المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 980 - بتاريخ: 14 - 04 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٨٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 980

- بتاريخ: 14 - 04 - 1952

ص: -1

‌الكتلة الإسلامية

كتب إلى كثير من قراء الرسالة يسألونني عن رأيي في الكتلة الإسلامية التي تدعو إليها باكستان و (الإخوان)، ويستوحش من ناحيتها لبنان و (الشبان)، فلم أجد جواباً عما يسألون خيراً من كلمة كتبتها منذ خمس سنين في الرسالة جاء فيها:

إن الجامعة الإسلامية هي الغاية المحتومة التي ستتوافى عندها الأمم الإسلامية في يوم قريب أو بعيد. ذلك لأنها النظام السياسي الذي وضعه الله بقوله: (إنما المؤمنون أخوة)؛ ثم شرع له الحج مؤتمراً سنويا ليقوى، وجعل له الخلافة رباطاً أبدياً ليبقى. وهذا النظام الإلهي أجدر النظم بكرامة الإنسان؛ لأنه يقوم على الإخاء في الروح، والمساواة في الحق، والتعاون على الخير، فلا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين طبقة وطبقة.

وظلت الجامعة الإسلامية في ظلال إمارة المؤمنين وإمارة الحجيج قوية شاملة حتى خلافة المتوكل. ثم وهي السمط فأنفرط العقد؛ وأضطرب اللسان فتفرقت الكلمة. فلما تبوأ الترك عرش الخلافة استطاعوا أن يبرموا الخيط، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينظموا فيه الحب. فبقي المسلمون عباد يد لا يجمعهم نظام ولا تؤلف بينهم وحدة. ثم أدركت الشيخوخة دولة العثمانيين في أواخر القرن التاسع عشر فتعاونت على جسدها المنحل ذئاب الغرب، فلوح لهم عبد الحميد بالجامعة الإسلامية ذياداً عن ملكه فهروا هرير الكلاب المذعورة.

وصور لهم هذا الذعر أن الجامعة هي التعصب وسفك الدماء، فصدقوا وهمهم وكذبوا الواقع. وكان الاستعمار قد توقح وفجر، فنشأت العصبية الوطنية في الأقطار الإسلامية لدرء خطره أو تخفيف ضرره. والوطنية لا تعارض الجامعة، ولكنها تفارقها في الطريق لتلاقيها عند الغاية.

إن أوربا التي ممزقتها الأطماع وطحنتها الحروب سترحب اليوم بالجامعة الإسلامية، لأنها وحدها تملك غرس الوئام في النفوس وإقرار السلام في العالم. إنها تقوم على الإيمان المحض، وتنزل في خير مكان في الأرض، وتشمل مئات الملايين من الناس، وتهيمن على الموارد الأولى للاقتصاد، وتدين بالآداب السماوية المثلى للاجتماع، وتشرق أعمالها في الصفحات العظمى من التاريخ. فمن المحال أن تظل نهباً مقسماً بين فرنسا الحمقاء، وإنجلترا المتطفلة، وهولندة الأنثى!

ص: 1

أما الشبهات التي تطير هنا وهناك حول الكتلة الإسلامية فقد طار أمثالها من قبل حول جامعة الدول العربية لأن (إيدن) أوحى بها، وحول الدولة الباكستانية لأن (مونتابتن) سعى لها؛ ثم جلا الزمن الشكوك، ومحص الوعي الحقائق، فذهب إيدن وبقيت جامعة العرب، واختفى مونتباتن وسطعت دولة الإسلام.

احمد حسن الزيات

ص: 2

‌كلمات

للأستاذ علي الطنطاوي

1 -

طفلان

حدثني صديق لي أديب قال:

رأيت البارحة موهناً وراء ديوان المحاسبات وقهوة الشارع وهاتيك القصور الشم والمنازل العوالي - رأيت مشهداً أقر بأني عاجز على وصفه لكم، فإن كان باقياً لا يزال، وكانت رحمة الإنسان باقية - لا تزال - فيكم، فأذهبوا لتروه بعيونكم. أذهبوا، وخذوا معكم قلوبكم فإنكم ستحتاجون إليها، واحملوا دموعكم لتريقوها أمام هذا المشهد الذي يرقق قلب الصخر، ويفجر بالدمع عيون الجلمود، ويملأ بالشفقة والحنان أقسى القلوب: قلوب الشياطين والجلادين والمحتكرين.

مشهد طفلين أحدهما في نحو التاسعة والآخر في الرابعة، ما عليهما إلا خرق ومزق وأسمال، نائمين على الأرض عند باب القهوة، متداخلين متعانقين، قد التصق الصغير بأخيه، وألقى برأسه على صدره العاري من اللحم، يحتمي به من البرد والخوف، وقسوة الحياة، وظلم الناس، ولفه الآخر بذراعه يريد أن يدفع عنه بهذه الذراع الهزيلة، شر هذا البشر، ويكون له أماً، ويكون له أباً. . وكان وجه الصغير واضحاً في شعاع القمر الشاحب، فيه الطهر، وفيه الألم، وعلى شفتيه المزمومتين بقايا كلام حسبتها من بعيد بقايا لعنة حامية رمى بها هذا المجتمع، فلما دنوت لم أجد إلا آثار شكاة خافتة مبهمة، رفعها هذا الفم الصغير الذي ما تعلم البيان، إلى الله المنتقم الجبار!

طفلان ينامان على الطريق، ما تحتهما إلا الأرض العارية، وما فوقهما إلا السماء العالية، والناس الخارجون من القهوة بعد السهرة الممتعة، والعائدون من الوليمة بعد الأكلة المتخمة، والرائحون إلى بيوتهم من التجار، بعد خلوة طويلة أعدوا فيها العدة لجناية جديدة قذرة على هذا الشعب المسكين، والغادرون إلى النوادي والملاهي ليبدءوا سهرة أخرى، يصبون فيها ما لهم على الموائد الحضر، ويذوبون صحتهم في كؤوس الخمر، ويضيعون دينهم في تلك الليالي الحمر، في الفسق والعهر، كل أولئك كانوا يمرون بالطفلين ولكن لا يلتفتون إليهما، ولا يحفلون بهما، وهل يحف أحد بالكلاب النائمة في الطريق؟

ص: 3

من أين جاء هذان الطفلان؟ أين أبوهما؟ أين أمهما؟ كيف يعيشان؟ هل أبتسم لهما الحظ فوجدا (تنكة زبالة) لأحد الأكابر لينبشاها، فيستخرجا منها عشاءهما أم باتا على الطوى؟

لم يسأل أحد ولم يعلم أحد؟

ولا أنا. . . وهل أنا إلا واحد من (هؤلاء) الناس؟!

قال الراوي:

وأسرعت إلى أولادي، أحمل إليهم الحلويات الغالية، أعدها لهم بجنب السرير، حتى إذا أصبحوا وجدوها، وأغطيهم كي لا تصيبهم لفحة هواء في هذه الليلة العاصفة، حتى إذا أمنت عليهم وأرحت ضميري. . قعدت أكتب مقالة في محاربة الشيوعية، ومكافحة الإجرام، وتمجيد النظام الديمقراطي الذي يملأ الأرض حرية ومساواة وعدلاً وأمناً.

وخلا شارع بغداد إلا من الرياح العاتية، والكلاب الشاردة، وهذين الطفلين الذين ينامان على الأرض بلا وطاء ولا غطاء؛ ليس معهما إلا أشباح الظلام، وتهاويل الرعب، وآلام الجوع والبرد والحرمان!

2 -

عواقب اللذات:

كنت أطالع إضبارة في محكمة الجنيات فوجدت صفحات في الفسوق تثير الشيخ، وتصبي الحليم، وتشعل النار في أعصاب الشاب القوي، حتى ما أظن أن في الدنيا قصة من قصص الأدب المكشوف، تفعل في إثارة الشهوة فعلها فتركت الإضبارة، وفكرت. . .

وقلت. . .

- هل تريد يا علي طنطاوي أن تكون مكان هذا الرجل تعيش هذا العيش اللذ بين الغيد والأنس، والعذارى الفاتنات؟ قل، وخل عنك هذا (الكذب الاجتماعي) الذي تعارفه الناس.

فسكت علي الطنطاوي، وتكلمت نفسه، فقالت: نعم

- قلت: وهل تريد أن تكون مكانه في السجن؟

- قلت: لا قلت: ولِم؟

- قالت: لأن اللذات قد ذهبت، وبقي عذاب السجن. . .

- قلت: فلماذا لا تذكر ذلك كلما دعاك الشيطان إلى لذة محرمة فملت إليها، وتقول لنفسك إنها ستذهب كما ذهبت اللذائذ الماضيات، ويبقى العذاب؟ ولماذا لا تذكره كلما دعاك العقل

ص: 4

إلى خير فتكاسلت عنه لصعوبة البذل، ومشقة العمل، وتقول لنفسك إنها ستذهب هذه المشقة ويبقى الثواب؟

فكر فيما عملت من حسنات وخير؛ بذلت فيها من جهدك ومالك، وخالفن فيها هواك، ماذا بقي من الصعوبة التي وجدتها عند الحسنات؟ وماذا بقي من اللذة التي أصبتها عند المعاصي؟ لقد ذهبت آلام الطاعة وبقي ثوابها، وذهبت لذات المعصية وبقي عقابها، كالتلميذ يوم الامتحان إن كان قد جد وجد النجاح ونسي تعب المطالعة ونصب السهر، وإن كان قد لها ولعب فقد متعة اللهو وأنس اللعب؛ ولقي (السقوط).

فقس الآتي على الماضي، ولا تبع آجلاً خالداً بعاجل فان، ولا تغتر بحلاوة العسل إن كان فيه السم، ولا تخش مرارة الدواء إن كان فيه الشفاء. . .

وتصور أنك على فراش الموت، وقد باد الأمل وجاء الأجل. . ما الذي تحسه في تلك الساعة من حلاوة المعصية؟ ما الذي بقي لك من متع الجسد والقلب؟ هل بقي لك شيئاً منها؟ هيهات! لقد نسي الجسد لذات الجسد، وشغلت النفس عن مسرات النفس؛ وضاع المال فصار للورثة ما جمعت من مال، وتصرم الجاه فلا ينفع جاه، ولا شهرة ولا وظيفة ولا أدب ولا فن. . .

وتصور بعد ذلك القيامة وقد قامت، والصحف وقد نشرت، والحساب وقد أعلن؛ وكل ذرة من خير قد قيدت لك، وكل ذرة من شر قد سجلت عليك؛ أحصاه الله ونسيته، وعده وأغفلته، أين من نفسك يومئذ موقع هذه اللذاذات؟ وأين مكان هذه المتع؟ ما الذي استفدته منها؟ ما أفدت إلا الندم! وماذا استبقيت منها؟ ما استبقيت إلا الألم!

فأذكر هذا كل صباح وأنت غاد إلى عملك، وكل مساء وأنت مضطجع لمنامك. وكلما أغرتك بشر لذته، وكلما صدتك عن خير مشقته. . .

جرب هذه التجربة السهلة، وأنظر كيف تكون بعدها.

3 -

المعلم الأديب

فتحت اليوم درجاً لي فيه أوراق لم أفتحه من نحو عشرين سنة، فوجدت صفحات رائعة من قصة كنت شرعت فيها ونفسي مترعة عاطفة، وقلبي متفتح للإلهام، ثم قطعتني عنها شواغل التعليم (وقد كنت يومئذ معلماً) وصرفتها من ذهني، حتى أني لأجدها الآن غريبة

ص: 5

عني، كأنها لم تكن لي، ولم أكن كاتبها. . فجعلت أتلوها وجعلت صور أيامي الماضية تمر أمام عيني. . فأرى تلك الأيام التي أضعتها في التعليم، وتلك الأفكار والصور التي خسرتها ونكبت بها. . وليس المنكوب من ذهب ماله، أو احترقت داره، فإن الصحة ترد المال، والمال بعيد الدار، ولكن المنكوب من ثكل أفكاره؛ وأضاع ذكاءه؛ وعاش بائساً يائساً، ومات مغموراً منكراً؛ وقد كان أهلاً لأنيسعد حياً بذكائه؛ ويخلد ميتاً بآثاره.

إن المنكوب هو المعلم الأديب؛ الذي وهب له الأدب؛ وكتب عليه التعليم: إنه يكسب ثمرة حياته، وعصارة قلبه؛ الليالي الطوال التي أحياها ساهراً، عاكفاً على كتبه، مطفئاً نور عينيه، مذبلاً زهرة شبابه، يصبها كلها بين أيدي طلاب لا يكاد أكثرهم يحفظ لمعلم عهداً، ولا يذكر له رداً، يصبح المعلم الأديب وفي نفسه موضوع المقالة، وفيها صورها وأفكارها، ولكنه لا يستطيع أن يكتبها، إنه مشغول عنها بتصحيح وظائف التلاميذ، هذه الوظائف التي تحرمه لذة المنام، وأنس السمر، ومتعة المطالعة، وتأكل صحته ووقته، ثم إذا انتهى منها وحملها إلى التلاميذ مصححة لم يتنازل أحدهم إلى النظر فيها، وإنما يلقونها في أدراجهم لينظر فيها الشيطان، ثم يأتي الآذن فيجمعها ليوقد بها النار. . .

ويعد الدرس وينفق في إعداده من الجهد ما لا يعلمه إلا الله، والمخلصون من المعلمين، ويلقيه مندفعاً متحمساً. فلا يروعه (إن كان في الابتدائي) إلا تلميذ يخز رفيقه بمرفقه ليريه كيف اصطاد ذبابة. . . أو ليحدثه (إن كان في الثانوي) حديث رواية في سينما، أو مباراة على ملعب، أو تلميذ يقرأ قصة سخيفة من قصص الجيب، أو يصور على الورقة ثوراً له قرنان، أو يرسم الأستاذ المحترم. . . وإن كان (في الجامعة) رأى أمامه فلماً من أفلام الحب ناطقاً بلغة العيون. .

ثم يكبر الطلاب، فينكرون المعلم وينسونه، وربما أحتاج إلى أحدهم فأراه صنوف الحرمان، وربما صار أحدهم رئيسه فأذاقه ألوان الردى. . . مسكين والله المعلم!

4 -

أجير الخباز

هذه صورة وصفية صادقة لحادث حدث من يومين، وكان النهار مصحياً دافئاً، وآلاف الشباب يتبخترون على طرفي شارع فؤاد، مرجلة شعورهم، مصقولة وجوههم، محبوكة ثيابهم، يختالون زهواً وإعجاباً، كسرب من الطواويس، أو كجماعة من ديكة الحبشة،

ص: 6

منفوشاً ريشها، ومئات البنات، من كل جميلة صنعتها يد الله، وذات جمال من عمل الحلاق والخياط، وبائع الأصباغ وصانع العطور، يخطرن، ينثرن حولهن الفتنة، وينشرن الإغراء.

وشمس الأصيل تطل من خلال منافذ شارع الغربية، كما يطل الأمل من فرج اليأس؛ فتنقل هؤلاء الناس من أرض الحقيقة إلى سماء الأحلام، فيذهبون جميعاً إلى أعماق حلم ذهبي، تضيع فيه هذه الرؤوس المتعانقة، التي غرقت في نشوة الحب، وغابت في هذا الهمس الناعم، الذي تنسى معه الدنيا وما فيها، وهذه الرؤوس المفردة التي تتعلل بذكريات لذة ماضية، وخيالات لذة لم تأت، وتغوص في رؤى شيطانية فاجرة من عمل الحرمان.

ورأيت في وسط هذا العالم البهيج، السابح في غمرة النعيم، صورة من صور البؤس، ومظهراً من مظاهر هذا الظلم الاجتماعي. . رأيت صباً لا أظنه قد أكمل العاشرة، ضامر الوجنات من الهزال، بادي العظام، يمشي حافياً، بخطى واهنة متقاربة على ساقين كأنهما قصبتان من القنب، يلبس معطفاً واسعاً ممزق الظهر يتعثر فيه تعثراً، فوق قميص رقيق مخرق، يحمل على عنق دقيق مثل عنق الدجاجة (فرشاً) كبيراً عليه ركام من الخبز، يكاد الغلام ينسحق تحته.

