسفة الإسلامية. يقول الأستاذ:(حتى إذا عرضت لوصف الحياة العقلية عند العرب وألفت في ذلك فجر الإسلام وضحاه، ووصلت في التأليف إلى المعتزلة والمتكلمين في العصر العباسي، رأيت أنهم تعرضوا لمسائل هي من صميم الفلسفة اليونانية، ورأيت أن لابد لفهمها من الرجوع إلى منابعها لأعرف كيف فهموها وكيف نقلوها وما الذي زادوا عليها، فاضطرت إلى العودة إلى كتب الفلسفة استعرض مسائلها، وأتفهم غوامضها الخ)
قرأ الأستاذ ودون خلاصة ما قراء، فأخرج بمعونة شريكه الكتاب الذي سماه (قصة الفلسفة اليونانية). يقول الأستاذ:(فلما عاودت القراءة في الفلسفة بدت مني رغبة في أن اكتب خلاصة ما أقرأ فذلك أدعى إلى وضوح الفكرة في ذهني، وإذا أن ينتفع بما انتفعت به غيري. وكان من حسن حظي أن رأيت أخي وزميلي الأستاذ زكي نجيب محمود يرغب رغبتي ويتمنى أمنيتي، فتعاونا معا على إخراج هذا الكتاب وتقديمه للقراء)
من هنا تم التصليح
- 2 -
وكنت وعدت أن أكتب في مجلة الرسالة عن (ضحى الإسلام)، وحالت حوائل دون المبادرة بإنجاز الوعد؛ ثم تيسر لي الفراغ لكتابة المقال الأول، وبنا أن في شغل به مررت
على لجنة التأليف والترجمة والنشر فأخذت الكتاب الجديد (قصة الفلسفة اليونانية): ولما أخذت مكاني في قطار حلوان فتحت الكتاب لأقراه مقدمته وفهرسه، ثم أطبقه إلى أن تتاح فرصة لقراءته. فلما قرأت المقدمة شاقني ما بعدها، وقادني حسن البيان، وسلاسة العبارة، وسهولة الشرح من صفحة إلى أخرى حتى عبرت من الكتاب صفحات كثيرة، فآثرت أن أتمة، وبدا لي أن اكتب عنه إذا أتمته، ناقداً حاسباً ما للكتاب وما عليه. فلما انتهت بي القراءة إلى فصل سقراط قولت: هنا فاصلة يحسن الوقوف عندها فقد كان سقراط فصلا في تاريخ الفلسفة تغيرت به سيرتها، فوقفت القراءة لأكتب عما قرأت، وأجعل بقية الكتاب موضوع مقال آخر. وهكذا يأبى الأستاّذ احمد الأمين إلا أن يعمل ويشغلنا بعمله عن أعمالنا.
- 3 -
أراد المصنفان أن يعرضا على القارئ العربي الذي لا علم له بالفلسفة اليونانية قصة هذه الفلسفة في نشأتها وتطورها في إيجاز وإيضاح، وتسهيل وتيسير، وبعد عن التعمق والتفصيل، والتقصي في البحث. وقد تسنى لهمه ما أرادا فجاء الكتاب كما ابتغيا (قصة) يسيرة شائقة، كفيله بتقريب الفلسفة اليونانية إلى المبتدئين. ولا يحتاج الناقد إلى تبيين هذا، فكل صفحة في الكتاب شاهدة به. يبدأ المصنفان كل فصل ببيان ما يريدان، حتى إذا بلغا ما أرادا أجملا ما قد ما، فإذا بدأ الفصل التالي ذكرا القارئ بما قدماه. حتى إذا جاوزا عهدا من عهود الفلسفة إلى عهد آخر وفقا بالقارئ يلفتانه إلى ما أوضحا من قبل ليتعرف فرق ما بينه وبين ما يستقبله في العهد التالي، وهلم جرا وقد قرأت ما قرأت من الكتاب مثنيا على المصنفين مسرورا راضيا إلا هنات يسيرة منها ما يلي:
1ـ قال المصنفان إن من الفروق بين العلم والفلسفة أن كل علم يبحث في ظواهر محدودة من العالم، وأن الفلسفة تحاول النفاذ إلى بواطن الأشياء كلها واستكناه حقائقها. وقد أوضحا هذا إيضاحا حسنا وساقا الأمثلة، ولكن فرطت في أثناء ذلك عبارات تثبث أن العلوم تقنع بالظن وأن الفلسفة لا تقف دون اليقين. فقالا في صفحة 10:(ولكن هذا الذي أقنع العلم لن يرضى الفلسفة. هي لا تطمئن إلى هذا الركون والركود، ولا تستقر إلا إذا وجدت لكل ظاهرة ما يؤيدها تأييداً تاماً.) وقالا في صفحه 13: (وهي (الفلسفة) لا تجيز لنفسها أن
تركن إلى حكم من الأحكام بالغا ما بلغ من القوة والذيوع إلا إذا أيداه الدليل القاطع) وفي الصفحة نفسها (كذلك لا ترضى الفلسفة أن تسلم بصحة مبدأ أو فكرة إلا إذا ثبتث لديها ثبوتاً لا يدع مجالا للريب والشك. فهاتان صفتان تستطيع بهما أن تفرق بين العلم والفلسفة:) وهذا كلام يفهم القارئ أن الفلسفة قائمة على اليقينيات وأن العلوم قائمة على الظمنيات، والمعروف غير هذا. فقد كانت الفلسفة نظراً عاماً في الكون ظاهره وباطنه، ثم تحددت مواضع النظر وأدرك الباحثون قوانين في العالم نشأت بها العلوم المختلفة يؤيدها التجربة والاستقراء والبرهان العقلي. وكلما خرجت طائفة من ظواهر الكون من الحدس إلى اليقين خرجت من حضانة الفلسفة حتى لم يبقى للفلسفة في العصر الحاضر إلا موضوعات لم تحط بها التجارب ولم تضبطها البراهين وهي ما وراء الطبيعة، والنفس، والأخلاق، والنطق، والجمال الخ