وكان هؤلاء المنعمون الذين أثقلتهم التخمة. وأبطرهم الترف، يتحامونه ويبتعدون عنه، ويضمون أثيابهم أن تلامس ثيابه، كأنما هو مجذوم أو مجرم، أو كأنه وحش كاسر. . ولم يلتفت إليه واحد منهم. ولم يرحم هذه الطفولة المعذبة، ولم يقع عليه نظر، وإنما كانت الأنظار كلها منصبة على تلك العيون، التي يتدفق منها الفتون، وتلك القدود، التي تميس برقة، وتخطر بدلال. . .

وكانت السيارات تتسابق تحمل المدللين من أبناء الأمة: الموظفين الكبار الذين تهبط عليهم الخيرات بلا حساب، والمجدودين من الوارثين وأغنياء الحرب واللصوص المختبئين في ثياب الأشراف.

. . . ومرت سيارة أنيقة فخمة من سيارات الدولة فيها سيدة ملفوفة بالفرو، تكاد تنفزر مما نفخها البطر، وولد واقف على شباك السيارة، قد مد رأسه ينظر ويلتهي، وكأنه يسخر من هذا الشعب الذي دفع ثمن السيارة من عرق عامله، ودم فقيره، ليركب فيها هو وأمه، إلى

ص: 7

الاستقبالات، والمخازن والسينمات.

ووقفت السيارة فجأة إلى جنب الغلام الذي يحمل (الفرش) ودفعه أحد السادة حتى لا يدنسه فمال على السيارة، فمس طرف رغيف مما في الفرش وجه الولد مساً رفيقاً، وقامت القيامة ووقف القسم الظالم من هذا الشعب، أمام القسم المظلوم، يمثل الأول ولد السيارة بقسوته وكبريائه، وأخذه ما ليس له واستطالته على من دونه، ويمثل الثاني غلام الخباز، بضعفه وبؤسه وكدحه وذلته، صرخ الولد وأعول، وهاجت الأم، ونزل السائق بقوته وبطشه على هذا الغلام، فضربه حتى كاد يحطمه، ورمى خبزه ودعسه بقدميه، وتم ذلك في لحظات، فما وصلت حتى كان كل شيء قد انتهى، والسيارة قد مرت كالعاصفة، لم تخلف وراءها إلا الغلام يبكي صامتاً، لا يرفع صوته ولا يستنصر أحداً، لأنه يئس من أن يجد في هؤلاء المفترقين إنساناً يصغي إليه.

وأسدل الستار على المأساة، وعاد الموكب الحالم يتابع طريقه يستمرئ حلمه الذهبي المترع بالنشوة والشهوة والفتون. . .

وكأن شيئا لم يقع، لم نقتل العدل، ولم نظلم الطفل، ولم نملأ هذا القلب الصغير حقداً على الحياة، حتى إذا كبر استحال هذا الحقد إجراماً فاتكاً مدمراً.

دمشق

علي الطنطاوي

ص: 8

‌قرية الأدباء

للأستاذ أحمد أحمد العجمي

في كل بلد من بلاد العالم بيئة أدبية تختلف قوة وضعفاً ورقياً وانحطاطاً تبعاً للعوامل المؤثرة في الاتجاهات الفنية حينا بعد حين. ولا تكاد تخلو مدينة أو قرية في كل قطر من فرد أو أفراد شاركوا في الحياة الأدبية بنصيب، وأثروا في النهضة الفنية أو تأثروا بها على أقل تقدير.

من هذه البلاد المصرية التي لها يمض الفضل في إيقاظ الحركة الأدبية في العصر الحديث، بلد ريفي جميل، يجمع بين مزايا المدن وسمات الريف الوريف، لحسن موقعه شرقي نهر النيل، ولكثرة مدارسه وذيوع أسماء كثير من أبنائه الأدباء، هذا البلد، أو هذه المدينة هي (كوم النور) إحدى بلاد إقليم الدقهلية الخصيب.

أول من أذكره من علمائها وأدبائها وشعرائها الأفذاذ المرحوم الشيخ سيد خليل؛ ولقد كان لهذا العالم المتصوف والأديب الشاعر الكبير الفضل الأول على أبناء كوم النور في نهضتها الأخيرة. كان يميل إلى طريقة عمر بن الفارض في الشعر، وإلى طريقة محي الدين بن عربي في التصوف وعلوم الدين، وله أشعار كثيرة مطبوعة وكتب دينية وأدبية مخطوطة أشهرها تفسيره القيم للقرآن الكريم. وكانت له مجلة شهرية أسمها (التذكرة) يصدرها ويحررها بمقالات عظيمة في الأدب والدين والاجتماع.

وقد كان للشيخ سيد (زاوية) يذكر فيها مع أتباعه ومريديه وما تزال إلى الآن؛ وقد آلت رئاستها إلى الأستاذ محمد محمد عبده من فضلاء أدباء كوم النور بعد وفاة رئيسها السابق الأستاذ محمد المتولي هاشم رحمه الله. هذه الزاوية هي الركن الركين لتلاميذ الشيخ سيد، تخرج عليه فيها، وعلى كتبه ودواوينه من بعده جم غفير، منهم أبنه الأستاذ فؤاد السيد خليل، وهو معروف للقراء بشعره ونثره الرصين. ومن شعراء هذه المدرسة الأستاذ عبد العزيز محمد خليل، أحد أفذاذ شعراء دار العلوم ورائد الرعيل الأول من أدباء كوم النور، وفي شعره العذب مزيج من تأثيره بطريقة الشيخ سيد خليل وميل إلى التجديد والتحرر من قيود القديم؛ وشعره يجمع بين الرقة والجزالة في أسلوب عربي متين.

ومنهم الأستاذ محمود عبد المعطي خليل تأثر بالشيخ سيد في الناحية الوصفية حتى غلبت

ص: 9

عليه، وغطت النزعة الأدبية فيه، فترك الشعر بعد أن قطع فيه مرحلة واسعة والأستاذ محمد عبد الباري البدري خليفة الشيخ في الورع والتصوف والتبحر في علوم الدين.

ومن أعلام كوم النور وعلمائها البارزين المرحوم الشيخ محمد سليمان عنارة نائب المحكمة العليا الشرعية السابق، وهو كاتب عذب الأسلوب رقيق الحاشية، كتب وخطب وألف وصنف كثيراً من الكتب الأدبية والدينية. ولا ينسى الناس معارضته الشديدة الموفقة لترجمة القرآن الكريم، حتى ألف فيها كتابه القيم (حدث الأحداث ترجمة القرآن الكريم) وكانت له ندوة أدبية في منزله يغشاها الزعماء والوزراء وقادة الرأي يملك الشيخ فيها ناصية الحديث.

ومن علماء كوم النور الراسخين في العلم المرحوم الشيخ عبد العزيز عبد الفتاح خليل المدرس السابق بدار العلوم، كان أحد المتبحرين في علوم الدين، وكان متصوفاً يجنح إلى العزلة ويميل إلى الخشوع.

وفي طليعة علماء اللغة بكوم النور، المرحوم الشيخ عبد الخالق عمر بك. كان حجة في النحو والصرف، ضليعاً بالدقائق والمشكلات والبحوث اللغوية، تولى تدريس اللغة العربية بكثير من المعاهد العالية.

ومن الأعلام البارزة في كوم النور الأستاذ الكبير عبد الحميد السيد أحد كبار رجال التربية والتعليم في وزارة المعارف، وإلى ثقافته الواسعة وأياديه الجليلة على العلم والتعليم يرجع الفضل في شؤون اللغة العربية بالتعليم الثانوي والتعليم الابتدائي.

وإذا كان الشعر هو العنصر الأول في كل بيئة أدبية، فقد عرف به عدد كبير من أبناء كوم النور، منهم هؤلاء الشعراء الأساتذة: محمد سلامة مصطفى وهلال شتا وأحمد البدري وإبراهيم الزين وعباس مصطفى ومحمد هلال ومحمد عبد الخالق ندى وإبراهيم البدري والسيد يوسف جودة وعبد العزيز العجمي ومحمد زيادة ومحمد عمر هاشم وهلال الفيشاوي ومحمد شحاتة وأبو رجيلة وسليمان العزب ومحمود سعيد ندى.

ومن الطرائف اللطيفة أن الشاعر محمد سلامة مصطفى - هو معروف للقراء - كأنما ورث الشعر وراثة عجيبة عن أبيه وجده لأمه، فهم جميعاً شعراء، وقد قلت في ذلك:

وراثة الفن الرفيع الباهر

ص: 10

معجزة تحققت للناظر

على يدي (سلامة) المغامر

الشاعر أبن الشاعر أبن الشاعر

ويمتاز الشاعر هلال شتا بكتابة القصص الطريفة، وله مجموعة قصصية مطبوعة منذ سنوات.

ومن الزجالين المعروفين بكرم النور، الأستاذ عبد الحي حمام، وهو ينشر أزجاله السياسية والاجتماعية في مجلة (الشباب) التي يصدرها صديقنا الأديب الكبير الأستاذ محمد مصطفى حمام، ومنهم الأستاذ عبد الفتاح العجمي والأستاذ العوضي جودة.

ومن الخطباء الممتازين بكوم النور الأستاذ محمد عبد الله أبو عيسى، وله قدرة عجيبة على الارتجال البليغ تستحق الثناء والإعجاب، والأستاذ محمد يوسف جودة وهو ينفذ إلى أعماق القلوب، والأستاذ مصطفى داود من كبار المربين.

ومن الصحفيين المعروفين بكوم النور الأستاذ علي عامر رحمه الله، أشتغل بالتحرير في كثير من الصحف والمجلات الراقية، وكانت له شهرة واسعة بالإجادة في كل ما يتصل بالأزهر والأزهريين؛ وقد أقيم له حفل تأبين كبير بدار الشبان المسلمين.

ومن الصحفيين النابهين الأستاذ أمين سلامة عضو نقابة الصحفيين، والأستاذ أحمد فتحي عبد العزيز خليل وهو يصدر صحيفة لطيفة صيفية بكوم النور.

وفي كوم النور عدد ضخم من المثقفين ثقافة ممتازة، كالدكتور الشاذلي محمد الشاذلي المتخرج في أرقى جامعات لندن، ويلقبه إخوانه الظرفاء: والدكتور إبراهيم عبد الشافي الشربيني والأساتذة محمد عبد المنعم سلامة المدرس بكلية التجارة وعصام محمد سليمان وهو كاتب ومؤلف معروف ومحمد المتوكل عبد الله وحامد عبد المجيد عويس وعبد المنعم شعيب أحد المبحرين في الأدب والدين والقانون وعلي خليل وحامد السيد خليل وتوفيق أحمد علي وعلي البداري جابر (مؤرخ كوم النور وحافظ شجرة الأنساب)!!

وقد تفضل بزيارة كوم النور كثير من الشعراء والأدباء منهم الأساتذة أحمد مخيمر وتوفيق عوضي أباظة ومحمد الصادق مسعود وعبد العزيز السعدني ومحمد رجب البيومي وأحمد نار ومحمد أحمد السنهوتي. وزارها من قبل الخديو عباس حلمي الثاني وقال فيها كلمته

ص: 11

المشهورة (زرت قرى في أوربا قرية قرية، فلم أجد فيها مثل قرية كوم النور)

ومن أبناء كوم النور، كاتب هذه السطور:

أحمد أحمد العجمي

ص: 12

‌لغة المستقبل:

للأستاذ محمد محمود زيتون

تحية علمية إلى البرلماني الفيلسوف أستاذي الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك عميد الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول سابقاً، وعضو مجلس الشيوخ، وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية.

قرأت بمزيد من الإعجاب المحاضرة القيمة التي ألقاها أستاذنا الجليل الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك بمجمع فؤاد الأول للغة العربية وجعل موضوعها (الفكر واللغة) والتي نشرتها الرسالة في العدد 975.

ومما زادني إعجاباً بهذا البحث العميق ما انطوى عليه من سعة الأفق وعمق الطاقة، ولا سيما إذا قارنته ببحثي المتواضع الذي نشرته بالرسالة من قبل بعنوان (اللغة والفكر).

لقد وقفت متأملاً قول أستاذي الدكتور في محاضرته الجامعة (والرياضة أقل العلوم حاجة إلى الألفاظ والتراكيب، لأنها أبعدها مدى في العموم والتجريد، فإذا حصرت حقائقها، واختير لكل حقيقة رمز معين أمكن تكوين لغة رياضية كاملة، وعلى غرار هذه اللغة الرياضية يمكن وضع اللغة العالمية).

ولعل هذه العبارة المركزة أن تكون بعيدة عن مدارك العامة من المثقفين، وقد يستغلق على بعضهم فهم المكانة الفلسفية للعلوم الرياضية من المجموعة العلمية، لهذا نرى من حق الرسالة علينا أن نستسمح أستاذنا فنحاول في هذا المقال أن نبين للقارئ ما يجب علينا بيانه وتبيينه فيما يتعلق بالرياضيات.

يقول نافيل في كتابه (تصنيف العلوم) - (إن العلوم روابط خلقها العقل بينه وبين الأشياء). وإذا نحن طالعنا هذه العلوم اعترتنا حيرة: فبآيها نبدأ وبآيها ننتهي، ونخشى حين نصنف هذه العلوم أن نقع فريسة في أيدي المصنفين، ومهما يكن من خلاف بينهم. فالجميع متفقون على البدء من البسيط غاية التبسيط إلى المركب غاية التركيب.

والحق أن العقل الإنساني لا يطيق الفوضى، وإنما هو نزاع أيما إلى أبسط (عملة فكرية) يتعامل بها وهي (المعاني) حين تتجرد أقصى ما يكون التجريد. فلا بد من علم يجمع قوانين الفكر الأساسية هو (علم النواميس كما يسميه (نافيل) وهو (المنطق) عند

ص: 13

المدرسين.

وسواء كان هذا المنطق علماً أو فناً أو مدخلاً أو أداة لسائر العلوم، فإنه أول مصدر لكل معرفة إنسانية مشروعة وأساس لكل تفكير، لأنه يتناول المعقولات الخالصة.

ويلي المنطق مباشرة (الرياضة) إذ تتناول المعقولات الكمية (كالنقطة الحسابية والنقطة الهندسية) وما بين هذه المعقولات من نسب (كالزيادة والنقصان والتساوي).

ويتلو الرياضة في بساطتها: الميكانيكا والفيزيقا والكيمياء، والبيولوجيا والسيكولوجية ثم علم الاجتماع.

ولم يكن من اليسير أن يطفر الفكر إلى المعاني. وذلك لأن (طبيعة الأشياء تأبى الطفرة)، فالحواس التي عرفتنا بما نحس، وحلل العقل ما أوتي منها، واستخلص من بين عناصرها البسيطة ما هو مشترك بينها وهو (الكلي). وبهذا الانتقال الذهني الخالص نصل من الأفراد إلى (الكلي المجرد) ومنه إلى (العام). وصدقت الحاجة إلى تثبيت المعاني المجردة والعامة واستحضارها وترتيبها، وإقامة صلات بينها دون اللجوء في كل مرة، إلى ما بدأنا به أول مرة، ولا يتم هذا إلا باستعمال الرموز التي تغني عن الجزئيات، إذ (الرمز إشارة إلى ما له صلة بغائب محجوب أو يستحيل إدراكه).

ولما كان العلم بالكلي - كما يقول أرسطو - فلا بد من أن تتسابق العلوم إلى هذه (الرمزية) النهائية، فكانت الرياضة منها في الطليعة.

وإذا كانت المعاني هي العملة الفكرية، وكانت اللغات إنما هي المعاني تحملها الألفاظ، فإن الرياضة هي أسمى لغة للتفاهم العقلي في أسمى درجاته، لذلك قال (كوندياك (كل علم ليس لغة مصنوعة بإتقان) أو كما يقول (فولتير)(إن العقل سينتهي إلى بعقل) أي ينتهي إلى قانون يعقل الوجود ويحكمه.

وعلوم الكون - على اختلاف مناحيها - تنزع إلى أن تكون كالرياضة، فعلم الفلك مدراه الجاذبية، لهذا لم يعتبر، (أوجست كونت) من الرياضة بل اعتبره من الفيزيقا البحتة، غير أن (أمبير) رأى في الفلك علماً رياضياً بسبب تقدمه العلمي، وبذا جعل الرياضيات علوماً للطبيعة المادية أي علوماً كونية وعرفها بأنها (العلوم التي لا تعتبر في الظواهر الطبيعية غير نسب الكمية).

ص: 14

كل هذه المحاولات للتقرب من الرياضة لم تقض على ما بينها وما بين سائر العلوم من فوارق: فالرياضة لا تعني بما هو كائن، وإن كانت تضع مبدئياً شروط إمكانية الأشياء المادية، غير أنها تدع للفيزيقا العناية بإقامة الوقائع التي أعطيت لنا في هذا العالم.

والرياضة قبل كل شيء ذات موضوع متميز، ولها منهجها وروحها، وهذا ما نود أن نعرضه للقارئ في هذه العجالة بحيث تتأدى المقدمات إلى نتائجها من غير تعقيد.

والمعروف أن الرياضة فرعان هما: علم العدد، وعلم الهندسة

وعلم العدد هو الذي ينظر في معاني الكمية والعدد والنسبة دون أن يفترض فيها موضوعا خاصاً، ودون حاجة إلى نظريات الشكل والمقدار اللذين في الواقع؛ فهو كما يقول أبن خلدون (المعرفة بخواص الأعداد من حيث التأليف، إما على التوالي أو بالتضعيف) وهو كما يقول أيضا (أول فروع الرياضة (التعاليم) وأثبتها في البراهين الحسابية، عني به بعض العلماء فاستخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعل أبن البناء في كتابه (رفع الحجاب)).

وتنحصر فائدته في عدم تعينه في الأشياء المحسوسة التي يطابقها. فالعدد 5 يطابق 5 رجال و5 خيول و5 حواس و5 فضائل.

ومن فروع علم العدد (صناعة الحساب). وهي صناعة عملية في حساب الأعداد بالضم والتفريق.

ولما كان لعلم العدد صلة بالكميات المجردة، فقد وجب إنشاء فرع له هو (الجبر) لأننا بدلاً من اعتبار القيمة الفردية للأعداد نضع حروفاً تدل على عدد ما بدون أي تفرقة.

وقد اصطلح العرب على أن يسموا هذا العلم (الجبر والمقابلة) وهو (صناعة يستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما صلة تقتضي ذلك) كما يقو أبن خلدون.

ودراسة الدوال هي الفرع الأعلى للرياضة البحتة لأنها تعني بالنسبة بين متغيرين دون الاشتغال بتقدير هذه النسبة؛ وهذا يؤدي إلى الرياضة العليا من حيث صلتها بالحساب والجبر وهما (الرياضة الأولى).

ولعلم العدد أيضا فرعان آخران هما: (المعاملات) وهو تصريف الحساب في معاملات

ص: 15

المدن، و (الفرائض) وهو صناعة حسابية في تصحيح السهام (الأنصبة) لذوي الفروض في الوراثات وهو يعتمد على الفقه والحساب معاً، وهكذا يكون علم العدد بحتاً وتطبيقاً أي علماً وصناعة.

أما الهندسة فهي علم النظر في المقادير، إما المتصلة كالخط والسطح والحسم، وإما المنفصلة كالأعداد، وما يعرض لها من العوارض الذاتية. وموضوعها الامتداد كجزء من الفراغ، فهي تدرس خواص الامتداد وتسمى الهندسة الفراغية.

ومن فروع الهندسة: هندسة الأشكال، وهندسة المسافة، وعلم المناظر، ويجب ألا نغفل هندسة الوضع ظهرت في القرن السابع عشر على يد (ليبتز) وأغفلها (كونت).

وللهندسة - كعلم العدد - جانبان: العلمي البحت، والتطبيقي العملي. وهذا الجانب الأخير لا يقلل من قيمتها التجريدية، بل يؤكد وثاقتها بطريق عملي، يصبح أشبه (بالحدس الحسي)، وكما يقول (يجب أن نعرف لنقدر، ويجب أن نقدر على إعداد العمل النافع).

وسيرى القارئ - إن شاء الله - في العدد القادم كيف انفردت الرياضة بمنهج خاص، وما يستتبع ذلك من تكوين (الروح الرياضي) وأثر ذلك كله في شتى العلوم.

محمد محمود زيتون

ص: 16

‌6 - دعوة محمد

لتوماس كارليل

تتمة البحث

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

عظمة محمد:

إني لأحب محمداً - وليس في مقدور أي إنسان منصف لعقله إلا أن يحب هذا الرجل - وذلك لبراءة طبعه من الرياء والتصنع. فلقد كان محمد هذا رجلاً مستقل الرأي، لا يعول إلا على نفسه ولا يدعي ما ليس فيه، لم يكن متكبراً ولكنه لم يكن خانعاً ذليلاً، فهو قائم في جلبابه المرقع كما أوجده ربه وكما أراد له أن يكون، يخاطب بقوله الحر المبين، أكاسر الفرس وأباطرة الروم، يدعوهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، ويرشدهم إلى ما يجب عليهم في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى. وكان يعرف لنفسه قدرها ويضعها في موضعها اللائق بها. فلا يتقدم حيث يجب التأخر، ولا يتأخر حيث يجب التقدم، ولا يقسو حين تستحب الرحمة، ولا يرحم حين تفيد الشدة، ولقد وقعت بينه وبين الأعراب حروب متعددة، لم تخل من مشاهد القسوة، ولكنها مع ذلك لم تخل من دلائل الرحمة وسعة الصدر وكرم الغفران. ومع ذلك فقد كان لا يعتذر من الأولى ولا يفخر بالثانية، فد كان يراها من أوامر شعوره ووحي وجدانه. ولم يكن شعوره لديه بالظنين ولا وجدانه عنده بالمتهم.

وكان محمد رجلاً ماضي العزم قوي الشكيمة لا يؤخر عمل اليوم إلى غده، فقد حدث في غزوة تبوك أن أمتنع المسلمون عن السير إلى ساحات القتال، متذرعين بأن الوقت وقت الحصيد، وبأن الحر شديد لافح، فنظر إليهم نظرة نفذت إلى قلوبهم ثم قال لهم: الحصيد؛ إنه لا يلبث إلا يوماً أو يومين، فماذا تتزودون لحصيد الآخرة، وأما الحر فإنه نعم حر شديد ولكن حر جهنم أشد حراً، فماذا انتم فاعلون هناك.

وقد كان في بعض الأحايين يخرج كلامه سخرية لاذعة وتهكماً مراً؛ من ذلك قوله للكفار، إنكم ستجزون يوم القيامة عن أعمالكم وأنه سيوزن لكم الجزاء، ثم لا تبخسون عن أعمالكم مثقال ذرة.

ص: 17

وما كان محمد عابثاً قط ولا شابت أقواله شائبة لهو أو لعب، بل إنه كان ينظر إلى الأمور نظرة جد ثاقبة، ممزوجة بالإخلاص الشديد والجد المر، فلقد كان الأمر إما أمر فلاح وإما أمر خسران، والحياة إما حياة بقاء أو حياة فناء. أما التلاعب بالأقوال والاستشهاد بالقضايا المنطقية والعبث بالحقائق، فلم يكن من شأنه قط ولا عرف عنه شيء من هذا أبداً، فإن ذلك التلاعب بالألفاظ والقضايا المنطقية. . . عندي لمن أفظع الجرائم وأكبر الدلائل على كذب المرء وعبثه. إذ أن هذه الأشياء ليست إلا رقدة القلب ووسن العين عن الحق، وبرهان على عيشة المرء في مظاهر كاذبة، وليس يستنكر من إنسان يتخذ التلاعب بالألفاظ والقضايا المنطقية، هو أن جميع أقواله وأفعاله أكاذيب وأضاليل؛ بل إنه هو نفسه أكذوبة، إنه إنسان كاذب ولكنه مصقول اللسان مهذب القول، يلقى احتراماً في بعض الأزمان وبعض الأمكنة، لا تؤذيك بادرته، لأنه لين الملمس رفيق المس، لكنه كحمض الكربون تراه على لطفه سماً نقيعاً وموتاَ ذريعاً، والأدهى من ذلك أن خصلة المروءة والشرف - شعاع الله في مخلوقاته - نجدها متضائلة في ذلك الإنسان كما أنه يكون مضطرباً بين عوامل الحياة والموت.

أما محمد ذلك الرجل العظيم فإنه من المحال أن يكون كهؤلاء الميتين القلوب الذين لا يعرفون الطريق إلى الله. إنه من المحال أن يكون كاذباً مثل هذا الرجل الكبير؛ فإني أرى الصدق أساسه وأساس كل ما جاء به من فضل ومحمدة. وعندي أنه ما من أحد من الرجال الذين يسمونهم العظماء أمثال - نابليون أو بارنزا أو كرموبل أو ميرابو وغيرهم -، ينال النجاح والفوز في عمل يقوم به إلا إذا كان الصدق والإخلاص وحب الخير أول بواعثه على محاولته فيما يحاول، أي أن صدق النية والجد في الإخلاص، بل أقول إن الإخلاص - الحر العميق الكبير - هو أول خواص الرجل العظيم وأهم صفاته. وأنا إذا قلت الرجل العظيم، لا أريد به ذلك الرجل الذي لا ينئي يفتخر أمام الناس بإخلاصه، كلا فإن ذلك الرجل ليس عظيماً بل هو حقير جداً، وإخلاصه إخلاص سطحي لا يقصد به نفع الآخرين، إنما يبتغي به منفعة نفسه، وهذا الإخلاص هو الغالب، إنما هو غرور وفتنة.

أما إخلاص محمد ذلك الرجل العظيم، فقد كان لا يتحدث عنه ولا يفتخر به، بل ربما كان في بعض الأحيان يشعر من نفسه بعدم الإخلاص إذا كان يرى غيره لا يستطيع أن يلتزم

ص: 18

منهج الإخلاص يوماً واحداً فكان يلجأ إلى ربه الذي لا ملجأ منها إلا إليه يطلب منه أن يرزقه الإخلاص.

لقد كان إخلاص محمد غير متوقف على إرادته، فهو مخلص على الرغم من نفسه سواء أراد أم لم يرد، وكيف لا يكون مخلصاً إخلاصاً حقيقياً، وهو يرى الوجود حقيقة كبرى تروعه وتهوله، ولا يستطيع أن يغمض عينيه على جلالها الباهر، وهو يرى الكون مدهشاً ومخيفاً حقاً كالموت وحقاً كالحياة، وهذه هي الحقيقة التي لم تفارقه أبداً وإن فارقت أكثر الناس، فساروا على غير هدى، وخبطوا في دياجير الظلام وغياهب العماية والضلال، وهكذا خلق الله محمداً ذا عقل راجح ونظر ثاقب، وإخلاص في غير تفاخر، وهذه هي أهم أسباب العظمة.

كانت الحقيقة الكبرى ماثلة دائماً نصب عينيه، حاضرة أبداً في ذهنه كأنها منقوشة بحروف من اللهب، وهذه هي أولى صفات العظيم، وبها يمتاز ويعرف. وهي ما أمتاز به محمد، ولا أنكر أنها قد تكون موجودة في الرجل الصغير، لأن كل إنسان خلقه الله جدير أن توجد صفة الإخلاص في نفسه، ولكنها قد تكون وقد لا تكون. أما الرجل العظيم فإنها من لوازمه؛ بل إن الرجل العظيم لا يكون عظيماً إلا بها، وإني أرى أن من أسباب عظمة محمد أنه كان نافذ النظر إلى لباب الحقيقة، يمتاز بنفس شاعرية كبيرة، وآيات تدل على أكرم الخصال وأشرف المحامد، وإني كلما قرأت عنه تبين لي فيه عقل راجح وفؤاد صادق وعين بصيرة، ورجل عبقري لو أنه أراد أن يكون شاعراً لكان من فحول الشعراء، ولو شاء أن يكون فارساً لكان من أشد الفرسان شكيمة، ولو ابتغى ملكاً لكان ملكاً جليلاً مهيباً، ولو أحب أن يكون أي شيء من كل هذا لكانه بغير أن يكلفه أي مشقة أو عناء.

وأي دليل على عظمته وصدق نبوته أقوى من نظرته إلى الكون، فلقد كان العالم في نظره معجزة كبرى تدل على خالق الكون العظيم. كان ينظر إلى الكون فيرى فيه غير ما كان يراه أعاظم المفكرين من الذين كانوا يقولون إن العالم في الحقيقة لا شيء أما محمد فقد كان يرى العالم آية منظورة ملموسة على وجود الله، بل إن ظل الله علقه على صدر الفضاء، وكان يقول: إن هذه الجبال، هي أوتاد الأرض، وهي رغم عظمتها وشموخها ستذوب وتصير كالعهن المنفوش في يوم القيامة (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال

ص: 19

كالعهن المنفوش) في يوم القيامة ستتصدع الأرض وتتفتت وتذهب في الفضاء هباء منثوراً.

وكان سلطان الله وعظمته لا يزال واضحاً لعينه على كل شيء، وأن كل مكان مملوءة بقوة مجهولة ورونق باهر وهول عظيم، إن هذا الكون هو الحقيقة الصادقة، والجوهر القوي، هكذا كان محمد ينظر في الكون، وهذا ما يسميه علماء العصر الحديث القوى والمادة. ولكنهم لا يرونه شيئاً مقدساً، بل إنهم لا يرونه واحداً، بل أشياء متعددة تباع وتشترى بالدرهم والدينار، وتستخدم في أغراض الناس وإصلاح حالهم أو إفساده، فهم لا ينظرون إليها على أنها سر من أسرار الله في الكون.

إن العلوم الحديثة من كيماويات وحسابيات، قد أنستنا ما يكمن في الكائنات من سر إلهي وعظمة تدل على الخالق القوي القدير. فما أفحش ذلك النسيان عاراً وما أشد هذه الغفلة إثما، فإذا نسينا قوى الله في العالم فأي الأمور يستحق أن يذكر، إن العالم اليوم يسير في مجاهل الغرور والضلال، وصار الناس يفتخرون بما بلغوا من علوم ومخترعات، ولو كان لهم نظرات صادقة لرأوا أن معظم علومهم أشياء ميتة بالية، وأن مخترعاتهم بقلة ذابلة، وأن هذه العلوم التي يفتخرون بها لولا سر الله لما كانت إلا خشباً يابساً ميتاً، ليست بالشجرة النامية التي تعطي الثمر اللذيذ المفيد، ولا بالغابة الكثيفة الملتفة التي لا تبرح تعطينا الخشب الذي نستفيد به، ووالله لن يجد المرء - إذا أبتعد عن طريق الله - السبيل إلى العلم إلا شقشقة كاذبة، وبقلة كما قلت ذابلة.

محمد رسول الله:

مثل هذا الرجل هو ما نسميه رجلاً أصيلاً كريم العنصر صافي الجوهر، وهو رسول مبعوث من لدن القوة العلية أرسلته إلينا برسالة قدسية فيها لنا هدى وتبصرة، وقد نحار في تسميته فنسميه شاعراً أو نبياً أو إلهاً. . . وسواء كان هذا أو ذاك، فالذي يجب أن نعلمه أن ما جاء به هو من عند الله، وأن قوله ليس مأخوذاً من رجل غيره؛ وإنما هو صادر عن الأبدية السرمدية وأنه من لباب الحقائق.

ولن أكون مغالياً إذا قلت إن مثل هذا الرجل يرى باطن كل شيء لا يحجب عنه ذلك اصطلاحات كاذبة ولا اعتبارات باطلة ولا معتقدات وعادات سخيفة، فقد نزه نفسه عن

ص: 20

النظر إلى هذه الأشياء كلها. وكيف ينظر إنسان إلى هذه السخافات وهو يرى الحقيقة تسطع أمام عينيه قوية باهرة حتى ليكاد نورها يغشى عينيه، وفي رأيي أن محمداً مخلوق عظيم من فؤاد الكون وأحشاء الدنيا وأنه جزء من الحقائق الجوهرية، وقد دل الله على أنه رسول إلى هذا العالم بعدة آيات، أهمها أنه علمه العلم والحكمة وأمره أن يدعو الناس إليهما، ثم أوجب عليه الإصغاء إليه قبل كل شيء، لأن الرسالة التي بعث بها هي الحق الصراح، وليست كلماته إلا أصواتاً صادقة صادرة من مصدراً على لا ندركه نحن، فإذا عرفنا هذا استحال علينا أن نعد محمداً هذا أبداً رجلاً كاذباً أفاقاً يتصنع الحيل ويتذرع بالوسائل طمعاً في ملك أو سلطان أو غير ذلك من صغائر الأمور وحقائر الأشياء. كلا ليس محمد بالكاذب ولا الملفق، وإنما هو قطعة من الحياة الأبدية قد تفتح عنها قلب الطبيعة، وإنما هو قبس من النور المقدس يشع من الأبدية فإذا هو شهاب قد أضاء سناء العالم أجمع (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) وهذه حقيقة تدفع كل باطل وتدفع حجة الدجالين وتدحض افتراء الكاذبين المفترين.