نحن نعترف بأن العلم لا يبحث في حقيقة موضوعه ولكن في خصائصه. فهو لا يبالي بحقيقة الزمان والمكان والمادة، بل يبحث في خصائصها ومظاهرها، ولكن هذا لا يستلزم أن تكون العلوم الظنية والفلسفة يقينية، بل مجال الظن والغرض أوسع في الفلسفة منه في العلم. وقصارى القول أنه ينبغي التفريق بين غاية العلم والفلسفة ومباحثهما، فغاية العلم بحث ظواهر ولكن مباحثاته قائمة على الحس والتجربة، وغاية الفلسفة النفاذ إلى حقائق الأشياء ولكن مباحثهما مليئة بالحدس والظن
2 -
أين بدأت الفلسفة؟
قال المصنفان تحت هذا العنوان: (لعلك الآن في ضوء هذا التحليل الذي تقدمنا به إليك تدرك معنا أن هذا الضرب من التفكير الذي يحاول أن يوحد بين ظواهر الكون المتنافرة والذي يرفض التسليم الساذج رفضاً تاماً، والذي يسمو بالعقل فوق المستوى المادي من حيث أسلوب التفكير وصور الفكر - نقول لعلك تذهب إلى ما ذهبنا إليه من أن هذا التفكير الفلسفي الصحيح لم ينشأ ولم يتم إلا عند شعب واحد دون الشعوب القديمة جميعاً هم اليونان القدماء:)
وقالا في الصفحة 16: (لم تستمد الفلسفة اليونانية أصولها من تلك الأمم القديمة ولكن خلقها اليونان خلقاً وأنشئوها إنشاء. فهي وليدتهم وربيتهم ليس في ذلك ريب ولا شك:) فأما ادعاء
أن الفلسفة على هذا النحو لم تنشأ إلا عند اليونان فهو مجازفة. ولو اطلعا على فلسفة الهند مثلاً لاقتصدا في هذه الدعوى. ولعلهما يسمعان عما قليل بقصة الفلسفة الشرقية كما أسمعا الناس قصة الفلسفة اليونانية. وقد ذكرا في أول الفصل الثاني أن فيثاغورس رحل إلى مصر وبلاد الشرق، وقالا في آخره:(وأنت ترى من ذلك أنهم (الفيثاغوربين) خطوا بالفلسفة خطوة جديدة نحو التفكير المجرد، فبدأت الفلسفة منذ ذلك الحين تتحلل بعض الشيء من تلك النزعة الطبيعية التي سادت عند فلاسفة يونيا لتستقبل صبغة جديدة - هي صبغة الفلسفة في أصح معانيها - أعنى التفكير المحض فيما وراء الطبيعة وظواهرها. الخ) وقالا في الفصل السادس إن ديمقريطيس (كان واسع العلم، راغباً في تحصيله رغبة حارة. . . . وقد حفزته تلك الرغبة الملحة في التحصيل إلى الرحلة في أقطار الأرض، فزار مصر وجاس خلالها، وعرج على بابل وطوف في أنحائها.) فإن يكن فيثاغورس الذي تعلم في مصر ورحل إلى الشرق قد نحا في الفلسفة نحواً جديداً، وارتقى بها إلى التفكير المجرد الذي هو أقرب إلى الشرقيين، فلم نجزم جزماً أن فلاسفة اليونان لم يستمدوا قط من الأمم الأخرى؟ وإن يكون ديمقريطيس وهو إمام مذهب في الفلسفة رحل إلى مصر وبابل في طلب العلم فكيف نجزم بأن اليونان لم يأخذوا عنهم (ليس في ذلك ريب ولا شك)
3 -
وقالا ص33 أثناء الكلام على آراء الفيثاغوريين:
(أي انك تستطيع أن تتخيل في غير عسر كوناً يخلو من اللون والطعم والحرارة). وقد جهدت أن أتخيل عالماً لا لون له فلم يتيسر لي
4 -
في الكلام على هرقليطس ص56 (بعد أن عمر نحو ستين عاماً كان فيها معاصراً لبارمنيدز.) والعبارة توهم أنه عاصر بارمنيدز ستين عاماً، وليس هذا مقصوداً كما يعرف من تاريخ الرجلين
5 -
في الكلام على السوفسطائيين ص99: (ومن أجل ذلك سمي اللعب بالألفاظ والتهريج في الحجج سفسطة اشتقاقاً من السوفسطائيين.) وكان ينبغي هنا تفسير كلمة سوفسطائي في وضعها الأصلي حتى لا يتوهم القارئ أن فيها معنى السفسطة المعروف
6 -
تكلم المصنفان على الأحوال السياسية والاجتماعية في بلاد اليونان عند ظهور السوفسطائيين ليبينا أثرها في فلسفتهم، ولم يذكر آثار الحروب الفارسية المتمادية، وكانت
ذات أثر بليغ في اليونان
وهناك هنات لفظية كثيرة نتركها حتى نفرغ من نقد الآراء والمعاني