إن قوماً قد اعترفوا بنبوة محمد ولكنهم قالوا إنه وقع في بعض الأخطاء وليس في مقدور أي إنسان أن يثبت على محمد هفوات وأخطاء تذر بتلك الحقيقية الكبرى الظاهرة لكل عين بصيرة. وهي أن محمد رجل صادق ونبي مرسل من رب العالمين. ولا نكلف أنفسنا شططاً فنجسم الهفوات ونجعل من الجزئيات حجباً تحجب عنا نور الحقيقة الباهرة.

إن أخطر الذنوب وأكبر الآثام ليهون أمرها إذا كان لباب النفس حراً كريماً وسرها شريفاً، إذ أنها لا بد تائبة عما ارتكبت، وفي التوبة النصوح والندم الصادق ولذع الذاكرة ووخز الضمير المكفر الأكبر للسيئات، والمطهر للروح من أدران الشوائب والموبقات. إن التوبة الصادقة في نظري أكرم أعمال المرء جميعها وأقدس أفعاله كلها.

أما إذا حسب المرء نفسه بريئاً من كل ذنب، بعيداً عن كل خطأ فإنه يكون في نظري خالياً من الوفاء والمروءة، بعيد عن الحق والتقى والخير، وإن نفسه لتكون ميتة - وإن شئت فقل إن نفسه تكون نقية نقاء الرمل الجاف.

والذي يعرف سيرة نبي الله داود وتاريخه كما هو مدون في مزاميره، يرى أنه أكبر دليل وأصدق شاهد على ارتقاء النفس البشرية في مدارج المكرمات، وأن الحرب بين العقل

ص: 21

والهوى إن هي إلا حرب طالما ينهزم فيها العقل هزيمة تضعضع جانبه وتتركه على شفا الانقراض وحافة الزلزال. ولكنها حرب تكون مشفوعة دائماً بالتوبة والندم، إنها حرب تستنهض العزم الصادق وتحدد قوى الإيمان بوجوب انتصار العقل وهزيمة الهوى، هذا إذا كان جوهر النفس نقياً ولبا بها حراً، فإن الخير فيها سينتصر على الشر لا محالة.

يا ويل النفس الإنسانية بين ضعفها وقوة شهواتها، وما أشد خطبها بين قوى الخير والشر، أليست حياة الإنسان سلسلة من العثرات؟ وهل في مقدرو الإنسان أن يتفادى كل العثرات وينجو منها. إن المرء لا ينهض من عثرة إلا على أخرى. وبين هذه وتلك عبرات ونحيب وبكاء وشهيق وزفرات ونشيج. فإن استطاع بعد طول المجاهدة أن يغلب على هواه كان ذلك فوزاً عظيماً،

وكان دليلاً على لباب نفسه حقاً وجوهرها صحيحاً. وفي هذه الحالة يمكننا أن نتجاوز عن الجزئيات، لأنها وحدها لا تستطيع أن تجلو لنا الحقيقة وتعرفنا معدن النفس.

إن حياة المرء العادية هي الحياة التي تكشف لنا عن جوهر نفسه وحر معدنه؛ لأنه سيكون فيها سائراً على سجيته بغير كلفة ولا تصنع.

ونحن إذا تتبعنا محمداً في حياته اليومية خرجنا بما يثبت صحة ما نقول، من أنه مبعوث الأبدية ورسول العناية القدسية.

فقد كان محمد صوت فؤاد يهيم بين الرجاء والخوف، الرجاء والأمل في سعة ورحمة ربه. . . والخوف من ارتكاب الذنوب وهول يوم الحساب رغم أنه كان متديناً شديد التمسك بدينه. . موعوداً من ربه بالمثوبة وحسن الجزاء. وقد تروى عنه مكرمات عالية وتذكر له صفات هي في الذروة من الصفات الإنسانية، فعندما مات أبنه إبراهيم قال: إن العين لتدمع والقلب ليوجع والنفس لتجزع ولا نقول ما يغضب الله. . . ولما استشهد مولاه زيد بن حارثة في غزوة (مؤتة) قال محمد: لقد جاهد زيد في الله حق جهاده، وقد لقي الآن ربه خالصاً فلا بأس عليه. غير أن أبنت زيد رأت محمداً بعد ذلك يبكي على جثة أبيها، رأت الرجل الذي دب المشيب في مفرقيه تسيل عينه دمعاً ويذوب قلبه حزناً، فنظرت إليه متعجبة، ثم قالت: ماذا أرى؟ فقال لها: صديقاً يبكي صديقه. إن مثل هذه الأقوال وهاتيك الأفعال لتوضح لنا شخصية محمد وترينا أنه كان أخا الإنسانية الرحيم الذي بعثه الله رحمة

ص: 22

للعالمين، إن مثل هذه الصفات التي أمتاز بهامحمد والأحكام التي جاء بها القرآن والتعاليم التي أختص بها الإسلام، كل هذه جميعاً هي التي أخرجت العرب من الظلمات إلى النور، وأحيت بها أمة كانت هملاً بين الأمم، فجعلتها تمسك بزمام العالم تقوده إلى بر الأمان.

وهل كان العرب إلا فئة من الرعاة الجوالين خاملة فقيرة تجوب الفلاة منذ أن خلق الله العالم، لا يسمع لها صوت ولا تحس لها حركة ولا يقام لها وزن.

فلما جاء محمد من عند الله وبرسالة من قبله، بدل أمرهم فإذا الضعة قد استحالت رفعة ومجداً، والخمول شهرة والضعف قوة، وإذا الظلام نور شع سناه في جميع الأنحاء وعم نوره الأرجاء، ووصل شعاعه الشمال بالجنوب والمشرق بالمغرب، ولم يمض غير قرن من الزمان على بعثة محمد حتى بلغ العرب الذروة في المجد، وأصبح لهم رجل في الهند ورجل في الأندلس، وأضاء نور الإسلام دهوراً عديدة نصف الكرة الأرضية، وتمتع الرعايا الذين كانوا تحت حكم الإسلام بفضل الإسلام ورونق الحق ونبل المسلمين ومروءتهم وشجاعتهم وبأسهم ونجدتهم، وهدى الله الكثير منهم فشرح صدرهم للإسلام فدخلوا فيه طائعين مختارين بعد أن عاشروا أهله ورأوا ما في الإسلام من تعاليم تكفل العدل وحر الحياة لكل أفراد الرعية، وهذا حال الحكم الإسلامي ما دام الإيمان القوي - الذي هو مبعث الحياة ومنبع القوة - يملأ نفوس المسلمين ويرسم لهم مناهج الحكم وسبل الحياة.

إن في استطاعة المسلمين في أيمن العصور أن يصلوا إلى أرقى مدارج الفضل وأن يبلغوا ذرى المجد إذا اتخذوا اليقين مذهبهم والإيمان الصحيح منهجهم، وما دام الإسلام وتعاليمه رائدهم. فالإسلام نور ونار، نور يهدي إلى الحق والى الطريق المستقيم (يهدي به الله من أتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) ونار تحرق كل شوائب النفوس وأقذارها فتصفي معدنها وتحيي ميتها.

ألستم ترون في حالة محمد مع أولئك الأعراب الوثنيين عندما جاءهم بدعوته، كأنما وقعت من السماء شرارة على تلك الفيافي الواسعة التي لا يرجى فيها خير ويبصر بها فضل، فإذا هي بانفجار سريع قوي يبدل حالها ويضيء ظلامها ويحيي مواتها، وإذا الرمال الميتة قد تأججت واشتعلت واتصلت نارها بين غرناطة ودلهي، وهذا أكبر دليل على صدق محمد

ص: 23

وعظمته، ولطالما قلت إن محمداً شهاب أرسلته السماء وكان الناس جميعاً في انتظاره كأنهم حطب يابس، فما هو إلا أن سقط عليهم حتى تأججوا والتهبوا وصاروا خير أمة أخرجت للناس.

خاتمة:

وعلى كل حال فالدين الذي جاء به محمد دين عالي فيه للمبصرين أشرف معاني الروحانية وأعلاها، فاعرفوا له فضله ولا تبخسوه حقه، فقد مضى على ظهور محمد ودعوته مائتان وألف عام ولا يزال هو الدين القويم والصراط المستقيم لأكثر من خمس العالم، يؤمن به أهله من أعماق أفئدتهم، ولا أحسب أن أي أمة حتى أمة النصارى قد اعتصمت بدينها اعتصام المسلمين بالإسلام، لأنهم يوقنون به كل اليقين ويواجهون به الدهر والأبد، وكيف لا وهو أصلح دستور للحكم وأقوم طريق لقيادة الشعوب إلى السلام الدائم والعدل المقيم. وإن في استطاعة المسلمين ذوي الغيرة في الله والتفاني في حبه، أن يأتوا شعوب الوثنية بالهند والصين والملايو، فيهدمون أضاليلهم ويشيدون مكانها قواعد الإسلام. ونعم ما يفعلون.

إن العالم اليوم في حاجة إلى قيادة حكيمة وحكم قوي يؤمن بالمثل العليا لينقذه مما هو فيه. ولن يكون له ذلك إلا في الإسلام الصحيح وأتباع دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.

تم البحث

عبد الموجود عبد الحافظ

ص: 24

‌لا يا حضرة القاضي أنا مستأنف

للأستاذ عبد الجواد رمضان

قرأت ما كتب القاضي الفضل الأستاذ علي الطنطاوي في العدد الأخير من الرسالة، تحت عنوان:(أنا مع سيد قطب)

ولا كلام لي مع سيد قطب، ذلك الأستاذ الذي أحبه، وأجله - على غير رابطة ولا اتصال - وأشهد الإخلاص في كل ما يكتب، وإن خالف وجهة نظري أحياناً؛ ولا مع تلميذي وصديقي الأستاذ رجب البيومي، الذي آلمني - علم الله - أن يتورط في موقف لا خير فيه.

وإنما دفعني دفعاً إلى كتابة هذه الكلمة، حديث ذلك الكاتب الرائع، المؤمن حق المؤمن، الذي تطير به كتاباته إلى آفاق من الروحية، يعييني التطلع إليها عند غيره من كرام الكاتبين: الأستاذ علي الطنطاوي، وما أصدره من أحكام تعوزها (الحيثيات) ويخونها التعليل.

وقد حاولت أن أهزمه بضربة قاضية من أول جولة، حتى لا أدع له فرصة مساجلتي أو الرد علي، فبحثت في أعداد الرسالة التي تملأ البيت عن مقال له في بني أمية نشرته منذ سنتين أو ثلاث على ما أذكر، طار بهم فيه إلى عنان السماء؛ ثم أنسخه وأبعث به إلى الرسالة لتعيد نشره من جديد، فأظفر بالقلج من أيسر طريق؛ ولكن الحظ كان معه علي، فقد ذهب بحثي أدراج الرياح، بعد عناء طويل.

وإني اختصر الطريق إلى فضيلة القاضي، فألقاه وجاها، دون مداورة ولا مجاملة، ولا احتيال؛ وأقرر - في صراحة - 1 - أنه أحال، في اعترافه (بأن لبني أمية في نشر الإسلام، وفي فتح الفتوح فضلاً لا ينكره أحد، ثم إنكاره أن تكون دولتهم دولة إسلامية - 2 - وأنه أخطأ في أن معاوية هدم أكبر ركن في صرح الدولة الإسلامية حين أبطل الانتخاب الصحيح وجعله انتخابا شكلياً مزيفاً، وترك الشورى الخ الخ.

ومعاوية رضي الله تعالى عنه من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد كتاب وحيه؛ والخلافة مسألة اجتهادية لم ينص فيها الشرع على وضع معين، اتكالاً على الاجتهاد فيها لمصلحة المسلمين؛ فقد لحق الرسول بالرفيق الأعلى دون أن يقرر فيها رأياً

ص: 25

خاصاً، وأستخلف أبو بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ ووضعها عمر في أهل الشورى. روى الطبري أن عمر رضي الله عنه لما طعن، قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت؟ قال من أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً استخلفته، فإن سألني ربي، قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً، استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إن سالماً شديد الحب لله. فقال له رجل: أنا أدلك عليه: عبد الله بن عمر، فقال: قاتلك الله! والله ما أردت الله بهذا، ويحك! كيف أستخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته؟ وأنظر، فإن استخلفت، فقد أستخلف من هو خير مني، وأن أترك، فقد ترك من هو خير مني، وأن يضيع الله دينه، وما أريد أن أتحملها حياً وميتاً. عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم من أهل الجنة الخ.

وقد ولى معاوية بعد صراع، رجحت فيه كفته سياسياً، ثم حربياً بعد اختلاف جند علي عليه، ثم صالحه الحسن، وسلم له الأمر، بعد استشهاد الإمام فاجتمع عليه أمر الأمة، ولا تجتمع أمة محمد على ضلالة.

عن الزهري، أن الحسن بن علي لما أستخلف، كان عنده شرطة الخميس التي ابتدعها العرب، وكانوا أربعين ألفاً بايعوا علياً على الموت، وعلى مقدمتهم قيس بن سعد؛ ولكن الحسن كان لا يريد القتال، وإنما يريد الدخول في الجماعة؛ وكان قيس يخالفه في هذا الرأي، فشغب الجند بالحسن، ونهبوا سرادقه، حتى نازعوه بساطاً كان يجلس عليه، وطعنه أحدهم؛ فلما رأى الحسن تفرق الأمر عنه، بعث إلى معاوية يطلب الصلح، وخطب أهل العراق فقال: يا أهل العراق، إنه سخي بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي.

وقال للحسين وعبد الله بن جعفر: إني قد كتبت إلى معاوية في الصلح وطلب الأمان، فقال الحسين: نشدتك الله أن تصدق أحدوثة معاوية، وتكذب أحدوثة علي! فقال له الحسن: اسكت، فأنا أعلم بالأمر منك. ولما علم بذلك عبد الله بن عباس، كتب إلى معاوية يسأله الأمان. ودخل الناس في طاعة معاوية.

ومعاوية مجتهد، ما في ذلك من شك، وقد أقره على اجتهاده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب

ص: 26

رضي الله عنه، وناهيك!

قال الطبري بسنده: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فرأى معاوية في موكب يتلقاه، وراح إليه في موكب، فقال له عمر: يا معاوية، تروح في موكب وتغدو في مثله؟! وبلغني أنك تصبح في منزلك، وذوو الحاجات ببابك؛ قال: يا أمير المؤمنين، إن العدو بها قريب منا، ولهم عيون وجواسيس، فأدرت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزاً.

فقال له عمر: إن هذا لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب!

فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، مرني بما شئت، أصره إليه. قال ويحك! ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه، إلا تركتني ما أدري: آمرك أم أنهاك.

وإذن فما فعله معاوية من صميم الإسلام، ولو كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبي الإسلام حياً لأقره عليه، وقبله منه.

فالواحدة التي بألف ليست عند معاوية - وحاشاه - ولكنها عند من تجنى عليه!

فأما ما أخذه فضيلة القاضي على بني أمية - بالجملة - من تحكم الشهوات في مصلحة الأمة، واختيار شر الولاة، وعدوانهم على الحريات، وقتلهم العلماء كالحسين وأبن جبير الخ الخ الخ.

فلعمري، دولة يعد منها: عبد الملك بن مروان، الذي كان الإمام مالك إمام دار الهجرة يحتج برأيه، والذي حمله على تأليف (الموطأ). وسليمان بن عبد الملك الذي يعد الإمام عمر بن عبد العزيز حسنة من حسناته؛ والوليد بن عبد الله الذي خفقت في أيامه راية الإسلام على ثلاث أرباع العالم المعمور وقتئذ، وهشام بن عبد الملك الذي أتم تعريب الدولة؛ أقول: إن دولة منها من ذكرت، لدولة لم تغلبها الشهوات، ولا مال بها الهوى عن الاجتهاد للأمة وللإسلام، ولا يضيرها أن كان منها بعض الأعضاء الفاسدين، فالكمال المطلق لله!

والقاضي خير من يعرف أنه لولا الحجاج وأمثاله لانتهى الإسلام بانقضاء عهد الخلفاء الراشدين. ولقد تمرد الخوارج على علي الإمام الراشد، ولم يفرقوا في ائتمارهم المعروف بينه وبين صاحبيه معاوية وعمرو؛ والله يعلم أي كارثة كانت تصيب الإسلام لو تم ائتمارهم على الوجه الذي أرادوه. فالحجاج والقسري وبنو الملهب من هؤلاء الجبارين حقاً ليسو شراً ممن سلطوا عليهم، ولا يفل الحديد إلا بالحديد.

ص: 27

وإن قلبي ليبكي قبل جفني، حينما أذكر مصارع آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم وأولهم الحسين، ولكني أشرك شقيقه الحسن في دمه؛ على أن زمام الجيوش كثيراً ما يفلت من إدارة الولاة، خصوصاً في الدول التي يعظم حظ أفرادها من الحرية كالدولة العربية. وعلى الجملة فما أجتمع الناس على إمام، فإن الخروج عليه جريمة في نظر الشرع.

وليس مما يقبل من فضيلة القاضي أن العباسيين قلدوا الأمويين في شرورهم، فإن العباسيين أعظم في أنفسهم من أن يتأثروا أحداً، وهم - في نظرهم على الأقل - بيضة الإسلام وذووه. والدليل على ذلك تمثيلهم بني عمومتهم الطالبيين إلى تمثيلهم بالأمويين.

أما بعد، فإنني أختم كلمتي هذه، التي طالت رغم أنفي - بما قاله أبن السبكي صاحب جمع الجوامع في أصول الفقه - باب العقائد - ص347 جـ2:

(ونمسك عما جرى بين الصحابة من المنازعات والمحاربات التي قتل بسببها كثير منهم؛ فتلك دماء طهر الله منها أيدينا، فلا نلوث بها ألسنتنا. ونرى الكل مأجورين في ذلك، لأنه مبني على الاجتهاد في مسألة ظنية، للمصيب فيها أجران على اجتهاده وإصابته، وللمخطئ أجر على اجتهاده؛ كما يثبت في حديث الصحيحين أن الحاكم إذا أجتهد فأصاب فله أجران وإذا أجتهد فأخطأ فله أجر. اهـ بنصه.

فهل لي أن أطلب من حضرات الباحثين في هذه الموضوعات أن يعملوا بهذه (العقيدة الإسلامية) وفي شؤوننا الحاضرة ما يغنينا، عن تبديد تراثنا الخالد على وجه الزمان؟

عبد الجواد رمضان

ص: 28

‌شعراء من أشعارهم

عدي بن زيد العبادي

للأستاذ محمود عبد العزيز محرم

وعلى شعر عدي بن زيد مسحة من حزن دفين. وقد يحار المرء في تعليل هذا الحزن والبحث عن أسبابه. ولا يجوز أن نقول إن هذا الحزن قد ألم بعدي بعد أن فسدت عليه الأيام وأوقع به النعمان وحبسه، لأنا نراه في شعره من قبل هذا، من يوم أن كان حراً طليقاً، صديقاً للملك ومحبوباً منه، فهو كان من قبل الوقيعة ومن بعد. وأظنك تذكر الأبيات التي أنشدها عدي النعمان حين خرجا بظاهرة الحيرة يستريضان، والتي وعظه بها، وتنصر النعمان بسببها، وتنصر أبناؤه وأهل بيته وبنوا البيع والأديار. إن أكثرشعر عدي موسوم بالأشجان والأحزان، ولا تجد غير القليل منه طليقاً من إسارها. ومن هذا القليل الأبيات التي ذكرتها لك يتغزل فيها عدي بهند ويشبب بها. ومنه أيضاً:

يا لبيني أوقدي النارا

إن من تهوين قد حارا

رب نار بت أرمقها

تقضم الهندي والغارا

عندها ظبي يؤرثها

عاقد في الجيد تقصارا

ويقول في بعض أخلاق نفسه:

ألا يا ربما عز

خليلي فتهاونت

ولو شئت على مقد

رة مني لعاقبت

ولكن سرني أن يع

لموا قدري فأقلعت

ألا. لا فسألوا الفتي

ة ما قالوا وقد قمت

ولعل من بواعث هذا الحزن أن عدياً قد نشأ في غير بلاده، فقد كان منزل سيده أيوب بن محروف باليمامة في بني امرئ القيس بن زيد مناة، فأصاب دماً في قومه، فهرب ولحق بالحيرة.

ولعل من بواعثه أن زيد بن أيوب قتل في هذا الدم الذي أصابه أبوه في بني امرئ القيس، فقد قتله رجل منهم بعد أن تعرف عليه وأقتص نسبه ومنزله.

ولعل من بواعثه ما كان يراه لدى الملوك - وأنت تعلم أنه عمل لكسرى، وأنه زار قيصر،

ص: 29

وأنه صديق الملك النعمان - من مآثم وجرائم ودس ومكائد، أطلع على بعضها وسمع ببعض آخر.

ولعل من بواعثه أنه كان رجلاً مثقفاً أديباً. ومثل هذا يتدبر في أحوال الناس وحوادث الأيام، ويتبصر فيها، ويفكر فيمن نزلت بهم. ومثل هذا يكون ذكي القلب مرهف الحس رقيق العاطفة. وأنت تعلم أن الارتحال يكسب الإنسان الخبرة، وتعلم أنه يصقله ويهذبه، وتعلم أنه يفسح مجال تفكيره ويزيد في معرفته. وأنت تعلم أن عدياً كان عالماً بالفارسية، وعالماً بالعربية، فهو قارئ كاتب مطلع على أخبار من تقدموه.

ولعل من بواعثه أن ملك الحيرة كان في أيديهم - في يد زيد أبي عدي - قبل المنذر أبي النعمان، ثم تولاه عنه المنذر. وعلاوة على هذا فإن أهل الحيرة ولوا زيداً أبا عدي الحيرة وأبقوا أسم الملك للمنذر بعد أن غضبوا عليه وثاروا به. فهم كانوا ملوكاً حيناً. ثم كانوا شركاء في الملك حيناً آخر. ولا يبعد أن يطمح شاب كعدي إلى مثل هذا، فإذا ما غلب على أمره، وإذا لم يظفر بما يريد، وإذا كان ملك الحيرة خالصاً للنعمان، فإن هذا قد يخلف أثراً سيئاً في نفس عدي، يدعه يجتر أفكاره وآماله، ويجعله ينظر إلى الحياة بمنظار قاتم.

يبدو أن حياة عدي لم تكن سهلة، بل كانت معقدة، وكانت لا تسير على ما يهوى. ويبدو أنه كان يبذل نشاطاً كبيراً ولكن هذا النشاط كانت تعترضه مشقات كثيرة. لقد كان يكافح غير أنه لم يكتب له الظفر ولم تدنه الأيام مما يريد. وتأمل هذه الأبيات:

وعاذلة هبت بليل تلومني

فلما غلت في اللوم، قلت لها اقصدي

أعاذل ما أدنى الرشاد من الفتى

وأبعده منه إذا لم يسدد

أعاذل من تكتب له النار يلقها

كفاحاً. ومن يكتب له الفوز يسعد

أعاذل قد لاقيت ما يزع الفتى

وطابقت في الحجلين مشي المقيد

أعاذل ما يدريك أن منيتي=إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

بليت وأبليت الرجال وأصبحت

سنون طوال قد أتت قبل مولدي

فلا أنا بدع من حوادث تعتري

رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعد

تأمل هذه الأبيات فستجد في نفس هذا الشاعر شياً يريد أن يفصح عنه، شيئاً تعجز الأبيات عن احتماله والإبلاغ عنه، معنى مخنوقاً من طول ما توارت عليه الأيام بالطعن والتنكيل.

ص: 30

ثم تأمل هذه الكلمات (الرشاد - النار - الكفاح - الفوز - بليت أو أبليت الرجال - فلا أنا بدع من حوادث تعتري) هذه الكلمات القصار دالة على كفاح هذا الرجل في حياته، وسعيه للفوز والنجاح، ولكنه لقي من الحوادث العنت والقسوة، وثنته الأيام عما يريد ويأمل.

لقد تربى عدي في أحضان النعمة، وخالط الأغنياء والموسرين والملوك، وكتب للملوك وسفر لهم. وكان بعيد مطارح الآمال، لأنه رأى أباه شريكاً في الملك، بعد أن كان الملك له خالصاً. وكان قارئاً كاتباً ملماً بكثير من الأخبار والأحداث. وكان رقيق الحاشية وذا طبع مهذب أنيق. وكل هذا لم يكن من وسائل الترفيه عنه بل كان من العوامل والبواعث التي تبتعث أشجانه وأحزانه، والتي أضفت على شعره لوناً قاتماً بائساً.

وإذا عرفت أنه فيما بعد قد أصهر النعمان بزواجه من هند، وأن هذا الزواج لم يكن موفقاً للأسباب التي أسلفناها لك، وإذا عرفت أن أعداءه لم يهادنوه بل اتخذوا كل ما وقعوا عليه وأولوه تأويلاً سيئاً للإيقاع به. وإذا عرفت أن أعداء عدي أوقعوا الشك في نفس النعمان حين زعموا أن عدياً يرى أنه صنيعته وأنه ولاه ما ولاه. وإذا عرفت هذا كله عرفت أن حياة عدي من قبل أن يغضب عليه النعمان، ومن بعد، كانت شائكة مثيرة محرجة، لا تدع صاحبها يتنسم راحة ولا يعرف قراراً.

كل هذا أنعكس على شعر عدي، فخرج حزيناً بائساً شاكياً، وترجم عن نفس لم تجد في الحياة منافذ لتحقيق الآمال، فشكت أحوال دنياها في أبيات حزينة. ولذلك يكرر عدي قوله عن صروف الأيام وأحداثها، وما توقعه بالإنسان من هم وحزن وقتل للآمال وغبن في الحقوق. وإذا كان هذا شأنها فعليه أن يرشد نفسه، وأن يتدبر أفاعيلها، وألا يغتر بها:

لم أر مثل الفتيان في غبن ال

أيام ينسون ما عواقبها

ينسون إخوانهم ومصرعهم

وكيف تعتاقهم مخالبها

ماذا ترجى النفوس من طلب ال

خير وحب الحياة كاربها

يظن أن لن يصيبها عنت الد

هر وريب المنون صائبها

ويقول أيضاً:

كفى زاجراً للمرء أيام دهره

تروح له بالواعظات وتغتدي

وعدي قد طوف بكثير من البلاد. وعرف من أخبار الروم والفرس والعرب الشيء الكثير.

ص: 31

وهو قد قرأ عن الغابرين الأول، وأمتحن الدنيا حتى تكشفت له عن لون قاتم وقد ذكر في شعره بعض ما عرف. وأظنك سمعت عن قصة الزباء وجذيمة وقصير الطالب بالثأر. وهذا عدي يقصها علينا في شعر له، ويذكر كيف خدعت الزباء جذيمة وأردته، وكيف قام قصير يطلب بالثأر حتى جدع أنفه بالموسى، وكيف ساق إليها العيس بما دهاها وأذلها، وكيف جعل الفرسان في مسوح الرهبان، على حين لم تتوقع من قصير هذا أذى ولا ضراً على فرط حذرها من الناس:

أطف لأنفه الموسى قصير

ليجدعه، وكان به ضنينا

فأهواه لمارنه، فأضحى

طلاب الوتر مجدوعاً مشينا

وصادفت امرأ لم تخش منه

غوائله، وما أمنت أمينا

إذا ما أرتد عنها أرتد صلباً

يجر المال والصدر الضغينا

وقد هلك جذيمة وهلكت الزباء. وهكذا الحوادث والمنايا لا يعفين أحدا من الابتلاء بهن، وإن كان مجدوداً فهن يتركنه إلى حين:

وأبرزها الحوادث والمنايا

وأي معمر لا يبتلينا

إذا أمهلن ذا جد عظيم

عطفن له ولو في طي حينا

ولم أجد الفتى يلهو بشيء

ولو أثرى، ولو ولد البنينا

وأقرأ هذه القصيدة فهي تكشف أيضا عن تشاؤم عدي وشجنه، وسوء ظنه بالأيام. وتدل

على مدى معرفته بما حوله ومن حوله. وتدل على إلمامه بشؤون كثيرة:

أيها الشامت المعير بالده

ر أأنت المبرأ الموفور؟

أم لديك العهد الوثيق من الأي

أم؟ بل أنت جاهل مغرور

من رأيت المنون خلدن؟ أم من

ذا عليه من أن يضام خفير؟

أين كسرى؟ كسرى الملوك أنوشر=وان؟ أم أين قبله سابور؟

وبنو الأصفر، الكرام، ملوك الر

وم، لم يبق منهمو مذكور

وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج

لة تجبي إليه والخابور

شاده مرمرا، وجلله كلسام

فالطير في ذراه وكور

لم يهبه ريب المنون، فباد ال

ملك عنه، فبابه مهجور

ص: 32

وتذكر رب الخورنق، إذا أشر

ف يوماً، وللهدى تفكير

سر ماله، وكثرة ما يم

لك والبحر معرضاً والسدير

فأرعوى قلبه، فقال: وما غب

طة حي إلى الممات يصير

ثم بعد الفلاح، والملك، والإم

ة، وأرتهم هناك القبور

ثم صاروا كأنهم ورق جف

فألوت به الصبا والدبور

للبحث صلة

محمود عبد العزيز محرم

ص: 33

‌الوجودية في نظر التحليل النفسي

للأستاذ شاكر السكري

أثبت التحليل النفسي وجوده بين مختلف العلوم والآداب والفنون، لا بل تخطى ذلك كله وتقدم بزهو نحو المكانة اللائقة به في عالم الطب النفسي! وليس هناك من ينكر الخدمات الجبارة التي حققها هذا العلم في خدمة الإنسانية، تلك الخدمة التي تجلت فيها المعرفة الخارقة في كشف أغوار النفس البشرية وما تنطوي عليه من ألغاز وأمور معقدة! كادت أن تفتك فتكاً ذريعاً فيها، كما أثبت لنا هذا الطب الحديث الأخطار النفسية التي كانت تغزو البشرية في معاقلها. . . وكان الفضل الأكبر يعود بذلك (للأستاذ فرويد) ومدرسته الفنية التي خدمت ولا زالت تخدم المجتمع الإنساني في مجال تقدمه ورقيه، هذه لمحة وددت أن أستهلها في بحثي هذا لما لها من علاقة وثيقة بين الموضوع الذي سأتناوله.

سبق لي وتحدثت إلى قراء (الرسالة) الغراء في بعض أعدادها عن (فلسفة الوجودية) وما تحويه من أفكار، وتقوم عليه من آراء، سفسطائية كوميدية، تكاد تلقي بسامعيها من الضحك إلى الوراء!

ولست الآن بصدد كوميديتها، بل في تحليلها تحليلاً صادقاً لكشف ما تحتفظ به من سموم مميتة ومخدرات (مورفينية) لتحقن بها أجسام الناشئة من الشباب الذين لم يتجاوزا بعد دور المراهقة، وربما تعدوا هذا الدور قليلاً! غير أنهم لم يستطيعوا من ضبط أعصابهم والسيطرة على عواطفهم الجامحة.

أقول: الشباب وأقصد بالطبع الفتيان منهم والفتيات

لعل مدينة (النور) تذكر الأدوار التي لعبتها في إغراء الناس من مختلف الطبقات والقوميات، وأخص بالذكر منهم الغرباء النازحين إليها والمقيمين، ولم تقتصر في إغرائها هذا على نفسها بل تعدته إلى نفوس الآخرين.

ولعا (فرويد) غير مرتاح لما يسمعه عن هذه المدينة الطائشة، والمذاهب الانحلالية القائمة فيها.

ويعتبر (فرويد) حسب نظرياته الطيبة أن المذهب (الوجودي) مذهب لحمته التفسخ وسداه الاضمحلال الخلقي، لأنه نشأ في وسط متفسخ بلغت به الفوضى الخلقية حد الجنون! لأنه

ص: 34

ترعرع بين الفترات المظلمة التي خلفتها وتخلفها الحروب البربرية!

ولما كانت هذه الحروب ذات تأثير سيئ على المجتمعات من حيث شكلها ومادتها، ولما تحدثه فيها من انعدام النظام وتفشي الفوضى والأمراض المختلفة بين السكان، كان معنى ذلك أن الفرد أخذ يحس إحساساً قوياً بانعدامه في هذا الوجود المجنون، كما أنه بات لا يشعر قط بوجوده، ولأجل ذلك أخذت فكرة انغماس الفرد في ذاته، وسعياً لتحقيق رغباته، ذلك السعي الذي جعل منه إنساناً (بوهيميا) يعيش لنفسه في جو من الخلاعة والدعارة، كأنه يريد بذلك أن يثبت وجوده (بسلوكه الشاذ) على طبيعته وطبيعة الكائنات المخلوقة الأخرى، وهو بذلك يسلك الطريقة الشائعة (خالف تعرف). هذا من ناحية، أما النواحي الأخرى التي أوجدتها ظروف الحرب، هو الكبت الجنسي الحاصل عند الجنود من جراء بعدهم عن المرأة في ميادين القتال، ولعل هذا البعد يستغرق سنوات طويلة في هذه العزلة الكئيبة التي تخلف في نفوسهم رد فعل عنيف لا يستطيعون معه كبت عواطفهم، وكثيراً ما أدى هذا الكبت إلى انتشار الشذوذ الجنسي بين المحاربين.

كل ذلك أثر من آثار الحروب المدمرة! ولعلنا أدركنا وندرك كم من الحضارات الزاهرة اندثرت! وكم من المدن النضرة أصبحت أثراً بعد عين! وكم من المجاعات الفظيعة انتشرت تأكل بعضها بعضاً، وكم من الحدائق الغناء والمروج الجميلة أضحت أرضاً جرداء لا ماء فيها ولا زرع! بغض النظر عن الكوارث الجسيمة التي يصاب بها المجتمع البشري والتي أوردت بملايين من العوائل إلى البغي والإثم! من جراء الفقر وغزو الفاتح لها. . .

ولعلنا أيضا لم ننس ما حل في أوربا وخاصة في الحربين العالميتين (1914 و1939) من تهتك الفاتحين بعضهم لبعض، وكيف أن الجنود الأمريكيين والإنكليز كانوا يحصلون على بغيتهم من الفتيات العذارى بقطعة من (الشكولاته) أو غيرها.

هذه صورة مصغرة لما حدث ويحدث من جراء هذه الحروب الوحشية!

فلا غرابة إذاً من ظهور مذاهب انحلالية تدعو جهدها لإقامة (الدهاليز الأرضية) وهي ملاجئ تمثل فيها أبشع ما تصوره الغريزة من همجية!

كما أنها تدعو ضحاياها للعيشة الهمجية كما يصوره لها عقلها الباطن (اللاشعور) وكما

ص: 35

ترتضيه غرائزها الجنسية!

ولا يخفى أن العقد النفسية الكامنة في نفوس معتنقي هذه المذاهب تكاد تسيطر تامة على العقل الواعي (الأنا) وتشل حركته لكي يبدأ (اللاشعور) عمله المبعثر ليجمع شتات الأفكار والذكريات القديمة المكبوتة فيه، ليخرجها على شكل (أفعال منقوصة) و (عقائد قاسية) أما الشعور بالنقص الذي يغمر نفوس هؤلاء لم يكن إلا وليد البيئة.

يتبع

شاكر السكري

ص: 36

‌رسالة الشعر

حريق القاهرة

للأستاذ عثمان حلمي

هذي بلادك ذاكر أم ناسي؟

أم حرت ما بين الرجا والياس؟!

زحمتك فيها الحادثات ولم تدع

لك غير محض الخوف والوسواس

فوقفت مشدوه الفؤاد كأنما

تجري مقادرها بغير قياس

وكأنما الدنيا سوى الدنيا التي

عاهدتها والناس غير الناس

ماذا رأيت؟ - وما لأمرك حائراً

ومن الدموع على المصاب مواسي

أسألت ما تلك الطلول فلم يجب

من ناطق فيها سوى أدراس

وعرفت كيف جنى عليها من جنى

من كل جبار الحفيظة قاسي

فإذا المغاني الغاليات كأنها

لم تغن قبل خرابه بأناس

وإذا الديار الشامخات كأنها

في العين مهجور من الأرماس

من كل منهار الجدار كأنما

قامت جوابه بغير أساس

دكت بما فيها وأصبح أهلها

نهب البلى وتصرف الأحراس

وكأنما أيدي المغول تظاهرت

فيها بغير هدى ولا نبراس

فرأيت من بغداد صورة كربها

في مصر - بل في قلبها الحساس

في كل منعرج مكان خافق

أو موحش خال من الإيناس

وبكل ناحية دمار شامل

ومدامع مهراقة ومآس

يا للنفوس ويا لها من فتنة

جنت جنون جوامح الأفراس

إبليس أوقدها وأشعل نارها

وأثارها هذا العين الحاسي

وكأنه قد كان أودع سره

من قبل صدر موسوسخناس

وكأنه والنار تزأر صارخ

أو نافخ في قسوة وحماس

فإذا بأبواب الجحيم تفتحت

وطغى ركام دخانها الجواس

وتشققت سحب الدخان بلامع

كالبرق نور ظلمة الأغلاس

ما بين محمر ومصفر جلا

منها اربداد سحابها العاس

ص: 37

وإذا القلوب لدى الحناجر جاوبت

في الجوف خفق تقطع الأنفاس

من كل من لم يدر أية حيلة

لنجاته إلا الرضى باليأس

أو كل مفتقد صريع قضائه

يبكيه مسكوب المدامع آسي

بطشت به النيران بطشة غادر

كالوحش بالأنياب والأضراس

والقوم إلا الأشقياء لهولها

غشيتهمو سنة من الإبلاس

وقفوا حيارى لا يرون بأعين

أجفانها نعست بغير نعاس

وتقيدوا أن لا نجاة لهول ما

وقعت عليه العين من أرجاس

حتى تداركها المليك بحكمة

محمودة العقبى وعزم رأسي

فإنجاب من قلب الكنانة رعبها

وأنزاح ما أضنى النهى من باس

عثمان حلمي

ص: 38

‌المسرح والسينما

كدب في كدب

مسرحية جديدة للأستاذ محمود تيمور بك

للأستاذ علي متولي صلاح

للأسرة التيمورية فضل على الأدب عريق، فهم منذ أزمان بعيدة سدنة الأدب في هذه البلاد، يتوارثون ذلك كابراً عن كابر، ولا يفتئون يضيفون إلى المكتبة العربية الذخائر والكنوز، ويقدمون لها الآثار الجليلة النافعة. . . ونحن اليوم بصدد الحديث عن أثر من هذه الآثار التي تغمر الأدب العربي الحديث، وهو تمثيلية (كدب في كدب) التي تعرض الآن بدار الأوبرا الملكية، وتنهض بها فرقة المسرح المصري الحديث.

والذي يبدو من وراء سطور هذه المسرحية، أن الأستاذ الجليل محمود تيمور بك ألفها من جراء أزمة قامت بنفسه بفعل قوم أنكروا ما أسدى إليهم من أياد بيضاء، وجزوه عليها جزاء ستمار!! وأغلب الظن أنه لم يكن يعني بشخصية (فواز بك) في هذه المسرحية سوى نفسه، وإن تعمد إخفاء بعض الملامح وتغيير بعض السمات! فإن (فواز بك) رجل سمح طيب الخلق، وتلك خلال نعرفها ويعرفها الناس جميعاً على الأستاذ محمود تيمور بك، نهض بما توجبه المروءة وما يقتضيه الخلق القويم الكريم، فكان جزاؤه العقوق والجحود والنكران، ولكن الأستاذ محمود تيمور بك - خشي فيما بينه وبين نفسه - أن يحس الناس ذلك، وغلبه حياؤه المعروف، فأسرع إلى طمس بعض المعالم لكي ينصرف الناس عنه! ولهذا فإن الفطن اللبيب يستشعر شيئاً من التناقض في شخصية (فواز بك)، ولكن إذا ظهر السبب بطل العجب!

ولا تقوم فكرة المسرحية على هذا المعنى، ولكنها تقوم على فكرة أن الكذب قد ينتهي إلى الصدق، ورب جد ساقه اللعب! فهما شاب وشابة تعرف كل منهما إلى صاحبه في صورة لا تمثل حقيقته، فالشاب فقير يظهر لها الغنى الطائل والثروة العريضة، وهي كذلك تماماً! واستمرت العلاقة بينهما على أساس هاتين الصورتين الزائفتين، ولكن كل خاف سيعلم! وحبل الكذب قصير! وإذا بالحقيقة تنكشف لهما، ولكن الحب كان قد سبق هذه الحقيقة إلى

ص: 39

قلبهما، وصار هو الحقيقة الواقعة! فلم يضعف هذا التكاشف شيئاً منه ولم يطفئ سعيره، بل أستمر الشابان على ما بهما من حب قام أول ما قام على الكذب والبهتان!!

هذه هي فكرة المسرحية، وهي فكرة كما يرى القارئ حسنة ذات قيمة كبرى عند علماء النفس، ولكنها عند رجال المسرح لا تفي للنهوض بتمثيلية كبرى تعرض على الناس في نحو ثلاث ساعات، ولهذا كثرت من حولها الحوادث التي لا تكاد تتصل بها، وازدحم فيها الأشخاص الذين تستغني هذه الفكرة عنهم، ولا تريد منهم عوناً أو مساعدة! وانطلقت الألسن بكلام لا تراه هذه الفكرة لها ولا عليها، ولكنها ترى بينها وبين (كمال الانقطاع) كما يقول علماء البلاغة!

والمسرحية مكتوبة باللغة العامية، وقد أخبرنا الأستاذ الكبير مؤلفها أنها ستطبع بالعامية وبالفصحى، ولكننا نسارع فنشير على الأستاذ الكبير أن يكتفي بالفصحى. . . إننا نريد من الأستاذ محمود تيمور بك العضو في المجمع اللغوي أن يؤدي إلى المسرح المصري خدمة طالما تمنيناها له، وهي تطويع اللغة العربية وتقريبها إلى العامية، مع المحافظة على سلامتها وصحتها، ومع عدم الانحدار بها إلى هذه العامية الكريهة البغيضة الشائهة. . . هذا مطلب نرجو أن يحمل مئونته الأستاذ محمود تيمور بك، ولقد تحقق الكثير منه على يدي صديقنا الأديب الكبير الأستاذ علي أحمد باكثير فلانت لغته كثيراً في مسرحياته الأخيرة، وصارت سهلة رقراقة بريئة من التفاصح، بريئة كذلك من الإسفاف إلى مستوى العامية. . . نرجو جاهدين أن يتم الأستاذ الكبير محمود تيمور بك تحقيق هذا المطلب العزيز، ونرجو جاهدين أن ينأى بجانبه عن استعمال اللغة العامية، وليس ذلك عليه بعزيز.

وكنت أود ألا يكون في المسرحية مثل هذا الشذوذ الذي وقع فيه الزوج (كريم بك) مع ابنة زوجته (كريمة) فإنه شيء ليس في طباع الناس إلا من ابتلاهم اللهبالشذوذ والانحراف، إذ ليس مألوفاً أن نرى الرجل يهم بابنة زوجته كما فعل كريم بك إلا إذا كانت به لوثة أو كان به انحراف عارم، ومثل هذا الانحراف العارم لا يجوز عرضه على المسرح على أنه شيء طبيعي عادي!!

وكان يجمل أن يلقي كثير من الضوء على علاقة (فواز بك) بمن يحيطون به، فإن هذه العلاقة غامضة كثيراً. . .

ص: 40

أما عن التمثيل والإخراج فالحق أن أعضاء هذه الفرقة قد شبوا عن الطرق كثيراً، وثبتوا على خشبة المسرح ثباتاً حميداً، فأذكر منهم - على سبيل المثال - الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني إذ يقوم بدور (فواز بك) في دقة وإلمام تام وتؤدة، وإن كان يبدو أصغر مما ينبغي، والأستاذ عدلي كاسب فقد أتسع بيانه النفسي حتى استطاع أن يلعب أدواراً عديدة يبلغ في كل منها شأواً بعيداً، فقد رأيناه في (مريض الوهم) ورأيناه في (مسمار جحا) ثم رأيناه اليوم في دور (العمدة) عمدة حقاً ولكني أرجو ألا يسرف في المبالغة! وأن يحد قليلاً من حركاته الجسمية، وأن يمضي إلى التلفزيون سريعاً بل واثباً عندما يدعوه لحادثة قتل، وألا يبطئ ويتثاقل كما رأيناه!!

ولست أستطيع أن أذكر الممثلين واحدا واحداً وهم ثمانية عشر ممثلاً وممثلة وإلا ضاقت صفحات الرسالة دون هذا الغرض! ولكني أنوه بصفة خاصة بالآنسات زهرة العلى بكير، وسناء جميل، وبالأساتذة نور الدمرداش وأحمد الجزيري.

أما الإخراج فلي عليه ملاحظة أرجو أن يشفي الأستاذ الكبير زكي طليمات ما بنفسي منها، وإني لأتوجه إليه متسائلاً مستفيداً:

كيف يتفق أن يقع في (البار) - وهو محل عام يغشاه الناس جميعاً - أقول كيف يتفق أن يقع فيه العناق والقبلات أمام الخدم وفي عرضة للداخلين والخارجين؟ ولماذا لا يكون هذا (البار) جانبياً ليمكن أن تقع هذه الأشياء بعيدة عنه؟؟ وهل عجزت الحيل المسرحية عن إيراد ما يصح معه هذا العمل؟؟ هذا - ومما يقتضيه الحق أن أذكر أن الأستاذ ينفخ في مسرحياته حياة زاخرة فياضة، ويملؤها بالصور والحركات والإشارات التي تجعلها تموج بالحياة النابضة، وعندي أنه يتمم أعمال المؤلفين بهذا الذي يفعله، وليس المخرج الحق من ينقل التأليف نقلاً آلياً فوتوغرافياً، ولكنه من يضيف إليه ثروة فوق ثروته، ويمده بقوة فوق قوته، وهذا ما يفعله مخلصاً الأستاذ زكي طليمات.

علي متولي صلاح

ص: 41

‌الكتب

الصعلكة والفتوة في الإسلام

تأليف الدكتور أحمد أمين بك

للأستاذ عبد العزيز محرم

نحن في حاجة إلى مثل هذه الكتب أو الكتيبات التي ترسل أضواء كاشفة على بعض المعاني التي ورثناها عن القرون الماضية، فهذه المعاني هي الميراث الذائب في دمائنا، يوجهنا ويرشدنا ويوحي إلينا. وكل أمة تعرف ما اختلج في ضميرها، وما استسر في أعماقها، وما يبتعثها دائما إلى أنواع معينة من السلوك، تسترشد في طرائق الحياة الصحيحة، لأنها تجربتها على مدرجة الزمن وانصرام الأعوام، قد عرفت الشيء الكثير عن عوامل الرقي وأسباب الانهيار.

ونحن الآن في زمن نتلفت فيه كثيراً إلى الماضي نسترشده ونستلهمه، ونسأله العون والتوفيق. وإذا عرفنا معانينا الموروثة، وأخلاقنا الكريمة، ومثلنا الرفيعة، وما طرأ على كل ذلك من عوامل تقدم أو من عوامل نكوص، استطعنا أن نتبصر في موقفنا الراهن وحياتنا الحاضرة.

وليس على وجه التاريخ أمة عاشت منقطعة عن ماضيها، بل الحياة دائمة مستمدة من ميراث الماضي، ومن ضرورات الحاضر، ومن آمال المستقبل. والأمم والأفراد في هذا المجال سواء. واليوم وليد الأمس. والغد وليد اليوم وحفيد الأمس. والأمة التي تتنكر لماضيها لا تتمكن من السير ولا تتمكن من الرقي. وقد تندفع إلى مهاوي الضلال والدمار.

على هذا الأساس نرحب بكتاب (الصعلكة والفتوة في الإسلام) لأنه يكشف لنا بعض تقاليدنا وآدابنا ومعانينا التي ورثناها عن أجدادنا السالفين، ولأنه وضع أيدينا على مواضع الرشاد ومواضع الخيبة في حياة هؤلاء الأجداد، ولأننا بهذا نستطيع أن نرسم لأنفسنا طريقاً لا حباً. يوصلنا إلى أهدافنا، ويدفعنا إلى غايتنا، ويستشرف بنا إلى حياة رفيعة مأمولة، ويخلصنا من أصر ما نحن فيه من انحلال وضعف وتخاذل وذلة.

وقد ذكر الأستاذ الدكتور أحمد أمي بك معاني الفتوة. فقال إنها الشباب. وقال إنها القوة. وقد

ص: 42

تلونت الكلمة بلون البيئة، فإن إنساناً قد يرى في الفتوة أنها كرم وشجاعة كطرفة أبن العبد، وقد يرى غيره أنها العقل والفصاحة والرزانة كزهير، وقد يرى ثالث أنها كتمان السر وعدم البوح به كمسكين الدارمي.

ويرى الدكتور أن الفتوة أثر الغنى، وأن الصعلكة أثر الفقر، ومن فتيان الجاهلية طرفة بن العبد وامرؤ القيس. ومن صعاليكها السليك بن السلكة، وعروة بن الورد، والشنفري، وتأبطشراً. وهؤلاء كانوا فقراء صعاليك. وطرفة وامرؤ القيس كانا غنيين من الفتيان.

واستعرض الدكتور مثل الصعاليك ومثل الفتيان استعراضاً تاريخياً تحليلياً من العصر الجاهلي، إلى عهد الخلافة الرشيدة، إلى العهد الأموي، إلى العهد العباسي، إلى أزمنة المماليك، إلى العصر الحاضر في مصر. وبين الآداب الرفيعة والتقاليد الرائعة للفتوة والصعلكة. وبين كذلك ما لحقها من ضمور وهزال وشوائب أضعفت من أثرهما، وقللت من شأنهما في بعض الأوقات.

وقد استشهد بكثير من الأشعار في العصر الجاهلي على ما يقول. أو قد استخلص كثيراً من معلوماته في هذا الموضوع من أشعار الجاهليين. فذكر شعراً لطرفة. وذكر شعراً لتأبط شراً. وذكر شعراً للشنفري. وذكر شعراً لعروة أبن الورد.

وعروة بن الورد هو المثال الرفيع للصعلكة الجديرة بالتقدير والاحترام. إذ كان اشتراكياً بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وكان يغير على الأغنياء البخلاء ليرد أموالهم على الفقراء المحاويج. فهو لم يكن يغير لغرض ذاتي؛ بل لغرض تهذيبي. وآخر اجتماعي. الغرض التهذيبي أن يؤدب هؤلاء الأغنياء الذين يضنون بأموالهم ورفدهم على المحتاجين والمساكين. والغرض الاجتماعي أن يمول كثيراً من الذين يعجزون عن الكسب لمرض أو شيخوخة أو عجز. أما هو نفسه فلم يكن يظفر من غنائمه ولا من نهبه بأكثر مما كان يظفر به شيخ قعيد أو عاجز ضرير.

(فهو فقير يتحسس أخبار الأغنياء، فمن وجده كريماً سخياً خلاه، ومن وجده شحيحاً بخيلاً غزاه، وفرق ما جمعه على زملائه بالعدالة لا يرضى بشيء لنفسه إلا برضاهم. فمثله مثل برنادشو في إحدى رواياته إذ هاجم قوم سيارة فخمة يركبها أغنياء مرابون. فقال الهاجمون، نحن سراق الأغنياء، وأنتم سراق الفقراء. وكما فعل تولستوي إذ كان غنياً

ص: 43

واسع الغنى، فوزع ثروته على فلاحيه وعاش فقيراً. غاية الأمر أن عروة هذا سبقهما في النبل بنحو ألف سنة.

(والخلاصة أننا نرى في الحياة الجاهلية البدوية نوعين متميزين من الشبان: (أبناء الذوات)، قد يجتمعون ويتخذون لهم محلاً مختاراً، ويعيشون عيشة إباحية، فيها خمر، وفيها غناء، وفيها نساء. وهم مع ذلك كرام، يضيفون من نزل بهم، ويغدقون عليهم من خيرهم. وتقابلهم طائفة أخرى من أبناء الفقراء يسمون الصعاليك، يشاركونهم في الكرم والاشتراكية، ويخالفونهم في أن حياتهم ليست حياة دعة واستمتاع، ولكن حياة غزو وسلب ونهب، وتوزيع المال على أمثالهم. يضاف إلى ذلك فرق آخر وهو أن الفتيان يعطون ما يعطون وهم مترفعون، والصعاليك يعطون ما يعطون وهم يعتقدون أنهم مع زملائهم متساوون. وإن شئت فقل إن الفتيان يعطون ما يعطون عطفاً وتفضلاً، والصعاليك يعطون ما يعطون أداء لما يرونه واجباً).

وفي عهد الخلافة الرشيدة أرتفع الدين بمعنى الفتوة. ورفع الإماء والعبيد إلى مقام الأحرار، فسيدنا إبراهيم في حجاجه قومه فتى، وأهل الكهف فتية آمنوا بربهم، والعبد والأمة ليسا عبداً ولا أمة، إذ (لا يقوا أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي) ولا يجوز أن تكرهوا (فتياتكم على البغاء).

وعلى العهد الأموي نجد نكوصاً إلى فتوة امرؤ القيس وطرفة بن العبد. وهب فتوة الخمر واللهو والعكوف على الغناء. وقد يكون فيها إكرام للناس وقرى للضيف وإيواء للغريب. وقد يكون من هؤلاء الفتيان اللاهين من يخرج للصيد والطرد بعدده وآلاته، وهذه الفتوة الموروثة جاهلياً، المبعوثة أمويا، تأثرت بما أخذه الفتيان عن الفرس من اللعب بالبندق، وهي كرات صغيرة من طين أو حجر أو رصاص يرمى بها على قوس لصيد طير أو نحوه. ثم حشيت بالبارود. ومن هنا سميت البندقية.

وكما كانت الفتوة في العهد الأموي متأثرة بفتوة طرفة وفتوة الفرس، كذلك كان بعض ألوان الفتوة في العهد العباسي. ونجد لونا آخر وهو فتوة المتصوفة؛ وفي هذا يقول محي الدين بن العربي:

إن الفتوة ما ينفك صاحبها

مقدماً عند رب الناس والناس

ص: 44

إن الفتى من له الإيثار تحلية

فحيث كان فمحمول على الرأس

ما إن تزلزله الأهوال قوتها

لكونه ثابتا كالرأس في الرأس

لا حزن يحكمه، لا خوف يشغله

عن المكارم حال الحرب والبأس

أنظر إلى كسرة الأصنام منفرداً

بلا معين. فذاك اللين القاسي

وفي البيت الأخير إشارة إلى فتوة إبراهيم عليه السلام

وكذلك نجد في العهد العباسي لونا ثالثا من الفتوة وهو فتوة العيارين والشطار، وكانت تستخدم في السلب والنهب. وثمة لون رابع من الفتوة، وهو الفتوة المنعقدة بين جماعة لسبب ما كغربة، وكما حدث من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في عهد النبوة الكريم. وهناك فتوة الإسماعيلية كالحسن الصباح وفتيانه، وأيضاً فتوة الحروب الصليبية كصلاح الدين الأيوبي، وأسامة بن منقذ، ونور الدين محمود بن زنكي.

وقد تأثرت الفتوة في العصر العباسي بفتوة الفرس وفتوة الترك، علاوة على تأثرها بالفتوة العربية، وعلاوة على تأثرها بالعناصر الدينية.

ومن ميزات الفتوة أنها (تتضمن الشجاعة، والإتيان بأعمال البطولة، والكرم والسماحة والعفو عند المقدرة، واحترام المرأة، ووفاء العهد وحماية الضعفاء)، وكذلك يكون الفتى معروفاً بالسخاء والشجاعة، والزهد والعبادة، وإطعام الطعام للمساكين، وإكرام العلماء والفقهاء، وحسن سيرة وصدق الحديث. قليل الكلام، لا يسمع منه أحد كلمة كذب ولا غيبة. لا يخوض في كلام لا طائل تحته، آمر بالمعروف ناه عن المنكر)

وأنت ترى أن هذه الصفات الكريمة والأهداف النبيلة لم تتحقق في كل ألوان الفتوة التي ساقها الدكتور أحمد أمين بك، وهي إن تحققت في الفتوة الدينية، أو الفتوة الصوفية، أو فتوة صلاح الدين وأسامة بن منقذ، فهي قاطعاً لم تتحقق في فتوة العيارين والشطار، ولا في فتوة العابثين اللاهين.

ولعله كان من الأجمل أن تعدد ألوان الفتوة بالنظر إلى أهدافها، فقد يهدينا هذا إلى معرفة الفتيان حقيقة هؤلاء الذين يجمل بهم وبنا أن نذكرهم دواماً ليكونوا أمثلة للهداية والنور والحق والطهور. وبهذا نحفظ مقاماتهم، وذكرهم عند الاقتران بهذا الخليط العجيب من الفوضى والإباحة الذي أنساق إليه كل لاه عابث مغلوب. وبهذا نضع كل إنسان في مكانه

ص: 45

من الفتوة الصادقة حتى نربأ بصلاح الدين وأسامة بن منقذ ومحي الدين بن العربي عن دنس قرنهم بالعيارين والشطار في إطار الفتوة. وحتى نحفظ لهذا الاسم الجميل معناه الجدير بالاحترام والتقدير.

ولم يذكر المؤلف فتوة المسلمين الأولين في العهد الرشيد التي تمثلت في فروسية الفاتحين كأسامة بن زيد، وخالد بن الوليد، وعلي بن أبي طالب.

ويدو أنه لم يكن من اللازم، في هذا العصر الرشيد على الأقل، أن يكون الفتى في سن الشباب. والمثال على ذلك قصة إبراهيم التي كسر فيها الأصنام، والتي أحرقوه بسببها، والتي سموه فتى فيها. ومن سياق هذه القصة - كما وردت في سورة الأنبياء - نعرف أنها بعد بعثته بنبوته، أي بعد الأربعين، وهي السن التي يرسل فيها الرسول إلى قومه. وليسمن السائغ أن نقول إن الإنسان نبياً أو غيره، في هذه السن، يكون في شبابه. بل هذه فاتحة الكهولة التي يستحصف بها العقل وتصفو النفوس.

وحين ننتقل إلى العهد الأموي نجد مؤلفنا الجليل لم يذكر الخوارج. وقد كانوا من الفتيان حقاً وصدقاً. وقد وهبوا كل ما يملكون لمبدئهم الذي رأوه حقاً وصواباً.

ولم يذكر أيضا فتوة أشياع علي والحسين، مع أنهم خرجوا على ملك بين أمية العضوض راجين رد الحق إلى نصابه ومصادره، ولقوا في سبيل ذلك القتل والتمثيل والتشريد.

وذكر الدكتور المؤلف فتوة المماليك؛ ولكن يهمنا نحن المصريين هذه الفتوة التي تجلت في موقفين رائعين: الموقف الأول هو انهزام الصليبين أمام المماليك والمصريين في المنصورة.

والموقف الثاني هو تفرق التتار في عين جالوت أمام المماليك والمصريين أيضاً. وهاتان الموقعتان حفظتا العالم الإسلامي من الضياع بفضل فتوة المماليك الرائعة.

وعرض المؤلف للإخوان المسلمين، وهم جماعة أكثر أتباعها من الشبان المسلمين. بدءوا أمرهم بتعليم الشبان الفضائل عن طريق الدين. والحق أن الناظر إليهم كان يراهم أميز من زملائهم من حيث القوة والرجولة والتخلق بالأخلاق الحسنة. ثم دعتهم الظروف المحيطة بهم أن يتحزبوا. فتظاهروا. وأيدوا الحكومات أحياناً وعارضوها أحيانا تبعا للتعليمات. ثم تطوروا تطور آخر، فكان منهم محاربون، وكان منهم فدائيون.

ص: 46

ومن رأي الدكتور أن الأخوان ضعفوا عما كانوا عليه. وفي رأيه أن قتل الشهيد حسن البنا كان جزاء وفاقا لما فعل الأخوان من قتل المرحوم النقراشي. وقد تكون للتاريخ كلمة غير هذه الكلمة حين تنجاب الحجب عن الألغاز الاستعمارية والأحاجي السياسية، وحين يعرف لماذا شرد وعذب وأعتقل شباب مسلمون لا هم لهم إلا نصرة دينهم على المستعمر الغاشم، وإلا نصرة دينهم على الانحلال والرأسمالية البغيضة.

لقد كانت رحلة شائقة من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث أفدت منها كثيراً، واستمتعت كثيراً، وعرفت ما لم أكن أعرف من وجوه الكرامة والرجولة والفتوة لدى هؤلاء الاماجد الأبطال الذين تنطفئ الدنيا ولا تنطفئ مصابيحهم. فشكراً للمؤلف الفاضل. وشكراً للفرص المواتية.

محمود عبد العزيز محرم

ص: 47

‌البريد الأدبي

من أين لك هذا؟

قد يكون من المفيد - بعد ما تبين لأولي الأمر منا أي ضرورة ملجئة، وأي مصلحة عامة تجعل حتما سن مثل هذا القانون - أن نذكر الحكومة الإسلامية منذ ثلاثة عشر قرناً، فطنت إلى هذا القانون، فنادى به محمد صلى الله عليه وسلم زعيم الإصلاح، ومعلم الإنسانية الأول، وآمن به من بعده إيماناً لا يتسرب إليه شك. والتاريخ يحدثنا عن غير واحد من علية القوم ووجهائهم ممن حوكموا بمقتضى هذا القانون، فهذا خالد بن الوليد الذي اقتعد غارب المجد، وتسنم ذروة الشرف، وأبلى في الدفاع عن الإسلام أحسن البلاء، لم يغن عنه كل أولئك أمام الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فحين أحس أنه أثرى فجأة - وكان عاملاً له - عزله من الولاية ثم استجوبه وحقق معه، ورد إلى بيت المال بعض أمواله.

روى الطبري أن خالد بن الوليد إثر عودته من (قنسرين)، بعد أن أظفره الله عليها، وأفاء خيراً كثيرا عليه، وفدت عليه الوفود، وكان ممن وفد عليه الأشعث بن قيس، فأجازه خالد بعشرة آلاف. وسرعان ما أنهى إلى الخليفة العادل الساهر هذا النائل الغمر، فأبرد إلى عبيدة (أن يقيم خالداً، ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته، حتى يعلمهم من أين إجازة أبن الأشعث؟ أمن إصابة أصابها؟ أم من ماله؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، وأعزله على كل حال، وأضمم إليك عمله) فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثم جمع الناس، فقام البريد. فقال: يا خالد! أمن مالك جزيت بعشرة آلاف؟ أم من إصابة؟ فلم يجبه، حتى أكثر عليه - وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا - فقام بلال إليه فقال: إن أمير المؤمنين أمر بكذا وكذا فيك، ثم تناول قلنسوته، فعقله بعمامته وقال: ما تقول؟ أمن مالك؟ أم من إصابة؟ فقال: لا! بل من مالي، فأطلقه، وأعاد إليه قلنسوته، وعممه بيده، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخم ونخدم موالينا. وعندما قدم خالد على عمر المدينة، بعد عزله، شكاه إلى المسلمين وقال له: لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك غير مجمل في أمري يا عمر. . فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال خالد: من الأنفال والسهمان، وما زاد على الستين ألف فلك. فقوم عمر عروضه، فخرجت إليه

ص: 48

عشرون ألفاً، فأدخلها في بيت المال، ثم قال: يا خالد! والله إنك علي لكريم، وإنك ألي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.

وكذلك وقف عمر بن الخطاب موقفا مشابها من والي مصر عمرو بن العاص، فقد كتب إليه:(أما بعد، فقد بلغني أنه فشت لك فاشية من خيل وإبل وبقر وعبيد، وعهدي بك ولا مال لك، فأكتب إلي من أين أصل هذا المال؟ ولا تكتمه)

فأجاب عمرو: (. . وإني أعلم أمير المؤمنين أنني ببلد السعر فيه رخيص، وإني أعالج من الحرفة والزراعة ما يعالج أهله، وفي رزق أمير المؤمنين سعة، وواله لو رأيت خيانتك حلالا ما خنتك، فأقصر أيها الرجل، فإن لنا أحساباً هي خير من العمل لك، إن رجعتنا إليها عشنا بها).

على أن عمر لم يجد في هذا مقنعاً، فأرسل إلى عمرو محمد بن سلمة ليشاطره ماله. وعندما قدم رسول عمر إلى عمرو قدم إليه أصنافاً كثيرة من الأطعمة، فرفض أن ينال منها شيئاً، فقال له عمرو: أتحرمون طعامنا؟ فقال: لو قدمت إلي طعام الضيف لأكلته، ولكنك قدمت إلي طعاماً هو تقدمة للشر. نح عني (أكلك) طعامك، وأحضر إلي مالك، وأكتب إلي كل شيء، هو لك، ولا تكتمه. فشاطره ماله أجمعه، حتى بقيت نعلاه، فأخذ إحداهما وترك له الأخرى. هذا وغيره كثير وفي هذا بلاغ.

وصنيع عمر هذا يعد من قبيل الاحتياط والتورع، ولم يكن عن خيانة من خالد أو عمرو، فإنهما أعز وأكرم التماس الغني والثراء مما لا يحل، يدل لهذا كتاب عمر إلى عمرو بن العاص (والله يا عمرو لقد ابتليت بولاية هذه الأمة، وآنست من نفسي ضعفاً، وانتشرت رعيتي، ورقي عظمي، فاسأل الله أن يقبضني إليه غير مفرط، والله إني لأخشى لو مات جمل ناقص عملك ضياعاً أن أسال عنه).

وورد في كتاب من عمرو لعمر (معاذ الله من تلك الطعم، ومن شر الشيم، والاجتراء على كل مأثم، فأقبض عملك، فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنيئة، والرغبة فيها).

أما موقف سيدنا خالد فيشهد لما أشرت إليه ما جاء على لسان أمير المؤمنين نفسه؛ على ما مر بك، والله ولي التوفيق.

رياض عباس

ص: 49

عبد المنصف محمود باشا

كان لتعيين عبد المنصف محمود باشا وكيلاً لوزارة الداخلية وقعه الجميل في نفوس أصدقائه ومحبيه. وإني وإن كنت ممن لم يتشرفوا بتلك الصداقة الشخصية، إلا أن للرجل في نفسي مكانة أدبية من حق الرسالة على أن أنوه بها، على سبيل التهنئة الخالصة لوجه الثقافة والأدب.

ولقد أشرت في تقريظي لكتاب (السنوسية دين ودولة) للدكتور فؤاد شكري إلى رجالات مصر الذين أسهموا في الجهاد الليبي، وذكرت من بينهم عبد المنصف محمود الذي كان ضابطاً في ذلك الوقت.

وعسى ألا يغيب عن الأذهان أن عبد المنصف محمود - الذي كان من قبل مديراً لمصلحة خفر السواحل ومصائد الأسماك - من أدباء الإسكندرية المعدودين، ومكانة في ثقافة عروس البحر لا يزال كالدر اللامع في جيد الأدب الرفيع.

ولم تكن مشاغل الوظيفة لتصرفه عن التأليف والبحث، فوضع سلسلة من الكتب القيمة عن بحيرات مصر، ضمنها دراسات تاريخية واجتماعية وأدبية، وجمع فيها بين التقرير والتقدير، ولما كانت قد وضعت سنة 1936 كتاب (إدكو) ودرست فيه كل ما يتعلق ببلدة إدكو، فإن كل دراسة تتصل بها مما يدفعني إلى التلهف عليها، لهذا كنت أتابع عبد المنصف محمود باشا في كتابه (على ضفاف بحيرة إدكو) كما أني اشتركت في المعركة الفكرية بين الرأي القائل بتجفيف تلك البحيرة أو الإبقاء عليها، وأدليت برأيي على صفحات الأهرام.

أما عبد المنصف محمود، وهو الشاعر الحريص على الجمال، فقد كان يرى عدم التجفيف لتظل البحيرة كغيرها من البحيرات (ترصع جيد مصر)، ومما جعلني أخالفه في هذا الرأي ما انتهت إليه الحالة الاقتصادية في إدكو من تدهور أدى إلى انهيار اجتماعي عام، ولولا ذلك لحرصت أكثر منه على بقاء هذه البحيرة الجميلة وهي أول ملهم لي في حياتي الأدبية، حتى لقد كانت قصيدتي (البحيرة الناعسة) أول ما نشر لي في الأهرام وأنا طالب بالسنة الثالثة الثانوية سنة 1933.

ص: 50

وعسى ألا يكون المنصب الجديد بمعوق شاعر البحيرات عن المضي في بحوثه وأشعاره، وأمل الرسالة في الباشا الكبير ألا يحرمها من نفحاته، وكيف لا يفعل وهو تلميذ صاحب الرسالة؟ ولعلي بهذا أن أكون قد اشتركت بتقديم هذه التحية مع المهنئين

محمد محمود زيتون

ص: 51

‌القصص

جندي قبل الإعدام

عن الإنكليزية

جلس مستر أوين في غرفته الخاصة بداره الكبيرة في جرين مونتن بالولايات المتحدة، وكان كاسف البال، شديد الكآبة؛ والى جانبه قسيس القرية يواسيه ويخفف عنه.

بينما مكثت لوسي الصغيرة في ركن الغرفة تنصت إلى حديث الرجلين دون أن تلفظ ببنت شفة.

وتكلم مستر أوين قال: كنت أحسب حين وهبت أبني لهذا الوطن أني فعلت من أجل بلادي ما لم يفعله أي رجل آخر في أمريكا على سعتها، إذ ليس لي ولد غيره؛ ولكن هبتي لم تعش طويلاً، لأن ولدي المحبوب غلبه النعاس فنام دقيقة واحدة في نوبة حراسته بالمعسكر، وهو الذي لم يغفل لحظة عن أداء واجبه وكان مثالاً للنشاط الموفور والهمة العالية. . .

صحيح أنه أستسلم للكرى دقيقة، وأستحق حكم الإعدام الذي صدر عليه. ولكن ليتهم رحموا شبابه، وراعوا حداثة سنه، فأنه لم يجاوز الثامنة عشر. . . من يصدق هذا.

إنهم يتهيئون لرميه بالرصاص؛ لأن هذا التعس نام بضع ثوان، ولم يظل ساهراً الليل بطوله يراقب قدوم جيوش الأعداء المهاجمين. إنه الآن في السجن ينتظر تنفيذ العقوبة. فيما ترى كيف يقضي الوقت إلى أن تحين ساعته؟

وأثرت لهجة الرجل في نفس القس. فقال يروح عنه: دعنا نأمل رحمة الله. . . لماذا تيئس!

قال: نعم. نعم. فلنبتهل إلى الله ولنضرع إليه إنه غفور رحيم.

كان (بني) قبل التحاقه بالجندية يقول لي: سأعيش يا أبي خجولاً أمام نفسي وأمام الناس إذا لم أستعمل ذراعي القويتين المفتولتين من أجل بلادي عندما تقع الحرب ويدعوني الوطن. وكنت أقول له: أذهب يا ولدي، اذهب في حراسة ربك، وها قد حرسه الله!

ونطق مستر أوين بالعبارة الأخيرة في بطء، كما لو كان على رغم إيمانه قد ساوره الشك في رحمة الله!

ص: 52

فقال القس: تشجع يا صديقي تشجع، ولا تقنط من رحمة الله!

وأصغت لوسي لهذا الحوار، وهي في موضعها منكسة الرأس، بالغة الأسى، ممتعقة اللون، لما أصاب أخاها (بني)؛ لكن لم ترسل عيناها دمعاً ولم تسمح لهمها وكدرها أن يشيعا على محياها، وكانت على حداثة سنها تقوم بنصيب وافر في إدارة شؤون البيت؛ ولذلك هبت واقفة حين سمعت طرقاً خفيفاً على باب (المطبخ)؛ وأسرعت وفتحت الباب ووجدت رجلاً يقدم إليها خطاباً.

وحملت الخطاب إلى أبيها وهي تقول:

- إنه منه. . . من أخي. . .

وكأن الخطاب وصية ميت أو رسالة من القبر! فقد تطلع فيه مستر أوين دون أن يجسر على فض غلافه. وارتجفت أصابعه وهو يدفعه إلى القس كما لو كان طفلاً لا حول له ولا قوة.

وفض القس الغلاف وقرأ ما يلي:

أبي العزيز:

- عندما تصلك هذه الرسالة أكون في عالم الأبدية! فالموت ينتظرني عند باب السجن. ما أشد ما أخافني هذا الخاطر وروعني! على أني فكرت كثيراً وقلبت الأمر على كل الوجوه حتى لم يعد لي الإعدام مخيفاً في نظري. . . لقد احترموا آخر رغباتي في الحياة وسوف لا يضعون الأغلال في يدي ولا العصابة على عيني، وعلى ذلك سألقى الموت كما يلقاه الرجل الشجاع الباسل، وفي هذا تعزية كبرى.

غير أني كنت ارجوا أن تقضي الأقدار بغير ما قضت، وأن تكون ميتتي أشرف من هذه الميتة. كنت أود لو أموت شهيداً في ساحة الوغى وحومة النضال مدافعاً عن بلادي وفي سبيل المجد، أما أن أعدم رميا بالرصاص كالكلب وبتهمة إهمال الواجب العسكري وهو شيء يقارب الخيانة، فذلك ما يؤلمني أشد الألم. ولا أدري كيف لم تقتلني هذه الفكرة قبل أن تقتلني بنادقهم؟

أبي: سوف لا يكون في حادثتي ما يخدش اسمك أو يصم شرف أسرتك. سأعترف ها هنا بكل شيء، وعندما أفارق الحياة آمل أن تشرح للداتي وأصدقائي ما وقع. أما أنا فرجل

ص: 53

ميت والموتى لا يتكلمون.

تذكر أني كنت قد وعدت أم صاحبي (جمي كار) أن أعني بولدها الذي هو زميلي في الفرقة، فلما سقط (جمي كار) مريضاً بذلت كل جهودي من أجل راحته والأخذ بيده حتى تماثل للشفاء. على أنه قبل أن تجتمع له قواه وترد إليه صحته صدرت الأوامر لفرقتنا بالتقدم إلى خطوط النار. وناء (جمي) بحمله فحملته عنه فضلاً عن حقائبي وقطعنا شوطاً بعيداً، وانقضى النهار وأخذ الرجال يشعرون بالتعب وخارت قوانا جميعاً. أما (جمي) فقد عجز عن مواصلة السير ولم يمش إلا بعد أن مددت إليه يد المساعدة.

وحين شارفنا المعسكر كنت في أشد حالات التعب وأحوج الرجال إلى الراحة. لكن شاءت الصدف أن تكون نوبة الحراسة تلك الليلة لزميلي (جمي كار)، ورأيته محطماً يكاد يقتله الضعف والتعب، فتقدمت للحراسة عنه ونسيت أني في تلك اللحظة كنت أشد منه ضعفاً وإعياء، وصدقني يا أبي أني كنت عندما غالبني النوم على حال من التعب والإعياء بحيث أو أطلقت على رأسي رصاصة لما فتحت عيني ولا حركت ساكناً.

على أني مخطئ وخطئي أني لم أفطن لحالتي إلا متأخراً جداً. . . وعندما وصل القس إلى هذا الحد من القراءة قاطعه مستر أوين بهذه العبارة:

شكراً لله. إن أبني يموت شهيداً وليس خائناً، وعاد القس يقرأ هكذا:

قيل لي اليوم إن إعدامي تأجل يوماً واحداً بسبب ظروف طارئة، وهذه فرصة لكي أكتب إليك كما يقول رئيسي الطيب القلب. أصفح عنه يا أبي فإنه لم يفعل سوى أن قام بواجبه، وقد كان يود بإخلاص أن ينقذني لكن القوانين العسكرية صارمة ولا حيلة فيها. كذلك أرجو أن لا تضع مسؤولية إعدامي على رأس (جيمي كار) فإن المسكين منكسر القلب شديد الأسف لما حل بي. وقد ألح عليهم أن يأخذوه فدية عني ولكن أحداً لم يعر طلبه التفاتاً بطبيعة الحال.

أبي، لا أجسر أن أفكر في أمي ولا في أختي لوسي فيا ليتك تواسيهما وتجفف دمعهما. وليتك تقول لهما أني أموت شجاعاً باسلاً وإنه عندما تنتهي الحرب سينسيان العار الذي سيلحق بي الآن.

في هذا المساء عندما تغرب الشمس سوف تمر بخاطري صورة من صور السعادة الضائعة

ص: 54

فأرى قطعان الماشية تمشي الهوينا من المرعي إلى الحظيرة، وأرى بعين الخيال شقيقتي لوسي في الشرفة واقفة تنتظرني وتلوح لي حين تراني؛ على أنها لن تراني ولن أعود!

(بني)

وفي ساعة متأخرة من تلك الليلة فتح باب الشرفة الخلفية بمنزل مستر أوين وانسابت من بين مصراعيه صبية صغيرة وهبطت الدرج الذي يؤدي إلى الطريق.

وكان المشاهد يحسبها لسرعتها طائرة لا ماشية، وكانت تهرول إلى جهة معينة لا تلتفت إلى يمين أو شمال، لكنها ترفع رأسها بين حين وحين شطر السماء يداها منقبضتان كأنها تضرع إلى ربها وتبتهل.

وبعد ساعتين طويلتين قضتهما هذه الصغيرة تسير وحدها في ظلمة الليل ووحشة وصلت إلى محطة ميل. وقبل أن تشرق الشمس كانت لوسي في العاصمة تسرع الخطى إلى البيت الأبيض الذي يقيم فيه رئيس الجمهورية.

وكان مستر لنكولن (رئيس الجمهورية العظيم) قد دخل غرفته تواً وبدا يلقي نظرة على الأوراق المكدسة على مكتبه وأقبل يفحصها وينظر في شؤون دولته. . وبدون جلبة فتح الباب بهدوء وانسابت لوسي إلى الداخل وخطت نحوه ثم وقفت قبالته بخشوع ورهبة: عيناها إلى الأرض ويداها منقبضتان.

ووقع نظر الرئيس عليها ولم يبد عليه أنه غضب أو تململ حين فوجئ بدخولها، بل أبتسم لها مترفقاً وخاطبها بصوت مشجع، قال:

- نعم يا صغيرتي؛ ماذا تريدين في هذا الوقت المتأخر؟

- أريد حياة (بني) يا سدي

- بني؟ من هو بني؟

- أخي. إنهم يرمونه بالرصاص بسبب نومه في نوبة حراسته فعاد مستر لنكولن إلى الأوراق التي أمامه ينظر فيها وهو يقول:

- آه، لقد تذكرت الآن. إنه نام في أحرج الأوقات وأخطرها، وأعلمي يا صديقتي الصغيرة أنه أختار لنومه ساعة تتوقف عليها مصائر بلاده وحياة ألوف من الجنود. وهذا استهتار شنيع.

ص: 55

قالت:

- وهكذا يقول أبي لكن (بني) المسكين كان متعباً جداً يا سيدي، وكذلك كان (جمي) وقد قام أخي بعمل رجلين ولم تكن تلك الحراسة حراسته. كانت النوبة على (جمي) ولكن (جمي) كان مريضاً وعندما حل أخي محله لم يكن يفكر في نفسه ولا في تعبه ونسي أنه خائر القوى.

ورفع الرجل العظيم رأسه من بين الأوراق وعاد ينظر إلى ائرته الصغيرة وقال:

ما هذا الكلام يا طفلتي؟ أنا أكاد لا أفهم شيئاً. تعالي إلى جانبي وقصي قصتك.

وبمثل العناية التي يبذلها دائما في مختلف شؤون الدولة أقبل الرئيس لنكولن يفحص هذه الدعوى، ومشت لوسي إليه فربت على منكبها وحول بيده وجهها إليه، وأحست بعطفه عليها فرددت قصتها وقدمت إليه خطاب أخيها لأبيها فأخذه منها وألقى عليه نظرة ثم قرأه بعناية، وحالما انتهى منه أمسك قلمه وخط بسرعة بضعة أسطر على ورقة ودق جرساً أمامه فأقبل أحد الحجاب، وسمعت لوسي الرئيس وهو يقول للحاجب: أبعث بهذه الرسالة في الحال!

وبعد يومين من هذه المقابلة وفد إلى دار الرياسة جندي شاب ومعه صبية صغيرة. كان الشاب (بني) وكانت الصبية أخته (لوسي) واستقبلهما الرئيس في غرفته الخاصة واحتفى بهما؛ وكان يلبس حلة عسكرية جديدة تزين كتفيها شارات الترقية التي رفعته إلى درجة ملازم وخاطبه الرئيس قال:

لقد عفوت عنك ورفعت درجتك يا بني لأن الجندي الذي يحمل حقائب زميله المريض ويموت من أجل غيره دون أن يشكو أو يتبرم، يستحق تقدير الوطن.

وعاد بني ولوسي إلى جرين مونتن، حيث استقبلتهما الجماهير الهاتفة في المحطة، وبسط مستر أوين يده لولده والدموع تنهمر من مآقيه على خديه وسمعه الناس وهو يهتف بحرارة:(لله الحمد!)

م. ص

ص: 56